الموسوعة العقدية - الدرر السنية

مجموعة من المؤلفين

مقدمة

مقدمة الحمد لله القائل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56 - 58] والقائل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره المشركون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فإن توضيح العقيدة الإسلامية الصحيحة وبيانها والدعوة إليها من آكد الواجبات، لأنها هي الطريق لمعرفة الله، وأول واجب على العبد، ومن أجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وانقسم الناس بسببها إلى أشقياء وسعداء، وترتب على تحقيقها السعادة في الدنيا والآخرة، وخلقت من أجلها الجنة والنار. والعقيدة الصحيحة من أولى ما ينبغي الاهتمام بها، لا سيما مع كثرة الضلال فيها، واشتباه الحق بالباطل على كثير من المسلمين. وقد اهتم أئمة السنة وعلماء هذه الأمة بشأن العقيدة اهتماماً بالغاً فألَّفوا فيها كتباً كثيرة، منها المطول ومنها المختصر، ومنها الجامع، ومنها المقتصر، ولما كان الوقوف على أكثر هذه الكتب عسيراً، ولا يوجد برنامج أو موقع إلكتروني واحد يجمع كل ما يتعلق بعقيدة أهل السنة والجماعة، شرعنا بفضل الله وتوفيقه في مؤسسة الدرر السنية عبر موقعها الإلكتروني بجمع ما تفرق في كتب العقيدة والتوحيد، معتمدين في ذلك على أكثر من مائة وأربعين مرجعاً, على منهج أهل السنة والجماعة، القديم منها والمعاصر، وحرصنا أن تكون شاملة لجميع مسائل وموضوعات العقيدة، مع تحقيقها، وتنقيحها، والتأليف بينها، وتخريج أحاديثها، وتصنيفها تضنيفاً موضوعياً شجريًّا، مع الحرص على ذكر الكلام المنقول كما هو مع ذكر المرجع، إلا أنه أحيانا يتم التصرف في بعض المواضع ويشار إلى ذلك، ونسأل الله أن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، وينفع به المسلمين.

الكتاب الأول: مقدمات في علم العقيدة والتوحيد

المطلب الأول: تعريف العقيدة لغةً العقيدة في اللغة: من العقد؛ وهو الربط، والإبرام، والإحكام، والتوثق، والشد بقوة، والتماسك، والمراصة، والإثبات؛ ومنه اليقين والجزم. والعقد نقيض الحل، ويقال: عقده يعقده عقداً، ومنه عقدة اليمين والنكاح، قال الله تبارك وتعالى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ [المائدة: 89]. والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، والعقيدة في الدين ما يقصد به الاعتقاد دون العمل؛ كعقيدة وجود الله وبعث الرسل. والجمع: عقائد وخلاصة ما عقد الإنسان عليه قلبه جازماً به؛ فهو عقيدة، سواء كان حقاً، أم باطلاً الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص29

المطلب الثاني: تعريف العقيدة في الاصطلاح العام

المطلب الثاني: تعريف العقيدة في الاصطلاح العام العقيدة في الاصطلاح العام: هي الأمور التي يجب أن يصدق بها القلب، وتطمئن إليها النفس؛ حتى تكون يقيناً ثابتاً لا يمازجها ريب، ولا يخالطها شك. أي: الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده، ويجب أن يكون مطابقاً للواقع، لا يقبل شكاً ولا ظنا؛ فإن لم يصل العلم إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة. الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص30

المطلب الثالث: تعريف العقيدة الإسلامية

المطلب الثالث: تعريف العقيدة الإسلامية العقيدة الإسلامية: هي الإيمان الجازم بربوبية الله تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، وأصول الدين، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم التام لله تعالى في الأمر، والحكم، والطاعة، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والعقيدة الإسلامية: إذا أطلقت فهي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الإسلام الذي ارتضاه الله ديناً لعباده، وهي عقيدة القرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص30

المطلب الرابع: تعريف التوحيد لغة واصطلاحا

المطلب الرابع: تعريف التوحيد لغة واصطلاحا التوحيد في اللغة: مشتق من وحد الشيء إذا جعله واحداً، فهو مصدر وحد يوحد، أي: جعل الشيء واحداً. وفي الشرع: إفراد الله - سبحانه - بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 11 قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬1) ... وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث، التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة! وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالداً، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة. فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، لأن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار. بل لا بد من قول القلب، وقول اللسان. وقول القلب: يتضمن من معرفتها والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً: ما يوجب تحريم قائلها على النار. وتأمل حديث البطاقة (¬2) التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، ... ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل هو أنه حصل له ما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات. وتأمل أيضاً ما قام بقلب قاتل المائة (¬3) من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق – الموت - عن السير إلى القرية فجعل ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت، لأن ذلك كان أمراً آخر، وإيماناً آخر ولذلك ألحق بأهل القرية الصالحة. وقريب من هذا ما قام بقلب البغي (¬4) التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش، يأكل الثرى فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً. فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها (¬5). وقد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله)) (¬6) الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد القحطاني - ص46 ¬

(¬1) [1] رواه البخاري (425)، ومسلم (33). من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (2/ 213) (6994). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال حمزة الكناني في ((مشيخة ابن الخطاب)) (1/ 107): .. وهو من أحسن الحديث, وقال ابن الملقن في ((التوضيح)) (33/ 595): صحيح على شرط البخاري ومسلم. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (135): صحيح. (¬3) رواه البخاري (3470)، ومسلم (2766). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245)، واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) مدارج السالكين لابن قيم الجوزية (1/ 330 – 332) بتصرف بسيط. (¬6) رواه مسلم (23). من حديث طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه.

المطلب الخامس: العلاقة بين التوحيد والعقيدة

المطلب الخامس: العلاقة بين التوحيد والعقيدة علم العقيدة وعلم التوحيد مترادفان عند أهل السنة، وإنما سمي علم التوحيد بعلم العقيدة بناء على الثمرة المرجوة منه، وهي انعقاد القلب انعقادا جازما لا يقبل الانفكاك المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السنة لإبراهيم بن محمد البريكان - ص10 وقد يفرق بينهما اصطلاحا باعتبار أن علم التوحيد هو العلم الذي يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالأدلة المرضية، وأن علم العقيدة يزيد عليه برد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية، فيجتمعان في معرفة الحق بدليله، وتكون العقيدة أعم موضوعا من التوحيد لأنها تقرر الحق بدليله وترد الشبهات وقوادح الأدلة وتناقش الديانات والفرق، وقد جرى السلف على تسمية كتبهم في التوحيد والإيمان بكتب العقيدة، كما فعل أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه (عقيدة السلف أصحاب الحديث) والإمام اللالكائي رحمه الله في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص - 129

المبحث الثاني: أسماء علم العقيدة والتوحيد

المبحث الثاني: أسماء علم العقيدة والتوحيد • الفرع الأول: العقيدة. • الفرع الثاني: التوحيد. • الفرع الثالث: السنة. • الفرع الرابع: أصول الدين. • الفرع الخامس: الفقه الأكبر. • الفرع السادس: الشريعة. • الفرع السابع: الإيمان.

الفرع الأول: العقيدة

الفرع الأول: العقيدة مرت كلمة عقيدة بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: وهي دور الموسوعية في المعنى وعدم الاختصاص، وهو المعنى اللغوي، فهي في اللغة تطلق ويراد بها: العزم المؤكد - الجمع - النية - التوثيق للعقود - ما يدين به الإنسان سواء كان حقا أو باطلا. المرحلة الثانية: وهي دور الفعل القلبي، وفيه تبرز العقيدة كمعنى يقوم بقلب العبد، وهو أخص من المرحلة قبله، ويعبر عنه بالمعنى المصدري وهو بهذا الاعتبار: الإيمان الذي لا يحتمل النقيض .......... المرحلة الثالثة: وهي الدور الذي نضجت فيه العقيدة، وأصبحت علما ولقبا على قضايا معينة، وهو دور الاستقرار وهو المعبر عنه: العلم بالأحكام الشرعية العقدية المكتسب من الأدلة اليقينية ورد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم البريكان - بتصرف - ص 8 ومن المؤلفات التي حملت اسم العقيدة أو الاعتقاد ومن ذلك: كتاب (عقيدة السلف أصحاب الحديث) للصابوني (ت: 449هـ). و (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للالكائي (ت: 418هـ). و (الاعتقاد) للبيهقي (ت: 458هـ). مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص10

الفرع الثاني: التوحيد

الفرع الثاني: التوحيد وقد مرت كلمة توحيد بنفس الأدوار التي مرت بها كلمة عقيدة، فهي في الدور اللغوي مشتقة من وحد يوحد توحيدا فهي مصدر للفعل وحد بمعنى جعله واحدا ثم نقل عن هذا المعنى إلى معنى الفرد المتميز عن غيره، لأن كون الله واحدا ليس بجعل جاعل، وعلى هذا فالواحد هو المنفرد بخصائصه عما سواه. ومن هذا المعنى قولهم: واحد زمانه أي: فردا فيه إما علما أو عقلا وكرما ونحو ذلك. وفي الدور المصدري أو اعتباره فعلا من أفعال القلب: هو إفراد الله بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات والأفعال. وفي الدور الأخير وهو دور الاستقلال صارت فيه كلمة التوحيد تدل على العلم المسمى بها وهي بهذا الاعتبار: العلم الذي يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم البريكان – بتصرف – ص 10 ومن المؤلفات في العقيدة والتي حملت اسم التوحيد: ومن ذلك: كتاب (التوحيد في الجامع الصحيح) للبخاري، (ت: 256هـ) وكتاب (التوحيد وإثبات صفات الرب) لابن خزيمة (ت: 311هـ). وكتاب (اعتقاد التوحيد) لأبي عبدالله محمد بن خفيف (ت: 371هـ). وكتاب (التوحيد) لابن منده (ت: 359هـ). وكتاب (التوحيد) للإمام محمد بن عبدالوهاب (ت: 1115هـ). مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص10

الفرع الثالث: السنة

الفرع الثالث: السنة تعدد معناها بحسب الاصطلاحات، فكل أهل علم إسلامي اصطلحوا على دلالة متناسبة وطبيعة هذه العلوم. فعلماء الحديث السنة عندهم: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف. وعند علماء أصول الفقه: هي ما أمر به الشارع لا على سبيل الإلزام ........ وعند علماء الفقه: هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. وعند علماء العقيدة الصحيحة ملحوظة فيها أن السنة من مصادر التلقي للعقيدة الصحيحة وطريق من طرق إثباتها. ولذا جعل بعض السلف السنة هي الاتباع، وجعلها بعضهم الإسلام، والقولان غير متنافرين ولا متعارضين لأن الإسلام هو تعبير عن العقيدة الصحيحة، والاتباع يعبر عن طريق التلقي ومنهجه. فصار معنى السنة هو اتباع العقيدة الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة وممن استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (السنة) فقد ضمنه العقيدة الصحيحة الثابتة بنقل العدول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكذا فعل عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه (السنة) ومنه أيضا كتاب (السنة) لابن أبي عاصم. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم البريكان – بتصرف – ص 12

الفرع الرابع: أصول الدين

الفرع الرابع: أصول الدين وهو مركب من مضاف ومضاف إليه، فهو مركب إضافي، ولا يمكن منطقيا أن نتوصل إلى معنى المركب إلا عن طريق تحليل أجزائه المركب منها، وهي (أصول) و (دين). فأصول جمع أصل وهو لغة ما يبنى عليه غيره كأساس المنزل. واصطلاحا: ما له فرع. .... والدين لغة: هو الذل والخضوع، وشرعا: هو امتثال المأمور واجتناب المحظور، أو طاعة الله ورسوله. فيكون المعنى المركب -أصول الدين - هو المبادئ العامة والقواعد الكلية الكبرى التي بها تتحقق طاعة الله ورسوله والاستسلام لأمره ونهيه. وهذا المعنى لا يراد به إلا علم العقيدة والتوحيد. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم البريكان – بتصرف – ص 11 وقد ألف بعض العلماء كتباً في الاعتقاد تحمل اسم أصول الدين: ومن ذلك: كتاب (أصول الدين) للبغدادي (ت: 429هـ). و (الشرح والإبانة عن أصول الديانة) لابن بطة (ت: 378هـ). و (الإبانة عن أصول الديانة) للأشعري (ت: 324هـ). مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص10

الفرع الخامس: الفقه الأكبر

الفرع الخامس: الفقه الأكبر الفقه في اللغة هو الفهم، وأضيف إلى الأكبر لإخراج الفقه وهو علم الحلال والحرام وعلم الفروع، وهو اصطلاح عرف في القرن الثاني الهجري حيث سمى الإمام أبو حنيفة النعمان بن زوطى كتابه الذي جمع فيه جملة اعتقادات السلف (الفقه الأكبر) إشارة إلى أنه أعظم ما في شريعة الإسلام ولا يتحقق هذا اللقب إلا على علم العقيدة. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم البريكان – ص 13

الفرع السادس: الشريعة

الفرع السادس: الشريعة أطلقت الشريعة وبإطلاق أخص كما قال ابن تيمية رحمه الله على: (العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ..... إلخ) (¬1). والشريعة هنا كالسنة، فقد يراد بها ما سنه الله وشرعه من العقائد، وقد يراد بها ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد بها كلاهما. وقد ألف بعض العلماء كتباً في الاعتقاد تحمل اسم الشريعة، ومن أولها: (الشريعة) لأبي بكر الآجري رحمه الله. و (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة) لابن بطة الحنبلي رحمه الله. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص 136 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 306,307).

الفرع السابع: الإيمان

الفرع السابع: الإيمان صنف السلف كتبا باسم الإيمان بحثت قضايا التوحيد ومسائل الاعتقاد جميعا ومن أولها: - (كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكمال درجاته) للإمام أبي عبيد القاسم ابن سلام البغدادي رحمه الله. - (كتاب الإيمان) للحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شبة العبسي رحمه الله. - (كتاب الإيمان) للحافظ محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده رحمه الله. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص 130

المطلب الثاني: أسماء علم العقيدة والتوحيد عند غير أهل السنة والجماعة

الفرع الأول: علم الكلام هو علم يقتدر به على المخاصمة في العقائد والمناظرة فيها بإيراد الحجج والشبه ودفع إيرادات الخصوم فهو باختصار علم الجدل العقدي المذموم شرعا فهو مراء متعلق بإظهار المذاهب والانتصار لها. الفرق بين علم التوحيد وعلم الكلام ويتبين من الأمور التالية: - علم التوحيد يعتمد على الكتاب والسنة وإجماع السلف والمعقول الصحيح المستند إليها. أما علم الكلام فهو علم يعتمد على الألفاظ المنطقية والأقيسة الكلامية فهو متأثر بعوامل خارجية عن دلالة الكتاب والسنة. - علم التوحيد علم شرعي لا بدعة فيه وعلم الكلام علم مبتدع لم يعرفه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. - علم التوحيد لا يشتمل على أي لفظ بدعي ولا مصطلح فلسفي أما علم الكلام فإنه يشتمل على كثير من الألفاظ البدعية والمصطلحات المنطقية والآراء الفلسفية. - أصل علم التوحيد موجود في العصور المفضلة القرون الثلاثة وأما علم الكلام فليس كذلك بل هو علم حادث نتيجة مؤثرات خارجية بسبب ترجمة كتب المنطق والفلسفة. - آثار علم التوحيد محمودة وأما آثار علم الكلام فهي مذمومة. - إن علم التوحيد أداة للمحق على المبطل وذلك بإظهاره لباطله وأما علم الكلام فهو أداة للمحق والمبطل وهو إلى المبطل أقرب. إتحاف المريد بمعرفة التوحيد لإبراهيم البريكان – ص 17 وإطلاق علم الكلام يعرف عند سائر الفرق المتكلمة، كالمعتزلة والأشاعرة، ومن يسلك سبيلهم، وهو لا يجوز لأن علم الكلام حادث مبتدع، ويقوم على التقول على الله بغير علم، ويخالف منهج السلف في تقرير العقائد. من ذلك: (شرح المقاصد في علم الكلام) للتفتازاني (ت:791هـ) مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص10

الفرع الثاني: الفلسفة

الفرع الثاني: الفلسفة يطلق علم الفلسفة على علم العقيدة عند الفلاسفة ومن سلك سبيلهم، وهو إطلاق لا يجوز في العقيدة لأن الفلسفة مبناها على الأوهام والعقليات الخيالية، والتصورات الخرافية عن أمور الغيب المحجوبة.

الفرع الثالث: التصوف

الفرع الثالث: التصوف تطلق كلمة تصوف على العقيدة عند بعض المتصوفة والفلاسفة، والمستشرقين ومن نحا نحوهم، وهو إطلاق مبتدع لأنه ينبني على اعتبار شطحات المتصوفة ومزاعمهم وخرافاتهم في العقيدة.

الفرع الرابع: الإلهيات

الفرع الرابع: الإلهيات وتطلق كلمة الإلهيات على العقيدة عند أهل الكلام والفلاسفة والمستشرقين وأتباعهم وغيرهم، وهو خطأ، لأن المقصود بها عندهم فلسفات الفلاسفة، وكلام المتكلمين والملاحدة فيما يتعلق بالله - تعالى -.

الفرع الخامس: ما وراء الطبيعة

الفرع الخامس: ما وراء الطبيعة أو (الميتافيزيقيا) كما يسميها الفلاسفة والكتاب الغربيون ومن نحا نحوهم، وهي قريبة من معنى الإلهيات. ويطلق الناس على ما يؤمنون به ويعتنقونه من مبادئ وأفكار (عقائد) وإن كانت باطلة أو لا تستند إلى دليل عقلي ولا نقلي، فإن للعقيدة مفهوماً صحيحاً هو الحق، وهو عقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الكتاب والسنة الثابتة، وإجماع السلف الصالح مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - بتصرف - ص11

المبحث الثالث: موضوعات علم العقيدة

المبحث الثالث: موضوعات علم العقيدة وموضوع علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة يدور على أمور منها: بيان حقيقة الإيمان بالله تعالى وتوحيده، وما يجب له تعالى من صفات الجلال والكمال، مع إفراده وحده بالعبادة دون شريك، والإيمان بالملائكة الأبرار والرسل الأطهار، وما يتعلق باليوم الآخر والقضاء والقدر، كما يدور على ضد التوحيد وهو الشرك وهو الكفر وبيان حقيقتهما وأنواعهما، وقد يقال إن موضوع علم التوحيد يدور على محاور ثلاثة، وذلك على النحو التالي: 1 - ذات الله تعالى أو الإلهيات، والبحث في ذات الله تعالى من حيثيات ثلاث، ما يتصف به تعالى ... وما يتنزه عنه ... وحقه على عباده .... 2 - ذوات الرسل الكرام أو النبوات والبحث فيها من الحيثيات التالية: ما يلزم ويجب عليهم ... ما يجوز في حقهم ... ما يستحيل في حقهم ... ما يجب على أتباعهم. 3 - السمعيات أو الغيبيات: وهو ما يتوقف الإيمان به على مجرد ورود السمع أو الوحي به، وليس للعقل في إثباتها أو نفيها مدخل كأشراط الساعة وتفاصيل البعث ... والبحث في السمعيات أو مسائل الغيب يكون من حيث اعتقادها وهو يقوم على دعامتين: الإقرار بها مع التصديق ويقابله الجحود والإنكار لها، الإمرار لها مع إثبات معناها ويقابله الخوض في الكنه والحقيقة، ومحاولة التصور والتوهم بالعقل بعيدا عن النقل. وضابط السمعيات: أن العقل لا يمنعها ولا يحيلها، ولا يقدر على ذلك، ولا يقدر أن يوجبها ولا يحار في ذلك، فمتى ما صح النقل عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الواجب اعتقاد ذلك والإقرار به، ودفع كل تعارض موهوم بين شرع الله وهو الوحي وبين خلقه وهو العقل، ... والقاعدة الذهبية هو أنه لا يتعارض وحي صحيح مع عقل صريح عند التحقيق علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – بتصرف - ص155 ومن موضوعات علم العقيدة أيضاً: القدر، والأخبار، وأصول الأحكام القطعية، وسائر أصول الدين والاعتقاد، ويتبعه الرد على أهل الأهواء والبدع وسائر الملل والنحل الضالة، والموقف منهم مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص10

المبحث الرابع: حكم تعلم علم التوحيد

المبحث الرابع: حكم تعلم علم التوحيد (ينبغي أن يعلم أن حكم العلم كحكم معلومه، فإن كان المعلوم فرضاً أو سنة فعلمه كذلك، إذا توقف حصول المعلوم على تعلم ذلك العلم) (¬1). وفي الحق أن تعلم علم التوحيد منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، وهذا شأن العلوم الشرعية عامة. قال ابن عبد البر رحمه الله: (أجمع العلماء أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصته بنفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية، إذا قام به قائم سقط فرضه على أهل ذلك الموضع) (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين، مثل طلب كل واحد علم ما أمره به وما نهاه عنه، فإن هذا فرض على الأعيان) (¬3). وإن أعظم ما أمر الله به هو التوحيد، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد: 19] وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23]، وفي حديث معاذ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)) (¬4) وفي حديث معاذ الآخر قال صلى الله عليه وسلم: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)) (¬5). قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله: (اعلم أن التوحيد هو أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل ... ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر (¬6)، ولا القصد إلى النظر (¬7)، ولا الشك (¬8)، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، فهو أول واجب وآخر واجب) (¬9). قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في شرح منظومته (¬10): أول واجب على العبيد ... معرفة الرحمن بالتوحيد إذ هو من كل الأوامر أعظم ... وهو نوعان أيا من يفهم ومما يدل على أنه آخر واجب، حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) (¬11) وفي الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة)) (¬12). فتعلم فرض العين من علم التوحيد هو أول الواجبات وأولاها وأفرضها على المكلفين أجمعين. وفرض العين منه، هو: ما تصح به عقيدة المسلم في ربه، من حيث ما يجوز ويجب ويمتنع في حق الله تعالى، ذاتا وأسماء وأفعالاً وصفات، على وجه الإجمال، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالإيمان المجمل أو الإجمالي. وهو ما يسأل عنه جميع الخلق؛ لما روي عن أنس بن مالك وابن عمر ومجاهد في قوله عز وجل: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ [الحجر: 92] قالوا: (عن لا إله إلا الله) (¬13). وأما فرض الكفاية من علم التوحيد، فما زاد على ذلك من التفصيل والتدليل والتعليل، وتحصيل القدرة على رد الشبهات وقوادح الأدلة، وإلزام المعاندين وإفحام المخالفين، وهذا ما يسمى بالإيمان التفصيلي، وهو المقدور على إثباته بالأدلة وحل ودفع الشبه الواردة عليه، وهو من أجل فروض الكفايات في علوم الإسلام؛ لأنه ينفي تأويل المبطلين وانتحال الغالين، فلا يجوز أن يخلو الزمان ممن يقوم بهذا الفرض الكفائي المهم، إذ لا شك أن حفظ عقائد الناس أكثر أهمية من حفظ أبدانهم وأموالهم وأعراضهم. واختصاراً فإن حكم الشارع في تعلم علم التوحيد أنه فرض عين على كل مكلف، من ذكر وأنثى وذلك بالأدلة الإجمالية وأما بالأدلة التفصيلية ففرض على الكفاية. ويشترط للتكليف بالتوحيد أربعة شروط، وهي: العقل، والبلوغ، وسلامة حاستي السمع أو البصر، وبلوغ الدعوة. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص: 163 ¬

(¬1) ((ترتيب العلوم)) للمرعشي (ص: 90). (¬2) ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (ص: 10). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 328، 329)، (28/ 80). (¬4) رواه البخاري (7373)، ومسلم (30). (¬5) رواه البخاري (1458)، ومسلم (19) بلفظ: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬6) انظر: ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 22). (¬7) انظر: ((الإرشاد)) للجويني (ص: 3). (¬8) انظر: ((الأصول الخمسة)) للقاضي عبد الجبار. (¬9) ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (1/ 21 - 23). (¬10) انظر: ((معارج القبول)) (1/ 29). (¬11) رواه مسلم (917). (¬12) رواه مسلم (26). (¬13) رواه البخاري معلقاً قبل حديث (26) قائلاً: وقال عدة من أهل العلم ... ، قال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/ 28): قلت: روي ذلك عن أنس، ومجاهد، وابن عمر وغيرهم. وقال الدارقطني في ((العلل)) (12/ 20): ورفعه غير صحيح, وانظر: ((تفسير الطبري)) (17/ 150)، ((الدعاء)) للطبراني (ص: 438 - 439).

المبحث الخامس: فضل علم التوحيد

المبحث الخامس: فضل علم التوحيد إذا كانت العلوم الشرعية كلها فاضلة لتعلقها بالوحي المطهر؛ فإن علم التوحيد في الذروة من هذا الفضل العميم، حيث حاز الشرف الكامل دون غيره من العلوم، وذلك يظهر بالنظر إلى جهات ثلاث: موضوعه، ومعلومه، والحاجة إليه. فضله من جهة موضوعه: من المتقرر أن المتعلق يشرف بشرف المتعلق، فالتوحيد يتعلق بأشرف ذات، وأكمل موصوف، بالله الحي القيوم، المتفرد بصفات الجلال والجمال والكمال، ونعوت الكبرياء والعزة؛ لذا كان علم التوحيد أشرف العلوم موضوعا ومعلوما، وكيف لا يكون كذلك وموضوعه رب العالمين، وصفوة خلق الله أجمعين، ومآل العباد إما إلى جحيم أو إلى نعيم، ولأجل هذا سماه بعض السلف الفقه الأكبر. وتحقيق التوحيد هو أشرف الأعمال مطلقاً ... وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله)) (¬1). وهو موضوع دعوة رسل الله أجمعين، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وجميع الرسل إنما دعوا إلى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]، فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم، فقال نوح لقومه: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم، قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36] (¬2). والله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل إقامة التوحيد بين العبيد، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، وله خلق الجن والإنس، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، أي: يوحدون .. ، فأهم ما على العبد معرفته هو التوحيد، وذلك قبل معرفة العبادات كلها حتى الصلاة. فضله من جهة معلومه: إن معلوم علم التوحيد هو مراد الله الشرعي، الدال عليه وحيه وكلامه الجامع للعقائد الحقة، كالأحكام الاعتقادية المتعلقة بالإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والبعث بعد الموت. ومراد الله تعالى يجمع أموراً ثلاثة، وتترتب عليه أمور ثلاثة، فهو يجمع أن الله تعالى أراده وأحبه فأمر به، ويترتب على كونه أمر به أن يثيب فاعله، ويعاقب تاركه، وأن ينهي عن مخالفته، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فالأمر بالتوحيد نهي عن الشرك ولابد. قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، قال عمر رضي الله عنه: ((قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي، وهو قائم بعرفة يوم جمعة)) (¬3). فاجتمع لدى نزولها ثلاثة مناسبات لا تجتمع بعد ذلك أبداً: عيد وعيد وعيد صرن مجتمعة وجه الحبيب ويوم العيد والجمعة فنزلت في عيد المسلمين الأسبوعي، وهو يوم الجمعة، الذي وافق عيد الحجاج، وهو يوم عرفة، وهو اليوم الذي حضره النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته حاجاً، واجتمع بهم اجتماعه الأكبر والأخير. ومعلوم علم التوحيد هو الأحكام الاعتقادية المكتسبة من الأدلة المرضية، من كتاب ناطق وسنة ماضية. ¬

(¬1) رواه البخاري (1519)، ومسلم (83). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((التنبيهات السنية على شرح الواسطية)) لعبد العزيز الرشيد (ص 33). (¬3) رواه البخاري (45)، ومسلم (3017). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقطب رحى القرآن العظيم من فاتحته إلى خاتمته في تقرير معلوم التوحيد. يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله: اعلم أن فاتحة الكتاب العزيز التي يكررها كل مسلم في كل صلاة مرات، ويفتتح بها التالي لكتاب الله والمتعلم له، فيها الإرشاد إلى إخلاص التوحيد في ثلاثين موضعاً (¬1). والتوحيد هو فاتحة القرآن العظيم وهو خاتمته، فهو فاتحة القرآن كما في أول سورة الفاتحة: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2]، وهو في خاتمة القرآن العظيم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس: 1] (¬2). فالقرآن من فاتحته إلى خاتمته في تقرير التوحيد بأنواعه، أو في بيان حقوق التوحيد ومقتضياته ومكملاته، أو في البشارة بعاقبة الموحدين في الدنيا والآخرة، أو في النذارة بعقوبة المشركين والمعاندين في الدارين، ثم إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته في بيان القرآن بيانا عمليا تحققت فيها معاني التوحيد، وحسمت فيه مواد الشرك على الوجه الأتم الأكمل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته ويحسم عنهم مواد الشرك، إذ هذا تحقيق قولنا: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب لكمال المحبة والتعظيم، والإجلال والإكرام، والرجاء والخوف (¬3). فضله من جهة الحاجة إليه: وأما فضل علم التوحيد باعتبار الحاجة إليه، فيظهر ذلك بالنظر إلى جملة أمور، منها: أن الله تعالى طلبه، وأمر به كل مكلف، وأثنى على أهله، ومدح من توسل به إليه، ووعدهم أجراً عظيماً. قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ [محمد: 19]، وقال عز من قائل: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء [البينة:5]. وقال سبحانه وتعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة: 136]. وقال سبحانه: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد: 19]. وقال عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1]، وقال تقدست أسماؤه: رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ إلى قوله: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران: 193 – 195]. وقال عز وجل: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 146]. ومنها أن عقيدة التوحيد هي الحق الذي أرسلت من أجله جميع الرسل. قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. وهي حق الله على عباده كما في حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)) (¬4). وهي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام التي أمرنا الله باتباعها، قال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123]، وهي أيضاً دعوته عليه السلام، قال تعالى على لسانه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]. ¬

(¬1) ((الدين الخالص)) للشيخ صديق حسن خان (1/ 9). (¬2) ((حكم الانتماء)) للشيخ بكر أبو زيد (ص58). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 136). (¬4) رواه البخاري (6267)، ومسلم (30). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

ومنها أن الله تعالى جعل الإيمان شرطا لقبول العمل الصالح وانتفاع العبد به في الدنيا والآخرة. قال تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء: 94]. وقال سبحانه: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [الإسراء: 19]. فإذا جاء العبد بغير الإيمان فقد خسر جميع عمله الصالح، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. ومنها أن سعادة البشرية في الدنيا متوقفة على علم التوحيد، فحاجة العبد إليه فوق كل حاجة، وضرورته إليه فوق كل ضرورة، فلا راحة ولا طمأنينة ولا سعادة إلا بأن يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة صحيحة، صادقة ناصحة، وهي جهة الوحي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: حاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب، فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها، مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا، أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا (¬1). ولهذا سمى الله تعالى غير الموحد ميتا حقيقة، قال تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُون [الروم: 52 - 53]. فمقابلة الموتى بالسامعين تدل على أن الموتى هم المشركون والكافرون، وهذا تفسير جمهور السلف (¬2). وقيل المراد بالموتى: موتى الأبدان، فنفي السماع يعني نفي الاهتداء، فكما قيل إن الميت يسمع ولا يمتثل، فهؤلاء الأحياء من الكفار حين يسمعون القرآن كالموتى حقيقة حين يسمعون فلا يمتثلون ولا ينتفعون. ومما يشهد لهذين المعنيين أن الله تعالى سمى ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه نورا لتوقف الهداية عليه، وسماه شفاء لأنه دواء للنفوس من عللها. قال شيخ الإسلام رحمه الله: والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، فكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة وهو من الأموات. قال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا [الأنعام: 122]، فهذا وصف المؤمن كان ميتا في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات. وسمى الله تعالى الرسالة روحا، والروح إذا عدمت فقد فقدت الحياة، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا [سورة الشورى: 52] (¬3) علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص179 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 96 - 97). (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) (10/ 12)، و ((تفسير القرطبي)) (13/ 232). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 93 - 94).

ومن أعظم فضائله: أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها، وفي ترتب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت. ومن فضائله: أنه يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي، لما يخشى من سخطه وعقابه. ومنها: أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين. ومنها: أنه يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام. فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان، يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة. ومن أعظم فضائله: أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي. ويكون مع ذلك متألها متعبدا لله، لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه، ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه. ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء: أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققا كاملا بالإخلاص التام، فإنه يصير القليل من عمله كثيرا، وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السماوات والأرض وعمارها من جميع خلق الله، كما في حديث أبي سعيد المذكور في الترجمة، وفي حديث البطاقة التي فيها لا إله إلا الله التي وزنت تسعة وتسعين سجلا من الذنوب، كل سجل يبلغ مد البصر، وذلك لكمال إخلاص قائلها، وكم ممن يقولها لا تبلغ هذا المبلغ؛ لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإخلاص الكامل مثل ولا قريب مما قام بقلب هذا العبد. ومن فضائل التوحيد: أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا، والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال. ومنها: أن الله يدفع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره، وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة والله أعلم. القول السديد في مقاصد التوحيد لعبد الرحمن بن سعدي – ص24

المبحث السادس: واضع علم التوحيد

المبحث السادس: واضع علم التوحيد لاشك أن التوحيد جاءت به الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، وأما علم التوحيد فقد مر في وضعه وتدوينه بطورين: أولهما: طور الرواية (ما قبل التدوين)، والثاني: طور التدوين والاستقرار. وهذه لمحة عن كلتا المرحلتين: أولا: طور الرواية لم يكن الرعيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم بحاجة إلى التدوين في العلوم الشرعية، فقد كانوا يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيين، "ويوردون عليه ما يشكل عليهم من الأسئلة والشبهات فيجيبهم عنها بما يثلج صدورهم، وقد أورد عليه من الأسئلة أعداؤه وأصحابه، أعداؤه للتعنت والمغالبة، وأصحابه للفهم والبيان وزيادة الإيمان" (¬1)، وكل ذلك رواه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم لمن بعدهم، فكانت مسائل الاعتقاد محفوظة في أذهانهم، مستدلا عليها بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يقع بينهم اختلاف في شأن العقيدة؛ بل اجتمعوا على عقيدة صحيحة، سالمة نقية خالية من كل شوب، فكانوا "أقرب إلى أن يوفقوا إلى الصواب من غيرهم بما خصهم الله به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وتقوى الرب، فالعربية طريقتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم .. علموا التنزيل وأسبابه، والتأويل وآدابه، وعاينوا الأنوار القرآنية، والأشعة المصطفوية، فهم أسعد الأمة بإصابة الصواب، وأجدرها بعلم فقه السنة والكتاب" (¬2). لأجل هذا لم يكن الصحابة رضي الله عنهم بحاجة إلى تدوين علم التوحيد أو تصنيف كتب فيه. ثانيا: طور التدوين وبدأ هذا في حياة التابعين، وإن وقعت في زمنه صلى الله عليه وسلم صور من الكتابة والتدوين، حيث ابتدأ ذلك الإمام الزهري رحمه الله تعالى، ثم شاع ذلك في النصف الأول من القرن الثاني الهجري كما فعل الإمام مالك في الموطأ، حيث رتبت الأحاديث على أبواب تتعلق بالتوحيد مثل: باب الإيمان، وباب التوحيد، وباب العلم، الخ .. ولعل هذا التبويب للأحاديث كان النواة الأولى في استقلال كل باب فيما بعد بالتصنيف والبحث. ومما أوقد جذوة التدوين ما وقع في آخر زمن الصحابة من بدع واختلاف في العقيدة، كما في مسألة القدر، وكان أول من تكلم به معبد الجهني (ت: 80هـ)، ومسألة التشيع والغلو في آل البيت، وفتنة عبد الله بن سبأ، كما وقعت من قبل بدعة الخوارج وصرحوا بالتكفير بالذنوب، وبعد ذلك نشأ مذهب المعتزلة على يد واصل بن عطاء (ت: 131هـ)، وصنف في مسائل من العقيدة ما خالف به الصحابة والتابعين، وخرج على إجماع خير القرون في الاعتقاد، فتصدى له التابعون بالرد عليه والمناظرة في هذه المسائل، ثم بدأ التصنيف في عقيدة أهل السنة حين أصبح ضرورة لابد منها لنفي تأويل المبطلين، ورد انحراف الغالين، وكان أول مدون عرفناه في العقيدة - على هذا النحو – هو كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة رحمه الله (ت: 150هـ)، رواه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، كما رواه حماد بن أبي حنيفة – وإن قيل إنه من وضع أبي مطيع البلخي – حدد فيه أبو حنيفة عقائد أهل السنة تحديدا منهجيا ورد فيه على المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والشيعة، واشتمل على خمسة أبواب - في أتم رواياته -: الأول في القدر، والثاني والثالث في المشيئة، والرابع في الرد على من يكفر بالذنب، والخامس في الإيمان، وفيه حديث عن الأسماء والصفات، والفطرة، وعصمة الأنبياء، ومكانة الصحابة، وغير ذلك من مباحث العقيدة. ¬

(¬1) ((زاد المعاد لابن القيم)) (3/ 1250). (¬2) ((إعلام الموقعين لابن القيم)) (4/ 148 - 150) بتصرف.

فلو قال قائل: إن واضع علم التوحيد – بمعنى أول من وضع مؤلفا خاصا في الفن من أهل السنة – هو الإمام أبو حنيفة؛ لكان صادقا ولم يبعد عن الصواب، "وإن كان قد قيل: إن واضعه الإمام مالك بن أنس، وأنه ألف فيه رسالة، وقيل أيضا أنه لما كثرت الفتن أمر المنصور بوضع كتب لإزالتها والرد عليها" (¬1). كما ثبت أن الإمام ابن وهب رحمه الله (ت: 197هـ) وضع كتابا في القدر على طريقة المحدثين في جمع الأحاديث وإن كان دون تبويب. ولقد نسب كتاب بنفس اسم الفقيه الأكبر للإمام الشافعي رحمه الله (ت: 204هـ)، تناول فيه مسائل الاعتقاد مسألة مسألة، ورد على الفرق المخالفة في ثنايا كلامه، إلا أن نسبة الكتاب إلى الإمام الشافعي غير موثقة، فقد قال حاجي خليفة في كشف الظنون: " .. لكن في نسبته إلى الشافعي شك، والظن الغالب أنه من تأليف بعض أكابر العلماء" (¬2). ثم تتابع التأليف بعد أبي حنيفة في علم التوحيد ولكن بأسماء مختلفة لهذا العلم. فمن أول ذلك كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت: 224هـ)، وتبعه على هذا كثيرون إلى يوم الناس هذا، كما ظهر مصطلح السنة للدلالة على ما يسلم من الاعتقادات، واشتهر ذلك زمن الإمام أحمد رحمه الله، ومن الكتب المصنفة باسم السنة، كتاب السنة لابن أبي شيبة رحمه الله (ت: 235هـ) والسنة للإمام أحمد رحمه الله (ت: 240هـ) وغير ذلك، ثم ظهر مصطلح التوحيد في مثل كتاب التوحيد لابن سريج البغدادي رحمه الله (ت: 306هـ)، وكتاب التوحيد لابن خزيمة رحمه الله (ت: 311هـ)، وواكب ذلك ظهور مصطلح أصول الدين، ثم ظهر التأليف باسم العقيدة أوائل القرن الخامس الهجري، واستقرت حركة التصنيف ومنهج التأليف، واستقل علم التوحيد علما متميزا عن غيره بلقب ومنهج مخصوص. وأخيرا فإن فيما سبق بيانه رد على من زعم – من الأشاعرة والماتريدية – أن واضعي علم التوحيد هما: أبو الحسن الأشعري (ت: 324هـ)، وأبو منصور الماتريدي (ت: 333هـ)، حيث سبقا بتآليف كثيرة كتبت على منهج أهل الحديث، أهل السنة والجماعة. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري- 207 ¬

(¬1) ((اللؤلؤ المنظوم في مبادئ العلوم لمحمد أبي عليان الشافعي)) (237). (¬2) ((كشف الظنون لحاجي خليفة)) (2/ 1287).

المبحث السابع: فوائد التوحيد

المبحث السابع: فوائد التوحيد التوحيد له فضائل عظيمة، وآثار حميدة، ونتائج جميلة، ومن ذلك ما يأتي: - خير الدنيا والآخرة من فضائل التوحيد وثمراته. - التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، يدفع الله به العقوبات في الدارين، ويبسط به النعم والخيرات. - التوحيد الخالص يثمر الأمن التام في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82]. - يحصل لصاحبه الهدى الكامل، والتوفيق لكل أجر وغنيمة. - يغفر الله بالتوحيد الذنوب ويكفر به السيئات، ففي الحديث القدسي عن أنس رضي الله عنه يرفعه: ((يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) (¬1) - يدخل الله به الجنة، فعن عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) (¬2)، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة)) (¬3). - التوحيد يمنع دخول النار بالكلية إذا كمل في القلب، ففي حديث عتبان رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: (( ... فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬4). - يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى حبة من خردل من إيمان (¬5). - التوحيد هو السبب الأعظم في نيل رضا الله وثوابه، وأسعد الناس بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم: ((من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه)) (¬6). - جميع الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها، وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت. - يُسَهِّل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، ويسلِّيه عن المصائب، فالموحد المخلص لله في توحيده تخف عليه الطاعات؛ لِمَا يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهوِّن عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لِمَا يخشى من سخط الله وعقابه. - التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين. - التوحيد يخفف عن العبد المكاره، ويهوِّن عليه الآلام، فبحسب كمال التوحيد في قلب العبد يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة، وتسليمٍ ورضًا بأقدار الله المؤلمة، وهو من أعظم أسباب انشراح الصدر. - يحرِّر العبد من رِقّ المخلوقين والتعلُّقِ بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا هو العزُّ الحقيقي، والشرف العالي، ويكون مع ذلك متعبدًا لله لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إيَّاه، وبذلك يتمُّ فلاحه، ويتحقق نجاحه. ¬

(¬1) رواه الترمذي (3450). وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصححه ابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (1/ 204) وقال ابن رجب: إسناده لا بأس به، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه البخاري (3435)، ومسلم (28). (¬3) رواه البخاري (3435)، ومسلم (28). (¬4) رواه البخاري (425)، ومسلم (33). (¬5) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (( ... أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ... )) رواه البخاري (22)، ومسلم (184). (¬6) رواه البخاري (99). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

- التوحيد إذا كمل في القلب، وتحقَّق تحققًا كاملاً بالإخلاص التام فإنه يصير القليل من عمل العبد كثيرًا، وتضاعف أعماله وأقواله الطيبة بغير حصر، ولا حساب. - تكفَّل الله لأهل التوحيد بالفتح، والنصر في الدنيا، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال. - الله عز وجل يدافع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمنُّ عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه، والأُنس بذكره. قال العلامة السعدي رحمه الله: (وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة، والله أعلم) (¬1). وقال ابن تيمية رحمه الله: (وليس للقلوب سرور ولذة تامة إلا في محبة الله تعالى، والتقرب إليه بما يحبه، ولا تتم محبة الله إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله) (¬2) نور التوحيد وظلمات الشرك لسعيد بن علي بن وهف القحطاني – ص: 14 - أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله سبحانه وتعالى؛ وعليه، فهو يعمل سراً وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلاً، فإنه يتصدق ويصلي، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو. - أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82]. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 75 ومن أجل فوائده – أي: التوحيد - أنه يمنع الخلود في النار. إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل. وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية. ومنها: أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة ومنها: أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه. القول السديد في مقاصد التوحيد لعبد الرحمن بن سعدي – ص 23 ¬

(¬1) ((القول السديد)) (ص: 26). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 32).

المبحث الثامن: الغاية المطلوبة من دراسته

المبحث الثامن: الغاية المطلوبة من دراسته 1 - الخروج من ربقة التقليد إلى الاستدلال فيكون المسلم من مسلمة الاختيار الذي اعتنق ما يعلمه ويدركه فآمن عن قناعة وتسليم. 2 - الدفاع عن الإسلام وعقيدته برد الشبهة وإثبات الحق. 3 - تصحيح التصورات الخاطئة حول الله والكون والحياة وعلاقة كل منهما بالآخر. إتحاف المريد بمعرفة علم التوحيد لإبراهيم البريكان – ص 12

المبحث التاسع: مسائل علم التوحيد

المبحث التاسع: مسائل علم التوحيد هي قضايا كلية تبحث فيه تكون مما يدخل في نطاق العقيدة فهو علم كلي ولذا يقال علم أصول الدين إتحاف المريد بمعرفة علم التوحيد لإبراهيم البريكان – ص 12 وتتضمن معرفة الأحكام الشرعية العقدية كأحكام الألوهية، وعصمة الرسل، وقضايا اليوم الآخر ونحو ذلك، وقد عنيت كتب العقائد به أعظم عناية، وكتبت في تحريره وتقريبه – على منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة – مطولات ومختصرات، ومنظومات ومنثورات من زمن السلف وإلى يوم الناس هذا. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص 235

المبحث العاشر: وجوب التزام العقيدة الصحيحة

المبحث العاشر: وجوب التزام العقيدة الصحيحة العقيدة الصحيحة هي العقيدة المدلول عليها بألفاظ الكتاب والسنة ونحن ملزمون باتباع ألفاظها ومعانيها، وبناء على ذلك يجب التزام العقيدة الصحيحة – ولا يقال إن الكتاب والسنة قد يختلف في دلالتهما في العقائد وغيرها لأننا نقول إنه لابد من مدلول حق لهما، وهذا المدلول كان له جيل قد طبقه فهو منهج عملي ظهرت آثاره وبانت فوائده مما يدل على أنه ثابت في واقع الأمر وحقيقته، فيجب التماسه من خلال البيان النبوي لذلك، والبيان الأثري من الصحابة رضي الله عنهم. وفرض دلالة مختلف فيها هو فرض حق لا يعرف، ومآل هذا الفرض إبطال دلالة النصوص، ومن ثم إبطال الشرع إذ مضمونه أن الحق الذي أنزل به القرآن الكريم وأرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بينا ولا واضحا، ولازم ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الناس على الضلالة ولم يبلغهم ما أنزل إليهم من ربهم، وأن أصحابه لم يكن لهم في واقع الأمر عقيدة، وكل هذه اللوازم باطلة إذ ما يلزم منه الباطل فهو باطل. فظهر بهذا أن هناك حقا في باب العقيدة يجب أن يلتزم وهناك دلالة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا محالة، وأن هذه العقيدة التي توصف بالصحة ووجوب الالتزام، هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم وتابع تابعيهم إلى يوم الدين، كما قال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]. ويمكن بعد هذا حصر موجبات التزام العقيدة الصحيحة فيما يلي: أولاً: أنها مما أمر الله باتباعه كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] وقال سبحانه: وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء: 36]. ثانياً: أنها مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]. ثالثاً: استحلال قتال من لم يقبلها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... )) (¬1) الحديث. رابعاً: لأنها الحق الذي أرسلت من أجلها الرسل، وأنزلت الكتب، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. خامساً: لأن الرسل جميعا أرسلوا بها، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. سادسا: لأنها الغاية من خلق الجن والإنس، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. ¬

(¬1) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

سابعا: لأنها متعلق سعادة الخلق في الدنيا والآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من نفسه)) (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأخرت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا)) (¬2). ثامنا: لأنها دين الله الذي ارتضاه لعباده ... قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. تاسعاً: أنها حق الله الذي أوجبه على عباده كما قال صلى الله عليه وسلم: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)) (¬3). عاشرا: لأنها طريق النجاة من النار ... قال صلى الله عليه وسلم: ((فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬4). الحادي عشر: لأنها أول ما يجب الدعوة إليه. كما قال صلى الله عليه وسلم: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)) (¬5) وفي رواية: ((إلى أن يوحدوا الله)) (¬6). الثاني عشر: لأنها ملة إبراهيم التي أمرنا باتباعها، كما قال سبحانه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] وقد فسر الله مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ بقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف: 26، 27]، وقال عز وجل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120]. الثالث عشر: أن من التزمها حرم ماله ودمه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل)) (¬7). الرابع عشر: لأنها مما حكم الله وقضى باتباعه، وما حكم به وقضاه فهو واجب الاتباع، كما قال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23]. الخامس عشر: أن الله حرم مخالفتها، كما قال تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [الأنعام: 151] الآية. السادس عشر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالبراءة من ضدها، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون: 1، 2]. السابع عشر: امتداحه سبحانه للمؤمنين بالتزامها وترك ضدها، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 59]. الثاني عشر: لأنها دعوة إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى عنه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]. المدخل لدراسة العقيدة على مذهب أهل السنة والجماعة لإبراهيم البريكان- ص60 ¬

(¬1) رواه البخاري (99). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (199). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (6267)، ومسلم (30). من حديث معاذ رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (1186)، ومسلم (33). من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (1458)، ومسلم (19). بلفظ: ((عبادة الله)) بدلاً من ((شهادة أن لا إله إلا الله)). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬6) رواها البخاري (7372). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬7) رواه مسلم (23). من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه.

الفصل الثاني: تاريخ عقيدة التوحيد

المبحث الأول: تاريخ عقيدة التوحيد ومتى طرأ الانحراف عنها!! عقيدة التوحيد هي الدين الحنيف، والدين القيم، دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فهي موجودة مع وجود هذا الإنسان كما ثبت بالدليل القطعي وهو القرآن الذي هو أوثق مصدر للتاريخ. قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30]. فآدم، عليه السلام، قد فطره الله على العقيدة السليمة، وعلمه ما لم يعلم من أمور الدين، فكان موحدا لله –تعالى- التوحيد الخالص، معتقداً لله ما يجب له –تعالى- من التعظيم والطاعة والرجاء والخشية، وقد اصطفاه الله من عباده المخلصين، قال الله – تعالى -: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33]. وقد شرفه الله –تعالى- بذلك، وأسجد له الملائكة، قال –تعالى-: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [البقرة: 34]. وقد أخذ الله –تعالى- على بني آدم العهد والميثاق أنه ربهم، وأشهدهم على أنفسهم في أصل خلقهم من أصلابهم، فقال –تعالى-: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172 - 173]. والناس كلهم يولدون على الفطرة وينشأون عليها، ما لم تصرفهم عنها صوارف الشر والضلال، من التربية على الكفر والضلال، ومن الأهواء ووساوس الشياطين، وشبهات المبطلين، وشهوات الدنيا، وقد جاء في الحديث القدسي قوله –تعالى-: (( ... وأني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً .. )) (¬1). الحديث. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)) (¬2) .. الحديث فكما يتوجه هذا إلى كل إنسان مولود، يتوجه إلى أول إنسان وهو آدم، عليه السلام، من باب أولى، فعقيدة التوحيد والخير والصلاح هي الأصل الذي كان عليه آدم، عليه السلام، والأجيال الأولى من ذريته، فكانوا على التوحيد الخالص. أما الشرك والضلال فإنما هي أمور طارئة لم تحدث إلا بعد آدم، عليه السلام، بأزمان وأجيال، وعلى التدريج فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) (¬3). وإلى هذا تشير الآية في قوله –تعالى-: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213]. أي: كانوا على الحق والهدى أمة واحدة على دين واحد – أول الأمر – فاختلفوا فيما بعد. كذا فسرها كثير من السلف (¬4). وفي عهد نوح، عليه السلام، كان الشرك سائداً في قومه، فكانوا يعبدون الأصنام من دون الله، لذلك قال الله – تعالى – عن نوح: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ ... [هود: 25 - 26]. وبهذا يتبين قطعاً أن العقيدة السليمة والتوحيد الخالص هما الأصل في تاريخ البشر، وأن الضلال والشرك والوثنية أمور طارئة بعد أحقاب من الزمان بعد آدم، عليه السلام .. والله أعلم. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر العقل – ص: 19 ¬

(¬1) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (1359)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (4/ 275)، والحاكم (2/ 546 - 547) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن تيمية في ((بيان تلبيس الجهمية)) (3/ 65): ثابت, وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح. (¬4) راجع تفسير الآية السابقة في: ((تفسير الطبري)) (2/ 194 - 195). و ((تفسير ابن كثير)) (1/ 218). وانظر: ((دعوة التوحيد)) للدكتور محمد خليل هراس (ص: 106 - 119).

المبحث الثاني: عقيدة التوحيد في دعوة الرسل عامة

المبحث الثاني: عقيدة التوحيد في دعوة الرسل عامة إذا تأملنا قصص المرسلين التي وردت في القرآن الكريم، وما حدث لهم مع أممهم، نجد أنهم اتفقوا جميعاً على دعوة واحدة، هي الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب الشرك، وإن اختلفت شرائعهم (¬1). بل إن مسألة الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله هي القضية الأولى التي جاء ذكرها في القرآن الكريم بين الرسل وأممهم، قال الله –تعالى- مخبراً عما أرسل به جميع الرسل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. وقال –تعالى-: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. وقال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ [النحل: 2]. وإذن: فجميع الرسل كان أول وأهم ما دعوا إليه هو التوحيد، توحيد الله بالعبادة وتقواه وطاعته وطاعة رسله. وكما ذكر الله عنهم ذلك على سبيل التعميم، فقد ذكر ذلك عن بعضهم على التفصيل: فنوح، عليه السلام، قال لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]. وكذلك هود، عليه السلام، قال لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 65]. وصالح، عليه السلام، قال لقومه: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 73]. وإبراهيم، عليه السلام، قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت: 16]. فالدعوة إلى التوحيد، والتحذير من الشرك، وصحة العقيدة وسلامتها هما الأصل الأول في دعوة المرسلين، من لدن نوح إلى محمد، عليهم السلام، وهذا هو الغاية الأولى التي بها تصلح كل شئون الدنيا والدين، فإذا صحت العقيدة أذعن الناس لله وحده وأطاعوا رسله واستقاموا على شرعه على هدى وبصيرة، ومن ثم يصلح كل شيء من أمورهم الدينية والدنيوية. وهذا لا يعني أن الرسل لم يهتموا بإصلاح المفاسد الأخرى، ولا أنهم لم يدعوا إلى الفضائل الأخرى، بل جاءوا بشرائع ومناهج تسير عليها الأمم وتصلح شئون حياتها الدنيا، وأمروا بالمعروف والإصلاح والعدل، ونهوا عن المنكر والفساد والظلم، وأمروا بكل خير وفضيلة، ونهوا عن كل شر ورذيلة تفصيلاً وإجمالاً. لكن أعظم الفضائل توحيد الله – تعالى – وتقواه، وأعظم المفاسد الشرك بالله، وهو الظلم العظيم. فكان ذلك أعظم أول ما أرسل الله به الرسل. وهكذا كل دعوة لا تقوم على هذا الأساس – في أي زمان وأي مكان – فإنها دعوة قاصرة وناقصة، ويخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معاً، لأن هذا أصل عظيم من أصول الدين متى غفلت عنه الأمم وقعت في كارثة الشرك والابتداع، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر العقل – ص: 22 ¬

(¬1) انظر: ((تطهير الاعتقاد)) للصنعاني (ص: 5).

المبحث الثالث: عقيدة التوحيد في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث: عقيدة التوحيد في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذ تأملنا القرآن الكريم، وسيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الدعوة، نصل إلى حقيقة واضحة كل الوضوح. وهي: أن غالب آيات القرآن الكريم جاءت في تقرير عقيدة التوحيد، توحيد الإلوهية والربوبية والأسماء والصفات، والدعوة إلى إخلاص العبادة والدين لله وحده لا شريك له، وتثبيت أصول الاعتقاد (الإيمان والإسلام). أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى غالب وقته – بعد النبوة – في تقرير الاعتقاد والدعوة إلى توحيد الله – تعالى – بالعبادة والطاعة، وهذا هو مقتضى (لا إله إلا الله محمد رسول الله). فالدعوة إلى العقيدة تأصيلاً وتصحيحاً شملت الجزء الأكبر من جهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، ووقته في عهد النبوة. وإليك بيان ذلك: 1 - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى ثلاثا وعشرين سنة في الدعوة إلى الله. وهي عهد النبوة – منها ثلاث عشرة سنة في مكة، جلها كانت في الدعوة إلى تحقيق (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أي الدعوة إلى توحيد الله –تعالى- بالعبادة والإلوهية وحده لا شريك له، ونبذ الشرك وعبادة الأوثان وسائر الوسطاء، ونبذ البدع والمعتقدات الفاسدة. ومنها عشر سنين في المدينة، وكانت موزعة بين تشريع الأحكام، وتثبيت العقيدة، والحفاظ عليها، وحمايتها من الشبهات، والجهاد في سبيلها، أي أن أغلبها في تقرير عقيدة التوحيد وأصول الدين، ومن ذلك مجادلة أهل الكتاب، وبيان بطلان معتقداتهم المحرفة، والتصدي لشبهاتهم وشبهات المنافقين، وصد كيدهم للإسلام والمسلمين، وكل هذا في حماية العقيدة قبل كل شيء. فأي دعوة لا تولي أمر العقيدة من الاهتمام كما أولاها رسول الله، صلى الله عليه وسلم – علماً وعملاً – فهي ناقصة. 2 - أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قاتل الناس على العقيدة (عقيدة التوحيد) حتى يكون الدين لله وحده، تلك العقيدة المتمثلة في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، على الرغم أن سائر المفاسد والشرور كانت سائدة في ذلك الوقت، ومع ذلك فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل الغاية من قتال الناس تحقيق التوحيد، وأركان الإسلام، فقد قال، صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) (¬1). وهذا لا يعني أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يبال بالأمور الأخرى، من الدعوة إلى الفضائل والأخلاق الحميدة، من (البر والصلة والصدق والوفاء والأمانة). وترك ضدها – (من الآثام والكبائر كالربا والزنا والظلم وقطيعة الرحم). وحاشاه ذلك، لكنه جعلها في مرتبة بعد أصول الاعتقاد، لأنه يعلم وهو القدوة، صلى الله عليه وسلم، أن الناس إذا استقاموا على دين الله وأخلصوا له الطاعة والعبادة حسنت نياتهم وأعمالهم، وفعلوا الخيرات واجتنبوا المنهيات في الجملة، وأمروا بالمعروف حتى يسود بينهم ويظهر، ونهوا عن المنكر حتى لا يظهر ولا يسود. إذن فمدار الخير على صلاح العقيدة، فإذا صلحت استقام الناس، على الحق والخير، وإذا فسدت فسدت أحوال الناس، واستحكمت فيهم الأهواء والآثام، وسهلت عليهم المنكرات، وإلى هذا يشير الحديث الصحيح عن النبي، صلى الله عليه وسلم،: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

فالرسول، صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى كونه دعا إلى إخلاص الدين لله، وقاتل الناس حتى يشهدوا بكلمة الإخلاص، فإنه، صلى الله عليه وسلم، كان يدعو إلى جميع الأخلاق الفاضلة، جملة وتفصيلاً، وينهى عن ضدها، جملة وتفصيلاً. وكما اهتم، صلى الله عليه وسلم، بإصلاح الدين، كان يعمل على إصلاح دنيا الناس، إنما كان ذلك كله في مرتبة دون الاهتمام بأمر التوحيد وإخلاص الدين لله وحده، وهذا ما يجهله أو يتجاهله المنازع في هذه المسألة. 3 - إذ تأملنا القرآن الكريم، المنزل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رحمة للعالمين ومنهاجاً للمسلمين إلى يوم الدين، وجدنا أن أغلبه في تقرير العقيدة وتقرير أصولها، وتحرير العبادة والطاعة لله وحده لا شريك له، واتباع رسوله، صلى الله عليه وسلم. فإن أول شيء نزل به القرآن، وأمر الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن يفعله هو أن يكبر الله تعالى ويعظمه وحده، وأن ينذر الناس من الشرك، وأن يتطهر من الآثام والذنوب وغيرها، ويهجر ما هم عليه من عبادة الأصنام، ويصبر على ذلك كله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 1 - 7]. ثم استمر القرآن الكريم، يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر العهد المكي، لتثبيت العقيدة وتقريرها، والدعوة إلى إخلاص العبادة والدين لله وحده، واتباع رسوله، صلى الله عليه وسلم. لذلك نجد أن أغلب آيات القرآن الكريم في العقيدة: إما بصريح العبارة، وإما بالإشارة، حيث إن معظم القرآن جاء في تقرير توحيد الإلوهية وإخلاص العبادة لله وحده، وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات وأصول الإيمان والإسلام، وأمور الغيب والقدر خيره وشره، واليوم الآخر، والجنة وأهلها ونعيمها، والنار وأهلها وعذابها، (الوعد والوعيد)، وأصول العقيدة تدور على هذه الأمور. وقد ذكر العلماء أن القرآن: ثلث أحكام، وثلث أخبار، وثلث توحيد. وهذا ما فسروا به قول النبي، صلى الله عليه وسلم: ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)) (¬1). فإن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] اشتملت على أعظم التوحيد والتنزيه لله تعالى. وآيات الأحكام لا تخلو من ذكر للعقيدة وأصول الدين، وذلك من خلال ذكر أسماء الله وصفاته، وطاعته وطاعة رسوله، صلى الله عليه وسلم وذكر حكم التشريع ... ونحو ذلك. وكذلك آيات الأخبار والقصص أغلبها في الإيمان والاعتقاد، وذلك من خلال أخبار المغيبات والوعيد واليوم الآخر، ونحو ذلك. وبهذا يتحقق القول: بأن القرآن الكريم، هو الهادي إلى التي هي أقوم إلى يوم القيامة، وغالب آياته في تقرير العقيدة والدعوة إليها والدفاع عنها والجهاد في سبيلها. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر العقل – ص: 24 ¬

(¬1) رواه مسلم (812). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الفصل الثالث: تقسيم مسائل الدين إلى أصول وفروع

المبحث الأول: ما يعتبر من الأصول في الاعتقاد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها، ويجب أن تذكر قولاً، أو تعمل عملاً، كمسائل التوحيد والصفات، والقدرة والنبوة والمعاد، أو دلائل هذه المسائل) (¬1). وقال أيضاً: (إن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين) (¬2). وبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – الأصول التي يجب على الإنسان معرفتها واعتقادها والإيمان بها والعمل بها، وجمعها في ثلاثة أصول هي: معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم (¬3). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – بتصرف - ص: 359 ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 27). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 496). (¬3) ((الأصول الثلاثة "ضمن مجموعة التوحيد")) (ص: 239).

المبحث الثاني: ضوابط التمييز بين الأصول والفروع

المبحث الثاني: ضوابط التمييز بين الأصول والفروع جرت عادة كثير من العلماء في التفريق بين مسائل في الدين يعتبرونها أصولاً، وبين أخرى يعتبرونها فروعاً، وبنوا على ذلك العذر بالخطأ وغيره من العوارض في الفروع، وعدم العذر بها في الأصول. كما طبق هذا التقسيم على العلوم الشرعية، حيث جعلت مسائل علم العقيدة وعلم الأصول أصولاً، وجعلت مسائل علم الفقه فروعاً، مما حدا ببعض العلماء إلى إنكار تقسيم الشريعة إلى أصول وفروع. والملاحظ على هذا التقسيم بين مسائل الدين أو بين علوم الشرعية، يلاحظ عليه عدم انضباطه متفق عليه بين من رأى هذا التقسيم، ولهذا رد بعض العلماء هذا التقسيم، وانتقدوا من قال به ردوا عليهم. ومن أبرز العلماء الذين ردوا هذا التقسيم ورفضوه خاصة لما بني عليه من التطبيقات من حيث التكفير بالخطأ في الأصول، والعذر في الفروع، ومن حيث التهوين من شأن مسائل مهمات في الدين تعد من أركانه، إذ جعلت من فروع الدين؛ لأنها ليست من مسائل العقيدة – بزعمهم – كالصلاة والزكاة وما إليها من مسائل اختص بها علم الفقه في أغلب الأحيان. فكان من أبرز من رد هذا التقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتابعه على ذلك تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول، وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض. فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟، وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟. فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا؟، وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟، وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث، هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق. ووجوب الصلاة والزكاة والصيام وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق. وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية. وكون المسائل قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية؛ لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مراده منه. وعند رجل لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية؛ لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته) (¬1). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: (إنهم قسموا الدين إلى مسائل علمية وعملية وسموها أصولا وفروعاً، وقالوا: الحق في مسائل الأصول واحد، ومن خالفه، فهو كافر أو فاسق. وأما مسائل الفروع، فليس لله تعالى فيها حكم معين ولا يتصور فيها الخطأ، وكل مجتهد مصيب لحكم الله تعالى الذي هو حكمه. وهذا التقسيم لو رجع إلى مجرد الاصطلاح لا يتميز به ما سموه أصولاً مما سموه فروعا، فكيف وقد وضعوا عليه أحكاماً وضعوها بعقولهم وآرائهم ... ومنها: إثبات الفروع بأخبار الآحاد دون الأصول، وغير ذلك. وكل تقسيم لا يشهد له الكتاب والسنة وأصول الشرع بالاعتبار، فهو تقسيم باطل يجب إلغاؤه) (¬2). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 346 - 347). وانظر: (13/ 126، 19/ 207 - 212)، و ((منهاج السنة)) (5/ 48 - 95). (¬2) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص: 613).

غير أن النظر المدقق في هذه المسألة يجد أن التقسيم لا يرد جملة، بل يصح إذا تحقق فيه أمران: الأول: إعادة النظر في ضوابط التمييز بين الأصول والفروع، وذلك بوضع ضوابط صحيحة المعنى من الناحية الشرعية. الثاني: التحقيق العلمي للأحكام المتعلقة بكل من الأصول والفروع. ومما يدل على أن هذا التقسيم قد يقبل إذا توفرت شروط معينة موقف شيخ الإسلام ذاته من هذه المسألة، حيث إنه – رحمه الله – استعمل عبارة أصول الدين وفروعه، لكن لا على اصطلاح أهل الكلام، ومن ذلك – مثلا – قوله: (وإذا عرفت أن مسمى أصول الدين في عرف الناطقين بهذا الاسم فيه إجمال وإبهام؛ لما فيه من الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات تبين أن الذي هو عند الله ورسوله وعباده المؤمنين أصول الدين، فهو موروث عن الرسول) (¬1). وقوله: (ما زال كثير من أئمة الطوائف الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وإن كانوا في فروع الشريعة متبعين بعض أئمة المسلمين – رضي الله عنهم أجمعين -، فإنهم يقولون: نحن في الأصول أو في السنة على مذهب أحمد بن حنبل) (¬2). وقوله: (والغرض هنا أن طريقة القرآن جاءت في أصول الدين وفروعه في الدلائل والمسائل بأكمل المناهج) (¬3). مما يدل على أن هذا التقسيم إذا كان منضبطاً بضوابط شرعية صحيحة، وبني عليه أحكام صحيحة كذلك، فإنه لا مانع منه، أو يكون بهذا الاعتبار مسألة اصطلاحية لا يترتب عليها أحكام شرعية، وعليه فلا ينسب هذا التقسيم إلى الشرع، بحيث تترتب عليه أحكام شرعية. وهذا الذي قد يحمل عليه موقف شيخ الإسلام من هذه المسألة، بحيث يحمل عدم ارتضائه لهذا التقسيم واستعماله للتعبير الدال عليه، يحمل ذلك على إنكاره ترتيب أحكام التكفير والتفسيق وغيرها على أساس ذلك التقسيم (¬4). أما عن ضوابط التفريق بين الأصول والفروع، فللعلماء عدة طرق في التفريق بينها (¬5)، ومنها: 1 - أن ما كان عقلياً، فهو من الأصول، وما كان دليله نقلياًن فهو من الفروع. 2 - أن ما كان دليله قطعياً، فهو من الأصول، وما كان ظنياً، فهو من الفروع. 3 - أن الأصول هي العلميات، والفروع هي العمليات. 4 - أن الأصول هي الطلبيات، والفروع هي الخبريات (¬6). وما من قول من هذه الأقوال إلا ودار حوله نقاش، ووجد له ما يعارضه حتى لم يكاد يسلم منها قول، وإن كان في بعضها وجهة نظر قوية ومعتبرة. والذي يترجح عندي في ضابط التمييز بين الأصول والفروع، هو أن كل ما كان جليلاً من المسائل، فهو من الأصول. وما كان دقيقاً منها، فهو من الفروع علميا كان أو عمليا، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين – العلمي والعملي – مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع. فالعلم بالواجبات كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كالعلم بأن الله على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحد هذه كفر) (¬7). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 359 ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 41). (¬2) ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 91). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 8). (¬4) انظر: ((معجم المناهي اللفظية)) للشيخ د. بكر أبو زيد (ص: 55 - 56). (¬5) انظر: ((الأصول والفروع حقيقتهما والفرق بينهما، والأحكام المتعلقة بهما)) لسعد الشتري (1/ 139 - 235). (¬6) انظر: ((الأصول والفروع حقيقتهما والفرق بينهما، والأحكام المتعلقة بهما)) لسعد الشثري (2/ 557). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 56 - 57).

الفصل الرابع: خصائص العقيدة عند أهل السنة والجماعة

تمهيد إن المتأمل المنصف، لو قارن بين المعتقدات السائدة بين الناس اليوم ; لوجد للعقيدة الإسلامية - المتمثلة في عقيدة أهل السنة والجماعة - خصائص وسمات تميزها وأهلها بوضوح عن المعتقدات الأخرى من ديانات أو فرق أو مذاهب أو غيرها. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 29

المبحث الأول: سلامة المصدر

المبحث الأول: سلامة المصدر وذلك باعتمادها على الكتاب والسنة وإجماع السلف، وأقوالهم فحسب. وهذه الخاصية لا توجد في مذاهب أهل الكلام والمبتدعة والصوفية، الذين يعتمدون على العقل والنظر، أو على الكشف والحدس والإلهام والوجد، وغير ذلك من المصادر البشرية الناقصة التي يُحكمونها أو يعتمدونها في أمور الغيب، (والعقيدة كلها غيب). أما أهل السنة فهم - بحمد الله - معتصمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف الصالح وأقوالهم، وأي معتقد يستمد من غير هذه المصادر إنما هو ضلال وبدعة. فالذين يزعمون أنهم يستمدون شيئاً من الدين عن طريق العقل والنظر، أو علم الكلام والفلسفة، أو الإلهام والكشف والوجد، أو الرؤى والأحلام، أو عن طريق أشخاص يزعمون لهم العصمة (غير الأنبياء) أو الإحاطة بعلم الغيب (من أئمة أو رؤساء أو أولياء أو أقطاب أو أغواث أو نحوهم)، أو يزعمون أنه يسعهم العمل بأنظمة البشر وقوانينهم، من زعم ذلك فقد افترى على الله أعظم الفرية، ونقول لمن زعم ذلك كما قال الله تعالى لمن قال عليه بغير علم: قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111]. وأنى له أن يأتي إلا بشبه الشيطان. وهذه الميزة والخصيصة - أعني الاعتماد على الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح - سمة من سمات أهل السنة، لا تكاد تتخلف في كل مكان وزمان والحمد لله. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 29

المبحث الثاني: قيامها على التسليم لله ولرسوله

المبحث الثاني: قيامها على التسليم لله ولرسوله أنها تقوم على التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لأنها غيب والغيب يقوم ويعتمد على التسليم والتصديق المطلق لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فالتسليم بالغيب من صفات المؤمنين التي مدحهم الله بها، قال تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 1 - 3]. والغيب لا ُتدركه العقول ولا تحيط به، ومن هنا، فأهل السنة يقفون في أمر العقيدة على ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بخلاف أهل البدع والكلام، فهم يخوضون في ذلك رجماً بالغيب، وأنى لهم أن يحيطوا بعلم الغيب، فلا هم أراحوا عقولهم بالتسليم، ولا عقائدهم وذممهم بالاتباع، ولا تركوا عامة أتباعهم على الفطرة التي فطرهم الله عليها. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 30

المبحث الثالث: اتصال سندها بالرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الهدى قولا وعملا وعلما واعتقادا

المبحث الثالث: اتصال سندها بالرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الهدى قولاً وعملاً وعلماً واعتقاداً فلا يوجد - بحمد الله - أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة ليس له أصل وسند وقدوة من الصحابة والتابعين، وأئمة الدين إلى اليوم، بخلاف عقائد المبتدعة التي خالفوا فيها السلف، فهي محدثة، ولا سند لها من كتاب أو سنة، أو عن الصحابة والتابعين، وما لم يكن كذلك فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 30

المبحث الرابع: الوضوح والبيان

المبحث الرابع: الوضوح والبيان تمتاز عقيدة أهل السنة والجماعة بالوضوح والبيان، وخلوها من التعارض والتناقض والغموض، والفلسفة والتعقيد في ألفاظها ومعانيها، لأنها مستمدة من كلام الله المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى. بينما المعتقدات الأخرى هي من تخليط البشر أو تأويلهم وتحريفهم، وشتان بين المشربين، لاسيما وأن العقيدة توقيفية غيبية لا مجال للاجتهاد فيها كما هو معلوم. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 31

المبحث الخامس: سلامتها من الاضطراب والتناقض واللبس

المبحث الخامس: سلامتها من الاضطراب والتناقض واللبس فإن العقيدة الإسلامية الصافية لا اضطراب فيها ولا التباس، وذلك لاعتمادها على الوحي، وقوة صلة أتباعها بالله، وتحقيق العبودية له وحده، والتوكل عليه وحده، وقوة يقينهم بما معهم من الحق، وسلامتهم من الحيرة في الدين، ومن القلق والشك والشبهات، بخلاف أهل البدع فلا تخلو أهدافهم من علة من هذه العلل. أصدق مثال على ذلك: ما حصل لكثير من أئمة علم الكلام والفلسفة والتصوف، من اضطراب وتقلب وندم، بسبب ما حصل بينهم من مجانبة عقيدة السلف، ورجوع كثير منهم إلى التسليم، وتقرير ما يعتقده السلف، خاصة عند التقدم في السن، أو عند الموت. كما حصل للإمام أبي الحسن الأشعري، حيث رجع إلى عقيدة أهل السنة والجماعة في (الإبانة) بعد الاعتزال ثم التلفيق. والباقلاني (ت 403هـ) في (التمهيد). ومثله أبو محمد الجويني (ت 438هـ)، والد إمام الحرمين في (رسالة في إثبات الاستواء والفوقية). ومثله إمام الحرمين (ت 478هـ) في (الرسالة النظامية). والشهرستاني، (ت 548هـ) في (نهاية الإقدام). والرازي (فخر الدين) (ت 606هـ) في (أقسام الملذات) وغيرهم كثيرون، ومن ذلك أيضاً سلامة أتباعها - في العموم - من التلبس بالبدع والشركيات والآثام والكبائر، فأهل السنة في عمومهم، هم أسلم الناس من الوقوع في البدع، ولا تكون فيهم الشركيات. أما الذنوب والمعاصي والكبائر فقد يقع فيها طوائف منهم لكنها فيهم أقل من غيرهم، وغيرهم لا يسلم من علة من هذه العلل البدعية والشركية، كما أن المعاصي والكبائر هي في أهل الافتراق أكثر من غيرهم في الجملة. فالمتكلمة من المعتزلة، وكثير من الأشاعرة ونحوهم قالوا في الله بغير علم، وخاضوا في الغيب بغير علم، والمتصوفة والمقابريون وسائر أهل البدع عبدوا الله بغير ما شرع، والرافضة، والباطنية ونحوهم كذبوا على الله تعالى وافتروا على رسوله صلى الله عليه وسلم حتى صار الكذب ديناً لهم، والخوارج تشددوا في الدين فشدد الله عليهم. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 33

المبحث السادس: أنها سبب الظهور والنصر والفلاح في الدارين

المبحث السادس: أنها سبب الظهور والنصر والفلاح في الدارين من أبرز خصائص عقيدة أهل السنة: أنها من أسباب النجاح والنصر والتمكن لمن قام بها ودعا إليها بصدق وعزم وصبر. فالطائفة التي تتمسك بهذه العقيدة، عقيدة أهل السنة والجماعة، هي الطائفة الظاهرة والمنصورة التي لا يضرها من خذلها ولا من عاداها إلى يوم القيامة. كما أخبرنا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (¬1) مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 32 ¬

(¬1) رواه مسلم (1920). من حديث ثوبان رضي الله عنه.

المبحث السابع: هي عقيدة الجماعة والاجتماع

المبحث السابع: هي عقيدة الجماعة والاجتماع ذلك أنها الطريقة المثلى لجمع شمل المسلمين ووحدة صفهم، وإصلاح ما فسد من شئون دينهم ودنياهم، لأنها تردهم إلى الكتاب والسنة وسبيل المؤمنين، وهذه الخاصية لا يمكن أن تتحقق على يد فرقة أو دعوة أو أنظمة لا تقوم على هذه العقيدة أبداً، والتاريخ شاهد على ذلك، فالدول التي قامت على السنة هي التي جمعت شمل المسلمين وقام بها الجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعز بها الإسلام قديماً وحديثاً، منذ عهد الخلفاء الراشدين، والدولة العباسية في أول عهدها، والدولة العثمانية في أول عهدها، وعهد صلاح الدين الأيوبي، والدولة الإسلامية في الأندلس، وعهد الدولة السعودية، حيث نصرت السنة، ودعت إلى التوحيد، وحاربت البدع والشركيات، وطهّرت البلاد المقدسة منها، ولا تزال كذلك - بحمد الله -، وينبغي أن تبقى كذلك على عهدها. وغالب هذه الدول حينما حدث فيها الافتراق وسادت فيها البدع فشلت وانهارت، والدول التي قامت على غير السنة، أشاعت الفوضى والفرقة والبدع والمحدثات، ومزقت الشمل، وعطلت الجهاد، وأشاعت المنكرات، وصارت على يدها الهزائم، وانتشر في عهدها الجهل بالدين، واندثرت السنة، مثل دول الرافضة والباطنية، والقرامطة، والصوفيّة، وكدولة بني بويه، والفاطميين (العبيديين)، التي مزقت المسلمين، وأشاعت بينهم البدع والشركيات. ولما صارت للمعتزلة وزارة ومراكز في عهد بعض الخلفاء العباسيين ظهرت البدع الكلامية، وحوصر أئمة أهل السنة، وافتتن الناس - بل العلماء - في دينهم. مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 33

المبحث الثامن: البقاء والثبات والاستقرار

المبحث الثامن: البقاء والثبات والاستقرار من أهم خصائص عقيدة أهل السنة: البقاء والثبات والاستقرار والاتفاق: فعقيدتهم في أصول الدين ثابتة طيلة هذه القرون، وإلى أن تقوم الساعة، بمعنى أنها متفقة ومستقرة ومحفوظة، رواية ودراية، في ألفاظها ومعانيها، تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، لم يتطرق إليها التبديل ولا التحريف، ولا التلفيق ولا الالتباس، ولا الزيادة ولا النقص. ومن أسباب ذلك: أنها مستمدة من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وقد تلقاها الصحابة ثم التابعون، وتابعوهم، وأئمة الهدى المستمسكون بهديه صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، رواية ودراية، تلقيناً وكتابة. من ذلك مثلاً قول أهل السنة في الصفات إجمالاً وتفصيلاً، فهو لا يزال واحداً، وقولهم في كلام الله، والقرآن، والاستواء، والنزول والرؤية، وقولهم في القدر، والإيمان، والشفاعة، والتوسل، وغيرها كله لا يزال كما نقل عن السلف والقرون الفاضلة. وهذا مما تكفل به الله من حفظ دينه. بخلاف الفرق الأخرى، وأقربها إلى أهل السنة الأشاعرة والماتريدية، ومع ذلك فهم مضطربون في كل ما خالفوا به السلف مما أولوه أو ابتدعوه، ويكثر في عقائدهم التلفيق والالتباس والاضطراب، والتوقف فيما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وابتداع الألفاظ والمعاني التي لم ترد عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 33

المبحث التاسع: التوقيفية (الربانية)

المبحث التاسع: التوقيفية (الربانية) وتعني أن أهل السنة لا يقتبسون عقيدتهم إلا من مشكاة النبوة، قرآنا وسنة، لا عقل ولا ذوق ولا كشف، ولا يجعلون شيئا من ذلك معارضا للوحي؛ بل هذه إن صحت كانت معضدة لحجة السمع، فالوحي هو الأصل المعتمد في تقرير مسائل الاعتقاد. قال قوام السنة الأصبهاني: (وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبهم الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم إليه، وإن وجدوه مخالفا لهما تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل، وهذا معنى قول أبي سليمان الدارني، وهو واحد زمانه في المعرفة: (ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منها شاهدين من الكتاب والسنة، فإن أتت بهما، وإلا رددته في نحرها. أو كلام هذا معناه) (¬1). وقال شيخ الإسلام: (ولا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه) (¬2). (فالذين يزعمون أنهم يستمدون شيئا من الدين عن طريق العقل والنظر، أو علم الكلام والفلسفة، أو الإلهام والكشف والوجد، أو الرؤى والأحلام، أو عن طريق أشخاص يزعمون لهم العصمة غير الأنبياء، أو الإحاطة بعلم الغيب (من أئمة أو رؤساء أو أولياء أو أقطاب أو أغواث .. أو نحوهم)، أو يزعمون أنه يسعهم العمل بأنظمة البشر وقوانينهم؛ من زعم ذلك فقد افترى على الله أعظم الفرية) (¬3). علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري- 241 ¬

(¬1) ((الحجة في بيان المحجة للأصبهاني)) (2/ 226). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 347). (¬3) ((بحوث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر العقل)) (33).

المبحث العاشر: الغيبية

المبحث العاشر: الغيبية والغيبية كأحد خصائص العقيدة الإسلامية تعني قيام العقيدة على التسليم بوجود الغيب، كما تعني وجوب الإيمان بكل ما ورد في النصوص الشرعية من أمور الغيب، وعدم رد شيء منها أو تأويلها. قال قتادة في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]:) آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، وكل هذا غيب (، وقال أنس رضي الله عنه:) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: آمنوا بالله وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا كله غيب ((¬1). وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]: (اختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه، وضعفه ابن العربي، وقال آخرون: القضاء والقدر، وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب، وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة، وعذاب القبر، والحشر، والنشر، والصراط، والميزان، والجنة، والنار، قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض؛ بل يقع الغيب على جميعها، قلت: وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: صدقت (¬2) .. وذكر الحديث) (¬3). مظاهر ودلائل الغيبية: والغيبية واحدة من الركائز الكبرى والخصائص العظمى في العقيدة، حيث إن كثيرا من مسائل العقيدة وقضاياها يقع في نطاق الغيب، ولذلك شواهد كثيرة في الشرع، فمن ذلك: 1 - أن الباري سبحانه ابتدأ كتابه العزيز بذكر هذه الركيزة كخاصية من خواص المؤمنين اللازمة، وصفة من صفاتهم البارزة. قال تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة: 1 - 3]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:) ولما كانت سورة البقرة سنام القرآن ويقال إنها أول سورة نزلت بالمدينة، افتتحها الله بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين ((¬4). 2 - ما ورد في فضل المؤمنين بالغيب وعظم أجرهم، وبيان أن الإيمان بالغيب هو أفضل الإيمان وأعظم مقامات الدين. فعن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله: (إن أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ: الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 1 - 3] (¬5). وقال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على قوله تعالى: مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظم الأجر والكرامة) (¬6). وقال رحمه الله: (الإيمان بالغيب أجل المقامات على الإطلاق) (¬7). وكما أن الإيمان بالغيب يقوم على أساس متين من الشرع، فهو يقوم كذلك على أساس متين من الفطرة والعقل. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري- 255 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (1/ 101). (¬2) ((رواه مسلم من حديث عمر، وروى البخاري ومسلم نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (1/ 163). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 200). (¬5) رواه سعيد بن منصور في ((سننه)) (2/ 544). والحاكم في ((المستدرك)) (3033)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (39): إسناده صحيح. (¬6) ((زاد المعاد لابن القيم)) (3/ 220). (¬7) ((طريق الهجرتين لابن القيم)) (1/ 437).

المبحث الحادي عشر: العقلانية

المبحث الحادي عشر: العقلانية يقصد بالعقلانية موافقة عقيدة أهل السنة والجماعة للعقل الصريح، واهتمامها به، وإعلاء منزلته ومكانته، وتوفير طاقته وتصريفها فيما يفيد. قال شيخ الإسلام: (والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه معصومون لا يقولون على الله إلا الحق، ولا ينقلون عنه إلا الصدق، فمن ادعى في أخبارهم ما يناقض صريح المعقول كان كاذبا، بل لابد أن يكون ذلك المعقول ليس بصريح، أو ذلك المنقول ليس بصحيح، فما علم يقينا أنهم أخبروا به يمتنع أن يكون في العقل ما يناقضه، وما علم يقينا أن العقل حكم به يمتنع أن يكون في أخبارهم ما يناقضه، بل الأنبياء عليهم السلام قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته لا بما يعلم العقل بطلانه، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول) (¬1). علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري- 277 ¬

(¬1) ((الجواب الصحيح لابن تيمية)) (3/ 136).

المبحث الثاني عشر: الفطرية

المبحث الثاني عشر: الفطرية قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] قال ابن كثير رحمه الله: (فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره) (¬1). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء) (¬2). - وعن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت، لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)) (¬3). قال النووي رحمه الله: (قوله تعالى: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) أي: مسلمين، وقيل: طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية. وقيل: المراد حين أخذ عليهم العهد في الذر، وقال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172] (¬4). وقال ابن القيم رحمه الله في كلام له عن الفطرة: (بل الطفل يختار مص اللبن بنفسه، فإذا مكن من الثدي وجدت الرضاعة لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرضع؛ فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجد معارض .. ) (¬5). وبناء على ما تقدم فإن الإيمان فطري عند أهل السنة والجماعة خلافا لأهل الأهواء، فالمقلدون من العوام الذين ليس لهم أهلية النظر والاستدلال، مسلمون وإن عجزوا عن إقامة الأدلة وإيضاح البراهين. قال السفاريني في منظومته: فالجازمون من عوام البشر ... فمسلمون عند أهل الأثر قال ابن حامد: (لا يشترط أن يجزم عن دليل، يعني: بل يكفي الجزم ولو عن تقليد) (¬6). وقال النووي رحمه الله في شرحه لحديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به .. )) (¬7): وفيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف، أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك، وهو مؤمن من الموحدين، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله تعالى بها، خلافا لمن أوجب ذلك وجعله شرطا في كونه من أهل القبلة، وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به، وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة وبعض أصحابنا المتكلمين، وهو خطأ ظاهر فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به صلى الله عليه وسلم ولم يشترط المعرفة بالدليل، فقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيحين يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي) (¬8). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم لابن كثير)) (3/ 433). (¬2) رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658). (¬3) ((رواه مسلم)) (2865). (¬4) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (17/ 197). (¬5) ((شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم)) (ص 300 - 302). (¬6) ((لوامع الأنوار للسفاريني)) (1/ 269). (¬7) ((رواه مسلم)) (21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (1/ 210).

وقال ابن حجر: (وفي كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد، إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواتر المعنوي الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في دعائه المشركين على أن يؤمنوا بالله وحده ويصدقوه فيما جاء به عنه، فمن فعل ذلك قبل منه سواء كان إذعانه عن تقدم نظر أم لا، ومن توقف منهم نبهه حينئذ على النظر، أو أقام عليه الحجة إلى أن يذعن أو يستمر على عناده) (¬1). مظاهر الفطرية: ومن مظاهر فطرية العقيدة عند أهل السنة خاصة أنها جاءت سهلة واضحة، لا عسر فيها ولا تعقيد، ووردت النصوص وأقوال السلف وأهل السنة بالنهي عن الغلو والتشدد في أمر الدين أصولا وفروعا، وعن التكلف في طلب علم ما حجب علمه. قال تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] وقال سبحانه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) (¬2). وترجم البخاري رحمه الله: (باب الدين يسر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)) (¬3). قال ابن حجر رحمه الله: (قوله: باب الدين يسر، أي أن دين الإسلام ذو يسر، أو سمي الدين يسرا مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله؛ لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم. وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم. قوله: ((أحب الدين)) أي خصال الدين؛ لأن خصال الدين كلها محبوبة لكن ما كان منها سمحا أي سهلا فهو أحب إلى الله ... أو الدين جنس أي أحب الأديان إلى الله الحنيفية والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخ، والحنيفية ملة إبراهيم .. والسمحة السهلة، أي أنها مبنية على السهولة) (¬4). علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري- بتصرف- 297 ¬

(¬1) ((فتح الباري لابن حجر)) (13/ 353). (¬2) ((رواه البخاري)) (39). (¬3) ((صحيح البخاري كتاب الإيمان)) (1/ 23). (¬4) ((فتح الباري لابن حجر)) (1/ 93).

المبحث الثالث عشر: الشمولية

المبحث الثالث عشر: الشمولية ويتضح شمول العقيدة في الأمور الثلاثة الآتية: الأول: شمول العبادة، فالعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. فالعبادة تشمل العبادات القلبية، كالمحبة، والخوف، والرجاء، والتوكل، وتشمل العبادات القولية كالذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقراءة القرآن، وتشمل العبادات الفعلية كالصلاة والصوم، والحج، وتشمل العبادات المالية، كالزكاة، وصدقة التطوع. وتشمل كذلك الشريعة كلها، فإن العبد إذا اجتنب المحرمات، وفعل الواجبات والمندوبات والمباحات مبتغيا بذلك وجه الله تعالى كان فعله ذلك عبادة يثاب عليها، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بشيء من التفصيل عند الكلام على توحيد الألوهية. الثاني: أنها تشمل علاقة العبد بربه، وعلاقة الإنسان بغيره من البشر، وذلك في مباحث التوحيد بأنواعه الثلاثة، وفي مبحث الولاء والبراء وغيرها. الثالث: أنها تشمل حال الإنسان في الحياة الدنيا، وفي الحياة البرزخية (القبر)، وفي الحياة الأخروية. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبدالله الجبرين- ص17

المبحث الرابع عشر: الوسطية

المبحث الرابع عشر: الوسطية عقيدة أهل السنة والجماعة – والتي هي عقيدة الإسلام الصحيحة – وسط بين عقائد فرق الضلال المنتسبة إلى دين الإسلام، فهي في كل باب من أبواب العقيدة وسط بين فريقين آراؤهما متضادة، أحدهما غلا في هذا الباب والآخر قصر فيه، أحدهما أفرط والثاني فرط، فهي حق بين باطلين: فأهل السنة وسط أي عدول خيار – بين طرفين منحرفين، في جميع أمورهم. وسأذكر خمسة أصول عقدية كان أهل السنة والجماعة وسطا فيها بين فرق الأمة: الأصل الأول: باب العبادات: توسط أهل السنة في هذا الباب بين الرافضة والصوفية وبين الدروز والنصيريين. فالرافضة والصوفية يعبدون الله بما لم يشرعه من الأذكار والتوسلات، وإقامة الأعياد والاحتفالات البدعية، والبناء على القبور والصلاة عندها والطواف بها والذبح عندها، وكثير منهم يعبد أصحاب القبور بالذبح لهم أو دعائهم أن يشفعوا له عند الله أو يجلبوا له مرغوبا أو يدفعوا عنه مرهوبا. والدروز والنصيريون – الذين يسمون العلويون – تركوا عبادة الله بالكلية فلا يصلون ولا يصومون ولا يزكون ولا يحجون .. الخ. أما أهل السنة والجماعة فيعبدون الله بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يتركوا ما أوجب الله عليهم من العبادات، ولم يبتدعوا عبادات من تلقاء أنفسهم، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). متفق عليه (¬1). وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬2)، وقوله عليه الصلاة والسلام في خطبته: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)). رواه مسلم (¬3). الأصل الثاني: باب أسماء الله وصفاته: توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين المعطلة، وبين الممثلة. فالمعطلة منهم من ينكر الأسماء والصفات، كالجهمية. ومنهم من ينكر الصفات كالمعتزلة. ومنهم من ينكر أكثر الصفات، ويؤولها كالأشاعرة، اعتمادا منهم على عقولهم القاصرة، وتقديما لها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعرضون النصوص الشرعية على عقولهم فما قبلته قبلوه، وما لم تقبله ردوه أو أولوه، واعتبروا ذلك تنزيها، فجعلوا النصوص محكوما عليها، لا حاكمة على غيرها، فيجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويجعلون القرآن والسنة تابعين له، والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن النصوص الشرعية. ولذلك حكموا بوجوب أشياء، وامتناع أشياء أخرى في حق الله تعالى، لحجج عقلية بزعمهم، اعتقدوها حقا، وهي باطلة، وعارضوا بها نصوص القرآن وسنة المعصوم صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائلهم: وكل نص أوهم التشبيها (¬4) أوله أو فوض ورم تنزيها (¬5) والممثلة يضربون لله الأمثال، ويدعون أن صفات الله تعالى تماثل صفات المخلوقين، كقول بعضهم: (يد الله كيدي) و (سمع الله كسمعي) تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. ¬

(¬1) رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) (17). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه مسلم (1718). ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7350) كتاب: الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ. من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (5/ 27). (¬5) ((جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني الأشعري مع شرحها تحفة المريد للبيجوري)) (91)

فهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الوسط في هذا الباب، والذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بجميع أسماء الله وصفاته الثابتة في النصوص الشرعية، فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به أعرف الخلق به رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تأويل ومن غير تمثيل ولا تكييف، ويؤمنون بأنها صفات حقيقية، تليق بجلال الله تعالى، ولا تماثل صفات المخلوقين، عملا بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. فأهل السنة يعتمدون على النصوص الشرعية، ويقدمونها على العقول البشرية، ويجعلون العقل البشري وسيلة لفهم النصوص الشرعية، وشرطا في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك، فهم قد توسطوا في أمر العقل أيضا، فلم يقدموه على النصوص كما فعل أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، ولم يهملوه ويذموه كما يفعل كثير من المتصوفة، الذين يعيبون العقل، ويقرون من الأمور ما يكذب به صريح العقل، ويصدقون بأمور يعلم العقل الصريح بطلانها ممن لم يعلم صدقه (¬1). الأصل الثالث: باب القضاء والقدر: توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين القدرية والخبرية. فالقدرية نفوا القدر، فقالوا: إن أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، فالله تعالى على زعمهم لم يخلق أفعال العباد ولا شاءها منهم، بل العباد مستقلون بأفعالهم، فالعبد على زعمهم هو الخالق لفعله، وهو المريد له إرادة مستقلة، فأثبتوا خالقا مع الله سبحانه، وهذا إشراك في الربوبية، ففيهم شبه من المجوس الذين قالوا بأن للكون خالقين، فهم (مجوس هذه الأمة). والجبرية غلوا في إثبات القدر، فقالوا: إن العبد مجبور على فعله، فهو كالريشة في الهواء لا فعل له ولا قدرة ولا مشيئة. فهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الحق والوسط في هذا الباب، فأثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة، وأن أفعالهم تنسب إليهم على جهة الحقيقة، وأن فعل العبد واقع بتقدير الله ومشيئته وخلقه، فالله تعالى خالق العباد وخالق أفعالهم، كما قال سبحانه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96]. كما أن للعباد مشيئة تحت مشيئة الله، كما قال تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29]. ومع ذلك فقد أمر الله العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين، ولا يرضى عن الفاسقين، وقد أقام الله الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فمن أطاع عن بينة واختيار، لا يستحق العقاب وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت: 46]. فأهل السنة يؤمنون بمراتب القضاء والقدر الأربع الثابتة في الكتاب والسنة، وهي: 1 - علم الله المحيط بكل شيء، وأنه تعالى عالم بما كان وما سيكون، وبما سيعمله الخلق قبل أن يخلقهم. 2 - كتابة الله تعالى لكل ما هو كائن في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. 3 - مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن كل ما يقع في هذا الوجود قد أراده الله قبل وقوعه. ¬

(¬1) ((العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي)) (786 - 803)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 168، 338، 373 و 5/ 5045) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 12، 20، 105، 133) و ((منهاج السنة)) (2/ 103 - 650) و ((العقيدة الواسطية مع شرحها لابن عثيمين)) (2/ 63) و ((التنبيهات السنية)) (191 - 206).

4 - أن الله خالق كل شيء، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه (¬1). وقد نظم بعضهم هذه المراتب بقوله: علم كتابة مولانا مشيئته ... كذاك خلق وإيجاد وتكوين الأصل الرابع: باب الوعد والوعيد: توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين الوعيدية وبين المرجئة. فالوعيدية يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد، ومنهم الخوارج الذين يرون أن فاعل الكبيرة من المسلمين كالزاني وشارب الخمر كافر مخلد في النار. والمرجئة غلبوا نصوص الرجاء على نصوص الوعيد، فقالوا: إن الإيمان هو التصديق القلبي، وأن الأعمال ليست من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية، فالعاصي كالزاني وشارب الخمر لا يستحق دخول النار، وإيمانه كإيمان أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما -. أما أهل السنة والجماعة فيرون أن المسلم إذا ارتكب معصية من الكبائر لا يخرج من الإسلام، بل هو مسلم ناقص الإيمان، ما دام لم يرتكب شيئا من المكفرات، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وهو في الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه حتى يطهره من ذنوبه ثم يدخله الجنة، ولا يخلد في النار إلا من كفر بالله تعالى أو أشرك به. فالإيمان عند أهل السنة: قول باللسان واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية (¬2). الأصل الخامس: باب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين الشيعة وبين الخوارج. فالشيعة – ومنهم الرافضة – غلوا في حق آل البيت كعلي بن أبي طالب وأولاده – رضي الله عنهم – فادعوا أن عليا – رضي الله عنه – معصوم، وأنه يعلم الغيب، وأنه أفضل من أبي بكر وعمر، ومن غلاتهم من يدعي إلوهيته. والخوارج جفوا في حق علي رضي الله عنه فكفروه، وكفروا معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم. كما أن الروافض جفوا في حق أكثر الصحابة، فسبوهم، وقالوا: إنهم كفار، وأنهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت ونفرا قليلا، قالوا: إنهم من أولياء آل البيت، كما أنهم يشتمون أمهات المؤمنين، وأفاضل الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر علانية، لكنهم قد يترضون عنهم ويظهرون موالاتهم لهم تقربا إلى أهل السنة ومخادعة لهم، لأن من عقائدهم عقيدة التقية، فيظهرون لأهل السنة خلاف ما يبطنون (¬3). أما أهل السنة والجماعة فيحبون جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويترضون عنهم، ويرون أنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأن الله اختارهم لصحبة نبيه، ويمسكون عما حصل بينهم من التنازع، ويرون أنهم مجتهدون مأجورون، للمصيب منهم أجران، وللمخطئ أجر واحد على اجتهاده، ويرون أن أفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين-، ويحبون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون أن لهم حقين، حق الإسلام، وحق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوالونهم، ويترضون عنهم (¬4). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله الجبرين- ص 20 ¬

(¬1) ((ينظر منهاج السنة)) (3/ 5 - 276)، ((شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) (1/ 91 - 179)، ((شرح الطحاوية)) (317 - 364)، ((معارج القبول)) (3/ 917 - 940). (¬2) ((الكواكب الدرية)) (192 - 194). (¬3) قاله ابن تيمية كما في ((مجموع الفتاوى)) (28/ 477 - 479). (¬4) ((منهاج السنة)) الأجزاء (4 - 8).

الفصل الخامس: مصادر العقيدة عند أهل السنة والجماعة

تمهيد العقيدة لها مصدران أساسيان، هما: كتاب الله تعالى (القرآن الكريم). وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وإجماع السلف الصالح: مصدرٌ مبناه على الكتاب والسنة. أما الفطرة والعقل السليم فهما مؤيدان يوافقان الكتاب والسنة، ويدركان أصول الاعتقاد على الإجمال لا على التفصيل، فالعقل والفطرة يدركان وجود الله وعظمته، وضرورة طاعته وعبادته، واتصافه بصفات العظمة والجلال على وجه العموم. كما أن العقل والفطرة السليمين يدركان ضرورة النبوات وإرسال الرسل، وضرورة البعث والجزاء على الأعمال، كذلك، على الإجمال لا على التفصيل. أما هذه الأمور وسائر أمور الغيب، فلا سبيل إلى إدراك شيء منها على التفصيل إلا عن طريق الكتاب والسنة (الوحي)، وإلا لما كانت غيباً وتعارض النص الصريح من الكتاب والسنة مع العقل الصحيح (السليم) غير متصور أصلاً، بل هو مستحيل، فإذا جاء ما يوهم ذلك فإن الوحي مقدم ومحكم. لأنه صادر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - والعقل لا عصمة له، بل هو نظر البشر الناقص. وهو معرض للوهم والخطأ والنسيان والهوى والجهل والعجز، فهو قطعاً ناقص مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص28

المبحث الأول: النقل الصحيح

المبحث الأول: النقل الصحيح إن صحائح المنقول تشمل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، والعقيدة في الله تعالى من أهم ما بين الله في كتابه، قال سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]، وأهم ذلك العقيدة في الله وفي أنبيائه ورسالاته والغيب وما يحويه. وعن السنة قال تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4]، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) (¬1). وبيان مسائل الاعتقاد من أول وأولى ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نصوص السنة، وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الأمة وأفصحها، وأحرصها على أمانة البلاغ والرسالة، لهذا كانت نصوص السنة مع الكتاب هي معول السلف ومعتمدهم في الاستدلال على مسائل الاعتقاد. قال شيخ الإسلام عن أهل السنة: هم أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم يؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، ويتبعون آثاره صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً (¬2). يقول الإمام البربهاري: واعلم أنه من قال في دين الله برأيه وقياسه وتأوله من غير حجة من السنة والجماعة، فقد قال على الله ما لا يعلم، ومن قال على الله ما لا يعلم فهو من المتكلفين. والحق ما جاء من عند الله عز وجل، والسنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجماعة ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان. ومن اقتصر على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلج على أهل البدعة كلهم، واستراح بدنه، وسلم له دينه إن شاء الله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ستفترق أمتي))، وبيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية منها فقال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (¬3)، فهذا هو الشفاء والبيان، والأمر الواضح، والمنار المستقيم (¬4). وأهل السنة لا يستدلون بالقرآن دون السنة؛ بل بالسنة والقرآن، ولا يكمل دين العبد إلا بالإيمان بما فيهما؛ لأنهما مما أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) (¬5). ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (43) واللفظ له، وأحمد (4/ 126) (17182) وأبو عوانة في (مسنده) (1/ 36). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال أبو عوانة: وهذا حديث جيد من صحيح حديث الشاميين, وقال البزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 348): حديث ثابت صحيح, وقال ابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 348): حديث ثابت. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 157). (¬3) رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه, وقال البغوي ((شرح السنة)) (1/ 213): ثابت, قال الحافظ العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 284): أسانيدها جياد. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2641). (¬4) ((شرح السنة)) للبربهاري (ص45). (¬5) رواه أبو داود (4604)، وأحمد (4/ 130) (17213) واللفظ له، من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). وقال الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (591): حسن لغيره.

فهما في الاحتجاج والاستدلال سواء، لا يعزل أحدهما من أجل التحاكم إلى الآخر، قال تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] وقال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65]. يقول البربهاري: وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن، فلا شك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم عنه ودعه (¬1). ولا يعارض صحيح النقل - من أدلة علم العقيدة - بوهم الرأي وخطل القياس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فكان من الأصول المتفق عليها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده .. فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به، ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط: قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديم العقل، والنقل إما أن يفوض وإما أن يؤول! .. ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية تفسرها أو تنسخها، أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه (¬2). وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يحتج بها مطلقا - بشرط الصحة -، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام من حيث حجيتها ومجالها، ولا بين المتواتر والآحاد من حيث ثبوتها وقبولها علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص190 ¬

(¬1) ((شرح السنة)) للبربهاري (ص54). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 27 - 29).

المبحث الثاني: الإجماع

المبحث الثاني: الإجماع والإجماع مصدر من مصادر الأدلة الاعتقادية؛ لأنه يستند في حقيقته إلى الوحي المعصوم من كتاب وسنة، وأكثر مسائل الاعتقاد محل إجماع بين الصحابة والسلف الصالح، ولا تجتمع الأمة في أمور العقيدة ولا غيرها على ضلالة وباطل. (فالإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمدون عليه في العلم والدين، والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشرت الأمة) (¬1). وعلى هذا فإجماع السلف الصالح في أمور الاعتقاد حجة شرعية ملزمة لمن جاء بعدهم، وهو إجماع معصوم، ولا تجوز مخالفته، (فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة أصول معصومة) (¬2) علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص193 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 157). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (20/ 164).

المبحث الثالث: العقل الصريح

المبحث الثالث: العقل الصريح العقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية، إلا أنه ليس مصدراً مستقلاً؛ بل يحتاج إلى تنبيه الشرع، وإرشاده إلى الأدلة؛ لأن الاعتماد على محض العقل، سبيل للتفرق والتنازع (¬1)، فالعقل لن يهتدي إلا بالوحي، والوحي لا يلغي العقل. وقد رفع الوحي من قيمة العقل وحث على التعقل، وأثنى على العقلاء، قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ [الزمر: 17 - 18]. والنصوص الشرعية قد جاءت متضمنة الأدلة العقلية صافية من كل كدر، فما على العقل إلا فهمها وإدراكها، فمن ذلك: قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء: 22]. وقال سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]. وقال جل وعلا: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء: 82]. وخوض العقل في أمور الإلهيات باستقلال عن الوحي مظنة الهلاك وسبيل الضلال. يقول ابن رشد الفيلسوف -وهو ممن خاض بالعقل في مسائل الاعتقاد وطالت تجربته-: لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء (¬2). والمقارنة بين طريقة الوحي وطرق الفلاسفة والمتكلمين في بحث أمور العقيدة هي مقارنة بين الصواب والخطأ، والصحيح والفاسد، والنافع والضار. يقول الرازي - بعد طول بحث -: ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن. وقال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن .. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي (¬3). فميزان صحة المعقولات هي الموافقة للكتاب والسنة. قال في (الحجة): وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه، وإن وجدوه مخالفاً لهم تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم (¬4). والعقل قد يهتدي بنفسه إلى مسائل الاعتقاد الكبار على سبيل الإجمال، كإثبات وجود الله مع ثبوت ذلك في الفطرة أولاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مما يعلم بالعقل (¬5). أما مسائل العقيدة التفصيلية مما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ورسوله وأنبيائه، وما يجب لهم وما يستحيل، فما كانت العقول لتدركها لولا مجيء الوحي. قال أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني: ولأن العقل لا مجال له في إدراك الدين بكماله، وبالعلم يدرك بكماله (¬6) ويقصد بالعلم الوحي. قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر، عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين (¬7). ¬

(¬1) ((إيثار الحق على الخلق)) لابن الوزير (ص 13). (¬2) ((تهافت التهافت)) لابن رشد (2/ 547). (¬3) ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/ 244). (¬4) ((الحجة في بيان المحجة)) لأبي القاسم إسماعيل الأصبهاني (2/ 224). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (19/ 229 - 230). (¬6) ((الحجة في بيان المحجة)) لأبي القاسم إسماعيل الأصبهاني (2/ 504). (¬7) ((الصارم المسلول)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 459).

وقال اللالكائي رحمه الله: سياق ما يدل من كتاب الله عز وجل، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل، قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ خاص والمراد به العام: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ [محمد: 19]، وقال تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد ... وكذلك وجوب معرفة الرسل بالسمع، قال الله تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] .. فدلّ على أن معرفة الله والرسل بالسمع كما أخبر الله عز وجل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة (¬1). ثم إن كثيراً من مسائل الاعتقاد بعد معرفتها والعلم بها لا تدرك العقول حقيقتها وكيفيتها، وذلك كصفات الله تعالى وأفعاله، وحقائق ما ورد من أمور اليوم الآخر من الغيبيات التي لا يحيلها أو يردها العقل، ولا يوجبها أو يطلبها. (ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في القرآن الكريم لتقرير مسائل الغيب، تنبيهاً للعقول على إمكان وجودها، فاستدل على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، وعلى خلق الإنسان بخلق السماوات والأرض وهي أعظم وأبلغ في القدرة، وعلى البعث بعد الموت بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الماء عليها) (¬2). قال السفاريني رحمه الله: لو كانت العقول مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه، لكانت الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب، واللازم باطل بالنص: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، فكذا الملزوم (¬3). وأخيراً: فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح؛ فالأول خلق الله تعالى والثاني أمره، ولا يتخالفان؛ لأن مصدرهما واحد وهو الحق سبحانه: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وليس في الكتاب والسنة وإجماع الأمة شيء يخالف العقل الصريح؛ لأن ما خالف العقل الصريح باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلاً، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة) (¬4). ولذا قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: (من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) (¬5)، (وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد؛ بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسولاً (¬6). علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص193 ¬

(¬1) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (2/ 193– 196). (¬2) ((منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة)) لعثمان حسن (1/ 178). (¬3) ((لوامع الأنوار)) للسفاريني (1/ 105). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 490). (¬5) ((السنة)) للخلال (3/ 579)، و ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 504). (¬6) ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/ 231).

المبحث الرابع: الفطرة السوية

المبحث الرابع: الفطرة السوية أما الفطرة فهي خلق الخليقة على قبول الإسلام والتهيؤ للتوحيد، أو هي الإسلام والدين القيم. قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30]. قال ابن كثير رحمه الله: فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره (¬1). قال شيخ الإسلام: فالحنفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله، والخضوع له، والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية (¬2). وقوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ معناه: أن الله ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة. وفي الحديث الصحيح: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء؟)) (¬3). فمعنى خلق المولود على الفطرة هو: أن الطفل خلق سليماً من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه (¬4)، والفطرة قبول الإسلام، فهي كالأرض الخصبة القابلة، والوحي كالغيث النازل من السماء، ما إن ينزل عليها حتى تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج. والفطرة السوية تقبل الإسلام وتهتدي إلى وجود الخالق بما أودع الله الخلائق من قوانين كلية، تظهر آثارها في الطفل الناشئ الذي لم يتعلم أو يتكلم، فهو يدرك أن الحادث لابد له من محدث، وأن الجزء دون الكل، وأنه يستحيل الجمع بين المتناقضين، وهذا من أوائل العقل وبواكيره، وقلوب بني آدم مفطورة على قبول الإسلام وإدراك الحق، ولولا هذا الاستعداد ما أفاد النظر ولا البرهان، شأنها في ذلك شأن الأبدان، فطرها الله تعالى قابلة للانتفاع والاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا هذا الاستعداد لما حصل انتفاع. والفطرة السوية تهدي العبد إلى أصول التوحيد والإيمان، وجمهرة أهل العلم من أهل السنة وغيرهم على فطرية الإيمان، وليس يحتاج العبد لتحصيله من أصله إلى استدلال أو برهان، فضلاً عن أن يشك ويخرج من ثوب اليقين والإذعان، (والقلوب مفطورة على الإقرار به سبحانه أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل: أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم: 10] (¬5). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة (¬6). ويقول: إن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وإنه أشد رسوخاً في النفوس من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة (¬7). والفطرة تدل على اتصاف الخالق بالصفات العلى والكمال المطلق، فهي تدرك أن من يخلق لا يكون كمن لا يخلق، قال تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17]. ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 433). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 451). (¬3) رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. واللفظ للبخاري. (¬4) ((مجموعة الرسائل الكبرى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 333 - 334). (¬5) ((درء تعارض العقل والنقل)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 38). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (16/ 328). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 15 - 16).

فالخالق لهذا الكون لا يستوي مع غيره، في صفاته وأفعاله وذاته، فهي تدرك علو الصفات، كما تدرك علو الذات، فإنه ما قال عارف مؤمن قط: يا الله، إلا وجد في نفسه ضرورة بطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، لا يجادل في ذلك مجادل. والفطرة وإن غشيتها غاشية الإلحاد؛ تهتدي إلى تفرده تعالى بالألوهية يظهر ذلك في أوقات الشدة والمحنة، فإن القلب يفزع إلى خالقه، ويلجأ إلى بارئه عند حلول الحوادث العظام والخطوب الجسام، قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 67]. "والإسلام بعقائده وأحكامه موافق للفطرة لا يعارضها؛ بل كلما كانت العقائد والأحكام بعيدة عن الإسلام، كانت معارضة للفطرة الصحيحة مضادة لها، ففي الفطرة محبة العدل وإيثاره، وبغض الظلم والنفار منه، واستقباح إرادة الشر لذاته، لكن تفاصيل ذلك إنما تعلم من جهة الرسل، فالطفل عند أول تميزه إذا ضرب من خلفه التفت لعلمه أن تلك الضربة لابد لها من ضارب، فإذا شعر به بكى، حتى يقتص له منه، فيسكن ويهدأ، فهذا إقرار في الفطرة بالخالق، وهو التوحيد، وبالعدل الذي هو شرعة الرب تعالى) (¬1). والعقل والفطرة وإن كانا من دلائل التوحيد، إلا أنه لا تقوم الحجة على بني آدم إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقطع العذر، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، فلا عذاب إلا بعد إرسال الرسل، وقطع العذر، وإقامة الحجة، وقالت المعتزلة في الآية: رَسُولاً أي: العقل، وهو تحريف للكلم عن مواضعه، بدلالة قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 7]. وهو سبحانه ما أهلك من قبلنا من الأمم إلا بعد إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، قال تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ [الشعراء: 208]، وقال سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59]. فإن قيل: إذا كان وجود الله وتعظيمه مركوزا في الفطر، والعقول تستدل على ذلك، فعلام توقف التكليف على مجيء الرسول، وإنزال الكتاب؟ فيقال: إن إثبات كون الفطرة هي الإسلام، لا يقتضي خلق علم ضروري في نفس الإنسان، يجعله عالما بالعقيدة وأصولها، ونواقضها، قال تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78]. كما أن الله تعالى تكرما منه لا يعاقب قبل بلوغ الحجة الرسالية ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131]؛ بل تمتنع المؤاخذة حتى يبعث إليهم الرسول، ومن حكمة ذلك أن معرفة الله وإثبات وجوده المركوز في الفطر والعقول إجمالي لا تفصيلي، فالعقل لا يهتدي لكل كمالات الله تعالى، ولا يهتدي إلى كل ما يرضيه من الأقوال والأفعال، فلابد له من وحي يهديه ويرشده ويبين له معاقد الحل والحرمة في أفعال المكلفين، كما أن العقل والفطرة لا يدلان على عقوبة الآخرة لمن قصر في ذلك، فجاء الرسول ببيان ثواب التوحيد، وعقوبة الشرك في الدنيا والآخرة. قال ابن القيم رحمه الله: وكان الناس في لبس عظيم ... فجاءوا بالبيان فأظهروه وكان الناس في جهل عظيم ... فجاءوا باليقين فأذهبوه وكان الناس في كفر عظيم ... فجاءوا بالرشاد فأبطلوه وأخيراً فإنه لا تعارض ولا تناقض - بحمد الله - بين فطر الخلائق على الإسلام وبين عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن الله تعالى (وإن خلقه مولوداً سليماً، فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره، وعلم ذلك) (¬2). علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص198 ¬

(¬1) ((إيثار الحق على الخلق)) لابن الوزير (ص 240). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 362).

الباب الثاني: منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد

الفصل الأول: الأصول المقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة 1 - مسائل التوحيد وتشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة (توحيد الربوبية – توحيد الإلوهية – توحيد الأسماء والصفات). 2 - مسائل الإيمان .. 3 - مسائل الكفر والشرك والنفاق والردة ونواقض الإيمان. 4 - أركان الإسلام والإيمان والإحسان. 5 - وأحكام أهل الذمة وأحكام الديار وأهل الملل. 6 - المسائل المتعلقة بالجن والملائكة والغيبيات. 7 - الإيمان بالقرآن وأنه كلام الله غير مخلوق. 8 - مسائل النبوات والمعجزات وحقوق الأنبياء. 9 - مسائل الكرامات وخوارق العادات. 10 - مسائل القضاء والقدر والإرادة والمشيئة الإلهية. 11 - مسائل الإيمان بالآخرة وما يتعلق به من فتنة القبر وعذابه وسؤال منكر ونكير والنفخ والبعث والحشر والحوض والميزان والحساب والصراط. 12 - حكم أهل الكبائر وبيان أن أهل السنة لا يكفرون أحداً بذنب ما لم يكن كفراً. 13 - مسائل الشفاعة. 14 - أحكام التوسل والتبرك المشروع والممنوع وأحكام الرقية الشرعية. 15 - الفتن والملاحم وأشراط الساعة وعلاماتها الكبرى والصغرى. 16 - مسائل الحكم بما أنزل الله وأصول الحكم في الإسلام. 17 - مسائل الإمامة والخلافة وكونها في قريش وبيان شروطها وأركانها والسمع والطاعة لولي أمر المسلمين وعدم الخروج عليه إلا إذا ظهر منه الكفر البواح. 18 - الرد على أهل البدع والأهواء وسائر الملل والنحل الضالة وهجر المبتدع. 19 - حقوق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من الحب والولاء والدفاع عنهم واعتقاد أن أفضلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضوان الله تعالى عليهم، ثم باقي العشرة المبشرة، ثم أصحاب بدر، ثم أصحاب أحد، ثم أصحاب بيعة الرضوان، ثم السابقون ممن أسلموا قبل الفتح، ثم مسلمة الفتح ومن بعدهم وأن جميعهم ماتوا على الإسلام وإن الله وعد الجميع الحسنى وزيادة، مع عدم الخوض فيما جرى بينهم كما قال القحطاني رحمه الله: دع ما جرى بين الصحابة في الوغى ... بسيوفهم يوم التقى الجمعان فقتيلهم منهم وقاتلهم لهم ... وكلاهما في الحشر مرحومان والله يوم الحشر ينزع كل ما ... تحوي صدورهم من الأضغان (¬1) 20 - مسائل الولاء والبراء وحكم التشبه بالكفار. 21 - حفظ النبي صلى الله عليه وسلم في أزواجه وآل بيته وأن حبهم من الإيمان وبغضهم من الكفر والنفاق مع البراءة من غلو الرافضة وجفاء الناصبة. 22 - مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله. 23 - قبول خبر الآحاد في الاعتقاد والعمل. 24 - بيان منهج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وتميزه عن مناهج أهل الزيغ والضلال. 25 - الاعتصام بالسنة واجتناب البدع والمحدثات. هذه أهم المسائل التي اشتملت عليها عقيدة أهل السنة والجماعة، إضافة إلى مواضيع كثيرة متفرعة عن هذه المسائل. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة – عادل الشيخاني – ص: 70 ¬

(¬1) انظر: ((نونية القحطاني)) (ص23).

الفصل الثاني: قواعد الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة

تمهيد: لم يفرد السلف الأوائل مؤلفات خاصة في قواعد الاستدلال على مسائل الاعتقاد، بل اكتفوا بما ورد في ثنايا كتب العقائد من تقعيدات وتأصيل، ومناظرات ورد للشبه والأباطيل، يظهر ذلك في كتب أهل السنة والجماعة المتقدمين عامة، ويظهر بوضوح في مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، إلا أن الدراسات المعاصرة عنيت بتحرير تلك القواعد، وبيان الضوابط، والكشف عن مناهج السلف والأئمة في الاستدلال على مسائل الاعتقاد، وفي الرد على أهل البدع والإلحاد. وفيما يلي تنبيه على أهم تلك القواعد والضوابط المنهجية في تقرير مسائل الاعتقاد كما أشارت إليها كتب المتقدمين، وجمعتها ورتبتها بعض كتب المتأخرين علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص 329

المبحث الأول: انضباط مصادر أدلة الاعتقاد والاعتماد على ما صح منها

المبحث الأول: انضباط مصادر أدلة الاعتقاد والاعتماد على ما صح منها العقيدة توقيفية؛ فلا تثبت إلا بدليل من الشارع، ولا مسرح فيها للرأي والاجتهاد، ومن ثَمَّ فإن مصادرها مقصورة على ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأنه لا أحد أعلمُ بالله وما يجب له وما ينزه عنه من الله، ولا أحد بعد الله أعلمُ بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان منهج السلف الصالح ومن تبعهم في تلقِّي العقيدة مقصورًا على الكتاب والسنة. فما دلّ عليه الكتاب والسنة في حق الله تعالى آمنوا به، واعتقدوه وعملوا به. وما لم يدل عليه كتاب الله ولا سنة رسوله نفَوْهُ عن الله تعالى ورفضوه؛ ولهذا لم يحصل بينهم اختلاف في الاعتقاد، بل كانت عقيدتهم واحدة، وكانت جماعتهم واحدة؛ لأن الله تكفّل لمن تمسك بكتابه وسنة رسوله باجتماع الكلمة، والصواب في المعتقد واتحاد المنهج، قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103]. وقال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه: 123]. ولذلك سُمُّوا بالفرقة الناجية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بالنجاة حين أخبر بافتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ولما سئل عن هذه الواحدة قال: ((هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (¬1). وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم فعندما بنى بعض الناس عقيدتهم على غير الكتاب والسنة، من علم الكلام، وقواعد المنطق الموروثَيْن عن فلاسفة اليونان؛ حصل الانحرافُ والتفرق في الاعتقاد مما نتج عنه اختلافُ الكلمة، وتفرُّقُ الجماعة، وتصدع بناء المجتمع الإسلامي عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك لصالح بن فوزان الفوزان هذا وإن من منة الله على أهل الإسلام، أن وحد لهم مصدرهم في التلقي، فلا تذبذب ولا اضطراب في تلقي التصورات والأفكار والعقائد من هنا وهناك بل مصدر تلقي العقائد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن من تطلب الهداية بعيدا عن هذين الأصلين فهو الواقع في شَرَك الضلال والعياذ بالله، يقول ابن أبي العز: (فكل من طلب أن يحكم في شيءٍ من أمر الدين غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما يخالفه فله نصيب من ذلك، بل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كاف كامل، يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه) منارات وعلامات في تنزيل أحاديث الفتن على الوقائع والحوادث لعبد الله بن صالح العجيري- ص33 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2641). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. قال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه ... ولأبي داود من حديث معاوية وابن ماجه من حديث أنس وعوف بن مالك وهي الجماعة وأسانيدها جياد. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

المبحث الثاني: حجية فهم السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنة

المبحث الثاني: حجية فهم السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنة إذا اختلف أهل القبلة وتنازعوا الحق والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، فإن أجدر الفرق بالصواب وأولاها بالحق وأقربها إلى التوفيق من كان في جانب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الكتاب الكريم حمال أوجه في الفهم مختلفة؛ فإن بيان أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم له حجة وأمارة على الفهم الصحيح. أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً، وأصحها فطرة، وأحسنها سريرة، وأصرحها برهاناً، حضروا التنزيل وعلموا أسبابه، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم وأدركوا مراده، اختارهم الله تعالى على علم على العالمين سوى الأنبياء والمرسلين، (وكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين، معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة رضي الله عنهم) (¬1). (فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، فرضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة) (¬2). قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: 6] (أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) (¬3). وقال سفيان رحمه الله في قوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النحل:59] (هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) (¬4). وفي منزلة علمهم واجتهادهم وفتاواهم قال الشافعي رحمه الله: ... فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاماً وخاصاً، وعزما وإرشاداً، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله (¬5). وأفضل علم السلف ما كانوا مقتدين فيه بالصحابة. يقول ابن تيمية رحمه الله: ولا تجد إماماً في العلم والدين، كمالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومثل: الفضيل وأبي سليمان، ومعروف الكرخي، وأمثالهم، إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب (¬6). ثم إن التابعين وتابعيهم قد حصل لهم من العلم بمراد الله ورسوله ما هو أقرب إلى منزلة الصحابة ممن هم دونهم؛ وذلك لملازمتهم لهم، واشتغالهم بالقرآن حفظا وتفسيراً، وبالحديث رواية ودراية، ورحلاتهم في طلب الصحابة وطلب حديثهم وعلومهم مشهورة معروفة، (ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم، وهو بذلك أقوم كان أحق بالاختصاص به، ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم) (¬7). ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص 165). (¬2) ((الفصل في الملل والنحل)) لابن حزم (4/ 116). (¬3) ((تفسير الطبري)) (22/ 44). (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 370). (¬5) ((أعلام الموقعين)) لابن قيم الجوزية (1/ 80)، ونسبه إلى الإمام الشافعي في ((الرسالة البغدادية القديمة)). (¬6) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص165). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 91).

والمسلمون في شأن العقيدة يحتاجون إلى (معرفة ما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بألفاظ الكتاب والسنة، وأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك الألفاظ، فإن الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسنة، عرفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه، فإن المعاني العامة التي يحتاج إليها عموم المسلمين، مثل معنى التوحيد، ومعنى الواحد والأحد والإيمان والإسلام، ونحو ذلك .. فلابد أن يكون الصحابة يعرفون ذلك، فإن معرفته أصل الدين) (¬1). فمذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، لا كما يدعيه المخالفون، باختلاف نحلهم ومذاهبهم، فتارة يقول أهل السياسة والملك: إنهم لم يمهدوا قواعد الحكم والسياسة والتدبير لانشغالهم بالعلم والعبادة، وتارة يدعي أهل التصوف أنهم ما حققوا المقامات والأحوال لانشغالهم بالجهاد والقتال وهكذا ... والحق أن (كل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم، وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها، وضبط قواعدها، وشد معاقدها، وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدراً) (¬2). وقال ابن رجب رحمه الله: فمن عرف قدر السلف، عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام، وكثرة الجدل والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة؛ لم يكن عيا، ولا جهلا، ولا قصورا، وإنما كان ورعاً وخشية لله، واشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع (¬3). وفي تحديد مفهوم السلف، قال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]، فالسلف اسم يجمع الصحابة فمن بعدهم ممن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وفي الصحيح: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم .. )) (¬4). وهذه الخيرية خيرية علم وإيمان وعمل، ولقد حكى ابن تيمية رحمه الله الإجماع على خيرية القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم .. وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة (¬5). ولقد اعتصم أهل السنة والجماعة بحجية فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين فعصمهم هذا من التفرق والضلال، فقالوا بما قال به السلف، وسكتوا عما سكتوا عنه، ووسعهم ما وسع السلف. أما أهل الضلال والابتداع، فمذهبهم الطعن في الصحابة وتنكب طريق السلف، قال الإمام أحمد رحمه الله: (إذا رأيت الرجل يذكر أحداً من الصحابة بسوء، فاتهمه على الإسلام) (¬6). فالصحابة يكفرهم الرافضة تارة، والخوارج أخرى، والمعتزلة يقول قائلهم وهو عمرو بن عبيد – عليه من الله ما يستحق -: لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان، على شراك نعل ما أجزت شهادتهم! (¬7). وصدق أبو حاتم الرازي رحمه الله حين قال: علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر (¬8). ورضي الله عن أبي زرعة الرازي حيث قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة (¬9) علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص347 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 353). (¬2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (1/ 19، 20). (¬3) ((فضل علم السلف على علم الخلف)) لابن رجب (ص 58). (¬4) رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬5) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 157 - 158). (¬6) ((الصارم المسلول)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 1058). (¬7) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 119). (¬8) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (1/ 179). (¬9) ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص97).

المبحث الثالث: الإيمان والتسليم والتعظيم لنصوص الوحيين

المبحث الثالث: الإيمان والتسليم والتعظيم لنصوص الوحيين ومن أصول عقيدة السلف الصالح؛ أهل السنة والجماعة في منهج التلقي والاستدلال اتباع ما جاء في كتاب الله عز وجل وما صح من سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظاهراً وباطناً، والتسليم لها، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا [الأحزاب: 36] وأهل السنة والجماعة: لا يقدمون على كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كلام أحد من الناس، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1]. ويعلمون بأن التقدم بين يدي الله ورسوله من القول على الله بغير علم، وهو من تزيين الشيطان الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص157 ومما روي عن السلف في الإيمان والتسليم للنصوص: (قال رجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لطم الخدود)) (¬1)، ((وليس منا من لم يوقر كبيرنا)) (¬2) وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم). (¬3) ولما ذكر عبدالله بن المبارك رحمه الله حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... )) (¬4)، فقال فيه قائل: ما هذا! على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان (¬5) أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. (¬6) ومما يحسن إيراده في هذا الموضع ما قاله ابن تيمية: ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله .. فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه. (¬7) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف - ص493 وقال محمد بن نصر المروزي في معنى الإيمان: الإيمان بالله: أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له ولأمره، بإعطاء العزم للأداء لما أمره، مجانباً للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه، واجتنبت مساخطه ... وإيمانك بمحمد صلى الله عليه وسلم إقرارك به، وتصديقك إياه، واتباعك ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي - 1/ 392 ¬

(¬1) رواه البخاري (1297)، ومسلم (103). من حديث عبد الله بن مسعود. (¬2) رواه الترمذي (1919). من حديث أنس بن مالك. وقال: هذا حديث غريب، ورواه أحمد (2/ 207) (6935). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (11/ 143): إسناده صحيح، والحديث صححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2196). (¬3) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 579)، وانظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) لمحمد بن نصر المروزي (1/ 487). (¬4) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) أي: كثيرو الكلام والتشكي ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 28). (¬6) ((تعظيم قدر الصلاة)) لمحمد بن نصر المروزي (1/ 504 - 505). (¬7) ((مجموع الفتاوي)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 36 - 37) بتصرف.

المبحث الرابع: جمع النصوص في الباب الواحد، وإعمالها بعد تصحيحها

المبحث الرابع: جمع النصوص في الباب الواحد، وإعمالها بعد تصحيحها إن معقد السلامة من الانحراف عند بيان قضية عقدية وتفصيل أحكامها هو جمع ما ورد بشأنها من نصوص الكتاب والسنة على درجة الاستقصاء، مع تحرير دلالات كلٍ، وتصحيح النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتماد فهم الصحابة والثقات من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، فإن بدا ما ظاهره التعارض بين نصوص الوحيين عند المجتهد - لا في الواقع ونفس الأمر، فينبغي الجمع بين هذه الأدلة برد ما غمض منها واشتبه إلى ما ظهر منها واتضح، وتقييد مطلقها بمقيدها، وتخصيص عامها بخاصها، فإن كان التعارض في الواقع ونفس الأمر فبنسخ منسوخها بناسخها - وذلك في الأحكام دون الأخبار فلا يدخلها نسخ - وإن لم يكن إلى علم ذلك من سبيل، فيرده إلى عالمه تبارك وتعالى. قال سبحانه: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7]. وفي الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: ((نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زاجرا وآمرا، وحلالا وحراما، ومحكما ومتشابها، وأمثالا، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا)) (¬1). قال ابن عباس رضي الله عنهما: يؤمن بالمحكم ويدين به، ويؤمن بالمتشابه ولا يدين به، وهو من عند الله كله (¬2). وقال الربيع بن خثيم رحمه الله: يا عبد الله، ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه، لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] (¬3). وإذا اتضح هذا؛ فإنه لا يجوز أن يؤخذ نص وأن يطرح نظيره في نفس الباب، أو أن تعمل مجموعة من النصوص وتهمل الأخرى؛ لأن هذا مظنة الضلال في الفهم، والغلط في التأويل (¬4)، قال الإمام أحمد رحمه الله: الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا (¬5). وقال الشاطبي رحمه الله: ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها .. (¬6). ¬

(¬1) رواه ابن حبان (3/ 20) (745)، والطبراني (9/ 26)، والحاكم (1/ 739)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 318): رواه الطبراني وفيه عمار بن مطر وهو ضعيف جداً وقد وثّقه بعضهم. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (587): صحيح. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (3/ 179). (¬3) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 336). (¬4) انظر: ((مفاتيح للفقه في الدين)) للشيخ مصطفى العدوي (ص10) فما بعدها. (¬5) ((الجامع لأخلاق الراوي)) للخطيب البغدادي (2/ 212). (¬6) ((الموافقات)) للشاطبي (1/ 245 - 246).

ومما يلتحق بهذا المعنى جمع روايات الحديث الواحد والنظر في أسانيده وألفاظه معاً وقبول ما ثبت، وطرح ما لم يثبت، وكما قيل: والحديث إذا لم تجمع طرقه لم تتبين علله، ثم النظر في الحديث بطوله وفي الروايات مجتمعة. وقد كانت لأهل البدع مواقف خالفوا بها إجماع أهل السنة بسبب مخالفتهم لهذا الأصل العظيم، فكانوا يجترئون من النصوص بطرف، مع إغضاء الطرف عن بقية الأطراف، فصارت كل فرقةٍ منهم من الدين بطرف، وبقي أهل السنة في كل قضية عقدية وسطاً بين طرفين، فهم - مثلاً - وسط في باب الوعيد بين غلاة المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وبين الوعيدية من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد عصاة الموحدين في النار، كما أنهم وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين المرجئة القائلين بأن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، وبين الوعيدية القائلين بتكفيره - كما هو عند الخوارج - أو يجعله بمنزلة بين المنزلتين - كما هو عند المعتزلة -، وهم وسط في باب القدر بين القدرية النفاة لمشيئته تعالى وخلقه أفعال العباد، وبين الجبرية النفاة لقدرة العبد واختياره ومشيئته ونسبة فعله إليه حقيقة، والقاعدة الهادية عند اشتباه الأدلة: (أن من رد ما اشتبه إلى الواضح منها، وحكم محكمها على متشابهها عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس) (¬1). واتفق لأهل السنة والجماعة (موافقة طريقة السلف من الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث والفقه في الدين، كالإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وإسحاق، وغيرهم، وهي رد المتشابه إلى المحكم، وأنهم يأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضاً، ويصدق بعضها بعضاً، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره) (¬2). قال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41 - 42]. وقد حكى الباقلاني الإجماع على منع التعارض بين الأدلة الشرعية في نفس الأمر مطلقاً، كما روى الخطيب البغدادي عنه ذلك فقال: يقول الباقلاني: وكل خبرين علم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهما، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهرهما متعارضين؛ لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب أحدهما منافياً لموجب الآخر، وذلك يبطل التكليف إن كان أمراً ونهياً، وإباحة وحظرا، أو يوجب كون أحدهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة، وكل مثبت للنبوة (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 345) بتصرف يسير. (¬2) ((أعلام الموقعين)) لابن قيم الجوزية (2/ 294). (¬3) ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص433).

ولما خالف أهل البدع هذه القاعدة كفر بعضهم بعضا، حيث آمن بعضهم بنصوص وكفروا بأخرى، فقد آمن - مثلاً- الوعيدية: من الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد (¬1)، وكفروا بنصوص الوعد، وقابلهم المرجئة فآمنوا بنصوص الوعد (¬2) وكفروا بنصوص الوعيد، وأهل السنة والجماعة آمنوا بكل وجمعوا بين النصوص، واعتمدوا على قول الله تعالى: عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156]. وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]. وكذا الجبرية آمنوا بما كفر به القدرية، وكفروا بما آمن به القدرية، والحق الإيمان بجميع النصوص، واعتقاد نفي التعارض بينها، قال تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 28 - 29]، فأثبت مشيئة للإنسان مقيدة بمشيئة الرحمن. فالتفّت – بحمد الله – النصوص واجتمعت، وزالت الشبه وارتفعت الحجب وانقلعت. (وقد استعمل هذه القاعدة كثير من أئمة العلم والدين في كسر المبتدعة وتفنيد شبهاتهم، كصنيع الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة، وفي كتاب مختلف الحديث، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية، والإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتاب مختلف الحديث، والطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار، وغير هؤلاء كثير من أئمة السنة) (¬3). علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص337 ¬

(¬1) ومن ذلك قوله تعالى: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 81]. وقوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ *النساء:14* وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة قتات)) يعني نمام. رواه البخاري (6056)، ومسلم (105). من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة قاطع)) رواه البخاري (5984)، ومسلم (2556). من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. (¬2) ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة)) رواه مسلم (26). من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار)) رواه مسلم (32). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬3) ((منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد)) لعثمان علي حسن (1/ 348).

المبحث الخامس: اشتمال الوحي على مسائل التوحيد بأدلتها

المبحث الخامس: اشتمال الوحي على مسائل التوحيد بأدلتها إن المصدر الذي تؤخذ منه مسائل أصول الدين هو الوحي، فكل ما يلزم الناس اعتقاده أو العمل به، قد بينه الله تعالى بالوحي الصادق عن طريق كتابه العزيز، أو بالواسطة من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو ما يرجع إليهما من إجماع صحيح، أو عقل صريح دل عليه النقل وأرشد إليه. قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89]. وقال سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]. وفي الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (( .. وأيم الله، لقد تركتكم على البيضاء، ليلها ونهارها سواء، قال أبو الدرداء: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا والله على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء)) (¬1)، وفي رواية أخرى: ((لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) (¬2). وفي صحيح مسلم لما قيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: ((قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة! فقال: أجل .. )) (¬3). ودخول مسائل التوحيد وقضاياه في هذا العموم من باب الأولى؛ بل (من المحال أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب) (¬4). والرسول صلى الله عليه وسلم بين مسائل التوحيد تارة بأدلتها النقلية مباشرة كأحوال البرزخ، ومسائل الآخرة، وتارة يجمع إلى الأدلة النقلية الأدلة العقلية ويرشد إليها، فإما أن تكون أدلة مسائل علم التوحيد أدلة نقلية، أو أدلة نقلية عقلية. وبهذا الأصل المبارك اعتصم أهل السنة والجماعة، فصدروا عن الوحي في تعلم التوحيد في مسائله وأدلته، (ولم ينصبوا مقالة ويجعلوها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسل؛ بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة، هو الأصل يعتقدونه ويعتمدونه) (¬5). وردوا عند التنازع في مسألة ما إلى نصوص الوحي، امتثالاً لقوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، ومعنى الرد إلى الله سبحانه: الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: الرد إلى سنته بعد وفاته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين" (¬6). وفي إعمال هذه القاعدة نظر إلى الوحي بعين الكمال، واستغناء به عن غيره، واعتماد عليه، وتجنب اللوازم الباطلة لمذهب من يعول على العقل أو الذوق دون الشرع، وتحقيق للإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ونجاة من مسالك أهل الأهواء الذين يتقدمون بين يدي الله ورسوله بعلومهم وعقولهم وأذواقهم، وحسم لمادة التقليد الباطلة، مع تحقيق الاجتماع والألفة ونبذ الاختلاف والفرقة. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص343 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (5)، وابن أبي عاصم في السنة (49)، والبزار في ((البحر الزخار)) (10/ 76). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال البزار: إسناده حسن. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (688): وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات. (¬2) رواه ابن ماجه (43) واللفظ له، وأحمد (4/ 126) (17182). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، والحديث حسنه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 68). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (937): إسناده صحيح. (¬3) رواه مسلم (262). من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/ 7 - 8). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 347). (¬6) ((شرح الصدور بتحريم رفع القبور)) للشوكاني (ص593).

المبحث السادس: الإيمان بالنصوص على ظاهرها ورد التأويل

المبحث السادس: الإيمان بالنصوص على ظاهرها ورد التأويل يقصد بظاهر النصوص مدلولها المفهوم بمقتضى الخطاب العربي، لا ما يقابل النص عند متأخري الأصوليين، والظاهر عندهم ما احتمل معنى راجحاً وآخر مرجوحاً، والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، (فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة، فإن الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين) (¬1)، فالواجب في نصوص الوحي إجراؤها على ظاهرها المتبادر من كلام المتكلم، واعتقاد أن هذا المعنى هو مراد المتكلم، ونفيه يكون تكذيباً للمتكلم، أو اتهاما له بالعي وعدم القدرة على البيان عما في نفسه، أو اتهاما له بالغبن والتدليس وعدم النصح للمكلف، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم. ومراد المتكلم يعلم إما باستعماله اللفظ الذي يدل بوضعه على المعنى المراد مع تخلية السياق عن أية قرينة تصرفه عن دلالته الظاهرة، أو بأن يصرح بإرادة المعنى المطلوب بيانه، أو أن يحتف بكلامه من القرائن التي تدل على مراده، وعلى هذا فصرف الكلام عن ظاهره المتبادر - من غير دليل يوجبه أو يبين مراد المتكلم - تحكم غير مقبول سببه الجهل أو الهوى، وهذا وإن سماه المتأخرون تأويلاً إلا أنه أقرب إلى التحريف منه إلى التأويل (¬2)، ولا يسلم لهذا المتأول تأويله حتى يجيب على أمور أربعة: أحدهما: أن يبين احتمال اللفظ لذلك المعنى الذي أورده من جهة اللغة. الثاني: أن يبين وجه تعيينه لهذا المعنى أنه المراد. الثالث: أن يقيم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره؛ لأن الأصل عدمه، قال ابن الوزير رحمه الله: من النقص في الدين رد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل .. (¬3). الرابع: أن يبين سلامة الدليل الصارف عن المعارض، إذ دليل إرادة الحقيقة والظاهر قائم، وهو إما قطعي، وإما ظاهر، فإن كان قطعيا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهراً فلابد من الترجيح (¬4). ومما يدل على إعمال الظواهر أنه لا يتم بلاغ ولا يكمل إنذار، ولا تقوم الحجة ولا تنقطع المعذرة بكلام لا تفيد ألفاظه اليقين، ولا تدل على مراد المتكلم بها؛ بل على خلاف ذلك، فينتفي عن القرآن – والعياذ بالله – معنى الهداية، وشفاء الصدور، والرحمة، التي وصف الله تعالى بها كتابه الكريم، ومعاني الرأفة والرحمة والحرص على رفع العنت والمشقة عن الأمة، التي وصف الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، وهو الذي ترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلا التباس في أمره ونهيه، ولا إلغاز في إرشاده وخبره، باطنه وظاهره سواء، كيف لا، وهو القائل: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم ... )) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (33/ 175). (¬2) التأويل: هو نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج على دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 264). (¬3) ((إيثار الحق)) لابن الوزير (ص129). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 360 - 362)، و ((الصواعق المرسلة)) لابن قيم الجوزية (1/ 288 - 290)، و ((بدائع الفوائد)) لابن قيم الجوزية (4/ 1009). (¬5) رواه مسلم (1844). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ودلالته صلى الله عليه وسلم للأمة في شأن اعتقادها أهم أعماله، وأولاها بالإيضاح والإفهام بلسان عربي مبين، والجزم واقع بأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموها على وجهها الذي يفهمه العربي، بغير تكلف ولا تمحل في صرف ظواهرها، ومن كان باللسان العربي أعرف ففهمه لنصوص الوحي أرسخ، وقد قال عمر رضي الله عنه: (يا أيها الناس، عليكم بديوان شعركم في الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم) (¬1). وقال ابن تيمية رحمه الله: لم يكن في الصحابة من تأول شيئا من نصوصه – أي نصوص الوحي – على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت ... (¬2). وفي إنكار التأويل الكلامي ومناهج الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل – ولو كان مستكرهاً – ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف (¬3). ويقول ابن تيمية رحمه الله مبيناً خطورة التأويل: فأصل خراب الدين والدنيا، إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط؛ بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد (¬4). ففي لزوم الإيمان بالنصوص على ظاهرها ودفع التأويل المتعسف بغير دليل موافقة لنصوص الكتاب والسنة لفظا ومعنى، مع بعد عن التكلف في الدين، والقول على الله بغير علم، والافتراء على رسوله الأمين، فضلاً عن ما في ذلك من مصلحة سد باب الخروج على العقيدة ببدعة محدثة، وسد باب الخروج على الشريعة، والاجتراء على الحرمات، والتهاون بالطاعات والوقوع في المنكرات، بصرف ألفاظ الوعد والوعيد عن حقيقتها وظاهرها، ودعوى أن كل ذلك غير مراد. (وهذه القاعدة تفيد بطلان مذهب المفوضة في الصفات، الذين يفوضون معاني النصوص إلى الله، مدعين أن هذا هو مذهب السلف، وقد علم براءة مذهب السلف من هذا المذهب بتواتر الأخبار عنهم بإثبات معاني هذه النصوص على الإجمال والتفصيل، وإنما فوضوا العلم بكيفيتها لا العلم بمعانيها) (¬5). قال ابن تيمية رحمه الله: إن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها، ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه (¬6). بل كان قول أهل العلم: من الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم. ¬

(¬1) انظر ((تفسير القرطبي)) (10/ 111) و ((الموافقات)) للشاطبي (2/ 88). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 252). (¬3) ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 267). (¬4) ((أعلام الموقعين)) لابن قيم الجوزية (4/ 216). (¬5) ((القواعد المثلى)) للشيخ ابن عثيمين (ص35). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 285).

ومما يشهد للصحابة في فهمهم مراد الله ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم، والأخذ بظواهر النصوص، وتفسيرها مما يظهر منها: قول ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (¬1). وقال مسروق رحمه الله: كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحثنا فيها ويفسرها عامة النهار (¬2)، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: نعم ترجمان القرآن ابن عباس (¬3). وقال مجاهد رحمه الله: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها (¬4). فلم يتوقف الصحابة عن تفسير النصوص والأخذ بظواهرها؛ ويستثنى من ذلك النصوص الخاصة بصفات الله تعالى، فقد أخذوا بظواهرها فأثبتوها دون تفسير أو تكييف لمعناها. قال الذهبي: قال سفيان (¬5) وغيره: قراءتها – أي آيات الصفات – تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف (¬6). علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص353 والواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها. ودليل ذلك: السمع، والعقل. أما السمع: فقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195] وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]. وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3]. وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي. وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان. فقال: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75]. وقال تعالى: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا الآية [النساء: 46]. ¬

(¬1) رواه البخاري (5002)، ومسلم (2463). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (1/ 60). (¬3) رواه أبو خيثمة في ((العلم)) (48)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) 6/ 383، وأحمد في ((فضائل الصحابة)) (ص847) (1556)، والطبري في تفسيره (1/ 65). والحاكم (3/ 618) كلهم موقوفاً عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 13): إسناده صحيح، وقال الألباني في كتاب ((العلم)) لأبي خيثمة: إسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه الطبراني (11/ 108)، والأصبهاني في ((حلية الأولياء)) (1/ 316) مرفوعا عن ابن عباس. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 449): رواه الطبراني وفيه عبد الله بن خراش وهو ضعيف. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 154)، والدارمي (1/ 273) (1120)، والطبري في تفسيره (1/ 65)، والطبراني (11/ 77)، والحاكم (2/ 307). (¬5) وهو الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى، روى ذلك عنه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (3/ 431)، والدارقطني في ((الصفات)) (ص41، 42) وانظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص 118)، و ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن قيم الجوزية (1/ 114، 115). (¬6) ((العلو)) للذهبي (574).

وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة. القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص42 واعلم أن من قواعد أهل السنة المقررة أن الأصل أن يحمل النص على ظاهره، وأن الظاهر مراد، وأن الظاهر ما يتبادر إلى الذهن من المعاني، وأنه لا يخرج عن هذا الظاهر إلا بدليل، فإن عدم الدليل كان الحمل على الظاهر هو المتعين، والحمل على خلافه تحريف، فالنصوص الشرعية نصوص هداية ورحمة لا نصوص إضلال، فلو قدر أن المتكلم أراد من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته من غير قرينة ولا دليل ولا بيان لصادم هذا الفعل مقصود الإرشاد والهداية وأن ترك المخاطب والحالة هذه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى ... ومن أسباب إخراج النصوص عن ظواهرها عند البعض دعوى معارضتها للمعقول كالشأن في كثير من العقائد الإسلامية، إذ أن من طالع كتب المؤولة وجد عندهم توسعا عجيبا في هذا الباب، وكلما خاضوا بالتأويل في باب جرهم ذلك إلى استسهال التأويل في باب آخر وهكذا حتى آل الأمر بالباطنية مثلا إلى تأويل جملة الشريعة حتى ما يتعلق منها بالأحكام الشرعية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وجعل ذلك كله من قبيل الباطن المخالف للظاهر، ... والذي يعنينا هنا أن نؤكد على أن هذه النصوص الشرعية يجب حملها على ظواهرها ولا يصح تأويلها لمجرد تنزيلها على واقع حالي أو لتوهم معارضتها للمعقول، وأن تأويلها والحالة هذه مخرج لها عن قصد الشارع وبالتالي فتنزيلها بعد التأويل تنزيل لها على واقع غير مراد ولا مقصود للشارع. منارات وعلامات في تنزيل أحاديث الفتن على الوقائع والحوادث لعبد الله بن صالح العجيري - ص89

المبحث السابع: درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل

المبحث السابع: درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل مما ينبغي اعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والصريحة في دلالتها، لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة، ذلك أن العقل شاهد بصحة الشريعة إجمالا وتفصيلا، فأما الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك تصديقه في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة. وأما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل؛ بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقا وتعضيدا، وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظم الشريعة، وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها، فالشريعة قد تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول. فإن وجد ما يوهم التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح أو يكون صحيحاً ليس فيه دلالة صحيحة على المدعى، وإما أن يكون العقل فاسداً بفساد مقدماته. فمن احتج - مثلا- في إنكار الصفات الإلهية بأن لازم ذلك إثبات آلهة مع الله، فقد احتج بعقل غير صحيح؛ بل لا يجوز تسمية ذلك عقلاً أصلاً؛ إذ لا يجوز في العقل وجود موجود مجرد عن الصفات؛ بل هو من أعظم الممتنعات العقلية؛ لأنه يستلزم رفع النقيضين، حيث يقال: هو موجود ولا موجود، ولا يقال هذا في حق المخلوق، فلا يستلزم إثبات المخلوق متصفا بصفات السمع والبصر والكلام والحياة أن يتعدد المخلوق، بحيث تكون كل صفة منها إنسانا قائما بنفسه، وهذا معلوم البطلان في حق المخلوق، وبطلانه في حق الخالق أظهر وأولى فهذا عقل فاسد لا يقاوم النقل الصحيح الصريح من آيات الصفات وأحاديثها. وقد يكون النقل مكذوبا والعقل صحيحاً، كما في حديث يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل يا رسول الله: مم ربنا؟ قال: ((من ماء مرور، لا من أرض، ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق .. )) (¬1). ففي هذا الكتاب وأمثاله لا يقال إنه يعارض دليل العقل، فلا يصلح أن يكون دليلا فضلا عن أن ينسب إلى الشرع ليعارض به العقل، علاوة على أن الأدلة الشرعية تنقضه وتبطله. وقد يكون النقل صحيحاً، إلا أنه لا يدل على المعنى المدعى، فيتوهم التعارض بين المنقول والمعقول، كما في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني .. الحديث)) (¬2). فمن فهم من الحديث أن الله تعالى يمرض أو يجوع ويعطش لم يفهم معنى الحديث لأن الحديث فسره المتكلم به، وبين المراد منه، وهو أن العبد هو الذي جاع وعطش ومرض، وأن الله تعالى منزه عن ذلك علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص359 ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (11/ 128)، وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 105)، والسيوطي في ((اللآلئ المصنوعة)) (1/ 11) كلاهما من طريق الحاكم. وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يشك في وضعه، وما وضع مثل هذا مسلم، وإنه لمن أرك الموضوعات وأدبرها، إذ هو مستحيل لأن الخالق لا يخلق نفسه. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة والموضوعة)) بعد حديث (770): منكر. (¬2) رواه مسلم (2569). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد أطال ابن تيمية رحمه الله الكلام على التعارض المتوهم وذلك في كتابه البديع (درء تعارض العقل والنقل) ومما قاله في ذلك: ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدما على ما جاءت به الرسل وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي فمتي علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزما قاطعا أنه حق وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي ولا عقلي ولا سمعي وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة وشبه من جنس شبه السوفسطائية، وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل فيكون هذا العقل والسمع جميعا شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 111 وأن والعقل الصريح عندهم - أي: عند أهل السنة - يوافق النقل الصحيح، وعند الإشكال يقدمون النقل ولا إشكال؛ لأن النقل لا يأتي بما يستحيل على العقل أن يتقبله، وإنما يأتي بما تحار فيه العقول، والعقل يصدق النقل في كل ما أخبر به ولا العكس. ولا يقللون من شأن العقل؛ فهو مناط التكليف عندهم، ولكن يقولون: إن العقل لا يتقدم على الشرع - وإلا لاستغنى الخلق عن الرسل - ولكن يعمل داخل دائرته، ولهذا سموا أهل السنة لاستمساكهم واتباعهم وتسليمهم المطلق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50] الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص157 وإذا ظهر تعارض بين الدليلين النقلي والعقلي، فلابد من أحد ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون أحد الدليلين قطعياً والآخر ظنياً، فيجب تقديم القطعي نقلياً كان أم عقلياً، وإن كان ظنيين فالواجب تقديم الراجح، عقلياً كان أم نقلياً. الثاني: أن يكون أحد الدليلين فاسدا، فالواجب تقديم الدليل الصحيح على الفاسد سواء أكان نقلياً أم عقلياً. الثالث: أن يكون أحد الدليلين صريحاً والآخر ليس بذاك، فهنا يجب تقديم الدلالة الصريحة على الدلالة الخفية، لكن قد يخفى من وجوه الدلالات عند بعض الناس ما قد يكون بينا وواضحاً عند البعض الآخر، فلا تعارض في نفس الأمر عندئذٍ. أما أن يكون الدليلان قطعيين - سندا ومتنا- ثم يتعارضان، فهذا لا يكون أبداً، لا بين نقليين، ولا بين عقليين، ولا بين نقلي وعقلي) (¬1). وخلاصة اعتقاد أهل السنة في هذا الباب (أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه) (¬2). وقد أعمل الصحابة رضي الله عنهم هذا الأصل، وتلقاه عنهم التابعون، وتواترت عبارات أهل العلم بهذا المعنى. قال ابن تيمية رحمه الله: فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم (¬3). وقال الإمام الشافعي رحمه الله: كل شيء خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد معه أمر ولا نهي غير ما أمر هو به (¬4). وقال الإمام مالك رحمه الله: أو كلما جاء رجل أجدل من الآخر، رد ما أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم (¬5). ومن ثمرات الالتزام بهذه القاعدة، إثبات عصمة الشرع الحكيم إذ ليس فيه ما يخالف العقل الصحيح، وسد باب التأويل والتفويض، واستقامة الحياة على الوجه الأتم الأكمل عند نفي التعارض بين وحي الله تعالى وخلقه، فتنعم البشرية بهدي الله وشرعه وتنتفع بما أنعم على خلقه. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص359 ¬

(¬1) ((منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد)) لعثمان علي حسن (1/ 366). (¬2) ((درء التعارض)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 231، 232). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 28). (¬4) ((الأم)) للإمام الشافعي (2/ 193). (¬5) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (1/ 144).

المبحث الثامن: السكوت عما سكت عنه الله ورسوله وأمسك عنه السلف

المبحث الثامن: السكوت عما سكت عنه الله ورسوله وأمسك عنه السلف كل مسألة من المسائل الشرعية - ولاسيما مسائل الاعتقاد- لا يحكم فيها، نفياً أو إثباتاً إلا بدليل، فما ورد الدليل بإثباته أثبت، وما ورد بنفيه نفي، وما لم يرد بإثباته ولا بنفيه دليل توقفنا، ولم نحكم فيه بشيء؛ لا إثباتاً ولا نفياً، ولا يعني هذا أن المسألة خلية عن الدليل، بل قد يكون عليها دليل، لكن لا نعلمه، فالواجب التوقف: إما مطلقا أو لحين وجدان الدليل. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ما لم يرد به الخبر إن علم انتفاؤه نفيناه وإلا سكتنا عنه فلا نثبت إلا بعلم ولا ننفي إلا بعلم ... فالأقسام ثلاثة: ما علم ثبوته أثبت، وما علم انتفاؤه نفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه، هذا هو الواجب، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته (¬1). وقد وردت كثير من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة السلف وأهل السنة بالأمر بالكف عما لم يرد في الشرع، والسكوت عما سكت عنه الله ورسوله وأمسك عنه السلف، وترك الخوض فيما لا علم للإنسان به من دليل أو أثر. قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36] قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)) (¬4). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86]) (¬5). وترجم الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الاعتصام من (صحيحه): باب: ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، وباب: ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس وَلاَ تَقْفُ لا تقل مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] (¬6). وسأل رجل أبا حنيفة رحمه الله: ما تقول فيما أحدثه الناس في الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريق السلف، وإياك وكل محدثةٍ فإنها بدعة (¬7). ¬

(¬1) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (16/ 431، 432). (¬2) رواه الطبري في تفسيره ((جامع البيان)) (14/ 594). (¬3) رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه الدارقطني (4/ 183) (42)، والطبراني (22/ 221)، والحاكم (4/ 129)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 12). من حديث أبي ثعلبة الخشني. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) 1/ 417: رواه الطبراني في ((الكبير)) وهو هكذا في هذه الرواية وكأن بعض الرواة ظن أن هذا معنى وسكت فرواها كذلك والله أعلم، ورجاله رجال الصحيح. وحسنه النووي في ((رياض الصالحين)) (581). وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 280): له شاهد. (¬5) رواه البخاري (4774)، ومسلم (2798). من حديث عبد الله بن مسعود. (¬6) ((صحيح البخاري)) (6/ 2658). (¬7) ((ذم الكلام)) للهروي (13/ 333).

وروى اللالكائي بسنده عن أبي إسحاق قال: سألت الأوزاعي فقال: (اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم) (¬1). وقال إبراهيم النخعي: (بلغني عنهم – يعني الصحابة – أنهم لم يجاوزوا بالوضوء ظفرا ما جاوزته به، وكفى على قوم وزرا أن تخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم) (¬2). وقال الشعبي: (عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول). وقال أيضا: (ما حدثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذه وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحش) (¬3). وقال ابن عبد الهادي رحمه الله: (ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة، لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر) (¬4). وقال ابن رجب رحمه الله: (فالعلم النافع من هذه العلوم كلها: ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقاق، والمعارف، وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل) (¬5) علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص371 ¬

(¬1) ((ذم الكلام)) للهروي (315). (¬2) ((أعلام الموقعين)) لابن قيم الجوزية (4/ 151). (¬3) ((أعلام الموقعين)) لابن قيم الجوزية (4/ 152). (¬4) ((الصارم المنكي)) لابن عبد الهادي (ص427). (¬5) ((فضل علم السلف على الخلف)) لابن رجب (ص150).

المبحث التاسع: موافقة النصوص لفظا ومعنى أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ

المبحث التاسع: موافقة النصوص لفظا ومعنى أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ لا شك أن متابعة الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى أكمل وأتم من متابعتهما في المعنى دون اللفظ، ويكون ذلك باعتماد ألفاظ ومصطلحات الكتاب والسنة عند تقرير مسائل الاعتقاد وأصول الدين، والتعبير بها عن المعاني الشرعية، وفق لغة القرآن وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (الأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص، فيثبت ما أثبته الله ورسوله باللفظ الذي أثبته، وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه) (¬1). وقال ابن القيم رحمه الله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على ألفاظ القرآن تقديما وتأخيرا، وتعريفا وتنكيرا كما يحافظ على معانيه، ومنه قوله وقد بدأ بالصفا: ((أبدأ بما بدأ الله به)) (¬2)، ومنه بداءته في الوضوء بالوجه ثم اليدين اتباعا للفظ القرآن (¬3) ومنه قوله في حديث البراء بن عازب: ((آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت)) (¬4) موافقة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ [الأحزاب: 45]) (¬5) ولهذا منع جمع من العلماء نقل حديث الرسول بالمعنى، ومن أجازه اشترط أن يكون الناقل عالما بما يحيل المعنى من اللفظ، مدركا لأساليب العرب حتى يستبين الفروق، وأما شأن العقيدة خاصة فهو أعظم وأخطر؛ لذا كان هدي أهل السنة والسلف مراعاة الألفاظ ومعانيها معا. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه في الله وصفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات؛ بل كل معنى صحيح فإنه داخل فيما أخبر به الرسول) (¬6). وقال رحمه الله: (والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها، فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحكم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه. والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع، ثم قد يجعل اللفظ حجة بمجرده وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق وقد يضطرب في معناه، وهذا أمر يعرفه من جربه من كلام الناس، فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والإسلام كما قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103]. ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناه بيانا شافيا فإنها تنتظم جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة، وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41 - 42] وقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] وقال: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1]، وفيه من دلائل الربوبية والنبوة والمعاد ما لا يوجد في كلام أحد من العباد ففيه أصول الدين المفيدة لليقين، وهي أصول دين الله ورسوله لا أصول دين محدث ورأي مبتدع) (¬7). والألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة إما أن تكون اصطلاحات متعينة للدلالة على الحق ولا تستعمل في غير هذا، فيلزم استعمالها فيما اصطلح عليه من المعاني الصحيحة، وهكذا الأمر فيما استعمله السلف الصالح من الألفاظ الشرعية. وإما ألا تتعين للدلالة على الحق، بل تكون مجملة تحتمل حقا وباطلا، فإذا عرف مراد صاحبها وكان موافقا للمعنى الصحيح، قبل منه المعنى، ومنع من التكلم باللفظ المجمل، وعلم الألفاظ الشرعية في ذلك. علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري- 363 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (16/ 423). (¬2) ((رواه مسلم)) (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (¬3) قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ * المائدة: 6*. (¬4) ((رواه البخاري)) (247، 6311) (ومسلم)) (2710). (¬5) ((بدائع الفوائد لابن القيم)) (4/ 912). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 432). (¬7) ((النبوات لابن تيمية)) (235).

المبحث العاشر: الإيمان بجميع نصوص الكتاب والسنة

المبحث العاشر: الإيمان بجميع نصوص الكتاب والسنة إن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، فإنه يجب الإيمان به – سواء عرفنا معناه، أو لم نعرف – لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة، وجب على كل مؤمن الإيمان به، وإن لم يفهم معناه، وكذلك ما ثبت باتفاق الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب (مسائل الاعتقاد) يوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة، متفقا عليه بين سلف الأمة (¬1). آمن أهل الإسلام بأن الله تعالى ربهم، ومليكهم، وأنه حكيم، عليم، قدير، رحمن، رحيم، أرسل الرسل لهدايتهم، وأنزل معهم الكتاب والميزان، فما أخبر به الرسول عن الله، فالله أخبر به، وهو سبحانه إنما يخبر بعلمه، ويمتنع أن يخبر بنقيض علمه، وما أمر به الرسول فهو من حكم الله، والله أمر به، وهو العليم الحكيم. قال تعالى: لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا [النساء: 166] (¬2) وهذا يقتضي أن ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم حق من عند الله يوافق علم الله ومراده، فالواجب على كل أحد أن يقابل ما أمر به، أو نهى عنه بالطاعة والانقياد، فمن قبل عن الرسول ما أخبر به فعن الله قبل، ومن أطاع الرسول فيما أمر به فقد أطاع الله. الإيمان بالنصوص ضربان: والإيمان بنصوص الكتاب والسنة على ضربين: أحدهما: إيمان مجمل وهذا من فروض الأعيان، فيجب على كل أحد – ممن أسلم وجهه لله تعالى، ورضي بالإسلام دينا، وبالرسول صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا – الإيمان بنصوص الكتاب والسنة، سواء أظهرت له معانيها ووضحت مدلولاتها، أم لا، فهذا حظ العامة، ومن لا يفهم العربية ومن في معناهما ممن اشتبه عليه معنى آية أو حديث، فما زال كثير من الصحابة، ومن بعدهم، يمر بآية أو لفظ وهو لا يدرك معناه، إلا ويؤمن به، وبكل ما أمره إلى عالمه، ومثله وقع لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما (¬3). وهذا لا يعني أن في النصوص ما لا يدرك معناه بحال، بل معاني النصوص مفهومة من لغة التخاطب، لكن قد يقوم بالشخص من عوامل القصور ما هو مدعاة إلى عدم الفهم، ووضوح الخطاب عنده. فالواجب على المسلم الإيمان بالنص – بعد معرفة صحة مخرجه – إيمانا عاما مجملا، من غير أن يشترط فهم معناه، أو إدراك حقيقته أو سلامته عن المعارض العقلي – كما يقوله أرباب الكلام – أو موافقته للذوق والكشف – كما يدعيه غلاة المتصوفة-. الثاني: إيمان مفصل، وهذا من الفروض الكفائية، هو خاص بكل من قام عنده الدليل، وبان له المدلول، وظهر معناه، فإذا حصل ذلك عنده، صار الإيمان في حقه فرضا متعينا، وإلا فالأصل فيه أنه كفائي، قال شارح الطحاوية: (ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية) لكن من قدر عليه وجب عليه تحصيله، طلبا لحماية الدين، وكفاية المسلمين بتعليمهم وتفهيمهم إياه، وهو بحر تتفاوت فيه همم الطالبين، وتتطاول عنده أعناق الراغبين، وبقدر المعرفة به، تكمل المعرفة بالله وبدينه: قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11] منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن- 1/ 223 ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 41) (بتصرف). (¬2) ((انظر: مجموعة تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية)) (380) وما بعدها مطبعة "القرآن" 1373هـ - 1954م – الهند (بدون رقم الطبعة). (¬3) ((انظر: مجموعة تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية)) (333) ((الجامع لأحكام القرآن)) (19/ 223).

المبحث الحادي عشر: لا نسخ في الأخبار ولا في أصول الدين

المبحث الحادي عشر: لا نسخ في الأخبار ولا في أصول الدين إن مسائل الاعتقاد – من الإيمان بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، ورسالاته، واليوم الآخر ونحو ذلك من الأمور الثوابت، التي جاءت بها جميع رسل الله تعالى، من لدن آدم إلى محمد عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم لا يدخلها نسخ أو تعديل ....... ، والشريعة نوعان: خبر وأمر، الخبر يدخل فيه الماضي والمستقبل والوعد والوعيد، ويشمل ما أخبر الله تعالى به عن ذاته، وصفاته، وأفعاله، وما أخبر أنه كان، أو سيكون من مفعولاته، وما قص علينا من أخبار الأمم الماضية، وأخبار الرسل ودعواتهم، وما فعل بأعدائهم، وما أعده لأوليائهم، ويدخل فيه – أيضا – ما ذكره الله من أخبار خلق السموات والأرض، وما فيها من الأحياء والأشياء، وما ذكره من أخبار الجنة والنار، والحساب والعقاب، والبعث والحشر والجزاء؛ كل هذا ونظيره يدخل في جملة الأخبار، والتي يجب على المسلم مقابلتها بالتصديق والتسليم، ويعلم أنها كلها حق، مطابقة للأمر في نفسه، لا يجوز أن تختلف أو تتعارض – وإن ظهر شيء من ذلك فإنما هو عارض يعرض على الأذهان يزول عند التحقيق، والنظر الدقيق – ومن ثم فلا يجوز أن يدخل أخبار الله تعالى النسخ أو التبديل، بل هي محكمة ثابتة؛ لأنه تعالى إذا أخبر عن شيء فإنما يخبر بعلمه، وعلمه أزلي لا أول له، وهو مطابق للأمر في نفسه، علم ما كان، وما يكون، وما سيكون، فلو أخبر عن شيء أنه كان أو سيكون، ثم أخبر بنقيض ذلك أو برفعه، لكان ذلك خلفا وكذبا، مستلزما سبق الجهل، وحدوث العلم وتجدده، وهذا مما يعلم ضرورة أن الله تعالى منزه عنه، بل هو من صفات المخلوقين المربوبين، لا من صفات الخالق سبحانه (¬1). فالخبر عن شيء أنه كان أو سيكون ثم أخبر بخلاف ذلك كان مكذبا لنفسه، وذلك غير جائز على الله تعالى، ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم من جهة كونه مبلغا عن الله تعالى، فمن قال: سمعت كذا ورأيت كذا، ثم قال بعد: لم يكن ما أخبرت أني سمعته ورأيته موافقا للصواب؛ فقد أكذب نفسه، أو دل على أنه أخبر بما لا علم له به، أو تعمد الكذب في ذلك، أو قال بالظن وكان جاهلا لحقيقة الأمر ثم رجع عن ظنه، وهذا كله لا يجوز وصف الخالق سبحانه به، بل لم يزل الله تعالى عالما بما يكون، وما سيكون، ومريدا له، لم يستحدث علما لم يكن، ولا إرادة لم تكن، فهو العالم بعواقب الأمور، الفعال لما يريد (¬2). ولهذا قال أبو جعفر النحاس رحمه الله - في معرض الرد على من يجوز النسخ في الأخبار -: (وهذا القول عظيم جدا، يؤول إلى الكفر؛ لأن قائلا لو قال: قام فلان، ثم قال: لم يقم، ثم قال: نسخته لكان كاذبا) (¬3). أما النوع الثاني – من نوعي الشريعة – فهو الأمر، والنهي منه؛ لأنه أمر بالترك. ويدخل في ذلك العبادات: أصولها وفروعها، وجميع المعاملات، وكذا فضائل الأخلاق. والأمر وإن كان النسخ يدخله في الجملة، لكن تستثنى منه كليات الشريعة، من الضروريات والحاجيات والتحسينات، فالشريعة مبنية على حفظ هذه الكليات (¬4)، فأصول العبادات: كالصلاة والصوم، والزكاة، والحج، وما يحفظ الضروريات الخمس، وما يحقق العدل والإحسان، وما يجلب الفضيلة، ويدفع الرذيلة، كل ذلك لا يقع فيه النسخ، وإنما يقع في تفاصيل هذه المسائل، وهو ما يتعلق بالهيئات، والكيفيات، والأمكنة، والأزمنة، والأعداد، وهو جزء يسير إذا ما قورن بكليات الشريعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كتاب الله نوعان: خبر وأمر، أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض، ولكن قد يفسر أحد الخبرين الآخر، ويبين معناه، وأما الأمر فيدخله النسخ، ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزله الله، فمن أراد أن ينسخ شرع الله الذي أنزله برأيه وهواه كان ملحدا، وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحدا) (¬5). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن -1/ 268 ¬

(¬1) ((انظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه .. لأبي بكر بن أبي طالب القيسي)) (57). (¬2) ((انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم)) (2/ 590). (¬3) ((الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لأبي جعفر محمد بن أحمد بن إسماعيل الصفار المشهور بأبي جعفر النحاس)) (3). (¬4) ((انظر: الموافقات للشاطبي)) (3/ 104، 105، 117). (¬5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 208).

المبحث الثاني عشر: رد التنازع إلى الكتاب والسنة

المبحث الثاني عشر: رد التنازع إلى الكتاب والسنة إن كل ما تنازعت واختلفت فيه الأمة من أصول الدين وفروعه، يجب رده إلى الكتاب والسنة؛ طلبا لرفع التنازع، ودفع الاختلاف ومعرفة الحق والصواب. لقد وقع الاختلاف والتنازع في الدين بين هذه الأمة، - أسوة بالأمم قبلها من اليهود والنصارى - في أصول الدين وفروعه، وذلك على ما أخبر به الوحي كما في قوله تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118 - 119] وقوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) (¬1)، وفي رواية: ((كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)) (¬2). والاختلاف المذكور في القرآن الكريم قسمان: من جهة مدحه أو ذمه، ومن جهة ذاته (¬3): أولا: من جهة مدحه أو ذمه، وهو نوعان: الأول: أنه تعالى يذم الطائفتين المختلفتين جميعا، كما في قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] الثاني: اختلاف حمد الله تعالى فيه إحدى الطائفتين، وذم الأخرى كما في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة: 253] فقوله: وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ حمد لإحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم للأخرى. والاختلاف الذي تذم فيه جميع الطوائف المتنازعة، يكون سببه: تارة، فساد النية؛ بسبب البغي والحسد؛ وإرادة العلو في الأرض بالفساد، ونحوه، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة: 213]. وتارة يكون بسبب جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعون فيه أو الجهل بدليله، أو دلالته. ثانيا: من جهة ذاته: وهو – أيضا – نوعان (¬4): الأول: اختلاف تنوع: وهو على وجوه: ¬

(¬1) ((تقدم تخريجه)) (36). (¬2) ((تقدم تخريجه)) (36). (¬3) ((انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية)) (1/ 126) وما بعدها. (¬4) ((انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية)) (1/ 128) وما بعدها ((شرح الطحاوية)) (516).

أ- أن يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كالاختلاف في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، فزجرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف وقال: ((كلاكما محسن)) (¬1). ومن ذلك – أيضا – الاختلاف في صفة الأذان والإقامة، والتشهدات وصلاة الخوف، إلى غير ذلك مما شرع جميعه، وقد يقال: إن بعض أنواعه أفضل من بعض. ب – أن يتفق القولان في المعنى والحكم، ويختلفان في اللفظ والعبارة، كالاختلاف في الحدود (التعريفات)، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك. ج – أن يكون المعنيان مختلفين، لكنهما لا يتنافيان، فهذا قول صحيح وهذا قول صحيح، كاختلاف الصحابة في صلاة العصر أثناء سيرهم إلى بني قريظة (¬2). د – ما يكون طريقتين مشروعتين، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، كلاهما محسن في الدين، ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما، أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا نية، وبلا علم. وهذا النوع من أنواع الاختلاف، يكون فيه كل واحد من المختلفين مصيبا، لكن الذم إنما يقع على من بغى على صاحبه، وظلمه. الثاني: اختلاف تضاد: وهو القولان المتنافيان، فالخطب فيه أشد؛ لتنافي القولين، وقد يكون مع أحد المتنازعين بعض الحق، أو دليل يقتضي حقا، فرد ذلك من الباطل؛ كالاختلاف بين المشبهة والمعطلة في الصفات، فمع المشبهة بعض الحق وهو أصل الإثبات، ومع المعطلة بعض الحق وهو أصل التنزيه والصواب والنجاة في ضم الحقين، والجمع بينهما. وهذا النوعان (التنوع والتضاد) إنما يكون المخرج منهما بالرد إلى الله ورسوله، فيظهر ما خفي من الدليل أو الدلالة، فيرتفع التنازع، ويندفع البغي، ويتبين وجه الحق والصواب، ثم يطالب المبطل بالإذعان والانقياد. فإن الرجل إذا تكلم بكلام؛ إما أن يكون كلامه ظاهر الصواب، موافقا للأدلة؛ فيقبل كلامه، أو أن يكون ظاهر البطلان مخالفا للأدلة؛ فيرد كلامه، أو أن يكون في كلامه إجمال؛ فيطالب بالتفسير والبيان، فيقبل ما وافق الحق، ويرد ما سواه، وكل هذا يتبين بالرد إلى الله ورسوله. قال شارح الطحاوية: (والأمور التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم ... ). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن- 1/ 287 ¬

(¬1) ((انظر: صحيح البخاري 5/ 70 "فتح الباري" كتاب الخصومات – باب ما يذكر في الأشخاص والخصومات بين المسلمين واليهود – حديث رقم: 2410)) ((مسند الإمام أحمد)) (1/ 412، 456). (¬2) ((أنظر: صحيح البخاري 2/ 436 "فتح الباري" كتاب الخوف – باب صلاة الغائب والمطلوب – حديث رقم: 946)) ((صحيح مسلم)) (3/ 1391) كتاب الجهاد والسير – باب المبادرة بالغزو – حديث رقم: 1770.

المبحث الثالث عشر: ظواهر النصوص مفهومة لدى المخاطبين

المبحث الثالث عشر: ظواهر النصوص مفهومة لدى المخاطبين كلام الله وكلام رسوله عربي مبين، وظاهره غاية في البيان، وهو مفهوم لدى المخاطبين من أهل اللسان العربي، ولاسيما ما يتعلق من ذلك بأصول الدين والإيمان، والتي كثر فيها خوض المتأخرين واختلافهم .... ، ومن المعلوم أن القرآن عربي، وأنزل على رسول عربي، وخوطبت به - أول الأمر- أمة عربية، وأن القرآن مقصود به الهداية والإرشاد، فلزم أن يكون بينا للأمة المخاطبة به، ولا يكون كذلك حتى تفهمه وتعقله، ولا يتم ذلك حتى يكون جاريا على معهودها في الخطاب، وعادتها في الكلام، وهكذا كان القرآن الكريم. وقد كانت سنة الله في خلقه أن يرسل كل رسول بلسان قومه حتى يحصل المقصود من الرسالة، فيكون الرسول مبينا في كلامه وبلاغه، ويكون المخاطب قادرا على الفهم، متمكنا من الإدراك، وبهذا تقوم الحجة وتنقطع المعذرة: بالبيان من الرسول والفهم من المرسل إليه، ولهذا قال موسى- في تعليل سؤاله الله أن يرسل معه أخاه هارون وزيرا -: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ [القصص: 34]. فلو أن الله تعالى خاطب أمة بغير لسانها، لما فهمت خطابه لها، ومن ثم لم تقم الحجة عليها بذلك الخطاب، وقد قال تعالى: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى: ( ... كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب الله جل ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب المرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأنزل إليه، فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة وبعده سواء، إذا لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا) (¬1). فمعاني كتاب الله تعالى موافقة لمعاني كلام العرب، كما أن ألفاظه موافقة لألفاظها، ولهذا كان لا يمكن لأحد أن يفهم كلام الله ورسوله إلا من هذه الجهة، جهة كونه عربيا: في ألفاظه وتراكيب تلك الألفاظ، عربيا في أساليبه ومعانيه، قال الشاطبي رحمه الله: (فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها: أصولا وفروعا، أمران: أحدهما: أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا، أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب، بالغا فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم، وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم، وجامعا كجمعهم، وإنما المراد أن يصير فهمه عربيا في الجملة ... ) (¬2). فلابد في فهم معاني نصوص الكتاب والسنة من مراعاة معهود العرب في خطابها، فلا يصح العدول عن عرفها في كلامها، كما لا يصح أن يفهم كلام الله ورسوله على نحو لا تعرفه العرب من لغتها وأسلوبها (¬3). وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (¬4) بعض معهود العرب في خطابها، وأنها تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا تريد به العام الظاهر، ومثاله من القرآن الكريم: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات: 13] فهذا يعم جميع الناس (¬5). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (1/ 7) (المقدمة). (¬2) ((الاعتصام)) (2/ 297). (¬3) ((الموافقات)) (2/ 82). (¬4) ((الرسالة)) (51) و ((تفسير الطبري)) (1/ 7) (المقدمة). (¬5) ((الرسالة)) (56).

وتخاطب بالشيء عاما ظاهرا تريد به العام ويدخله الخصوص، ومثاله من القرآن الكريم: قوله تعالى: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا [النساء: 75] فكل أهل القرية لم يكن ظالما، وإنما كان فيهم المسلم، لكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم (¬1). وتخاطب بالشيء عاما ظاهرا تريد به الخاص، مثاله: قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6] ودل القرآن على أن وقودها إنما هو بعض الناس، لا كلهم، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] (¬2). وتخاطب بالشيء ظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، مثاله: قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف: 82] والمراد: أهل القرية، وأهل العير (¬3). وكل هذا موجود العلم به في أول الكلام أو وسطه أو آخره، ثم قال الشافعي رحمه الله – بعد أن ذكر بعض تصرفات العرب في لسانها وفطرته في الكلام والبيان – قال: (فمن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب – إن وافقه من حيث لا يعرفه – غير محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور) (¬4) وذلك لأنه أتى البيت من غير بابه، ورام الوصول إلى الغاية من غير طريقها، ولهذا قال الحسن رحمه الله: (أهلكتهم العجمة؛ يتأولونه – أي القرآن - على غير تأويله) (¬5). .... والمقصود هنا بيان أن نصوص القرآن والسنة عربية في ألفاظها وأساليبها، ولا يفهمها إلا من كان عربيا في لسانه وفهمه، وكلما كان علمه بلسان العرب وأساليبها في الكلام أعمق كان فهمه للكتاب والسنة أرسخ. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن- 2/ 437 ¬

(¬1) ((الرسالة)) (54). (¬2) ((الرسالة)) (62). (¬3) ((الرسالة)) (84). (¬4) ((الرسالة)) (53). (¬5) رواه عنه البخاري في كتاب ((التاريخ الكبير)) (5/ 93) برقم: 259 – دار الكتب العلمية – بيروت (بدون رقم الطبعة وتاريخها).

المبحث الرابع عشر: الإيمان بالمتشابه والعمل بالمحكم

المبحث الرابع عشر: الإيمان بالمتشابه والعمل بالمحكم وصف الله تعالى القرآن بأنه كله محكم، وأنه كله متشابه، وفي موضع ثالث جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه. وعلى هذا فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه (¬1). أما الإحكام الذي يعمه فمذكور في مثل قوله تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هود: 1 قال قتادة رحمه الله: (أي جعلت محكمة كلها، لا خلل فيها ولا باطل) (¬2) وقال في موضع آخر: (أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بالحلال والحرام) (¬3) وقال مجاهد رحمه الله: (أحكمت جملة ثم بينت آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها) (¬4) وقال ابن كثير رحمه الله: (أي هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها فهو كامل: صورة ومعنى) (¬5). فالقرآن الكريم كله محكم بمعنى أنه متقن مصون من الباطل والفساد؛ صدق في أخباره، حق في أحكامه، عدل في وعده ووعيده، قال ابن تيمية رحمه الله: (فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره) (¬6). وأما التشابه الذي يعم القرآن فمذكور في مثل قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23] قال مجاهد رحمه الله: (يعني القرآن كله متشابه مثاني) (¬7) وقال قتادة رحمه الله: (الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف) (¬8) وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (مثاني: قال: القرآن يشبه بعضه بعضا، ويرد بعضه على بعض) (¬9) وقال سعيد بن جبير رحمه الله: (يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، ويدل بعضه على بعض) (¬10). ونحوه عن السدي (¬11). فالتشابه الذي يعم القرآن هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضا، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته – إذا لم يكن هناك نسخ – ومثله يقال في الأخبار: فإذا أخبر عن شيء لم يخبر عن نقيضه أو بنفيه في موضع آخر، بل يخبر عنه بما يصدقه ويؤكده، أو يفصله ويبينه كما في القصص مثلا. فهذا التشابه الذي يعم القرآن هو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82] ولهذا كان القول المضاد للقرآن موصوفا بالاختلاف والاضطراب كما قال تعالى في وصف قول المشركين إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 8 - 9]. وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام بل هو مصدق له فالكلام المتقن يصدق بعضه بعضا، ويشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والعدل (¬12). ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 59)، و ((تفسير القرطبي)) (4/ 10)، و ((تفسير البغوي)) (1/ 268). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (9/ 2). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (9/ 3). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (9/ 3). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 435) (طبعة دار إحياء الكتب العربية) وعزاه إلى مجاهد وقتادة. (¬6) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 60). (¬7) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 50) (طبعة دار إحياء الكتب العربية). (¬8) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 50) (طبعة دار إحياء الكتب العربية). (¬9) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 50) (طبعة دار إحياء الكتب العربية). (¬10) ((تفسير الطبري)) (23/ 135) (طبعة دار المعرفة – الطبعة الثانية 1392هـ - 1972م – بيروت). (¬11) ((تفسير الطبري)) (23/ 134) (طبعة دار المعرفة). (¬12) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 60).

أما الإحكام الخاص فإنه ضد التشابه الخاص، وهو المذكور في آية آل عمران (¬1). والتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو، أو هو مثله وليس كذلك. والإحكام الخاص هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون في القدر المشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما. ثم من الناس من لا يهتدي إلى الفصل بينهما، فيكون مشتبها عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا يتميز قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم (الراسخون فيه) ما يزيل عنه هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشاهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس مثله وإن كان مشابها له من بعض الوجوه (¬2). وقد يكون المتشابه من الأمور التي لا يعلمها أحد من العباد، بل استأثر الله بعلمها، كما استأثر الله بالعلم بالقدر المميز بين حقائق الدنيا وحقائق الآخرة، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن- 2/ 477 ¬

(¬1) وهي قوله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ * آل عمران: 7*. (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 61).

الفصل الثالث: لوازم منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة

المطلب الأول: ذكر إجماع الصحابة, والتابعين, وأهل السنة, وأصحاب الحديث, والفقهاء على نبذ التأويل أولا: إجماع الصحابة والتابعين: - ذكر ما قاله محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله: قال: (إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى، نقلها الخلف عن السلف: قرناً بعد قرن، من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا، على سبيل الصفات لله تعالى، والمعرفة والإيمان به، والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله، ونبيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابه، مع اجتناب التأويل، والجحود، وترك التمثيل والتكييف) (¬1). - ذكر ما قاله القاضي أبو يعلى رحمه الله: قال: (ويدل على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغاً لكانوا أسبق، لما فيه من إزالة التشبيه، ودفع الشبهة، بل قد روي عنهم ما دل على إبطاله ... ) ... - ذكر ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال: (إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها؛ وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد -إلى ساعتي هذه- عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات, أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاه المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله ... ) (¬2). - ذكر ما قاله الأوزاعي إمام الشام رحمه الله: قال: (كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا) (¬3). ثانيا: إجماع أهل السنة وأصحاب الحديث: - ذكر ما قاله أبو عيسى الترمذي رحمه الله: وذلك عقب روايته لحديث في فضل الصدقة، فيه ذكر صفة اليمين للرحمن جل ذكره، قال أبو عيسى: (وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا. قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمن بها، ولا يتوهم، ولا يقال كيف؟ هكذا روي عن مالك بن أنس, وسفيان بن عيينة, وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة ... ) (¬4). - ذكر ما قاله أبو عمر يوسف بن عبد البر رحمه الله: قال: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع, والجهمية, والمعتزلة كلها، والخوارج: فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة) (¬5). - ذكر ما قاله أبو عثمان الصابوني رحمه الله: ¬

(¬1) ذكره عنه ابن قدامة في ((ذم التأويل)) (ص: 18) برقم: 20. (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (6/ 394). (¬3) رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص: 408)، وصححه ابن القيم في ((اجتماع الجيوش)) (ص: 43)، وجود إسناده الحافظ في ((فتح الباري)) (13/ 406). (¬4) ((سنن الترمذي)) (3/ 24، 25) عقب حديث رقم: (662). (¬5) ((التمهيد)) لابن عبد البر (7/ 145).

قال: (إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة ... يعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له (جل جلاله) منها ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ... ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ... تحريف المعتزلة والجهمية ... وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف, والتكييف, والتشبيه ... ) (¬1). - ذكر ما قاله محيي السنة البغوي (رحمه الله): وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ [الأعراف: 54] قال رحمه الله: (أولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء, فأما أهل السنة يقولون: الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل) (¬2). ثالثا: إجماع الفقهاء وأئمة العلم: - ذكر ما قاله محمد بن الحسن – صاحب أبي حنيفة – رحمهما الله تعالى قال: (اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير, ولا وصف, ولا تشبيه، فمن فسر شيئاً من ذلك خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، لأنه وصفه بصفة لا شيء) (¬3). - ذكر ما قاله محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله: قال: (فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز, وتهامة, واليمن, والعراق, والشام, ومصر مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه؛ نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، وعز ربنا عن أن نشبهه بالمخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين، وعز أن يكون عدماً كما قاله المبطلون؛ لأنه ما لا صفة له، تعالى الله عما يقول الجهميون الذين ينكرون صفات خالقنا، الذي وصف الله بها نفسه في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم) (¬4) .... - ذكر ما قاله أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: قال: (روينا عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن سعيد، وسفيان ابن عيينة، ومعمر بن راشد، في الأحاديث في الصفات أنهم كلهم قال: أمروها كما جاءت) (¬5). - ذكر ما قاله أبو عبد الله محمد بن الخضر الجد الأعلى لابن تيمية رحمهما الله: قال: (أما الإتيان المنسوب إلى الله فلا يختلف قول أئمة السلف: كمكحول، والزهري، والأوزاعي، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، وأتباعهم أنه يمر كما جاء، وكذلك ما شاكل ذلك مما جاء في القرآن، أو وردت به السنة؛ كأحاديث النزول ونحوها، وهي طريقة السلامة، ومنهج أهل السنة والجماعة، يؤمنون بظاهرها ويكلون علمها إلى الله تعالى, ويعتقدون أن الله منزه عن سمات الحدث، على ذلك مضت الأئمة خلفاً بعد سلف) (¬6). - ذكر ما قاله ابن قدامة رحمه الله: قال: (ولا خلاف بين أهل النقل سنيهم وبدعيهم في أن مذهب السلف رضي الله عنهم في صفات الله سبحانه وتعالى الإقرار بها، والإمرار لها، والتسليم لقائلها، وترك التعرض لتفسيرها، بذلك جاءت الأخبار عنهم مجملة ومفصلة) (¬7) ثم ذكر طرفاً من ذلك. وقال في موضع آخر: (ومذهب السلف رحمة الله عليهم: الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله، أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها، ولا نقص منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ... ) (¬8). - ذكر ما قاله ابن كثير رحمه الله: وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ [الأعراف: 54]. قال رحمه الله: (فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف, ولا تشبيه, ولا تعطيل ... ) (¬9). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان بن علي بن حسن– 2/ 567 ¬

(¬1) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص: 3، 4) برقم: 3. (¬2) ((تفسير البغوي)) (2/ 196). (¬3) ((العلو)) الذهبي (ص: 90)، و ((ذم التأويل)) (ص: 14) برقم: 13، و ((شرح السنة)) اللالكائي (3/ 432) برقم: 740. (¬4) ((كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب)) عز وجل لابن خزيمة (ص: 10، 11)، راجعه: محمد خليل هراس – مكتبة الكليات الأزهرية – دار الشرق للطباعة 1387هـ - 1968م مصر (بدون رقم الطبعة). (¬5) ((جامع بيان العلم)) (2/ 118). (¬6) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (16/ 409). (¬7) ((تحريم النظر)) (ص: 10، 11). (¬8) ((ذم التأويل)) (ص: 11) برقم: 6. (¬9) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 422) (طبعة الشعب).

المطلب الثاني: أقوال بعض العلماء في التأويل

المطلب الثاني: أقوال بعض العلماء في التأويل - قال الأوزاعي رحمه الله: (كان الزهري ومكحول يقولان: أمروا هذه الأحاديث كما جاءت) (¬1). وقراءتها: تفسيرها، كما قال سفيان بن عيينة: (كل ما وصف الله به نفسه في القرآن، فقراءته تفسيره، لا كيف، ولا مثل) (¬2). - وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه، واليد، والنفس، فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته، لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفة بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته (تعالى) بلا كيف) (¬3). - وقال محمد بن الحسن رحمه الله في أحاديث الصفات كالنزول ونحوه: (إن هذه الأحاديث قد روتها الثقات، فنحن نرويها، ونؤمن بها، ولا نفسرها) (¬4). - وقال الوليد بن مسلم: (سألت مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث ابن سعد، والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت) (¬5). - وقال أبو محمد الجويني – والد إمام الحرمين رحمهما الله: (وأثبتنا علو ربنا سبحانه، وفوقيته، واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، والحق واضح في ذلك، والصدور تنشرح له، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة، مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره ... ) (¬6). - وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: (لا يجوز رد هذه الأخبار – على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة – ولا التشاغل بتأويلها – على ما ذهب إليه الأشعرية – والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله تعالى، لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن شيخنا وإمامنا أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، وغيره من أئمة أصحاب الحديث) (¬7). ¬

(¬1) رواه ابن قدامة في ((ذم التأويل)) (ص: 18) برقم: 21، وقال محققه (البدر): (إسناده حسن) واللالكائي في ((شرح أصول السنة)) (3/ 430، 431) برقم: 735 وذكر الترمذي نحوه عن مالك وابن عيينة وابن المبارك رحمهم الله ((سنن الترمذي)) (3/ 24) عقب الحديث رقم: (662). وانظر: ((جامع بيان العلم)) (2/ 118). (¬2) رواه الدارقطني في كتاب ((الصفات)) (ص: 41) برقم: 61، وابن قدامة في ((ذم التأويل)) (ص: 19)، ونحوه عند البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص: 409) وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 407). (¬3) كتاب ((الفقه الأكبر)) (ص: 185) – دار الكتب العربية الكبرى – مصر (بدون رقم الطبعة وتاريخها). (¬4) ((ذم التأويل)) (ص: 14) وشرح أصول السنة – اللالكائي – (3/ 433) برقم: 741، و ((العلو للذهبي)) (ص: 89، 90). (¬5) ((الشريعة)) للآجري (ص: 314) و ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص: 453)، و ((الاعتقاد والهداية إلى سبل الرشاد)) للبيهقي (ص: 118) برقم: 295 تقديم: أحمد عصام الكاتب – دار الآفاق الجديدة – الطبعة الأولى 1401هـ - 1981م – بيروت، و ((الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء)) .... لأبي عمر بن عبد البر (ص: 36) مكتبة القدس – مطبعة المعاهد 1350هـ مصر (بدون رقم الطبعة) و ((ذم التأويل)) (ص: 20)، قال محققه (البدر): (إسناده حسن) هامش رقم: 58. (¬6) ((رسالة في إثبات الاستواء والفوقية)) ... لأبي محمد الجويني (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) (1/ 181). (¬7) كتاب ((إبطال التأويلات)) (ص: 4) (مخطوط).

- وقال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: (أما الكلام في الصفات، فإن ما روي عنها في السنن الصحاح، مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها ... ولا نقول: معنى اليد: القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر: العلم، ولا أن نقول إنها جوارح ... ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] و َلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان بن علي بن حسن– 2/ 572 قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح الواسطية: وأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف، يعني: تغيير اللفظ أو المعنى. وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلاً, ويسمون أنفسهم بأهل التأويل، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول، لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف، لأنه ليس عليه دليل صحيح، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا: تحريفاً! ولو قالوا: هذا تحريف، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم. ولهذا عبر المؤلف - يعني ابن تيمية - رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيراً ممن يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة: الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن، فإن الله تعالى قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [النساء: 46]، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره، لأنه أدل على المعنى. الوجه الثاني: أنه أدل على الحال، وأقرب إلى العدل، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولاً، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفاً. الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، يجب البعد عنه والتنفير منه، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيراً من التأويل، لأن التحريف لا يقبله أحد، لكن التأويل لين، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه، إذا كان كذلك، فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل. الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)) (¬1)، وقال الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7]، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل. والتأويل ليس كله مذموماً، لأن التأويل له معان متعددة، يكون بمعنى التفسير, ويكون بمعنى العاقبة والمآل، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره. (أ) يكون بمعنى التفسير، كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى. وسمي التفسير تأويلاً، لأننا أوّلنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه المراد به. (ب) تأويل بمعنى: عاقبة الشيء، وهذا إن ورد في طلب، فتأويله فعله إن كان أمراً وتركه إن كان نهياً، وإن ورد في خبر، فتأويله وقوعه. مثاله في الخبر قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53]، فالمعنى: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومآل ما أخبروا به، يوم يأتي ذلك المخبر به، يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق. ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 266) (2397)، والطبراني (10/ 263)، والحاكم (3/ 615). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2589): صحيح.

ومنه قول يوسف لما خرَّ له أبواه وإخوته سجداً قال: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [يوسف: 100]: هذا وقوع رؤياي، لأنه قال ذلك بعد أن سجدوا له. ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1]، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)) (¬1). أي: يعمل به. (جـ) المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره, وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل، فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير، وإن لم يدل عليه دليل، فهو مذموم، ويكون من باب التحريف، وليس من باب التأويل. وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل. مثاله قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، فإذا قال قائل: معنى (اسْتَوَى): استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة، لأنه ما دل عليه دليل، بل الدليل على خلافه، كما سيأتي إن شاء الله. فأما قوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1]، فمعنى: أَتَى أَمْرُ اللهِ، أي: سيأتي أمر الله، فهذا مخالف لظاهر اللفظ لكن عليه دليل وهو قوله: فَلا تَسْتَعْجِلُوه. وكذلك قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]، أي: إذا أردت أن تقرأ، وليس المعنى: إذا أكملت القراءة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأننا علمنا من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرد أن يقرأ، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، لا إذا أكمل القراءة، فالتأويل صحيح. وكذلك قول أنس بن مالك: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء، قال: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)) (¬2)، فمعنى (إذا دخل): إذا أراد أن يدخل، لأن ذكر الله لا يليق داخل هذا المكان، فلهذا حملنا قوله: (إذا دخل) على إذا أراد أن يدخل: هذا التأويل الذي دل عليه صحيح، ولا يعدو أن يكون تفسيراً. ولذلك قلنا: إن التعبير بالتحريف عن التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح أولى، لأنه الذي جاء به القرآن، ولأنه ألصق بطريق المحرف، ولأنه أشد تنفيراً عن هذه الطريقة المخالفة لطريق السلف، ولأن التحريف كله مذموم، بخلاف التأويل، فإن منه ما يكون مذموماً ومحموداً، فيكون التعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل من أربعة أوجه. شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/ 87 (ينظر الفصل الخامس، من الباب الثالث، في الكتاب الثاني من الموسوعة) ¬

(¬1) رواه البخاري (817)، ومسلم (484). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري (142)، ومسلم (375). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

المبحث الثاني: موقف أهل السنة والجماعة من التعطيل

المبحث الثاني: موقف أهل السنة والجماعة من التعطيل التعطيل بمعنى التخلية والترك، كقوله تعالى: وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ [الحج: 45]، أي: مخلاة متروكة. والمراد بالتعطيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواء كان كلياً أو جزئياً، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود، هذا كله يسمى تعطيلاً. فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو أي صفة من صفات الله, ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً. فإن قلت: ما الفرق بين التعطيل والتحريف؟ قلنا: التحريف في الدليل, والتعطيل في المدلول، فمثلاً: إذا قال قائل: معنى قوله تعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان [المائدة: 64]، أي بل قوتاه هذا محرف للدليل، ومعطل للمراد الصحيح، لأن المراد اليد الحقيقية، فقد عطل المعنى المراد، وأثبت معنى غير المراد. وإذا قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان، لا أدري! أفوض الأمر إلى الله، لا أثبت اليد الحقيقية، ولا اليد المحرف إليها اللفظ. نقول: هذا معطل، وليس بمحرف، لأنه لم يغير معنى اللفظ، ولم يفسره بغير مراده، لكن عطل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل. أهل السنة والجماعة يتبرءون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد. والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: بَلْ يَدَاهُ، أي: يداه الحقيقيتان مَبْسُوطَتَان، وهما غير القوة والنعمة. فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل. شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/ 91 (ينظر الفصل الخامس، من الباب الثالث، في الكتاب الثاني من الموسوعة)

المبحث الثالث: موقف أهل السنة والجماعة من التكييف

المبحث الثالث: موقف أهل السنة والجماعة من التكييف لفظة (تكييف): لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ورد ما يدل على النهي عنها. التكييف: هو أن تذكر كيفية الصفة، ولهذا تقول: كيَّف يكيِّف تكييفاً، أي ذكر كيفية الصفة. التكييف يسأل عنه بـ (كيف)، فإذا قلت مثلاً: كيف جاء زيد؟ تقول: راكباً. إذاً: كيف مجيئه. كيف لون السيارة؟ أبيض. فذكرت اللون. أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله، مستندين في ذلك إلى الدليل السمعي والدليل العقلي: أما الدليل السمعي، فمثل قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]، والشاهد في قوله: وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش، على هذه الكيفية ووصف كيفية معينة: نقول: هذا قد قال على الله مالا يعلم! هل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟! لا، أخبرنا الله بأنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى. فنقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم. ولهذا قال بعض السلف إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء، فكيف ينزل؟ فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل. وهذه قاعدة مفيدة. دليل آخر من السمع: قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]، لا تتبع ما ليس لك به علم، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً. وأما الدليل العقلي، فكيفية الشيء لا تدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة: مشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه أي: إما أن تكون شاهدته أنت وعرفت كيفيته. أو شاهدت نظيره، كما لو قال واحد: إن فلاناً اشترى سيارة داتسون موديل ثمان وثمانين رقم ألفين. فتعرف كيفيتها، لأن عندك مثلها أو خبر صادق عنه، أتاك رجل صادق وقال: إن سيارة فلان صفتها كذا وكذا ... ووصفها تماماً، فتدرك الكيفية الآن. ولهذا أيضاً قال بعض العلماء جواباً لطيفاً: إن معنى قولنا: (بدون تكييف): ليس معناه ألا نعتقد لها كيفية، بل نعتقد لها كيفية لكن المنفي علمنا بالكيفية لأن استواء الله على العرش لا شك أن له كيفية، لكن لا تعلم، نزوله إلى السماء الدنيا له كيفية، لكن لا تعلم، لأن ما من موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة.

سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]: كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء غير مجهول)، أي: من حيث المعنى معلوم، لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها (اسْتَوَى) معداة بـ (على) معناها العلو فقال: (الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول) لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية، وجب الكف عنها، (والإيمان به واجب)، لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، (والسؤال عنه بدعة) (¬1): السؤال عن الكيفية بدعة، لأن من هم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]، عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لن تدرك ذلك, فنحن إذا سئلنا، فنقول: هذا السؤال بدعة. وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به, واجب والسؤال عنه بدعة والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل؟! فنقول: السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو لم يعلمهم. فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع. والإمام مالك رحمه الله قال: (ما أراك إلا مبتدعاً) ثم أمر به فأخرج، لأن السلف يكرهون أهل البدع, وكلامهم, واعتراضاتهم, وتقديراتهم, ومجادلاتهم. فأنت يا أخي عليك في هذا الباب بالتسليم، فمن تمام الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه، لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب، انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا، فلذلك قل: سمعنا, وأطعنا, وآمنا وصدقنا، آمنا وصدقنا بالخبر, وأطعنا الطلب, وسمعنا القول، حتى تسلم! وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سأل عنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفاً: السؤال عن هذا بدعة. وإذا قلت ذلك، لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل: يا مبتدع! السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل, وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة، فهذا لا نقبله منك أبداً! وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف. (¬2) وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين: أولاً: أنهم قالوا: (أمروها كما جاءت) ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثاً، فإذا أمررناها كما جاءت، لزم من ذلك أن نثبت لها معنى. ثانياً: قوله: (بلا كيف) لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى، لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث. إذاً، فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى. شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/ 97 ¬

(¬1) رواه البيهقي في ((الاعتقاد)) (ص 116)، والذهبي في ((العلو)) (595). وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص75): صحيح. (¬2) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/ 527) (930)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (3/ 2). كلاهما عن الوليد بن مسلم.

المبحث الرابع: موقف أهل السنة والجماعة من التمثيل

المبحث الرابع: موقف أهل السنة والجماعة من التمثيل التمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق، لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلاً، لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا. فإن قرنت بمماثل، صار تمثيلاً، مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم، لأني ذكرت شيئاً مماثلاً لشيء, وعرفت هذا القلم بذكر مماثلة. وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا ... وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبداً، ولهم على ذلك أدلة سمعية وأدلة عقلية: أ- الأدلة السمعية: تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب. - فمن الخبر قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر، لأنه استفهام بمعنى النفي وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية. - وأما الطلب، فقال الله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22] أي: نظراء مماثلين. وقال: فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ [النحل: 74]. فمن مثَّل الله بخلقه، فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثَّل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: من شبه الله بخلقه، فقد كفر (¬1)، لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب. وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق: فمن وجوه: أولاً: أن نقول لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافياً، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان. ثانياً: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل. وأنزل الله قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1]، تقول عائشة: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات (¬2) ... والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا. ثالثاً: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة: 255]، وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ [الزمر: 67]، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فإذا كان مبايناً للخلق في ذاته، فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضاً مبايناً للخلق في صفاته عز وجل، ولا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق. ¬

(¬1) رواه الذهبي في ((العلو)) (464)، وصححه الألباني في ((مختصر العلو)) (ص75). (¬2) رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم عن عائشة رضي الله عنها، بعد حديث (7385)، ورواه النسائي (6/ 186) وابن ماجه (188) وأحمد (6/ 46) (2421)، قال ابن عساكر في معجم الشيوخ (1/ 163) وابن حجر في التغليق (5/ 339) والألباني في صحيح ابن ماجه: صحيح.

رابعاً: نقول: إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، يختلف الناس في صفاتهم: هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى .... وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس؟ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أو لي يداً كيد الذرة، أو لي يداً كيد الهر، فعندنا الآن إنسان, وجمل, وذرة, وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول: إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزاً فقط بل هو واجب؛ فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال. ربما نقول أيضاً هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة؛ ما ذهب يدعو الخالق. فتبين الآن أن التمثيل منتفٍ سمعاً, وعقلاً, وفطرة. فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بأحاديث تشتبه علينا؛ هل هي تمثيل أو غير تمثيل؟ ونحن نضعها بين أيديكم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) (¬1)؛ فقال: (كما) والكاف للتشبيه، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله؛ فأجيبوا عن هذا الحديث؟ نقول نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين: الجواب الأول مجمل والثاني مفصل. فالأول المجمل: أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبداً؛ لأن الكل حق، والحق لا يتعارض, والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض) وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]؛ فإن وقع ما يوهم التعارض في همك؛ فاعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك؛ فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة؛ فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت؛ لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية؛ بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق؛ كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه. ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم؛ لأن هذه الطريق طريق الراسخين في العلم؛ قال الله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7]، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكماً. وأما الجواب المفصل؛ فإنا نجيب عن كل نص بعينه فنقول: ¬

(¬1) رواه البخاري (554)، ومسلم (633). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة - يعنى البدر- فقال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)). ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب [ق: 39].

إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته))؛ ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية؛ ((سترون .. كما ترون))؛ الكاف في: ((كما ترون)): داخلة على مصدر مؤول؛ لأن (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية, لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله: ((لا تضامون في رؤيته)) أو: ((لا تضارون في رؤيته)) فزال الإشكال الآن. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خلق آدم على صورته)) (¬1) والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات؛ فالصورة مطابقة للصورة، والقائل: ((إن الله خلق آدم على صورته)): الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق. والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، فإن يسر الله لك الجمع؛ فاجمع، وإن لم يتيسر؛ فقل: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له؛ بهذا تسلم أمام الله عز وجل. هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً؛ لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ؛ فأقول: هذا نفي للمماثلة، وهذا إثبات للصورة؛ فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته؛ فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله, والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع. وأما الجواب المفصّل؛ فنقول: إن الذي قال: ((إن الله خلق آدم على صورته)) رسول الذي قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] والرسول لا يمكن أن ينطق بما يكذب المرسل والذي قال: ((خلق آدم على صورته)) هو الذي قال: ((إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر)) (¬2) فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه, أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة, والحسن, والجمال, واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟! فإن قلت بالأول؛ فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين, وليس لهم آناف, وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه. فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل. قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه؛ فقوله: ((على صورته))؛ مثل قوله عز وجل في آدم: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي [الحجر: 29]، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف؛ كما نقول: عباد الله؛ يشمل الكافر, والمسلم, والمؤمن, والشهيد, والصديق, والنبي, لكننا لو قلنا: محمد عبد الله؛ هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة. ¬

(¬1) رواه البخاري (6227)، ومسلم (2612) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (3327)، ومسلم (2834). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فقوله: ((خلق آدم على صورته))؛ يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها؛ كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [الأعراف: 11]، والمصور آدم إذاً؛ فآدم عل صورة الله؛ يعني: أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]؛ فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف؛ كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك؛ لا تضرب الوجه؛ فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك؛ فتعيبه معنىً؛ فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً؛ لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي. ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير؟ نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله؛ لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله, وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه؛ فهو من المخلوقات؛ فحينئذ يزول الإشكال. ولكن إذا قال قائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية, وإمكاناً في العقل؛ فالواجب حمل الكلام عليه, ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره. فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها؟ قلنا: إن الله عز وجل له وجه, وله عين, وله يد, وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان؛ فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة؛ كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة؛ من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. نسمع كثيراً من الكتب التي نقرأها يقولون: تشبيه؛ يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل؛ فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟ نقول بالتمثيل أولى. أولاً: لأن القرآن عبر به: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22] ... وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن؛ فهو أولى من غيره؛ لأننا لا نجد أفصح من القرآن, ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل. وهكذا في كل مكان؛ فإن موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب. ثانياً: أن التشبيه عند بعض الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة؛ فإذا قلنا: من غير تشبيه وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات؛ صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً, فلهذا كان العدول عنه أولى. ثالثاً: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح؛ لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً؛ لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما. مثلاً: الوجود؛ يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك نوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين؛ وجود الخالق واجب, ووجود المخلوق ممكن. وكذلك السمع؛ فيه اشتراك؛ الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن أصل وجود السمع مشترك. فإذا قلنا: من غير تشبيه ونفينا مطلق التشبيه؛ صار في هذا إشكال. وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه فإن قلت: ما الفرق بينهما من وجهين. الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل؛ فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذكر الصفة غير مقيدة بمماثل؛ مثل أن تقول: كيفية يد فلان كذا وكذا. وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس. الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك كما في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12]؛ أي: في العدد شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/ 102 (ينظر الفصل الخامس، من الباب الثالث، في الكتاب الثاني من الموسوعة)

المبحث الخامس: موقف أهل السنة والجماعة من التفويض

المطلب الأول: حقيقة مذهب أصحاب التفويض هم طائفة من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف، تعارض عندهم المعقول والمنقول فأعرضوا عنهما جميعاً، بقلوبهم وعقولهم، بعد أن هالهم ما عليه أصحاب التأويل من تحريف للنصوص، وجناية على الدين، فقالوا في أسماء الله وصفاته، وما جاء في ذكر الجنة والنار، والوعد والوعيد، إنها نصوص متشابهة، لا يعلم معناها إلا الله تعالى وجعلوا الوقف في آية آل عمران عند لفظ الجلالة (¬1). وهم طائفتان من حيث إثبات ظواهر النصوص ونفيها (¬2): الأولى: تقول: المراد بهذه النصوص خلاف مدلولها الظاهر، ولا يعرف أحد من الأنبياء, ولا الملائكة, ولا الصحابة، ولا أحد من الأمة ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة. الثانية: تقول: بل تجرى على ظاهرها، وتحمل عليه، ومع هذا، فلا يعلم تأويلها إلا الله تعالى فتناقضوا: حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وقالوا -مع هذا-: إنها تحمل على ظاهرها. وهم –أيضاً- طائفتان من حيث علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاني النصوص وعدمه: (¬3) الأولى: تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم معاني هذه النصوص المتشابهة، لكنه لم يبين للناس المراد منها، ولا أوضحه إيضاحاً يقطع النزاع، وهذا هو المشهور بينهم. الثانية: تقول: -وهم الأكابر منهم-: إن معاني هذه النصوص المتشابهة لا يعلمه إلا الله، لا الرسول, ولا جبريل, ولا أحد من الصحابة, والتابعين, وعلماء الأمة. وعند الطائفتين، أن هذه النصوص إنما أنزلت للابتلاء، والمقصود منها تحصيل الثواب بتلاوتها وقراءتها من غير فقه ولا فهم (¬4). فأصحاب التفويض بنوا مذهبهم على أصلين: الأول: أن هذه النصوص – نصوص الصفات, والقدر, والوعد, والوعيد, والمعاد – من المتشابه، و ... دحض هذه الدعوى، ... أنه لا يعلم أحد من السلف جعل شيئاً من هذه النصوص من المتشابه الذي لا يعلم معناه أحد من الناس. الثاني: أن المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى, واستدلوا على ذلك بالوقف على لفظ الجلالة في آية آل عمران، والوقف صحيح، وهو قول جمهور العلماء، لكن لم يقل واحد منهم إن معاني هذه النصوص وغيرها لا يعلمه إلا الله: لا الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا أحد من الأمة. فهم لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره, والذي يعلمه الرسول والراسخون في العلم، وبين التأويل الذي اختص الله بعلمه، من العلم بوقت الساعة, وحقائق الأسماء والصفات، ومسائل اليوم الآخر ونحو ذلك، ومع ذلك فنحن نفهم ما خوطبنا به من هذه المسائل من جهة المعنى، وإن كنا نجهلها: كيفية وقدراً ... الفرق بين التفويض والإثبات: تباين السلف وأصحاب التفويض في مسائل أهمها: الأولى: أن السلف أثبتوا اللفظ وما دل عليه من المعاني، مع فهمهم المعنى المراد من حيث الوضع اللغوي، ومن حيث معرفة مراد المتكلم، فيعلمون معنى السمع والبصر، والوجه واليدين، والصراط والميزان، ونحو ذلك. أما أصحاب التفويض فهم وإن كانوا قد أثبتوا اللفظ، وفهموه من حيث وضع اللغة؛ لكنهم توقفوا في تعيين المراد به في حق الله تعالى, بل يمنعون أن يكون ظاهره مراداً. الثانية: السلف فوضوا العلم بالكيفية دون العلم بالمعنى؛ فيعلمون معنى السمع والبصر, والوجه, واليدين، ويعلمون معاني ما أخبر الله به من مسائل اليوم الآخر من أنواع النعيم, وصنوف العذاب، ولكنهم يجهلون كيفية ذلك وحقيقته التي هو عليها. أما أصحاب التفويض فقد فوضوا العلم بالكيفية والمعنى جميعاً، فلا يعلمون معاني نصوص الصفات، ولا معاني نصوص المعاد، بل يقولون: لا ندري ما أراد الله بها. الثالثة: أصحاب التفويض وافقوا السلف – أو كثيراً منهم – في الوقف على لفظ الجلالة، لكنهم خالفوهم في جعلهم التأويل المنفي في الآية هو تفسير اللفظ ومعرفة معناه، أو هو التأويل بالاصطلاح الحادث عند المتأخرين (¬5). والسلف يقولون: التأويل المنفي هو الحقيقة التي يؤول إليها الأمر, وهو غالب استعمال القرآن، كما مر. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان بن علي بن حسن– 2/ 581 ¬

(¬1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 15)، و ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 66، 67، 5/ 34 - 35، 4/ 67 - 68)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: 531)، وانظر: ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 222) وما بعدها. (¬2) انظر: ((درء تعارض العقل)) (1/ 16)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: 531). (¬3) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 204). (¬4) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (16/ 442)، و ((أساس التقديس)) للرازي (ص: 216). (¬5) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (17/ 35).

المطلب الثاني: الأدلة على بطلان مذهب التفويض

المطلب الثاني: الأدلة على بطلان مذهب التفويض - تواتر الآيات والأحاديث على إثبات صفة معينة وذلك بأساليب متعددة، ودلالات متعاضدة، يؤكد أن هذا الظاهر هو المطلوب فهمه، فصرف العقول والقلوب عن إدراك هذا المعنى – والذي احتشدت النصوص لتأكيده – هو غاية في الاستبلاه. - لقد فسر أئمة السلف كثيراً من آيات الصفات كقولهم في الاستواء إنه: العلو, والاستقرار, والارتفاع (¬1)، مما يدل على أنهم فهموا معناها. - قول عبد الله بن المبارك وقد سئل: كيف نعرف ربنا؟ فقال: (نعرف ربنا: فوق سبع سموات على العرش استوى، بائن من خلقه)، وفي رواية، قال: (على السماء السابعة على عرشه) (¬2) وهذا الذي قاله هو مقتضى النصوص، وهو الذي فهمه منها. - تفريق السلف بين إدراك المعنى وإدراك الكيف: وقد تقدم كلام الإمام مالك رحمه الله في ذلك، وقال الذهبي عقب كلام مالك رحمه الله: (وهو قول أهل السنة قاطبة: أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به) (¬3). - يلزم من مذهب التفويض لوازم باطلة، منها: أ- القدح في الرب جل وعلا, وفي القرآن الكريم, وفي الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بأن يكون الله تعالى أنزل كلاماً لا يفهم، وأمر بتدبر ما لا يتدبر، وبعقل مالا يعقل، وأن يكون القرآن الذي هو النور المبين والذكر الكريم سبباً لأنواع الاختلافات والضلالات، بل يكون بينهم وكأنه بغير لغتهم، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ البلاغ المبين، ولا بين للناس ما نزل إليهم، وبهذا تكون قد فسدت الرسالة، وبطلت الحجة، وهو الذي لم يتجرأ عليه صناديد الكفر (¬4). ب- أن يتسلط المتأولة على المفوضة فينسبون هذه الطريقة إلى السلف، فيكون السلف من الصحابة وخيار التابعين بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، شغلهم الجهاد وفتح البلاد عن التدبر في كلام الله تعالى وعقله وفهمه، فقال المتأخرون قولتهم المشئومة: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، بل طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، وما أمتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها وضبط قواعدها، وشد معاقدها، وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء فالمتأخرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدراً (¬5). ج- استطالة نفاة المعاد – وغيرهم من الملاحدة – على المفوضة فيقول الواحد منهم: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة ومتشابهة لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم معناه لا يجوز الاستدلال به، فيبقى هذا المذهب (التفويض) سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم من أهل الضلالات من الفلاسفة, والملاحدة الباطنية، وأصحاب الأذواق والمواجيد والتأويلات الشنيعة (¬6). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان بن علي بن حسن -بتصرف – 2/ 593 (ينظر الفصل الخامس، من الباب الثالث، في الكتاب الثاني من الموسوعة) ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) (1/ 191، 192)، و ((تفسير البغوي)) (2/ 196). (¬2) رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص: 427)، وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (ص: 7 - 35 - 72) والدارمي في ((الرد على المريسي)) (ص: 24)، والذهبي في ((العلو)) وصححه. انظر: ((مختصر العلو)) (ص: 151) برقم: 150 وابن القيم في ((الجيوش الإسلامية)) (ص: 44) وصححه، وفي (ص: 84) وقال: (وقد صح عنه صحة قريبة من التواتر .... ) ثم ذكر الحديث. وصححه الألباني في ((مختصر العلو)) (ص: 151). (¬3) ((العلو)) للذهبي (ص: 82). (¬4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 204). (¬5) انظر: ((شرح الطحاوية)) (ص: 12). (¬6) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 202، 205).

المبحث السادس: موقف أهل السنة والجماعة من المنطق الأرسطي

المطلب الأول: التعريف بالمنطق الأرسطي يزعم أصحاب المنطق أن المنطق نوعان: ظاهر وباطن، والظاهر هو الألفاظ والكلام، وتقويمه إنما يكون بالنحو في النثر، وبالعروض في الشعر، وأما الباطن فهو عمل العقل، وفكره، وتقويمه إنما يكون بالمنطق الاصطلاحي (¬1): والمشهور عندهم أنه: (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، أو أن يزل في تفكيره) (¬2) منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن - 2/ 599 ¬

(¬1) ((حاشية الجرجاني على تحرير القواعد المنطقية لمحمود بن محمد الرازي)) (180) و ((المنطق المنظم في شرح الملوي على السلم لعبد المتعال الصعيدي)) (11) و ((المنطق والفكر الإنساني لعبد السلام محمد عبده)) (5). (¬2) ((تحرير القواعد المنطقية لمحمود بن محمد الرازي على شرح الرسالة الشمسية لعمر بن علي القزويني – المعروف بالكاتبي)) (16) و ((التعريفات للجرجاني)) (121) و ((الرد على المنطقيين)) (7).

المطلب الثاني: أسباب رفض المسلمين المنطق الأرسطي

تمهيد: قد يظن البعض أن المسلمين رفضوا المنطق الأرسطي لمجرد اشتغال الأمم الكافرة به، وهذا ظن خاطئ لأنه يستلزم أن يرفض المسلمون كل ما أتى من غيرهم من علوم صحيحة كالطب, والحساب, والهندسة ونحوها. وإنما رفض المسلمون المنطق الأرسطي لأسباب شرعية وعقلية منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن - 2/ 611

المسألة الأولى: الأسباب الشرعية لرفض المنطق الأرسطي

المسألة الأولى: الأسباب الشرعية لرفض المنطق الأرسطي 1 - أنه لم يؤثر عن الصدر الأول من الصحابة والتابعين التكلم بالمنطق؛ إما لكونه لم يكن موجوداً في زمانهم، أو كان موجوداً ثم أعرضوا عنه (¬1) وشريعة الإسلام ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلاً (¬2)، وإن كان طريقاً صحيحاً، فكيف إذا كان فاسداً أو متضمناً للفساد، بل الكفر والإلحاد. 2 - أن المنطق نشأ في بيئة فلسفية، كان أصحابها أهل شرك وإلحاد، بل ما عند مشركي العرب من الكفر والشرك خير مما عند الفلاسفة (¬3). قال ابن تيمية في الفلاسفة: (وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس؛ ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة) (¬4). ولهذا كان أبو القاسم السهلي وغيره يقول: (نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي) (¬5). فلم يأخذ المسلمون بالمنطق الأرسطي لملابسته العلوم الفلسفية المباينة للعقائد الصحيحة (¬6). 3 - خشية اغترار بعض المسلمين بالمنطق لما يرى من صدق قضاياه، فيظن أنها كلها صادقة، وأن ما يتعلق منها بالعقائد مبرهن بمثل تلك البراهين، يقول الغزالي - في معرض نقده للمنطق في أواخر كتبه - (¬7): (وربما ينظر في المنطق – أيضاً – من يستحسنه ويراه واضحاً فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك البراهين، فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية) ويشير ابن تيمية إلى هذا المعنى في أول كتابه: الرد على المنطقيين (¬8)، فيقول: (كنت أحسب أن قضاياه – أي المنطق – صادقة لما رأيت من صدق كثير منها, ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه ... وتبين لي أن كثيراً مما ذكروه في أصولهم في الإلهيات وفي المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات). 4 - قصور البرهان الفلسفي عن الوصول بالإنسان إلى اليقين، وذلك عند تطبيقه في الإلهيات؛ يقول الغزالي: (لهم نوع من الظلم في هذا العلم، وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل) (¬9). 5 - ما يسببه المنطق الأرسطي من التفرق والاختلاف والتنابذ، ومازال أهله والمشتغلون به على هذه الحال، بل لا تكاد تجد اثنين منهم يتفقان على مسألة، حتى التي يسمونها بديهيات أو يقينيات (¬10). وقد مر قول من قال: (فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها) (¬11). 6 - ما يلزم منه من لوازم فاسدة، تناقض العلم والإيمان, وتفضي إلى أنواع من الجهل, والكفر, والضلال (¬12) ... ومن ذلك: أ- القول بقدم العالم، وذلك لأن الإله لا يسبق العالم في الوجود الزمني، وإن كان يسبقه في الوجود الفكري، مثلما تسبق المقدمة النتيجة في الوجود الفكري (¬13). وهذا مما أنكره الغزالي على الفلاسفة وكفرهم به في كتابه: (تهافت الفلاسفة) (¬14). ¬

(¬1) ((صون المنطق)) (14) و ((فتاوى ابن الصلاح)) (35). (¬2) ((الرد على المنطقيين)) (258). (¬3) ((الرد على المنطقيين)) (101، 535) وما بعدها. (¬4) ((الرد على المنطقيين)) (200). (¬5) ((الرد على المنطقيين)) (482). (¬6) ((مقدمة ابن خلدون)) (483) و ((مناهج البحث للنشار)) ص: ط (التصدير)، و (ص: 87). (¬7) ((المنقذ من الضلال)) (94). (¬8) ((الرد على المنطقيين)) (3). (¬9) ((المنقذ من الضلال)) (93). (¬10) ((الرد على المنطقيين)) (334) وما بعدها. (¬11) ((صون المنطق)) (9). (¬12) ((الرد على المنطقيين)) (198). (¬13) انظر: ((الغزو الفكري في المناهج الدراسية)) للأستاذ علي لبن (ص: 32) – دار الوفاء الطبعة الأولى 1407هـ-1987م – مصر. (¬14) انظر: (ص: 88) وما بعدها تحقيق: د/ سلميان دنيا دار المعارف الطبعة الرابعة 1385هـ-1966م – مصر.

ومن فساد هذا المذهب ما يلزمه من تضمن المخلوقات في الخالق منذ البداية، كتضمن النتيجة في المقدمة منذ البداية، فيكون الخالق مخلوقاً، والمخلوق خالقاً، والصانع مصنوعاً، والمصنوع صانعاً، والعلة معلولاً، والمعلول علة ... إلى غير ذلك من التناقضات (¬1). ب- إنكار الصفات الثبوتية لله تعالى، بل يصفونه بالسلوب المحض، أو بما لا يتضمن إلا السلب، ولهذا قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؛ لأنه لو صدر عنه اثنان لكان ذلك مخالفاً للوحدة، وبهذا نفوا أن يكون الله فاعلاً مختاراً، فنفوا الصفات عن الله تعالى هروباً من تشبيهه بالنفوس الفلكية أو الإنسانية، ثم شبهوه بالجمادات (¬2). ج- إنكار علم الله تعالى بالجزئيات، وهذا هو المشهور عنهم وهو مما أنكره الغزالي -أيضاً- في كتابه: (التهافت) وغيره (¬3)، فالله تعالى عندهم يعلم الأمور الكلية دون أفرادها وجزئياتها، وذلك لأن هذه الجزئيات في تغير وتجدد، فلو تعلق علم الله تعالى بها للزمه التغير والتجدد بتغير المعلوم وتجدده، فيلزم من ذلك التغير في ذات الله تعالى، وهو الواحد الأحد (¬4). وهذا تكذيب صريح للقرآن الكريم وصحيح العقل، وفيه فتح لباب الفساد في العالم، والخروج على الشريعة جملة وتفصيلاً، وأعظم منه إساءة الظن برب العالمين. د- إنكار النبوات: لما رأى الفلاسفة اشتراك النفوس في كثير من الأحوال عادة، جعلوا ذلك أمراً عاماً وكلياً وملزماً لكل النفوس، ورأوا لبعض النفوس قوة حدسية، وتأثيرا في بعض الأمور، وأمورا متخيلة، فلما بلغهم من أمر الأنبياء كالمعجزات, ونزول الوحي, ورؤية الملائكة وغير ذلك، جعلوا ما يحدث للأنبياء على نحو ما يكون لتلك النفوس، فليست النبوة – عندهم – هبة الله، ومنته على بعض عباده، بل هي أمر مكتسب تستعد له النفوس بأنواع الرياضات (¬5). هـ- إنكار الأخبار المتواترة: وذلك أن الأمور المعلومة بالتواتر والتجربة والحدس -عند المناطقة- احتمالية الصدق، ويختص بها من علمها فلا تكون حجة على غيره، كما أن صدقها قاصر على الجزئية التي جربت, أو سمعت, أو شوهدت، فهي جزئية من جهة نفسها، ومن جهة العلم بها؛ وعليه، فما يتواتر عن الأنبياء من أمر المعجزات وغيرها من أحوالهم وشرائعهم لا تقوم به حجة، وهذا من أصول الإلحاد والزندقة، وبناء على هذا يقول من يقول من أهل الإلحاد: هذا لم يتواتر عندي فلا تقوم به الحجة علي. فيقال له: اسمع كما سمع غيرك، وحينئذ يحصل لك العلم. وإنما هذا كقول من يقول: رؤية الهلال أو غيره لا تحصل إلا بالحس، وأنا لم أره، فيقال له: انظر إليه كما نظر غيرك فستراه، إذا كنت لم تصدق المخبرين. ثم إنه ليس من شرط قيام حجة الله تعالى علم المدعوين بها، ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعاً من قيام الحجة عليهم، وأيضاً، فإن عدم العلم ليس علماً بالعدم، فهم إذا لم يعلموا ذلك لم يكن هذا علماً منهم بعدم ذلك، ولا بعدم علم غيرهم به، بل هم كما قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ... [يونس: 39] (¬6). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن - بتصرف- 2/ 611 ¬

(¬1) انظر: ((الغزو الفكري)) لعلي لبن (ص: 32). (¬2) انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 214) وما بعدها. (¬3) (ص: 506)، وانظر: ((فيصل التفرقة)) للغزالي (ص: 192). (¬4) انظر: ((الغزو الفكري)) لعلي لبن (ص: 62). (¬5) انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 277 - 301 - 302 - 474 - 475). (¬6) انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 92) وما بعدها، و ((الغزو الفكري)) (ص: 99).

المسألة الثانية: الأسباب العقلية لرفض المنطق الأرسطي

المسألة الثانية: الأسباب العقلية لرفض المنطق الأرسطي 1 - المنطق الأرسطي تجريدي، لا صلة له بالواقع، فهو يبحث في عالم الكليات، وهذا العالم ليس له وجود في الخارج، بل وجوده في الذهن، فالمنطق يتجاهل البحث في الجزئيات والأعيان المشخصة (¬1). 2 - أننا نرى كثيراً من العلوم – كالهندسة, والطب, والفلك – تتقدم تقدماً كبيراً دون أن يكون كبار الباحثين فيها ممن تخرجوا على منطق أرسطو (¬2)؛ يقول ابن تيمية: (إننا لا نجد أحداً من أهل الأرض حقق علماً من العلوم وصار إماما فيه بفضل المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والمهندسون وغيرهم يحققون ما يحققون من علومهم بغير صناعة المنطق، وقد صنف في الإسلام علوم النحو, والعروض, والفقه وأصوله وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرف المنطق اليوناني) (¬3). 3 - أن محاولة فرض المنطق على كل العلوم – العقلية والتطبيقية، بل والشرعية – وجعله مقدمة لها، وشرطاً في تعلمها، ضرب من الخيال، بل المنطق نمط فكري انتهى عهده، وقد كان يناسب الفكر اليوناني في حقبة من التاريخ، حيث الفكرة المجردة، والجدل المثالي؛ يقول الدكتور عبد اللطيف محمد العبد: (ظن أنصار المنطق أنه العلم الذي لا علم قبله، ولا علم بعده، لأنه معيار الحقائق كلها، وميزان العلوم، ولم يكن هؤلاء يتخيلون مجرد تخيل أن هذا المنطق القياسي لن يكون علم العلوم، بل إنه سيصبح مرحلة تاريخية مضى أوانها) (¬4). 4 - أن هذا المنطق كان له أكبر الأثر في تخلف اليونان عن ركب المدنية، حيث انزوى بالفكر والجهود العلمية نحو عالم الميتافيزيقا – عالم ما وراء الطبيعة – معرضاً عن الحياة المدنية، والعلوم التطبيقية الواقعية: يقول الأستاذ علي لبن: (يكاد يتفق مؤرخوا الفلسفة على أن العلم لم ينهض في مطلع العصر الأوربي الحديث إلا بعد الثورة المزدوجة على السلطة العلمية ممثلة في المنطق الأرسطي، والسلطة الدينية ممثلة في رجال الكنيسة)) (¬5). ولهذا كان ظهور المنطق الحديث على يد فرانسيس بيكون وغيره والذي استفادوه من علماء الإسلام وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية، كان ظهوره ضربة قاضية للمنطق الأرسطي في أوربا، وعاملاً كبيراً في التقدم العلمي والحضاري فيها (¬6). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن - 2/ 615 ¬

(¬1) انظر: ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 483، 484)، و ((المنطق الحديث)) لمحمود قاسم (ص: 8). (¬2) ((المنطق الحديث)) لمحمود قاسم (ص: 5، 6). (¬3) ((نقض المنطق)) (ص: 168). (¬4) ((التفكير المنطقي)) (ص: 3) (بتصرف) انظر: ((المنطق الحديث)) لمحمود قاسم (ص: 11). (¬5) ((الغزو الفكري)) (ص: 42)، وانظر: ((منهج البحث)) لعلي النشار (ص: 90). (¬6) انظر: ((مناهج البحث)) لعلي النشار (ص: 236، 237)، و ((الإسلام والعلم التجريبي)) للسويدي (ص: 21)، و ((محاضرات في تاريخ العلوم)) لفؤاد سزكين (المحاضرة الأولى) (ص: 19) وما بعدها.

المطلب الثالث: حكم الاشتغال بالمنطق الأرسطي

المطلب الثالث: حكم الاشتغال بالمنطق الأرسطي قال ابن تيمية: (ما زال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه, ويذمون أهله, وينهون عنه وعن أهله، حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم فيها كلام عظيم في تحريمه، وعقوبة أهله) (¬1). وقال ابن الصلاح: (سمعت الشيخ العماد بن يونس يحكي عن يوسف الدمشقي مدرس النظامية ببغداد – وكان من النظار المعروفين -: أنه كان ينكر هذا الكلام (وجوب تعلم المنطق) ويقول: فأبو بكر وعمر وفلان وفلان، يعني أن أولئك السادة عظمت حظوظهم من الثلج واليقين، ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأسبابها) (¬2). وفتوى ابن الصلاح في تحريم المنطق مشهورة، وكان قد سئل عمن اشتغل بالمنطق والفلسفة تعلماً وتعليماً، وهل المنطق مما أباح الشارع تعلمه وتعليمه؟، وهل نقل عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إباحته أو الاشتغال به؟ وهل يجوز أن يستعمل في إثبات الأحكام الشرعية الاصطلاحات المنطقية، أم لا؟. . إلى آخر الفتوى (¬3): فأجاب رحمه الله تعالى بما ملخصه: الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال. . ثم بالغ في ذم الفلسفة وازدرائها. . ثم قال: (وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة, ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالحين، وسائر من يقتدى به من أعلام الأمة وسادتها) .. ثم ذكر أن استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية من الأمور المستحدثة والمنكرات المستبشعة، وليس بالأحكام الشرعية – والحمد لله – افتقار إلى المنطق أصلاً. . إلى آخر الجواب (¬4). فهل يقال بعد ذلك إن الصحيح المشهور جوازه بشرط المكنة من العلوم الشرعية، فضلاً عن جوازه مطلقاً، فضلاً عن وجوبه على الأعيان أو الكفاية، سبحانك هذا بهتان عظيم! لكن قد يقال يجوز حكايته لبيان عوره، وإثبات فساده، وعديم فائدته، مثله في ذلك مثل الأحاديث الموضوعة، تحكى لبيان وضعها وفسادها. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن - 2/ 632 ¬

(¬1) ((معيد النعم لعبد الوهاب السبكي)) (78). (¬2) ((نقض المنطق)) (156). (¬3) ((فتاوى ابن الصلاح)) (34). (¬4) ((فتاوى ابن الصلاح)) (35).

المبحث السابع: موقف أهل السنة والجماعة من الكشف والرؤى الصوفي

المطلب الأول: التعريف بالكشف والرؤى أولاً: الكشف: وهو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الخفية وجوداً أو شهودا (¬1) ... وللمتصوفة بعض المصطلحات التي تحمل معنى الكشف، وقد يكون بينها وبينه عموم وخصوص، ... فمثلاً: 1 - الخاطر عندهم: ما يرد على القلب والضمير من الخطاب، ربانياً كان أو ملكياً أو نفسياً أو شيطانياً، من غير إقامة، وقد يكون كل وارد لا تعمل لك فيه (¬2). 2 - الوارد: وهو ما يرد على القلب من الخواطر المحمودة من غير تَعَمُّل (¬3) , وقد قيل للخاطر الرباني: أول الخاطر، وهو لا يخطئ أبداً، وقد يعرف بالقوة والتسلط وعدم الاندفاع، والخاطر الملكي يسمى إلهاماً، وهو إلقاء الشيء في الروح. والخاطر النفساني يسمى هاجساً، وهو ما فيه حظ النفس. أما الخاطر الشيطاني فهو ما يدعو إلى مخالفة الحق (¬4). 3 - التجلي: وهو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب (¬5). 4 - المحادثة: وهي خطاب الحق للعارفين من عالم الملك والشهادة كالنداء من الشجرة لموسى (عليه السلام) (¬6). 5 - المسامرة: وهي خطاب الحق للعارفين من عالم الأسرار والغيوب نزل به الروح الأمين على قلوبهم (¬7). 6 - الذوق: نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه؛ يفرقون به بين الحق والباطل، من غير أن ينقلوا ذلك عن كتاب أو غيره (¬8). 7 - البصيرة: ملكة ترى حقائق الأشياء وبواطنها، كما يرى البصير ظواهر الأشياء المادية (¬9). والكشف يقابله الإشراق عند السهرودي إمام الفلسفة الإشراقية، التي تقابل الفلسفة المشائية عند ابن سينا، فالأولى تقوم على الكشف والذوق، والثانية على الحجج المنطقية, والاستدلالات العقلية (¬10)، وقد تأثر السهروردي في ذلك بأفلاطون حتى قال: (إمام الحكمة ورئيسها أفلاطون) (¬11). ثانيا: الرؤى: وهي جمع رؤيا: وهي إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يد ملك أو شيطان، إما بأسمائها أي حقيقتها، وإما بكناها أي بعبارتها، وإما تخليط، ونظيرها في اليقظة الخواطر (¬12) .. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان بن علي بن حسن– 2/ 638 ¬

(¬1) ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 97). (¬2) ((اصطلاحات الصوفية)) لابن عربي (ص: 140) (وهو بذيل التعريفات للجرجاني). (¬3) ((اصطلاحات الصوفية)) (ص: 140). (¬4) انظر: ((معجم مصطلحات الصوفية)) لحفني (ص: 87). (¬5) ((اصطلاحات الصوفية)) لابن عربي (ص: 180). (¬6) ((اصطلاحات الصوفية)) لابن عربي (ص: 141). (¬7) ((اصطلاحات الصوفية)) لابن عربي (ص: 141). (¬8) ((معجم مصطلحات الصوفية)) لحفني (ص: 104)، و ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 57). (¬9) ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 26). (¬10) انظر: ((أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السروردي)) للدكتور: علي أبو ريان (ص: 59، 60) – مكتبة الأنجلو المصرية – مطبعة أحمد مخيمر الطبعة الأولى 1959م- القاهرة. (¬11) مقدمة كتاب: ((حكمة الإشراق)) للسهروردي (ص: 10) (وهو ضمن مجموعة دوم مصنفات) تصحيح هنري كربين 1952م – 1331هـ - إيران (بدون اسم الطبعة ورقم الطبعة). (¬12) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 352).

المطلب الثاني: موقف أهل السنة والجماعة من ذلك

المطلب الثاني: موقف أهل السنة والجماعة من ذلك إن علوم المتصوفة – كما يزعم أصحابها – تستفاد من غير طريق الشرع، ولا يجوز أن توزن به، كيف وقد أخذوها من الله تعالى إما كفاحاً، أو إلهاماً، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته يقظة، فحالهم مع الشرع كحال الخضر مع موسى، هكذا يزعمون. وفي هذا المبحث ...... بيان موقف أهل السنة والجماعة من هذا المذهب الخطير، والذي حاول أعداء الإسلام أن يبطلوا به أحكام الشرع, ويدكوا حصونه، ..... وهذا الموقف في مقامات: المقام الأول: الميزان الصحيح لا ريب عند المؤمنين أن الحق الذي لا يشوبه باطل: الكتاب, والسنة, وإجماع الأمة، وبإزاء ذلك الإلهامات, والمنامات, والإسرائيليات, والحكايات ونحو ذلك، ففيها الحق والباطل، ويعرف ذلك بعد عرضها على الوحي (الكتاب والسنة) , فما زكاه منها قبل، وإلا رد على صاحبه مهما كان القائل به. . (¬1). فالمؤمن هو الذي يستغني بالرسالة، ويكتفي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيتبعه اتباعاً عاماً مطلقاً غير مشروط، وأما غيره فيتبع بشرط موافقته للشرع؛ ولهذا وجب عند التنازع والاختلاف: الرد إلى الله ورسوله (الكتاب والسنة)، وكذلك يجب رد الأحوال, والأذواق, والمكاشفات ونحوها إلى الكتاب والسنة، ووزنها بميزان الشرع، فمن لمن يبن على هذا الأصل العظيم، عمله, وعلمه, وسلوكه, وجميع أمره، فليس من الدين في شيء (¬2)، فالله تعالى يقول: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65] وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31] ويقول: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59]. وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أن منشأ ضلال من ضل من المتصوفة جعلهم الذوق, والوجد, والحال, ونحو ذلك حاكماً يتحاكمون إليه فيما يسوغ ويمتنع، وفيما هو صحيح وفاسد، فجعلوه محكاً للحق والباطل، حتى نبذوا لذلك موجب العلم والنصوص، فعظم وتفاقم الفساد والشر، وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم، وانعكس السير؛ فكان إلى الله، فصيروه إلى النفوس؛ فالمحجوبون عن أذواقهم ومواجيدهم يعبدون الله، وهؤلاء المدعون الكشف والذوق يعبدون أنفسهم ... (¬3). فالشريعة حاكم، لا محكوم عليها، ولو كان ما يقع من الخوارق والمكاشفات والأحوال ونحوها حاكماً عليها بتخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو تأويل ظاهر، أو نحو ذلك، لكان غيرها حاكماً عليها، وصارت هي محكوماً عليها بغيرها، وذلك باطل باتفاق (¬4). بل اتفق أولياء الله تعالى على أن الرجل لو طار في الهواء, أو مشى على الماء لا نغتر به حتى ننظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه (¬5). وقال أبو حفص الحداد: (من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا تعدوه في ديوان الرجال) (¬6). ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (19/ 5). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (19/ 66) و ((مدارج السالكين)) (1/ 496) و ((قطر الولي على حديث الولي لمحمد علي الشوكاني)) (278). (¬3) ((مدارج السالكين)) (1/ 494). (¬4) ((مشتهى الخارف)) (81). (¬5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 214) و ((مشتهى الخارف)) (81). (¬6) ((شذرات الذهب)) (2/ 150) و ((مشتهى الخارف)) (267).

والمقصود هنا بيان أن الشرع هو الحاكم والميزان والمزكي، وأن كل الأقوال, والاعتقادات, والأحوال مردودة مرفوضة إلا ما قبله الشرع منها وزكاه، ومن عكس انعكس قلبه وانتكس إيمانه ... المقام الثاني: المتابعة الصحيحة للشريعة تقتضي إلهامات وأحوالاً صادقة: إن المؤمن إذا صحت معرفته بالله, ورسوله, ودينه، وصدقت متابعته للشرع ظاهراً وباطناً، يفتح الله عليه بما لا يفتح على غيره، من إلهامات صحيحة، وفراسات صائبة، وأحوال صادقة: قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء: 66] وقال تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282] (¬1). وجاء في صفة الدجال: (مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن؛ كاتب وغير كاتب) (¬2) قال ابن تيمية رحمه الله: (فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره، ولا سيما في الفتن، وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله. . وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف ... ) (¬3). وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون, فإنه تتجلى لهم أمور صادقة) (¬4). وقال أبو عثمان النيسابوري: (من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54]) (¬5). وقال شاه الكرماني: (من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشبهات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال لم تخطئ له فراسة) (¬6). المقام الثالث: خرق العادة لا يدل على الولاية قد يظهر شيء – مما يظن أنه كرامة – على يد أهل الرياضة، وترك الاستكثار من الطعام والشراب، والملازمين للسهر والخلوات، وذلك على ترتيب معلوم، وقانون معروف لديهم .. فيحصل للواحد منهم نوع صفاء من الكدورات البشرية، حتى يدرك ما لا يدركه غيره، فيخبر بموت فلان الغائب، أو بقدومه في وقت كذا، ونحو ذلك، وليس في هذا ما يدل على أنه كرامة، أو أنه ولي الله، بل يتفق ذلك لكثير من المرتاضين، من كفرة الهند وغيرهم (¬7). ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (13/ 45). (¬2) ((صحيح مسلم)) (4/ 2249) كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب ذكر الدجال وصفته وما معه. الحديث يلي الرقم: 2934. (¬3) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (20/ 45). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/ 473). (¬5) ((الجامع لأخلاق الراوي)) (1/ 80) باب أدب الطلب، وانظر ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 210) و ((قطر الولي)) (252). (¬6) ((طبقات الأولياء)) (361) و ((مشتهى الخارف)) (268) و ((قواعد التحديث للقاسمي)) (149). (¬7) انظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 47 - 48)، و ((قطر الولي)) (ص: 253)، و ((التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)) للشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (2/ 238 - 239) بتحقيق: محمد ناصر الدين الألباني – طبعة الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الطبعة الثانية 1403هـ - 1983م – الرياض.

بل قد يحصل على لسان بعض المجانين شيء من ذلك، فيأتي في بعض الأحيان بمكاشفات صحيحة، وهو مع ذلك متلوث بالنجاسات، مخالط للقاذورات، فيغتر به من جهل حاله، فينسبه إلى أولياء الله المقربين، وهو في الحقيقة معذور قد رفع عنه قلم التكليف، فليس هو ولياً لله ولا عدواً له (¬1). وقال ابن سينا: (إذا بلغك أن عارفاً أطاق بقوته فعلاً, أو تحريكاً, أو حركة تخرج عن وسع مثله؛ فلا تتلقه بكل ذلك الاستنكار، فلقد تجد إلى سببه سبيلاً في اعتبارك مذاهب الطبيعة) (¬2). وقال – أيضاً – (إذا بلغك أن عارفاً حدث عن غيب فأصاب متقدماً ببشرى أو نذير، فصدق، ولا يتعسرن عليك الإيمان به، فإن لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة) (¬3). فهذا مما يؤكد أن تلك الخوارق قد ينالها الكافر بأسباب طبيعية، لا تدل على ولاية ولا كرامة. وقد قسم أهل العلم الفراسة إلى ثلاثة أقسام (¬4)، وذكروا منها الفراسة الرياضية، وأنها تحصل بالجوع, والسهر, والتخلي، وأنها مشتركة بين المؤمن والكافر، لا تدل على ولاية، ولا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم. فإذا كانت هذه الخوارق تقع من المسلم ومن الكافر، وتتعدد أسبابها، وتختلف مصادرها: فقد تكون من الله، أو من نفس الإنسان، أو من الشيطان، لم يكن في وقوعها من شخص ما دليل على ولايته وصلاحه، كما أنه لا يضر المسلم عدمها، فمن لم تنكشف له شيء من المغيبات، أو لم تسخر له شيء من الكونيات لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دنياه وآخرته (¬5). لكن الدين إذا صح علماً وعملاً فإنه يوجب خرق العادة – كما مر – إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62 - 63] فلم يذكر لهم شيئاً أحسن من الوصف بالإيمان والتقوى. قال أبو علي الجوزجاني: (كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة) (¬6). وقال أبو العباس بن عطاء: (من ألزم نفسه آداب الله نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب -عليه الصلاة والسلام- في أوامره، وأفعاله، وأخلاقه) (¬7). ويقول الشعراني: (أكمل الإلهام أن يلهم الرجل أتباع الشرع، والنظر في الكتب الإلهية، ويقف عند حدودها وأوامرها ... ) (¬8). ثم إن الخارق – المكاشفة – قد يقع للمؤمن لنقصان درجته وضعف يقينه، أما من كوشف بصدق اليقين – يقين المعرفة الشرعية – ورفع عن قلبه حجاب الشبهة والشهوة، أغناه ذلك عن معاينة الخوارق، بل الحكمة لا تقتضي حصولها لمن هذا حاله، إنما تحصل للأول لحاجته إليها (¬9). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة، ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع، فما يبالي، ولا ينقص بذلك، وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة) (¬10). ¬

(¬1) انظر: ((قطر الولي)) (ص: 254). (¬2) ((الإشارات والتنبيهات)) (ص: 208). (¬3) ((الإشارات والتنبيهات)) (ص: 209). (¬4) انظر: ((شرح الطحاوية)) (ص: 500). (¬5) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 323)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: 498). (¬6) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 320)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: 496). (¬7) ((طبقات الأولياء)) لابن الملقن (ص: 59، 60)، و ((مشتهى الخارف)) (ص: 168). (¬8) ((مشتهى الخارف)) (ص: 270). (¬9) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 321). (¬10) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 321).

وقال تليمذه ابن القيم رحمه الله: (الكشف الصحيح أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله, وأنزل به كتبه، معاينة لقلبه، ويجرد إرادة القلب له، فيدور معه وجوداً وعدماً، هذا هو التحقيق الصحيح، وما خالفه فغرور قبيح) (¬1). المقام الخامس: مرتبة الوحي أعظم وأشرف من مرتبة الكشف والإلهام ونحوهما: عدد ابن القيم رحمه الله مراتب الهداية، وأوصلها إلى عشر مراتب، ذكر في مقدمتها: التكليم، والوحي، وإرسال الملك، وجعل هذه الثلاث خاصة بالأنبياء لا يشركهم فيها أحد من الأولياء. ثم ذكر في المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث، وفي المرتبة التاسعة: الإلهام، والرؤية في المرتبة العاشرة ... (¬2). فهذا يبين أن مرتبة الوحي وعلم الشريعة – التي مصدرها الوحي – أفضل وأشرف من مرتبة التحديث والإلهام وغيرها من مصادر العلم، ويتضح ذلك بوجوه (¬3): الأول: أن علم الشريعة خبراً وطلباً لا ينال إلا من جهة الوحي الذي طريقه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العلم بالمكاشفات ونحوها فأسبابه كثيرة، ومعلوم أن ما اختص به الرسول وورثته أفضل مما يشركهم فيه بقية الناس. الثاني: أن الشريعة لا يعمل بها إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله وصفوته وأولياؤه، ولا يأمر بها إلا هم، وأما المكاشفات ونحوها فقد تقع من كافر, ومنافق, وفاجر، فما كان من العلم مختصاً بالصالحين فهو أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون. الثالث: العلم بالشريعة والعمل به ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير حاجة معه إلى الكشف ونحوه، وأما العلم بالكشف وغيره إن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة؛ أما في الآخرة فلعدم الدين؛ وأما في الدنيا فلأن الإنسان يعرض نفسه، ودينه، وجسمه، وقلبه، وعقله، وأهله وماله لمخاطرات، لا يضمن حسن العاقبة معها، فكم منهم من ذهب عقله وماله، وأشقى نفسه من غير حصول مطلوبه. الرابع: إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلابد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلاق:2 - 3] وليس العكس، أعني أن خرق العادة لا يدل على صحة الدين علماً وعملاً. الخامس: أن المقصود من الوحي والشرع مراعاة حق العبودية وإقامتها, وقد أمر بذلك الشارع، ومقصود المتصوفة من الكشف ونحوه مشاهدة الربوبية، ولم يأمر بها الشارع، ومن المعلوم أن مراعاة ما أمر به الشارع أولى من مراعاة ما لم يأمر به. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان بن علي بن حسن- بتصرف – 2/ 655 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (3/ 226). (¬2) انظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 37) وما بعدها. (¬3) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 327) وما بعدها.

الفصل الرابع: قواعد في الرد على المخالفين ودحض شبهاتهم

القاعدة الأولى: إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل كل دعوى لابد من إقامة الدليل عليها، وإلا كانت مجرد دعوى خلية عن البرهان، والدليل إما أن يكون نقلياً أو عقلياً، والمطلوب في النقلي تحرير صحته، وفي العقلي إظهار صراحته وبيان حجته: قال تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111] فهذا عام في كل دعوى، لابد من تصديقها بالدليل. وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف: 4] فطالبهم أولا بالطريق العقلي، وثانيا بالطريق السمعي (¬1). قال ابن تيمية: (فالكتاب هو الكتاب – أي جنس الكتب المنزلة من عند الله – والأثارة كما قال من قال من السلف: هي الرواية والإسناد. وقالوا: هي الخط أيضاً، إذ الرواية والإسناد يكتب بالخط، وذلك لأن الأثارة من الأثر، فالعلم الذي يقوله من يقبل قوله يؤثر بالإسناد, ويقيد ذلك بالخط، فيكون ذلك كله من آثاره) (¬2). ومن هنا قال علماء أدب البحث والمناظرة: (إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل) (¬3). ولهذا تجد كثيراً من أهل البدع يستدل على بدعته، بنقل ضعيف, أو موضوع، أو دلالة ضعيفة، أو بعقل فاسد. فالشيعة الرافضة يكثر عندهم الاستدلال بالنقول الموضوعة والضعيفة، وكذلك الدلالة الضعيفة، ويشاركهم في ذلك طوائف من المتصوفة. أما أهل الفلسفة والكلام فيكثر عندهم الاستدلال بالأقيسة العقلية الفاسدة، أو الاحتمالات والتجويزات (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 395). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 57، 58)، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 258، 259) طبعة الشعب. (¬3) انظر: ((ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة)) لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني (ص: 368، 381) دار القلم الطبعة الأولى 1395هـ - 1975م دمشق – بيروت. (¬4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 12، 29)، و ((تحريم النظر)) لابن قدامة (ص: 30، 31)، و ((شرف أصحاب الحديث)) للبغدادي (ص: 55)، برقم: 110، (ص: 78) برقم: 167.

القاعدة الثانية: موافقة النصوص لفظا ومعنى أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ:

القاعدة الثانية: موافقة النصوص لفظاً ومعنى أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ: وذلك أن متابعة الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى أكمل وأتم من متابعتها في المعنى دون اللفظ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم علم البراء بن عازب كلمات يقولهن إذا أخذ مضجعه، وفيها (( ... آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت)) قال البراء: ((فرددتهن لأستذكرهن فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت. قال – أي النبي صلى الله عليه وسلم – قل آمنت بنبيك الذي أرسلت)) (¬1) تحقيقاً لكمال الموافقة، في اللفظ والمعنى. ولهذا منع جمع من العلماء نقل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى، ومن أجازه اشترط أن يكون الناقل عاقلاً عالماً بما يحيل المعنى من اللفظ، مدركاً لأساليب العرب حتى يستبين الفروق (¬2). فالناس في موافقة الكتاب والسنة أقسام: الأول: من يوافقهما لفظاً ومعنى، وهذا أسعد الناس بالحق. الثاني: من يوافقهما في المعنى دون اللفظ، كمن يتكلم في المعاني الشرعية الصحيحة بألفاظ غير شرعية، وهذا كالألفاظ المجملة والتي تحتمل حقاً وباطلاً، كمن يتكلم في نفي الجهة عن الله تعالى قاصداً نفي الجهة المخلوقة، أو ينفي الحيز والمكان المخلوقين وغير ذلك من الألفاظ التي لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة، بل تحتمل معاني صحيحة وأخرى فاسدة، فإذا عرف مراد صاحبها وكان موافقاً للمعنى الصحيح، قبل مراده، ومنع من التكلم باللفظ المجمل، وعلم الألفاظ الشرعية في ذلك. وكذلك يدخل فيهم من نفى ظاهر نصوص الصفات قاصداً نفي المعنى الظاهر المختص بالمخلوق، فنفيه صحيح، لكن ظاهر النصوص لم يدل على باطل، حتى يستوجب هذا النفي، وإنما نفى هذا ما توهمه أنه ظاهر النص، وإن لم يكن كذلك في نفس الأمر. الثالث: من يوافق الكتاب والسنة في اللفظ دون المعنى، وهؤلاء كطوائف الباطنية وغيرهم ممن يعبرون عن عقائدهم الفاسدة بألفاظ شرعية، فالصلاة عندهم كشف أسرارهم، والصيام كتمانها، والحج القصد إلى شيوخهم، ونحو ذلك (¬3). الرابع: من يخالف الكتاب والسنة لفظاً ومعنى، وهؤلاء أشقى الطوائف، وهم من الكفرة والملاحدة ونحوهم. ¬

(¬1) رواه البخاري (247) ومسلم (2710) واللفظ لمسلم. (¬2) انظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 370، 371). (¬3) انظر: ((الإقحام لأفئدة الباطنية الطغام)) للعلوي (ص: 71) وما بعدها.

القاعدة الثالثة: لا ينبغي بتر الدليل، والاستدلال بجزئه

القاعدة الثالثة: لا ينبغي بتر الدليل، والاستدلال بجزئه وهذا هو شأن أهل الابتداع حتى يجدوا من الكلمات الشرعية ما يسوغ لهم بدعتهم, ويجعلها تروج عند ضعفاء المسلمين: قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى في الرد على القدرية: ( ... وإنهم أتموا آية من كتاب الله عز وجل ولكنهم يأخذون بأولها ويتركون آخرها، والذي نفسي بيده لإبليس أعلم بالله عز وجل، يعلم من أغواه، وهم يزعمون أنهم يغوون أنفسهم ويرشدونها) (¬1). ولما احتج غيلان الدمشقي أمام عمر بن عبد العزيز على مقالته في القدر بقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 2 - 3] قال له عمر: (أقرا آخر السورة: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 30، 31] ثم قال عمر: وما تقول يا غيلان، قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني، وأصم فأسمعتني، وضالاً فهديتني ... ) فتاب، ثم رجع إلى مقالته في عهد هشام بن عبد الملك؛ فصلبه (¬2). ¬

(¬1) ((الشريعة)) للآجري (ص: 222). (¬2) ((الشريعة)) للآجري (ص: 228).

القاعدة الرابعة: الحق يقبل من أي جهة جاء

القاعدة الرابعة: الحق يقبل من أي جهة جاء الحق يقبل لكونه موافقاً للدليل، فلا أثر للمتكلم به في قبوله أو رفضه، ولهذا كان أهل السنة يقبلون ما عند جميع الطوائف من الحق، ويردون ما عندها من الباطل، بغض النظر عن الموالي منها أو المعادي: قال تعالى: فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (( ... اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: (فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدى الله لما اختلف فيه من الحق) (¬2). وقال تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ... [المائدة: 8] ومن العدل فيهم قبول ما عندهم من الحق. وهكذا أدبنا القرآن الكريم حين ساق كلام بلقيس – وقت كفرها- ثم وافقها عليه، قال تعالى – حكاية عنها -: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34]. ولما دل الشيطان أبا هريرة رضي الله عنه إلى آية الكرسي لتكون له حرزاً من الشيطان، وذلك مقابل فكه من الأسر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدقك وهو كذوب)) (¬3). وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: (اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافراً –أو قال فاجراً- واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً) (¬4). ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية – مبيناً منهجه في التعامل مع المخالفين له من أهل الكلام وغيرهم-: (وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله – من المتكلمين وغيرهم – يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به) (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم (770). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 516). (¬3) رواه البخاري (2311). (¬4) رواه أبو داود (4611) , والحاكم (4/ 507). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح الإسناد موقوف. ولفظه: ( ... وأحذّركم زيغة الحكيم فإنّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أنّ الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأنّ المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنّه لعله أن يراجع، وتلقّ الحقّ إذا سمعته فإنّ على الحق نوراً). (¬5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (5/ 101).

القاعدة الخامسة: الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف رجاله

القاعدة الخامسة: الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف رجاله الحق ما وافق الدليل من غير التفات إلى كثرة المقبلين، أو قلة المعرضين، فالحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق، ومجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين لا يدل على صحة قول أو فساده، بل كل قول يحتج له خلا قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحتج به (¬1): ومن المعلوم أنه لا يوجد أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا، يتعمد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، لا دقيق ولا جليل، بل هم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب متابعته، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويرد، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأجل ثبوت العصمة للشارع وحده، أما غيره فيعتريه من نقص العلم والفهم ما يستوجب عرض قوله على الشرع طلباً للإجازة والتزكية. ¬

(¬1) انظر: ((نقض المنطق)) (ص: 154)، و ((القواعد المثلى)) للعثيمين (ص: 86).

القاعدة السادسة: حكم كلام غير الشارع

القاعدة السادسة: حكم كلام غير الشارع ما يقوله سائر الناس من الكلام في المطالب الشرعية لابد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنة فهو حق يقبل, وإن خالفهما فهو باطل يرد، وإن احتمل الجهتين: فإما أن يعرف مراد المتكلم فيحكم له أو عليه بحسب المراد، وإما أن لا يعرف مراده، فينظر في سيرته – سيرة المتكلم – فإن كانت حسنة حمل كلامه على الوجه الحسن؛ وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: 58] وإن كانت سيرته سيئة حمل كلامه على الوجه السيء وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [الأعراف: 58]. أما إذا عرف مراده لكن لم يعرف: هل جاء الشرع بتصديقه أو بتكذيبه؛ فإنه يمسك عنه ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1). واعتصاماً بهذه القاعدة شرح ابن القيم رحمه الله كتاب منازل السائرين للشيخ الهروي في كتابه القيم: (مدارج السالكين)، فقبل من كلام الشيخ ما أسنده الدليل، ورد منه ما خالفه الدليل، وحمل على أحسن المحامل ما احتمل وجوهاً، إحساناً للظن بشيخ الإسلام الهروي (¬2). ¬

(¬1) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (13/ 145، 146، 17/ 355)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: 161). (¬2) انظر: ((مقدمة مدارج السالكين)) لمحمد حامد الفقي (ص: ت – ث).

القاعدة السابعة: السكوت عما سكت الله عنه ورسوله

القاعدة السابعة: السكوت عما سكت الله عنه ورسوله كل مسألة من مسائل الشريعة – ولاسيما مسائل الاعتقاد – لا يحكم فيها، نفياً أو إثباتاً إلا بدليل، فما ورد الدليل بإثباته أثبتناه، وما ورد بنفيه نفيناه، وما لم يرد بإثباته ولا بنفيه دليل توقفنا، ولم نحكم فيه بشيء؛ لا إثباتاً ولا نفياً، ولا يعني هذا أن المسألة خلية عن الدليل، بل قد يكون عليها دليل، لكن لا نعلمه، فالواجب علينا التوقف: إما مطلقاً أو لحين وجدان الدليل: قال تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36] قال قتادة: (لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)) (¬2). قال ابن تيمية: (الأقسام ثلاثة: ما علم ثبوته أثبت، وما علم انتفاؤه نفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه، هذا هو الواجب، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته) (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (5/ 72) (طبعة الشعب). (¬2) رواه الدارقطني (4/ 183) (42)، والطبراني (22/ 221)، والحاكم (4/ 129)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 12). من حديث أبي ثعلبة الخشني. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) 1/ 417: رواه الطبراني في ((الكبير)) وهو هكذا في هذه الرواية وكأن بعض الرواة ظن أن هذا معنى وسكت فرواها كذلك والله أعلم، ورجاله رجال الصحيح. وذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 278) وصححه. وقال الألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص338): حسن لغيره. (¬3) ((مجموعة تفسير ابن تيمية)) (ص: 351، 352).

القاعدة الثامنة: الامتناع عن مناظرة أهل السفسطة

القاعدة الثامنة: الامتناع عن مناظرة أهل السفسطة إذا وضح الحق وبان لم يبق للمعارضة العلمية ولا العملية محل، فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة، بينة بنفسها، ضرورية، وجحدها الخصم كان سوفسطائياً؛ فلا ينبغي مناظرته بعد ذلك، قال تعالى: وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] وقال تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ ... [الأنفال: 6] فكل من جادل في الحق بعد وضوحه وبيانه فقد غالط شرعاً وعقلاً (¬1). قال المزني رحمه الله: (وحق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل، وأن يقبل منها ما يتبين) (¬2). ولهذا كان من الأسئلة ما ليس له جواب غير السكوت والانتهاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته)) (¬3). فإن كل نظر لابد له من ضرورة يستند إليها، فإذا احتاجت الضرورة إلى استدلال ونظر، أدى ذلك إلى التسلسل وهو باطل. ¬

(¬1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 174)، و ((القواعد الحسان)) للسعدي (ص: 158، 159). (¬2) ((جامع بيان العلم)) (2/ 132). (¬3) رواه البخاري (3276)، ومسلم (134)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

القاعدة التاسعة: الباطل لا يرد بالباطل، بل بالحق

القاعدة التاسعة: الباطل لا يرد بالباطل، بل بالحق السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات باطلاً، وإن قصد به نصر الكتاب والسنة، فيذمون من قابل بدعة ببدعة، وفاسداً بفاسد (¬1). فالباطل يرد بالحق المحض، والبدعة ترد بالسنة الصحيحة: قال الخلال: (أخبرنا أبو بكر المروذي، قال: كتب إلى عبد الوهاب في أمر حسين بن خلف البحتري العكبري، وقال: إنه قد تنزه عن ميراث أبيه، فقال رجل قدري: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه أحمد بن رجاء فقال: إن الله جبر العباد، أراد بذلك إثبات القدر. فوضع أحمد بن علي كتاباً يحتج فيه، فأدخلته على أبي عبد الله، فأخبرته بالقصة، فقال: ويضع كتاباً؟ وأنكر أبو عبد الله عليهما جميعاً: على ابن رجاء حين قال: جبر العباد، وعلى القدري الذي قال: لم يجبر العباد، وأنكر على أحمد بن علي وضعه الكتاب واحتجاجه، وأمر بهجرانه بوضعه الكتاب، وقال لي: يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال: جبر العباد، فقلت لأبي عبد الله: فما الجواب في هذه المسألة؟ قال: يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [فاطر: 8] (¬2). وهذا الفخر الرازي يرد على النصارى قولهم في إلهة عيسى بأن الإله لا يكون جسماً, ولا متحيزاً, ولا عرضاً (¬3)، ومعلوم أن هذه الألفاظ لم ترد لا في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام سلف الأمة وأئمتها، بل هي ألفاظ محدثة مبتدعة، فيكون قد رد باطلهم بنحوه. وفي باب الصفات رقى المعتزلة ونحوهم – للرد على الشبهة – سلم النفي والتعطيل، قال ابن قتيبة رحمه الله: (وتعمق آخرون في النظر وزعموا أنهم يريدون تصحيح التوحيد بنفي التشبيه عن الخالق، فأبطلوا الصفات، مثل: الحلم والقدرة والجلال والعفو وأشباه ذلك ... ) (¬4). وأراد بعض مثبتة القدر الرد على نفاته، فأنكروا فعل العبد واختياره. والشيعة أرادوا الإنكار على الخوارج الذين كفروا علياً رضي الله عنه فوقعوا في سائر الصحابة –عدا آل البيت- تكفيراً وتفسيقاً، وقالوا: لا ولاء إلا ببراء. وهكذا، فمن لم يعتصم بالكتاب والسنة في مناظراته لم يسلم من مثل هذه البدع. ¬

(¬1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 165). (¬2) ((السنة)) للخلال (ص: 552) برقم: 952، والأعلام المذكورون في القصة – خلا عبد الوهاب – لم أجد من ترجم لهم. (¬3) انظر: ((مناظرة في الرد على النصارى)) للرازي (ص: 22). (¬4) ((اختلاف اللفظ)) (ص: 23).

القاعدة العاشرة: عدم العلم بالدليل ليس علما بالعدم

القاعدة العاشرة: عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم كثير من المتناظرين قد يجعل عمدته في نفي وجود أمر ما، عدم علمه بالدليل على وجوده، والأصل أن عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم،، وعدم الوجدان ليس نفياً للوجود، فكما أن الإثبات يحتاج إلى دليل, فكذلك النفي يحتاج إلى دليل، وإلا فما لم يعلم وجوده بدليل معين، قد يكون معلوماً بأدلة أخرى، فمثلاً: عدم الدليل العقلي على وجود أمر ما، لا يعني عدم وجوده، لأنه قد يكون ثابتاً بالدليل السمعي، أو غيره. فالدليل يجب فيه الطرد لا العكس، بمعنى أنه يلزم من وجوده الوجود، ولا يلزم من عدمه العدم، أي عدم المدلول عليه، قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: 39] فهذا نعي على كل من كذب بما قصر عنه علمه. فمن نفى كثيراً من الغيبيات كالصفات, والقدر, والملائكة, والجن, وأحوال البرزخ, والمعاد، لعدم قيام دليل الحس والمشاهدة، أو دليل العقل – كما يزعم – كان غالطاً، لأنه أخبر عن نفسه، ولا يمنع أن يكون غيره قد قام عنده دليل العقل، أو دليل السمع، أو دليل المشاهدة كما وقع ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم في مشاهدة الجن والملائكة وأحوال البرزخ والمعاد (¬1). وقد رد الفخر الرازي على النصارى دعواهم إلهية عيسى عليه السلام لظهور الخوارق على يديه، بأن عدم ظهور هذه الخوارق في حق غيره لا يلزم منه عدم إلهية ذلك الغير، بل غاية ما هناك أنه لم يوجد هذا الدليل المعين، وعليه، فيجوز – كما هو لازم قولهم – حلول الله تعالى في كل مخلوق من مخلوقاته، إذ لا دليل على اختصاص عيسى عليه السلام بذلك، لأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول (¬2). ويستثنى من هذه القاعدة ما إذا كان وجود المدلول مستلزماً لوجود الدليل، وقد علم عدم الدليل، فيقع العلم بعدم المدلول المستلزم لدليله، لأن عدم اللازم دليل على عدم الملزوم، مثاله: قد ثبت توافر الدواعي على نقل كتاب الله تعالى ودينه، فإنه لا يجوز على الأمة كتمان ما يحتاج الناس إلى نقله، فلما لم ينقل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم نقلاً عاماً، علمنا يقيناً عدم ذلك، نحو سورة زائدة، أو صلاة سادسة ونحو ذلك (¬3). ¬

(¬1) انظر: ((مجموعة تفسير ابن تيمية)) (ص: 350 - 351)، و ((الرد على المنطقيين)) (ص: 100)، ((ورفع الملام)) (ص: 73). (¬2) انظر: ((مناظرة في الرد على النصارى)) (ص: 26 - 27). (¬3) انظر: ((رفع الملام)) (ص: 73، 74).

القاعدة الحادية عشرة: في لازم المذهب

القاعدة الحادية عشرة: في لازم المذهب أولاً: ينبغي أن يعلم أن اللازم من قول الله تعالى, وقول رسوله صلى الله عليه وسلم إذا صح أن يكون لازماً فهو حق، يثبت ويحكم به؛ لأن كلام الله ورسوله حق، ولازم الحق حق؛ ولأن الله تعالى عالم بما يكون لازماً من كلامه وكلام رسوله، فيكون مراداً (¬1). وكذلك قول الإنسان إما أن يكون موافقاً للكتاب والسنة فيكون حقاً، ولازمه حقاً، وإما أن يكون مخالفاً للكتاب والسنة فيكون باطلاً ولازمه باطلاً (¬2). ثانياً: اللازم من قول العالم له ثلاث حالات (¬3): الحالة الأولى: أن يذكر له لازم قوله فليتزمه، مثل أن يقول لمن يثبت وزن الأعمال في الآخرة: يلزمك القول بجواز وزن الأعراض. فيقول المثبت: نعم التزم به، لأن أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، والله تعالى على كل شيء قدير، ثم إنه قد وجد في زماننا هذا موازين للحرارة, والبرودة, والإضاءة, ونحو ذلك من الأعراض. وهذا اللازم يجوز إضافته إليه إذا علم منه أنه لا يمنعه. الحالة الثانية: أن يذكر له لازم قوله، فيمنع التلازم بينه وبين قوله، مثل أن يقول نافي الصفات لمن يثبتها، يلزمك أن يكون الله تعالى مشابهاً للخلق في صفاته، فيقول المثبت: لا يلزم ذلك؛ لأننا عندما أضفنا الصفات إلى الخالق سبحانه قطعنا توهم الاشتراك والمشابهة، كما أنك أيها النافي للصفات، تثبت ذاتاً لله تعالى وتمنع أن يكون الله مشابها للخلق في ذاته، فقل ذلك أيضاً في الصفات إذ لا فرق بينهما. وهذا اللازم لا يجوز إضافته إليه بعد أن بين هو وجه امتناع التلازم بين قوله وبين ما أضيف إليه. الحالة الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتاً عنه فلا يذكر بالتزام ولا منع، فهذا حكمه أن لا ينسب إليه، لأنه إذا ذكر له اللازم: فقد يلتزمه، وقد يمنع التلازم، وقد يتبين له وجه الحق فيرجع عن اللازم والملزوم جميعاً. ولأجل هذه الاحتمالات فلا ينبغي إضافة اللازم إليه ولا سيما أن الإنسان بشر وتعتريه حالات نفسية وخارجية توجب له الذهول عن اللازم؛ فقد يغفل، أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تدبر في لوازمه، ونحو ذلك. قال ابن تيمية رحمه الله: (ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات إنه مجاز ليس بحقيقة؛ فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة) (¬4). لكن قد تذكر اللوازم الباطلة – لاسيما عند المناظرة – لإظهار شناعة المذهب الباطل (الملزوم)، لأن العاقل إذا نبه إلى ما يلزم قوله من اللوازم الفاسدة، فقد ينتبه ويرجع عن قوله. وأهل البدع – لاضطرابهم وتناقضهم – قد يفر الواحد منهم من اللازم الحق ليقع في اللازم الباطل، وهو يظن في ذلك السلامة: كالقدري يفر من لازم كون الله يضل من يشاء، فيقع في لازم كونه يقع في ملكه ما لا يشاء، وكذلك منكر الصفات يفر من التشبيه – بزعمه – فيقع في التعطيل، والذي قد يقوده إلى التعطيل الكامل فلا يعرف إلها موجوداً معبوداً! ¬

(¬1) انظر: ((القواعد المثلى)) للعثيمين (ص: 11، 12). (¬2) انظر: ((القواعد النورانية)) لابن تيمية (ص: 128). تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية الطبعة الأولى 1370هـ - 1951م القاهرة. (¬3) انظر: ((القواعد النورانية)) (ص: 128، 129) و ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (20/ 217، 35/ 288)، و ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 237، 238)، و ((القواعد المثلى)) للعثيمين (ص: 12، 13). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (20/ 217).

القاعدة الثانية عشرة: الاستدلال بالدليل المتفق عليه على المسألة المتنازع فيها

القاعدة الثانية عشرة: الاستدلال بالدليل المتفق عليه على المسألة المتنازع فيها الخصمان إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا، فإن لم يتفقا على شيء، لم تقع بمناظرتهما فائدة، وإذا كانت الدعوى لابد لها من دليل، وكان الدليل عند الخصم متنازعاً فيه، ليس عنده بدليل، صار الإتيان به عبثاً، لا يفيد فائدة ولا يحصل مقصوداً، إذ مقصود المناظرة رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه، فلابد من الرجوع إلى دليل يعرفه الخصم السائل، معرفة الخصم المستدل: ولهذا كان الرجوع عند المسلمين إلى الكتاب والسنة، لاتفاقهم عليهما، وكان المرجوع إليه عند التنازع مع غير المسلمين ما يسلم به الكفار، كما قال تعالى: - في محاجة الكفار -: قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [المؤمنون: 84 - 90] (¬1). ¬

(¬1) انظر: ((الموافقات)) (4/ 335).

القاعدة الثالثة عشرة: الجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات

القاعدة الثالثة عشرة: الجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات وهي خاصة العقل الصحيح, وصفة الفطرة السليمة، وعليها قامت أحكام الشرع، فالشيء يعطى حكم نظيره، وينفى عنه حكم مخالفه، ولا يجوز العكس بحال: وهو أن يفرق بين متماثلين أو يجمع بين مختلفين: قال الله تعالى في ذم اليهود: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] وذلك أنهم أغفلوا حكم التوراة في سفك الدماء وإخراج أنفسهم من ديارهم، وأقاموه -أي حكم التوراة- في مفاداة الأسرى (¬1) وكان الواجب عليهم إقامته في شأنهم كله. وقال تعالى: في شأنهم –أيضاً-: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [البقرة: 91] فكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مع ما فيها من التصديق لما معهم من التوراة والإنجيل، والجميع يخرج من مشكاة واحدة؛ فكان الكفر ببعض ذلك كفراً بالجميع وجحداً له (¬2). هذا في جانب التفريق بين المتماثلات، أما في جانب الجمع بين المختلفات، فقد قاس اليهود الرب (جل جلاله) على المخلوق الضعيف القاصر، فوصفوه (سبحانه) بصفات المخلوقين، فقالوا: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] وقالوا: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181] وقالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ [التوبة: 30] وفيه إثبات الصاحبة والولد وهي من صفات المخلوقات، ويشركهم في ذلك النصارى القائلون: المَسِيحُ ابْنُ اللهِ [التوبة: 30]. فكل من فرق بين متماثلين, أو جمع بين مختلفين من مبتدعة المسلمين يكون فيه شبه من اليهود والنصارى، وهم إمامه وسلفه في ذلك: فنفاة الصفات: بعضها أو جميعها، أو الصفات دون الأسماء، أو الصفات والأسماء جميعاً، فرقوا بين المتماثلات, إذ القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر نفياً وإثباتاً، وكذلك القول في الصفات كالقول في الأسماء، وكذلك القول في الصفات والأسماء فرع عن القول في الذات (¬3). وهم –أيضاً- قد جمعوا بين المختلفات، لأنهم لم يعتقدوا التعطيل إلا بعد أن قامت عندهم شبهة التشبيه، ولهذا كان كل معطل مشبهاً. ونفاة القدر فرقوا بين المتشابهات والمتماثلات من وجه؛ حيث اعتمدوا النصوص التي تثبت قدرة العبد ومشيئته، وأنكروا النصوص التي تثبت قدرة الخالق, ومشيئته, وخلقه, وسابق علمه، وجمعوا بين المختلفات من وجه؛ حيث قاسوا المخلوق بالخالق, وجعلوهما سواء فيما يجوز, ويجب, ويمتنع. قال ابن قتيبة رحمه الله: (ألا ترى أن أهل القدر حين نظروا في قدر الله الذي هو سره بآرائهم, وحملوه على مقاييسهم؛ أرتهم أنفسهم قياساً على ما جعل في تركيب المخلوق من معرفة العدل من الخلق على الخلق، أن يجعلوا ذلك حكماً بين الله وبين العبد، فقالوا بالتخلية والإهمال، وجعلوا العباد فاعلين لما لا يشاء، وقادرين على ما لا يريد, كأنهم لم يسمعوا بإجماع الناس على: ما يشاء الله كان وما لا يشاء لا يكون) (¬4). والوعيدية من الخوارج والمعتزلة فرقوا بين نصوص الوعيد فآمنوا بها، وبين نصوص الوعد فكفروا بها، والجميع يخرج من مشكاة واحدة، وفي المقابل المرجئة آمنوا بنصوص الوعد, وكفروا بنصوص الوعيد. والشيعة فرقوا بين الصحابة رضوان الله عليهم، فتولوا آل البيت منهم وعادوا غيرهم، والواجب موالاتهم جميعاً. وجمعوا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين غيره في إثبات العصمة، حيث ساقوها في أئمتهم، والواجب التفريق في ذلك بين الرسل وغيرهم من الناس. وممن خالف هذه القاعدة – أيضاً – من فرق بين الكتاب والسنة فاعتمد الكتاب دون السنة، وكذلك من فرق بين نصوص الأحكام فاعتمدها، وبين نصوص العقائد فأعرض عنها بتأويل أو تفويض، أو تكذيب إن كانت أحاديث آحاد، وكذلك من فرق بين السنة والمتواترة وسنة الآحاد في باب العقائد أو الأحكام. فكل هؤلاء واقعون في التناقض والاضطراب، والواجب عليهم الجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات حتى يسلموا مما هم فيه. ¬

(¬1) انظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/ 143، 144) و ((تفسير ابن كثير)) (1/ 173، 174) (طبعة الشعب). (¬2) وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 180) (طبعة الشعب). (¬3) راجع في ذلك: ((الرسالة التدمرية)) (ص: 21) وما بعدها. (¬4) ((اختلاف اللفظ)) (ص: 12، 13).

القاعدة الرابعة عشرة: المعارضة الصحيحة هي التي يمكن طردها

القاعدة الرابعة عشرة: المعارضة الصحيحة هي التي يمكن طردها قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258]. فلما سوى الملحد نفسه بالله تعالى في ادعاء الإحياء والإماتة طالبه إبراهيم بطرد المساواة، وهي أن من حقوق الربوبية التصرف في الكون، وفي كواكبه وأجرامه، ومن ذلك أن الله تعالى يسير الشمس من المشرق على المغرب، فإن كنت صادقاً في ادعاء المساواة لله تعالى في الإحياء والإماتة، فأعكس حركة هذه الشمس، واجعلها تسير من المغرب إلى المشرق، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ (¬1). وكذلك يقال – مثلاً – لنفاة بعض الصفات بقصد التنزيه، اطردوا حجتكم وانفوا سائر الصفات، بل وسائر الأسماء، حتى صفة الوجود؛ لأن المخلوق يتصف بها، فمن طرد منهم لم يبق عنده إله يعبد، ولا رب يصلي له ويسجد، ومن فرق بقي في التناقض، والسعيد من أثبت الصفات جميعاً مع نفي التشبيه والمماثلة بين الخالق والمخلوق في شيء منها. ¬

(¬1) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 463) (طبعة الشعب)، و ((مختصر الصواعق)) (1/ 109).

القاعدة الخامسة عشرة: في مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم الخاص

القاعدة الخامسة عشرة: في مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم الخاص إذا تكلم المخالف باصطلاحه الخاص الذي اصطلحه مخالفاً به ما عليه الشرع من الألفاظ؛ فقد يعبر عن المعاني التي أثبتها الشرع بعبارات أخرى ليست فيه، أو أنها فيه لكن جاءت بمعان أخر، بل قد يكون معناها المعروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن منتفياً باطلاً نفاه الشرع والعقل (¬1): كلفظ التوحيد عند الطوائف المنحرفة: فالتوحيد عند الفلاسفة يعنون به إثبات الوجود المطلق، مجرداً عن الماهية والصفة. وعند الاتحادية وأصحاب وحدة الوجود: أن الرب تعالى هو عين كل موجود. وعند الجهمية: التوحيد هو إنكار صفة العلو لله تعالى, والكلام, والسمع, والبصر, وغير ذلك من الصفات التي ثبتت بالسمع ودل عليها العقل. وعند القدرية: إنكار قدر الله وعموم مشيئته في الكائنات وقدرته عليها. ويدخل في ذلك -أيضاً- نحو التكلم بالألفاظ المجملة كلفظ الجهة، والحيز والمكان، والجسم وغير ذلك. فيبقى المخاطب لهم والراد عليهم متردداً بين أمور: الأول: أن يخاطبهم بغير اصطلاحهم، بل بالألفاظ والمعاني الشرعية، فحينئذ قد يقولون: إنا لا نفهم ما قيل لنا، أو أن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا ومرادنا، ويلبسون على الناس، بأن الذي عنيناه بكلامنا حق معلوم بالعقل أو بالذوق، وأنه موافق للشرع. الثاني: أن يخاطبهم بلغتهم واصطلاحهم – وقد يكون ذلك مخالفاً لألفاظ القرآن في الظاهر – فحينئذ قد ينسبون المخاطب لهم إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم الخاص. الثالث: أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بها نفياً وإثباتاً، بل يستفصل عن مرادهم: فإن أرادوا بهذه الألفاظ حقاً قبل، وإن أرادوا باطلاً رد، وهنا قد ينسبونه إلى العجز والانقطاع (¬2): فحينئذ تختلف المصلحة؛ فيختار المخاطب لهم، الأسلوب الأمثل في مخاطبتهم والرد عليهم، وذلك بحسب ما يقتضيه المقام (¬3): فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلى قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب على أحد أن يجيب داعياً إلا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن على الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلى ذلك. ومثل هذا فعله شيوخ السنة بين يدى ولاة الأمور في مناظراتهم لرؤوس المعتزلة والجهمية (¬4). أما إن كان المخالف معارضاً للشرع بما يذكره، أو كان غير ملتزم بالشريعة: فهؤلاء لابد في مخاطبتهم من الكلام على المعاني التي يدعونها: إما بألفاظهم، وإما بألفاظ يوافقون على أنها تقوم مقام ألفاظهم، وإن أمكن نقل معانيهم إلى العبارة الشرعية كان حسناً، وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم، ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم، أولى من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ: قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة ... ) (¬5). فمخاطبة أهل الاصطلاح بلغتهم واصطلاحهم يفيد من وجوه: الأول: أنهم يفهمون الحجة. الثاني: أن ذلك أبلغ في الرد عليهم، وكسرهم. الثالث: بيان تمكن أهل الحق من معاني مسائلهم وعرضها بأي أسلوب يقتضيه الموقف. وقد استعمل شيخ الإسلام هذا الأسلوب في كثير من مصنفاته التي فيها الرد على أهل البدع والفلسفة، مثل كتاب درء التعارض، والرد على المنطقيين، وكذلك رأيت الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله يستخدم المنطق في الرد على من يؤمنون به، وذلك في تفسيره أضواء البيان (¬6). ¬

(¬1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 223). (¬2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 223، 229). (¬3) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 229) وما بعدها. (¬4) انظر مثالا لذلك: ((الاعتصام)) (1/ 243، 244)، و ((الشريعة)) (ص: 62 - 64). (¬5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 43). (¬6) انظر: مثلا – ((أضواء البيان)) (4/ 148 - 150).

القاعدة السادسة عشرة: التوقف عند الإيهام، والاستفصال عند الإجمال

القاعدة السادسة عشرة: التوقف عند الإيهام، والاستفصال عند الإجمال إذا أورد المنازع لفظاً مجملاً يحتمل حقاً وباطلاً، لم يكن لنا إثبات اللفظ أو نفيه، بل الواجب التوقف، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا لقصور أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن اللفظ مجمل، والعبارة موهمة مشتملة على الحق والباطل، ففي إثباتها إثبات الحق والباطل، وفي نفيها نفي الحق والباطل، فالواجب الامتناع عن كلا الإطلاقين، ثم الاستفسار عن مراد صاحبها بها فإن أراد بها حقاً قبل، وإن أراد بها باطلاً رد (¬1). وبعد اختيار المعنى الصحيح المراد من العبارة الموهمة، يمنع من إطلاقها ويركب للمعنى لفظه الشرعي، حتى ينتفي عنه الإيهام والإجمال: مثال ذلك: لفظ الجهة لله تعالى (¬2): فلو سأل سائل: هل تثبتون لله تعالى الجهة؟ الجواب: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب ولا في السنة، لا إثباتاً ولا نفياً وهو لفظ مجمل محتمل، ويغني عنه ما ثبت في الكتاب والسنة من أن الله تعالى في السماء. أما الجهة فقد يراد بها جهة سفل، أو جهة علو تحيط بالله تعالى، أو جهة علو لا تحيط به: أما المعنى الأول فباطل، لمنافاته العلو لله تعالى الثابت بالكتاب, والسنة, والإجماع, والعقل, والفطرة. والثاني باطل – أيضاً – لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته. وأما المعنى الثالث: فحق يجب إثباته وقبوله، لأن الله تعالى هو العلي الأعلى، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته. يقول طاش كبرى زاده في أصول المناظرة (¬3): وليجتنب فيها عن الإطناب ... ثم عن الإيجاز والخطاب إلى رفيع القدر والمهابة ... وعن كلام شابه الغرابة ومجمل من غير أن يفصلا ... كذا تعرض لما لا مدخلا ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف النهي عن إطلاق النفي أو الإثبات في مثل هذه المواطن: قال الإمام أحمد رحمه الله: (إذا سأل الجهمي فقال: أخبرونا عن القرآن، هو الله أو غير الله؟ قيل له: وإن الله جل ثناؤه لم يقل في القرآن: إن القرآن أنا ولم يقل: غيري، وقال: هو كلامي، فسميناه باسم سماه الله به، فقلنا: كلام الله، فمن سمى القرآن باسم سماه الله به كان من المهتدين، ومن سماه باسم غيره كان من الضالين) (¬4). وفي كتاب السنة للخلال (¬5): سئل الزبيدي والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي: (أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده على ما أحبه). وقال الأوزاعي: (ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء, والقدر, والخلق, والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال ابن تيمية: (فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة ... وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي لأن الزبيدي نفى الجبر، والأوزاعي منع إطلاقه، إذ هذا اللفظ قد يحتمل معنى صحيحاً، فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل) (¬6) وكذلك إثباته قد يقتضي إثبات الحق والباطل، والصواب الإعراض عنه، أو التفصيل في الجواب. ومثال آخر لمنهج السلف في هذه المسألة، ما أورده الإمام الذهبي في كتاب (العلو) (¬7) من كلام أبي بكر محمد بن الحسن الحصري القيرواني الذي ساق أقوال جماعة من العلماء في مسألة الاستواء، ثم قال: (وهذا هو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد, ولا تمكن في مكان, ولا كون فيه ولا مماسة). قال الذهبي معلقاً على ذلك: (سلب هذه الأشياء وإثباتها مداره على النقل، فلو ورد شيء بذلك نطقنا به، وإلا فالسكوت والكف أشبه بشمائل السلف) (¬8). ¬

(¬1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 76)، و ((مجموع تفسير ابن تيمية)) (ص: 352). (¬2) انظر: ((القواعد المثلى)) للعثيمين (ص: 31). (¬3) ((علم البحث والمناظرة)) رسالة للعلامة أبي الخير عصام الدين أحمد بن مصطفى المشهور بطاش كبرى زاده (ص: 42) بتحقيق: أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري – مطبعة الجبلاوي – الطبعة الثانية 1397هـ، مصر. (¬4) ((الرد على الجهمية)) للإمام أحمد (ص: 73) (ضمن عقائد السلف للنشار). (¬5) (ص: 555) برقم: 932، وقد نقل ابن تيمية هذا النص في ((درء التعارض)) (1/ 66)، و ((الفتاوى)) (5/ 430، 8/ 104 - 105). (¬6) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 67 - 69). (¬7) (ص: 158). (¬8) (ص: 158).

القاعدة السابعة عشرة: طالب الحق يستفيد من رد أهل البدع، بعضهم على بعض

القاعدة السابعة عشرة: طالب الحق يستفيد من رد أهل البدع، بعضهم على بعض قال ابن القيم رحمه الله (¬1): (من المعلوم أن كل مبطل أنكر على خصمه شيئاً من الباطل قد شاركه في بعضه أو في نظيره فإنه لا يتمكن من دحض حجته وكسر باطله؛ لأن خصمه تسلط عليه بمثل ما سلط هو به عليه, وهذا شأن أهل الأهواء مع بعضهم بعضاً، ولهذا كان عامة ما يأتون به أبداً يناقض بعضهم بعضاً، ويكسر أقوال بعضهم بعض، وفي هذا منفعة جليلة لطالب الحق، فإنه يكتفي بإبطال كل فرقة لقول الفرقة الأخرى .. ). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبيين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلاناً من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيراً من أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحاً، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسداً، لتنقطع بذلك حجة الباطل، فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم، فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله) (¬2). مثال ذلك (¬3): إذا استدل متأول الصفات على منكر المعاد وحشر الأجساد بنصوص الوحي، أبدا لها منكر المعاد تأويلات تخالف ظاهرها، وقال للمستدل بها: تأولت أنا هذه النصوص (نصوص المعاد) كما تأولت أنت نصوص الصفات، ولاسيما أنها أكثر وأصرح، فإذا تطرق التأويل إليها، فهو إلى ما دونها أقرب تطرقاً. ولا نجاة من هذا التناقض إلا بالإيمان بجميع النصوص، وإجرائها على ظاهرها، ومنع التأويل. ¬

(¬1) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 452، 452). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/ 206)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/ 314). (¬3) انظر: ((الصواعق المرسلة)) (2/ 453، 454).

القاعدة الثامنة عشرة: القطعية والظنية من الأمور النسبية الإضافية

القاعدة الثامنة عشرة: القطعية والظنية من الأمور النسبية الإضافية كون العلم – أو الدليل – بديهياً أو نظرياً، قطعياً أو ظنياً، هو من الأمور النسبية الإضافية التي تختلف باختلاف المدرك المستدل فقد يكون قطعياً عند زيد، ما لا يعرفه غيره إلا بالنظر، ومن اعتقد أن القطع والظن صفة لازمة للدليل بحيث يشترك في ذلك جميع الناس فقد غلط وخالف الواقع والحس .. (¬1). وعليه، فمن أنكر بعض الأحاديث بحجة أنها ظنية، فهذا إخبار منه عن حاله، إذ لم يحصل له من الطرق ما يفيده العلم والقطع، ولا يلزم من ذلك النفي العام، حتى يكون غيره من أهل الحديث والسنة لم يحصل له العلم والقطع بمدلول تلك الأحاديث: فيقال للمنكر: اصرف عنايتك إلى ما جاء به الرسول، واحرص عليه وتتبعه واجمعه، واعرف أحوال نقلته وسيرتهم، واجعل ذلك غاية طلبك ونهاية قصدك حتى يحصل لك من العلم اليقيني ما حصل لغيرك، أما مع إعراضك عنه وعن طلبه، فلو قلت: إنه لا يفيدك ظنًّا فضلاً عن اليقين، كنت صادقاً في الإخبار عن نفسك، وعن حظك ونصيبك منها (¬2). وما يذكره كثير من أهل الكلام من وجوب القطع في المسائل الخبرية والتي قد يسمونها مسائل الأصول، وقد يوجبون القطع فيها على كل أحد، فهذا الإطلاق والتعميم ليس بصحيح، بل هو خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، بل ما أوجب الله فيه العلم واليقين وجب فيه ذلك، كما في قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 98]، وقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد: 19] وأما ما تنازع فيه الناس من المسائل الدقيقة والتي قد تكون مشتبهة عند كثير منهم، لا يقدر الواحد منهم فيها على دليل يفيد اليقين، لا شرعي ولا غيره، لم يجب على مثل هذا في ذلك ما لا يقدر عليه، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب على ظنه، لعجزه عن تمام اليقين، بل ذلك هو الذي يقدر عليه، ولاسيما إذا كان موافقا للحق، فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه ويثاب عليه، ويسقط به الفرض، إذا لم يقدر على أكثر منه. ثم إن هؤلاء المتكلمين من أبعد الناس عما أوجبوه، بل تجدهم يحتجون بما هو أقرب إلى الأغلوطات منه إلى الظنيات فضلاً عن القطعيات، بل تجد الواحد منهم كثيراً ما يقطع بصحة حجة في موضع، ويقطع ببطلانها في موضع آخر، بل منهم من عامة كلامه كذلك (¬3). ¬

(¬1) انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 13)، و ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 432). (¬2) انظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 432 - 433). (¬3) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 52، 53).

القاعدة التاسعة عشرة: الاصطلاحات الحادثة لا تغير من الحقائق شيئا

القاعدة التاسعة عشرة: الاصطلاحات الحادثة لا تغير من الحقائق شيئاً قد يستخدم المبتدعة بعض الألفاظ الحسنة يصفون بها ما هم عليه من العقائد الفاسدة، رجاء قبولها عند ضعفاء الناس وشيوعها بينهم، ويستخدمون في حق منازعيهم من أهل السنة الألفاظ الذميمة والألقاب الشنيعة تنفيراً منهم، وتحقيراً لعلومهم (¬1): فأهل الكلام يسمون ما عندهم من الكلام عقليات, وقطعيات, ويقينيات, ويسمون ما عند غيرهم من العلوم: ظواهر وظنيات. ومحرفو الكلم عن مواضعه يسمون تحريفهم تأويلاً ليروج ويقبل، وقد عرفنا أن التأويل في استعمال القرآن هو العاقبة التي يؤول إليها الأمر، وفي عرف السلف: تفسير كلام وشرح معناه. والمعطلة للصفات، يسمون نفي الصفات تنزيهاً وتقديساً وتوحيداً ويسمون إثباتها: تجسيماً وتشبيهاً وحشواً، ويلقبون مثبتيها: بالمجسمة, والمشبهة, والحشوية. والمتصوفة يسمون خيالاتهم الشيطانية: حقائق ومعارف يقينية، وقد يسمونها توحيداً، ويسمون ما عند أهل السنة: ظواهر, ورسوماً, وعوائق, وحجباً. وكل هذه الاصطلاحات لا ينبغي أن تغير من الحقائق شيئاً. ¬

(¬1) انظر: ((مختصر الصواعق)) (1/ 87 - 89)، و ((الغنية)) لعبد القادر الجيلاني (1/ 17).

القاعدة العشرون: الحيدة عن الجواب ضرب من الانقطاع

القاعدة العشرون: الحيدة عن الجواب ضرب من الانقطاع الحيدة: جواب السائل بغير ما سأل عنه، كأن يقول لك قائل: من أين جئت؟ فتقول له: حضرت الآن. فهذا ليس جوابه: ومثال الحيدة في كتاب الله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه: قال تعالى: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء: 70 - 73] فصاروا بين أمرين: أن يقولوا بالإيجاب، وليس لهم حجة على ذلك إلا مجرد الدعوى، أو يقولوا بالنفي فتظهر حجة إبراهيم عليهم، فلما أدركوا أن أيا من الأمرين لا يصلح جواباً يخلصهم، حادوا عن الجواب فـ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 74] وهذا ليس جواب إبراهيم عليه السلام، وإنما حيدة وانقطاع (¬1). ومن أمثلة حيدة أهل البدع ما أجاب به بشر المريسي عبد العزيز المكي حين سأله: هل لله علم؟ فقال بشر: الله لا يجهل (¬2)، لأنه أدرك إن هو أجاب بالإثبات فقد أبطل حجته في كون القرآن مخلوقاً، لأنه لا يستطيع أن يقول: علم الله مخلوق، والقرآن من علم الله. وإن أجاب بالنفي كان ذلك منه تكذيباً صريحاً بنصوص التنزيل, فحاد عن الجواب لئلا يلزمه أحد الوجهين. فشهد المأمون عليه بالانقطاع. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان بن علي بن حسن– 2/ 689 ¬

(¬1) انظر: ((الحيدة)) (ص: 32 - 33). (¬2) انظر: ((الحيدة)) (ص: 31 - 36).

الباب الثالث: خصائص منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد ونتائج الالتزام به

الفصل الأول: خصائص منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد امتازت مناهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الدين أصوله وفروعه بخصائص جعلتها أكثر موافقة للحق وإصابة له، نذكر في هذا الموقع، طرفا منها: أولا: وحدة المصدر: وهو أن السلف لا يتلقون أمور دينهم إلا عن مشكاة النبوة، لا عقل ولا ذوق ولا كشف، بل هذه إن صحت كانت معضدة لحجة السمع (الكتاب والسنة) فكيف بمن عارض بها دلائل الكتاب والسنة، وأكثرها جهالات وخيالات فاسدة. وبهذا نفهم كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر بن الخطاب رضي الله عنه النظر في صحيفة من التوراة، وهو الكتاب المنزل من السماء، وإن شابه التحريف فهو أفضل من كثير من الأقيسة العقلية، والخيالات الصوفية (¬1): روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن ثابت أنه قال: ((جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين)) (¬2). وفي رواية (( ... أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية .. . والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) (¬3) ... فهذا موسى عليه السلام لو قدر وجوده بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ما جاز لأحد متابعته وترك ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل ما جاز له - أي موسى - ترك متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فكيف تتلقى أمور الديانة - أصولها وفروعها - عن عقل أو ذوق أو وجد أو نحو ذلك؟ قال ابن عبد البر (رحمه الله): (ليس في الاعتقاد كله، في صفات الله وأسمائه، إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه) (¬4). ثانيا: منهج توقيفي: ¬

(¬1) ((اعتقادات المسلمين والمشركين للرازي)) (72) ((التعرف لمذهب أهل التصوف لأبي محمد الكلاباذي)) (21) بتحقيق د. عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، دار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي وشركاه) 1380هـ - 1960م القاهرة (بدون رقم الطبعة)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/ 18). (¬2) رواه أحمد في ((مسنده)) (3/ 470) (15903). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 179): رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه جابر الجعفي وهو ضعيف. (¬3) رواه أحمد في ((مسنده)) (3/ 387) (15195). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 122): إسناده على شرط مسلم. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 136) - كما ذكر ذلك في المقدمة. وحسنه الألباني في ((تخريج كتاب السنة)) (50). (¬4) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 117).

فهو منهج يقوم على التسليم المطلق لنصوص الكتاب والسنة، لا يردون منها شيئا، ولا يعارضونها بشيء، لا بعقل، ولا ذوق، ولا منام، ولا غير ذلك، بل يقفون حيث تقف بهم النصوص، ولا يتجاوزونها إلى إعمال رأي أو قياس أو ذوق .. ملتزمين قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1] وقال الربيع بن خثيم رحمه الله: "يا عبد الله، ما علمك الله في كتابه من علم فأحمد الله، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه، لا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] (¬1) وقال الأوزاعي رحمه الله: (كان مكحول والزهري يقولان: أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تناظروا فيها) (¬2) يعني أحاديث الصفات. أما غير أهل السنة فقد أصلوا لأنفسهم قواعد، حاكموا إليها النصوص، فما وافق منها تلك القواعد قالوا به معضدين لا محتجين، وما خالف ردوه: إما بتضعيف - إن كان حديثا - أو تأويل، وإن أحسنوا المعاملة فوضوا العلم به وعزلوه عن سلطان الحكم والاحتجاج، حتى أحدثوا في دين الله تعالى من المقالات الشنيعة ما ضاهوا، أو سبقوا به اليهود والنصارى وعباد الأصنام. قال يونس بن عبد الأعلى: (سمعت الشافعي، يوم ناظره حفص الفرد، قال لي: يا أبا موسى .. . لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه) (¬3) وقال ابن عيينة: (سمعت من جابر الجعفي كلاما خشيت أن يقع علي وعليه البيت) (¬4). ثالثا: تجنب الجدل والخصومات في الدين: وبناء على ما سبق كان للسلف موقف واضح وصريح من الجدل والخصومات في مسائل الاعتقاد، حتى عدوا الكلام والتمحل فيها من البدع، التي شددوا النكير على مقترفيها، وقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل مشهورة معروفة: وهي (أن صبيغا قدم المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه، وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه جلس، فقال له عمر رضي الله عنه: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله صبيغ، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي) (¬5). ¬

(¬1) ((الاعتصام للشاطبي)) (2/ 336) وانظر ((جامع بيان العلم لابن عبد البر)) (2/ 118). (¬2) ((الاعتصام للشاطبي)) (2/ 336) وانظر ((جامع بيان العلم لابن عبد البر)) (2/ 118). (¬3) ((جامع بيان العلم لابن عبد البر)) (2/ 116). (¬4) ((جامع بيان العلم لابن عبد البر)) (2/ 116). (¬5) ((الشريعة للآجري)) (73) ((سنن الدارمي)) (1/ 55) ((شرح أصول السنة- اللالكائي)) (4/ 634) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث للإمام أبي إسماعيل عبد الرحمن بن إسماعيل الصابوني)) (51) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 390) ((الإصابة في تمييز الصحابة)) (3/ 458)

وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: (الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر، وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله، وفي الله عز وجل، فالسكوت أحب إلي، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في دين الله إلا فيما تحته عمل) (¬1) قال أبو عمر بن عبد البر (رحمه الله): (والذي قاله مالك رحمه الله عليه جماعة العلماء قديما وحديثا، من أهل الحديث، والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع: المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك) (¬2) وذلك فيما لم تكن هناك ضرورة، كرد باطل أو خوف من ضلالة أن تعم، فالواجب بيان الحق ودفع الباطل على ما أشار إليه ابن عبد البر رحمه الله (¬3). رابعا: اتفاق السلف في مسائل العقيدة: لقد كان من ثمرة صحة المنهج، وصدق قضاياه: أن يتفق أهل السنة على مسائل الاعتقاد مع اختلاف أعصارهم، وتباعد أمصارهم. يقول الإمام الأصبهاني رحمه الله: (ومما يدل على أن أهل الحديث هم أهل الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار؛ وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى فيهم اختلافا، ولا تفرقا في شئ ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟) (¬4). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن- بتصرف-1/ 40 ¬

(¬1) ((جامع بيان العلم)) (2/ 116). (¬2) ((جامع بيان العلم)) (2/ 116). (¬3) ((جامع بيان العلم)) (2/ 116) وانظر: ((الشريعة للآجري)) (62). (¬4) ((الحجة في بيان المحجة)).

الفصل الثاني: نتائج الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد

الفصل الثاني: نتائج الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد النتيجة الأولى: تحقيق كمال الدين، وتمام النعمة، وقيام الحجة: التزام هذا المنهج فيه اعتراف حقيقي بأن الله تعالى أكمل الدين، وأتم النعمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الغمة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، وأن الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم حواريو الرسول صلى الله عليه وسلم، وورثته في العلم والإيمان، وحفظة الله تعالى في عباده، أقاموا الدين علما وعملا، وبلغوه لفظا ومعنى. وهذا وإن كان واضحا في كل مسائل الديانة إلا أنه في مسائل الاعتقاد أشد وضوحا، وأعظم رسوخا، إذ (معرفة الاعتقاد أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا؟! ومن المحال – أيضا – أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال: (تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) (¬1) .. محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين – وإن دقت – أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم، في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته، غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام، ثم إذا كان قد وقع ذلك منه: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب: زائدين فيه أو ناقصين عنه ... ) (¬2). النتيجة الثانية: بيان ثبوت العصمة للشارع: الالتزام بهذا المنهج يفيد إثبات العصمة للشارع الحكيم، بحيث لا يجوز الاستدراك عليه، وذلك بعد أن تقرر بالأدلة والبراهين اليقينية أن ليس في الشرع ما يخالف مقتضيات العقول الصحيحة، كما أنه ليس في العقل الصحيح ما يخالف نصا صحيحا صريحا من نصوص الكتاب والسنة. بل كل ما يظن أنه يخالف الشرع من العقل فيمكن إثبات فساده بعقل صحيح صريح يبين أن تلك المخالفة مجرد ظن وتوهم. وعليه، فيجب النظر إلى الشريعة بعين الكمال لا بعين النقصان واعتبارها اعتبارا كليا في العقائد والعبادات والمعاملات، وعدم الخروج عنها البتة؛ لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عماية كيف وقد ثبت كمالها وتمامها فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق، المنحرف عن جادة الصواب إلى بنيات الطرق، وهذا هو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسببه الاستدراك على الشرع (¬3). النتيجة الثالثة: التصديق بجميع نصوص الكتاب والسنة: ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (43) , وأحمد (4/ 126) (17182). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 68): إسناده حسن, وصححه الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/ 131) , والألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (5/ 6). (¬3) ((الاعتصام للشاطبي)) (2/ 310).

الالتزام بهذا المنهج يفيد التصديق بجميع نصوص الكتاب والسنة، والاستدلال بها مجتمعة – ما لم يكن بين بعضها تناسخ – لأنها خرجت من مشكاة واحدة، وتكلم بها من وصف نفسه بكمال العلم وتمام الحكمة، ومن أصدق من الله قيلا، فلا يجوز ضرب بعضها ببعض؛ لأن ذلك يقتضي التكذيب ببعض الحق، إذ أنه من باب معارضة حق بحق، وهذا يقتضي التكذيب بأحدهما أو الاشتباه والحيرة، والواجب التصديق بهذا الحق وهو الحق؛ قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 32 - 33] فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق، ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق، فلو صدق الإنسان فيما يقوله، ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره لم يكن ممدوحا، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به، فأؤلئك هم المتقون" (¬1). النتيجة الرابعة: تعظيم نصوص الكتاب والسنة: إن الالتزام بهذا المنهج يجعل المسلم في موقف المعظم لنصوص الكتاب والسنة؛ لأنه يعتقد أن كل ما تضمنته هو الحق والصواب، وفي خلافها الباطل والضلال. أما المخالفون فقد سقطت من نفوسهم هيبة النصوص حتى استحلوا حرماتها، وعاثوا فيها تكذيبا أو تحريفا، وإن أحسنوا المعاملة أعرضوا عنها بقلوبهم وعقولهم ولم يستدلوا بشيء منها، فهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة: 78]. النتيجة الخامسة: عصمة علوم أهل السنة: أهل السنة معصومون فيما يأخذونه عن إجماع الصحابة والتابعين، لأن إجماعهم حجة، ولا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، فكيف إذا أجمع السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم على مسألة، فإن خلافهم فيها لا يجوز؛ لأنه خلاف الإجماع، وخلاف القرون المفضلة. أما أهل البدع والتفرق فلم يبالوا بهذا الأصل، حتى أعلنوا مخالفتهم لسلف الأمة وأئمتها، ونسبوهم إلى أعظم السفه والجهل. النتيجة السادسة: السكوت عما سكت عنه السلف: كل مسألة سكت عنها الصحابة والسلف الصالح وتكلم فيها الخلف – ولا سيما فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد والإيمان – إلا كان السكوت عنها أولى وأليق، ولم يأت فيها الخلف إلا بباطل من القول وزورا. ولهذا قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في وصيته إلى عدي بن أرطأة ( .. فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما يرضى به القوم لأنفسهم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى – وبفضل – لو كان فيه أجرى، فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم، ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر عنهم آخرون فضلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم) (¬2). النتيجة السابعة: النجاة المحضة موقوفة على متابعة مذهب أهل السنة: ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 404). (¬2) ((الشريعة للآجري)) (233).

إن النجاة المحضة وقف على من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا إنما يعرف عن طريق السنن المروية، والآثار الصحابية. وأولى الناس بمعرفة ذلك هم أهل السنة والجماعة؛ وذلك لاشتغالهم وعنايتهم بها، وانتسابهم إليها، بعكس أهل البدع من المتكلمة والمتصوفة الذين هم من أبعد الناس عن معرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مستغنين عن ذلك بالمحارات الفلسفية والخيالات الصوفية، ومنهم من يعترف بقلة بضاعته من الإرث النبوي، ومنهم من لو اطلعت على مصنفاته لا تكاد تقف على آية كريمة، أو حديث شريف، أو أثر عن صحابي شاهدين على أنفسهم بالجفاء. ثم ها هي الفرق الكبار: المعتزلة والخوارج والشيعة كلهم يطعن في الصحابة رضوان الله عليهم طعنا صريحا (¬1): أما المعتزلة فقد طعن زعيمهم النظام في أكثر الصحابة وأسقط عدالة ابن مسعود، وطعن في فتاوى علي بن أبي طالب، وثلب عثمان بن عفان، وطعن في كل من أفتى من الصحابة بالاجتهاد، وقال: إن ذلك منهم إنما كان لأجل أمرين: إما لجهلهم بأن ذلك لا يحل لهم، وإما لأنهم أرادوا أن يكونوا زعماء وأرباب مذاهب تنسب إليهم. فنسب خيار الصحابة إلى الجهل أو النفاق. ثم إنه أبطل إجماع الصحابة ولم يره حجة، وأجاز أن تجتمع الأمة على الضلالة (¬2). وأيضا – كان زعيمهم واصل بن عطاء الغزال يشكك في عدالة علي وابنيه، وابن عباس، وطلحة، والزبير، وعائشة وكل من شهد حرب الجمل من الفريقين، فقال مقالته المشهورة: لو شهد عندي علي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما؛ لعلمي بأن أحدهما فاسق ولا أعرفه بعينه. ووافقه على ذلك صاحبه عمرو بن عبيد وزاد عليه بأن قطع بفسق كل من الفريقين. وأما الخوارج فتكفيرهم لعلي وأكثر الصحابة رضي الله عنهم واستباحتهم لدمائهم وأموالهم مشهور معلوم، بل ساقوا الكفر إلى كل من أذنب من هذه الأمة. أما الشيعة فشعارهم الطعن في سائر الصحابة – عدا آل البيت – وغلاتهم من السبئية والبيانية وغيرهم قد حكم علماء الإسلام عليهم بالردة والخروج من الدين بالكلية. والإمامية منهم ادعت ردة أكثر الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. والأشاعرة ونحوهم من المتكلمين ممن يدعي في طريقة الخلف العلم والإحكام، وفي طريقة السلف السلامة دون العلم والإحكام، يلزمهم تجهيل السلف من الصحابة والتابعين وهو طعن فيهم من هذا الوجه. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله – بعد أن حكى عنهم هذا الكلام -: (ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض) (¬3). فكيف يقال في هؤلاء جميعا إنهم موافقون للصحابة في علومهم وأعمالهم؟! النتيجة الثامنة: شرف الانتساب إلى السلف الصالح: إن السلفية تطلق ويراد بها أحد معنيين: أحدهما: الحقيقة التاريخية التي تختص بأهل القرون الثلاثة المفضلة؛ لحديث: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم .. ) (¬4). الثاني: الطريقة التي كان عليها أهل تلك القرون الفاضلة من التمسك بالكتاب والسنة وتقديمهما على ما سواهما، والعمل بها على مقتضى فهم الصحابة والسلف. فالسلفية بالمعنى الثاني منهاج باق إلى يوم القيامة يصح الانتساب إليه متى التزمت شروطه وقواعده؛ لحديث: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) (¬5). ¬

(¬1) ((الفرق بين الفرق للبغدادي)) (318 وما بعدها). (¬2) ((فضل الإجماع)) (140 من هذا البحث). (¬3) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 157). (¬4) ((تقدم تخريجه)) (36). (¬5) ((تقدم تخريجه)) (36).

وعليه، فكل أحد وإن تأخر زمانه عن عصر السلف، لكنه التزم منهاجهم في العلم والعمل فهو منهم، وسلفي معهم، فالمرء مع من أحب. قال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله لبعض أصحابه: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن مثلهم، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت) (¬1). النتيجة التاسعة: عدم صحة الإيمان المشروط: الالتزام بهذا المنهج يقرر عدم صحة الإيمان كمن يقول: أنا لا أؤمن بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعلم انتفاء المعارض العقلي، أو أنا لا أؤمن حتى تصدق خبره رؤيا منام، أو كشف، أو ذوق، أو حس (التجربة المعملية) أو نحو ذلك من الشرائط، فهذا إيمان لا يصح، وصاحبه فيه شبه من الذين: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [الأنعام: 124] والذين قالوا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55]. فالواجب على الإنسان – إذا تبين له صدق الرسول – أن يؤمن بالله ورسالاته إيمانا مطلقا غير مشروط، ولا متعلق بشيء من خارج. ولهذا كان شعار أهل الإيمان، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة: 285] وشعار أهل الكفر والطغيان: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة: 93]. النتيجة العاشرة: تكثير الصواب وتقليل الخطأ: الاعتماد على الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الاستدلال يقلل الخطأ ويكثر الصواب والتوفيق، وهذا الخطأ يكون بسبب نقص علم المستدل أو قصور فهمه، أو سوء قصده، وهذا قد يوجد في بعض أهل السنة (ففي بعضهم من التفريط في الحق، والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا، وقد يكون منكرا من القول وزورا، وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات؛ فهذا لا ينكره إلا جاهل أو ظالم .. ) لكن – مع ذلك – هم بالنسبة إلى غيرهم - في ذلك – كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل، فكل شر يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر، وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم، وهكذا أهل الحديث والسنة بالنسبة إلى غيرهم من طوائف المسلمين (¬2): يعرفون الحق ويرحمون الخلق، أما أهل البدع فيكذبون بالحق ويكفرون الخلق، فلا علم ولا رحمة .. (¬3). النتيجة الحادية عشرة: الاستغناء بالكتاب والسنة عما سواهما: ¬

(¬1) ((تلبيس لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي)) (85). (¬2) ((نقض المنطق لابن تيمية)) (22). (¬3) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 431).

الالتزام بهذا المنهج يفيد الاستغناء بالكتاب والسنة عن النظر في الكتب المتقدمة: كالتوارة والإنجيل والزبور، لما أصابها من التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان، فالقرآن الكريم كتاب مستقل بنفسه، ناسخ لما قبله، لم يحوج الله تعالى أهله إلى كتاب آخر – كما هو حال أهل الزبور والإنجيل مع التوراة – والقرآن قد اشتمل على جميع ما في الكتب الأخرى من المحاسن، وعلى زيادات كثيرة لا توجد فيها، مع ضمان الحفظ ونزاهة النص عن التحريف، ولهذا كان مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه، يقرر ما فيه من الحق، ويبطل ما حرف منه وينسخ ما نسخه الله تعالى (¬1). ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينظر في صحيفة من التوراة غضب وقال: ((أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية .. والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) (¬2). النتيجة الثانية عشرة: طريقة السلف: أسلم وأعلم وأحكم: إن الذين يقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهي التأويل الذي هو صرف النصوص إلى معنى قد تحتمله اللغة، لكن في غير هذا السياق المعين، والتأويل عندهم مظنون بالاتفاق (¬3) فلا أحد منهم يقطع بالمعنى الذي صرفوا اللفظ إليه، لم يحصلوا شيئا، بل تركوا النصوص وفيها الحق واليقين، ولجأوا إلى احتمالات وتجويزات مزقتهم كل ممزق، مع حيرة وضياع: قال الشوكاني رحمه الله (¬4): (فهم – أي أهل الكلام – متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا: هنيئا للعامة، فتدبر هذه الأعلمية التي حاصلها أن يهنئ من ظفر بها للجاهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم، وممن يدين بدينهم، ويمشي على طريقهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت، ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها: الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه: أن الجهل خير منه، وينتهي عند البلوغ إلى غايته، والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به، عاطلا عنه، ففي هذا عبرة للمعتدين وآية بينة للناظرين .. ). النتيجة الثالثة عشرة: اجتماع محاسن الفرق الأخرى لأهل السنة خالصة من كل كدر: الالتزام بهذا المنهج يجمع لأهل السنة ما عند الفرق الأخرى من الحق، مع نبذ أباطيلهم؛ لأن ما عند الفرق المخالفة للحق شبه، والشبهة ما أشبهت الحق من وجه، ولهذا تشتبه على الناس، فأهل السنة يأخذون بالوجه الحق، ويدعون الوجه الباطل، وسبب هذا التوفيق هو استدلالهم بجميع النصوص، من غير توهم تعارض بينها، أو بينها وبين العقل الصحيح الصريح، أما أهل الفرق الأخرى فقد ضربوا النصوص بعضها ببعض، أو عارضوها بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وأهل السنة آمنوا بالكتاب كله، وأقاموه علما وعملا. النتيجة الرابعة عشرة: مخالفة مسالك الأمم الضالة: ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (19/ 184). (¬2) ((تقدم تخريجه)) (42). (¬3) ((الملل والنحل للشهرستاني)) (1/ 104). (¬4) ((التحف في مذاهب السلف)) (3).

الالتزام بهذا المنهج يفيد مجانبة مسالك الأمم الضالة من اليهود والنصارى وغيرهم، وقد أمرنا بمخالفة طرائقهم، وتجنب سننهم، ومنها أنهم ردوا على الرسل ما أخبروا به، واعترضوا عليهم بالاعتراضات الباطلة، كما قالت اليهود لموسى عليه السلام: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55]. وقال الذين كفروا:: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [الأنعام: 124]. وكل من أوقف الإيمان بالنصوص على موافقة عقله أو قياسه أو ذوقه أو كشفه أو منامه أو حسه ففيه شبه من شبه اليهود والنصارى والذين كفروا، وقد أمرنا بمخالفتهم. ولهذا لا تكاد تجد شبهة أو مقالة منحرفة في الفرق المخالفة لأهل السنة، إلا وفي اليهود والنصارى نظيرها. النتيجة الخامسة عشرة: ما تلزمه المخالفة من الكفر، وما يلتزمه المخالف من الدعوى إلى بدعته: مخالفة هذا المنهج تؤدي إلى كثير من الكفريات كنفي الصفات، والقول بخلق القرآن، والتكذيب بالقدر، ونفي حكمة الرب تعالى ومشيئته واختياره، والحلول والاتحاد، وتفضيل الأولياء على الأنبياء، والتكذيب بأخبار المعاد وحشر الأجساد، والطعن في الصحابة وحملة الدين، وغير ذلك من الأمور الكفرية، وقد كان لكل فرقة من الفرق المخالف لأهل السنة نصيب من هذه الأمور وغيرها. قال أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: (وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك، وكثير منهم إلى الإلحاد؛ تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين ... ) (¬1). كما أنه يغلب على مخالف هذا المنهج أن يكون داعيا إلى بدعته؛ لأنه يتدين بذلك، أي يعتقده دينا وشرعة، وأن ما عليه غيره بدعة وضلالة، وعلى هذا يفهم قول من قال: المبتدع لا توبة له (¬2)؛ لأنه يعتقد أن ما عليه هو الحق، وما دونه الباطل، بخلاف العاصي فإنه مقر بمخالفته ومعصيته، فهذا يرجى رجوعه وتوبته، بخلاف ذلك المبتدع. النتيجة السادسة عشرة: اليقين والثبات لأهل السنة، وفي مقابله الاضطراب والتنقل لأهل البدع: الالتزام بهذا المنهج يفيد الرجل يقينا وثباتا، ومخالفته تفيده اضطرابا وتنقلا: قال ابن تيمية رحمه الله: (إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالا من قول إلى قول، وجزما بالقول في موضع، وجزما بنقيضه، وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، فإن الإيمان كما قال فيه قيصر لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له، بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد. ولهذا قال بعض السلف – عمر بن عبد العزيز أو غيره -: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل (¬3). ¬

(¬1) ((تلبيس إبليس لابن الجوزي)) (85). (¬2) ((الاعتصام)) (2/ 272). (¬3) رواه عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 116).

أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة .. ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لابد في كل بدعة – عليها طائفة كبيرة – من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويوافق عليه أهل السنة والحديث: ما يوجب قبولها، إذ الباطل المحض لا يقبل بحال. وبالجملة: فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة .. ) (¬1). النتيجة السابعة عشرة: الشك والحيرة والضياع مصير المخالف: مخالفة هذا المنهج أورثت المخالفين شكا وحيرة وضياعا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الحونجي صاحب (كشف الأسرار في المنطق)، وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن. أنه قال عند الموت: أموت وما علمت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب. ثم قال: الافتقار وصف عدمي. أموت وما علمت شيئا) (¬2). وقال رحمه الله: (حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال: أبيت بالليل، وأستلقي على ظهري، وأضع الملحفة على وجهي وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء) (¬3). وقال آخر (بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم عن المعارض فما وجدته) (¬4). وهذا الفخر الرازي يقول (¬5): (نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا) وهذا الشهرستاني يصف حال المتكلمين في قوله (¬6): (لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم) وقال ابن أبي الحديد المعتزلي المتشيع يصف حاله وحال إخوانه من المتكلمين (¬7): (فيك يا أغلوطة الفكر ... حار أمري وانقض عمرى سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا أذى السفر فلحي الله الألى زعموا ... أنك المعروف بالنظر كذبوا إن الذي ذكروا ... خارج عن قوة البشر) قال ابن تيمية: (ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 8 - 9] يعلم الذكي منهم والعاقل: أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة، وإنما هي كما قيل فيها: حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور ويعلم العليم البصير أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام). (¬8). ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 50). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 262). (¬3) ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 263). (¬4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 263). (¬5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 160). (¬6) ((نهاية الإقدام)) (3). (¬7) ((شرح الطحاوية)) (171). (¬8) رواه ابن عبد البر في: ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 193).

ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر – والحيرة مسئولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم – رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون [الأحقاف: 26]. ومن كان عليما بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا) (¬1). ولهذا من أدركته رحمة الله تعالى منهم خرج عن ذلك ورجع إلى طريقة السلف وأوصى بذلك: روى الخطيب البغدادي بسنده إلى أحمد بن سنان أنه قال: (كان الوليد الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا. قال: فتتهمونني؟ قالوا: لا. قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم) (¬2) قال أبو بكر بن الأشعث: (كان أعرف الناس بالكلام بعد حفص الفرد الكرابيسي) (¬3). وقد سئل الإمام أحمد عنه وما أظهر: فكلح وجهه ثم قال: (إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأقبلوا على هذه الكتب) (¬4). وقال أبو المعالي الجويني: (لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق وهربا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، فالويل لابن الجويني) (¬5) وكان يقول لأصحابه: (يا أصحابنا لا تنشغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ في ما بلغ ما تشاغلت به) (¬6). النتيجة الثامنة عشرة: أهل السنة أعمق علما وأسد عقلا: لما كان أهل السنة ملتزمين المنهج الصحيح كان كلامهم في مسائل الكون صحيحا متفقا، لا يتكلمون فيها إلا بعلم (عقلي أو سمعي)، وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه: قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) سورة محمد وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68] (¬7). ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (5/ 119). (¬2) ((شرف أصحاب الحديث)) (55، 56 برقم: 111)، وكذلك رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص: 84. (¬3) ((شرف أصحاب الحديث)) (56). (¬4) ((شرف أصحاب الحديث)) (6) برقم (6). (¬5) ((تلبيس إبليس)) (84). (¬6) ((تلبيس إبليس)) (85). (¬7) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 10).

وقال ابن القيم رحمه الله في شرح آية: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور: 35] قال رحمه الله: (النور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب؛ فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادفان ويتوافقان) (¬1). أما غير أهل السنة من المتكلمين والمتصوفة وغيرهم فكلامهم في مسائل الكون خبط من غير علم: يقول عبد القادر البغدادي – وهو يذكر ما أجمع عليه أهل السنة وهم – عنده – الأشاعرة -: (وأجمعوا على وقوف الأرض وسكونها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها .. وأجمعوا على أن الأرض متناهية الأطراف من الجهات كلها، وكذلك السماء متناهية الأقطار من الجهات الست (¬2)) وزعم أنه يرد بذلك على الفلاسفة والدهرية. فهذا الذي قاله لا يدل عليه عقل ولا نقل فضلا عن الإجماع، بل هو - في زماننا هذا – أشبه بالأساطير. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: (والخطأ فيما تقوله الفلاسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين، وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام، فإن أكثر أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم، ولا عقل، ولا شرع) (¬3). النتيجة التاسعة عشرة: اعتقاد منع التعارض بين النقل والعقل يفيد في عمران الحياة، وازدهار الحضارات؛ فتنعم البشرية بهدي الله وشرعه، ولأهل السنة اليد الطولى والقدح المعلى في تقدم المعارف العقلية، والعلوم التطبيقية، إذ ليس هناك ما يحجزهم دونها، كما حدث في الدولة المسيحية في عصور الظلام، حين انقدح عندهم التعارض بين نصوص الإنجيل ومعطيات العقل، حتى تعرض المشتغلون بالعلوم التطبيقية والمعارف العقلية إلى أشد أنواع التنكيل من قبل الكنيسة حتى كان الانعتاق من سلطانها، وبداية ظهور الاتجاه العلماني. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلا، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم (بذلك) (¬4) متمتعين .. ) (¬5). النتيجة العشرون: إن الالتزام بهذا المنهج يوحد بين صفوف المسلمين، ويجمع كلمتهم؛ على تنوع اهتماماتهم العلمية والعملية، وتفاضل مقاديرهم في العلم والإيمان، ولا يعني هذا الاتفاق في جميع تفاصيل المسائل ودقائقها، ولكن الاتفاق في الطريق والمنهج الموصل إلى الحق، فإن وجد اختلاف بعد ذلك لم يفسد للود قضية، بل يندفع بالتناصح والتشاور، وتذوب حدته في بحر الألفة والمودة: قال أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله: (¬6) (السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطرق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات المتقنين قلما تختلف، وإن (اختلفت) (¬7) في لفظ أو كلمة فذلك الاختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه، وأما ذكر دلائل العقل (¬8) فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يرى صاحبه غير ما يرى الآخر. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن - 2/ 730 ¬

(¬1) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (8). (¬2) ((الفرق بين الفرق)) (230)، ((أصول الدين له)) (124)، ((المواقف للإبجي)) (199، 217، 219). (¬3) ((الرد على المنطقيين)) (311). (¬4) في الأصل (كذلك ولعل الصواب ما أثبته. (¬5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 10). (¬6) ((الحجة في بيان المحجة ورقة)) (165) وهذا النص نسبه ابن القيم في مختصر الصواعق 2/ 426 وما بعدها إلى أبي المظفر السمعاني. (¬7) في الأصل (اختلف) ولعل الصواب ما أثبته، كما في مختصر الصواعق 2/ 426. (¬8) هكذا في الأصل، وفي مختصر الصواعق: وأما المعقولات والخواطر والآراء فقلما تتفق. .. 2/ 426.

الفصل الثالث: حكم من خالف منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد

الفصل الثالث: حكم من خالف منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق – أسوة باليهود والنصارى – إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن جميعها في النار، خلا واحدة هي الناجية، وهي الجماعة، وهي الفرقة المنصورة (¬1)، وأن سبب نجاتها هو التزامها بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أمور الديانة: علما وعملا. وقد أفتى أهل العلم بأن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم أصحاب الحديث، حتى قال الإمام أحمد رحمه الله: (إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم) (¬2). وروي نحوه عن يزيد بن هارون، وأحمد بن سنان، وعلي بن المديني، والإمام البخاري رحمهم الله) (¬3). وأهل الحديث والسنة: هم الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، وهم – أيضا – أعظم الناس اتباعا لها: تصديقا وعملا وحبا، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة – عن رأي أو ذوق – ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجعلون ما بعث به من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه. وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأحكام، ومسائل المعاد وحشر الأجساد وغير ذلك، يردونه إلى الله ورسوله، فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم (¬4). وعليه، فما عدا طائفة أهل الحديث هم أهل أهواء وبدع وتفرق، محكوم على جملتهم بمخالفة الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق: قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: (أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام: أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع - في جميع الأمصار - في طبقات العلماء، وإنما العلماء: أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم) (¬5). وقال هارون الرشيد رحمه الله: (طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث) (¬6). وقال رجل للحسن بن زياد اللؤلؤي في زفر بن هذيل: (أكان ينظر في الكلام؟ فقال: سبحان الله! ما أحمقك! ما أدركت مشيختنا: زفر، وأبا يوسف، وأبا حنيفة، ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم) (¬7). وقال الإمام مالك رحمه الله: (لا تجوز الإجارات في شيء من كتب الأهواء والبدع والتنجيم، وذكر كتبا، ثم قال: وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك) (¬8). ¬

(¬1) ((أحاديث الافتراق والطائفة المنصورة)) (35) من هذا البحث. (¬2) رواه عنه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (25) برقم 42، ص: 27 برقم: 48. (¬3) شرف أصحاب الحديث (ص 26) برقم: 46، 47، وص 27 برقم: 48، 49، 50، 51. (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 347). (¬5) ((جامع بيان العلم)) (2/ 117). (¬6) شرف أصحاب الحديث (ص 55) برقم: 110. (¬7) ((جامع بيان العلم)) (2/ 117). (¬8) ((جامع بيان العلم)) (2/ 117).

وقال ابن خويز منداد – من أئمة المالكية-: (أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع: أشعريا كان، أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليه استتيب منها) (¬1). وقال يونس بن عبد الأعلى: (سمعت الشافعي – يوم ناظره حفص الفرد – قال لي: يا أبا موسى لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خير من أن يلقاه بشيء من الكلام، لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه) (¬2). وأيضا – قال الشافعي رحمه الله: (حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل؛ فينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام) (¬3). وقال الإمام أحمد رحمه الله: (إنه لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل) (¬4). وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: ( .. فلم يسع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يأبى عما وجد فيهما، فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق، وأما من فعله مستحلا للخروج عن أمرهما، وموجبا لطاعة أحد دونهما فهو كافر لا شك عندنا في ذلك) (¬5). وقال رحمه الله - في موضع آخر – عقب قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا [النساء: 61] قال: (فليتق الله – الذي إليه المعاد – امرؤ على نفسه، ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية، وليشتد إشفاقه من أن يكون مختارا للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار، فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسائل الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها، فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى وإلى كلام الرسول فصده عنهما، ودعاه إلى قياس، أو إلى قول فلان وفلان، فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقا. نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة) (¬6). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن - 2/ 719 ¬

(¬1) ((جامع بيان العلم)) (2/ 117). (¬2) ((جامع بيان العلم)) (2/ 116). (¬3) شرف أصحاب الحديث (ص 78) برقم: 168 وتحريم النظر ص: 17. (¬4) ((جامع بيان العلم)) (2/ 116) وتحريم النظر ص: 17. (¬5) ((الإحكام)) (1/ 110). (¬6) ((الإحكام)) (1/ 113).

الكتاب الثاني: الإيمان بالله: (توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات – الشرك وأقسامه)

الفصل الأول: فطرية المعرفة بوجود الله وجود الله تعالى أمر فطري، مغروز في النفس البشرية؛ فعندما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أخذ منه، ومن ذريته، الشهادة على أنه ربهم ومعبودهم الحق فقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172 - 173]. وقد كانت دعوة الأنبياء جميعاً تنبثق من هذا الأصل الفطري العظيم؛ وهو الإيمان بالله تعالى؛ والدعوة لتوحيده في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته، فما أثر عن أمة من الأمم إنكارها لوجود الله تعالى، إلا ما نسب إلى فرعون، والدهرية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728): (وأشهر من عرف تجاهله، وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن؛ كما قال له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102]، وقال تعالى عنه وعن قومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]) (¬1). ونص شيخ الإسلام في موضع آخر على أن فرعون كان معترفاً بالله في الباطن، فقال: (وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق، ولكن أظهر خلاف ما في نفسه؛ كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]. وأما الدهرية فهم لم ينكروا وجود الله تعالى؛ كما قال الشهرستاني (ت 548): (أما تعطيل العالم عن الصانع العليم، القادر الحكيم، فلست أراها مقالة، ولا عرفت عليها صاحب مقالة، إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا: كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة، تتحرك على غير استقامة، فاصطكت اتفافاً؛ فحصل العالم بشكله الذي تراه عليه، ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر وجود الصانع؛ بل هو يعترف بالصانع، لكنه يحيل سبب وجود العالم على البحث والاتفاق؛ احترازاً عن التعليل) (¬2). ومما يجب العلم به أن هذا المصطلح – أي (وجود الله تعالى) أو (إثبات الصانع)، أو (إثبات واجب الوجود)، وغيرها – هي مصطلحات مبتدعة، برزت في الوسط الإسلامي، مع ظهور فرق الابتداع، واختلاط المسلمين بأهل الشك والريب، من أهل البلاد المفتوحة، فما كانت البيئة الإسلامية تعرف مثل هذه المصطلحات المحدثة. ولعل مثل هذه المقالات روجها زنادقة البلاد المفتوحة؛ حقداً وحسداً على هذا الدين وأهله، عندما هالهم سرعة انتشاره وتقبله من أهل تلك البلاد، فعكف هؤلاء الزنادقة وغيرهم من القادة الدينيين على تأليف المقالات المنحرفة وزرع الشبه والريب بين المسلمين الجدد. ¬

(¬1) ابن تيمية ((ردء تعارض العقل والنقل)) (8/ 38) ت د. محمد رشاد سالم – ط1 - 1401 - جامعة الإمام محمد بن سعود، وانظر .. أبي العز الحنفي، ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 17) ت الألباني ط الأزهر. (¬2) الشهرستاني ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 123 - 124) ت- الفرد جيوم – لندن 1934.

ومما يوضح هذا التعليل أن بلاد فارس والعراق وغيرها قد تعرضت إلى هجمات فكرية عنيفة من الصابئة ودهاقنة الفرق يعاونهم اليهود والنصارى، والسمنية الهنود، الذين كانوا يطوفون في البلاد الإسلامية ويزرعون الشبه والشكوك، ولا شك أن هذه الجماعات قد نشأت ونظمت نفسها، وبدأت عملها في القرن الأول الهجري. ومن أمثلة ذلك ما روي أن مجموعة من الملاحدة سألوا (¬1): (ما الدلالة على وجود الصانع، فقال لهم: دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب، قالوا: ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة؛ وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها، فقالوا له: أمجنون أنت؟ قال وما ذاك؟ قالوا: أهذا يصدقه عاقل؟ فقال: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري وتحدث هذه الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرم؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام) (¬2). ومنها أيضاً أولئك السمنية الهنود الذين جادلوا الجهم بن صفوان (ت 128هـ) في الإله المعبود فتحير الجهم، ولم يدر ما يجيب وتوقف عن الصلاة أربعين يوماً حتى يتبين له ما يعبد بزعمه، ثم أحدثت هذه المجادلة الانحراف الكبير في عقلية الجهم؛ مما حدا به إلى نفي الصفات، وفتح باباً كبيراً من أبواب الشر في عقيدة الأمة (¬3). فهذه الموجات الإلحادية التي غزت العالم الإسلامي في مراحل تكونه الأولى كانت من أهم الأسباب التي فتحت باب الجدل في وجود الله تعالى، وفي أسمائه وصفاته، على تلك الطريقة المبتدعة المذمومة، التي خالفت ما جاء به الكتاب والسنة من تقرير هذه المسائل بالطريقة السهلة الميسرة المقبولة. وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية على أن أصول هذه المقالات المبتدعة هم الجهمية وغيرهم من فرق الابتداع، فقال: (إذا كانت معرفته والإقرار به ثابتاً في كل فطرة، فكيف ينكر ذلك كثير من النظار؛ نظار المسلمين وغيرهم، وهم يدعون أنهم يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية، فيقال لهم ... أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة – هم أهل الكلام؛ الذين اتفق السلف على ذمهم، من الجهمية، والقدرية، وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف، وأجهلهم، ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين؛ الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم سلفهم الجهمية، فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء مسلمين، وليس كذلك إنما صدر أولاً عمن ذمه أئمة الدين، وعلماء المسلمين) (¬4). وتبعا لهذا الانحراف ... في تقرير وجود الله تعالى عند الجهمية، والمبتدعة اتسع انحراف المتكلمين من المعتزلة وغيرهم، فاشترطوا النظر والاستدلال، والشك لحصول العلم بالصانع بزعمهم، وقد فند شيخ الإسلام هذا الزعم الباطل، فقال: (ليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين، ولا هو قول المتكلمين، ولا غالبهم، بل هذا قول محدث في الإسلام، ابتدعه متكلمو المعتزلة، ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم، وقد نازعهم في ذلك طوائف من المتكلمين من المرجئة، والشيعة، وغيرهم، وقالوا: بل الإقرار بالصانع فطري ضروري بديهي، لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال ... بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله، والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل النظر) (¬5). العقيدة الإسلامية لعطا الله بخيت المعايطة – ص: 13 ¬

(¬1) نسب شارح الطحاوية هذه الحادثة لأبي حنيفة رحمه الله وأن الملاحدة سألوه هو (ص: 23) في حين نسبها ابن تيمية إلى بعض أهل العلم. ((درء تعارض)) (3/ 126). (¬2) ابن تيمية ((درء التعارض)) (3/ 127). (¬3) ((عقائد السلف)) الإمام أحمد بن حنبل ((الرد على الزنادقة)) (ص: 65) ت – النشار وطالبي ط منشأة المعارف الإسكندرية – 1971م. (¬4) ابن تيمية ((مجموع الفتاوى)) (16/ 431) – جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصي النجدي – رحمه الله، وولده محمد. (¬5) ابن تيمية ((نقض تأسيس الجهمية)) (5/ 473) – بتصرف – ت عبد الرحمن بن محمد العاصي وولده، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (6/ 350) ونسبة هذه الطرق إلى المبتدعة والجهمية.

الفصل الثاني: وصف الله تعالى بالوجود

الفصل الثاني: وصف الله تعالى بالوجود وجود الله معلوم من الدين بالضرورة، وهو صفة لله بإجماع المسلمين، بل صفة لله عند جميع العقلاء، حتى المشركين، لا ينازع في ذلك إلا مُلْحِد دهري، ولا يلزم من إثبات الوجود صفة لله أن يكون له موجِد لأن الوجود نوعان: الأول: وجود ذاتي: وهو ما كان وجوده ثابتاً له في نفسه، لا مكسوباً له من غيره، وهذا هو وجود الله سبحانه وصفاته؛ فإنَّ وجوده لم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] الثاني: وجود حادث: وهو ما كان حادثاً بعد عدم، فهذا الذي لابد له من موجد يوجده وخالق يحدثه، وهو الله سبحانه، قال تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الزمر:62 - 63]، وقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36] .... فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء – 3/ 190

الفصل الثالث: معرفة الله

الفصل الثالث: معرفة الله قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: معرفة الله قسمان: 1 – معرفة وجود ومعاني، وهذا هو المطلوب منا. 2 – ومعرفة كنه وحقيقة، وهذا غير مطلوب منا لأنه مستحيل. يعني: لو قال قائل: تعرف الله مثلا: تعرف حقيقة ذاته وحقيقة صفاته؟ لكان الجواب: لا، لا نعلم ذلك وليس مطلوب منا والوصول إلى ذلك مستحيل، فالمطلوب إذن معرفة الذات بالوجود ومعرفة الصفات بالمعاني، أما معرفة الكنه والحقيقة فهذا مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فصار قول المؤلف في معرفة الله لا بد فيه من هذا التسديد، قوله: (أول واجب على العبيد): أول واجب على الإنسان أن يعرف الله، وقالوا: المراد أول واجب لذاته، وأما أول واجب لغيره فهو النظر والتدبر الموصل إلى معرفة الله، فالعلماء قالوا: أول ما يجب على الإنسان أن ينظر فإذا نظر وصل إلى غاية وهي المعرفة فيكون النظر أول واجب لغيره، والمعرفة أول واجب لذاته، وقال بعض أهل العلم: إن النظر لا يجب لا لغيره ولا لذاته، لأن معرفة الله عز وجل معلومة بالفطرة، والإنسان مجبول عليها ولا يجهل الله عز وجل إلا من اجتالته الشياطين ولو رجع الإنسان إلى فطرته لعرف الله دون أن ينظر أو يفكر، قالوا: ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (¬1) وقوله سبحانه في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين)) (¬2) فصار الصارف عن مقتضى الفطرة حادث وارد على فطرة سليمة، فأول ما يولد الإنسان يولد على الفطرة ولو ترك ونفسه في أرض برية ما عبد غير الله، ولو عاش في بيئة مسلمة ما عبد غير الله، وحينئذ تكون عبادته لله، إذا عاش في بيئة مسلمة يكون المقوم لها شيئين: وهما الفطرة والبيئة، لكن إذا عاش في بيئة كافرة فإنه حينئذ يحدث عليه هذا المانع لفطرته من الاستقامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (¬3)، إذن معرفة الله عز وجل لا تحتاج إلى نظر في الأصل، ولهذا عوام المسلمين الآن هل هم فكروا ونظروا في الآيات الكونية والآيات الشرعية حتى عرفوا الله أم عرفوه بمقتضى الفطرة؟ ولا شك أن للبيئة تأثيراً، ما نظروا بل إن بعض الناس – والعياذ بالله – إذا نظر وأمعن ودقق وتعمق وتنطع ربما يهلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون)) (¬4)، ¬

(¬1) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) مسلم (2670). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ..

فالصحيح: إذن ما قاله المؤلف أن: أول واجب: معرفة الله، أما النظر: فلا نقول: إنه واجب، نعم لو فرض أن الإنسان احتاج إلى النظر فحينئذ يجب عليه النظر لو كان إيمانه فيه شيء من الضعف يحتاج إلى التقوية فحينئذ لا بد أن ينظر، ولهذا قال تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185] وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون: 68] وقال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29] فإذا وجد الإنسان في إيمانه ضعفاً حينئذٍ يجب أن ينظر، لكن لا ينظر هذا الناظر من زاوية الجدل والمعارضات والإيرادات، لأنه إن نظر من هذه الزاوية يكون مآله الضياع والهلاك يورد عليه الشيطان من الإيرادات ما يجعله يقف حيران، ولكن ينظر من زاوية الوصول إلى الحقيقة، فمثلاً: نظر إلى الشمس هذا المخلوق الكبير الوهاج لا يقول من الذي خلقه؟ خلقه الله عز وجل، فيقول: من الذي خلق الله؟ لا، يقول خلقه الله ويسكت، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا أن ننتهي إذا قال لنا الشيطان من خلق الله؟ لنقطع التسلسل، الحاصل: أن النظر لا يحتاج إليه الإنسان إلا للضرورة كالدواء لضعف الإيمان وإلا فمعرفة الله مركوزة بالفطر، وقول المؤلف: (معرفة الإله بالتسديد): أي بالصواب، لكن ما هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل؟ الطريق: قلنا بالفطرة قبل كل شيء، فالإنسان مفطور على معرفة ربه تعالى وأن له خالق، وإن كان لا يهتدي إلى معرفة صفات الخالق على التفصيل ولكن يعرف أن له خالقاً كامل من كل وجه، ومن الطرق التي توصل إلى معرفة الله: العقل، الأمور العقلية فإن العقل يهتدي إلى معرفة الله بالنظر إلى ذاته – هذا إذا كان القلب سليما ً من الشبهات – فينظر إلى ما بالناس من نعمة فيستدل به على وجود المنعم، لأنه لولا وجود المنعم ما وجدت النعم وعلى رحمته فلولاه ما وجدت ينظر إلى إمهال الله عز وجل للعاصين فيستدل به على حلم الله وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ [فاطر: 45] لأن أكثر الناس على الكفر، فلو أراد الله أن يؤاخذه – أن يؤاخذهم على أعمالهم – ما ترك على ظهرها من دابة، ننظر في السماوات والأرض فنستدل به على عظم الله فإن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق،، وهكذا، نعرف الله تعالى بإجابة الدعاء، فنعرف بهذا وجود الله وقدرته ورحمته وصدقه عز وجل، ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] أخذ الله للكافرين بالنكبات والهزائم تدل على أن الله شديد العقاب، وأنه من المجرمين منتقم، ونصر الله لأوليائه تدل على أن الله ينصر من شاء شرح العقيدة السفارينية لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص128 كما أنه يجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع جميع الموجودات، وأما دلالة الاختراع فيدخل فيها وجود الحيوان ووجود النبات ووجود السموات، وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس:

أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الآية [الحج: 73]؛ فإنا نرى أجساماً جمادية ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعاً أن هاهنا موجداً للحياة, ومنعماً بها وهو الله تبارك وتعالى، وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة. وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مخترع فله مخترع, فيتضح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلاً مخترعاً له، وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات. وكذلك كان واجباً على من أراد معرفة الله تعالى حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف: 185] وكذلك أيضاً من تتبع معنى الحكمة في موجود أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق الغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليل الشرع. وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز هي مختصرة في هذين الجنسين من الدلالة, فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى، إذا تصفحت وجدت على ثلاث أنواع: إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية. وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع. وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعاً. فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فمثل قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا – إلى قوله - وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ: 16] ومثل قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا – إلى قوله - أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:61] ومثل قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] ومثل هذا في القرآن كثير. وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ [الطارق:6] ومثل قوله تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الآية [الغاشية:17]، ومثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الآية [الحج: 73] ومن هذا قوله حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.

فأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضاً، بل هي الأكثر مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ – إلى قوله تعالى - فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21 - 22] فإن قوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء تنبيه على دلالة العناية، ومثل قوله تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33] وقوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]. وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الدلالة. فهذه الدلالة هي الصراط المستقيم الذي دعا الله تعالى الناس منه إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى، وإلى هذه الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ – إلى قوله تعالى - قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172] ولهذا قد يجب على من كان وكده طاعة الله في الإيمان به, وامتثال ما جاء به رسله أن يسلك هذه الطريقة حتى يكون من العلماء الذين يشهدون لله بالربوبية، مع شهادته لنفسه، وشهادة ملائكته له، كما قال تبارك وتعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]. فقد بان من هذا أن الأدلة على وجود الصانع تعالى منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع. وأن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص، وأعني بالخواص العلماء، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل: أعني أن الجمهور يقتصرون في معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء فيزيدون إلى ما يذكرون من هذه الأشياء بالحس ما يدركون بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب ألف منفعة. وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب. والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط؛ بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها؛ فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعاً موجوداً، ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها، ولاشك أن من حاله من العلماء بالمصنوعات هذه الحال فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط. وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى فمثال من أحس مصنوعات فلم يعترف أنها مصنوعات، بل نسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته. بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية – 1/ 172

الفصل الرابع: أقسام التوحيد

تمهيد تنوعت عبارات علماء أهل السنة في التعبير عن أنواع التوحيد، ولكنها مع ذلك التنوع متفقة في المضمون، ولعل السبب في ذلك هو أن تلك التقسيمات مأخوذ من استقراء النصوص, ولم ينص عليها باللفظ مباشرة، ولذلك فمن العلماء (¬1) من قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، هي: 1 - توحيد الربوبية ... 2 - توحيد الأسماء والصفات ... 3 - توحيد الألوهية ... ومن المتأخرين من زاد قسماً رابعاً على الأقسام الثلاثة السابقة وسماه: 4 - توحيد الأتباع أو توحيد الحاكمية (أي التحاكم إلى الكتاب والسنة)، ولكن يلاحظ على من ذكر هذا القسم أن هذا القسم في الحقيقة داخل ضمن توحيد الألوهية؛ لأن العبادة لا تقبل شرعاً إلا بشرطين هما: 1 - الإخلاص. 2 - الإتباع. كما قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]. ومن العلماء من قسم التوحيد إلى قسمين، وهذا هو الأغلب في كلام أهل العلم المتقدمين لأنهم يجمعون بين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وذلك بالنظر إلى أنهما يشكلان بمجموعهما جانب العلم بالله ومعرفته عز وجل، فجمعوا بينهما لذلك، بينما توحيد الألوهية يشكل جانب العمل لله. وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام راجع إلى اعتبار متعلق التوحيد، وتقسيمه إلى قسمين راجع إلى اعتبار ما يجب على الموحد. فمن العلماء من يقول: التوحيد قسمان (¬2): القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات: ويريد به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسمي بتوحيد المعرفة؛ لأن معرفة الله عز وجل إنما تكون بمعرفة أسمائه, وصفاته, وأفعاله. والإثبات: أي إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال. القسم الثاني: توحيد القصد والطلب: ويراد به الألوهية، وسمي بتوحيد القصد والطلب, لأن العبد يتوجه بقلبه ولسانه وجوارحه بالعبادة لله وحده رغبة ورهبة، ويقصد بذلك وجه الله, وابتغاء مرضاته. ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى قسمين هما (¬3): القسم الأول: التوحيد العلمي الخبري: والمقصود به توحيد الربوبية, وتوحيد الأسماء والصفات. وسمي بالتوحيد العلمي: لأنه يعتني بجانب معرفة الله، فالعلمي أي (العلم بالله). والخبري: لأنه يتوقف على الخبر أي: (الكتاب والسنة). القسم الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي: والمقصود به توحيد الألوهية، وسمي بالتوحيد الإرادي لأن العبد له في العبادات إرادة، فهو إما أن يقوم بتلك العبادة أو لا يقوم بها، وسمي بالطلبي؛ لأن العبد يطلب بتلك العبادات وجه الله ويقصده عز وجل بذلك. ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى قسمين فيقول (¬4): القسم الأول: التوحيد القولي: والمراد به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسمي بالقولي لأنه في مقابل توحيد الألوهية الذي يشكل الجانب العلمي من التوحيد، وأما هذا الجانب فهو مختص بالجانب القولي العلمي. القسم الثاني: التوحيد العملي: والمراد به توحيد الألوهية، وسمي بالعملي؛ لأنه يشمل كلاً من عمل القلب, وعمل اللسان, وعمل الجوارح التي تشكل بمجموعها جانب العمل من التوحيد، فالتوحيد له جانبان: جانب تصديقي علمي، وجانب انقيادي عملي. ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى قسمين فيقول: القسم الأول: توحيد السيادة: ويُعنَى بذلك توحيد الربوبية, وتوحيد الأسماء والصفات، وسمي بذلك لأن تفرد الله بأفعاله وأسمائه وصفاته يوجب له السيادة المطلقة, والتصرف التام في هذا الكون خلقاً, ورزقاً, وإحياء, وإماتة, وتصرفاً وتدبيراً، سبحانه وتعالى. فمن واجب الموحد أن يفرد الله بذلك. والقسم الثاني: توحيد العبادة: المراد به توحيد الألوهية، وتسميته بذلك واضحة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي –بتصرف- ص: 37 ¬

(¬1) انظر: ((طريق الهجرتين)) (ص:30)، و ((شرح الطحاوية)) (ص:76)، و ((لوامع الأنوار)) للسفاريني (1/ 128)، و ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 17 - 19). (¬2) ممن ذكر ذلك ابن القيم في كتابه ((مدارج السالكين)) (3/ 449). (¬3) ممن ذكر ذلك ابن القيم في كتابه ((مدارج السالكين)) (3/ 450)، وابن تيمية في ((الصفدية)) (2/ 228). (¬4) ممن ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية: انظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 367).

المبحث الأول: توحيد الربوبية

المبحث الأول: توحيد الربوبية معناه الاعتقاد الجازم بأن الله وحده رب كل شيء ومليكه، لا شريك له، وهو الخالق وحده وهو مدبر العالم والمتصرف فيه، وأنه خالق العباد ورازقهم ومحييهم ومميتهم، والإيمان بقضاء الله وقدره وبوحدانيته في ذاته، وخلاصته هو: توحيد الله تعالى بأفعاله. وقد قامت الأدلة الشرعية على وجوب الإيمان بربوبيته سبحانه وتعالى، كما في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 1]. وقوله: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54]. وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29]. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]. وهذا النوع من التوحيد لم يخالف فيه كفار قريش، وأكثر أصحاب الملل والديانات؛ فكلهم يعتقدون أن خالق العالم هو الله وحده، قال الله تبارك وتعالى عنهم: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25]. وقال: قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [المؤمنون: 84 - 90]. وذلك لأن قلوب العباد مفطورة على الإقرار بربوبيته سبحانه وتعالى ولذا فلا يصبح معتقده موحداً؛ حتى يلتزم بالنوع الثاني من أنواع التوحيد، توحيد الألوهية الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص55

المبحث الثاني: توحيد الألوهية

المبحث الثاني: توحيد الألوهية هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، ويسمى توحيد العبادة، ومعناه الاعتقاد الجازم بأن الله - سبحانه وتعالى - هو: الإله الحق ولا إله غيره، وكل معبود سواه باطل، وإفراده تعالى بالعبادة والخضوع والطاعة المطلقة، وأن لا يشرك به أحد كائناً من كان، ولا يصرف شيء من العبادة لغيره؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والدعاء، والاستعانة، والنذر، والذبح، والتوكل، والخوف والرجاء، والحب، وغيرها من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، وأن يعبد الله بالحب والخوف والرجاء جميعا، وعبادته ببعضها دون بعض ضلال. قال الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] وقال: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117]. وتوحيد الألوهية هو ما دعت إليه جميع الرسل، وإنكاره هو الذي أورد الأمم السابقة موارد الهلاك. وهو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها ولأجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وسلت سيوف الجهاد، وفرق بين المؤمنين والكافرين، وبين أهل الجنة وأهل النار. وهو معنى قوله تعالى: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص56

المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات

المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات معناه الاعتقاد الجازم بأن الله عز وجل له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو متصف بجميع صفات الكمال، ومنزه عن جميع صفات النقص، متفرد بذلك عن جميع الكائنات. وأهل السنة والجماعة: يعرفون ربهم بصفاته الواردة في القرآن والسنة، ويصفون ربهم بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ويثبتون لله ما أثبته لنفسه من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف، وقاعدتهم في كل ذلك قول الله تبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. وقوله: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180]. وأهل السنة والجماعة: لا يحددون كيفية صفات الله جل وعلا لأنه تبارك وتعالى لم يخبر عن الكيفية، ولأنه لا أحد أعلم من الله سبحانه بنفسه، قال تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ [البقرة: 140] وقال تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 74] ولا أحد أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي قال الله تبارك وتعالى في حقه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4] الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص60 وسيأتي الكلام عن كل قسم على حدة في موضعه من الموسوعة إن شاء الله تعالى.

المبحث الرابع: مشروعية هذا التقسيم

المبحث الرابع: مشروعية هذا التقسيم قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في (أضواء البيان) (¬1): (وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: توحيده في ربوبيته. الثاني: توحيده جل وعلا في عبوديته. النوع الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته). وقال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: (هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده وابن جرير الطبري وغيرهما وقرره شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقرره الزبيدي في تاج العروس، وشيخنا الشنقيطي في (أضواء البيان) وآخرين رحم الله الجميع، وهو استقراء تام لنصوص الشرع، وهو مطرد لدى أهل كل فن، كما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف، والعرب لم تفه بهذا، ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب، وهكذا من أنواع الاستقراء (¬2). وهذا التقسيم موجود مع بداية التصنيف والتدوين لمسائل العقيدة ومن الأدلة على ذلك بعض النصوص الواردة عن السلف في بيان ذلك: النص الأول: للإمام أبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري حيث قال في كتابه (الإبانة) ما نصه: ( ... وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء: أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مباينا لمذاهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعا. والثاني: أن يعتقد وحدانيته ليكون مباينا بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره. والثالث: أن يعتقده موصوفا بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفا بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه .. (¬3)) وكلامه هذا صريح في أن أصل الإيمان بالله وتوحيده مبني على هذه الأمور الثلاثة فسمى الأول اعتقاد الربانية والثاني اعتقاد الوحدانية والثالث اعتقاد اتصافه بالصفات العلى اللازمة لكمال الله سبحانه وتعالى. والنص الثاني: للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده رحمه الله حيث فصل وبوب في كتابه القيم: (كتاب التوحيد) في الأقسام الثلاثة للتوحيد فمن تبويباته: 1 - ذكر ما وصف الله عز وجل به نفسه ودل على وحدانيته عز وجل وأنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. 2 - ذكر معرفة بدأ الخلق. 3 - ذكر معرفة أسماء الله عز وجل الحسنة التي تسمى بها وأظهرها لعباده للمعرفة والدعاء والذكر - وأبواب أخرى كثيرة فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى الكتاب المذكور. ولذلك وصف الكتاب ومباحثه محققه الدكتور علي الفقيهي بقوله: (قسم المؤلف التوحيد إلى أربعة أقسام حيث جعل أسماء الله الحسنى قسما مستقلا ثم أتبعها بالصفات، وأقسام التوحيد الذي ذكرها هي: الوحدانية في الربوبية. توحيد الألوهية وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. توحيد أسماء الله الحسنى. الصفات) (¬4) (¬5). وقد سبق هذين الإمامين إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في تصنيف كتاب مستقل في توحيد المعرفة والإثبات وسماه كتاب (التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل). ¬

(¬1) ((أضواء البيان)) للعلامة محمد الأمين الشنقيطي (3/ 410) (¬2) ((التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير)) للعلامة بكر أبو زيد (133 حاشية رقم 2 ضمن الردود ط 1/ 1414 دار العاصمة - الرياض). (¬3) ((الإبانة)) (2/ 172 - 173). (¬4) ((التوحيد ابن مندة)) (1/ 33) تحقيق علي بن ناصر الفقيهي ط الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. (¬5) انظر في ذلك: ((القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد))، عبد الرزاق البدر، دار ابن عفان.

وسبق الجميع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في تصنيف كتاب التوحيد في الرد على الجهمية ضمن كتابه الجامع الصحيح المعروف بصحيح الإمام البخاري. ومما يدل على أن لفظ التوحيد واعتبار أقسامه أمر متعاهد عليه عند السلف قديما افتتاح الإمام الطحاوي عقيدته بقوله: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له .. ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه ولا إله غيره .. ثم قال: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق) (¬1). قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني-ص 97 وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا التقسيم ومشروعيته فأجاب بما يلي: الحمد لله، فهذا التقسيم مأخوذ من الاستقراء والتأمل لأن العلماء لما استقرؤوا ما جاءت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظهر لهم هذا، وزاد بعضهم نوعا رابعا هو توحيد المتابعة، وهذا كله بالاستقراء فلا شك أن من تدبر القرآن الكريم وجد فيه آيات تأمر بإخلاص العبادة لله وحده، وهذا هو توحيد الألوهية، ووجد آيات تدل على أن الله هو الخلاق وأنه الرزاق وأنه مدبر الأمور، وهذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون ولم يدخلهم في الإسلام، كما يجد آيات أخرى تدل على أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه لا شبيه له ولا كفو له، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات الذي أنكره المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والمشبهة، ومن سلك سبيلهم. ويجد آيات تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ورفض ما خالف شرعه، وهذا هو توحيد المتابعة، فهذا التقسيم قد علم بالاستقراء وتتبع الآيات ودراسة السنة، ومن ذلك: قول الله سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4] وقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] وقوله جل وتعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] وقوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 57] وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] وقال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وقال عز وجل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4] وقال جل شأنه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31]. وقال سبحانه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] والآيات الدالة على ما ذكر من التقسيم كثيرة. ¬

(¬1) ((العقيدة الطحاوية بشرح ابن أبي العز)) (92) تحقيق أحمد شاكر ط دون/1413هـ.

ومن الأحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه المتفق على صحته: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)) (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار)) (¬2). وقوله لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإسلام قال: ((أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة ... )) الحديث (¬3). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله)) (¬4). وقوله عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) (¬5) والأحاديث في هذا الباب كثيرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإله هو المعبود المطاع فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع. وقال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله. نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا من حكام ومحكومين للفقه في دينه والثبات عليه والنصح لله ولعباده، والحذر مما يخالف ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لعبد العزيز بن عبد الله بن باز - 6/ 215 ¬

(¬1) رواه البخاري (2856)، ومسلم (30). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (4497). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (2957)، ومسلم (1835). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (7280). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المبحث الخامس: العلاقة بين هذه الأقسام للتوحيد

المبحث الخامس: العلاقة بين هذه الأقسام للتوحيد هذه الأقسام تشكل بمجموعها جانب الإيمان بالله الذي نسميه التوحيد, فلا يكمل لأحد توحيده إلا باجتماع أنواع التوحيد الثلاثة, فهي متكافلة متلازمة, يكمل بعضها بعضاً، ولا يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر، فلا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، وكذلك لا يصح ولا يقوم توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الله في ربوبيته وألوهيته لا يستقيم بدون توحيد الله في أسمائه وصفاته، فالخلل والانحراف في أي نوع منها هو خلل في التوحيد كله. (فمعرفة الله لا تكون بدون عبادته، والعبادة لا تكون بدون معرفة الله، فهما متلازمان) (¬1). وقد أوضح بعض أهل العلم هذه العلاقة بقوله: (هي علاقة تلازم وتضمن وشمول). فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية. وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية. وتوحيد الأسماء والصفات شامل للنوعين معاً. بيان ذلك: أن من أقر بتوحيد الربوبية وعلم أن الله سبحانه هو الرب وحده لا شريك له في ربوبيته لزمه من ذلك الإقرار أن يفرد الله بالعبادة وحده سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان رباً خالقاً مالكاً مدبراً، وما دام كله لله وحده وجب أن يكون هو المعبود وحده. ولهذا جرت سنة القرآن الكريم على سوق آيات الربوبية مقرونة بآيات الدعوة إلى توحيد الألوهية، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21]. وأما توحيد الألوهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأن من عبد الله ولم يشرك به شيئاً فهذا يدل ضمناً على أنه قد اعتقد بأن الله هو ربه ومالكه الذي لا رب غيره. وهذا أمر يشاهده الموحد من نفسه، فكونه قد أفرد الله بالعبادة ولم يصرف شيئاً منها لغير الله، ما هو إلا لإقراره بتوحيد الربوبية, وأنه لا رب, ولا مالك, ولا متصرف إلا الله وحده. وأما توحيد الأسماء والصفات فهو شامل للنوعين معاً، وذلك لأنه يقوم على إفراد الله تعالى بكل ما له من الأسماء الحسنى, والصفات العلى التي لا تنبغي إلا له سبحانه وتعالى، والتي من جملتها: الرب – الخالق – الرازق – الملك، وهذا هو توحيد الربوبية. ومن جملتها: الله – الغفور – الرحيم – التواب، وهذا هو توحيد الألوهية (¬2). فائدة: القرآن كله دعوة للتوحيد. قال ابن القيم رحمه الله: (كل سورة في القرآن هي متضمنة للتوحيد، بل نقول قولاً كلياً: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه. فإن القرآن: 1 - إما خبر عن الله وأسمائه, وصفاته, وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري. 2 - وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. 3 - وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته. 4 - وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده. 5 - وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم توحيده. فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم) (¬3). معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 40 ¬

(¬1) ((تحذير أهل الإيمان)) (1/ 140) (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية). (¬2) انظر: ((الكواشف الجلية عن معاني الواسطية)) للشيخ عبد العزيز السلمان (ص: 421 - 422). (¬3) ((مدارج السالكين)) (3/ 449 - 450).

الباب الأول: توحيد الربوبية

المبحث الأول: مدلول كلمة الرب من حيث الاشتقاق اللغوي: فالرب مصدر أريد به اسم الفاعل – أي أنه راب، قال الراغب الأصفهاني: (الرب مصدر مستعار للفاعل) (¬1). قال ابن الأنباري: (الرب: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: يكون الرب: المالك، ويكون الرب: السيد المطاع ... ، والرب: المصلح .. ). فهذه ثلاثة أصول ترجع إليها معاني كلمة الرب. فالأصل الأول: بمعنى المالك والصاحب، ومن هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ضالة الإبل ((فذرها حتى يلقاها ربها)) (¬2). والأصل الثاني: بمعنى السيد المطاع، قل الطبري: (وأما تأويل قوله: (رب) فإن الرب في كلام العرب متصرف على معان: فالسيد المطاع فيها يدعى رباً، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة العامر: وأهلكن يوماً رب كندة وابنه ... ورب معد بين خبت وعرعر يعني رب كندة: سيد كندة (¬3).) اهـ. ومن هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربها) أي سيدها – وهذا لفظ البخاري. وأما الأصل الثالث: فبمعنى المصلح للشيء المدبر له، ولذلك قال بعض أهل العلم باشتقاق كلمة الرب من التربية. قال الراغب: (الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام) (¬4). وقال الطبري بعد أن ذكر المعاني الثلاثة لكلمة (الرب) قال: (وقد يتصرف معنى الرب في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة) (¬5). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 215 ¬

(¬1) ((المفردات)) للراغب (ص: 336). (¬2) رواه البخاري (91). من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه. (¬3) ((تفسير الطبري)) (1/ 141). (¬4) ((المفردات)) (ص: 336). (¬5) ((تفسير الطبري)) (1/ 142).

المبحث الثاني: معنى كلمة الرب من حيث هي اسم لله تعالى

المبحث الثاني: معنى كلمة الرب من حيث هي اسم لله تعالى قال - ابن جرير - في معنى اسم (الرب) لله سبحانه وتعالى: (فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر) (¬1). ولا تستعمل كلمة (الرب) في حق المخلوق إلا مضافة فيقال: رب الدار ورب المال. قال ابن قتيبة رحمه الله: (ولا يقال للمخلوق: هذا (الرب) معرفاً بالألف واللام كما يقال لله، إنما يقال رب كذا فيعرف بالإضافة لأن الله مالك كل شيء، فإذا قيل: (الرب) دلت الألف واللام على معنى العموم، وإذا قيل لمخلوق: رب كذا ورب كذا نسب إلى شيء خاص لأنه لا يملك شيئاً غيره) (¬2). وعلى هذا إذا ذكر اسم الرب معرفاً فلا يطلق إلا على الله تعالى، وزاد الراغب أن كلمة (رب) غير مضافة ولا معرفة لا تطلق إلا على الله فقال (¬3): (ولا يقال الرب مطلقاً إلا الله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات نحو قوله تعالى: لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.) اهـ، وقال ابن الأثير أيضاً: (ولا يطلق غير مضاف إلا على الله تعالى) (¬4). وأما كلمة (رب) بالإضافة فتقال لله ولغيره بحسب الإضافة فمن الأول قوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ومن الثاني اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ [يوسف: 42] في قول يوسف عليه السلام لأحد صاحبيه في السجن (¬5). ومصدر رب يرب الربوبية والرباية، إلا أن الرباية لا تقال في الله، وإنما في غيره، قال الراغب: (والربوبية مصدر يقال في الله عز وجل، والرباية تقال في غيره). (¬6) منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 217 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (1/ 142)، وانظر: ((تفسير غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 9). (¬2) ((تفسير غريب القرآن)) (ص: 9). (¬3) ((المفردات)) (ص: 336). (¬4) ((النهاية في غريب الحديث)) (2/ 179). (¬5) انظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 336) و ((النهاية في غريب الحديث)) (2/ 179). (¬6) ((المفردات)) للراغب (ص: 336).

المبحث الثالث: تعريف توحيد الربوبية اصطلاحا

المبحث الثالث: تعريف توحيد الربوبية اصطلاحاً هو الإقرار الجازم بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، والمتصرف فيه، لم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا مضاد له (ولا مماثل له)، (ولا سمي له)، ولا منازع في شيء من معاني ربوبيته ومقتضيات أسمائه وصفاته. أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة لحافظ بن أحمد الحكمي– ص: 30 ومنهم من عرفه بأنه: الاعتقاد بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لكل شيء وحده لا شريك له (¬1). وهو يشتمل على ما يلي: 1 - الإيمان بوجود الله تعالى. 2 - الإقرار بأن الله تعالى خالق كل شيء، ومالكه، ورازقه، وأنه المحيي، المميت، النافع، الضار، المتفرد بإجابة الدعاء، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، المقدر لجميع الأمور، المتصرف فيها، المدبر لها، ليس له في ذلك كله شريك (¬2). وقد تكاثرت الأدلة في القرآن والسنة في إثبات الربوبية لله تعالى، فكل نص ورد فيه اسم (الرب) أو ذكر فيه خصيصة من خصائص الربوبية، كالخلق، والرزق، والملك، والتقدير، والتدبير، وغيرها فهو من أدلة الربوبية، كقوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2]، وكقوله سبحانه: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54]، وكقوله جل وعلا: قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون: 88] (¬3)، والملكوت: الملك. وقد أمر الله العباد بالنظر والتفكر في آيات الله الظاهرة من المخلوقات العلوية والسفلية، ليستدلوا بها على ربوبيته سبحانه وتعالى. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 41 فالرب هو المالك كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ [الحشر: 23] ويقول: وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [المائدة: 17]، وقال: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 83]. والرب هو الخالق البارئ المصور كما قال عن نفسه: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24]، فلا خالق سواه، وهو الذي برأ الخلق فأوجدهم بقدرته المصور خلقه كيف شاء وكيف يشاء (¬4). والرب هو المبدئ والمعيد كما قال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: 27]، فهو الذي ابتدأ الأشياء كلها فأوجدها، إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء، ثم هو يعيدها سبحانه. والرب هو المحيي والمميت، الذي أحيا بأن خلق فيهم الحياة، والذي خلق الموت كما خلق الحياة. كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ويقول: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الدخان: 8]. والرب هو النافع الضار، قال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا [يونس: 21] وقال: قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا [الفتح: 11]. والرب هو المعطي المانع كما قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ [فاطر: 2]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه بعد الفراغ من الصلاة: ((اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)) (¬5). والرب هو المدبر لأمر هذا الكون كما قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ [يونس: 36]. وقال: وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ [يونس: 31]، وقال يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2]. والرب هو الخالق الرازق القوي القدير كما قال تعالى: قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16]، وقال هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ [فاطر: 9] وقال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]، وقال: إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 20]. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف – 1/ 227 ¬

(¬1) ينظر: ((مجموعة التوحيد)) (1/ 5). (¬2) ((شرح الطحاوية)) (ص:25)، ((مدارج السالكين)) باب التوحيد (1/ 33 - 46، 3/ 468)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص:17)، ((القول السديد)) (ص:18)، ((معارج القبول)) (1/ 99). (¬3) ((مدارج السالكين)) (3/ 468 - 469)، ((شرح الطحاوية)) (ص: 42 - 43)، ((المدخل لدراسة العقيدة)) (ص: 102). (¬4) انظر: ((تفسير الطبري)) (23/ 305). (¬5) رواه البخاري (844)، ومسلم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

المبحث الرابع: منزلة توحيد الربوبية

المبحث الرابع: منزلة توحيد الربوبية إذا أقر العبد بانفراد الرب تبارك وتعالى بالخالق والحكم، وشهد بذلك، فإن ذلك يقوده إلى تحقيق توحيد الإلهية، فإن الأمرين متلازمان، فمن أقر لله بالربوبية لزمه أن يقر له بالإلهية: (فإن أول ما يتعلق القلب يتعلق بتوحيد الربوبية، ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية، كما يدعو الله سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر، ويحتج عليهم به, ويقررهم به، ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية) (¬1). وبيان ذلك أن من أثبت لله خصائص الربوبية .... من الخلق, والإحياء, والإماتة, والنفع, والضر, والإسعاد, والإشقاء – استسلم لله تعالى في كل شيء، فيعلم أن ما أصابه فمن الله ولم يكن ليخطئه، وأنه إذا دخل الجنة فبتوفيق الله وفضله، وإذا دخل النار فبحكمته وعدله، وكل ذلك قدره الله تعالى، فإذا علم ذلك، لجأ إلى خالقه ليستعين به في جلب المنافع ودفع المضار، وليستهديه الصراط المستقيم، فيورث ذلك محبة عظيمة في قلب العبد لربه تعالى، فيقدم محاب ربه على كل شيء، ويورثه ذلك الخوف من الله وتعظيمه وتوقيره: (فهذه علامة توحيد الإلهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه: توحيد الربوبية، أي: باب توحيد الإلهية: هو توحيد الربوبية) (¬2). وبهذا التقديم تظهر أهمية الإقرار بالربوبية لله تعالى، وهذه المعرفة فطرية في قلوب بني آدم ..... إلا أن أكثر الناس الذين وقعوا في الشرك إنما وقعوا فيه لإتيانهم بما يناقض توحيد الإلهية، لذلك جاءتهم الرسل بالدعوة إلى هذا النوع من التوحيد – أعني توحيد الإلهية – وإذا أقر الإنسان لله بالربوبية ولم يوحده في عبوديته ما نفعه إقراره هذا – لذلك يقول الله جل وعلا: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106]، قال مجاهد رحمه الله في تفسير هذه الآية: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا, ويرزقنا, ويميتنا، فهذا إيمان، مع شرك عبادتهم غيره). اهـ منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف -بتصرف – 1/ 242 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 413). (¬2) ((مدارج السالكين)) (1/ 413).

الفصل الثاني: الإقرار بالربوبية

المبحث الأول: فطرية الإقرار بالربوبية لا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري والشرك حادث طارئ والأبناء تقلدوه عن الآباء فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع مقرين بأن الله ربكم لا شريك له وقد شهدتم بذلك على أنفسكم فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135] وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة تقليدا لمن لا حجة معه بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها وفيه مصلحة لكم بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربية والعادة وهو لأجل مصلحة الدنيا فإن الطفل لا بد له من كافل وأحق الناس به أبواه ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح - حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة وحينئذ فعليه أن يتبع: دين العلم والعقل وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف:38] وقال ليعقوب بنوه: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [البقرة:133] وإن كان الآباء مخالفين الرسل كان عليه أن يتبع الرسل كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8] فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم بل يعدل عن الحق المعلوم إليه فهذا اتبع هواه كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة:170] وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 1/ 314 وتعتبر معرفة الله تعالى والإقرار بوجوده من الأمور الضرورية الفطرية التي غرسها الله تعالى في فطر الناس، وشهدت بها عقولهم، بل فطر القلوب عليه أعظم من فطرتها على الإقرار بغيره من الموجودات ولذا فإن الإيمان بوجود الله تعالى، وتحقيق كمال وحدانيته أصل الدين وقوامه، ولبه وصميمه، وهو في الواقع أمر لا يحتاج إلى سرد الأدلة وحشد البراهين، ولهذا لم يكثر في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحديث عن إثبات وجود الله عز وجل، لكن لما وجد شرذمة من الناس تنكر وجود الله مكابرة؛ كفرعون، أو لتغير الفطرة لسبب خارجي: فإن الله تعالى قد أقام من الدلائل الباهرة، والبراهين القاطعة ما يبهر العقول، ويقود القلوب إلى التسليم والانقياد. وهذه الأدلة إنما يصار إليها ليزداد المؤمن إيماناً ويقينا، ومعرفة بالله وتعظيما له، وأما من فسدت فطرته، وتغيرت جبلته، فهذه الأدلة واعظة ومرشدة للعودة إلى الفطرة التي ند عنها، وتنكر لها.

وجماع القول: أن الإقرار بوجود الله والاعتراف به مستقر في قلوب الخلق جميعا وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب. ولقد حكى أهل العلم إجماع الأمم، واتفاق الملل، وتوافق الفطر على هذا الأمر الضروري، ومن هؤلاء الأئمة الأعلام، والصفوة الكرام: شيخ الإسلام ابن تيمية، في غير ما موضع من كتبه ورسائله. نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: قال: (أهل الفطر كلهم متفقون على الإقرار بالصانع) (¬1). وبين أن هذا الأمر قد اجتمع على الإقرار به جميع الثقلين – الإنس والجن – حيث قال: (والمقصود هنا أن من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، ... فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقه، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب كما أن اغتذاءهم الطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم) (¬2). وأوضح أن الإقرار بوجود الله وربوبيته لم يكن ينازع فيه المشركون الذين دعتهم رسلهم إلى عبادة الله وحده، حيث قال: (وأما الرب فهو معروف بالفطرة: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10] فالمشركون من عباد الأصنام وغيرهم من أهل الكتاب معترفون بالله مقرون به أنه ربهم وخالقهم ورازقهم، وأنه رب السموات والأرض والشمس والقمر، وأنه المقصود الأعظم) (¬3). وذكر أن الإقرار بالخالق وكماله أمر فطري ضروري مركوز في فطر البشر السليمة من الانحراف والتغير، إذ يقول: (إن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها) (¬4). وعد الإقرار بالله مما اتفق عليه جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، بل وجميع الكتب الإلهية حيث يقول:. .. (ومنه ما هو متفق عليه بين جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، وجميع الكتب الإلهية: مثل الإقرار بالله) (¬5) ...... ولم يكثر السلف – رحمهم الله – الخوض في إثبات وجود الله تعالى وحشد الأدلة لتقريره؛ لأنه من القضايا المسلمة المستقرة في الفطرة البشرية؛ ولذا لم ينقل عنهم من الأقوال في تقرير وجود الله عز وجل إلا شيئاً يسيرا ورد في شأن الفطرة وأخذ الميثاق والإشهاد على ذلك والآيات الكونية والنفسية. ومن ذلك قول محمد بن كعب القرظي – في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: 172]-: (أقرت الأرواح قبل أن تخلق أجاسدها) (¬6). وقال مجاهد بن جبر – في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللهِ [البقرة: 138]-: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" (¬7). وأما الكلبي والحسن فقد قالا – في قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172]-: (أخذ ميثاقهم أنه ربهم، فأعطوه ذلك، ولا تسأل أحداً كافراً ولا غيره: من ربك؟، إلا قال: الله) (¬8). وقال السدي: (ليس في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله) (¬9). وقال ابن جرير – في تفسير قول الله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172]-: (يقول تعالى ذكره؛ شهدنا عليكم أيها المقرون بأن الله ربكم) (¬10). وبين الراغب الأصفهاني أن معرفة الله عز وجل مركوزة النفوس، حيث قال: (معرفة الله تعالى العامية – أي الإجمالية – مركوزة في النفس، وهي معرفة كل أحد أنه مفعول، وأن له فاعلا فعله ونقله من الأحوال المختلفة) (¬11). المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين - بتصرف – ص: 237 ¬

(¬1) ((الفتاوى الكبرى)) (6/ 368). (¬2) ((الدرء)) (8/ 482). (¬3) ((رسالة في الكلام على الفطرة)) لابن تيمية ضمن ((مجموع الرسائل الكبرى)) (2/ 337). (¬4) ((المجموع)) (6/ 73). (¬5) ((المجموع)) (12/ 475). (¬6) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 116). (¬7) ((تفسير ابن جرير)) (1/ 623). (¬8) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 116). (¬9) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 116). (¬10) ((تفسير ابن جرير)) (6/ 117). (¬11) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 199).

المبحث الثاني: عدم كفاية الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك

المبحث الثاني: عدم كفاية الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد, ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية. ولذا يقول الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106]، والمعنى أي: ما يقر أكثرهم بالله رباً وخالقاً ورازقاً ومدبراً- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع. وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله, وهم مشركون). وقال عِكْرِمَة: (تسألهم من خلقهم, ومن خلق السماوات والأرض, فيقولون الله, فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره). وقال مجاهد: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا, ويرزقنا, ويميتنا, فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره). وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد: (ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله, ويعرف أن الله ربُّه، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 75 - 77]) (¬1). والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة، بل لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء, يدعونهم, ويستغيثون بهم, وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم. وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة، ومن ذلك قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 63]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87]، وقوله تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84 - 89]. ¬

(¬1) ((تفسير ابن جرير)) (16/ 289).

فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبر شؤونه، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً استقلالاً, ولا موتاً, ولا حياة, ولا نشوراً، ولا تسمع, ولا تبصر، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق, والرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط، يشفعون لهم بزعمهم عند الله, ويقربونهم إليه زلفى؛ ولذا قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا. ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام, بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون, وتوعدهم بالنار والخلود فيها, واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة. وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة. فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء ص15 وهذا التوحيد - أي توحيد الربوبية - لا يكفي العبد في حصول الإسلام بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس:31] وقال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] وقال: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:63] وقال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ الآية [النمل:62] فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] قال مجاهد: في الآية: إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام فأنزل الله تعالى مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67] وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر كما قال زهير: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم وقال عنترة: يا عبل أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها ومثل هذا يوجد في أشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الإقرار والمعرفة وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لسليمان بن عبد الله آل الشيخ - ص17 قال ابن القيم: فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجي من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - ص35

المبحث الثالث: الفرق بين مجرد الإقرار بالربوبية وبين توحيد الربوبية

المبحث الثالث: الفرق بين مجرد الإقرار بالربوبية وبين توحيد الربوبية إن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وكانوا مع هذا مشركين قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] قالت طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله وهم مع هذا يعبدون غيره قال تعالى: قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84 – 89] فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه داعيا له دون ما سواه راجيا له خائفا منه دون ما سواه يوالي فيه ويعادي فيه ويطيع رسله ويأمر بما أمر به وينهى عما نهى عنه وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أندادا قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر:43 - 44] وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18] وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94] وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً [البقرة:165] ولهذا كان أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها ويصوم وينسك لها ويتقرب إليها ثم يقول: إن هذا ليس بشرك إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص11

المبحث الرابع: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية

المبحث الرابع: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية إذا أقر العبد لله تعالى بالربوبية، فإن إقراره هذا يقتضي أموراً لابد منها، فإن لم يلتزم هذه المقتضيات ما نفعه إقراره بالربوبية لله، فهذه المقتضيات هي: الأول منها: (ألا يعتقد العبد نفعاً ولا ضراً ولا حركة ولا سكوناً ولا بسطاً ولا خفضاً ولا رفعاً ولا إعطاء ولا منعاً ولا إحياءً ولا إماتةً ولا تدبيراً ولا تصريفاً إلا والله سبحانه وتعالى هو فاعله وخالقه لا يشركه في ذلك ولا يملك واحد منه شيئاً) (¬1) وقد دخل في هذا: الإيمان بالقضاء والقدر ... الثاني: إثبات رب مباين للعالم، يقول ابن القيم رحمه الله: (إن الربوبية المحضه تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات كما باينهم بالربوبية وبالصفات والأفعال، فمن لم يثبت رباً مبايناً للعالم فما أثبت رباً) (¬2) وهذا قاله عند تفسير قول الله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والعالم هو كل ما سوى الله تعالى. الثالث: أن يتوصل العبد بالإقرار بالربوبية إلى الإقرار بالألوهية فيجردها لله تعالى فلا يصرف أي نوع من أنواع العبادات لغير الله تبارك وتعالى. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 232 ¬

(¬1) ((مجلة الجامعة الإسلامية السنة – 11 – العدد 2 – مفهوم الربوبية)) للشيخ سعد ندا (ص: 124). (¬2) ((مدارج السالكين)) (1/ 84).

الفصل الثالث: مسلك القرآن في إثبات الربوبية

تمهيد: لم تكن مسألة إثبات وجود الله تعالى هدفاً أساسيا من الأهداف، وذلك لأن الإقرار بوجود الله أمر فطري فطر الله عليه الخلق. والله سبحانه أبين وأظهر من أن يجهل فيطلب الدليل على وجوده. وقد وجد قليل من الناس سابقاً ممن ينكر وجود الله تعالى إما مكابرة وعناداً كفرعون، أو لتغير الفطرة بسبب خارجي. واليوم وإن كان قد كثر القائلون بعدم وجود الخالق إلا أنهم قليل جداً إلى جنب من يقر بوجوده، وهم مع ذلك يحيلون خلقهم إلى الطبيعة!. وللسبب المذكور سابقاً نجد أن الاستدلال على وجود الله تعالى في القرآن لم يكن مقصوداً أصالة، وإنما يمكن أن يستنتج ذلك استنتاجاً. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف – 1/ 276 ومع ذلك ـلم يكتف القرآن الكريم باستثارة الفطرة المقرة بوجود الله تعالى، بل حفل بالأدلة العظيمة، والآيات الباهرة الدالة على وجوده، وعظمته سبحانه وتعالى، فكل ما في هذا الوجود من خلق وعناية بهذا الكون، وتسييره، على أكمل نظام، وحكمة هو دلالة صادقة على وجود الله تعالى المدبر لهذا الكون. وذلك لأن الأدلة على وجوده، وعظمته تعزز مكنون الفطرة، وتزيدها يقيناً واستقامة، والأدلة يحتاج إليها أيضاً من فسدت فطرته، حيث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإقرار بالخالق وكماله، كما يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس، عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها) (¬1). وعندما ظهرت الجهمية ومن تابعهم من فرق الابتداع، لم يأتوا بطرق مفيدة وصائبة في معرفة الخالق- سبحانه وتعالى – بل عقدوا الطرق السهلة وأطالوها, وغاية ما عندهم من الطرق هو الاستدلال بحدوث الحوادث على محدث موجد لها، وقد اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذه الطريقة جزء من الطريقة القرآنية فقال: (هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة، وهي التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها, وجماهير العقلاء من الأولين؛ فإن الله يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب، والمطر, والنبات, والحيوان، وغير ذلك من الحوادث, ويذكر في آياته خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك) (¬2). وقد أثبت الواقع الذي عاشه الصحابة - رضوان الله عليهم - أن الأدلة القرآنية يحتاج إليها من تعرضت فطرته لأحوال من الشرك والكفر، فتأتي هذه الأدلة لتنبيه الفطرة، وإيقاظها من انحرافاتها، فعن محمد- ت:98هـ- ابن جبير - ت:59هـ - ابن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء الأسرى، فاضطجعت في المسجد بعد العصر، وقد أصابني الكرى، فنمت، فأقيمت صلاة المغرب، فقمت فزعاً بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ [الطور:1 - 2] فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد, فكان يومئذ أول ما دخل الإسلام قلبي) (¬3). وفي البخاري قال جبير بن معطم رضي الله عنه: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35 - 37]، كاد قلبي أن يطير)) (¬4). قال الإمام الخطابي: (كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها، ومعرفته بما تضمنته ففهم الحجة، فاستدركها بلطيف طبعه) (¬5). إن الأثر الذي أحدثته هذه الآيات القرآنية بقلب هذه الصحابي الجليل، وكانت سبباً من أسباب إسلامه وإيمانه، تبين لنا مدى أثر الأدلة القرآنية في إحياء الفطرة ومعالجتها من ظلمات الشرك، والكفر, ولقد سمع القرآن الكريم الجمهرة الكبيرة من العرب، وغيرهم منذ بدء الإسلام وإلى يومنا هذا وعجائبه لا تنقضي، وأدلته العظيمة ما زالت سبباً كبيراً في دخول الناس أفواجاً في هذا الدين. العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: 28 - 31 ¬

(¬1) ((مجموعة الفتاوى)) (6/ 73) (¬2) ((درء تعارض العقل)) (3/ 83) (¬3) رواه ابن عساكر في ((مختصر تاريخ دمشق)) لابن منظور (ص: 756). وانظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (50/ 7). ورواه بنحوه البخاري (4854). (¬4) رواه البخاري (4854). (¬5) ابن حجر – ((فتح الباري)) (8/ 603)

المبحث الأول: مسلك الإلزام والرد على من انحرفت فطرهم

المبحث الأول: مسلك الإلزام والرد على من انحرفت فطرهم فمن الإلزام قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35]. والذين انحرفت فطرهم هم الذين أنكروا الخالق تبارك وتعالى فقال الله عنهم وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] فأنكروا البعث وأنكروا أن يكون لهم رب يفنيهم، فرد الله عليهم بقوله: وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] أي ليس لهم علم يقين يدل على صحة قولهم، سواء كان هذا العلم خبراً، أو كان حجة وبرهاناً عقلياً، ثم بين الله أنهم في اعتقادهم الذي نطقوا به بألسنتهم شاكون ومرتابون، وهذا أمر واضح لاتباعهم الظن (¬1). ومن أوجه الرد على من انحرفت فطرهم: ما جاء عن فرعون الذي كان يقول لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] فتابعه قومه على ذلك كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف: 54] فسأل فرعون موسى فقال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] أي من هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ قال ابن كثير – رحمه الله – (هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف) (¬2). وذلك رد على من قال: إن فرعون سأل عن ماهية الرب، وهذا غلط لأنه كان منكراً جاحداً ولم يكن مقراً حتى يسأل عن الماهية، ويبينه قوله تعالى: قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] وهنا أجاب موسى عليه السلام لما سأله عن رب العالمين: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وهو الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب، والعالم السفلي وما فيه من عجائب المخلوقات كالجبال والبحار والأشجار، وهذا الرد على فرعون واضح، لأنه لا يمكن أن يدعي ملكه لكل هذه الأشياء، وإنما كان له نوع ملك وهو محدود على مصر، فعندما سمع هذه الحجة التفت إلى من حوله من الملأ قائلاً أَلَا تَسْتَمِعُونَ على سبيل التهكم. ثم زاد موسى عليه السلام الحجج فقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، فكيف تصح منه دعوى الربوبية إذا؟ فما كان من فرعون إلا أن وصف موسى بالجنون فقال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ إمعاناً في تضليل قومه، فأجاب موسى بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ أي هو الذي جعل المشرق مشرقاً تطلع منه الشمس والكواكب، والمغرب تغرب فيه الشمس والكواكب بنظام دقيق لا يتغير على حسب تقديره، وتقرير الحجة: إن كان فرعون صادقاً في دعواه الربوبية فليعكس الأمر، فغلب وانقطع فعدل إلى استعمال قوته وسلطانه إلى آخر القصة. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف – 1/ 276 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) (22/ 80). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 332).

المبحث الثاني: مسلك ذكر الآيات الدالة على الربوبية

المبحث الثاني: مسلك ذكر الآيات الدالة على الربوبية وهي العلامات المخلوقة المحكمة الإتقان: فدلالتها من جهة أنها مخلوقة محدثة، ومن جهة إحكامها وإتقانها، قال الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20 - 21]. فلينظر الإنسان إلى آثار قدرة الله فيه والتدبير منذ أن كان نطفة في رحم أمه، ثم تنقله من طور إلى آخر إلى خروجه إلى الدنيا وله من الأعضاء والحواس مما يظهر آثار الإحكام الإلهي. وهكذا إذا نظر الإنسان في أمر هذا العالم وما فيه من السير الدقيق المنظم البديع، فإنه يحصل له العلم بأن له خالقاً خلقه بعلم وحكمة. قوله تعالى: اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم: 32 - 33]. قال الحافظ ابن رجب: (وأخبر سبحانه وتعالى أنه إنما خلق السموات والأرض ونزل الأمر لنعلم بذلك قدرته وعلمه، فيكون دليلاً على معرفته ومعرفة صفاته، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12]) (¬1) اهـ. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد بن عبد اللطيف – 1/ 278 ومن الأدلة الشرعية على توحيد الربوبية: ... قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] قوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 1]. قوله تعالى: قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16]. وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم: 40]. وقوله تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ [لقمان: 11]. وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36]. وقوله تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]. طريقة القرآن في الاستدلال على توحيد الربوبية: سلك القرآن عدداً من الأساليب ... منها: أولاً: الاستدلال باستحالة صدور الوجود من عدم كما في قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36]. وصورة هذا الدليل في الآية: ¬

(¬1) ((شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم)) (ص: 40).

إما أن يكونوا خلقوا أنفسهم وهذا باطل لأنه يلزم منه الدور وهو باطل حيث يترتب كل من الفرضين على الآخر فكونهم خلقوا أنفسهم يستلزم وجودهم قبل الخلق إذ لا يصدر الوجود من العدم ضرورة، إذ لا معنى للعدم إلا عدم الوجود ولا معنى للوجود إلا كون الشيء ليس بمعدوم. وإما يكونوا لا خالق لهم أصلاً فيكون العدم هو الذي أوجدهم وهذا باطل إذ لا معنى للعدم إلا عدم الوجود فيلزم من قولهم بهذا الفرض الجمع بين النقيضين وهو كون الشيء موجوداً معدوماً والوجود والعدم نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ولا يمكن أن ينشأ واحد منهما من الآخر. والفرض الثالث أن يكون لهم خالق هو الله سبحانه وتعالى. ثانياً: الاستدلال بما في العالم من التغير المانع من قدمه إذ التغير علامة الحدوث والخلق فلابد إذا له من خالق ويدل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11]. وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ [النور: 43 - 44]. ثالثاً: إن الكون ممكن الوجود وما كان كذلك فهو مخلوق لا يمكن أن يكون واجب الوجود لأن إمكان العدم عليه والوجود ينفي وجوبه. ويدل عليه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم: 19] رابعا: أن الكون وجد على سبيل الإتقان مما يمنع كونه وجد من غير موجد ويدل عليه قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: 3 - 4]. خامسا: إبطال الشرك في الربوبية كما في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون: 19]. وصورة الدليل في الآية هو: (إن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة بل إن قدر على قهر ذلك الشريك والتفرد بالملك والألوهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه وإذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه فلابد من أحد ثلاثة أمور: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه. وإما أن يعلو بعضهم على بعض. وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه. فالفرض الأول غير ممكن إذ لابد أن تبين أثار فعله في الكون. والفرض الثاني ممتنع ضرورة اختلال الكون نتيجة العلو وتضارب الإرادات، والثالث هو الحق وهو كون الرب هو الإله الواحد) (¬1). إتحاف المريد بمعرفة التوحيد لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 26 ¬

(¬1) ((شرح الطحاوية)) (ص: 26، 27) ((الأسئلة والأجوبة الأصولية)) (ص: 206، 207).

الفصل الرابع: أنواع الأدلة الدالة على إثبات الربوبية

تمهيد الإيمان بالله تعالى يتضمن الإيمان بوحدانيته، واستحقاقه للعبادة؛ لأن وجوده – جل وعلا – لا شك فيه ولا ريب، وقد دل على وجوده سبحانه وتعالى: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة لعبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص114

المبحث الأول: دلالة الفطرة

المبحث الأول: دلالة الفطرة الفطرة في اللغة: فعلها ثلاثي وهو فطر، والحالة منه: الفطرة كالجلسة، وهي بمعنى الخلقة. قال ابن فارس عن أصل هذه الكلمة ( ... أصل صحيح يدل على فتح شيء وإبرازه، ومنه الفطرة: وهي الخلقة) (¬1) اهـ. وأتى بالفتح قبل الإبراز لأنه سبب من أسبابه. وفي اللسان: والفطرة تعني: الابتداء والاختراع (¬2). والأمر ظاهر في أنه لا خلاف بين هذه المعاني الثلاثة، الخلقة، والابتداء، والاختراع. وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تعريفها: (هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه) (¬3). ودليل الفطرة راسخ في نفوس البشر إلا ما غير منها، والدليل إذا كان راسخاً في النفس يكونه قوياً لا يحتاج الشخص معه إلى استدلال، ولهذا فهو أصل لكل الأدلة الأخرى الدالة على الإقرار بوجود الرب سبحانه، فهي مؤيدة له ومثبتة للإقرار. ولتقرير أصل هذا الدليل إليك بعض الأدلة الدالة على ذلك: 1) لجوء الإنسان وفزعه إلى خالقه سبحانه، سواء كان هذا الإنسان موحداً أو مشركاً عند الشدة والحاجة. فإن بني آدم جميعاً يشعرون بحاجتهم وفقرهم، وهذا الشعور أمر ضروري فطري، إذ الفقر وصف ذاتي لهم، فإذا ألمت بالإنسان – حتى المشرك – مصيبة قد تؤدي به إلى الهلاك فزع إلى خالقه سبحانه والتجأ إليه وحده واستغنى به ولم يستغن عنه، وشعور هذا الإنسان بحاجته وفقره إلى ربه تابع لشعوره بوجوده وإقراره، فإنه لا يتصور أن يشعر الإنسان بحاجته وفقره إلى خالقه إلا إذا شعر بوجوده، وإذا كان شعوره بحاجته وفقره إلى ربه أمراً ضرورياً لا يمكنه دفعه، فشعوره بالإقرار به أولى أن يكون ضرورياً (¬4). قال الله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [يونس: 12]. وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67]. وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8]. فرجوع الإنسان وإنابته إلى ربه عند الشدائد دليل على أنه يقر بفطرته بخالقه وربه سبحانه، وهكذا كل إنسان إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الباري سبحانه في تكوينه في رحم أمه وحفظه له، وعرف كذلك افتقاره إليه في بقائه وتقلبه في أحواله كلها، وتبقى هذه المعرفة في نفسه قوية لأن الحاجة استلزمتها، فتكون أوضح من الأدلة الكلية مثل افتقار كل حادث إلى محدث (¬5). 2) ورود التكليف بتوحيد العبادة أولاً: ¬

(¬1) ((معجم مقاييس اللغة)) (4/ 510) – مادة (فطر). (¬2) ((لسان العرب)) (5/ 58)، مادة (فطر)، والأصل أنه لابن الأثير في ((النهاية في غريب الحديث)) (3/ 457). (¬3) ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 64). (¬4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 532 - 533). (¬5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 48 - 49). و ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 126). و ((دلائل التوحيد)) للقاسمي (ص: 191 - 192).

لقد تقدم ذكر الأدلة الدالة على أن أول ما يكلف به المكلف: عبادة الله جل وعلا ومما يؤكد تلك الحقيقة هو أن الله تعالى نص على محل النزاع بين الرسل وأقوامهم بقوله: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 46]. أي أنهم يولون مدبرين عند طلب عبادة الله وحده دون غيره، ويوضحه كذلك قوله: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 12]. ولذلك بعث الله رسله بالتوحيد وترك الشرك فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. وعلى هذا يكون تقرير هذه الحجة بأمرين: الأول: لو لم يكن الإقرار بالله تعالى وبربوبيته فطرياً لدعاهم إليه أولاً – إذ الأمر بتوحيده في عبادته فرع الإقرار به وبربوبيته فيكون بعده (¬1). الثاني: لو لم يكن الإقرار بالله تعالى وبربوبيته فطرياً لساغ لمعارضي الرسل عند دعوتهم لهم بقول الله تعالى: فَاعْبُدُونِ أن يقولوا: نحن لم نعرفه أصلاً فكيف يأمرنا، فلما لم يحدث ذلك دل على أن المعرفة كانت مستقرة في فطرهم (¬2). ويؤيده الدليل الثالث الذي سيأتي ذكره إن شاء الله. ولم يعرف من ينكر وجوده من أقوام الرسل إلا ما كان من فرعون، ومع هذا فإنكاره كان تظاهراً ولم يكن باطناً كما قال تعالى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [الإسراء: 102] وقال: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]. 3) إلزام المشركين بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية (¬3): ..... ووجه الدلالة: إن المشركين لو لم يكونوا مقرين بربوبية الله تعالى لما قررهم به، ولهذا كانت تقول الرسل لقومها: أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [إبراهيم: 10]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين، وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار) (¬4) اهـ. 4) التصريح بأن الفطرة مقتضية للإقرار بالرب وتوحيده وحبه في الأدلة السمعية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)) (¬5) والصوب أن الفطرة هنا هي فطرة الإسلام، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة، وليس المراد أن الإنسان حين يخرج من بطن أمه يعلم هذا الدين موحداً لله فإن الله تعالى يقول: وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78] وإنما المراد أن فطرته مقتضية وموجبة لدين الإسلام ولمعرفة الخالق والإقرار به ومحبته. ومقتضيات هذه الفطرة وموجباتها تحصل شيئاً بعد شيء وذلك بحسب كمال الفطرة وسلامتها من الموانع (¬6). والأدلة القاضية بصحة هذا التفسير كثيرة منها: أولاً: ورود روايات لهذا الحديث تفسر الفطرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((على هذه الملة)) (¬7). ¬

(¬1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 130 - 8/ 491). (¬2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 440). (¬3) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 479). (¬4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 441). (¬5) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 383). (¬7) رواه مسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ثانياً: إن الصحابة فهموا من الحديث أن المراد بالفطرة: الإسلام، ولذلك سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك عن أطفال المشركين لوجود ما يغير تلك الفطرة السليمة وإلا لما سألوا عنهم وأيضاً فإن أبا هريرة – رضي الله عنه – تلا قوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] عقب هذا الحديث. مما يدل أنه فهم أن المراد من الفطرة: الإسلام. ثالثاً: إن هذا الحديث يؤيده ظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] فقد عم الله كل الناس بهذه الفطرة في قوله النَّاسَ وأضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم لأنها منصوبة على المصدرية التي دل عليها الفعل أَقِمْ فيكون المعنى: إن إقامة الوجه للدين حنيفاً هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها (¬1). وتفسير الآية بهذا المعنى منقول عن عامة السلف (¬2). رابعا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ((خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين ... )) (¬3) والحنيفية: الإسلام. خامساً: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لموجب الفطرة ومقتضاها شرطاً، بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)) (¬4) ومع ذلك لم يذكر عند تغيرها بمؤثر خارجي: أو يسلمانه، مما يدل على أن المراد بالفطرة معرفة الله والإقرار به، بمعنى أن ذلك هو مقتضى فطرتهم، وأن حصولها لا يتوقف على وجود شرط وإنما على انتفاء الموانع (¬5). 5) برهان عقلي: وهو أنه إذا فرض جدلاً أن معرفة الله تعالى نظرية وطلب إقامة الأدلة على الإقرار به وبربوبيته، فإنه لابد من وجود علوم ضرورية فطرية أولية تنتهي إليها العلوم النظرية، ولا يمكن إثباتها بعلوم نظرية كذلك لما يلزم من الدور القبلي والتسلسل في المؤثرات. وهذه العلوم الضرورية شرط وجودها صحة الفطرة وسلامتها، فبالفطرة السليمة مع حسن النظر يحصل المطلوب من العلم (¬6). ويوضح هذا أن الذي يستدل لإثبات الرب سبحانه لابد أن ينقدح في نفسه أن الدليل الذي يستدل به هو بعينه يؤدي إلى مطلوبه الذي شعر به أولاً، فهاهنا أمران: الشعور بمطلوبه، والدليل المؤدي إليه (¬7)، وبهذا يتضح أنه لولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لما قام نظر ولا استدلال (¬8)، والحقيقة المطلوبة هنا: معرفة وجود الله. ويوضحه كذلك: أن مجرد التعليم والتحضيض لا يحصل به العلم والإرادة لولا وجود قوة في النفس قابلة لذلك التعليم وتلك الإرادة، فإن البهائم والجمادات لو علمت وحضضت بوسائل تعليمية كالتي لبني آدم لما حصل لها ما يحصل لبني آدم مع أن الوسائل متفقة، مما يدل على أن القوابل مختلفة، والقابل هو مقتضى الفطرة. اعتراضات على دليل الفطرة: الاعتراض الأول: لو كانت المعرفة فطرية فكيف أُثر عن بعض الخلق إنكار وجود الله تعالى؟ والجواب: أولاً: إن الإقرار بالخالق يكون فطرياً في حق من سلمت فطرته، كما هو نص الحديث السابق. ثانياً: إن من أثر عنه إنكار الخالق في البشر قليلون جداً مقارنة مع من يثبت وجوده، وهم على قسمين: ¬

(¬1) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 372). (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) (20/ 97). (¬3) رواه مسلم (2865) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 454). (¬6) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 309). (¬7) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 48). (¬8) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 62).

قسم ينكره ظاهراً فقط كما تقدم في شأن فرعون. قسم آخر هو في الحقيقة معترف في قرارة نفسه بوجود مدبر وصانع، ويحيل ذلك إلى الطبيعة أو غيرها!. مما يدل على وجود علوم أولية فطرية، وإنما حصل ما حصل بسبب المؤثر الخارجي. الاعتراض الثاني (¬1): لو كانت معرفته فطرية ضرورية فكيف ينكر ذلك كثير من النظار ويدعون أنهم يقيمون الأدلة على وجوده؟ والجواب: أولاً: إن من أنكر هذه المعرفة الفطرية الضرورية هم أهل الكلام المذموم الذين ذمهم السلف، ولم يؤثر هذا الإنكار عن علماء المسلمين، بل إنهم نصوا على خلاف هذا كما صح عن الإمام الزهري (¬2)، فهؤلاء المتكلمون تأثروا بمؤثر خارجي. ثانياً: إن الإنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه. فهاهنا أمور وهي: علم الإنسان بعلم ما، وعلمه بأنه يعلم هذا العلم، وطلبه الدليل على هذا العلم، وكل إنسان يشعر من نفسه الفرق بين هذه الأمور، فالعلم بشيء قد يكون قائماً بإنسان وإن كان غائباً عنه علمه بأنه يعلم ذلك الشيء، ولكن إذا ذكر له تذكر، وأحس من نفسه بالمعرفة. وقد تقدم أنه لولا وجود علوم ضرورية فطرية لما صح نظر ولا استدلال ولا تم وقام. الاعتراض الثالث (¬3): قالوا: إن المعرفة لا تحصل مبتدأة في النفس، بل لابد لها من طريق. الجواب: أولاً: إن هذا من موارد النزاع وهو هل المعرفة نظرية أو فطرية، وعليه فلا يصلح إيرادها قضية مسلماً بها، وقد دللنا سابقاً على صحة القول بأنها فطرية. ثانياً: أن يقابل هذا القول بالمعارضة فيقال: إنها قد تحصل في النفس مبتدأة ولا يمكنهم حينئذ أن يقيموا دليلاً على نفي ذلك، وإن أقاموه فباستقراء يكون إما فاسداً وإما ناقصاً. ثالثاً: إن أهل الكلام أثبتوا علوماً ضرورية، منها علم الإنسان بوجود نفسه، فإذا كان هذا ضروريًّا، فالعلم بربوبية الخالق أولى أن يكون ضروريًّا في حق من سلمت فطرته، وإن زعم المتكلم أن ذلك يحتاج إلى طريق. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 232 ¬

(¬1) انظر: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (16/ 340). (¬2) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 248)، والحديث رواه البخاري (1358) وقال: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب قال ابن شهاب: (يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغيّة من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام يدعي أبواه الإسلام أو أبوه خاصة وإن كانت أمه على غير الإسلام إذا استهل صارخاً يصلي عليه ولا يصلى على من لا يستهل من أجل أنه سقط ... ). (¬3) انظر: هذا الاعتراض والجواب عنه في ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 37).

هذا وإن من فضل الله ورحمته أن فطر كل إنسان على توحيده وابتغاء وجهه بحيث يكون ذلك أصلاً يولد عليه كل مولود وهذا هو معنى حديث الفطرة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (¬1) فالفطرة هي الإسلام الذي أصله توحيد الله بالإرادة والمحبة، وأما الأديان المحرفة فهي مخالفة للفطرة، وانحراف عن الأصل الذي هو الإسلام ولهذا فإن القلب لا يمكن أن يطمئن ويستقر إلا إلى ما فطره الله عليه من إرادته ومحبته وحده وكل إرادة ومحبة لغير الله فهي عذاب وصرف للفطرة عن أصلها، مهما يكن المراد المحبوب وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)) (¬2) مع أنه دعاء بالتعاسة والانتكاس لمن كان عبداً للدينار فإنه أيضاً تقرير لواقع حاصل، وهو أن كل من كان معبوده المال فلابد أن يكون حاله من تعاسة إلى تعاسة، ومن انتكاس إلى انتكاس، لمخالفته لحقيقة فطرته بحب الله وإرادة وجهه وحده ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني - ص163 قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ الأعراف: 172 وذهب طائفة من السلف والخلف أن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد, كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية - على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)) (¬3) أخرجاه وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم)) (¬4) وعن الأسود بن سريع من بني سعد قال ((غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال: ما بال قوم يتناولون الذرية فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها)) (¬5) ¬

(¬1) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (2887). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (1385)، ورواية ((على هذه الملة)) رواها مسلم (2658). (¬4) رواه مسلم (2865). (¬5) رواه أحمد (4/ 24) (16346) واللفظ له، والدارمي (2/ 294)، والحاكم (2/ 134). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 289): مشهور ثابت. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 316): رواه أحمد بأسانيد والطبراني في الكبير والأوسط .. وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (402): وهو كما قالا - أي: الحاكم والذهبي -.

قال الحسن: ولقد قال الله تعالى في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِيَّتَهُمْ [الأعراف:172] قالوا ولهذا قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل من آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل من ظهره ذُرِيَّتَهُمْ أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى: وَهُوَ الذِّي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فيِ الأَرْض [الأنعام:165] وقال: وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْض [النمل:62] وقال تعالى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِين [الأنعام:133] ثم قال تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا, قال الشهادة تكون بالقول كقوله تعالى: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا [الأنعام:130] الآية وتارة تكون حالا كقوله تعالى: مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يُعَمِّرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْر [التوبة: 17] أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك, وكذا قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيد [العاديات: 7] كما أن السؤال تارة يكون بالمقال, وتارة يكون بالحال كقوله تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه [إبراهيم: 34] معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص93 وقال ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على إقرار الناس بفطرهم على وجود الخالق سبحانه وتعالى: ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى ما لا تتعلق به حاجتها ألا ترى أن الناس يعرفون من أحوال من تتعلق به منافعهم ومضارهم كولاة أمورهم ومماليكهم وأصدقائهم وأعدائهم مالا يعلمونه من أحوال من لا يرجونه ولا يخافونه ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم وهو الذي يأتيهم بالمنافع ويدفع عنهم المضار: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53] وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم كما يخاطبهم بذلك في كتابه وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله بل يكون ما يحبونه سواه كأنبيائه وصالحي عباده إنما يحبونهم لأجله كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) (¬1) ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والاعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسئول المحبوب المرجو المخوف المعبود المعظم الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار الذي تواضع كل شيء لعظمته واستسلم كل شيء لقدرته وذل كل شيء لعزته فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها وهو الاعتراف بالصانع به أولى أن يكون في النفوس وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (¬2) ويروي عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء)) (¬3) ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له وهذا هو الحنيفية وأصل الإيمان قول القلب وعمله أي علمه بالخالق وعبوديته للخالق والقلب مفطور على هذا وهذا وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض إما بجهله وإما بظلمه فجحد بآيات الله واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 24 ¬

(¬1) رواه البخاري (16)، ومسلم (43). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.

المبحث الثاني: دلالة الحس

المبحث الثاني: دلالة الحس وأما دلالة الحس على وجود الله، فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حسية، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا، أن الله استجاب لهم فالأعرابي الذي دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال أنس: والله، ما في السماء من سحاب ولا قزعة (أي: قطعة سحاب) وما بيننا وبين سلع (جبل في المدينة تأتي من جهته السحب) من بيت ولا دار وبعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فوراً خرجت سحابة مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت، وبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام (¬1) وهذا أمر واقع يدل على وجود الخالق دلالة حسية وفي القرآن كثير من هذا، مثل: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَه [الأنبياء:83 - 84] وغير ذلك من الآيات شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 56 ¬

(¬1) رواه البخاري (933)، ومسلم (897).

المبحث الثالث: دلالة الآيات الكونية

المبحث الثالث: دلالة الآيات الكونية - دليل الخلق والحدوث كل حادث لا بد له من محدث ولا محدث للحوادث إلا الله عز وجل، والحقيقة أن دلالة الحوادث على المحدث دلالة حسية عقلية: أما كونها حسية: فلأنها مشاهدة بالحس. وأما كونها عقلية: فلأن العقل يدل على أن كل حادثٍ لا بد له من محدث. ولهذا سئل أعرابي: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبَعْرَة تدل على البعير، فسماء ذات أبراجٍ وأرض ٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير؟ الجواب: بلى، هذا أعرابي استدل على أن هذه الحوادث العظيمة تدل على خالقٍ عظيم عز وجل، هو السميع البصير، فالحوادث دليل على وجود المحدث، ثم كل حادثٍ منها يدل على صفةٍ مناسبةٍ غير الوجود، فنزول المطر يدل لا شك على وجود الخالق ويدل على رحمته وهذه دلالةٌ غير الدلالة على الوجود، وجود الجدب والخوف والحروب تدل على وجود الخالق وتدل على غضب الله عز وجل وانتقامه، فكل حادثٍ فله دلالتان: دلالةٌ كلية عامة: تشترك فيها جميع الحوادث وهي وجود الخالق وجود المحدث. ودلالةٌ خاصة: في كل حادثٍ بما يختص به كدلالة الغيث على الرحمة ودلالة الجدب على الغضب وهكذا. وهناك دلالة أخرى: النوازل التي تنزل لسبب دالة على وجود الخالق، مثل: دعاء الله عز وجل ثم استجابته للدعاء دليل على وجوده، وهذه وإن كانت من باب دلالة الحادث على المحدث لكنها أخص، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الله أن يغيث الخلق قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) ثم نشأ السحاب وأمطر قبل أن ينزل من المنبر، هذا حديث أنس (¬1) يدل على وجود الخالق وهذا أخص من دلالة العموم شرح العقيدة السفارينية لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص45 ومن أمثلة الآيات القرآنية التي تتحدث عن الدلائل الكونية المتعلقة بالخلق والتكوين قوله –تعالى -: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 22 - 25]، فهذه الآيات كونية وإن شئت، فقل: كونية قدرية، وكانت آية لله، لأنه لا يستطيع الخلق أن يفعلوها، فمثلاً: لا يستطيع أحد أن يخلق مثل الشمس والقمر، ولا يستطيع أن يأتي بالليل إذا جاء النهار، ولا بالنهار إذا جاء الليل، فهذه الآيات كونية شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 124 ¬

(¬1) رواه البخاري (933)، ومسلم (897).

المبحث الرابع: دلالة الشرع

المبحث الرابع: دلالة الشرع هذه الطريقة قد تبدو غريبة خاصة على علماء الكلام، ولكن سيتم بيان وجه دلالتها على وجود الله تعالى بما يزيل غرابتها إن شاء الله. وقد سلك بعض العلماء هذه الطريقة كالقاضي أبي يعلى في كتابه: (عيون المسائل) وأبي بكر البيهقي في كتابه (الاعتقاد) والخطابي في رسالة: (الغنية عن الكلام) وأشار شيخ الإسلام إلى صحتها وشرعيتها إذا حررت (¬1). وقال ابن القيم: (وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله. وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يسميها الله آيات بينات) (¬2). وبيان هذه الطريق من وجهين: الوجه الأول: الآيات والبراهين – وهي المعجزات. الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها. الوجه الأول: الآيات والبراهين – وهي المعجزات: بين الله تعالى في كتابه العزيز أنه أرسل رسله بالوحي وأيدهم بالآيات تصديقاً لهم فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ [الحديد: 25] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل: 43 - 44] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((ما من الأنبياء من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) (¬3) وسماها الله تعالى برهاناً كذلك، فقال عن آيتي العصا واليد اللتين أرسل بهما موسى عليه السلام: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص: 32]. فسماها الله تعالى آية وبرهاناً وبينة، وذلك لقوة دلالتها على المطلوب، وأنه بمجرد حدوثها يحصل العلم الضروري، فهي من جنس الآيات من دلالتها على المراد، بل هي أقوى لغرابتها وعظمتها. ومن المعلوم أن الرسول إذا جاء قومه وادعى أنه رسول الله يوحى إليه بأنه لا إله إلا الله، أيده الله وصدقه بآية، فههنا أمور: الأول: دعواه أنه رسول. الثاني: أن الله هو الذي أرسله سواء كان المخاطب يقر بوجوده أو لا يقر. الثالث: أنه مرسل لدعوة الناس إلى إفراد الله بالألوهية. فإذا جاء الرسول بآية وهي العلامة التي تدل على صدقه ثبتت الرسالة وكذلك الربوبية ضمناً، وذلك لأنها حدث من جنس لا يقدر على مثله البشر وحصلت عند دعوى الرسول الرسالة، كيف وإذا انضم إلى ذلك ما عرف من أحوال الأنبياء وصدقهم وما حصل لهم ولأتباعهم من التأييد والنصر، ولأعدائهم من الهلاك والخسران ... ولذلك فليس بلازم أن تتقدم معرفة العبد بوجود الله تعالى على حصول الآية والمعجزة ومن ثم تقرر النبوة، لأنها ... من جنس الآيات المخلوقة المحدثة التي لابد لها من محدث أحدثها (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (11/ 379). (¬2) ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/ 1197). (¬3) رواه البخاري (4981)، ومسلم (152). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/ 41).

ويمكن الاستدلال لها بما حدث بين موسى عليه السلام وفرعون، كما قص الله تعالى ذلك في القرآن فقال آمراً موسى وهارون عليهما السلام: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 16 - 33]. ومعلوم أن فرعون قد ادعى أنه ربهم الأعلى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]. فهو وإن كان يتظاهر بذلك إلا أنه في باطنه يقر بربوبية الله على خلقه. كما قال الله عنه ومن حوله من الملأ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]. والآيات ساقها الله تعالى للرد عليه في هذه الدعوى التي تظاهر بها، ولذلك لما حاجه موسى عليه السلام بالآيات الظاهرة قال له: قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] فأصر على موقفه وعناده – فدعاه موسى عليه السلام لبرهانين عظيمين وهما قلب العصا ثعباناً وإخراج اليد بيضاء بعد ضمها فلو كان ذلك لا يدل على مطلوب موسى عليه السلام وإبطال دعوى فرعون لما دعاه إليه موسى عليه السلام، بل إنه سماه مبيناً فقال: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ [الشعراء: 30]. فتقرر من هذا النص أنه يمكن إثبات ربوبية الله ووجوده بالآيات المعجزات وإن لم يكن المخاطب مقراً بذلك ومن ثم يقوم لله بالعبادة. وأما إن كان المخاطب مقراً بوجود الله بفطرته التي لم تتغير فإنه بالآية والمعجزة تتقرر عنده النبوة والوحدانية في الإلهية كما قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [هود: 13 - 14]، فهذا نص واضح على أنه بالآية – وهي هنا معجزة القرآن – تثبت وتتقرر الرسالة والوحدانية ضرورة (¬1) ومعلوم أن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، فإذا ثبت الأول ثبت الثاني تضمناً، ضرورة ثبوت المتضمن بثبوت المتضمن. فثبت أنه يمكن إثبات الربوبية بآيات الأنبياء. الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها: أولاً: العلوم: ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 379).

فالرسل جميعاً اتفقوا على الإخبار بأشياء معينة – يقطع المرء بأنهم لم يتواطؤا عليها ومن ذلك: دعوتهم جميعاً إلى عبادة إله واحد، وكذلك بشارة موسى وعيسى برسالة رسولنا محمد عليهم الصلاة والسلام من غير تواطؤ منهم على بعد في الأزمنة والأمكنة، فكان ذلك على الوجه الذي بشرا به. والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأخبار الأمم الماضين مع القطع بأنه كان يعيش في أمة أمية، وكذلك قد أخبر بأمور تحصل في المستقبل، وقد حصلت، منها ما هو في القرآن، ومنها ما هو في السنة، فمما ورد في القرآن قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1 - 4] فكان كما أخبر، ومما ورد في السنة: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده)) (¬1) وقوله: ((خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)) (¬2) وكانت خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر رضي الله عنه: عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن رضي الله عنه ستة أشهر، ثم نشأ الملك وكان معاوية رضي الله عنه أول ملوك المسلمين وهو أفضلهم (¬3)، فكان الأمر كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. والأخبار في هذا كثيرة جداً يحصل بمجموعها القطع والعلم الضروري، فيدل ذلك على صدقه في الرسالة وعلى وجود الخالق سبحانه، لأنه هو الذي أطلعه على ذلك إذ أنه لا يعقل أبداً أن يتحدث الإنسان ويخبر بأشياء ويصدق فيها دائماً دون تردد، ودون أن يجرب عليه كذب، إلا إذا كان موحى إليه، وأن الذي أوحى إليه هو الذي بيده الأمور وتتطابق أخباره مع قدره، وهذا ظاهر. ثانياً: الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق: فقد تضمنت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم أموراً عظيمة، يقطع الإنسان أنها لا يمكن أن تكون إلا من خالق عليم حكيم، فالشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا واضح جداً في الضروريات الخمس: الدين، والعقل والنفس، والمال، والعرض. ويراجع في هذا الكتب التي بُحث فيها عن حكمة التشريع ومقاصد الشريعة الإسلامية. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 291 ¬

(¬1) رواه البخاري (3618)، ومسلم (2918). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه أبو داود (4646)، والحاكم (3/ 156)، والطبراني (7/ 84) (6459). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬3) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 545).

المبحث الخامس: دلالة العقل

المبحث الخامس: دلالة العقل فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟ فإن قلت: وجدت بنفسها، فمستحيل عقلاً ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذاً لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضاً، فأنت أيها الجاحد، هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها، هل وجد هذا صدفة؟! فيقول: لا يمكن أن يكون فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبداً ويقال: إن طائفة من السمنية جاءوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاءوا، قالوا: ماذا قلت؟ قال أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون قالوا: تفكر بهذا؟! قال: نعم قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ ولهذا قال الله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] فحينئذ يكون العقل دالاً دلالة قطعية على وجود الله شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين 1/ 56 نعم إن العقل دال على وجود الله تعالى, وانفراده بالربوبية, وكمال قدرته على الخلق وسيطرته عليهم، وذلك عن طريق النظر والتفكر في آيات الله الدالة عليه. وللنظر في آيات الله والاستدلال بها على ربوبيته طرق كثيرة بحسب تنوع الآيات وأشهرها طريقان: الطريق الأول: النظر في آيات الله في خلق النفس البشرية وهو ما يعرف بـ (دلالة الأنفس)، فالنفس آية من آيات الله العظيمة الدالة على تفرد الله وحده بالربوبية لا شريك له، كما قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس: 7]، ولهذا لو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله لأرشده ذلك إلى أن له رباً خالقاً حكيماً خبيراً؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يخلق النطفة التي كان منها؟ أو أن يحولها إلى علقة، أو يحول العلقة إلى مضغة، أو يحول المضغة عظاماً، أو يكسو العظام لحماً؟ الطريق الثاني: النظر في آيات الله في خلق الكون وهو ما يعرف بـ (دلالة الآفاق)، وهذه كذلك آية من آيات الله العظيمة الدالة على ربوبيته، قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]. ومن تأمل الآفاق وما في هذا الكون من سماء وأرض، وما اشتملت عليه السماء من نجوم, وكواكب, وشمس, وقمر، وما اشتملت عليه الأرض من جبال, وأشجار, وبحار, وأنهار، وما يكتنف ذلك من ليل ونهار وتسيير هذا الكون كله بهذا النظام الدقيق؛ دله ذلك على أن هناك خالقاً لهذا الكون، موجدًا له مدبِّرًا لشؤونه، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات, وتغلغل فكره في بدائع الكائنات علم أنها خُلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين ودلالات على جميع ما أخبر به الله عن نفسه, وأدلة على وحدانيته. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء ص12

الفصل الخامس: الضلال في توحيد الربوبية

المبحث الأول: مضادة توحيد الربوبية يضاد توحيد الربوبية الإلحاد، وإنكار وجوب الرب عز وجل. ويضاده –أيضاً- اعتقاد متصرف مع الله عز وجل في أي شيء؛ من تدبير الكون، من إيجاد، أو إعدام، أو إحياء، أو إماتة، أو جلب خير، أو دفع شر، أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته، كعلم الغيب، أو كالعظمة، والكبرياء، ونحو ذلك (¬1). وكما يضاده –أيضاً- اعتقاد مشرع مع الله عز وجل لأنه هو الرب وحده، وربوبيته شاملة لأمره الكوني والشرعي. رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 127 ¬

(¬1) انظر: ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 56).

المبحث الثاني: إنكار الربوبية

المبحث الثاني: إنكار الربوبية لم ينكر توحيد الربوبية أحد من البشر إلا طائفة من الشذاذ, المكابرين, المعاندين, المنكرين لما هو متقرر في فطرهم؛ فإنكارهم إنما كان بألسنتهم مع اعترافهم بذلك في قرارة أنفسهم. ومن أشهر من عرف بذلك فرعون؛ الذي قال لقومه –كما أخبر الله عنه-: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24] وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]. وكلامه هذا مجرد دعوى لم يقم عليها بينة، ولا دليل، بل كان هو نفسه غير مؤمن بما يقول. قال –تعالى- على لسان موسى عليه السلام: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102]. وأخبر –عز وجل- وهو العليم بذات الصدور – أن كلام فرعون ودعواه لم يكن عن عقيدة ويقين، وإنما هو مكابرة وعناد، قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]. وممن أنكر ذلك –أيضاً- الشيوعيون، فلقد أنكروا ربوبية الله، بل أنكروا وجوده –سبحانه وتعالى- بناءاً على عقيدتهم الخبيثة الفاجرة التي تقوم على الكفر بالغيب، والإيمان بالمادة وحدها. وهم في الحقيقة لم يزيدوا على أن سموا الله بغير اسمه، بحيث ألهوا الطبيعة، ونعتوها بنعوت الكمال التي لا تليق بأحد إلا الله – عز وجل – فقالوا: الطبيعة حكيمة، الطبيعة تخلق، إلى غير ذلك. وكلامهم هذا باطل متهافت، بل إن أصحاب هذا المبدأ انشقوا على أنفسهم، ولعن بعضهم بعضاً، وكفر بعضهم ببعض (¬1). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 127 ¬

(¬1) انظر: ((الشيوعية)) لمحمد بن إبراهيم الحمد.

الفصل السادس: حدود العذر بالجهل بتوحيد الربوبية

الفصل السادس: حدود العذر بالجهل بتوحيد الربوبية هذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل عليهم السلام فيما حكى الله عنهم: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم: 10] .... ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس والمانوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما متفقون على أن النور أفضل من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة: هل هي قديمة أو محدثة؟، فلم يثبتوا ربَّيْن متماثلين. وأما النصارى القائلون بالتثليث، فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد ... والمشركون من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25]، وقوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون: 84 - 85] (¬1). فلا شك أن الإيمان بالله وحده لا شريك له، وأنه وحده المستحق للربوبية أمر فطر عليه الناس وهم في عالم الذر، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 172 - 174]. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ( ... دل على أن الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد) (¬2). ومما يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (¬3). قال ابن أبي العز – رحمه الله -: (لا يقال: إن معناه يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً، كما قال بعضهم) (¬4). ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((خلقت عبادي حنفاء فاجتالهم الشياطين ... )) (¬5). وبناء على ما سبق من الأدلة الشرعية والأدلة الواقعية على أن الناس فطروا على توحيد الرب عز وجل، أمكن القول أن الحجة على وحدانية الرب تبارك وتعالى وتفرده بالخلق قد قامت عليهم، وهي حجة مستقلة على من أنكر ربوبية الله تعالى أو أشرك معه فيها غيره معه أو دونه، أو ادعى الجهل بها. ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 25 - 29) بتصرف يسير. (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 275). (¬3) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 33). (¬5) رواه مسلم (2865) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.

ولكن من رحمة الله بخلقه لما وقع الناس في شيء من الشرك بالله في ربوبيته وغيروا فطرهم، أرسل لهم الرسل تذكرهم بما في فطرهم، وتأمرهم بما هو مقتضى هذه الفطرة. قال ابن أبي العز – رحمه الله -: (فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس، بين القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون: 91] (¬1). وفي هذا المعنى قوله تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17]، وقوله تعالى: قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء: 42]. فقضية توحيد الربوبية التي جعل الله عز وجل الإقرار بها مركوزاً في الفطر، وبعد ما أرسلت الرسل بزيادة بيانها والدعوة إلى عبادة الله وحده التي هي مقتضى الإقرار بتوحيد الربوبية، فهذه القضية أصبحت من بديهيات العقائد المعلومة لجميع الناس، لا عذر لأحد في إنكارها بدعوى الجهل أو الشبهة أو غيرها من الدعاوى؛ لأن إنكار ذلك يناقض الفطرة التي فطر الله الناس عليها ونصب الأدلة الباهرة عليها. ولهذا فإذا أردنا تحديد مناط قيام الحجة على الناس في قضية توحيد الربوبية، فإننا نأخذ بعين الاعتبار بديهية المسألة وأنها فطرية، ولذلك جاءت الأدلة الشرعية للتذكير بهذه العقيدة الفطرية، وكذلك أدلة الخلق المنصوبة الدالة على وحدانية الخالق المدبر سبحانه وتعالى. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله معلقا على آية الإشهاد في سورة الأعراف: (ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية، ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقر بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك. وهو ميثاق وإشهاد تقوم عليهم الحجة وينقطع به العذر، وتحل به العقوبة ويستحق بمخالفته الإهلاك، فلابد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون. ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم، ويعرفونهم حقه عليهم وأمره ونهيه ووعده ووعيده) (¬2). وقال الشيخ الحكمي – رحمه الله – مبيناً أنواع المواثيق التي أخذها الله عز وجل على بني آدم حتى يتحدد مناط قيام الحجة على الإنسان، قال: ( ... هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة: الأول: الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى الآيات ... وهو الذي قاله جمهور المفسرين رحمهم الله في هذه الآيات، وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما. الميثاق الثاني: ميثاق الفطرة، وهو أنه تبارك وتعالى فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] ... الميثاق الثالث: هو ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب تجديداً للميثاق الأول وتذكيراً به رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165]. ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 38 - 39). (¬2) ((الروح)) (2/ 555).

فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته وهي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول، فإنه يقبل ذلك من أول مرة ولا يتوقف؛ لأنه جاء موافقاً لما في فطرته وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه ويقوى إيمانه، فلا يتلعثم ولا يتردد. ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه وهوده أبواه أو نصراه أو مجساه، فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته فرجع إلى فطرته وصدق بما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، نفعه الميثاق الأول والثاني. وإن كذب بهذا الميثاق، كان مكذبا بالأول، فلم ينفعه إقراره به يوم أخذه الله عليه، حيث قال (بلى) جوابا لقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172]، وقامت عليه حجة الله وغلبت عليه الشقاوة وحق عليه العذاب. ومن يهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء. ومن لم يدرك هذا الميثاق بأن مات صغيراً قبل التكليف، مات على الميثاق الأول على الفطرة، فإن كان من أولاد المسلمين، فهم مع آبائهم. وإن كان من أولاد المشركين، فالله أعلم بما كان عاملا لو أدركه، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين)) (¬1). فتوحيد الربوبية قامت به الحجة القاطعة للعذر، ولهذا كان زبدة الرسالة المحمدية هي الدعوة إلى لازم هذا التوحيد وهو توحيد الألوهية، وهو عبادة الله وحده دون شريك، إذ انحراف الناس غالباً ما يكون في هذا النوع من التوحيد، ولهذا احتاجوا على مدى التاريخ البشري إلى الرسل التي تدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده دون شريك، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: (وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف. ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد. فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده. فيقر بأن الله وحده هو المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك) (¬2). والخلاصة أنه لما كان المشركون مقرين بتوحيد الربوبية بل وببعض تفاصيله، فالأولى والأحرى أن يكون المسلمون كذلك، فلا يتوقع إذن من مسلم أن يجهل هذا التوحيد أو تشتبه عليه بعض تفاصيله، فضلاً عن أن ينكر شيئاً من خصائص الرب عز وجل كالتفرد بالوحدانية والخلق والتدبير، أو ينسبه جل وعلا إلى نقص، كأن ينسب له الولد أو الصاحبة أو اللغوب أو غيرها من النقائص – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا -، أو أن يسب الله تعالى .. فهذا كله مما لا يتصور ورود الجهل فيه على أحد من المسلمين، لذلك إذا صدر من أحد شيء من هذه الكفريات، فإنه يكفر ولا يعذر بأي عذر كان جهل أو غيره. لكن أن يقع منهم الجهل بتوحيد الألوهية، فهذا وارد بل واقع، وهو أمر خطير جدا، لذلك يجب أن نرى حدود ما يعذر به المسلم إذا وقع فيما يخالف توحيد الألوهية. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 126 ¬

(¬1) ((معارج القبول)) (1/ 40 - 42). (¬2) ((فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)) (ص: 16).

الفصل السابع: نقد منهج المتكلمين في إثبات الربوبية

المبحث الأول: بدعية طريقة المتكلمين في الاستدلال على وجود الخالق عز وجل وذم العلماء لها أن الإيمان به تعالى والإقرار بوجوده أمر فطرت عليه القلوب، أعظم من فطرتها على الإقرار بغيره من الموجودات، فهو سبحانه أبين وأظهر من أن يجهل، فيطلب الدليل على وجوده. يقول الحافظ العلامة ابن القيم: "سمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من جود النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما" (¬1). لذلك لم يكن إثبات وجود الله تبارك وتعالى من حيث هو موجود من الأهداف القرآنية، ولم يكن ذلك هدفاً من أهداف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالت الرسل لأممهم: أَفِي اللهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10]. إلا أن القرآن الكريم لم يتجاهل هذه القضية بل نبه إليها، وأشار إلى دلائلها؛ إذ الفطر قد تتغير وتفسد، والإيمان واليقين قد يضعف، فأقام الله عز وجل من الدلائل الباهرة، والبراهين القاطعة ما يبهر العقول، ويقود القلوب إلى التسليم والانقياد، فكل شيء يدل على وجود الله تعالى؛ إذ ما من شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته سبحانه، وما ثم إلا خالق ومخلوق، والمخلوق يدل على خالقه فطرة وبداهة، إذ ما من أثر إلا وله مؤثر، كما اشتهر في قول الأعرابي الذي سئل: كيف عرفت ربك؟ فقال – بفطرته السليمة – البعرة تدل على البعير؛ والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، أرض ذات فجاج، وجبال وبحار وأنهار، أفلا تدل على السميع البصير؟ (¬2). فهذه المسألة – مع منتهى وضوحها وجلائها – تخبط الناس فيها خبط عشواء، وأكثروا فيها القيل والقال، واشتد بينهم النزاع، وطال الجدال. ويعتبر المتكلمون أكثر من اشتغل بتقرير وجود الخالق عز وجل والاستدلال له، غير أنهم لم يسيروا في ذلك على منهج الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وإنما أتوا بطريقة مخترعة مستمدة من الفلسفة والمنطق اليوناني، فترتب على ذلك مفاسد عديدة في أبواب الاعتقاد. سلك المتكلمون في الاستدلال على إثبات وجود الله تعالى، طريقة مبتدعة، مذمومة في الشرع، كما أنها مخطرة، مخوفة في العقل، ألا وهي ما يسمونه (دليل الأعراض وحدوث الأجسام). واعتمدوا فيما نهجوه على الجواهر والأعراض (¬3) وما يتعلق بها من الإمكان أو الحدوث أو غير ذلك مما ذكروه، لكون العالم مؤلفاً من أجزاء حادثة، والمؤلف من أجزاء حادثة حادث، والحادث جائز الوجود؛ إذ يجوز تقديره عدماً قبل الوجود، فلما اختص العالم بالوجود الممكن بدلاً عن العدم الجائز احتاج إلى موجد وافتقر إلى صانع وهو الله تعالى (¬4). قال الإيجي: "قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض، قد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه، بناء على أن علة الحاجة عندهم إما الحدوث وحده أو الإمكان مع الحدوث شرطاً أو شطراً فهذه وجوه أربعة: ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 60). (¬2) انظر: ((ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان)) لابن الوزير (ص: 83). (¬3) انظر: ((الإرشاد)) للجويني (ص: 39)، و ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 79)، (ص: 149). (¬4) انظر على سبيل المثال والمختصر في ((أصول الدين)) لعبد الجبار (ص: 172 - 173)، ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 129، 231، 233)، و ((الإرشاد)) للجويني (ص: 39)، و ((تهافت الفلاسفة)) للغزالي (ص: 39) و ((نهاية الإقدام)) للشهرستاني (ص: 5 - 6)، ((المحصل)) للرازي (ص: 147)، ((التمهيد)) للباقلاني (ص: 37).

الأول: الاستدلال بحدوث الجواهر، قيل: هذه طريقة الخليل صلوات الرحمن وسلامه عليه، حيث قال: قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76]، وهو أن العالم الجوهري أي المتحيز بالذات حادث كما مر، وكل حادث فله محدث كما تشهد بذلك بديهة العقل (¬1). وأما إدعاؤهم أن طريقتهم في الاستدلال على وجود الله تعالى بدليل الجواهر والأعراض الدال على حدوث العالم هي طريقة إبراهيم الخليل فيما حكى الله عنه في قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] فادعاء باطل مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول وللغة العربية التي نزل بها القرآن واستدلال في غير محله، فإن أحداً من سلف الأمة وأئمتها أهل العلم والإيمان لم يقل بذلك، كما ذكر الإمام الدارمي، وغيره من علماء أهل السنة؛ بل وبينوا أن هذا من التفاسير المبتدعة (¬2). وقد فسر أئمة المفسرين: الأفول بـ (المغيب) (¬3). وكذا فسره أهل اللغة وغريب القرآن بذلك (¬4). ثم إن إبراهيم عليه السلام لم يكن يقصد الاستدلال بمجرد الحركة على نفي الربوبية، ولو كان يقصد ذلك لكفاه تحرك هذه الكواكب من مشرقها إلى مغربها دليلاً على ما أراد، وإنما استدل بأفولها ومغيبها عن عين عابديها على عدم استحقاقها للعبادة، لأن الذي يستحق العبادة لا ينبغي أن يغيب عن عين عابدة لحظة واحدة، وهذه الكواكب لا تملك لنفسها أن تمنعها من الإحتجاب والمغيب عن أعين عابديها فلا تصلح أن تكون آلهة تعبد من دون الله. فهذه طريقة إبراهيم عليه السلام في نفي ألوهية الكواكب، وهذا هو مقصوده مما يناقض ما ذهب إليه المتكلمون في تأويلهم الأفول بالحركة والتغير واستدلالهم بذلك لتقرير منهجهم العقلي في إثبات وجود الله المبني على دليل الإمكان والوجوب أو الجواهر والأعراض (¬5). وهكذا نجد المتكلمين يستدلون على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها إما الأكوان وإما غيرها، وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل من إثبات الأعراض التي هي الصفات أولاً، أو إثبات بعضها كالأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، وإثبات حدوثها ثانيا، بإبطال ظهورها بعد الكون وإبطال انتقالها من محل إلى محل ثم إثبات امتناع خلو الجسم ثالثاً، إما عن كل جنس من أجناس الأعراض بإثبات أن الجسم قابل لها، وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، وإما عن الأكوان وإثبات امتناع حوادث لا أول لها رابعاً، وهو مبني على مقدمتين: أحدهما: أن الجسم لا يخلو عن الأعراض التي هي الصفات. ¬

(¬1) ((شرح المواقف))، ومعه ((شرح الجرجاني)) (2/ 2 - 3) وما بعدها. (¬2) انظر: ((رد الإمام الدارمي على بشر المريسي)) (ص: 55)، و ((درء التعارض)) لابن تيمية (1/ 314). (¬3) انظر: ((تفسير الطبري)) (5/ 246)، و ((تفسير البغوي)) (2/ 90)، و ((تفسير ابن كثير)) (2/ 156). (¬4) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 623)، و ((معجم مقاييس اللغة العربية)) لابن فارس (1/ 119)، و ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 18) (مادة: الأفل) و ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 23). (¬5) انظر: ((درء التعارض)) (1/ 314 - 315)، (8/ 355 - 356)، (9/ 82 - 84)، و ((منهاج السنة)) (1/ 44 - 145)، (2/ 141 - 143)، و ((الرد على المنطقيين)) (ص: 304 - 305)، و ((بغية المرتاد)) (ص: 360 - 374).

والثانية: أن ما لا يخلو عن الصفات التي هي الأعراض فهو محدث؛ لأن الصفات التي هي الأعراض لا تكون إلا محدثة، وقد يفرضون ذلك في بعض الصفات التي هي الأعراض كالأكوان، وما لا يخلو عن جنس الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا تتناهى (¬1). ومن خلال ما سبق عرضه لا يخالج أحداً شك في صعوبة هذا الدليل، وشدة غموضه وتعقيده، واشتماله على مقدمات عسيرة عويصة، مما لا يؤمن معه على سالكه ومقتفيه التعثر وسوء المغبة وبعد التيه، فهي كما قيل: لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل. وليعلم أن الاستدلال بحدوث أشياء وتغيرها وتحولها من حال إلى حال في حد ذاته استدلال صحيح، نبه عليه القرآن الكريم وأشار إليه في أكثر من موضع، غير أن الأمر الذي هو محل النقد في هذا الدليل هو طريقتهم في إثبات حدوث العالم، ومن ثم زعمهم أن طريقتهم تلك هي طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام. وعلى كل، فقد اشتد نكير أهل العلم من أهل السنة والجماعة، بل وحتى المحققين من المتكلمين على مسلك هذه الطريقة، وحصر الدليل على إثبات وجود الله تعالى فيها. نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: ناقش شيخ الإسلام استدلال المتكلمين بهذا الدليل في كثير من رسائله ومؤلفاته، وأوضح بطلان هذا الدليل بالمنقول والمعقول، وكان من جملة ما استدل به على بطلانه، واحتج به اتفاق السلف - رحمهم الله -، وانعقاد إجماعهم على بدعية هذه الطريقة التي سلكها المتكلمون في إثبات الصانع، وذمهم لها، حيث قال: (المقصود هنا أن كثيراً من أهل النظر صار ما يوجبونه من النظر والاستدلال ويجعلونه أصل الدين والإيمان هو هذه الطريقة المبتدعة في الشرع المخالفة للعقل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمها وذم أهلها) (¬2). وقال أيضاً: (ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلة، طريقة الأعراض والحركة والسكون، التي مبناها على أن الأجسام محدثة لكونها لا تخلو عن الحوادث، وامتناع حوادث لا أول لها، طريقة مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة، وطريقة مخوفة في العقل، بل مذمومة عند طوائف كثيرة) (¬3). وذكر (أن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين؛ بل إن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا واحداً بسلوك هذا السبيل، فلو كانت المعرفة موقوفة عليه وهي واجبة لكان واجباً، وإن كانت مستحبة كان مستحباً، ولو كان واجباً أو مستحباً لشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعاً لنقلته الصحابة) (¬4). قال: (الإقرار بالصانع فطري ضروري بديهي لا يجب أن يتوقف على النظر والاستدلال؛ بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي ذكرها أهل طريقة النظر) (¬5). وقال أيضا: (أن أصل المعرفة والإقرار بالصانع لا يقف على النظر والاستدلال؛ بل يحصل بديهة وضرورة؛ ولهذا يقر بالصانع جميع الأمم مع عظيم شركهم وكفرهم وأنهم لا يسلكون من هذه الطرق المشهورة عند النظار مثل الاستدلال بالحدوث على المحدث، وبالإمكان على الواجب) (¬6). ونقل كلاماً لأبي الحسن الأشعري ضمنه اتفاق السلف على الاستغناء عن هذه الطريقة، وأقره على ذلك (¬7). ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 303 - 304). (¬2) ((النبوات)) (ص: 85). (¬3) ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 303). (¬4) انظر: ((نقض التأسيس)) (1/ 619). (¬5) انظر: ((نقض التأسيس)) (2/ 473). (¬6) انظر: ((نقض التأسيس)) (2/ 473). (¬7) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 224).

وبين (أن طريقة الاستدلال بما يشاهد حدوثه قد جاء به القرآن، واتفق عليها السلف والأئمة، ولكن تمشيا مع الضرورة والحس، ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان، بل يستدل بذلك على وجود المحدث تعالى) (¬1). وفي ذلك يقول: (طريقة الاستدلال بما يشاهد حدوثه جاء بها القرآن، واتفق عليها السلف والأئمة) (¬2). ذكر من حكى الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: (لقد أنكر أهل العلم – رحمهم الله – على المتكلمين سلوكهم هذه المسالك المعقدة، فوسموهم بالبدعة والضلالة، وبينوا فساد طريقتهم عقلاً، وتحريمها شرعاً، وأقوال أهل العلم – رحمهم الله – في بيان عظم خطر هذه الطريقة وصعوبتها كثيرة، ومن ذلك إجابة أبي حنيفة حينما سأله السائل عما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة؛ فإنها بدعة) (¬3). وقد سئل القاضي ابن سريج عن التوحيد، فذكر توحيد المسلمين، وقال: (وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك) (¬4). وعقب شيخ الإسلام على هذا القول بقوله: (ولم يرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين، فإنهما لم يكونا قد أحدثا في زمنه، وإنما أراد إنكار ما يعنى بها من المعاني الباطلة؛ فإنه أول من أحدثهما الجهمية والمعتزلة) (¬5). ويقول أبو الحسن الأشعري: (وإذا ثبت بالآيات صدقه صلى الله عليه وسلم، فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله، وصار خبره عليه السلام عن ذلك سبيلاً إلى إدراكه، وطريقاً إلى العلم بحقيقته، وكان ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة، ومن اتبعها من القدرية، وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام) (¬6). وبين صعوبة هذا الدليل، وشدة خفائه، وكثرة مقدماته، وأشار إلى أن السلف الصالح ومن تبعهم من الخلف قد عدلوا عن هذه الطرق المعقدة الغامضة. وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع من الاستدلال بذلك، لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه (¬7). وممن قرر اتصاف هذه الطريقة بالاعوجاج والخطورة، ووجود الغنية فيما استدل به السلف – رحمهم الله -؛ لما فيه من الوضوح والسلامة أبو سليمان الخطابي حيث قال: (فإن قال هؤلاء القوم: فإنكم قد أنكرتم الكلام، ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم؟ ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها؟ وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، وأن الرسول لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها؟! ¬

(¬1) انظر: ((درء التعارض)) (7/ 223). (¬2) انظر: ((درء التعارض)) (5/ 294). (¬3) ذكره ابن قدامة المقدسي في ((ذم التأويل)) (ص: 32، 33). (¬4) نقله عنه شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (17/ 305). (¬5) نقله عنه شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (17/ 305). (¬6) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 184، 185). (¬7) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 186 - 191).

قلنا: إننا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف، ولكننا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع، ونرغب إلى ما هو أوضح بياناً وافصح برهاناً ... – إلى أن قال – فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والابتداع والانقطاع على سالكها) (¬1). وقال – بعد ما ذكر جملة من الأدلة على إثبات الصانع عز وجل ومال إلى الأدلة الشرعية منها -: (وقد أبى متكلموا زماننا هذا، إلا الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها، وزعموا أنه لا دلالة أقوى من ذلك ولا أصح منه. ونحن وإن كنا لا ننكر الاستدلال بهذا النوع من الدلالة، فإن الذي نختاره ونؤثره هو ما قدمنا ذكره؛ لأنه أدلة اعتبار وطريق السلف من علماء أمتنا، وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم) (¬2). وقد تنبه أبو حامد الغزالي إلى بدعية هذا الدليل، وأنه ليس من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته رضوان الله عليهم، فأعلن ذلك رغم سلوكه له حيث يقول: (فليت شعري متى نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضي الله عنهم إحضار أعرابي أسلم، وقوله له: الدليل على أن العالم حادث: أنه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث) (¬3). أما أبو الحسن الآمدي – فقد قلل من شأن هذا الدليل، فقال بعد أن نقله بطوله: (وهو عند التحقيق سراب غير حقيقة) (¬4). وكذا يرى ابن رشد الحفيد عدم صحة هذا الدليل، أو جدواه، ويرى أن في غيره من الطرق الشرعية غنية عنه، ويظهر ذلك بوضوح من خلال نقده لطريقة الأشعرية في إثبات وجود الخالق بهذا الدليل حيث قال: (وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد: طريقة معتاضة، تذهب عن كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلا عن الجمهور، ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية، ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري) (¬5). واستدل ابن عبد البر على فساد هذه الطريقة وبدعيتها، بعدم سلوك الصحابة لها، مع ما نطق به القرآن من تزكيتهم وتقديمهم، والإطناب في مدحهم وتعظيمهم، فلو كانت هذه الطريقة لديهم مشهورة، أو من أخلاقهم معروفة لاستفاض عنهم النقل، ولتواترت بها الرواية والخبر، وفي ذلك يقول: (ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، وفي الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه لازماً، ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم. ولو كان ذلك من علمهم مشهوراً، أو من أخلاقهم معروفاً لاستفاض عنهم، ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات) (¬6). ¬

(¬1) ((الغنية عن الكلام وأهله)) للخطابي نقلا عن ((نقض التأسيس)) (1/ 254)، و ((درء التعارض)) (7/ 292 - 294). (¬2) كتاب ((شعار الدين)) للخطابي، نقلا عن ((نقض التأسيس)) (1/ 249 - 250)، و ((درء التعارض)) (7/ 294). (¬3) ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) للغزالي (ص: 127، 202، 203). (¬4) ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (ص: 260). (¬5) ((الكشف عن مناهج الأدلة)) لابن رشد (ض: 43). (¬6) ((التمهيد)) لابن عبد البر (7/ 152).

وبنحو ما استدل به ابن عبد البر استدل أبو المظفر السمعاني حيث يقول: (وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وذكر ماهيتهما، ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النمط حرفاً واحداً فما فوقه، لا في طريق تواتر ولا آحاد، فعلمنا أنهم ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقهم، وأن هذا طريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه رضي الله عنهم، وسلوكه يعود عليهم بالطعن والقدح ونسبتهم إلى الجهل وقلة العلم في الدين واشتباه الطريق عليهم) (¬1). وما أصدق عبارة ابن عقيل في هذه القضية: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا ولم يعرفوا لا الجوهر ولا العرض. فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن. وإن رأيت طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت) (¬2). وأشار العمراني إلى تصريح العلماء بتحريم الكلام، وبدعية هذا الطريق بقوله: (قد صرح العلماء من أهل الحديث والفقهاء المشهورون بتحريم الكلام، وقالوا هو محدث وبدعة في الدين، وقالوا لو كان طريقاً صحيحاً لمعرفة الله سبحانه لنبه الله سبحانه في القرآن ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم به وتكلمت به الصحابة رضي الله عنهم. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الاستنجاء ودلهم على جميع الأحكام فلو كان الكلام من مهمات الدين لنبه النبي صلى الله عليه وسلم عليه) (¬3). مستند الإجماع: استند العلماء في إجماعهم في هذه المسألة على ما ورد من نصوص كثيرة في الكتاب والسنة من النهي عن الابتداع في الدين، ولا سيما في مسألة مهمة كهذه، تتعلق بعقيدة المسلم وأصل دينه. فقد تتبع أهل العلم آي الكتاب، وكلام رب الأرباب، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تواتر منها وما كان من أحاديث الآحاد، وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم من الأئمة المتبوعين، فلم يقفوا على حرف واحد يدل على تلك الطريقة المذمومة، فانعقد على الحكم ببدعيتها إجماعهم، واتفقت على ذم أهلها أقوالهم. وإنما جاء التنبيه على دلالة الخلق والإبداع في القرآن الكريم في عدة مواضع كقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [الطور: 35 - 36]، وقوله تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 67]، وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم: 9]. والمتأمل في كتاب الله يجده مملوءاً بالآيات التي تدعو الإنسان إلى النظر والتفكر تلك الدلائل القاطعة المبثوثة في الآفاق وفي الأنفس، لا النظر الذي سلكه المتكلمون في استدلالهم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام. فالاستدلال بالآيات الكونية وما هو مشاهد ومحسوس وما تدل عليه الضرورة والفطر والحس منهج قويم من مناهج أهل السنة والجماعة، فقد عقد أهل العلم – رحمهم الله تعالى – فصولاً كثيرة في كتبهم ساقوا تحتها عدداً كبيراً من الآيات والأحاديث وأقوال السلف للدلالة على وحدانية الله عز وجل بدليل خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والجبال والهواء والماء وخلق الإنسان وانتقاله من طور النطفة إلى العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم إنشائه خلقا آخر. ولعل من أبلغ الأدلة الحاثة على الاستدلال بما هو مشاهد ومحسوس من الآيات الكونية المبثوثة في الآفاق وفي الأنفس قول الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]. وقوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20 - 21]. وعلى كل؛ فلم يرد في كتاب الله ولا سنة رسول الله ولا أقوال السلف الصالح ما يشير إلى مسلك المتكلمين في هذه المسألة، بل جاء التحذير منه والحكم ببدعيته، واشتد نكير أهل العلم على من سكله وقرره. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 237 ¬

(¬1) ((الانتصار لأهل الحديث)) للسمعاني (ص: 69، 70، 71). (¬2) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 85). (¬3) ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) للعمراني (1/ 129).

المبحث الثاني: خطأ المتكلمين في إيجابهم النظر على المكلف ودعواهم أن المعرفة موقوفة عليه

المبحث الثاني: خطأ المتكلمين في إيجابهم النظر على المكلف ودعواهم أن المعرفة موقوفة عليه تقرر في المبحث السابق اتفاق العلماء على بدعية الطريقة التي سلكها المتكلمون في إثبات وجود الله تعالى، وأن هذه الطريقة فيها فساد كثير في وسائلها ومقاصدها، فأما وسائلها فمع صعوبتها ففيها خطورة ومزلات عظيمة، وأما مقاصدها فغايتها إثبات وجود الخالق جل وعلا وتدبيره لهذا الكون وهذا الأمر قد فطر الناس عليه، فوجود الخالق عز وجل أظهر من كل شيء على الإطلاق، فهو أظهر للبصائر من الشمس للأبصار، وأبين للعقول من كل ما تعقله وتقر بوجوده، فما ينكره إلا مكابر بلسانه، وأما قلبه وعقله وفطرته فكلها تكذبه (¬1). ولم يقف الأمر عند هذا الحد، من جعل هذه الطريقة المعتاضة المبتدعة أحد الطرق الموصلة إلى معرفة الله عز وجل، حتى زعم المتكلمون أن من لم يعرفها، ويستدل بها على وجود الله تعالى لا يقبل ولا يصح إيمانه. ومن ثم أوجبوا على المكلف الاستدلال بها لمعرفة الخالق جل وعلا، إذ إن أول واجب على المكلف عندهم النظر، أو القصد إلى النظر المفضي – في نظرهم – إلى قيام الاستدلال وصحة البرهان. يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: (إن سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن نعرفه بالتفكير والنظر) (¬2). ويقول عبد القاهر البغدادي: (الصحيح عندنا قول من يقول: إن أول الواجبات على المكلف النظر والاستدلال المؤديات إلى المعرفة بالله تعالى وبصفاته وتوحيده وعدله وحكمته، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى جواز إرسال الرسل منه، وجواز تكليف العباد ما شاء، ثم النظر المؤدي إلى وجوب الإرسال والتكليف منه، ثم النظر المؤدي إلى تفصيل أركان الشريعة، ثم العمل بما يلزمه منها على شروطه) (¬3). ويقول الجويني: (أول ما يجب على العاقل البالغ – باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً – القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم .. ) (¬4). بل وذكر حكم من مات قبل أن يكتسب معرفة الله تعالى عن النظر والاستدلال قائلا: (فمن اخترمته المنية قبل أن ينظر وله زمن يسع النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى ولم ينظر مع ارتفاع الموانع، ومات بعد زمان الإنكار فهو ملحق بالكفر، وأما لو أمضى من أول الحال قدراً من الزمان يسع بعض النظر لكنه قصر في النظر ثم مات قبل مضي الزمان الذي يسع في مثله النظر الكامل فإن الأصح في ذلك، الحكم بكفره لموته غير عالم مع بدء التقصير منه فليلحق بالكفرة ((¬5). وقد اعتبر السنوسي النظر والاستدلال بالأقيسة المنطقية شرطاً للدخول في الإسلام، ومن عاند في أدائه وجب استخراجه منه بالسيف إلى أن يموت (¬6). وهكذا أضاف المتكلمون إلى بدعتهم السابقة بدعة أخرى، رتبوا عليها أحكام شنيعة تقشعر منها الجلود، كتسميتهم من لم يتبع هذه الطريقة مقلداً محكوماً عليه بالكفر والخسران أو الفسق، فيلزم من قولهم هذا أنهم هم المؤمنون الناجون فقط دون سواهم، ويكون العوام – وهم أكثر المسلمين – ليسوا بمؤمنين ولا ناجين من النار، بل حتى العلماء الذين لم يسلكوا مسالكهم ويتبعوا طريقتهم! وفي هذا تحجير لواسع، وتضييق لرحمة الله، وابتداع لقول لم يسبقوا إليه. ¬

(¬1) انظر: ((مفتاح دار السعادة))، لابن القيم (1/ 212). (¬2) ((المحيط بالتكليف)) للقاضي عبد الجبار (ص: 26)، و ((شرح الأصول الخمسة)) له (ص: 70، 76). (¬3) ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 75). (¬4) ((الشامل)) للجويني (ص: 26). (¬5) ((الشامل)) للجويني (ص: 32، 33). (¬6) انظر: ((شرح أم البراهين)) للسنوسي (ص: 16، 17).

وعلى كل حال؛ فإن القول الحق في هذه المسألة، والذي تشهد له النصوص، وعليه اتفاق السلف والأئمة – كما حكاه شيخ الإسلام عنهم في أكثر من موضع – هو أن أول واجب على المكلف الشهادتان. وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم – رحمهم الله تعالى – وفي ذلك إبطال لما ذهب إليه المتكلمون في هذه المسألة، وأحد أوجه الرد عليهم وتزيف لقولهم، ودحض لشبهتهم، وتخطئة لمنهجهم وطريقتهم. نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: بين رحمه الله أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق المذمومة عند السلف، بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلاً عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف إلا بهذه الطريقة المذمومة والتي أوجبها المتكلمون على المكلف للدخول في الإسلام حيث يقول: (بل قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن معرفة الله والإقرار به لا يقف على هذه الطرق التي يذكرها أهل طريقة النظر؛ بل بعض هذه الطرق لا تفيد عندهم المعرفة فضلا عن أن يكون الله لا يقر به مقر ولا يعرفه عارف إلا بالطريقة المشهورة له من إثبات حدوث العالم بحدوث صفاته مع دعواهم أن الله لا يعرف إلا بهذه الطريقة) (¬1). وقال أيضا: (وليس هذا قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا قاله أحد من الأنبياء والمرسلين، ولا هو قول كل المتكلمين ولا غالبهم، بل هذا قول محدث في الإسلام ابتدعه متكلموا المعتزلة ونحوهم من المتكلمين الذين اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمهم) (¬2). وحكى اتفاق السلف – رحمهم الله تعالى – على تخطئة المتكلمين في إيجابهم هذا النظر المعين على المكلف لتحصيل المعرفة، وإيقافهم المعرفة عليه بقوله: (والمقصود هنا أن هؤلاء الذين قالوا: معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم قالوا: لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام – الجهمية القدرية ومن تبعهم – وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين وغيرهم، على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم أن المعرفة موقوفة عليه. إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به، بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة) (¬3). وقال بعد ذكره لأقوال المتكلمين ومن تبعهم في إيجاب هذا النظر: (كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل وباطلة في العقل أيضاً) (¬4). وأوضح اللوازم الفاسدة من إيقاف المتكلمون معرفة الله تعالى وتحصيلها على هذا النظر المعين من الالتزام بالقول بعدم معرفة الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين بالله، والإيمان به، ولا شك أن هذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين، وفي ذلك يقول: (إن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين) (¬5). وإذا كان قول المتكلمين بأن أول واجب على المكلف النظر المعين – المستفاد من دليل الأعراض وحدوث الأجسام – فاسد مطرح مذموم عند السلف، فما هو القول الصحيح الذي اتفق عليه السلف والأئمة، وتؤيده النصوص والأدلة؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مجيبا عن هذا السؤال: (والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ) (¬6). ¬

(¬1) ((النقض)) (2/ 473). (¬2) ((النقض)) (2/ 473). (¬3) ((المجموع)) (16/ 330). (¬4) ((المجموع)) (16/ 332). (¬5) ((النقض)) (1/ 619). (¬6) ((الدرء)) (8/ 11)، وانظر ((النقض)) (8/ 8).

وبين أن (الشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله، وأما مجرد الإقرار بالصانع دون الإتيان بالشهادتين فهذا لا يصير به الرجل مؤمناً، بل ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يصير مؤمناً بذلك حتى يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬1). وقال – في معرض نقده لمن أوجب النظر على المكلف، وجعله أول الواجبات-: (والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه) (¬2). وقال أيضاً – بعد أن ساق جملة من الأحاديث الدالة على أن أول ما يدعى إليه الشهادتان وكذلك الأمر بقتال الناس حتى يأتوا بالشهادتين -: (وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول، أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين، سواء كان معطلا، أو مشركاً، أو كتابياً، وبذلك يصير الكافر مسلماً، ولا يصير مسلما بدون ذلك) (¬3). وقال أيضا: (أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفى منه بالإقرار بالشهادتين) (¬4). وقال كذلك: (وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر) (¬5). وقال في موضع آخر: (فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين) (¬6). ذكر من حكى الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: جاءت هذه المسألة نتيجة للمسألة السابقة والتي أكثر أهل الكلام الاشتغال بها، فأحدثوا في دين الله ما لم يأذن به، ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن عليه سلفنا الصالح. وقد اشتد نكير أهل العلم – رحمهم الله تعالى – على كلتا المسألتين، ووسموا أهلها بالابتداع والضلال، وبينوا فساد ما ذهبوا إليه، وحذروا من مغبة ما يؤول إليه. وقد استعرضنا جملة من أقوال أهل العلم – رحمهم الله تعالى – عند الحديث عن المسألة الأولى. استدلالهم بدليل الأعراض وحدوث الأجسام، وها نحن نذكر جملة أخرى تنضاف إلى ما سبق لتكون موضحة لموقف أهل العلم – رحمهم الله تعالى – من المسألة الأصل وما نمى عنها. فقد حكى الإمام أبو بكر بن المنذر الإجماع على أن الكافر إذا أقر بالشهادتين وتبرأ من كل دين خالف دين الإسلام وهو بالغ صحيح يعقل أنه يصير بذلك مسلماً حيث قال: (أجمع كل من أحفظ عنه على أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق، وأبرأ من كل دين خالف الإسلام وهو بالغ صحيح يعقل، أنه مسلم) (¬7). فانظر كيف تجرأ هؤلاء المتكلمون على خرق هذا الإجماع وإطراحه، ولا غرو في ذلك فإن هؤلاء ليس لهم خبرة بأقوال الصحابة والتابعين وأقوال أئمة المسلمين في مسائل أصول الدين، بل إنما يعرفون أقوال الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المحدث وهؤلاء كلهم مبتدعه عند سلف الأمة وأئمتها (¬8). ولهذا تجد في كتب أهل الكلام ما يدل على غاية الجهل بما قاله الرسول والصحابة والتابعون وأئمة الإسلام مما يوجب أن يقال: كأن هؤلاء نشأوا في غير ديار الإسلام ولا ريب أنهم نشأوا بين من لم يعرف العلوم الإسلامية حتى صار المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً ولبسهم فتن ربي فيها الصغير وهرم فيها الكبير، وبدلت السنة بالبدعة والحق بالباطل (¬9). ¬

(¬1) ((النقض)) (8/ 11، 12). (¬2) ((النقض)) (8/ 6). (¬3) ((النقض)) (8/ 7). (¬4) ((الدرء)) (7/ 437). (¬5) ((المجموع)) (7/ 302). (¬6) ((المجموع)) (7/ 609). (¬7) ((الإجماع)) لابن المنذر (ص: 154). (¬8) انظر: ((الصفدية)) (2/ 268). (¬9) انظر: ((النقض)) (2/ 482).

فمع وضوح هذا الإجماع وصراحته، إلا أنا نجد الجويني والإيجي يدعيان الإجماع على أن أول واجب على المكلف النظر أو القصد إلى النظر المؤدي إلى معرفة الله! وبطلان هذا الإجماع المدعى ظاهر لكل من له من العلم أدنى نظر، إذ إن فيه مخالفة لصحيح المنقول ولإجماع من يعتد بإجماعه من أهل العلم، وحاشا أن تجتمع الأمة على أمر مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول فإن هذا ضلال، والأمة لا تجتمع على ضلال. ثم إن بعض المتكلمين أيضاً قد خالفوا الجويني والإيجي في هذا الإجماع وقالوا بخلافه فكيف يدعيان الإجماع على ذلك إذن؟! واسمع إلى ما قاله أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة عن هذه المسألة: (إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك) (¬1). وقد استنكر ابن حزم على من جعل النظر والاستدلال أول الواجبات، وسمى من خالف هذه الطريقة مقلداً لا يقبل إيمانه بقوله: ( ... إن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به، ويقاتل من أهل الأرض من قاتله، ويستحل سفك دمائهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وأخذ أموالهم متقرباً إلى الله تعالى بذلك، وأخذ الجزية وإصغاره. ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده، ويحكم له بحكم الإسلام، وفيهم المرأة البدوية، والراعي، والراعية، والفلاح الصحراوي الوحشي، والزنجي المسبي، والزنجية المجلوبة، والرومية، والجاهل، والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا غيرهم قال له عليه السلام: إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه ... ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم، ولا يختلف أحد في هذا الأمر. ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصلح لأحد الإسلام إلا به، ثم تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتنبه له هؤلاء الأشقياء!. ومن ظن أنه وقع في الدين على ما لم يقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع، وخلاف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وجميع أهل الإسلام قاطبة) (¬2). وقال ابن عبد البر: (إنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجاً علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهوراً أو من أخلاقهم معروفاً لاستفاض عنهم ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات) (¬3). ¬

(¬1) نقله عنه الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (13/ 361)، ونقله أيضا شيخ الإسلام في ((الدرء)) (7/ 407) بتصرف. (¬2) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (4/ 75 - 76). (¬3) ((التمهيد)) (7/ 152).

وممن نص على مخالفة المتكلمين فيما أوجبوه على المكلف لإجماع المسلمين أبو المظفر السمعاني حيث يقول: (فإنهم – أي أهل الكلام – قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين، ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها منقولاً من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه وكذلك من التابعين بعدهم. وكيف يجوز أن يخفى عليهم أول الفرائض وهم صدر هذه الأمة والسفراء بيننا وبين رسول الله؟!. هذا وقد تواترت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين ... ولم يرو أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أن يدعى إلى الإسلام فإن أبى وسأل النظرة والإمهال أن لا يجاب إلى ذلك ... ولا يجوز على طريقهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يذكر له هذا ويمهل لأن النظر والاستدلال لا يكون إلا بمهلة وخصوصاً إذا طلب الكافر ذلك، وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين، ليتمكنوا من النظر على التمام والكمال وهو خلاف إجماع المسلمين) (¬1). وممن عاب على المتكلمين إيجابهم النظر على المكلف أبو حامد الغزالي بقوله: (من أشد الناس غلوا وإسرافاً طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لم يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتها التي حررناها كافر. فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولاً، وجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جعلوا ما تواتر من السنة ثانياً، إذ ظهر من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشتغلين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدليل، ولو اشتغلوا به لم يفهموه، ومن ظن أن مدرك الإيمان بالكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد ... وليت شعري متى نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة إحضار أعرابي أسلم وقولهم له: الدليل على أن العالم حادث، أن لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ... وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن من تكلم بكلمة التوحيد أجرى عليه أحكام المسلمين، فثبت بهذا أن مأخذ التكفير من الشرع لا من العقل، إذ الحكم بإباحة الدم، والخلود في النار شرعي لا عقلي خلافاً لما ظنه بعض الناس) (¬2). ونص عبد القادر الجيلاني على أن أول ما يجب على من أراد الدخول في دين الإسلام التلفظ بالشهادتين، والبراءة من كل دين يخالفه حيث قال: (الذي يجب على من يريد الدخول في دين الإسلام أولا أن يتلفظ بالشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويتبرأ من كل دين غير دين الإسلام، ويعتقد بقلبه وحدانية الله تعالى) (¬3). وقال ابن الصلاح – في معرض كلامه على حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وفيه قال رضي الله عنه: ((يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق)) ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((لئن صدق ليدخلن الجنة)). (¬4). وفي الحديث دلالة على صحة ما ذهب إليه الأئمة العلماء في أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفي منهم بمجرد اعتقادهم الحق جزماً من غير شك وتزلزل، خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة. ¬

(¬1) ((الانتصار لأصحاب الحديث)) للسمعاني (ص: 61، 62، 63). (¬2) ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) للغزالي (ص: 134 – 202). (¬3) ((الغنية)) الجيلاني (1/ 2). (¬4) رواه البخاري (12)، من حديث أنس رضي الله عنه.

وبين وجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قرر ضماماً على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه صلى الله عليه وسلم من مناشدته ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك قائلا له: أن الواجب عليك أن تستدرك ذلك من النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية التي تفيدك العلم (¬1). مستند الإجماع: من تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها حافلة بذكر الأمر الذي بعث الله عز وجل من أجله المرسلين، واجتمعت عليه كلمتهم أجمعين، فكان ذلك الأمر هو أوجب الواجبات، أول الفرائض والمطلوبات والذي شغل حيزاَ من حياتهم، بل كل حياتهم لتبليغه والدعوة إليه، فكان وظيفتهم والحكمة من بعثتهم، ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، لا كما زعم المتكلمون أنه النظر المؤدي إلى معرفة الباري؛ فدونك الأدلة على ذلك، من الكتاب والسنة: فمن الكتاب: قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. ونظائرهما كثير. ووجه الدلالة من هاتين الآيتين ظاهر وصريح في أن الرسل إنما بعثوا لأمر الناس بعبادة الله ودعوتهم إلى ذلك، بل دلت الآية على حصر مهمتهم ووظيفتهم في ذلك، ولو كان النظر أوجب الواجبات وأولها، لنبه عليه الشارع الحكيم، ولكان على رأس الاهتمام من الأنبياء والمرسلين، ولما لم يكن كذلك تبين بطلان ما ذهب إليه المتكلمون، وفساد طريقتهم ومسلكهم. وأما السنة: فقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى)) (¬2). وفي رواية: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (¬3). وعن سهل بن سعد: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الراية عليا رضي الله عنه يوم خيبر، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ... )) (¬4). ووجه الدلالة من الحديثين بينة؛ إذ لو كان النظر إلى معرفة الله تعالى واجباً كما يدعي المتكلمون لأمر صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه أولا، ولما قدم عليها غيره، ومن ثم تظهر مخالفة المتكلمين لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الأدلة أيضا ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)). (¬5) ووجه الدلالة ظاهر بين؛ إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق كفه عن قتال الناس على شرط به يعصم المرء دمه وماله، ألا وهو التلفظ بالشهادتين، بخلاف ما سلكه المتكلمون من الحكم بسفك دم من لم يعرف الله تعالى بالطرق والأقيسة العقلية التي ابتدعوها. فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى توحيد الله عز وجل وقبل إسلام من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهؤلاء المتكلمون يدعون الناس إلى الاستدلال والدخول في الإسلام بهذه الطريقة المبتدعة ويجعلونه أول واجب على المكلف ومن لم يعرف أو عاند في تركه حكم بكفره وسفك دمه، فتأمل ما بين المنهجين من البون الشاسع والفرق الكبير. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 260 ¬

(¬1) ((صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط)) لابن الصلاح (ص: 142 - 144). (¬2) رواه البخاري (7372). (¬3) رواه البخاري (1395). (¬4) رواه البخاري (4210)، ومسلم (2406). (¬5) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

المبحث الثالث: المتكلمون يعتنون بتقرير الربوبية، ويسكتون عن الألوهية

المبحث الثالث: المتكلمون يعتنون بتقرير الربوبية، ويسكتون عن الألوهية ومن أهل الكلام: من أطال نظره في تقرير هذا التوحيد- توحيد الربوبية-: إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل، ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو، وأن الإلهية هي: القدرة على الاختراع أو نحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله، وأنه لا شريك له في الخلق، كان هذا معنى قولنا: لا إله إلا الله، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، كما قال تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [لقمان:25] وقال تعالى قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ الآيات، وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] قال ابن عباس وغيره: (تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره) وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه كله لله اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 854

الباب الثاني: توحيد الألوهية

المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة (الإِلَه) الألوهية هي مصدر أله يأله، قال الجوهري: (أله – بالفتح – إلاهة، أي عبد عبادة، ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] بكسر الهمزة قال وعبادتك وكان يقول: إن فرعون كان يعبد في الأرض ومنه قولنا: (الله) وأصله: (إله) على فعال بمعنى مفعول أي معبود، كقولنا: إمام فعال: لأنه مفعول أي مؤتم به) اهـ (¬1). وعلى هذا فإن الألوهية صفة لله تعالى تعني استحقاقه جل وعلا للعبادة بما له من الأسماء والصفات والمحامد العظيمة (¬2) ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما (والله ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين) (¬3) اهـ. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 54 ويقول ابن سيده: (والإلهة والألوهة والألوهية العبادة) وأما الألوهية التي جاءت هذه الكلمة لإثبات استحقاق الله وحده لها فهي من مجموع كلام أهل اللغة أيضاً فزع القلب إلى الله، وسكونه إليه، واتجاهه إليه لشدة محبته له، وافتقاره إليه ويجمعهما كون الله هو الغاية والمراد والمقصود مطلقاً. يقول ابن الأثير: أصله من أله يأله إذا تحير، يريد: إذا وقع العبد في عظمة الله وجلاله وغير ذلك من صفات الربوبية وصرف وهمه إليها أبغض الناس حتى لا يميل قلبه إلى أحد. ويقول أبو الهيثم: (الله: أصله إله ولا يكون إلها حتى يكون معبوداً، وحتى يكون لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً وعليه مقتدراً وأصل إله ولاه فقلبت الواو همزة ومعنى ولاه أن الخلق إليه يؤلهون في حوائجهم ويفزعون إليه فيما ينوبهم كما يوله طفل إلى أمه)، ويقول الإمام ابن القيم: اسم الله دال على كونه مألوهاً معبوداً تألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني - ص37 ¬

(¬1) ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2223) مادة (أله)، وانظر ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 26). (¬2) انظر: ((شرح الواسطية)) لابن عثيمين (ص: 11). (¬3) رواه الطبري (1/ 123).

المبحث الثاني: اشتقاق لفظ الجلالة (الله)

المبحث الثاني: اشتقاق لفظ الجلالة (الله) واختلفوا في كونه مشتقا أو لا, ذهب الخليل وسيبويه وجماعة من أئمة اللغة والشافعي والخطابي وإمام الحرمين ومن وافقهم إلى عدم اشتقاقه لأن الألف واللام فيه لازمة فتقول يا الله ولا تقول يا الرحمن, فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام وقال آخرون إنه مشتق, واختلفوا في اشتقاقه إلى أقوال أقواها أنه مشتق من أله يأله إلهة, فأصل الاسم الإله فحذفت الهمزة وأدغمت اللام الأولى في الثانية وجوبا فقيل الله, ومن أقوى الأدلة عليه قوله تعالى: وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3] مع قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84] ومعناه ذو الألوهية التي لا تنبغي إلا له, ومعنى ألَه يألَهُ إلاهةً عبد يعبد عبادة فالله المألوه أي المعبود ولهذا الاسم خصائص لا يحصيها إلا الله عز وجل, وقيل إنه هو الاسم الأعظم معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص76 وقال الشيخ محمد خليل هراس في شرحه للعقيدة الواسطية: واسم الجلالة؛ قيل: إنه اسم جامدٌ غير مشتقٍّ؛ لأن الاشتقاق يستلزم مادة يُشْتَقُّ منها، واسمه تعالى قديم، والقديم لا مادَّة له، فهو كسائر الأعلام المَحْضَة، التي لا تتضمَّن صفاتٍ تقوم بمسمَّياتِها والصحيح أنه مشتقٌّ واختُلِفَ في مبدأ اشتقاقه، فقيل: من أَلَهَ يَأْلَهُ أُلوهَةً وإِلهَةً وأُلوهِيةً؛ بمعنى: عبدَ عِبَادةً وقيل: من أَلِهَ - بكسر اللام - يَأْلَهُ - بفتحها - أَلَهًا؛ إذا تحيَّر والصحيح الأوَّل، فهو إلهٌ؛ بمعنى مأْلوهٍ؛ أي: معبود وعلى القول بالاشتقاق يكون وصفًا في الأصل، ولكن غَلَبَتْ عليه العَلَمِيَّة، فتجري عليه بقية الأسماء أخبارًا وأوصافًا؛ يقال: الله رحمنٌ رحيمٌ سميعٌ عليمٌ؛ كما يقال: الله الرَّحمن الرَّحيم إلخ شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن خليل هراس - ص45

المبحث الثالث: الفرق بين الرب والإله في المعنى

المبحث الثالث: الفرق بين الرب والإله في المعنى - فالاسم الأول - الإله - يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه وما خلق له وما فيه صلاحه وكماله وهو عبادة الله والاسم الثاني – الرب - يتضمن خلق العبد ومبتداه وهو أنه يربه ويتولاه مع أن الثاني يدخل في الأول دخول الربوبية في الإلهية والربوبية تستلزم الألوهية أيضا والاسم الرحمن يتضمن كمال التعليقين وبوصف الحالين فيه تتم سعادته في دنياه وأخراه ولهذا قال تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30] فذكر هنا الأسماء الثلاثة وربي والإله وقال: عليه توكلت وإليه متاب كما ذكر الأسماء الثلاثة في أم القرآن لكن بدأ هناك باسم الله ولهذا بدأ في السورة بإياك نعبد فقدم الاسم وما يتعلق به من العبادة لأن (الرب) هو القادر، الخالق، البارئ، المصور، الحي، القيوم، العليم، السميع، البصير، المحسن، المنعم، الجواد، المعطي، المانع، الضار، النافع، المقدم، المؤخر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 14/ 12 - اسم الله أدل على مقصود العبادة التي لها خلق الخلق ففاتحة دعوة الرسل الأمر بالعبادة قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] وقال صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله)) (¬1) وذلك يتضمن الإقرار به وعبادته وحده فإن الإله هو المعبود ولم يقل حتى يشهدوا أن لا رب إلا الله فإن اسم الله أدل على مقصود العبادة له التي لها خلق الخلق وبها أمروا مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 13 - اسم الرب أحق بحال الاستعانة والمسألة والرب هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة ولهذا يقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16]، ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [آل عمران:147]، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] فعامة المسألة والاستعانة المشروعة باسم الرب مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 14/ 13 - إقرار الخلق بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له والإنابة إليه ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية وقد أخبر عنهم أنهم لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فأخبر أنهم مقرون بربوبيته وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى الله من جهة ربوبيته لما يمدهم به في الباطن من الأحوال التي بها يتصرفون وهؤلاء من جنس الملوك وقد ذم الله عز وجل في القرآن هذا الصنف كثيرا فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون في الحقائق ويعملون عليها وهم لعمري في نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به والله سبحانه أعلم مجموع الفتاوى لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية - 14/ 14 ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه (25) ومسلم في صحيحه (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

الفصل الثاني: تعريف توحيد الألوهية ومنزلته والأدلة عليه وأنواعها

المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية المراد بتوحيد الألوهية: إفراد الله جل وعلا بالتعبد في جميع أنواع العبادات (¬1). ويعبر بعض أهل العلم بالعبادة بدل التعبد، ولا فرق، إذ مراده بالعبادة معناها المصدري وهو التعبد. والتعبد له ركنان وشرطان لصحته، أما الركنان: فغاية الخضوع والتذلل لله، وكمال المحبة له. وأما الشرطان: فمعرفة المعبود – وهو الله سبحانه وتعالى -، ومعرفة دينه الشرعي الجزائي، والمقصود بالعبادات: ما يتعبد به لله تعالى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ولها شرطان: المتابعة فيها – أي أن تكون وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والصدق والإخلاص لله جل وعلا فيها. وهذا هو معنى شهادة ألا إله إلا الله – وتمام تحقيقها بشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما يوضح أن التعريف السابق هو تعريف لشهادة ألا إله إلا الله قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26 - 28] قال ابن جرير: (وقوله: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يقول تعالى ذكره: وجعل قوله إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ ِإلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وهو قول لا إله إلا الله: كلمة باقية في عقبه، وهم ذريته، فلم يزل في ذريته من يقول ذلك من بعده.) (¬2) اهـ. وكلمات السلف كلها تدور حول هذا المعنى فمنهم من فسر الكلمة بشهادة ألا إله إلا الله ومنهم من فسرها بالإسلام (¬3). ولا خلاف بين القولين، إذ الإسلام هو الاستسلام لله بالعبودية، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد شيئاً سواه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله المتركبة من النفي والإثبات؛ نفي عبادة ما سوى الله، وإثبات العبادة لله وحده، وهذان هما النفي والإثبات نفسهما الواردان في الآية بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي. ويؤكد صحة هذا التفسير أن إبراهيم عليه السلام جعل الكلمة في بنيه بأمرين: الدعاء والوصية (¬4) أما الدعاء – ففي قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35] فهذا تبري من عبادة ما سوى الله تعالى، وهذا يستلزم إفراد الله جل وعلا وحده بالعبادة – ولذلك كان من دعائه: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [البقرة: 128] وأما الوصية ففي قوله: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة: 131 - 132] فبين الله تعالى أن إبراهيم عليه السلام وصى بنيه بالإسلام، وكذلك يعقوب عليه السلام وصى بها بنيه وعهدوا بها إلى أولادهم من بعدهم، ثم إن الله بين صيغة هذه الوصية بقوله: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 133]. ¬

(¬1) انظر: ((رسالة في معنى العبادة لأبي بطين ضمن مجموعة التوحيد)) (1/ 170). (¬2) ((تفسير الطبري)) (21/ 589). (¬3) انظر: ((تفسير الطبري)) (21/ 589 - 590). (¬4) انظر: ((أضواء البيان)) (7/ 231).

فهذا نص في أن الوصية هي الإسلام وهي قولهم: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وبه يظهر ظهوراً جلياً أن الكلمة هي الإسلام – أي الاستسلام لله بالعبودية – وقد لخص ذلك ابن جرير الطبري بقوله (وهي الإسلام الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله وخضوع القلب والجوارح له) (¬1) اهـ. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 75 وتوحيد الألوهية: هو إفراد الله بالعبادة (¬2). ويسمى باعتبار إضافته إلى الله تعالى بـ (توحيد الألوهية)، ويسمى باعتبار إضافته إلى الخلق بـ (توحيد العبادة)، و (توحيد العبودية) و (توحيد الله بأفعال العباد)، و (توحيد العمل)، و (توحيد القصد)، و (توحيد الإرادة والطلب)، لأنه مبني على إخلاص القصد في جميع العبادات، بإرادة وجه الله تعالى (¬3). وهذا التوحيد من أجله خلق الله الجن والإنس، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، ومن أجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، ومن أجله قامت الخصومة بين الأنبياء وأممهم، وبين أتباع الأنبياء من أهل التوحيد وبين أهل الشرك وأهل البدع والخرافات، ومن أجله جردت سيوف الجهاد في سبيل الله، وهو أول الدين وآخره، بل هو حقيقة دين الإسلام (¬4)، وهو يتضمن أنواع التوحيد. فتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية ولتوحيد الأسماء والصفات (¬5)، فإن من عبد الله تعالى وحده، وآمن بأنه المستحق وحده للعبادة، دل ذلك على أنه مؤمن بربوبيته وبأسمائه وصفاته، لأنه لم يفعل ذلك إلا لأنه يعتقد بأن الله تعالى وحده هو المتفضل عليه وعلى جميع عباده بالخلق, والرزق, والتدبير, وغير ذلك من خصائص الربوبية، وأنه تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلا، التي تدل على أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له. ومع أهمية هذا التوحيد فقد جحده أكثر الخلق، فأنكروا أن يكون الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وعبدوا غيره معه. قال العلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني: (اعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه، ولذا قالوا: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ [الأعراف: 70] أي لنفرده بالعبادة، ونخصه بها من دون آلهتنا؟ ... فعبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا له أنداداً) (¬6). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 53 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (3/ 93 - 94). (¬2) ((تطهير الاعتقاد)) للصنعاني: الأصل الثالث (ص: 13)، ((الدرر السنية)) (2/ 291)، و ((ينظر شرح الطحاوية)) (ص: 24). (¬3) ((شرح الطحاوية)) (ص: 24)، ((مجموعة التوحيد)) (1/ 6)، ((الدرر السنية)) (2/ 250، 304) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 22)، ((القول السديد)) (ص: 19)، ((القواعد الحسان)) (ص: 192)، ((الحق الواضح المبين)) (ص: 57)، ((القول المفيد)) (1/ 9). (¬4) ((شرح الطحاوية)) (ص: 21 - 24 - 29)، ((تطهير الاعتقاد)) للصنعاني (ص: 20)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 20 - 21)، ((الدر النضيد)) للشوكاني (ص: 65)، ((قرة عيون الموحدين)) لعبد الرحمن بن حسن (ص: 4)، ((معارج القبول)) (2/ 402 - 410). (¬5) ((شرح الطحاوية)) (ص: 29 - 32 - 41)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 23)، ((قرة عيون الموحدين)) (ص: 5). (¬6) ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 12، 20)، وينظر ((قرة عيون الموحدين)) (ص: 4).

المبحث الثاني: منزلة توحيد الألوهية

المبحث الثاني: منزلة توحيد الألوهية إن التوحيد هو إفراد الله جل وعلا بالتعبد في جميع أنواع العبادات وهذا هو تحقيق كلمة لا إله إلا الله ولا تصح إلا بالمتابعة وهي شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي عليه أهل السنة والجماعة أن أول واجب هو الشهادتان، كما حكى عنهم ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (إن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ) (¬1) اهـ. والأدلة على أن أول الواجبات هو عبادة الله بما شرع يمكن تلخيصها في أربعة أدلة عامة: الدليل الأول: هو أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد الله جلا وعلا وإخلاص العبادة له كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. ولقد وردت آيات كثيرة تبين أن آحاد الرسل يأتون قومهم فيقولون لهم: اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ. ويتضح هذا الدليل بالعلم بأمرين وهما: الأمر الأول: إن الأصل في بني آدم التوحيد وكان ذلك مدة عشرة قرون بين آدم ونوح عليهما السلام، فقد كانوا على التوحيد ثم نشأ فيهم الشرك – ثم إن الأصل في بني آدم: الإقرار بالله. الأمر الثاني: معرفة الشرك الذي وقعوا فيه وهو الشرك في الألوهية. فإذا علم الأمران، وهما: أن الأصل في بني آدم توحيد الله بعبادته، وأن الشرك الذي وقعوا فيه هو الشرك في العبادة لا إنكار وجود الله وتفرده بالخلق والرزق، علم أن الرسل جاءوا بدعوة الناس إلى عبادة الله وحده وترك عبادة غيره، فيعلم من هذا أن أول واجب على المكلف هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له خاصة وأن الأدلة دالة على أن كل مولود يولد على الفطرة. فيبقى بعد ذلك أن من لم يقر بوجود الله عليه أن يقر أولاً ليتوصل بإقراره هذا إلى عبادة الله فيكون وجوب إقراره وسيلة لواجب مقصود وهو إفراد الله بالعبادة، إذ الإقرار وحده لا يكفي. الدليل الثاني: إن الغاية من خلق الإنسان هي العبادة. كما قال الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فقد بين الله جل وعلا أنه خلق الناس لهذه الغاية وهي عبادته، وبين سبحانه أنه فطر الناس على الإقرار به ولذلك فإنه أول ما يأمرهم يأمرهم بعبادته كما قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21]. الدليل الثالث: وهو كما قال أبو المظفر بن السمعاني: (تواترت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الكفار إلى الإسلام والشهادتين) (¬2). ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 11). وانظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 75). (¬2) ((مختصر الانتصار لأهل الحديث - ضمن صون المنطق والكلام للسيوطي)) (ص: 172).

ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (¬1). وقوله: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (¬2). وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم عند بيعة الرجال والنساء أول ما يبدأ به في البيعة قوله: ((بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً)) (¬3). الدليل الرابع: الإجماع: وهذا الإجماع حكاه ابن المنذر بقوله: (أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام، وهو بالغ صحيح يعقل: أنه مسلم) (¬4) اهـ. وقد ذكر أبو المظفر بن السمعاني أن القول بأن أول الواجبات هو النظر قول مبتدع لم يكن معروفاً عند الصحابة ولا التابعين، إذ لو كان معروفاً لنقلوه لنا لشدة اهتمامهم بهذا الدين، كيف والمدعى أنه أول الواجبات! – وإنما المعروف أنهم كانوا يدعون إلى الإسلام، وهم الذين نقلوا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، مما يدل على أن المستقر عندهم هو أن أول شيء يدعى إليه الكافر هو الشهادتان – وهما أول واجب (¬5). وقد حكى هذا الاتفاق شيخ الإسلام ابن تيمية كما تقدم النقل عنه وحكاه كذلك تلميذه ابن القيم فقال: (وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد دخل في الإسلام) (¬6). وهذا يدل على أنه أول الواجبات، ولو أتى بغير الشهادتين ما اعتبر ذلك. ومن المعلوم أن الشهادة تتضمن الإقرار بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فكل من شهد لله تعالى بالألوهية فشهادته فرع إقراره بوجوده وربوبيته، ولكن إذا وجد من لم يقر بالله لتغير فطرته فهذا يجب عليه النظر أولاً، لأنه وسيلة لإقراره لله تعالى بالعبودية، فوجوب مثل هذه الحالة يعتبر من وجوب الوسائل التي تؤدي إلى الغاية (¬7). فإن المعرفة بوجود الله جل وعلا لا تكفي العبد، بل ولا حتى إيمانه بأن الله هو الرب الخالق حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬8). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 86 قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح قوله في منظومة (سلم الوصول): وَهوَ الَّذي به الإله أرْسَلا ... رُسْلَهُ يَدْعُونَ إلَيْهِ أولا ¬

(¬1) رواه البخاري (1458)، ومسلم (19). بلفظ: ((عبادة الله)) بدلاً من ((شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)). (¬2) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (18)، ومسلم (1709). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬4) نقله عنه شيخ الإسلام في ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 7) (¬5) انظر: ((مختصر كتابه الانتصار لأهل الحديث ضمن صون المنطق والكلام)) (ص: 171 - 172). (¬6) ((مدارج السالكين)) (3/ 421). (¬7) انظر هذا في ((معرض الرد على الأشعرية في مسألة أول واجب على المكلف)) (ص: 323 - 324). (¬8) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 11 - 12).

يقول: (وهو) أي توحيد الإلهية (الذي به الإله) عز وجل (أرسل رسله) من أولهم إلى آخرهم (يدعون إليه أولا) قبل كل أمر يدعو إلى شيء قبله, فهم وإن اختلفت شرائعهم في تحديد بعض العبادات والحلال والحرام لم يختلفوا في الأصل الذي هو إفراد الله سبحانه بتلك العبادات افترقت أو اتفقت, لا يشرك معه فيها غيره. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن معاشر الأنبياء أولاد علات, ديننا واحد)) (¬1) وقد أخبر الله عز وجل عن اتفاق دعوة رسله إجمالاً وتفصيلاً فقال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالذِّي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه [الشورى: 13] وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك بقية الرسل, وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يَعْبُدُون [الزخرف: 45] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُون [الأنبياء: 25] وقال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أَمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت [النحل: 36] وقال الله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 16 - 165] وفي الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه قال: ((قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تعجبون من غيرة سعد, والله لأنا أغير منه, والله أغير مني, ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحد أحب إليه العذر من الله, ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين. ولا أحد أحب إليه المدحة من الله, ومن أجل ذلك وعد الله الجنة)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (3442)، ومسلم (2365). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (7416)، ومسلم (1499). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

وأما مقامات التفصيل فقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم [الأعراف: 59] إلى آخر الآيات, وقال تعالى: وَإِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُون [الأعراف: 65] إلى آخر الآيات وقال تعالى: إِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قُوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه [الأعراف: 73] إلى آخر الآيات, وقال الله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه [الأعراف: 85] إلى آخر الآيات, وقال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 74 - 78]. وهذا في مقام مناظرته عليه الصلاة والسلام لعباد الكواكب على سبيل الاستدراج أو التوبيخ ليبين لهم سخافتهم وجهلهم وضعف عقولهم في عبادتهم هذه الكواكب المخلوقة لحكمة الله عز وجل المسخرة بقدرته وغفلتهم عن خالقها ومسخرها والمتصرف فيها وتركهم عبادته أو إشراكهم معه فيها غيره عز وجل فلما أقام عليهم الحجة: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 78 - 82] أي الَّذِينَ آمَنُواْ يعني صدقوا ووحدوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم أي شرك إذ هو الظلم الذي لا يغفره الله عز وجل, وفي الصحيح: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((لما نزلت الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم [لقمان: 13])) (¬1) فالذين آمنوا الإيمان التام الذي لم تشبه شوائب الشرك الأكبر المنافي لجميعه, ولا الشرك الأصغر المنافي لكماله, ولا معاصي الله المحبطة ثمراته من الطاعات, فأولئك لهم الأمن التام من خزي الدنيا وعذاب الآخرة, والاهتداء التام في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) رواه البخاري (6937). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وبحسب ما ينقص من الإيمان ينقص من الأمن والاهتداء, وباجتناب المعاصي يحصل تمامها. ثم قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 83] وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 51 - 67] إلى آخر الآيات, وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 69 - 82] وقال تعالى: وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 83 - 97] إلى آخر الآيات.

وقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم: 41 - 45]. فبين لأبيه أن آلهته لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ولا تقدر على جلب خير ولا دفع شر ولا تغني عنه شيئا. فتبين بذلك أن عبادة مثل هذا جهل وضلال. ثم بين له أن عنده دواء ذلك الداء, والهدى من ذلك الضلال فقال تعالى: إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيا وبين أن فعله ذلك عبادة للشيطان, موجب لعذاب الرحمن وولاية الشيطان, عياذا بالله من ذلك. وقال تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 15 - 17] إلى آخر الآيات. وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26 - 28] وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [يوسف: 37 - 40] الآيات وغيرها. وكذلك قص الله تعالى علينا عن جميع الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم: 9 - 12] الآيات. ولو ذهبنا نذكر قصص الرسل ومحاورتهم مع قومهم وعواقب ذلك لطال الفصل. وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته في قومه وصبره على أذاهم وما جرى له معهم فأجلى من الشمس في نحر الظهيرة, والقرآن كله من فاتحته إلى خاتمته في شأن ذلك. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص501

المبحث الثالث: أنواع الأدلة الدالة على توحيد الألوهية

تمهيد: قد وردت في القرآن أدلة تقرر توحيد الألوهية بأحسن تقرير وبأقوى حجة لا يمكن دفعها أبداً ويمكن حصر هذه الأدلة في خمسة أنواع: النوع الأول: إلزام المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية الذي ينكرونه النوع الثاني: بيان حال الآلهة التي تعبد دون الله في الدنيا والآخرة بصفة تقرر عدم استحقاقها للعبادة النوع الثالث: تذكير المشركين بما يكمن في نفوسهم من التوحيد وأنه لا برهان لهم ولا حجة في شركهم النوع الرابع: بيان أن الحكم لله وحده شرعاً وجزاءً النوع الخامس: إجماع الكتب السماوية على استحقاق الله للعبادة وحده. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف – 1/ 107

المطلب الأول: إلزام المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية الذي ينكرونه

المطلب الأول: إلزام المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية الذي ينكرونه فإنه قد تكرر في القرآن بيان أن الخالق هو الذي يستحق أن يعبد، وأن المتفرد بالنعم الظاهرة والباطنة هو الذي يستحق أن يعبد دون ما سواه. فظهر من هذا أن هذا النوع من الأدلة يكون في مسألتين: المسألة الأولى: العلم بأن الله هو المنفرد بالخلق والتدبير (¬1). المسألة الثانية: العلم بأنه المنفرد بهبة النعم الظاهرة والباطنة (¬2): قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21 - 22]. قال عكرمة (نهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئاً وأن يعبدوا غيره أو يتخذوا له نداً وعدلاً في الطاعة فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم ونعمتي التي أنعمتها عليكم فكذلك فأفردوا لي الطاعة وأخلصوا لي العبادة ولا تجعلوا لي شريكاً ونداً من خلقي فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم مني) (¬3). اهـ فقد بين الله تعالى استحقاقه للعبادة لأنه هو الخالق والرازق – وأمرهم أمر إيجاب بقوله: اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ. وقال الله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 14 - 18]. ففي هذه الآيات تقرير التوحيد لله تعالى؛ فالاستفهام في قوله تعالى أَغَيْرَ اللهِ إنكاري، أي كيف أتخذ ولياً غير الله فأطيعه وأعبده والله هو خالق السموات والأرض الذي يرزق الخلق ولا يحتاج إليهم فهو الغني عن كل ما سواه فلذلك أمره الله بعبادته وحده ونهاه عن الشرك. ثم بين الله تعالى أن الثواب والعقاب بيده، وبين تعالى أنه على كل شيء قدير ولا يعجزه شيء وهو المتصرف وحده فله القدرة الكاملة والعزة الظاهرة – فإذا كان ذلك كذلك كيف لا تُخلص له العبادة (¬4)! ¬

(¬1) انظر: ((القواعد الحسان لتفسير القرآن)) للسعدي (ص: 193). (¬2) انظر: ((القواعد الحسان لتفسير القرآن)) للسعدي (ص: 193 - 194)، و ((تفسير السعدي)) (1/ 26). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (1/ 369 - 370) (¬4) انظر: ((تفسير الطبري)) (11/ 287 - 288)، و ((تفسير السعدي)) (2/ 177).

وقال تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام: 101 - 102] وفيها أن الخالق والوكيل على كل شيء بحفظه ورزقه وتصريفه هو الذي يستحق أن يعبد – قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه لهم: أيها الجاهلون: إنه لا شيء له الألوهية والعبادة إلا الذي َخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فإنه لا ينبغي أن تكون عبادتكم وعبادة جميع من في السموات والأرض إلا له خالصة بغير شريك تشركونه فيها. فإنه خالق كل شيء وبارئه وصانعه، وحق على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة) (¬1). هذا وقد كان المشركون يقرون بتوحيد الربوبية – ولذلك قال الله جل وعلا عنهم وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف: 106] قال عكرمة مولى ابن عباس في تفسير الآية السابقة: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولون الله فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره) (¬2) اهـ. ومثل هذا التفسير منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره (¬3). ولذلك فإن الله قررهم بهذا النوع من التوحيد – أي إذا كنتم أيها المشركون تقرون لله بأنه خالق كل شيء ورازقه فعليكم أن تقروا كذلك لله تعالى بالألوهية وحده وتتقوه ولا تعبدوا غيره. قال الله تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 31 - 32]. قال ابن جرير عند قوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ: (أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم رباً غير من هذه الصفة صفته، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئاً ولا يملك لكم ضراً ولا نفعاً؟) (¬4). وقال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (12/ 12 - 13). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (16/ 286). (¬3) انظر: ((تفسير الطبري)) (16/ 288). (¬4) ((تفسير الطبري)) (15/ 84).

فهذه الآيات جاءت بعد أن ذكر الله إهلاكه لفرعون وقومه وذهاب ملك سبأ وإهلاك ثمود قوم صالح عليه السلام وإهلاك قوم لوط عليه السلام ووجه المناسبة كما قال ابن جرير رحمه الله: (قل يا محمد لهؤلاء الذين زينا لهم أعمالهم من قومك فهم يعمهون: آلله الذي أنعم على أوليائه هذه النعم التي قصها عليكم في هذه السورة، وأهلك أعداءه بالذي أهلكهم به من صنوف العذاب التي ذكرها لكم فيها خير أما تشركون من أوثانكم التي لا تنفعكم ولا تضركم ولا تدفع عن أنفسها ولا عن أوليائها سوءاً ولا تجلب إليها ولا إليهم نفعاً؟ يقول: إن هذا الأمر لا يشكل على من له عقل، فكيف تستجيزون أن تشركوا عبادة من لا نفع عنده لكم ولا دفع ضر عنكم في عبادة من بيده النفع والضر وله كل شيء؟ ثم ابتدأ تعالى ذكره تعديد نعمه عليهم) (¬1). ثم ذكر الآيات وتفسيرها. وقد بين الله تعالى خصائص ربوبيته في هذه الآيات الدالة على أنه المعبود وحده – وأن ما سواه لا يستحق شيئاً من العبادة، فإنه كلما ذكر شيئاً من خصائصه قال: أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ أي يقدر على ذلك أو يفعله؟ والجواب: لا. وإذا كان كذلك كان هو المستحق لأن يعبد وحده، ولذلك نص الله على ذلك بقوله تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بعد أن ابتدأ الآيات بقوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ثم بين تعالى عجز كل من يدعي شيئاً من خصائص ربوبيته لغيره تعالى فقال آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بصيغة التعجيز: قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وبعد هذا التقرير يظهر جلياً أن التوكل والاستعانة ونحوها إنما تكون بالله رب الأرض والسموات الذي بيده الأمر كله – وهذا هو الذي تقتضيه الفطرة السليمة – فإن الذي خلق وقدر وهدى والذي بيده ملكوت كل شيء هو الذي يتوكل عليه ويستعان به وحده – وأن الذي أنعم على الحق بأنواع النعم التي لا تعد ولا تحصى كما قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل: 18] هو الذي يشكر ويحب لما أنعم به وهو الذي يرجى ويرغب إليه وحده. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف – 1/ 107 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (19/ 483).

المطلب الثاني: بيان حال الآلهة التي تعبد دون الله في الدنيا والآخرة بصفة تقرر عدم استحقاقها للعبادة

المطلب الثاني: بيان حال الآلهة التي تعبد دون الله في الدنيا والآخرة بصفة تقرر عدم استحقاقها للعبادة وهذا النوع من الأدلة يبين الله جل وعلا فيه أن ما دونه مخلوق مربوب له وأنهم لا يخلقون شيئاً ولا يملكون شيئاً، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يستحق العبادة أبداً، ويبين الله تعالى عدم نفع ما يعبد من دونه من المخلوقات في الدنيا ولا في الآخرة، ليؤكد أنها لا تستحق العبادة، ويمكن حصر هذا النوع من الأدلة في ثلاثة مسائل: المسألة الأولى: معرفة ما يعبد من دون الله من المخلوقات وبيان نقصها من جميع الوجوه. المسألة الثانية: تعجيز المسئولين من دون الله. المسألة الثالثة: الإخبار عن التعادي الحاصل بعد البعث. المسألة الأولى: معرفة ما يعبد من دون الله من المخلوقات وبيان نقصها من جميع الوجوه (¬1): قال الله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3]. ففي هذه الآية تقريع للمشركين بعبادتهم ما دون الله وتنبيه لهم على موضع خطأ فعلهم ببيان أن آلهتهم التي يعبدونها لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة ومع ذلك فهي لا تملك دفع ضر عن نفسها ولا جلب منفعة إليها ولا تملك إماتة ولا إحياء ولا بعثاً – فهذه هي صفتها فهي لا تستحق العبادة (¬2). وقد ذكر الله تعالى هذه الآيات بعد قوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا الفرقان: 1 - 2 [.] قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فأفردوا أيها الناس لربكم الذي نزل الفرقان على عبده محمد نبيه صلى الله عليه وسلم الألوهة وأخلصوا له العبادة دون كل ما تعبدون من دونه من الآلهة والأصنام والملائكة والجن والإنس، فإن كل ذلك خلقه وفي ملكه، فلا تصلح العبادة إلا لله الذي هو ملك جميع ذلك) (¬3). وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عند قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ [الروم: 40] قال: ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو: لا، أي: ليس من شركائنا من يقدر على أن يفعل من ذلك المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء، فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (¬4) اهـ. ومن الآيات التي تبين ضعف ما يعبد من دون الله وأنه لا يخلق شيئاً فلا يستحق أن يعبد قوله تعالى: قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [يونس: 31]. ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 73 - 74]. ¬

(¬1) انظر: ((القواعد الحسان)) (ص: 17، 194). (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) (19/ 237). (¬3) ((تفسير الطبري)) (19/ 236). (¬4) ((أضواء البيان)) (3/ 413).

واتضح من هذه الآية أن من يعبد شيئاً مع الله لا يكون قد قدر الله تعالى حق قدره. وفي هذا الدلالة الواضحة على أن الله تعالى ذكر من الحجج الدالة على توحيده وصرف العبادة إليه وحده لا شريك له: أن غيره لا يخلق شيئاً وأنه ضعيف مربوب لله فوجب ألا يصرف إليه شيء من العبادة. المسألة الثانية: تعجيز المسئولين من دون الله (¬1): وهذه المسألة وإن كانت داخلة في عموم المسألة قبلها إلا أنه قد ورد إفرادها بالذكر في القرآن الكريم – وترد كذلك مرتبطة مع تلك المسألة. ومن هذه الآيات قوله تعالى: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [الإسراء: 56] وفي هذه الآية تعجيز للمدعوين من دون الله سواء كانوا ملائكة أو جناً أو إنساً أو أصناماً أو غير ذلك إذا أراد الله إنزال ضر أن يدفعوه أو يحولوه إلى نفع أو يحولوا الضر إلى آخرين ولا شك أن المدعوين من دون الله عاجزون عن ذلك إذ المقدر هو الله تعالى، فلا يقدر أحد أن يغير ما قدره الله. وبهذا يعلم أن أولئك لا يجوز صرف شيء من العبادة إليهم إذ المستحق لأن يعبد هو الذي لا يعجزه شيء وهو الله سبحانه وتعالى. ومن ذلك أن الله تعالى قد ذكر عجائب قدرته في خلق الإنسان والبحار وما يستخرج منها وما يجري فيها من الفلك وخلقه الليل والنهار والشمس والقمر وجريان ذلك بنظام دقيق محكم – فبعد أن ذكر ذلك قال: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13 - 14] ففي هذه الآية بيان لعجز من يدعى من دون الله إما لعدم سماعه أصلاً أو لعدم استجابته إن سمع الدعاء. وهذا يدل على عدم استحقاق غير الله للعبادة. وقد يذكر الله تعالى أن التعجيز يقع في الآخرة أيضا، فمن ذلك قول الله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا [الكهف: 52]. وقوله تعالى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص: 64]. ¬

(¬1) انظر: ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص: 193).

ومن الآيات الجامعة في هذا الباب قول الله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22 - 23] ففي هذه الآية يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: ادعوا الذين زعمتموهم شركاء لله ليجلبوا لكم نفعاً أو يدفعواً عنكم ضراً فإنهم لا يستطيعون ذلك وهذا يفيد عدم استحقاقهم للعبادة (¬1) ثم بين الله تعالى عجز المدعوين من دونه بقوله: لَا يَمْلِكُونَ ... الآية – وفي هذا يقول ابن القيم: (فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذ فلابد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عباده، أو شريكاً لمالكها أو ظهيراً أو وزيراً ومعاوناً له أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده، فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له، فيقول إلا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع، فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها، وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه!) (¬2). ومن الأحاديث في هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) (¬3). ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) (21/ 299 - 230). (¬2) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 461 - 462). (¬3) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669)، والحاكم (3/ 623). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا، وصححه عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (3/ 333).

ففي هذه الوصية الأمر بالاستعانة بالله وحده وسؤاله وحده، ثم ذكر أصلاً عظيماً عليه مدار الوصية وهو تقدير الله عز وجل للأشياء كلها قال ابن رجب: (واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عابده شيئاً، فمن علم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً، وإفراده بالاستعانة به والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ونسيانه في الرخاء ودعاء من يرجون نفعه من دونه – قال الله عز وجل: قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38]) اهـ (¬1). المسألة الثالثة: الإخبار عن التعادي الحاصل بعد البعث وهذا من تمام عدم نفع ما يعبد من دون الله، وفيه حسم لمادة الشرك بالله إذ أنه مع عدم نفعه يضر صاحبه في الآخرة، فإن من يعبد غير الله تعالى يتبرأ منه معبوده يوم القيامة وينقلب ضداً له وتنقطع بينهما أسباب المودة مع استحكام العداوة ولعن بعضهم بعضاً، ومن الآيات في هذا الباب قول الله تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص: 62 - 64]. ومنها قول الله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13 - 14]. ومنها قول الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5 - 6] ومنها قول الله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81 - 82]. ومنها قول الله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94]. ومن ذلك ما قاله الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ [العنكبوت: 25]. فالآيات السابقة أفادت عدم نفع ما يعبد من دون الله، بل أفادت وقوع العداوة والبغضاء مما يدل على بطلان عبادتها، وأن المستحق لأن يعبد هو الله وحده لا شريك له. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف – 1/ 113 ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب الحنبلي (1/ 484 - 485).

المطلب الثالث: تذكير المشركين بما يكمن في نفوسهم من التوحيد وأنه لا حجة ولا برهان لهم في شركهم

المطلب الثالث: تذكير المشركين بما يكمن في نفوسهم من التوحيد وأنه لا حجة ولا برهان لهم في شركهم فهذا النوع فيه مسألتان: المسألة الأولى: تذكير المشركين بما يكمن في نفوسهم من التوحيد. المسألة الثانية: بيان أنه لا حجة للمشركين ولا برهان لهم في شركهم. أما المسألة الأولى: وهي تذكير المشركين بما يكمن في نفوسهم من التوحيد (¬1): فهذا يحدث في أوقات الشدة، فإن المشركين كانوا إذا ركبوا في الفلك واشتدت الرياح هيجاناً وتلاطمت الأمواج وأوشكوا على الغرق أيقنوا أنه لا ينجيهم إلا الله، فعند ذلك يتركون أصنامهم ويلتجئون إلى الله وحده، فيحتج الله عليهم بأنه يجب أن يفردوه بالدعاء وحده في السراء والضراء. فمن الآيات في هذا الباب قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس: 22 - 23]. ومنها قوله تعالى: قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63 - 64] ومنها قوله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8]. ومنها قول الله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67]. قال الشيخ محمد الأمين: (لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده ولا يصرفون شيئاً من حقه لمخلوق، وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين بالإسلام أسوأ حالاً من عبدة الأوثان فإنهم إذا دهمتهم الشدائد وغشيتهم الأهوال والكروب التجأوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح، في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله، مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع أن إجابة المضطر وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره ... ) (¬2). ¬

(¬1) انظر ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص: 194). (¬2) ((أضواء البيان)) (3/ 614 - 615).

وقال الشوكاني في تفسير آية يونس المتقدمة: (وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد ... وبيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما يشابهها، فيا عجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات، فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا لله كما فعله المشركون!) (¬1). فإذا صفا الفكر واستيقظت الفطرة أيقن الإنسان أنه لا يعبد إلا الله وحده في جميع أنواع العبادات، وبمثل هذا كان قد أسلم عكرمة بن أبي جهل فقد روى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – ما حاصله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة منهم عكرمة بن أبي جهل هرب من مكة وركب البحر، فأصابهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً – فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً فجاء فأسلم) (¬2). اهـ وأما المسألة الثانية: وهي أنه لا حجة للمشركين ولا برهان لهم في الشرك (¬3): فهذا نوع من الأدلة العامة التي تبطل على المشركين عبادتهم لغير الله وتلزمهم بإفراد العبادة لله جل وعلا. فإن المشركين قد طولبوا بإقامة الدليل والبرهان على شركهم فعجزوا عن ذلك. وأخبر الله أنهم إنما يستندون في ذلك على تقليد آبائهم الضالين ويتبعون الظن الذي لا يدل على الحق بأي حال. ثم إن الله تعالى يخاطب المشركين بأسلوب فيه ترهيب عسى أن يعودوا إلى صوابهم. فيخبرهم أنهم سيسألون الحجة والبرهان على شركهم يوم القيامة فيعجزون هناك، ويعلمون علم اليقين أنهم كانوا على باطل ويندمون على شركهم وتعنتهم ولات حين مندم. فمن الآيات الدالة على أنه لا حجة للمشركين في شركهم سوى الظن: قول الله تعالى: أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [يونس: 66] قال الحافظ ابن كثير: (ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئاً ولا ضراً ولا نفعاً ولا دليل لهم على عبادتهم بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم) (¬4). ومن هذه الآيات ما قصه الله عن أصحاب الكهف فقال: هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف: 15] قال ابن جرير في قوله: لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف: 15]: (هلا يأتون على عبادتهم إياها بحجة بينة) وقال الشيخ محمد الأمين: (لَّوْلَا في الآية الكريمة للتحضيض، وهو الطلب بحث وشدة، والمراد بهذا الطلب التعجيز لأنه من المعلوم أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسلطان بين على جواز عبادة غير الله تعالى، والمراد بالسلطان البين: الحجة الواضحة) (¬5). ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (2/ 435). (¬2) رواه النسائي (7/ 105). وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (549) كما أشار في المقدمة. وابن القيم في ((زاد المعاد)) (3/ 110). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 171): رجاله ثقات. وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4078). (¬3) انظر: ((أضواء البيان)) (4/ 30 - 32). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 424). (¬5) ((أضواء البيان)) (4/ 31).

ومن الآيات كذلك قول الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [الحج: 71] ومن الآيات كذلك قول الله تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف: 20 - 23]. فهذه الآيات فيها بيان أن المشركين احتجوا بباطل من القول على زعمهم صحة عبادتهم غير الله، واستندوا في ذلك إلى أمرين، الأول بمشيئة الرحمن فكان بقاؤهم على الشرك – على زعمهم – مما يرضاه الله، وظنوا أن عدم أخذهم بالعذاب دليل على رضى الله عليهم – والأمر الثاني هو استنادهم على تقليد آبائهم وكل ذلك من الخرص والظن، فدل ذلك على بطلان عبادتهم غير الله، فلزم من هذا إفراد الله جل وعلا بالعبادة وحده لا شريك له. ومن الآيات كذلك قول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف: 4] فإن الله تعالى طالب المشركين في هذه الآية بالدليل السمعي والعقلي على صحة عبادتهم غير الله (¬1). وهما حجتان قاطعتان وبرهانان ساطعان إن وجدا، وإلا، فإن الدليل العقلي يدل على أن الذي خلق هو الذي يعبد لا المخلوق المربوب ولذلك قال: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ثم طالبهم بالدليل السمعي النقلي: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ وكل ذلك للتعجيز – ولا يستطيعون إثبات شيء من ذلك – فدل على بطلان عبادتهم غير الله، وأن الواجب هو إفراد الله جل وعلا بالعبادة (¬2). ثم إن الله تعالى بين أنه سيسأل المشركين حجتهم يوم القيامة، ولن يجدوهم في وقت هم أشد حاجة لعذر يعتذرون به، فقال الله تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [القصص: 74 - 75]. قال مجاهد في قوله: فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ قال: (حجتكم لما كنتم تعبدون وتقولون) (¬3). فعلم مما تقدم أن من الأدلة الدالة على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة والكفر بالطواغيت هو ما أقامه الله من الحجة على استحقاقه للعبادة، ثم بيانه فساد عمل المشركين باتباعهم للظن وعدم إقامتهم للحجة الساطعة على عبادة آلهتهم التي يعبدونها، وهذا النوع من الاستدلال هو من نوع الإبطال المستلزم لصحة نقيض ما أبطل، أي إذا بطلت عبادة غير الله بما تقدم من الأدلة الدالة على ضعف غير الله وعجزه، وبما ثبت من عدم نفع غيره، بل ثبت ضرره على عابده، كان نقيض هذا هو الحق، وهو ترك عبادة غير الله وإفراد الله وحده بالعبادة، إذ هو وحده المتصف بالصفات التي بها تستحق العبادة. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف – 1/ 122 ¬

(¬1) انظر: ((الصواعق المرسلة)) (2/ 465). (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) (22/ 92). (¬3) رواه عنه الطبري في تفسيره (19/ 614).

المطلب الرابع: بيان أن الحكم لله وحده شرعا وجزاء:

المطلب الرابع: بيان أن الحكم لله وحده شرعاً وجزاء: من أنواع الأدلة لتقرير توحيد الألوهية بيان أن الحكم لله تعالى دون سواه. وحكمه تعالى شامل للحكم الشرعي الأمري، والحكم الجزائي القضائي وهذا من ربوبية الله تعالى، فإنه جل وعلا قد حكم شرعاً فأمر أن تكون العبادة له وحده دون سواه، ونهى عن عبادة غيره، وبين بطلان عمل المشركين وصحة عمل الموحدين، وقد بين الله حكمه الجزائي القضائي من نصره لأوليائه الموحدين في الدنيا وإثابتهم في الآخرة، وعذابه الدنيوي والأخروي لأعدائه المشركين به، وكل ذلك للتنفير من عبادة غيره وإفراده وحده بالعبادة. فتبين من هذا العرض أن هذا النوع شامل لمسائل: المسألة الأولى: (¬1) من حكم الله الشرعي: الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وتوجيه المشركين إلى سؤاله وحده. المسألة الثانية: (¬2) ومن حكمه الشرعي: حكمه ببطلان عمل المشركين وصلاح عمل الموحدين. المسألة الثالثة: ومن حكمه الجزائي: إثابته لأوليائه الموحدين ونصرهم في الدنيا والآخرة، وحكمه بنقيض ذلك على المشركين. أما المسألة الأولى: وهي الأمر بعبادة الله جل وعلا وتوجيه المشركين إلى سؤاله وحده، فإن الله تعالى قد قال: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 40]. وقال الله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 68 - 70]. فبين الله تعالى أن له الخلق والاختيار، فهو يخلق ما يشاء، ويختار ما يشاء، ولا أحد يشاركه في ذلك، ولذلك نزه نفسه عن شرك المشركين (¬3) ثم بين الله تعالى انفراده بالحكم، وهو شامل لكل قضاء يقضيه (فالحلال ما أحله تعالى والحرام ما حرمه والدين ما شرعه والقضاء ما قضاه) (¬4). وإن مما قضاه الله تعالى وصية وأمراً: عبادته وحده لا شريك له كما قال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23]. وإن الله تعالى وجه المشركين إلى إخلاص الدعاء له وحده فقال تعالى: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 28 - 29]. وقد بين لهم الله تعالى بطلان دعائهم غير الله بأوجه كثيرة كعجز من يدعونه وأنه مربوب مخلوق لا يملك شيئاً ... وإن الله تعالى أمر كل الناس بدعائه وحده لا شريك له وترك الإفساد في الأرض بالشرك وغيره فقال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 55 - 56]. المسألة الثانية: ومن حكمه الشرعي حكمه ببطلان عمل المشركين وصلاح عمل الموحدين: ¬

(¬1) انظر ((القواعد الحسان)) للسعدي (ص: 18) و ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص: 195). (¬2) انظر: ((القواعد الحسان)) (ص: 17). (¬3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 397). (¬4) ((أضواء البيان)) (4/ 82).

فمن حكم الله الشرعي حكمه بصلاح عمل الموحدين وحسنه وذلك يوجب تقديمه على كل عمل، فمن الآيات في هذا الباب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء: 125] قال ابن جرير: (وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها) (¬1) اهـ. وقال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ... [فصلت: 33 - 34] أي أنه لا أحد أحسن قولاً ممن آمن بالله ودعا إلى الإيمان به واستسلم لشرع الله فقام بأمره واجتنب نهيه، ثم بين الله حكمه الشرعي بعدم تساوي الحسنة والسيئة. والأظهر في الكلمتين – أي الحسنة والسيئة – العموم كما قال ابن جرير: (ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته) (¬2). وقد حكم الله بضلال المشركين وعملهم، فبين أنه لا أضل من المشركين ولا ضلال أبعد من ضلال عملهم، فهذا حكم شرعي يوجب ترك الشرك فقال: وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 116]. المسألة الثالثة: ومن حكمه الجزائي: إثابته لأوليائه الموحدين ونصرهم في الدنيا والآخرة، وحكمه بنقيض ذلك على المشركين: فإن الله تعالى قد حكى عن إهلاكه للمشركين المكذبين للرسل وإنجائه لأوليائه الموحدين من الرسل وأتباعهم، وأبقى لنا وسائل لنتعرف على صدق ذلك بما نراه ونسمعه بطرق قطعية، ثم يذكر أن في ذلك آية، أي علامة على صحة استحقاقه للعبادة وأن عبادة غيره باطلة لا نفع فيها بل فيها ضرر. فمن ذلك قول الله تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ [العنكبوت: 38] فقال تفصيلا عن ثمود: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل: 45 - 46] (إلى أن قال عنهم) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل: 51 - 53]. وقد قص الله عز وجل في سورة الشعراء قصص الرسل مع أقوامهم، وأنهم جاءوهم بالتوحيد، فيقع التكذيب من أكثر الناس، فينزل الله عليهم عذابه بسبب ذلك ويذكر إنجاءه للموحدين ثم يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 8 - 9] والآية: العلامة، أي علامة على صحة استحقاقه العبادة وبطلان عبادة غيره. وهذا الذي ذكره الله من تعذيب المشركين به وإنجاء الموحدين كله في الدنيا. وأما في الآخرة فالنصوص كثيرة جداً فمنها قول الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]. وقال تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء: 39] وفي الموحدين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة)) (¬3). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف – 1/ 128 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (9/ 250). (¬2) ((تفسير الطبري)) (21/ 471). (¬3) رواه البخاري (129). من حديث أنس رضي الله عنه. ورواه مسلم (93). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

المطلب الخامس: إجماع الكتب السماوية على استحقاق الله للعبادة وحده:

المطلب الخامس: إجماع الكتب السماوية على استحقاق الله للعبادة وحده: فإن الرسل جميعهم قد جاءوا بإخلاص الدين كله لله واتفقوا على ذلك، وهذه حجة برهانية في أن الله هو المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له وأنه لا منازع له في ذلك، ولذلك يطالب المشركين بأن يذكروا ما عندهم من براهين توجب العبادة لغير الله سواء كانت سمعية أو عقلية، فلم يستطيعوا إثبات ذلك ... أما الآيات في هذه المسألة فمنها قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وقال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 21 - 25]. وهذا يوضح بطلان ما عليه المشركون من الشرك بالله تعالى، فإنه لا مستند لهم في إشراكهم بالله غيره من دليل سمعي ولا عقلي، بل الأدلة كلها السمعية والعقلية على خلاف افترائهم وزعمهم، فالذي خلق هو الذي يعبد وهو الذي يشكر على ما أنعم، وهو الآمر الناهي فيلتزم أمره ونهيه – وذلك الذي اتفقت عليه الرسل، فالرسل كلهم على تباعدهم في الأزمنة والأمكنة مع كمال صدقهم وظهور الآيات والبراهين الدالة على صدقهم، اتفقوا على وجوب عبادة الله وحده وتحريم الشرك به، فآيات الرسل دالة على صحة دعواهم النبوة والرسالة وعلى وحدانية الله، قال الله تعالى مبيناً معجزة القرآن ودلالتها: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [هود: 13 - 14] فبين الله أنه بالمعجزة تثبت الرسالة والوحدانية. واتفاق الرسل على هذا المبدأ دليل آخر على وجوب عبادة الله وحده وترك عبادة غيره. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– بتصرف - 1/ 134

المطلب السادس: دلالة العقل والنقل على توحيد الألوهية

المطلب السادس: دلالة العقل والنقل على توحيد الألوهية وجه دلالة العقل على ذلك هو العلم بحسن التوحيد وقبح الشرك، فالعقل يدرك حسن عبادة الله الذي خلق فأحسن خلقه مع اتصافه بصفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، فهو المحسن إلى خلقه بأنواع النعم والمتفضل عليهم بأنواع الفضائل، فكل ذلك يدل على حسن عبادته رغبة فيما عنده من الخير، والعقل كذلك يدرك قبح عبادة غير الله، إذ كل من هو دون الله مخلوق مربوب فقير إلى ربه، لا يملك شيئاً، فكيف يُعطى شيئاً لا يستحقه ويُساوى بالخالق المنعم!، خاصة وأن النفوس مفطورة على الإقرار بالله والميل إلى ما ينفع ويرجى نفعه. وأما السمع فإنه دال على ... حسن التوحيد وقبح الشرك ويزيد على دلالة العقل: بإثبات العقاب على ترك التوحيد والثواب على تحقيقه. وأدلة القرآن دالة على أن العقل يعلم حسن التوحيد وقبح الشرك دون إثبات الجزاء، فمن ذلك: الأول: أنه قد ورد في القرآن ضرب الأمثلة على بطلان الشرك وهي مقاييس عقلية، فلو لم يكن العقل مدركاً لقبحه وحسن التوحيد لما ضرب الله هذه الأمثلة ولاكتفى بالأمر بتوحيده والنهي عن الشرك به. ومن الآيات الواردة بضرب الأمثلة قول الله تعالى: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 75 - 76]، ففيها مثلان؛ فالمثل الأول: مثل الكافر والمؤمن – والثاني: مثل ضربه الله ليبين عدم استحقاق غيره للعبادة بضعفه وعدم قدرته، وعدم فهمه وعقله. وأما الله سبحانه فهو الذي يأمر بالعدل وهو التوحيد (¬1). وقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 29] وهذا مثل ضربه الله للمشرك الذي يعبد آلهة شتى، وللموحد الذي يعبد إلهاً واحداً وهو الله لينبه على قبح الشرك وحسن التوحيد (¬2). الثاني: ما أقامه الله من الأدلة العقلية لاستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له كتفرده بالخلق والتدبير والرزق ... وعدم استحقاق غيره لذلك ... ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) (8/ 14/150 - 151) و ((تفسير البغوي)) (5/ 33). (¬2) انظر: ((مدارج السالكين)) (3/ 453).

فلو لم يكن فيما أقامه من أدلة عقلية فائدة لاكتفى بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك دون أن يلزمهم باعترافهم بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية. ... وما أبقاه الله من أدلة عقلية يراها ويسمعها الناس تدل على قبح الشرك من إهلاكه عاداً وثمود وإنجائه للموحدين: كما قال: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ [العنكبوت: 38]. وما ذكره بعد إهلاكه للمشركين وإنجائه للموحدين بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 8 - 9] والآية هي العلامة الدالة على ما هي علامة له، فهذا الخبر متضمن لدليل عقلي وهو: لو كان ما عليه المشركون صحيحاً لما أهلكهم الله، ولو كانت عبادة الآلهة التي عبدت دون الله صحيحة لنفعت أصحابها بكف العذاب ودفعه. وقال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 87 - 86] أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95 - 96] فخطاب إبراهيم عليه السلام لقومه خطاب عقلي وهو: ما ظنكم بربكم إذا لقيتموه يوم القيامة وقد عبدتم غيره أن يفعل بكم، وما ظنكم به من ظن السوء حتى عبدتم غيره! مع أن الأصنام التي عبدوها لم تدفع عن نفسها ضراً إذ قام بتحطيمها، وهي كذلك مخلوقة مربوبة مثل من يعبدها بل أقل شأناً! فكيف يستقيم عقل من يعبدها!. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي. فلولا أن حسن التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئاً يذمون عليه) (¬1). ويؤكد هذا ما جاء في استعمال القرآن بعد ضرب الأمثلة وإقامة الأدلة من مخاطبة العقول بقوله: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وهذه الآية جاءت بعد مثل ضربه الله عز وجل ليبين أنه أولى بالتنزيه عن الشركاء من الأسياد من البشر في عدم رضاهم بمشاركة مماليكهم لهم في حقهم فقال: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28]. الثالث: مطالبة الله المشركين بالدليل العقلي والسمعي على شركهم: وفي ذلك يقول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف: 4] قال ابن القيم: (فطالبهم بالدليل السمعي والعقلي) (¬2). فمطالبته إياهم بالدليل العقلي وهو في قوله: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ دليل على أن العقل يعلم بطلان صرف شيء من العبادة لغير الله، إذ العابد إنما يرجو ممن يعبده نفعاً أو دفع ضر عنه – والذي لا يخلق ولا يملك شيئاً لا استقلالاً ولا شركة ضعيف فقير عاجز لا يغني شيئاً فلم يستحق أن يعبد. وأما العقاب على ترك التوحيد فهذا لا يكون إلا بعد ورود الشرع – كما قال ابن القيم: (إن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع كما دل عليه قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] وقوله: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا .. [الملك: 8 - 9] وقوله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] وقوله: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] فهذا يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل وأنه لا يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم.) (¬3) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فينبغي أن يعلم أن استحقاق العباد للعذاب بالشرك فما دونه مشروط ببلاغ الرسالة في أصل الدين وفروعه) (¬4). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 136 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 681 - 682). (¬2) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 465). (¬3) ((مدارج السالكين)) (3/ 453 - 454). (¬4) ((قاعدة في المحبة)) لشيخ الإسلام ضمن ((جامع الرسائل)) (2/ 293).

المطلب السابع: دلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية

المطلب السابع: دلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية دلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية فهي دلالة التزام؛ لأنه خارج عن معناه مثل دلالة التوبة على التائب فالتوبة غير التائب دلالة الوالد على الولد، فالولد غير الوالد شيء خارج عنه، فتوحيد الربوبية غير توحيد الألوهية. فدلالة توحيد الربوبية على دلالة توحيد الألوهية دلالة التزام هو شيء خارج عن معناه. أما دلالة الألوهية على الربوبية فهي دلالة تضمن لأنه في ظل الألوهية توحيد الربوبية، هذه الثلاث دلالات تسمى دلالة التضمن، ودلالة الالتزام، ودلالة المطابقة. فدلالة الالتزام دلالة الشيء على خارج معناه كدلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية، ودلالة التضمن هي دلالة الشيء على جزء من معناه كدلالة توحيد الألوهية على توحيد الربوبية، ودلالة المطابقة: دلالة الشيء على جميع معناه كدلالة الألوهية على الربوبية والألوهية. شرح العقيدة الطحاوية لعبدالعزيز الراجحي – أشرطة مفرغة

المبحث الرابع: عقد الإسلام، وبم يثبت؟

المبحث الرابع: عقد الإسلام، وبم يثبت؟ المقصود بعقد الإسلام هو أصل الدين، أي القدر الشرعي الذي متى ما التزمه المكلف نجا به من الكفر، وكذلك نجا به من الخلود في النار إذا مات على ذلك. فبه يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال. كما يترتب على الإقرار بهذا الأصل الدخول في مسمى أهل القبلة، واستحقاق ما لهم من حقوق، ووجوب ما عليهم من واجبات. وفائدة هذا المبحث وثمرته هي: الوقوف على ما يتحقق به أصل الإسلام، ومن يحكم له به، وهل يعذر أحد بجهل بعض أركانه أو بعدم الالتزام بها؟ ومن ثمة يكون هذا mالمبحث من الأصول اللازمة لدراسة حكم الجهل بمسائل الاعتقاد على التفصيل. ويتحقق أصل الدين بالإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً وانقياداً. وهذا المعنى تعبر عنه الشهادتان؛ ولهذا جعلهما الله تبارك وتعالى باب الدخول إلى الإسلام، وجعل النطق بهما هو مناط عصمة الدماء والأموال والأعراض. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها، وحسابه على الله عز وجل)) (¬1). وفي رواية: (( ... حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)) (¬2). وفي رواية له أيضا من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم الله دمه وماله، وحسابه على الله عز وجل)) (¬3). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلما. فقد أنكر على أسامه بن زيد قتله لمن قال: لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام، أن يلتزم الصلاة والزكاة) (¬4). فالشهادة لله بالوحدانية تعني الإقرار المجمل بالتوحيد، والبراءة المطلقة من الشرك، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة تعني الإقرار المجمل بكل ما جاء به صلى الله عليه وسلم من عند الله تصديقا وانقيادا. وهذا كان منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبول من كان يأتيه من الكفار يريد الإسلام، كما جاء في الأحاديث المتقدمة، وكما جاء في كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وهكذا كان أمره لرسله إلى القبائل والملوك وأهل الكتاب، وكذلك إذا بعث السرايا أن يدعوا إلى توحيد الله ويقاتلوا عليه. عن أبي معبد مولى ابن عباس قال: سمعت ابن عباس يقول: ((لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ إلى نحو أهل اليمن، قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى عبادة الله ... )) (¬5) الحديث؛ وفي رواية: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (2946)، ورواه مسلم (21). (¬2) رواه مسلم (21). (¬3) رواه مسلم (23). (¬4) ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 83). ط1، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1408هـ. (¬5) رواه البخاري (1458)، ومسلم (19). (¬6) رواه البخاري (1395).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ويفتح الله عليه ... فدعا عليا، فبعثه فقال: اذهب فقاتل، حتى يفتح الله عليك، ولا تلتفت. فمشى ساعة – أو قال: قليلا -، ثم وقف ولم يلتفت، فقال: يا رسول الله، علام أقاتل الناس؟، قال: قاتلوهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) (¬1). وبناء على ما سبق، فإن وصف المسلم لا يثبت للمكلف على الحقيقة التي يصير بها مسلما عند الله إلا بأمرين: الأول: تحقق هذا الأصل في القلب. الثاني: النطق باللسان بالبراءة من الشرك والالتزام بالتوحيد، وهذا في حالة الخلو من الموانع والأعذار الشرعية المعتبرة كالبكم والإكراه. فهذا القدر – وهو أصل الدين – إذا ما تحقق ولم ينقض بقول أو عمل أو اعتقاد، فقد نجا صاحبه من الكفر، ومن الخلود في النار، وهذا ما أطلق عليه شيخ الإسلام ابن تيمية اسم (الإيمان المجمل)، حيث قال: (فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل. ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئاً فشيئاً إن أعطاهم الله ذلك) ا. هـ (¬2). وعلى هذا، فإن نفي الإيمان المجمل معناه نفي مطلق الإيمان، وسقوط صاحبه في الكفر الأكبر الناقل عن الملة، ويتحقق هذا بانتفاء أو نقض أحد عناصره من التصديق أو الانقياد أو الإقرار. ومن خلال ما سبق بيانه، يتبين لنا جليا أن أول واجب على المكلف هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، لا كما يقول أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية أن أول ما يجب على العبد النظر في الأدلة العقلية على وجود الله تعالى، أو القصد إلى النظر أو غيره (¬3). قال الحافظ ابن حجر: (قال القرطبي: لو لم يكن في (علم) الكلام إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقا بالذم. إحداهما: قول بعضهم: إن أول واجب الشك؛ إذ هو اللازم لوجوب النظر، أو القصد إلى النظر. والثانية: قول جماعة منهم: من لم يعرف الله بالطرق التي رتبها أهل الكلام، لم يصح إيمانه. والقائل بهاتين المسألتين كافر؛ لجعله الشك في الله تعالى واجبا، ومعظم المسلمين كفاراً، حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة) (¬4). والخلاصة: أن هذا الالتزام المجمل هو الذي يتوقف على تحقيقه ثبوت عقد الإسلام، فلا يكون المرء مسلما إلا باستيفائه. كما أنه شرط في صحة الأعمال وقبولها، فهو سابق على غيره من التكاليف. أما الالتزام بباقي الواجبات، فإنه يأتي بعد تحقيق هذا الأصل، فإن حصل التزام وعمل، استلزم ذلك بقاء وصف الإسلام واستمراره، وهذا مصداق أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أن يدعو إلى الشهادتين، فمن أطاعه على ذلك، أعلمه بالصلاة ثم الزكاة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (الكافر إذا أسلم وقلنا له: قد وجبت عليك الصلاة، فإنه يلتزمها وينويها؛ لاستشعاره لها جملة ولم يعلم صفتها، بل كل من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم إيمانا راسخا، فإن إيمانه متضمن لتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وإن لم يعلم ولم يقصد أنواع الأخبار والأعمال. ثم عند العلم بالتفصيل، إما أن يصدق ويطيع، فيصير من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو يخالف ذلك، فيصير إما منافقا، وإما عاصيا فاسقا، أو غير ذلك (¬5). والثمرة النهائية التي نستخلصها من هذا المبحث هو: أنه لا عذر لأحد بالجهل في هذا الأصل، فمن لم يتحقق لديه، لم يكن مسلما، دون اعتبار لعلم أو لجهل. فإن هذا مما انعقد به الإجماع بقين المسلمين بكفر كل من لم يدن بدين الإسلام. فكل من لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فهو كافر بلا نزاع، سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو غيره. أما ما كان من نزاع في بعض هذه الطوائف ممن لم تبلغهم نذارة ولم يصلهم بلاغ، فهو فيما يتعلق بأحكام الآخرة، هل يخلدون في النار لكفرهم، أو يعفى عنهم؛ لعدم بلوغ الحجة إليهم، أم يمتحنون في عرصات يوم القيامة؟. أما في الدنيا فهم كفار بلا نزاع. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد– ص: 53 ¬

(¬1) رواه مسلم (2405). (¬2) ((الإيمان)) (ص: 257) –تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني-. (¬3) انظر: ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد)) لعبد السلام اللقاني (ص: 42). (¬4) ((فتاح الباري)) (13/ 350). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (26/ 27 - 28).

المبحث الخامس: تأثير عارض الجهل على توحيد الألوهية

المبحث الخامس: تأثير عارض الجهل على توحيد الألوهية إن توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق لا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم، فلا بد من الإقرار بتوحيد الألوهية الذي هو إفراد الله تعالى بالعبادة الخالصة. وهو معنى (لا إله إلا الله)، (إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً ... ولهذا كانت "لا إله الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول (لا إله إلا الله) رأس الأمر) (¬1). وهذا هو حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم أن لا يعذبهم)) (¬2). ولهذا التوحيد لوازم ظاهرة وباطنة، وهي من أوامر الله تعالى للمؤمنين به الموحدين، وهي قبل ذلك من موجبات العبودية لله الواحد القهار الذي له صفات الكمال والجلال، كما قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء [آل عمران: 26]، وقال تعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53]، وقال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [الأنعام: 17]، وقال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107]، وقال تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38]، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22 - 23]، وقال تعالى: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88]، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]. (ونظائر هذا في القرآن كثير، وكذلك في الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة، لا سيما أهل العلم والإيمان منهم، فإنه عندهم قطب رحى الدين، كما هو الواقع) (¬3). لذلك وجب على الإنسان المؤمن الموحد من أعمال القلب ومن أعمال الجوارح ما يحقق به حقيقة التوحيد لله عز وجل، وما يحقق به حقيقة العبودية في نفسه، فيحقق في نفسه تعظيم الرب جل وعلا ومحبته، ورجاءه والخوف منه، والرضا به والتسليم له، والطاعة له والانقياد عملاً بالقلب والجوارح معاً. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 22 - 23). (¬2) رواه البخاري (5967)، ومسلم (30). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 21).

ومن أهم الأعمال القلبية التي يتحقق بها كمال التوحيد الرضا (وقد جاء هذا الرضا بأنواعه مبينا في سورة الأنعام التي هي سورة التوحيد العظمى، فقد اشتملت على ثلاثة أنواع من الرضا هي جماع التوحيد كله: 1 - الرضا بالله ربا لا شريك له في التقرب والتأله والتعبد: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 164]. 2 - الرضا بالله حكما لا شريك له في التشريع والطاعة: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [الأنعام: 114]. 3 - الرضا بالله وليا لا شريك له في محبته وموالاته: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام: 14]. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا)) (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً، غفرت له ذنوبه)) (¬2). واللوازم الظاهرة التي يتحقق بها التوحيد تتلخص في أتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، وتحقيق ذلك بأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بالشريعة. وهذا هو مقتضى الشهادتين (لا إله إلا الله، محمد رسول الله). ومما يلي مقام الرضا من أعمال القلوب، مقام الصدق والإخلاص (وهذان عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب وأهم أصول الإيمان. فأما الصدق، فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق، وأما الإخلاص، فهو الفرقان بين التوحيد والشرك – في قول القلب واعتقاده، أو في إرادته ونيته – والأعمال – التي رأسها وأعظمها شهادة أن (لا إله إلا الله) – لا تقبل إلا بتحقق الصدق والإخلاص ... وأكذب الله المنافقين في دعوى الإيمان وقول الشهادة؛ لانتفاء الصدق، فقال: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] ... كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص، فقال: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 1] إلى أن يقول وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]، وقال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] ... فعلى محك الصدق والإخلاص بطلت أكثر دعاوي العابدين وهلك أكثر الثقلين، فالصدق يخرج كل من عبد مع الله غيره، أو أراد غيره معه في عمل من أعمال العبادة، كما في الحديث الصحيح: قال الله تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) (¬3).) (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم (34). من حديث العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (386). من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (2985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((ظاهرة الإرجاء)) (ص: 439).

والمنافي لهذا التوحيد هو الشرك بالله تعالى، وهو صور كثيرة واقعة في حياة الناس اليوم لأسباب كثيرة، منها قلة الدعاة إلى توحيد الله تعالى بالعبادة والطاعة، ومنها إعراض الناس عن تعلم أحكام الدين اشتغالا منهم بالدنيا والشهوات، ومنها الجهل المتفشي في كثير من أقطار المسلمين وخاصة الجهل بالدين الصحيح، وإلا، فعلم الضلالة والبدع منتشر وله مؤسسات وهيئات تقوم عليه وترعاه وتنشره بين المسلمين. والذي يهمنا من هذه الأسباب الجهل الذي أدى بالناس إلى التفريط في حق خالقهم عليهم، فوقعوا في المخالفات التي تنافي توحيد الألوهية بالكلية أو تنافي بعض تفاصيل هذا التوحيد. فما هي حدود العذر بالجهل فيما يتعلق بتوحيد الألوهية؟. الحكم في هذه المسألة ينبني على جملة من القواعد: 1 - تحديد أبرز الصور التي تنافي توحيد الألوهية. 2 - إذا قلنا: إنه لا تكفير ولا عقاب إلا بعد قيام الحجة، فلابد من تحديد مناط قيام الحجة في هذه المسألة ونحن نحاول تطبيق هذه القاعدة على الواقع. 3 - تحديد دائرة ما يعذر به في هذه المسألة وما لا يعذر. تحديد أبرز الصور التي تنافي توحيد الألوهية: - عدم إفراد الله تعالى بالعبادة، كمن أظهر الإيمان نفاقاً أو صلى أو ذبح لغير الله أو دعا أو استغاث بغيره، أو أطاع مخلوقاً في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل، ومنهم أهل الكتاب والمشركون الذين اتخذوا من دون الله أولياء من الأنبياء أو غيرهم، وعبدوهم زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ومن هؤلاء أيضا غلاة القبوريين المنتسبون للإسلام ممن يستغيثون بالأموات ويطلبون منهم قضاء الحاجات ويتقربون إليهم بالذبح، ثم يزعمون أنهم إنما يفعلون ذلك معهم ليقربوهم إلى الله زلفى. - الاعتراض والكراهية لما أنزل الله بعضه أو كله، وهذا مما وقعت فيه الأمة كليا أو جزئيا، فوقع فيها الاعتراض على توحيد المعرفة والإثبات، والاعتراض على الأمر الشرعي بالتحليل والتحريم، والاعتراض على أمره الكوني. فاعترض كثير منهم على صفاته وشريعته وقضائه وقدره (¬1). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد– ص: 378 ¬

(¬1) انظر: ((مدارج السالكين)) (3/ 69 - 71).

المبحث السادس: تحديد دائرة ما يعذر به في توحيد الألوهية وما لا يعذر به

المبحث السادس: تحديد دائرة ما يُعذر به في توحيد الألوهية وما لا يعذر به إن إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والطاعة ونبذ ما سواه من المعبودات الباطلة هو لب دين الإسلام، وهو المقصود من الشهادتين، فلابد لدخول الإسلام من الإقرار المجمل بالإسلام والبراءة المجملة من كل دين يخالفه اعتقاداً بالقلب وانقياداً بالجوارح. وإذا لم يتحقق هذا بأن يعتقد صحة دين آخر مع الإسلام، أو أن يصرف شيئا من العبادة لغير الله معتقداً استحقاق ذلك الغير لتلك العبادة، فمن كانت هذه حاله، فلا يسمى موحداً، بل هو كافر كفرا أصلياً. قال الحافظ ابن القيم – رحمه الله -: (الإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك، والإيمان بالله ورسوله وأتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا، فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً، فهو كافر جاهل. فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا، فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله، إما عناداً أو جهلاً وتقليداً لأهل العناد) (¬1). يفهم مما سبق أنه لا عذر بالجهل في الإقرار المجمل بالإسلام والبراءة المجملة من كل دين يخالفه، فكل من لم يدن بدين الإسلام الذي لبه وزبدته إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة والطاعة، فهو كافر، سواءً كان ذلك عناداً أم جهلاً. فعبادة غير الله معه أو من دونه مما ينافي أصل التوحيد، ولهذا كل ما كان من الاعتقادات أو الأعمال مما ينافي أصل التوحيد كالتوجه بأنواع العبادات كالصلاة والسجود لغير الله، اعتقاداً أن ذلك الغير يستحق العبادة مع الله أو من دونه، كل هذا مما ينافي مدلول الشهادتين، فكان لا عذر لأحد بجهل أو غيره إذا وقع فيه؛ لأن أمر التوحيد قد قامت عليه الحجة بصورة كثيرة، منها الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم الذي جاءت الرسل تذكر به وهي الصورة الثانية، ثم الإقرار بالشهادتين. فالجهل بهذا الأصل لا يعتبر عذرا للحكم بقيام الحجة فيه على كل معين أقر بالشهادتين، وإنما يعذر بالجهل في بعض تفاصيل هذا الأصل إذا لم تبلغ المكلف الحجة فيها، أو قامت في ذهن المكلف شبهات يعذر بها. ومما يدخل في هذا المعنى كذلك أي مما ينافي أصل التوحيد مما هو واقع في الأمة – ولا حول ولا قوة إلا بالله – الإعراض والكراهية لما أنزل الله تعالى بعضه أو كله. وهذا مما يحتاج الكلام فيه إلى بسط وتفصيل. يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله – عند حديثه عن أنواع الاعتراض المنافي للرضا: (النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره. وأهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع: أحدها: الاعتراض عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وتحريم ما أباحه، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه، وإبطال ما صححه، وتصحيح ما أبطله، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وتقييد ما أطلقه، وإطلاق ما قيده. وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض، وحذروا منهم، ونفروا عنهم. الثاني: الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشياطنية المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله ... ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين)) (ص: 411).

الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده. فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل. وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس قدمنا القياس. وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع قدمنا الذوق والوجد والكشف. وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع، قدمنا السياسة. فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه) (¬1). (وأصل هذه الاعتراضات التلقي عن غير الله ورسوله، والاستمداد من غير الوحي وتحكيم غيره، فمنهم من حكم العقل بزعمه، فنقل فلسفات الوثنيين وحثالة فكر التائهين، وهؤلاء هم أصحاب الكلام (والفلسفة). - ومنهم من حكم الذوق والوجد والكشف وانتكس بالعقل المسلم إلى حضيض الخرافة والوهم، (وهؤلاء هم ضلال الصوفية وملاحدتهم). - ومنهم من حكم الأقيسة العقلية والأعراف السياسية بحجة تحقيق المصلحة ومراعاة الأصول الكلية – وهم فقهاء الرأي وعلماء السلاطين من جهة، وحكام عصور الانحراف من جهة أخرى -، فأحلوا من الدماء والأموال والفروج ما ورد النص الصريح بتحريمه، وكان ذلك مع وقوعه في دائرة الاجتهاد الخطأ أو التطبيق المتعسف ممهداً لما وقعت فيه الأمة في العصر الحديث من الشرك الأكبر، والاعتراض الأطم بتحكيم القوانين الوضعية وإحلالها محل الشريعة، بل الكراهية الصريحة لكثير مما أنزل الله وبخاصة في الجهاد والحجاب والموالاة والسياسية) (¬2). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد– ص: 385 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (3/ 69 - 71). (¬2) ((ظاهرة الإرجاء)) للشيخ د. سفر الحوالي (ص: 411) بتصرف يسير.

الفصل الثالث: الشهادتان

المطلب الأول: معنى شهادة لا إله إلا الله ومعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله وهو في غير موضع من القرآن، ويأتيك في قول البقاعي صريحا قوله (وحده) تأكيد للإثبات (لا شريك له) تأكيد للنفي قال الحافظ: كما قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وقال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65] فأجابوه رداً عليه بقولهم: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [الأعراف:70] وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62] فتضمن ذلك نفي الإلهية عما سوى الله، وهي العبادة وإثباتها لله وحده لا شريك له، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه (ذكر كلام العلماء، في معنى لا إله إلا الله) قال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن يكون الشاهد عالماً بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ [محمد: 19] قال: واسم (الله) بعد (إلا) من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه قال: وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله وقال ابن القيم في البدائع رداً لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه قال ابن القيم: بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلاً في المستثنى، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: لا إله إلا الله لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا: (الله إله) ولا يستريب أحد في هذا البتة انتهى بمعناه وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره (لا إله إلا الله) أي لا معبود إلا هو وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وقال ابن القيم: (الإله) هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة، وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاء وتوكلاً وقال ابن رجب: (الإله) هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاء، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه ودعاء له، ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك

قدحاً في إخلاصه في قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي انتفاء عظيماً أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علماً إذا كان نافعاً، وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف وقال الطيبي: (الإله) فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أي عبد عبادة قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم فدلت (لا إله إلا الله) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائناً ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1 - 2] فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك وقبله وعمل به وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص34

المطلب الثاني: فضل شهادة لا إله إلا الله

المطلب الثاني: فضل شهادة لا إله إلا الله قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله- في شرح قوله في (سلم الوصول): وَقَدْ حَوَتْهُ لَفْظَةُ الشَّهَادَهْ ... فَهِيَ سَبِيلُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَهْ مَن قَالَهَا مُعْتَقِداً مَعْنَاها ... وَكَانَ عَامِلاً بِمُقْتَضَاهَا في القَوْلِ والفِعْلِ ومَاتَ مُؤمِنا ... يُبْعَثُ يَوْمَ الْحَشرِ نَاجٍ آمِنَا

يقول: (لفظة الشهادة) أي شهادة أن لا إله إلا الله (فهي) أي هذه الكلمة (سبيل الفوز) بدخول الجنة والنجاة من النار قال الله عز وجل: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] (و) هي سبيل (السعادة) في الدارين أي طريقهما لا وصول إليهما إلا بهذه الكلمة, فهي الكلمة التي أرسل الله بها رسله وأنزل بها كتبه, ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار وفي شأنها تكون الشقاوة والسعادة, وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال, ويقل الميزان أو يخف, وبها النجاة من النار بعد الورود, وبعدم التزامها البقاء في النار, وبها أخذ الله الميثاق, وعليها الجزاء والمحاسبة, وعنها السؤال يوم التلاق إذ يقول تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92] وقال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] فأما سؤاله تعالى الذين أرسل إليهم يوم القيامة فمنه قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] والآيات قبلها وبعدها وغير ذلك وأما سؤاله المرسلين فمنه قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجَبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّك أَنْتَ عَلامُ الغُيُوب [المائدة: 109] وغير ذلك من الآيات, وهي أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده أن هداهم إليها, ولهذا ذكرها في سورة النحل التي هي سورة النعم, فقدمها أولا قبل كل نعمة فقال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ [النحل: 2] وهي كلمة الشهادة ومفتاح دار السعادة, وهي أصل الدين وأساسه ورأس أمره وساق شجرته وعمود فسطاطه, وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنها, ومتشعبة منها مكملات لها مقيدة بالتزام معناها والعمل بمقتضاها, فهي العروة الوثقى التي قال الله عز وجل: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256] قاله سعيد بن جبير والضحاك, وهي العهد الذي ذكر الله عز وجل إذ يقول: لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:87] قال ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (هو شهادة أن لا إله إلا الله, والبراءة من الحول والقوة إلا بالله, وأن لا يرجو إلا الله عز وجل) (¬1) وهي الحسنى التي قال الله عز وجل: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل: 5 - 7] الآيات, قاله أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك ورواه عطية عن ابن عباس (¬2) وهي كلمة الحق التي ذكر الله عز وجل إذ يقول تعالى: إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86] قال ذلك البغوي وهي كلمة التقوى التي ذكر الله عز وجل إذ يقول: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح:26] وروى ذلك ابن جرير وعبد الله بن أحمد والترمذي بأسانيدهم إلى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬3) ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (18/ 255) وهو من رواية علي بن أبي طلحة عنه وروايته عنه منقطعة. (¬2) رواه البغوي (8/ 442). وعطية العوفي فيه مقال معروف. انظر: ((الضعفاء والمتروكين)) للنسائي (481)، و ((الضعفاء)) للعقيلي (1392)، و ((الكامل في الضعفاء)) لابن عدي (1530). (¬3) رواه الترمذي (3265)، وأحمد (5/ 138) (21291) .. قال أبو عيسى: غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

وهي القول الثابت الذي ذكر الله عز وجل إذ يقول تعالى: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] أخرجاه في الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) وهي الكلمة الطيبة المضروبة مثلا قبل ذلك إذ يقول تعالى: ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء [إبراهيم:24] قاله علي بن طلحة عن ابن عباس (¬2) , أصلها ثابت في قلب المؤمن, وفرعها العمل الصالح في السماء صاعد إلى الله عز وجل وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد وهي الحسنة التي ذكر الله عز وجل إذ يقول: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] قال الله تعالى: مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعِ يَوْمَئِذٍ آمِنُون [النمل:89] قال ذلك زين العابدين إبراهيم النخعي, وعن أبي ذر مرفوعا ((هي أحسن الحسنات)) (¬3) وهي تمحو الذنوب والخطايا وهي المثل الأعلى الذي ذكر الله عز وجل إذ يقول: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:27] قال ذلك قتادة ومحمد بن جرير, ورواه مالك عن محمد بن المنكدر وهي سبب النجاة كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنا يقول: ((أشهد أن لا إله إلا الله فقال صلى الله عليه وسلم: خرجت من النار)) (¬4) وفيه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله حرم الله عليه النار)) (¬5)، وفي حديث الشفاعة: ((أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (¬6) وهي سبب دخول الجنة كما في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء)) (¬7)، وفي رواية: ((أدخله الله الجنة على ما كان من عمل)) (¬8) وهي أفضل ما ذكر الله عز وجل به, وأثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة كما في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن نوحا عليه الصلاة والسلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعن في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كل حلقة مبهمة لفصمتهن لا إله إلا الله)) (¬9)، ¬

(¬1) رواه البخاري (1369)، ومسلم (2871). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (16/ 567). ورواية علي بن أبي طلحة عنه مرسلة. (¬3) رواه الطبري (12/ 279) وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (ص129)، والألباني في ((كلمة الإخلاص)) لابن رجب (ص55). (¬4) رواه مسلم (382). (¬5) رواه مسلم (29). (¬6) رواه الحاكم (1/ 141) وقال الذهبي صحيح الإسناد، وشطره الثاني في البخاري (22). (¬7) رواه البخاري (3435)، ومسلم (28). (¬8) رواه البخاري (3435). (¬9) رواه أحمد (2/ 169) (6583). وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (134) ..

وفي الترمذي والنسائي وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا, أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر؟ فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة, وإنه لا ظلم عليك اليوم, فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله, فيقول: أحضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: فإنك لا تظلم, قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة, فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء)) (¬1) وهي التي لا يحجبها شيء دون الله عز وجل وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من عبد قال لا إله إلا الله مخلصا إلا فتحت لها أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش)) (¬2) , وهي الأمان من وحشة القبور وهول الحشر واعلم أن النصوص الواردة في فضل هذه الشهادة كثيرة لا يحاط بها, وفيما ذكرنا كفاية, ... ويكفيك في فضل لا إله إلا الله أخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعلى جميع شعب الإيمان, كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون- شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) وهذا لفظ مسلم (¬3) (من قالها) أي قال هذه الكلمة حال كونه (معتقدا) أي عالما ومتيقنا (معناها) الذي دلت عليه نفيا وإثباتا (وكان) مع ذلك (عاملا بمقتضاها) على وفق ما علمه منها وتيقنه فإن ثمرة العلم به (في القول) أي قول القلب واللسان (والفعل) أي عمل القلب واللسان والجوارح قال الله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2 - 3] (ومات مؤمنا) أي على ذلك, وهذا شرط لا بد منه فإنما الأعمال بالخواتيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة)) (¬4) الحديث في الصحيحين عن أبي ذر بطوله (يبعث يوم الحشر) أي يوم الجمع (ناج) من النار (آمنا) من فزع يوم القيامة قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101 - 103] وقال الله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النحل:89] معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص509 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2850)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (2/ 213) (6994)، والحاكم (1/ 46، 529). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 173) - كما أشار إلى ذلك في مقدمته -. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (11/ 176): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه الترمذي (3590) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (9)، ومسلم (35). (¬4) رواه البخاري (5827)، ومسلم (94). من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

المطلب الثالث: أقوال العلماء في المراد من الأحاديث الواردة في فضل كلمة التوحيد

المطلب الثالث: أقوال العلماء في المراد من الأحاديث الواردة في فضل كلمة التوحيد اعلم أن الأحاديث الدالة على أن الشهادتين سبب دخول الجنة والنجاة من النار لا تناقض بينها وبين أحاديث الوعيد التي فيها: من فعل ذنب كذا فالجنة عليه حرام, أو لا يدخل الجنة من فعل كذا, لإمكان الجمع بين النصوص بأنها جنان كثيرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وبأن أهل الجنة أيضا متفاوتون في دخول الجنة في السبق وارتفاع المنازل, فيكون فاعل الذنب لا يدخل الجنة التي أعدت لمن لم يرتكبه, أو لا يدخلها في الوقت الذي يدخل فيه من لم يرتكب ذلك الذنب, وهذا واضح مفهوم للعارف بلغة العرب وكذلك لا تناقض بين الأحاديث التي فيها تحريم أهل هاتين الشهادتين على النار وبين الأحاديث التي فيها إخراجهم منها بعد أن صاروا حمما لإمكان الجمع بأن تحريم من يدخلها بذنبه من أهل التوحيد بأن تحريمه عليها يكون بعد خروجه منها برحمة الله ثم بشفاعة الشافعين, ثم يغتسلون في نهر الحياة ويدخلون الجنة, فحينئذ قد حرموا عليها فلا تمسهم بعد ذلك أو يكون المراد أنهم يحرمون مطلقا على النار التي أعدت للكافرين التي لا يخرج منها من دخلها, وهي ما عدا الطبقة العليا من النار التي يدخلها بعض عصاة أهل التوحيد ممن شاء الله تعالى عقابه وتطهيره بها على قدر ذنبه, ثم يخرجون فلا يبقى فيها أحد وهذه إشارة كافية في هذا الموضع, ... وقد ذكر الحافظ بن رجب رحمه الله تعالى في هذا الباب كلاما حسنا بعد سياقه حديث معاذ وحديث عتبان وحديث أبي ذر وحديث عبادة ... وأحاديث هذا الباب نوعان: أحدهما ما فيه أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة ولم يحجب عنها, وهذا ظاهر, فإن النار لا يخلد فيها أحد من أهل التوحيد الخالص, بل يدخل الجنة ولا يحجب عنها إذا طهر من ذنوبه بالنار, وقد يعفو الله عنه فيدخله الجنة بلا عقاب قبل وحديث أبي ذر معناه أن الزنا والسرقة لا يمنعان دخول الجنة مع التوحيد, وهذا حق لا مرية فيه, وليس فيه أن لا يعذب عليها مع التوحيد, وفي مسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر يصيبه قبل ذلك ما أصابه)) (¬1) الثاني فيه أنه يحرم على النار, وقد حمله بعضهم على الخلود فيها أو على ما يخلد فيها أهلها وهي ما عدا الدرك الأعلى من النار, فإن الدرك الأعلى يدخله كثير من عصاة الموحدين بذنوبهم ثم يخرجون بشفاعة الشافعين وبرحمة أرحم الراحمين وفي الصحيحين: ((إن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله)) (¬2) ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (6/ 274)، و ((الصغير)) (1/ 241). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 341): رواته رواة الصحيح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 22): رواه البزار والطبراني في ((الأوسط)) و ((الصغير)) ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)): (صحيح). (¬2) البخاري (7510)، ومسلم (193). من حديث أنس رضي الله عنه ..

وقالت طائفة من العلماء: المراد من هذه الأحاديث أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتض لذلك, ولكن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه, فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع, وهذا قول الحسن ووهب بن منبه وهو أظهر وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة قال الحسن: نعم العدة, لكن للا إله إلا الله شروطا, فإياك وقذف المحصنات وقيل للحسن: إن أناسا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة, فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى, ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان, فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك, وإلا لم يفتح لك (¬1) وهذا الحديث: ((إن مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) أخرجه الإمام أحمد بإسناد منقطع عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألك أهل اليمن عن مفتاح الجنة فقل: لا إله إلا الله)) ويدل على هذا كون النبي صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنة على الأعمال الصالحة في كثير من النصوص, وكما في الصحيحين عن أبي أيوب أن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئا, وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم)) (¬2) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن رجلا قال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان فقال الرجل: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا ولا أنقص منه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)) (¬3) وفي المسند عن بشير بن الخصاصية قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه, فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن أقيم الصلاة وأن أوتي الزكاة وأحج حجة الإسلام وأن أصوم رمضان وأن أجاهد في سبيل الله, فقلت: يا رسول الله, أما اثنتين فوالله ما أطيقها, الجهاد والصدقة, فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها وقال: فلا جهاد ولا صدقة! فبم تدخل الجنة إذا؟ قلت: أبايعك, فبايعته عليهن كلهن)) (¬4) ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً قبل حديث (1237) كتاب: الجنائز، باب: في الجنائز، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله. ورواه موصولاً في ((التاريخ الكبير)) (261)، ورواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 66)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 274). قال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (8/ 85): رواه إسحاق بن راهويه بإسناد حسن، وقد علقه البخاري لوهب. وله شاهد مرفوع من حديث معاذ بن جبل رواه أحمد بن حنبل، والبزار، والطبراني في كتاب ((الدعاء)) بسند ضعيف. وقال ابن حجر في ((المطالب العالية)) (3/ 254): إسناده حسن موقوف، قد علقه البخارى لوهب وانظر: ((تغليق التعليق)) (2/ 453 - 454). (¬2) رواه البخاري (1396)، ومسلم (13). (¬3) رواه البخاري (1397)، ومسلم (14). (¬4) رواه أحمد (5/ 224) والحاكم (2/ 347). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 47): ورجال أحمد موثقون ..

ففي الحديث أن الجهاد والصدقة شرط في دخول الجنة مع حصول التوحيد والصلاة والصيام والحج ونظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ففهم عمر وجماعة من الصحابة أن من أتى الشهادتين امتنع من عقوبة الدنيا بمجرد ذلك, فتوقفوا عن قتال مانعي الزكاة, وفهم الصديق رضي الله عنه أنه لا يمتنع قتاله إلا بأداء حقوقها لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا فعلوا ذلك منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) وقال: الزكاة حق المال وهذا الذي فهمه الصديق رضي الله عنه قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا غير واحد من الصحابة, منهم ابن عمر وأنس وغيرهما رضي الله عنهم, وأنه قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)) (¬1) ودل على ذلك قوله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ [التوبة: 5] الآية ولا تثبت إلا بأداء الفرائض مع التوحيد, ولما قرر أبو بكر رضي الله عنه هذا للصحابة رجعوا إلى قوله ورأوه صوابا, فإذا علم أن عقوبة الدنيا لا ترتفع عمن أدى الشهادتين مطلقا, بل يعاقب بإخلاله بحق من حقوق الإسلام, فكذلك عقوبة الآخرة وقد ذهب طائفة إلى أن هذه الأحاديث المذكورة أولا وما في معناها كانت قبل نزول الفرائض والحدود, منهم الزهري والثوري وغيرهما, وهذا بعيد جدا, فإن كثيرا منها كانت بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود, وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك وهي في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, وهؤلاء منهم من يقول: هذه الأحاديث منسوخة, ومنهم من يقول هي محكمة ولكن ضم إليها شرائط, ويلتفت هذا إلى أن زيادة النص هل هي نسخ أم لا؟ والخلاف في ذلك بين الأصوليين مشهور, وقد صرح الثوري بأنها منسوخة, وأنه نسختها الفرائض والحدود وقد يكون مرادهم بالنسخ البيان والإيضاح, فإن السلف كانوا يطلقون النسخ على مثل ذلك كثيرا ويكون مرادهم أن آيات الفرائض والحدود تبين توقف دخول أهل الجنة والنجاة من النار على فعل الفرائض واجتناب المحارم فصارت النصوص منسوخة أي مبينة مفسرة, ونصوص الحدود والفرائض ناسخة أي مفسرة لمعنى تلك النصوص موضحة لها وقالت طائفة تلك النصوص المطلقة قد جاءت مقيدة في أحاديث أخرى, ففي بعضها: ((من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة)) (¬2) وفي بعضها ((مستيقنا)) (¬3)، ... وفي بعضها: ((يقولها من قلبه)) (¬4)، ... ¬

(¬1) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). (¬2) رواه أحمد (5/ 236) (22113)، وابن حبان (1/ 429) (200). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2355) وقال: صحيح على شرط الشيخين. (¬3) رواه مسلم (31). (¬4) رواه أحمد (1/ 63) (447). من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. ورواه ابن حبان (1/ 434)، والحاكم (1/ 143) من حديث عثمان بن عفان عن عمر رضي الله عنهما. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (6/ 138): هذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 15): رجاله ثقات. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (1/ 221): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (1528): صحيح.

وهذا كله إشارة إلى عمل القلب وتحققه بمعنى الشهادتين, فتحققه بمعنى شهادة أن لا إله إلا الله أن لا يأله قلبه غير الله حبا ورجاء وخوفا وطمعا وتوكلا واستعانة وخضوعا وإنابة وطلبا وتحققه بشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبد بغير ما شرعه على لسان نبيه – محمد - صلى الله عليه وسلم ... وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد (لا إله إلا الله) يقتضي أن لا إله غير الله, والإله الذي يطاع ولا يعصى هيبة وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له, ولا يصلح ذلك كله لغير الله عز وجل, فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قوله لا إله إلا الله ونقصاً في توحيده, وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من المعاصي التي منشأها من طاعة غير الله عز وجل أو خوفه أو رجائه أو التوكل عليه أو العمل, كما ورد إطلاق الكفر والشرك على الربا وعلى الحلف بغير الله عز وجل وعلى التوكل على غير الله والاعتماد عليه وعلى من سوى بين الله وبين المخلوق في المشيئة مثل أن يقول ما شاء الله وشاء فلان, وكذا قوله: مالي إلا الله وأنت, وكذلك ما يقدح في التوحيد وتفرد الله بالنفع والضر كالطيرة والرقى المكروهة وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه قادح في تمام التوحيد وكماله, ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التي منشأها من هوى النفس أنها كفر وشرك كقتال المسلم ومن أتى حائضا أو امرأة في دبرها ومن شرب الخمر في المرة الرابعة وإن كان ذلك لا يخرجه من الملة بالكلية, ولهذا قال السلف: كفر دون كفر, وشرك دون شرك, وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] قال الحسن رحمه الله تعالى: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه, وقال قتادة: هو الذي كلما هوى شيئا ركبه وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ... ويشهد لهذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ((تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس عبد القطيفة, تعس عبد الخميصة, تعس وانتكس, وإذا شيك فلا انتقش)) (¬1) , فدل هذا على أن من أحب شيئا وأطاعه وكان من غاية قصده ومطلوبه, ووالى لأجله وعادى لأجله, فهو عبده, وكان ذلك الشيء معبوده وإلهه ويدل عليه أيضا أن الله تعالى سمى طاعة الشيطان في معصيته عبادة للشيطان كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60] وقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44] فمن لم يتحقق بعبودية الرحمن وطاعته فإنه يعبد الشيطان بطاعته, ولم يخلص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن وهم الذين قال فيهم: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42] فهم الذين حققوا قول لا إله إلا الله وأخلصوا في قولها وصدقوا قولهم بفعلهم فلم يلتفتوا إلى غير الله محبة ورجاء وخشية وطاعة وتوكلا, وهم الذين صدقوا في قول لا إله إلا الله, وهم عباد الله حقا فأما من قال لا إله إلا الله بلسانه ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب قوله فعله, ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [القصص:50] وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] ثم قال رحمه الله تعالى: فيا هذا كن عبدا لله لا عبدا للهوى, فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39] , ((تعس عبد الدرهم, تعس عبد الدينار)) والله لا ينجو غدا من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده ولم يلتفت إلى شيء من الأغيار, من علم أن إلهه ومعبوده فرد فليفرده بالعبودية ولا يشرك بعبادة ربه أحدا انتهى كلامه رحمه الله تعالى معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص528 ¬

(¬1) رواه البخاري (2887).

المطلب الرابع: مراتب شهادة لا إله إلا الله

تمهيد: إن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وقوله وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته وثانيها: تكلمه بذلك ونطقه به وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها وثالثها: أن يعلم غيره بما شهد به ويخبره به ويبينه له ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربعة علم الله سبحانه بذلك وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لمحمد بن عبدالله بن القيم - 3/ 451

مرتبة العلم

مرتبة العلم أما مرتبة العلم فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به قال الله تعالى: إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86] وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((على مثلها فاشهد وأشار إلى الشمس)) (¬1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لمحمد بن عبدالله بن القيم - 3/ 451 ¬

(¬1) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (4/ 110) وقال صحيح الإسناد، وقال الذهبي في التلخيص: بل واه، ورواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 156) وقال: لم يرو من وجه يعتمد عليه، وقال الزيلعي في ((نصب الراية)) (4/ 1404): قلت: رواه كذلك ابن عدي في " الكامل " والعقيلي في " كتابه " وأعلاه بمحمد بن سليمان ابن مشمول وأسند ابن عدي تضعيفه عن النسائي ووافقه وقال: عامة ما يرويه لا يتابع عليه إسنادا ولا متنا، وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 617): فيه نظر، وقال ابن حجر في ((التلخيص)) (4/ 198): في إسناده محمد بن سليمان بن مسمول وهو ضعيف، وقال الألباني في تخريج الطحاوية (90) ضعيف.

مرتبة التكلم والخبر

مرتبة التكلم والخبر وأما مرتبة التكلم والخبر فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به وإن لم يتلفظ بالشهادة قال تعالى: قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [الأنعام:150] وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عدلت شهادة الزور الإشراك بالله)) (¬1). وشهادة الزور هي قول الزور كما قال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:30] وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135] فشهادة المرء على نفسه هي إقراره على نفسه وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز الأسلمي: ((فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله)) (¬2) وقال تعالى: قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأنعام:130] وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة كما هو مذهب مالك وأهل المدينة وظاهر كلام أحمد ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك وقد قال ابن عباس: ((شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب)) (¬3) ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة بل قال: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة)) (¬4) الحديث وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد دخل في الإسلام وشهد شهادة الحق ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة وأنه قد دخل في قوله: ((حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) (¬5) وفي لفظ آخر ((حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (¬6) فدل على أن مجرد قولهم لا إله إلا الله شهادة منهم وهذا أكثر من أن تذكر شواهده من الكتاب والسنة فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه والله أعلم مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لمحمد بن عبدالله بن القيم - 3/ 451 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3599)، والترمذي (2299)، وابن ماجه (2372). وقال الترمذي: غريب ولا نعرف لأيمن سماعا من النبي وقد اختلفوا في رواية الحديث عن سفيان بن زياد. وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (4/ 548): لايصح. وقال ابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/ 431): إسناده ضعيف وله طريق آخر فيه مقال. وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (2/ 383): -فيه- زياد العصفري قال ابن القطان مجهول. (¬2) رواه البخاري (5271) ومسلم (1691). (¬3) رواه البخاري (581). (¬4) رواه أبو داود (4649)، والترمذي (3748)، وابن ماجه (133)، وأحمد (1/ 187) (1629). من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 436) - وذلك كما أشار في مقدمته -. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 112): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬5) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (1399)، ومسلم (20). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

مرتبة الإعلام والإخبار

مرتبة الإعلام والإخبار فصل وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول وإعلام بالفعل وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر تارة يعلمه بقوله وتارة بفعله ولهذا كان من جعل دارا مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها وأذن بالصلاة فيها معلما أنها وقف إن لم يتلفظ به وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار معلما له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله وكذلك بالعكس وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة وبفعله تارة أخرى فالقول هو ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه ومما قد علم بالاضطرار أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو وأخبر بذلك وأمر عباده أن يشهدوا به وشهادته سبحانه أن لا إله إلا هو معلومة من جهة كل من بلغ عنه كلامه وأما بيانه وإعلامه بفعله فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة كما يستعمل فيه لفظ الدلالة والإرشاد والبيان فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا وكلاما لقيامه مقامه وأدائه مؤداه كما قيل: وقالت له العينان سمعا وطاعة ... وحدرتا بالدر لما يثقب وقال الآخر: شكا إلي جملي طول السرى ... صبرا جميلي فكلانا مبتلى وقال الآخر: امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني ويسمى هذا شهادة أيضا كما في قوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله فهي شهادة بكفرهم وهم شاهدون على أنفسهم بما شهدت به والمقصود أن الله سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية فتتطابق شهادة القول وشهادة الفعل كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] أي أن القرآن حق فأخبر أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية وهذه الشهادة الفعلية قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير قال ابن كيسان شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لمحمد بن عبدالله بن القيم - 3/ 452

مرتبة الأمر والإلزام

مرتبة الأمر والإلزام وأما المرتبة الرابعة وهي الأمر بذلك والإلزام به وإن كان مجرد الشهادة لا يستلزمه لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده به كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23] وقال تعالى: وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ [النحل:51] وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] وقال تعالى: لاَّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ [الإسراء: 22] وقال الله سبحانه وتعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [القصص:88] والقرآن كله شاهد بذلك ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل وإثباتها أظلم الظلم فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الإلهية لغيره وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات كما إذا رأيت رجلا يستفتي أو يستشهد أو يستطب من ليس أهلا لذلك ويدع من هو أهل له فتقول هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب المفتي فلان والشاهد فلان والطبيب فلان فإن هذا أمر منك ونهي وأيضا فإن الأدلة قد دلت على أنه سبحانه وحده المستحق للعبادة فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت شهادته الأمر والإلزام بتوحيده وأيضا فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية فيقال للجملة الخبرية قضية وحكم وقد حكم فيها بكيت وكيت قال تعالى: أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات: 151] فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكما وقال في موضع آخر: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. [القلم: 35] لكن هذا حكم لا إلزام معه والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو متضمن للإلزام والله سبحانه أعلم مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - 3/ 454

المطلب الخامس: شروط لا إله إلا الله

المطلب الخامس: شروط لا إله إلا الله الشرط الأول: العلم والمراد به العلم بمعناها المراد منها نفيا وإثباتا المنافي للجهل بذلك, قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله [محمد:19] وقال الله تعالى: إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ [الزخرف:86] أي بلا إله إلا الله وَهُمْ يَعْلَمُون بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم قال الله تعالى: شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيم [آل عمران:18] وقال الله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِّينَ يَعْلَمُونَ وَالذِّينَ لا يَعْلَمُون إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَاب [الزمر:9] وقال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [فاطر:28] وقال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا العَالِمُون [العنكبوت:43] وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬1) الشرط الثاني: اليقين اليقين المنافي للشك بأن يكون قائلها مستيقنا بمدلول هذه الكلمة يقينا حازما, فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن, فكيف إذا دخله شك, قال الله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِّينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله – إلى قوله – أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون [الحجرات:3] فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا, أي لم يشكوا, فأما المرتاب فهو من المنافقين والعياذ بالله الذين قال الله تعالى فيهم: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة:45] وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, ولا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)) (¬2) وفي رواية: ((لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة)) (¬3) وفيه عنه رضي الله عنه من حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه فقال: ((من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة)) (¬4) الحديث, فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها, فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط الشرط الثالث: القبول ¬

(¬1) رواه مسلم (26). (¬2) رواه مسلم (27). (¬3) رواه مسلم (27). من حديث أبي هريرة أو أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. (¬4) رواه مسلم (31).

القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه, وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها وانتقامه ممن ردها وأباها كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف:23 - 25] وقال الله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:103] وقال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] وكذلك أخبرنا بما وعد به القابلين لها من الثواب, وما أعده لمن ردها من العذاب, كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ إلى قوله: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [الصافات:22 - 36] فجعل الله تعالى علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله, وتكذيبهم من جاء بها, فلم ينفوا ما نفته ولم يثبتوا ما أثبتته, بل قالوا إنكارا واستكبارا أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ [ص:5 - 7] وقالوا ههنا: أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ فكذبهم الله عز وجل ورد ذلك عليهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: بَلْ جَاءَ بِالحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِين [الصافات:37] إلى آخر الآيات, ثم قال في شأن من قبلها: إِلا عِبَادَ الله المُخْلَصِين أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُوم فَوَاكِهَ وَهُمْ مُكْرَمُون فِي جَنَّاتِ النَّعِيم [الصافات:41] إلى آخر الآيات, وقال الله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النحل:89] وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم, ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)) (¬1) الشرط الرابع: الانقياد ¬

(¬1) رواه البخاري (79)، ومسلم (2282).

الانقياد لما دلت عليه المنافي لترك ذلك قال تعالى: وَأَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه [الزمر:54] وقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125] وقال تعالى: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى [لقمان:22] أي بلا إله إلا الله وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان: 22] ومعنى يسلم وجهه أي ينقاد, وهو محسن موحد ومن لم يسلم وجهه إلى الله ولم يك محسنا فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو المعني بقوله تعالى: وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:23 - 24] وهذا تمام الانقياد وغايته الشرط الخامس: الصدق الصدق فيها المنافي للكذب, وهو أن يقولها صدقا من قلبه يواطئ قلبه لسانه, قال الله تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1 - 3] إلى آخر الآيات وقال تعالى في شأن المنافقين الذين قالوها كذبا: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8 - 11] وكم ذكر الله تعالى من شأنهم وأبدى وأعاد وكشف أستارهم وهتكها وأبدى فضائحهم في غير ما موضع من كتابه كالبقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة وسورة كاملة في شأنهم وغير ذلك وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار)) (¬1) فاشترط في إنجاء من قال هذه الكلمة من النار أن يقولها صدقا من قلبه, فلا ينفعه مجرد التلفظ بدون مواطأة القلب وفيهما أيضا من حديث أنس بن مالك وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما من قصة الأعرابي وهو ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام فأخبره, ((قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا, إلا أن تطوع", قال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق")) (¬2) وفي بعض الروايات ((إن صدق ليدخلن الجنة)) (¬3) فاشترط في فلاحه ودخول الجنة أن يكون صادقا الشرط السادس: الإخلاص ¬

(¬1) رواه البخاري (128)، ومسلم (32). (¬2) رواه البخاري (46)، ومسلم (11). (¬3) رواه مسلم (12).

الإخلاص وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك, قال الله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3] وقال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] الآية وقال الله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ [الزمر:2] وقال الله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ [الزمر:11] , قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي [الزمر:14] وقال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146] وغير ذلك من الآيات وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه)) (¬1) وفي الصحيح عن عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل)) (¬2) وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما قال عبد قط لا إله إلا الله مخلصا إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر)) (¬3) الشرط السابع: المحبة ¬

(¬1) رواه البخاري (99). (¬2) رواه البخاري (425)، ومسلم (33). (¬3) رواه الترمذي (3590) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك قال الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة:165]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [المائدة:54] فأخبرنا الله عز وجل أن عباده المؤمنين أشد حبا له, وذلك لأنهم لم يشركوا معه في محبته أحدا كما فعل مدعو محبته من المشركين الذين اتخذوا من دونه أندادا يحبونه كحبه, وعلامة حب العبد ربه تقديم محابه وإن خالفت هواه, وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه, وموالاة من والى الله ورسوله ومعاداة من عاداه, واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره وقبول هداه وكل هذه العلامات شروط في المحبة لا يتصور وجود المحبة مع عدم شرط منها قال الله تبارك وتعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا [الفرقان:43] الآيات، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية:23] فكل من عبد مع الله غيره فهو في الحقيقة عبد هواه, بل كل ما عصى الله به من الذنوب فسببه تقديم العبد هواه على أوامر الله عز وجل ونواهيه وقال تعالى في شأن الموالاة والمعاداة فيه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] الآيات وقال الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22] الآية, وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] الآيات, قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة:23 - 24] الآيتين, وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة:1] إلى آخر السورة وغير ذلك من الآيات وقال تعالى في اشتراط اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن

يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) أخرجاه من حديث أنس رضي الله عنه (¬1) وفيهما عنه وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (¬2) ... وذلك الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الخبر عن الله والأمر بما يحبه الله ويرضاه والنهي عما يكرهه ويأباه, فإذا امتثل العبد ما أمره الله به واجتنب ما نهاه عنه وإن كان مخالفا لهواه كان مؤمنا حقا, فكيف إذا كان لا يهوى سوى ذلك وفي الحديث: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض فيه)) (¬3) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله, فإنما تنال ولاية الله بذلك وقد أصبح غالب مؤاخاة الناس اليوم على أمر الدنيا, وذلك لا يجدي على أهله شيئا) (¬4) وقال الحسن البصري وغيره من السلف: ادعى قوم محبة الله عز وجل فابتلاهم الله بهذه الآية: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31] وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة, ومن عصاني فقد أبى)) (¬5) قال حدثنا محمد بن عبادة أخبرنا يزيد حدثنا سليم – وأثنى عليه – حدثنا سعيد بن ميناء حدثنا – أو سمعت – جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: ((جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم فقال بعضهم إنه نائم. وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا. فقال بعضهم إنه نائم. وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا أولوها له يفقهها فقال بعضهم إنه نائم. وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا فالدار الجنة، والداعي محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن أطاع محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقد عصى الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الناس)) (¬6) ومن هنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا علم أنه لا تتم محبة الله عز وجل إلا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه, فلا طريق إلى معرفة ما يحبه تعالى ويرضاه, وما يكرهه ويأباه إلا باتباع ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتناب ما نهى عنه, فصارت محبته مستلزمة لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ومتابعته, ولهذا قرن محبته بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة من القرآن كقوله عز وجل: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] وغير ذلك من الآيات معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص518 – 524 ¬

(¬1) رواه البخاري (16)، ومسلم (43). (¬2) رواه البخاري (15)، ومسلم (44). (¬3) رواه أحمد (4/ 286) (18547) والطيالسي في ((المسند)) (1/ 101) (747)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (7/ 80). من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 85): رواه أحمد والبيهقي كلاهما من رواية ليث بن أبي سليم. وقال العراقي في ((المغني)) (2/ 124): رواه أحمد من حديث البراء بن عازب وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 94): رواه أحمد وفيه ليث بن أبي سليم وضعفه الأكثرون. قال الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب) (3030): حسن لغيره. (¬4) رواه ابن أبي شيبة بنحوه (7/ 134). (¬5) رواه البخاري (7280). (¬6) رواه البخاري (7281).

المطلب السادس: نواقض لا إله إلا الله

المطلب السادس: نواقض لا إله إلا الله النواقض: جمع ناقض، وهو المفسد، فالنواقض هي المفسدات لمعنى الشهادة، بحيث لا تترتب على نطقها واعتقادها والعمل بمدلولها – آثارها وهي الدخول في الإسلام، والبراء من ضده، وعليه فإذا وجد في العبد ناقض من النواقض، فإنه لا يكون من المسلمين، ولا يكتسب أحكام المسلمين، بل يعطى أحكام أهل الشرك والكفر، إن كان الناقض وجد معه ابتداء، والردة إن وجد بعد أن دخل الإسلام، المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 111 ونواقض (لا إله إلا الله) وتسمى (نواقض الإسلام) و (نواقض التوحيد) وهي الخصال التي تحصل بها الردة عن دين الإسلام، فهي كثيرة، وقد ذكر بعضهم أنها تصل إلى أربعمائة ناقض (¬1). وهذه النواقض تجتمع في ثلاثة نواقض رئيسية هي: 1 - الشرك الأكبر: وهو أنواع كثيرة .... 2 - الكفر الأكبر: وهو أنواع كثيرة .... 3 - النفاق الاعتقادي ..... تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين – بتصرف - ص64 والأحكام المترتبة على وجود الناقض نوعان: الأول: عدم دخوله في الإسلام إن وجد الناقض معه ابتداء، على معنى أنه نطق بها، واعتقد مدلولها، وعمل بموجباتها مع وجود ما يناقضها فيه. الثاني: أن يرد عليه الناقض بعد دخوله في الإسلام، فيكون بوروده عليه مرتداً، خارجاً عن دين الإسلام. والنواقض هي: أولاً: الجهل بمعنى الشهادة: فإن قولها لا ينفع المتكلم بها بلا فهم ومعرفة. ثانياً: الشك والتردد في مدلولها، أو بعضه: لأنه بذلك يفرض جوازه وعدمه، حتى ولو رجح أحد الطرفين، فلابد من اليقين به. ثالثاً: الشرك بالله: فإن البراء منه جزء معناها، لأن معناها يتضمن أمرين: 1 - إثبات الألوهية، والعبادة، والطاعة له وحده. 2 - نفي استحقاق شيء من الألوهية، والعبادة، والطاعة لما سواه، وهذا القسم هو الشرك بالله. كما قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وهذا يستلزم العلم بالشرك وحدوده، حتى يمكن اجتنابه، والبراء منه ومن أهله، فإن عدم المعرفة به أوقع الكثير من الناس في شرك المشركين، ظناً منه أنه من التوحيد المأمور به، أو في أقل الأحوال أنه جائز، لا محظور فيه. رابعاً: الكذب العقدي (النفاق): بأن يبدي الإيمان ويضمر الكفر، قال تعالى عن المنافقين: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فالمضاد هو من يعرف معنى هذه الكلمة، ويقبله ويعمل بما تقتضيه، وما يلزم قائلها من واجبات الدين، ويصدق قلبه لسانه. خامساً: البغض لهذه الكلمة، وما تحمله من معنى، وعداء أهلها، ومقاومة دعاتها، ومحاولة صد الناس عنها، بالدعوة إلى ما يضادها، ونصرة أهله, ومحبتهم واتخاذهم أولياء من دون الله: قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ. وقال سبحانه: قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ. ¬

(¬1) الدرر السنية (1/ 100).

سادساً: الترك لمعناها ولفظها والعمل بموجبها جملة وتفصيلاً: فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي، ولا يعمل أي عمل من أعمال الإسلام، وإن ادعى فهمه للمعنى، وأنه معتقد له، أو محب لأهله، مبغض لضده، وأهل ذلك الضد، فإن ذلك لا يغني عنه من الله شيئاً، فلا يدخل في الإسلام وإن دخل فيه فهو مرتد عنه. سابعاً: الرد والإعراض عن معناها واعتقاده: فإن مشركي العرب كانوا يعلمون معناها، لكنهم رافضون له، غير راضين به، قال الله تعالى: إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ. وقد اتخذ بعض العلماء في بيان النواقض طريقة غير التي بنينا عليها بحثنا، فقسم النواقض إلى أربعة أنواع هي: الأول: الناقض القولي: كـ (سب) الله، وسب الرسول، والبراء من دين الإسلام، ودعوى أن النفع والضر بيد غير الله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغيره، والاستجارة بسواه ونحو ذلك. الثاني: الناقض الفعلي: كالسجود لغيره، والركوع لسواه، والصلاة لغيره، ونحو ذلك. الثالث: الناقض الاعتقادي: كاعتقاد تعدد الإله أو أن هناك من يجيب الدعاء، ويكشف الضر سواه، ونحو ذلك. الرابع: الشك في شيء من مدلولاتها: كالشك في كون الله إلهاً واحداً أو أكثر وفي كون الكاشف للضر الله، أو غيره ونحو ذلك. ومن العلماء من اختار تقسيماً ثالثاً هو: أولاً: النواقض المتعلقة بالذات والإلهية: كالشرك، وإنكار الصفات، والأسماء وإنكار الربوبية، ونحو ذلك. ثانياً: النواقض المتعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم: كإنكار الرسالة، أو ما جاء به الرسول، أو إنكار بعض ما جاء به، وجحده. ثالثاً: النواقض المتعلقة بالشريعة: كتجويز التعبد بغيرها، أو الحكم بغير ما أنزل الله، أو إنكار ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، أو الاستهزاء بالدين وأهله، أو الإعراض عن دين الإسلام لا يتعلمه ولا يعمل به. رابعاً: النواقض المتعلقة بأعداء الله – أفعالهم – كموالاة المشركين، ومظاهرتهم، ومعاونتهم على المسلمين، والسحر، والكهانة، والعرافة، ونحوها. وهذه التقاسيم مهما اختلفت موارد التقسيم فيها، فإنها متفقة غير مختلفة، وإن لحظ كل واحد منهم مورداً خاصاً به يرجع إليه التقسيم، وهي في جملتها تقاسيم صحيحة المعنى والمبنى، فلا حرج في اعتبار أي واحد منها، لأن اختلافها اختلاف في الأسلوب، لا في أصل الفكرة ولا معناها. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 111

المبحث الثاني: شهادة أن محمدا رسول الله

المطلب الأول: معنى شهادة أن محمداً رسول الله والشهادة بأن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر فما أثبته وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه كما يجب على الخلق أن يثبتوا ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة المخلوقات فيخلصون من التعطيل والتمثيل ويكونون على خير عقيدة في إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم به وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ويحللوا ما أحله ويحرموا ما حرمه فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله ولكونهم شرعوا دينا لم يأذن به الله كما في قوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [الأنعام: 136] إلى آخر السورة وما ذكر الله في صدر سورة الأعراف وكذلك قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا [الأحزاب:45 - 46] فأخبره أنه أرسله داعيا إليه بإذنه فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع والشرك بدعة والمبتدع يؤول إلى الشرك ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة 31] وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم وقد قال تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله ولا يدينون دين الحق والمؤمنون صدقوا الرسول فيما أخبر به عن الله وعن اليوم الآخر فآمنوا بالله واليوم الآخر وأطاعوه فيما أمر ونهى وحلل وحرم فحرموا ما حرم الله ورسوله ودانوا دين الحق فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فأمرهم بكل معروف ونهاهم عن كل منكر وأحل لهم كل طيب وحرم عليهم كل خبيث اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 842 و (معنى شهادة أن محمداً رسول الله: طاعته فيما أمر, وتصديقه فيما أخبر, واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع) (¬1). وهذه الشهادة هي الشطر الثاني من الركن الأول من أركان الإسلام الخمسة، كما أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم داخل في الركن الرابع من أركان الإيمان الستة، ويشهد لذلك حديث جبريل المشهور. ويلاحظ أننا عرّفنا الشهادة والإيمان به بتعريف واحد، وهذا الأمر يصح في حالة الإفراد. .... أما في حالة الاقتران فالإيمان به يختص بتصديق القلب وإقراره، والشهادة يراد بها نطق اللسان واعترافه، ويجب تحقيق هذه الشهادة معرفة وإقراراً, وانقياداً وطاعة (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما الإيمان بالرسول فهو المهم، إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله سبحانه، ولهذا كان ركنا الإسلام: -أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله-) (¬3). حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لمحمد خليفة التميمي -1/ 37 ¬

(¬1) الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 9) ضمن مجموعة الرسائل المفيدة. (¬2) ((زاد المعاد)) (1/ 34). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 638، 639).

المطلب الثاني: تعريف الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: تعريف الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم (الإيمان بالرسول: هو تصديقه, وطاعته, واتباع شريعته) (¬1) وهذه الأمور هي الركائز التي يقوم عليها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم, وعن بيان هذه الأمور المطلوبة عند الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم قال العلماء: أ- أما تصديقه صلى الله عليه وسلم فيتعلق به أمران عظيمان: أحدهما: إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله، وهذا مختص به صلى الله عليه وسلم (¬2). ويندرج تحت هذا الإثبات والتصديق عدة أمور منها: 1 - الإيمان بعموم رسالته إلى كافة الثقلين إنسهم وجنهم. 2 - الإيمان بكونه خاتم النبين, ورسالته خاتمة الرسالات. 3 - الإيمان بكون رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع. 4 - الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها, وأدى الأمانة, ونصح لأمته حتى تركهم على البيضاء ليلها كنهارها. 5 - الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم. 6 - الإيمان بماله من حقوق خلاف ما تقدم ذكره, كمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم. الثاني: (تصديقه فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب اتباعه. وهذا يجب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل أحد) (¬3). فيجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما أخبر به عن الله عز وجل، من أنباء ما قد سبق, وأخبار ما سيأتي، وفيما أحل من حلال, وحرّم من حرام، والإيمان بأن ذلك كله من عند الله عز وجل، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4]. قال شارح العقيدة الطحاوية: (يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيماناً عاماً مجملاً، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على التفصيل فرض على الكفاية) (¬4). ب- طاعته واتباع شريعته: إن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم كما يتضمن تصديقه فيما جاء به فهو يتضمن كذلك العزم على العمل بما جاء به, وهذه هي الركيزة الثانية من ركائز الإيمان به صلى الله عليه وسلم. وهي تعني: الانقياد له صلى الله عليه وسلم وذلك بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وزجر امتثالاً لقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]. فيجب على الخلق اتباع شريعته, والالتزام بسنته, مع الرضا بما قضاه والتسليم له، والاعتقاد الجازم أن طاعته هي طاعة لله, وأن معصيته معصية لله, لأنه هو الواسطة يين الله وبين الثقلين في التبليغ ........ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب على الخلق الإقرار (¬5) بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة وتفصيلاً عند العلم بالتفصيل، فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة) (¬6). حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لمحمد خليفة التميمي -1/ 34 ¬

(¬1) كتاب ((اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)) (ص: 92). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 91). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 91). (¬4) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 66). (¬5) يقول ابن تيمية في بيان معنى الإقرار: (إن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق وعمل القلب الذي هو الانقياد). ((مجموع الفتاوى)) (7/ 638، 639). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 154).

المطلب الثالث: وجوب الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم

المطلب الثالث: وجوب الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم الأدلة من القرآن والسنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم. أ-الأدلة من القرآن: أوجب الله سبحانه وتعالى على الثقلين – الإنس والجن – الذين أدركتهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به كما شهدت بذلك نصوص الكتاب العزيز. كما أكد الله وجوب الإيمان بأن جعله مقترناً بالإيمان به سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم منها: قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد: 7 - 8]، وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن: 8]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً [النساء: 136]، وقال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح: 4]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]. والإيمان به صلى الله عليه وسلم واحد من ثلاثة حقوق اقترن بها حقه صلى الله عليه وسلم مع حق الله تعالى في القرآن الكريم. أما الحق الثاني له: فهو طاعته قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132]، ... والحق الثالث هو: محبته قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]، ..... (كما أن الإيمان به واجب متعين لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه) (¬1). وقال تعالى في حق من لم يؤمن: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً [الفتح: 13]. وبما تقدم من آيات يعلم وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهميته وأنه لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، كما لا تحصل نجاة ولا سعادة بدون الإيمان به لأنه هو الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان أول أركان الإسلام (شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله). ¬

(¬1) ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 538) بتصرف.

ب- الأدلة من السنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم: وردت في السنة أحاديث كثيرة جداً تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم على الجن والإنس الذين أدركتهم رسالته، سواء كانوا أهل كتاب، أم ليسوا بأهل كتاب، ويستوي في ذلك عربهم وعجمهم، وذكرهم وأنثاهم، فلا يسع أحداً من هؤلاء الخروج عن شريعته, أو التعبد لله بغير ما جاء به. لأن الله لا يقبل من أحد عملاً يخالف شرع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] ... ومن تلك الأحاديث الواردة في هذا الشأن: أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) (¬1). 2 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) (¬2). 3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) (¬3) .. 4 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس .... )) (¬4) الحديث. 5 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله فقال: ((إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب, فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة, فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.)) (¬5). وهذه الأحاديث وغيرها تؤكد وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وكذلك طاعته، ويكون ذلك بأن يحل ما أحل الله ورسوله، ويحرم ما حرم الله ورسوله، ويوجب ما أوجبه الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويكره ما كرهه الله ورسوله. ج- دليل الإجماع: أجمعت الأمة على وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما أجمعت كذلك على أن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الإنس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم (¬6). لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه وبينه الرسول أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإن الله تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، ولم يبتدع المسلمون شيئا من ذلك من تلقاء أنفسهم (¬7). حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لمحمد خليفة التميمي -1/ 68 ¬

(¬1) رواه مسلم (21). (¬2) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه مسلم (153). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (53) وهذا لفظه، ومسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬5) رواه البخاري (1395)، ومسلم (29) واللفظ لمسلم. (¬6) ((إيضاح الدلالة في عموم الرسالة)) لشيخ الإسلام ابن تيمية مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (2/ 99). (¬7) ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (1/ 126).

المطلب الرابع: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

المسألة الأولى: المعنى الصحيح لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وانقسام الناس فيها اعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقاً زائدة على مجرد التصديق بنبوته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب, واللسان, والجوارح أموراً زائدة على مجرد التصديق به سبحانه. وحرم سبحانه لحرمة رسوله - مما يباح أن يفعل مع غيره - أموراً زائدة على مجرد التكذيب بنبوته. فمن تلك الحقوق حقه صلى الله عليه وسلم بأن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دلت على ذلك الأدلة من القرآن والسنة (¬1) والتي سيأتي ذكرها. (فحب النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم واجبات الدين) (¬2). فهذه المحبة الواجبة له صلى الله عليه وسلم هي من محبة الله، فهي حب لله وفي الله، ذلك لأن محبة الله توجب محبة ما يحبه الله، والله يحب نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم، فوجب بذلك محبته حقاً، فهي متفرعة عن محبة الله وتابعة لها, واقتران ذكرها مع محبة الله في القرآن والسنة إنما هو للتنبيه على أهميتها وعظم منزلتها. وبمقتضى هذه المحبة يجب موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في حب ما يحبه, وكره ما يكرهه، أي بتحقيق المتابعة له فيحب بقلبه ما أحب الرسول، ويكره ما كرهه الرسول، ويرضى بما يرضى الرسول، ويسخط ما يسخط الرسول، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض. وقد انقسم الناس في فهمهم لهذه المحبة إلى ثلاثة أقسام هي: القسم الأول: أهل الإفراط. القسم الثاني: أهل التفريط. القسم الثالث: الذين توسطوا بين الإفراط والتفريط. أما أصحاب القسم الأول: فهم الذين بالغوا في محبته بابتداعهم أموراً لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ظناً منهم أن فعل هذه الأمور هو علامة المحبة وبرهانها. ومن تلك الأمور احتفالهم بمولده، ومبالغتهم في مدحه, وإيصاله إلى أمور لا تنبغي إلا لله تعالى ومن ذلك قول قائلهم: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم (¬3) وقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعض علومه علم اللوح والقلم لأن (من) للتبعيض، فماذا للخالق جل وعلا؟ إضافة إلى صرف بعض أنواع العبادة له كالدعاء, والتوسل, والاستشفاع, والحلف به, والطواف, والتمسح بالحجرة التي فيها قبره صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من البدعيَّات والشركيَّات التي تفعل بدعوى المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أمور لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة رضوان الله عليهم الذين عرفوا بإجلالهم وتقديرهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإضافة إلى ذلك فإن ما يقوم به هؤلاء هي أمور مخالفة لما جاء به الشارع، بل هي أمور قد حذر الشارع من فعلها، ولقد صار حظ أكثر أصحاب هذا القسم منه صلى الله عليه وسلم مدحه بالأشعار والقصائد المقترنة بالغلو والإطراء الزائد الذي حذر منه الشارع الكريم، مع عصيانهم له في كثير من أمره ونهيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات الله عليه وسلامه (¬4). ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص 420، 421) بتصرف يسير. (¬2) ((الرد على الأخنائي)) (ص: 231). (¬3) ((ديوان البوصيري)) (ص: 238). (¬4) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 186).

فيا ترى أي محبة هذه التي يخالف أصحابها شرع نبيهم، فيحلوا ما حرم الله, ويحرموا ما أحل الله، فكرهوا ما أحب الله ورسوله، وأحبوا ما كرهه الله ورسوله. فكيف تكون لهؤلاء محبة وهم قد ابتدعوا ما ابتدعوه من أمور لم تشرع في الدين، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبرأ ممن ابتدع في هذا الدين فقال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬1) .. والذي يجب على أمثال هؤلاء أن يعلموا أن محبة الرسول وتعظيمه إنما تكون بتصديقه فيما أخبر به عن الله، وطاعته فيما أمر به، ومتابعته، ومحبته وموالاته، لا بالتكذيب بما أرسل به، والإشراك به والغلو فيه، فهذا لا يعدو كونه كفراً به، وطعناً فيما جاء به ومعاداة له (¬2). كما يجب عليهم أن يفرقوا بين الحقوق التي يختص بها الله وحده، وبين الحقوق التي له ولرسله، والحقوق التي يختص بها الرسول، فقد ميز سبحانه بين ذلك في مثل قوله وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح: 9]، فالتعزير والتوقير للرسول والتسبيح بكرة وأصيلاً لله، وكما قال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، فالطاعة لله ولرسوله، والخشية والتقوى لله وحده وكما يقول المرسلون: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح: 3]. فعلى هؤلاء أن يعلموا أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تنال بدعائه والاستغاثة به، فتلك أمور صرفها لغير الله يعد شركاً مع الله, فالله وحده هو الذي يدعى, ويستغاث به, فهو رب العالمين، وخالق كل شيء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو القريب الذي يجيب الداع إذا دعاه, وهو سميع الدعاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً ... أما أصحاب القسم الثاني: فهم أهل التفريط الذين قصروا في تحقيق هذا المقام فلم يراعوا حقه صلى الله عليه وسلم في وجوب تقديم محبته على محبة النفس والأهل والمال. كما لم يراعوا ماله من حقوق أخرى كتعزيره, وتوقيره, وإجلاله, وطاعته, واتباع سنته, والصلاة والسلام عليه, إلى غير ذلك من الحقوق العظيمة الواجبة له. والسبب في ذلك يعود إلى إحدى الأمور التالية أو إليها جميعاً وهي: أولاً: إعراض هؤلاء عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وعن اتباع شرعه بسبب ما هم عليه من المعاصي، وإسرافهم في تقديم شهوات أنفسهم وأهوائهم على ما جاء في الشرع من الأوامر والنواهي. ثانياً: اعتقاد الكثير أن مجرد التصديق يكفي في تحقيق الإيمان، وأن هذا هو القدر الواجب عليهم، ولذا تراهم يكتفون بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، دون تحقيق المتابعة له، وهذا هو حال أهل الإرجاء الذين يؤخرون العمل عن مسمى الإيمان, ويقولون إن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، أو تصديق القلب وإقرار اللسان, وما أكثرهم في زماننا هذا. ثالثاً: جهل الكثير منهم بأمور دينهم بما فيها الحقوق الواجبة له صلى الله عليه وسلم، والتي من ضمنها محبته صلى الله عليه وسلم, فكثير من الناس - ولا حول ولا قوة إلا بالله - ليس لهم من الإسلام إلا اسمه وليس لهم من الدين إلا رسمه. فالواجب على هؤلاء أن يعودوا إلى رشدهم, وأن يقلعوا عن غيهم، وما هم عليه من المعاصي والذنوب التي هي سبب نقصان إيمانهم, وضعف محبتهم, وبعدهم عما يقربهم إلى الله تعالى. ¬

(¬1) رواه البخاري (2697) , ومسلم (1718). (¬2) ((الرد على الأخنائي)) (ص: 24، 25) بتصرف.

كما يجب عليهم أن يعلموا أن مجرد التصديق لا يسمى إيماناً بل الإيمان قول باللسان, واعتقاد بالجنان, وعمل بالأركان, يزيد بطاعة الرحمن, وينقص بطاعة الشيطان، فليس لأحد أن يخرج العمل عن مسمى الإيمان, فلذلك يجب على كل من يؤمن بالله ورسوله أن يطيع الله ورسوله, ويتبع ما أنزل الله من الشرع على رسوله صلى الله عليه وسلم، فبذلك يحصل الإيمان، فإن الاتباع هو ميزان الإيمان, فبحسب اتباع المرء يكون إيمانه، فمتى ما قوي اتباعه قوي إيمانه والعكس بالعكس. كما يجب عليهم معرفة أمور دينهم وبخاصة الواجب منها, والتي من ضمنها معرفة ما للمصطفى صلى الله عليه وسلم من الحقوق الواجبة, فلقد ذم الله تبارك وتعالى أولئك النفر الذين لم يعرفوا ما للنبي صلى الله عليه وسلم من حق في عدم رفع الصوت عند مخاطبته أو مناداته, ووصفهم الله بأنهم لا يعقلون قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4]، وفي السورة نفسها أثنى على الذين عرفوا حق المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات: 3]، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]. وليعلم هؤلاء أنه لا يتحقق لهم إيمان ولا محبة إلا باتباعهم للمصطفى صلى الله عليه وسلم, واقتدائهم بسنته, والسير على نهجه وهداه. أما القسم الثالث: فهم الذين توسطوا بين الطرفين السابقين أهل الإفراط وأهل التفريط. فأصحاب هذا القسم هم السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم, الذين آمنوا بوجوب هذه المحبة حكماً, وقاموا بمقتضاها اعتقاداً وقولاً وعملاً. فأحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فوق محبة النفس, والولد, والأهل, وجميع الخلق امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم, فجعلوه أولى بهم من أنفسهم تصديقاً لقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6]، وأيقنوا بوجوب أن يوقى بالأنفس والأموال طاعة لقوله تعالى: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة: 120]. وقاموا بمقتضى هذه المحبة اعتقاداً وقولاً وعملاً بحسب ما أو جب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من حقوق على القلب واللسان والجوارح من غير إفراط ولا تفريط. فآمنوا وصدقوا بنبوته ورسالته وما جاء به من ربه عز وجل. وقاموا- بحسب استطاعتهم- بما يلزم من طاعته, والانقياد لأمره, والتأسي بفعله, والاقتداء بسنته, إلى غير ذلك مما يعد من لوازم الإيمان برسالته. قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وامتثلوا لما أمر به سبحانه وتعالى من حقوق زائدة على مجرد التصديق بنبوَّته وما يدخل في لوازم رسالته. فمن ذلك امتثالهم لأمره سبحانه بالصلاة عليه والتسليم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]. وما أمر به سبحانه من تعزيره وتوقيره قال تعالى: وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ. فتعزيره يكون بنصره, وتأييده, ومنعه من كل ما يؤذيه صلى الله عليه وسلم.

وتوقيره: يكون بإجلاله وإكرامه, وأن يعامل بالتشريف, والتكريم, والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار (¬1). ويدخل في ذلك مخاطبته بما يليق قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. وحرمة التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرمة رفع الصوت فوق صوته وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات: 1 - 3]. فقاموا بهذه الأمور امتثالاً وطاعة لأمر الله تبارك وتعالى, وأدوا ما فرض عليهم من الحقوق الأخرى التي يطول ذكرها .... وهم مع قيامهم بهذه الأمور لم يتجاوزوا ما أمروا به, فلم يغالوا ولم يبالغوا كما فعل أهل الإفراط الذين وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمور لا تنبغي لغير الله كعلم الغيب، وصرفوا له أموراً لا يجوز صرفها لغير الله كدعائه, والسجود له, والاستغاثة به والطواف بقبره. بل هم مؤمنون بأن ما أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من النبوة, والرسالة, والرفعة, وعظم القدر, وشرف المنزلة، كل ذلك لا يوجب خروجه عن بشريته وعبوديته لله قال تعالى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً [الإسراء: 93]. واعتقدوا أنه ليس من المحبة في شيء الغلو في حقه وقدره ووصفه بأمور قد اختص الله بها وحده، بل علموا أن في هذا مخالفة ومضادة لتلك المحبة, ومناقضة لما أمر به سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأمته: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل: 65]. وقال تعالى: قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [الأعراف: 188]. فكل غلو في حقه صلى الله عليه وسلم ليس من محبته في شيء بل يعد مخالفة لما أمر به فيجب الابتعاد عن ذلك والحذر من عقوبته قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كما يعد مشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء: 115]، ولذا فإنه يجب الحذر من حال الغلاة الذين غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم بما ابتدعوه من الأمور التي لم يشرعها الله في كتابه أو على لسان رسوله، بل حذر الله ورسوله منها. ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص: 422).

وقد يظن البعض بأن السير على منهج أهل التوسط فيه انتقاص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم وغمط لحقه، والأمر على عكس ما يظنون فالذي يعتقده السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين أن الحق الواجب أن يثنى على النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أهل له من الخصائص الثابتة له التي خصه الله بها, والفضائل العظيمة التي شرفه بها, والصفات الحقيقية والخلقية التي كان عليها, وذلك للتعرف وتعريف الناس بفضله ومكانته وعظيم قدره عند الله وعند خلقه حتى يتأسى ويقتدى به في أقواله وأفعاله, فهو الأسوة والقدوة عليه أفضل الصلاة والتسليم قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21]. فمن صميم المحبة له صلى الله عليه وسلم الاشتغال بمعرفة سيرته بقصد التأسي والاقتداء بما كان عليه من كريم الخصال, ومحاسن الأفعال والأقوال. وكذا معرفة شمائله, ودلائل نبوته التي تعمق إيمان المسلم بصدق نبوته, وتزيد في محبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم. ولقد اهتم السلف بهذه الجوانب وأولوها رعايتهم واهتمامهم, فاعتنوا بتأليف المؤلفات التي أوضحت هذه الجوانب وأبرزتها, فقد ألفت لهذا الغرض كتب الشمائل التي اعتنت بذكر صفاته وأحواله في عباداته, وخلقه, وهديه, ومعاملاته (¬1)، كما ألفت كتب الدلائل التي اعتنت بدلائل وعلامات نبوته صلى الله عليه وسلم (¬2). هذا بالإضافة إلى ما كتب في الفضائل والخصائص التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم. كما اعتنوا بأصل هذه الجوانب جميعها ألا وهو سيرته الشريفة صلى الله عليه وسلم, فقد ألفت لهذا الغرض المؤلفات التي اعتنت بحياته منذ ولادته إلى وفاته, وضمت في جوانب ذلك الحديث عن نشأته, وبعثته, وما حدث له من الأمور قبل الهجرة وبعدها, وما كان من أمر دعوته, وغزواته, وسراياه, وما يتعلق بهذه الجوانب وغيرها مما هو داخل في سيرته (¬3). فقد دونت هذه الجوانب جميعها وخدمت بقصد أن يتأسى الناس به صلى الله عليه وسلم, وأن يتعرفوا على كمال ذاته صلى الله عليه وسلم وما تميز به من صفات، وتفرد به من أخلاق, لتزيد تلك المعرفة من محبتهم له, وتنميتها في قلوبهم, ولتبعث في نفوسهم تعظيمه وإجلاله. وبهذا يعلم أن أهل التوسط لم ينتقصوا من قدره صلى الله عليه وسلم, بل حفظوا وحافظوا على كل ما من شأنه أن يضمن استمرارية محبة الأمة وتعظيمها له. فهذه حال أهل التوسط وهذا هو منهجهم, فمن أراد أن يسير على النهج القويم, ويسلك الصراط المستقيم فعليه بسبيل أهل الإيمان وطريقهم, ألا وهو الكتاب والسنة, فذاك طريق الحق، والحق أحق أن يتبع. وهذا منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، فقد كانت محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم تحكمها قواعد الكتاب والسنة، فما أمر به الشارع ائتمروا به, وما نهى عنه الشارع انتهوا عنه، ولم يحكموا في هذه المحبة عواطفهم وأهواءهم كما فعل أهل الإفراط الذين زلت بهم أقدامهم بسبب غلوهم في حقه, ذاك الغلو الذي دفعهم إليه تحكيم أهوائهم، وهو غلو ما أنزل الله به من سلطان, بل إن نصوص الشرع تنص على تحريمه، وإنه ليصدق وصف أهل الإفراط بقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50]. فخلاصة القول في هذا الجانب أن المفهوم الصحيح لمحبته صلى الله عليه وسلم يتمثل في ذلك المفهوم الذي كان عليه سلف الأمة وأئمتها من الصحابة, والتابعين, وتابعيهم, ومن سار على نهجهم وسلك سبيلهم. ذلك المفهوم المستمد من آيات القرآن ونصوص السنة والذي لم يخرج عنهما قيد أنملة. حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لمحمد خليفة التميمي -1/ 289 ¬

(¬1) من تلك الكتب: كتاب ((الشمائل)) للترمذي، وكتاب ((الشمائل)) لابن كثير. (¬2) منها: كتاب ((دلائل النبوة)) لأبي نعيم الأصبهاني، وكتاب ((دلائل النبوة)) للبيهقي. (¬3) ومن أشمل الكتب التي تحدثت عن سيرته صلى الله عليه وسلم كتاب ((السيرة لابن كثير)).

المسالة الثانية: التحذير من المحبة البدعية

المسالة الثانية: التحذير من المحبة البدعية يظن البعض من الناس أن له الحق في التعبير عن محبته للنبي صلى الله عليه وسلم بما يراه ويستحسنه من الأمور، من غير أن يراعي في ذلك قواعد الشرع وأصوله, وهذا الصنف من الناس تراه منساقاً مع عواطفه, جاعلاً لها حق التشريع في هذا الدين. فتراه يغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم حتى كمل به إلى بعض مراتب الألوهية. وتراه يبتدع في دين الله أموراً تصل إلى حد العظائم. وتراه يقدم على الشركيات والكفريات. وكل ذلك بدعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولقد حكم الله عز وجل بالضلال على هذا الصنف فقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص: 50]. فالمتبعون لعواطفهم وأهوائهم المحكمون لها، لابد وأن يكونوا نابذين لهدي الله المتمثل في الكتاب والسنة، واللذين يشتملان على قواعد هذا الدين وأصوله والتي من ضمنها تحريم الابتداع في الدين والإحداث فيه، وتحريم الغلو بشتى مظاهره وأشكاله، وتحريم الشرك بمختلف صوره وألوانه. ولذلك حكم الله بضلالهم وغوايتهم, وبعدهم عن الصراط المستقيم. فحري بأمثال هؤلاء أن يقلعوا عن غيهم، وأن يحكموا في عواطفهم كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، وتحقيقها يكون عن طريق ما شرع في هذا الدين، لا عن طريق البدع وما تهواه النفوس, فالبدع قد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم منها بقوله: ((إياكم ومحدثات الأمور)) (¬1) وهذا الحديث يعني في هذا المقام أن ليس لأحد الحق في التعبير عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, فعلى المسلم أن يدرك هذا الأمر, وليحذر من سبل أهل الضلال والانحراف. قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]. وإن الناظر في أحوال أولئك المفتونين بالبدع تحت دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنهم قد رغبوا في تلك الأمور المبتدعة لأنها أمور لا مشقة فيها على النفس, فجعلوها بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال والطاعات التي تشق على نفوسهم الضعيفة المريضة، فالمحبة عند هؤلاء تنحصر في مظاهر التعظيم اللساني المليء بالغلو والشرك, والمقترن بالاجتماع على موائد الطعام والذي لا يخلو في بعض الأحيان من المنكرات والمحرمات. ويحق للمرء أن يتساءل: أي محبة هذه التي تجيز لهؤلاء أن يبتدعوا في دين الله بزيادة أو نقص, أو تغيير أو تبديل؟ لاشك أن فعل هذه الأمور يناقض المحبة ويضادها جملة وتفصيلاً، ولا عذر لفاعلها فيما أقدم عليه وإن كان فعل ذلك بحسن نية، فحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فلقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، فمازالوا على حالهم تلك حتى صارت أديانهم على غير ما جاءت به رسلهم. ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يتمسك بتلك البدع تقليداً لمشائخه أو عشيرته أو أهل بلده. إلى غير ذلك من العصبيات الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان, والتي أعمت بصائر الكثير منهم وأضلتهم عن سبيل الله. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) وأحمد (4/ 126) (17184)، والحاكم (1/ 176). من حديث العرباض بن سارية. والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح, وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

ولقد كان من الحري بهؤلاء أن يقتدوا بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا أشد الأمة محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأشدهم تعظيما له, وكانوا أحرص الناس على الخير ممن جاء بعدهم، والذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في هذا السبيل. فلقد كان من سنن الصحابة رضوان الله عليهم حرصهم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم يؤمنون بأن منشأ محبته وثباتها وقوتها إنما يكون بمتابعته صلى الله عليه وسلم في أقواله, وأفعاله, وسلوكه, وتصرفاته. كما أنهم يؤمنون بأن الابتداع في الدين يضاد تلك المحبة وينافيها ولذلك لم يعهد عنهم أنهم ابتدعوا أشياء من عند أنفسهم لإظهار محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما ابتدع المتأخرون ما ابتدعوه من البدع تحت ستار المحبة والتعظيم له صلى الله عليه وسلم. فإذا كان هذا هو شأن الصحابة فيما أثر عنهم من الآثار وهم المشهود لهم بأنهم أشد الأمة وأفضلها محبة وتعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم، أفلا يسع من جاء بعدهم ما وسعهم، فيتركوا تلك الأمور المبتدعة التي أحدثت من بعدهم، والتي لم يأذن بها الله ولم تكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن لم يتسع له ما اتسع للصحابة رضي الله عنهم، فلا وسع الله عليه في الدنيا ولا في الآخرة. فعن قتادة قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً, وأقلها تكلفاً, وأقومها هدياً, وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم, واتبعوهم في آثارهم, فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) (¬1) حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لمحمد خليفة التميمي -1/ 367 ¬

(¬1) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 119).

المطلب الخامس: وجوب تعزيره, وتوقيره, وتعظيمه صلى الله عليه وسلم

المسألة الأولى: معنى التعزير, والتوقير, والتعظيم. قال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9]. وقال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]. أ- أما التعزير في اللغة: فيقول صاحب معجم مقاييس اللغة عن أصل هذه الكلمة: (عزر) العين والزاء. والراء: كلمتان: أحدهما: التعظيم والنصر. والكلمة الأخرى: جنس من الضرب. فالأولى: النصر والتوقير كقوله تعالى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ والأصل الآخر: التعزير وهو الضرب دون الحد (¬1). وفي النهاية في غريب الحديث (أصل التعزير: المنع والرد. فكأن من نصرته قد رددت عنه أعداءه ومنعتهم من أذاه. ولهذا قيل للتأديب الذي هو دون الحد تعزير، لأنه يمنع الجاني أن يعاود الذنب، يقال عزرته، وعزرته. فهو من الأضداد) (¬2). وجاء في تهذيب اللغة: (عزر) قال الله عز وجل: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ جاء في التفسير في قوله تعالى وَتُعَزِّرُوهُ أي لتنصروه بالسيف وَعَزَّرْتُمُوهُمْ عظمتموهم. وقيل: نصرتموهم. واللفظة تستعمل لعدة معان هي: 1 - التعزير: النصر باللسان والسيف. 2 - التعزير: التوقير. 3 - التعزير: التأديب دون الحد. 4 - التعزير: التوقيف على الفرائض والأحكام (¬3). وأما عن المعنى الشرعي المراد هنا: فعن ابن عباس رضي الله عنهما: وَعَزَّرُوهُ يقول: (حموه ووقروه) (¬4). وعن مجاهد قال: (عزروه: سددوا أمره، وأعانوا رسوله ونصروه) (¬5). وعن قتادة في قوله: وَتُعَزِّرُوهُ قال: (ينصروه) (¬6). وقال ابن جرر الطبري: وَعَزَّرُوهُ (وقروه, وعظموه, وحموه, من الناس) (¬7). وقال أيضاً بعد أن نقل قول ابن عباس ومجاهد وقتادة: (وهذه الأقوال متقاربات المعنى، وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها, ومعنى التعزير في هذا الموضع: التقوية بالنصر والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال) (¬8). وقال شيخ الإسلام: (التعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه) (¬9). ب- وأما عن التوقير في اللغة: ففي معجم مقاييس اللغة: (وقر) الواو. والقاف. والراء: أصل يدل على ثقل في الشيء ... ومنه الوقار: الحلم والرزانة (¬10). وجاء في تهذيب اللغة: (وقر الرجل من الوقار، يقر، فهو وقور. ووقرت الرجل: إذا عظمته, ومنه قوله عز وجل: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ (¬11)). وفي لسان العرب: (وقر الرجل: بجله، والتوقير: التعظيم والترزين) (¬12). وأما المعنى الشرعي المراد هنا: فقال ابن عباس: (وَتُوَقِّرُوهُ يعني التعظيم) (¬13). وقال قتادة: (وَتُوَقِّرُوهُ أمر الله بتسويده وتفخيمه) (¬14). وقال أيضاً: (وَتُوَقِّرُوهُ أي ليعظموه) (¬15). وقال ابن جرير الطبري: (فأما التوقير فهو التعظيم والإجلال والتفخيم) (¬16). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (التوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار) (¬17). قال ابن كثير: (التوقير: هو الاحترام, والإجلال, والإعظام) (¬18). ج- وأما التعظيم في اللغة: ففي لسان العرب (التعظيم: التبجيل: يقال لفلان عظمة عند الناس: أي حرمة يعظم لها) (¬19). ولفظ (التعظيم) لا يرد في خطاب الشارع كما ورد لفظ (التعزير) و (التوقير) لكن العلماء استعملوه في كلامهم عند هذه المسألة وذلك لقربه في المعنى إلى ذهن السامع، ولتأديته للمعنى المراد من لفظتي (التعزير) و (التوقير). حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لمحمد خليفة التميمي -2/ 419 ¬

(¬1) ((مقاييس اللغة)) (4/ 311). (¬2) ((النهاية)) (3/ 228). (¬3) ((تهذيب اللغة)) (2/ 129 - 130) بتصرف. (¬4) ((تفسبر الطبري)) (9/ 85). (¬5) ((تفسير الطبري)) (9/ 85). (¬6) ((تفسير الطبري)) (26/ 75). (¬7) ((تفسير الطبري)) (9/ 85). (¬8) ((تفسير الطبري)) (26/ 75). (¬9) ((الصارم المسلول)) (ص 422). (¬10) ((معجم مقاييس اللغة)) (6/ 132). (¬11) ((تهذيب اللغة)) (9/ 280). (¬12) ((لسان العرب)) (5/ 291). (¬13) ((تفسير الطبري)) (26/ 74). (¬14) ((تفسير الطبري)) (26/ 74). (¬15) ((تفسير الطبري)) (26/ 75). (¬16) ((تفسير الطبري)) (26/ 75). (¬17) ((الصارم المسلول)) (ص422). (¬18) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 185). (¬19) ((لسان العرب)) (12/ 410 - 411).

المسألة الثانية: وجوب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك

المسألة الثانية: وجوب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وإجلاله، وتوقيره، شعبة عظيمة من شعب الإيمان، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة (¬1) بل إن منزلتها ورتبتها فوق منزلة ورتبة المحبة. ذلك لأنه ليس كل محب معظماً، ألا ترى أن الوالد يحب ولده ولكن حبه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه. والولد يحب والده فيجمع له بين التكريم والتعظيم. والسيد قد يحب مماليكه, ولكنه لا يعظمهم. والمماليك يحبون ساداتهم ويعظمونهم. فعلمنا بذلك أن التعظيم رتبته فوق رتبة المحبة (¬2). فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أن يهاب ويعظم ويوقر ويجل أكثر من كل ولد لوالده, ومن كل عبد لسيده، فهذا حق من حقوقه الواجبة له مما يزيد على لوازم الرسالة, وهو ما أمر الله به في كتابه العزيز قال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9]. وقال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]. فأبان أن حق الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون معزراً موقراً مهيباً. وأخبر سبحانه أن الفلاح إنما يكون لمن جمع بين الإيمان به وتعزيره, ولا خلاف في أن التعزير هاهنا التعظيم (¬3). وفي الجمع الحاصل في الآيتين بين الإيمان به وتعظيمه، تنبيه وإرشاد إلى أن القيام بحقوقه صلى الله عليه وسلم يعد من الإيمان الواجب الذي لا يتم إيمان العبد إلا به. قال الحليمي: (فمعلوم أن حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل, وأعظم, وأكرم, وألزم لنا, وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم, والآباء على أولادهم, لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به لنا أرواحنا, وأبداننا, وأعراضنا, وأموالنا, وأهلينا, وأولادنا في العاجلة، فهدانا به لما إذا أطعناه فيه أدانا إلى جنات النعيم. فأية نعمة توازي هذه النعم, وأية منة تداني هذه المنن. ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعته، وتوعدنا على معصيته بالنار. ووعدنا باتباعه الجنة. فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة، وأي درجة تساوي في العلا هذه الدرجة. فحق علينا أن نحبه, ونجله, ونعظمه, ونهابه أكثر من إجلال كل عبد سيده, وكل ولد والده. وبمثل هذا نطق القرآن, ووردت أوامر الله جل ثناؤه) (¬4). ففي القرآن الكريم آيات كثيرة جاء فيها التأكيد على هذا الحق من حقوقه صلى الله عليه وسلم وبخاصة في جوانب معينة من جوانب تعظيمه ومن تلك الآيات ما يلي: 1 - قوله تعالى: لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] (ففي هذه الآية نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع) (¬5). وروى الطبري بسنده عن مجاهد في تفسيرها فقال: (أمرهم أن يدعوه يا رسول الله في لين وتواضع، ولا يقولوا: يا محمد، في تجهم) (¬6). وعن قتادة قال: (أمرهم أن يفخموه ويشرفوه) (¬7). ¬

(¬1) انظر ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (2/ 124) الشعبة الخامسة عشرة. وكذلك ((الجامع في شعب الإيمان)) للبيهقي (1/ 300) الشعبة الخامسة عشرة. (¬2) ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (2/ 124). (¬3) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (2/ 125) بتصرف. (¬4) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (124 - 125) و ((الجامع لشعب الإيمان)) (302 - 303). (¬5) ((تفسير الطبري)) (18/ 177). (¬6) ((تفسير الطبري)) (18/ 177). (¬7) ((تفسير الطبري)) (18/ 177).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفسيرها: (خص الله نبيه في هذه الآية بالمخاطبة بما يليق به، فنهى أن يقولوا: يا محمد, أو يا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله, وكيف لا يخاطبونه بذلك، والله سبحانه أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحداً من الأنبياء، فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل يقول يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [الأحزاب: 28] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [الأحزاب: 50] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب: 45] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق: 1] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 1 - 2] يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1 - 2] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال: 64]. مع أنه سبحانه قال: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ [البقرة: 35] قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ [البقرة: 33] يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [هود: 76] يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: 144] يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص: 26] يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ [المائدة: 110]) (¬1). وقال رحمه الله: (وإذا كنا في باب العبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين مخاطبته والإخبار عنه. فإذا خاطبناه كان علينا أن نتأدب بآداب الله تعالى حيث قال: لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] فلا تقول يا محمد, يا أحمد، كما يدعو بعضنا بعضاً بل نقول: يا رسول الله، يا نبي الله. والله سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم فقال: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35] يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 11 - 12] يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]. ولما خاطبه صلى الله عليه وسلم قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة: 41] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 10] فنحن أحق أن نتأدب في دعائه وخطابه. ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص 422 - 423).

وأما إذا كنا في مقام الإخبار عنه قلنا: (أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً رسول الله) وقلنا: محمد رسول الله وخاتم النبيين، فنخبر عنه باسمه كما أخبر الله سبحانه لما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح:29] وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] وقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [محمد: 2]. فالفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل (¬1). 2 - وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 1 - 5] فهذه الآيات اشتملت على جملة من الآداب التي أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يجب أن يعاملوا به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير, والاحترام, والتبجيل, والإعظام وهذه الآداب هي: أولاً: أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قال ابن كثير في معناها: (أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي: قبله, بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: ((بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: فإن لم تجد؟ قال رضي الله عنه: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬2). فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقدم بين يدي الله ورسوله) (¬3). ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 297، 298). (¬2) رواه أبو داود (3592)، والترمذي (1327)، وسكت عن أبي داود. وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. وصححه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (9/ 212). وقال الذهبي في ((تلخيص العلل المتناهية)) (269): حسن الإسناد ومعناه صحيح. وقال ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (33/ 69): إسناده جيد. (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 205).

وقال الحليمي عند تعليقه على هذه الآية: (والمعنى لا تقدموا قولاً أو فعلاً بين يدي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر دين أو دنيا، بل أخروا أقوالكم وأفعالكم إلى أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بما يراه, فإنكم إذا قدمتم بين يديه كنتم مقدمين بين يدي الله عز وجل, إذ كان رسوله لا يقضي إلا عنه، وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا عقابه بتقديمكم يين يدي رسول الله ومعاملته بما يوهم الاستخفاف به, ومخالفة شيء مما يأمركم به عن الله بوحي متلو أو بوحي غير متلو إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لما تقدمونه بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، أو تأتونه اقتداء به واتباعاً له، عليم بما يكون منكم من إجلاله أو خلاف ذلك, فهو يجزيكم بما سمعه ويعلمه منكم) (¬1). ولقد تأدب الصحابة مع ربهم ومع رسولهم، فما عاد بعد نزول هذه الآية مقترح منهم يقترح على الله ورسوله، وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدلي به، وما عاد أحد يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم. حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسألهم عن اليوم الذي هم فيه, والمكان الذي هم فيه, وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم. خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله. ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم- سأل في حجة الوداع: ((أي شهر هذا؟ .. قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى. قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس البلدة؟ قلنا بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم, فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا بلى. .. )) (¬2) الحديث. فهذه صورة من الأدب، ومن التحرج، ومن التقوى التي انتهى إليها الصحابة بعد سماعهم ذلك النداء، وذلك التوجيه، وتلك الإشارة إلى التقوى, تقوى الله السميع العليم. ثانياً: أنه حرم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وهذا من باب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث والخطاب, ومن التوقير الذي يجب له، ذلك التوقير الذي ينعكس على نبرات أصوات الصحابة ليتميز بذلك شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم ويميز مجلسه فيهم, فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2]. ¬

(¬1) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (2/ 127). (¬2) رواه البخاري (1741)، ومسلم (1679).

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: (هذا أدب ثانٍ أدب الله تعالى به المؤمنين, أن لا يرفعوا أصواتهم يين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته، وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, فعن ابن أبي مليكة قال: (كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم, فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بن مجاشع, وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع لا أحفظ اسمه فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك, فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ الآية) قال ابن الزبير رضي الله عنه: فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر) (¬1). فقد نهى الله عز وجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً) (¬2). وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام, لأنه محترم حيًّا وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائماً. ثم نهي عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبة من عداه، بل يخاطب بسكينة, ووقار, وتعظيم، ولهذا قال تبارك وتعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ كما قال: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. وقوله عز وجل: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه, فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري, كما جاء في الصحيح: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض)) (¬3). ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك, وأرشد إليه ورغب فيه فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى أي أخلصها لها, وجعلها أهلاً ومحلاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (¬4). وجاء في الكشاف عند تفسير هذه الآيات قوله: (أعاد النداء عليهم- أي في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل، وتحريك هممهم لئلا يفتروا ويغفلوا عن تأملهم, وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم. وذلك لأن في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به، ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملاً بما يحدوه عليه، وارتداعاً بما يصده عنه، وانتهاء إلى كل خير. ¬

(¬1) رواه البخاري (4845). (¬2) رواه البخاري (470). (¬3) رواه البخاري (6478). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 205 - 206).

والمراد بقوله: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته, وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم، حتى تكون ميزته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق (¬1). غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم. وبقوله وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ أنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول البين المقرب من الهمس, الذي لا يضاهي الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم، عاملين بقوله عز شأنه: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وليس الغرض من رفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه، ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضاً رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما كان منهم في حرب، أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدو أو ما أشبهه، فلم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مقيد بصفة أعلى, الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم، وهو الخلو عن مراعاة أبهة النبوة، وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها) (¬2). (ومن البداهة أن هذه الآيات وأمثالها في تأديب الأمة وتعليمها إنما جاءت بأسلوبها المعجز لتفخيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار رفعة قدره المنيف، وسمو منزلته صلى الله عليه وسلم فوق كل منزلة أحد من الخلق، وهي مسوقة في مواضعها من القرآن الكريم لتعليم الأمة أفراداً وجماعات الأدب الأكمل مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يتصل بمخاطبته والتحدث إليه، والإصغاء إلى حديثه، ومجالسته حتى يستشعر المؤمن بقلبه وروحه وكافة إحساساته ومشاعره ما أوجبه الله تعالى من توقيره صلى الله عليه وسلم توقيراً يجلي رفيع قدره، وعظيم مقامه، ويظهر تشريف الله تعالى له بما ميزه به على سائر الخلق، وقد اتفق أهل العلم من أئمة أعلام الأمة على أن حرمته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في حياته) (¬3). ثالثاً: أن الله تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه فقال: أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ , ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ أي: لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة (¬4) , فكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لهم ما يجب عليهم وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم, وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغبهم في المغفرة والرحمة (¬5). ¬

(¬1) معناها كما في ((حاشية ابن المنير على الكشاف)) (4/ 351): قوله (كشية الأبلق) في الصحاح (الشية): لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. وفيه أيضا: اللغط الصوت والجلبة. وفيه الصخب: الصياح والجلبة. (¬2) ((الكشاف)) (3/ 554، 555). (¬3) كتاب ((محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ورسالة)) تأليف محمد الصادق إبراهيم عرجون (4/ 333). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 208). (¬5) ((في ظلال القرآن)) لسيد قطب (6/ 3340) بتصرف يسير.

قال الحليمي: (في هذه الآية يسلي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أخبره من أن الذين يصيحون خارج منزله ولا يصبرون حتى يخرج إليهم إنما حملهم على ذاك جهلهم وقلة عقلهم وأكثرهم لا يهتدون إلى ما يلزمهم من تعظيمك في حال مخاطبتك) (¬1). 3 - وقال تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة: 120]. قال الحليمي: (فأعلمهم أن نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أكرم, وأشرف, وأزكى, وأجمل من أنفسهم، فلا يسعهم من ذلك أن يصرفوا أنفسهم عما لا يصرف نفسه عنه, فيتخلفوا عنه إذا خرج لجهاد أعداء الله معتذرين من شدة حر، أو طول طريق، أو عوز ماء، أو قلة زاد، بل يلزمهم متابعته ومشايعته على أي حال رضيها لنفسه، وفي هذا أعظم البيان لمن عقل، وأبين الدلالة على وجوب تعظيمه وإجلاله وتوقيره) (¬2). 4 - وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب: 53]. فنهاهم سبحانه وتعالى عن أن يعاملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوسع في الانبساط والاسترسال كما يعامل من لا يهاب ولا يتقى، فيدخل بيته بغير إذنه إذا دعاهم إلى طعام لم ينضج، وأحاطوا به منتظرين إدراكه, وإذا حضر الطعام ودخلوا وطعموا لزموا مجالسهم مستأنسين بالمحادثة، وأخبرهم أن ذلك منهي عنه، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تأذى منه ويستحى أن يكلمهم، كما أدبهم فيما ينبغي عليهم تجاه معاملتهم مع أزواجه صلى الله عليه وسلم, وهذا كله مما يدل على ماله صلى الله عليه وسلم من التعظيم, والاحترام. 5 - وقد جاء بعد هذه الآيات الأمر بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]. ووجه إيصال هذه الآية بما قبلها هو أنه لما كان من الواجب على المكلفين تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم برفع الأذى عنه, وإظهار شرفه وكرامته, فذكر الله تعالى القسم الأول- أي رفع الأذى- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ [الأحزاب: 53] إلى آخرها وذكر القسم الثاني- أي إظهار شرفه وكرامته- في هذه الآية الثانية، وبدأ بالأول لأن دفع المفاسد أهم. وأيضاً لما أرشد الله تعالى المؤمنين إلى تعظيمه صلى الله عليه وسلم بتعلم سلوك طريق الأدب معه في أشياء كثيرة تتعلق بحياته وموته إظهاراً لشرفه, وتعظيماً له، عقبه بما يدل على أنه تعالى أيضاً معظم لشأنه أيضاً، وكذلك ملائكته المقربون حملة العرش وحفظته, الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وفيه بيان لمنقبة عظيمة له صلى الله عليه وسلم, فإن الملك قد يأمر بإكرام شخص ولا يكون عنده بمكان, فأزيل هذا التوهم, وبين أنه أكرم الخلق على ربه تعالى .... ¬

(¬1) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (2/ 128). (¬2) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (2/ 126).

6 - وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب: 57 - 58] فالله تعالى من تعظيمه لنبيه صلى الله عليه وسلم حفظ له كرامته, وصان له حقه, ففرق بين أذاه وأذى المؤمنين، فأوجب على من آذى النبي صلى الله عليه وسلم اللعن والطرد من رحمته, وهذا حكم على من آذاه بالكفر, وفي الآخرة له العذاب المهين ومصيره إلى جهنم وبئس المصير. بينما حكم على من آذى المؤمنين بالبهتان والإثم, والفرق يين الحكمين ناتج عن الفرق بين حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في استدلاله بهذه الآية على وجوب قتل من آذى النبي صلى الله عليه وسلم: (ودلالتها من وجوه: أحدها: أنه قرن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم. بين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله ورسوله، وإرضاء الله ورسوله, وطاعة الله ورسوله شيئاً واحداً فقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:24] وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران: 132] في مواضع متعددة، وقال تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] فوحد الضمير، وفي ذلك إشارة إلى أن إرضاء الله إرضاء للرسول, وإرضاء الرسول فيه إرضاء لله، وقال أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وقال أيضاً: يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول الأنفال: 1 [] وجعل شقاق الله ورسوله, ومحادة الله ورسوله, وأذى الله ورسوله, ومعصية الله ورسوله شيئاً واحداً، فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال: 13] وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 20] وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 63] وقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: 14]. وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم ويين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحد منهم طريق غيره، ولا سبب سواه, وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه, وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور. وثانيها: أنه فرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين، ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل. الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً, فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات ولا يكون مباح الدم، لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله، فلا تثبت في حقه ... ) (¬1). ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص 40 - 41).

ومما يوضح ذلك أن سب النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلق به عدة حقوق: أ- حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله, وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة, ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسِل، وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته. ب- وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته, فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به, بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته، فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم, وآبائهم, وأبنائهم, وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم, وأولادهم, وآبائهم, والناس أجمعين. ج- وتعلق به حق رسول الله كلها من حيث خصوص نفسه, فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه, وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة (¬1). 7 - وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 104]. قال بعض المفسرين: هي لغة كانت في الأنصار، نهوا عن قولها تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وتبجيلاً له، لأن معناها ارعنا نرعك، فنهوا عن قولها، إذ مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم، بل حقه أن يرعى على كل حال. وقيل: كانت اليهود تعرض بها للنبي صلى الله عليه وسلم بالرعونة, فنهي المسلمون عن قولها قطعاً للذريعة، ومنعاً للتشبه بهم في قولها لمشاركة اللفظة, وقيل غير هذا (¬2). 8 - وقال تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53]. ففي هذه الآية حرم الله على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده لأن ذلك يؤذيه, وجعله عظيماً عند الله تعظيماً لحرمته صلى الله عليه وسلم، فحرم تعالى على الأمة ما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضاً، وذلك تمييزاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لشأنه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة (¬3). ولو أن أحداً أقدم على هذا الأمر فنكح أزواجه أو سراريه لكانت عقوبته في الشرع هي القتل جزاء له بما انتهك من حرمته, والدليل على ذلك ما رواه مسلم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن رجلاً كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له علي أخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر)) (¬4). ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص393 - 394). (¬2) ((الشفا)) (2/ 591). (¬3) ((الصارم المسلول)) (ص 59). (¬4) رواه مسلم (2771).

قال ابن تيمية رحمه الله: (فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته، ولم يأمر بإقامة حد الزنا، لأن إقامة حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان محصناً رجم، وان كان غير محصن جلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصناً أو غير محصن علم أن قتله لما انتهكه من حرمته ... فلما تبين أنه كان مجبوباً علم أن المفسدة مأمونة منه ... ) (¬1). وبالإضافة إلى ما تقدم، فقد أوجب الله على الأمة احترام أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وجعلهن أمهات في التحريم والاحترام (¬2). فقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ففي هذه الآية رفع الله مقام أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبوأهن منزلة عالية، وهي منزلة الأمومة لجميع المؤمنين، وفي ذلك من الحرمة والاحترام, والتوقير, والإكرام, والإعظام ما يوجب على كل مسلم أن يحفظ لهن هذا الحق ويؤديه على الوجه المطلوب منه شرعاً. وهذه المنزلة لأمهات المؤمنين هي من التشريف والتعظيم الذي أعطاه الله للنبي صلى الله عليه وسلم. 9 - وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 62 - 63]. ففي هاتين الآيتين الكريمتين منهج تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمنين في جميع أمورهم التي تربطهم به صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، وخلع عليه جلابيب حرصه عليهم، وعزة عنتهم عليه .... وجاء في (الكشاف) عند تفسير هذه الآيات: (أراد الله عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه، إذا كانوا معه على أمر جامع فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور: 62] وضمنه شيئاً آخر، وهو أنه جعل الاستئذان كالمصدق بصحة الإيمان, وعرض بالمنافقين وتسللهم لواذاً) (¬3). ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص: 59 - 60). (¬2) ((الصارم المسلول)) (ص: 433). (¬3) ((الكشاف)) (3/ 78) بتصرف يسير.

وبهذه النصوص يتبين للمسلم أن حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل, وأعظم, وأكرم, وألزم لنا وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم, والآباء على أولادهم, لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به لنا أرواحنا, وأبداننا, وأعراضنا, وأموالنا, وأهلينا, وأولادنا في العاجلة، فهدانا به لأمر إذا أطعناه فيه أدانا إلى جنات النعيم، فأية نعمة توازي هذه النعم, وأية منة تداني هذه المنن. ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعته, وتوعدنا على معصيته بالنار، ووعدنا باتباعه الجنة, فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة، وأي درجة تساوي في العلا هذه الدرجة. فحق علينا إذاً أن نحبه, ونجله, ونعظمه, ونهابه، فبهذا نكون من المفلحين: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] فالآية بينت أن الفلاح إنما يكون لمن جمع إلى الإيمان به تعزيره, ولا خلاف أن التعزير هنا التعظيم (¬1) , فلقد سجل الله في هذه الآية الفلاح بأسلوب الحصر للذين تأدبوا بهذا الأدب القرآني الرفيع. وكما قال تعالى في الإنافة بمقامه الأشرف، وبيان حقه على كل مؤمن ومؤمنة: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 8 - 9]. وقد ذهب علماء السلف إلى أن الضمير في قوله جل شأنه: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه: تعظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفخموه في أدب المخاطبة والتحدث إليه ومجالسته. قال ابن تيمية: (فالتسبيح لله وحده، والتعزير والتوقير للرسول، والإيمان بالله ورسوله) (¬2). فهذه الآيات وغيرها نزلت لتبين مقام شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند ربه، مما يوجب على المؤمنين برسالته أن يكونوا في مخاطباتهم معه على سنن الإجلال والتعظيم. حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لمحمد خليفة التميمي -2/ 423 ¬

(¬1) ((شعب الإيمان)) للبيهقي، شعبة التعظيم (1/ 302، 303). (¬2) ((بغية المرتاد)) (ص 504).

المطلب السادس: نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

المطلب السادس: نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم إن مما ينبغي معرفته بعد توضيح معنى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم, وتبيين شروط الشهادة ومراتبها, أن تعرف نواقض هذا الأمر ومبطلاته حتى يحترز المسلم من الوقوع فيها، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ... )) (¬1) الحديث. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية) (¬2). ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أعظم هذه الأمة إيماناً لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير, وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي. ولمعرفة نواقض الإيمان به صلى الله عليه وسلم نقول: لما كان الإيمان به صلى الله عليه وسلم يعني تصديقه وتصديق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، والانقياد له، فإن الطعن في أحد هذين الأمرين ينافي الإيمان ويناقضه. فالنواقض على هذا الاعتبار يمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم. القسم الثاني: الطعن فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو معلوم من الدين بالضرورة، إما بإنكاره أو بانتقاصه. القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم: ومما يدخل تحت هذا القسم نسبة أي شيء للرسول عليه الصلاة والسلام مما يتنافى مع اصطفاء الله له لتبليغ دينه إلى عباده، فيكفر كل من طعن في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم, أو أمانته, أو عفته, أو صلاح عقله ونحو ذلك. كما يكفر من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه, أو نسبه, أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرّض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه, أو التصغير لشأنه, أو الغض منه أو العيب له، فهو ساب له, والحكم فيه حكم الساب يقتل كفراً، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه مالا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام, وهُجر ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو تنقصه ببعض العوارض البشرية الجائزة المعهودة لديه (¬3). فالساب إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم. وإن كان ذمياً فإنه يقتل أيضاً في مذهب مالك وأهل المدينة, وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث, وهو المنصوص عن الشافعي نفسه كما حكاه غير واحد (¬4). وهذا الحكم على الساب والمستهزئ، يستوي فيه الجاد والهازل بدليل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65 - 66]. وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، (فالسب المقصود بطريق الأولى)، وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جاداً أو هازلاً فقد كفر. ¬

(¬1) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847). (¬2) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 90). (¬3) ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 932) بتحقيق علي محمد البجاوي. (¬4) ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 4، 8) بتصرف.

وقد رُوي عن رجال من أهل العلم منهم ابن عمر, ومحمد بن كعب, وزيد بن أسلم, وقتادة- دخل حديث بعضهم في بعض- أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك رجل منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله, إنما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب, نقطع به عناء الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون)) ما يلتفت إليه، ولا يزيده عليه (¬1) (¬2). فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه والعلماء من أصحابه, واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه استهزاء فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟ (¬3). ومن الأدلة على كفر الطاعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً [الأحزاب: 57]. واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً (¬4). وفي هذه الآية قرن الله بين أذى النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه, كما قرن في آيات أخر بين طاعته وطاعة نبيه، وفى هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منهم طريق غيره, ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه, وإخباره وبيانه, فلا يجوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور (¬5). ومن الأدلة الواردة في السنة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله، فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟، قال: نعم ... )) الحديث (¬6). فعلم من هذا الحديث أن من آذى الله ورسوله كان حقه أن يقتل كما قتل كعب بن الأشرف, والأدلة من الكتاب والسنة على هذه المسألة كثيرة ولا مجال لاستيعابها هنا. - الإجماع: وقد أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره. ¬

(¬1) ((تفسبر ابن كثير)) (2/ 367). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (7/ 313) بلفظ مقارب. قال الوادعي في ((الصحيح المسند من أسباب النزول)) (122): رجاله رجال الصحيح إلا هشام بن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد وله شاهد بسند حسن. (¬3) ((الصارم المسلول)) (ص: 31 - 33). (¬4) ((الصارم المسلول)) (ص: 41). (¬5) ((الصارم المسلول)) (ص: 40 - 41) بتصرف. (¬6) رواه البخاري (4037).

وقال الإمام إسحاق بن راهوية أحد الأئمة الأعلام: (أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبياً من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل إليه). وقال الخطابي: (لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله). وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل, ومن شك في كفره وعذابه كفر (¬1). ومن المعلوم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق: 1 - حق الله سبحانه: من حيث كفر برسوله، وعادى أفضل أوليائه, وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل, وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى, وإنكار لكلامه, وأمره, وخبره, وكثير من صفاته. 2 - وتعلق حق جميع المؤمنين: من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم به، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسفارته, فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم, وآبائهم, وأبنائهم, وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم, وأولادهم, وآبائهم, والناس أجمعين. 3 - وتعلق حق رسول الله صلى الله عليه وسلم به: من حيث خصوص نفسه، فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه وعلو قدره قد يكون أعظم عنده من قتله، فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه, وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم, ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة ... (¬2). وبهذا يعلم أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في غيره من الأمور كالكفر والمحاربة. وبما تقدم ذكره من الأدلة يتضح انتقاض إيمان من طعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بسب, أو استهزاء, أو انتقاص سواء كان في ذلك جاداً أو هازلاً. ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص: 3 - 4). (¬2) ((الصارم المسلول)) (ص: 293 - 294).

ويستثنى من ذلك المكره بدليل قوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106] فالآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم, فوافقهم على ذلك مكرهاً وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية، وروى أن مما قاله أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله ما تركت حتى سببتك, وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال: إن عادوا فعد)) (¬1). وفي ذلك أنزل الله: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل ... (¬2). القسم الثاني: من نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم: الطعن فيما أخبر به الرسول لا- مما هو معلوم من الدين بالضرورة- إما بإنكاره أو انتقاصه. فإذا اجتمعت الشروط التالية في المنكر وهي: أ- أن يكون ذلك الأمر المنغص من الأمور التي أجمعت عليها الأمة, وأن يكون من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة: أي أن يكون علمه منتشراً كالصلوات الخمس, وصوم شهر رمضان، وعموم رسالته (¬3). ب- أن لا يكون المنكر حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده, فهذا إذا أنكر شيئاً من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة جهلاً به فإنه لا يكفر (¬4). ج- أن لا يكون المُنكِر مكرهاً على ذلك، فإن المكره له حكم آخر كما قدمنا ذلك. والمُنكِر في هذه الحالة يحكم بكفره وانتقاض إيمانه. والمنتقص لأمور الدين إذا كان غير مكره فإنه يكفر سواء كان جاداً في ذلك أم هازلاً. والأمثلة على هذا القسم كثيرة جداً نذكر منها على سبيل المثال ما يختص بجانب الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم. أولاً: أن يعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه, وأن حكم غيره أحسن من حكمه, كالذين يفضلون القانون الوضعي على حكم الشرع, ويصفون الشريعة الإسلامية بالقصور والرجعية وعدم مسايرة التطور، وهذا من أعظم المناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله. ثانياً: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فهو كافر (¬5). ثالثاً: اعتقاد الإنسان أنه يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا الأمر صورتان: الأولى: أن لا يرى وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا وجوب طاعته فيما أمر به, وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عظيم القدر علماً وعملاً, وأنه يجوز تصديقه وطاعته, ولكنه يقول إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحداً, ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته, وهذا هو قول الفلاسفة الصابئة, وهذا القول لا ريب في كفر صاحبه، فمن نواقض الإسلام أن يعتقد الإنسان عدم كفر المشركين, ويرى صحة مذهبهم، أو يشك في كفرهم. وهذا القول هو الذي ينادي به في وقتنا الحاضر من يدعون إلى وحدة الأديان, ويروج لهم في ذلك الماسونية اليهودية. الثانية: من يرى طلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، وهؤلاء وإن كانوا يعتقدون أنه يجب تصديق الرسول أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك, بل يسلكون مسلكاً آخر إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجدان، وإما من جهة التقليد، وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه وإما أن يردوه إلى ما سلكوه. وإضافة إلى هذه النواقض فإن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ينتقض أيضا بالنواقض العامة الأخرى للإسلام. حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لمحمد خليفة التميمي -1/ 48 ¬

(¬1) رواه الحاكم (2/ 357) والبيهقي (8/ 208، 209). قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 295): إسناده صحيح وزاد بعضهم وفي هذا أنزلت: من كفر بالله من بعد إيمانه .. الآية. وقال ابن حجر في ((الدراية)) (2/ 197): إسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه. وقال الألباني في ((فقه السيرة)) (103): في ثبوت هذا السياق نظر وعلته الإرسال. (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 587، 588) بتصرف. (¬3) انظر: ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (1/ 205). (¬4) انظر: ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (1/ 205). (¬5) ((الجامع الفريد)): (رسالة نواقض الإسلام) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 282).

الفصل الرابع: تعريف العبادة وبيان إطلاقها وأركانها وشروطها

المبحث الأول: تعريف العبادة فالعبادة: الطاعة مع الخضوع – قال الراغب: (العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل) (¬1). وقال الزجاج (ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع) (¬2) وقال الجوهري (أصل العبودية: الخضوع والتذلل) (¬3). ومن التعريف اللغوي السابق يمكن أن يقال عن العبادة الشرعية إنها: الانقياد والخضوع لله تعالى على وجه التقرب إليه بما شرع مع المحبة. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 55 ¬

(¬1) ((مفردات ألفاظ القرآن)) (ص: 542). (¬2) ((لسان العرب)) (3/ 273)، مادة: (عبد). (¬3) ((لسان العرب)) (3/ 271)، مادة: (عبد).

أو كما عرفها ابن تيمية –رحمه الله تعالى-بقوله: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وقال تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] كما قال في الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51] وجعل ذلك لازما لرسوله إلى الموت قال: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى: وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206] وذم المستكبرين عنها بقوله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6] وقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] الآيات ولما قال الشيطان: قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الأعراف:16] قال الله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42] وقال في وصف الملائكة بذلك: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26] إلى قوله: وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28] وقال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:88] وقال تعالى عن المسيح الذي ادعيت فيه الإلهية والنبوة: إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [الزخرف:59] ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى)) (¬1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 10/ 149 ¬

(¬1) رواه البخاري (3445) بلفظ (ابن مريم). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

المبحث الثاني: إطلاقات العبادة

المبحث الثاني: إطلاقات العبادة للعبادة معان بحسب ما تتعلق به، وبحسب كونها مصدراً أو اسماً، وبحسب المتوجه بها إليه، وبحسب ما يلاحظ فيها من حق، فهذه أربعة إطلاقات: الإطلاق الأول: إطلاقات العبادة بحسب ما تتعلق به: فالعبادة من حيث تعلقها بعموم الخلق وخصوصهم تنقسم إلى عبادة عامة كونية وإلى خاصة شرعية (¬1). فالعبادة العامة: هي عبادة القهر والملك وهي تشمل أهل السموات والأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم، فالجميع عبيد مربوبون لله قال الله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 88 - 93] وقد ذكر ابن القيم أن هذا النوع يأتي على خمسة أوجه وهي: 1 - إما منكراً كما في الآية المذكورة سابقاً. 2 - أو معرفاً باللام، كقوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ [غافر: 31]. 3 - أو مقيداً بإشارة أو نحوها، كقوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان: 17]. 4 - أو أن يذكروا في عموم عباده فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر، كقوله تعالى: أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر: 46]. 5 - أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53]. وهذا المثال المذكور في الوجه الخامس لا يسلم من اعتراض كما قال ابن القيم نفسه: (وقد قال: إنما سماهم عباده إذا لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة) (¬2) اهـ. وأما العبادة الخاصة الشرعية، فهي عبادة الطاعة والخضوع والذل والمحبة الاختيارية، وهي خاصة لمن وفقه الله من المكلفين من الأنبياء والمرسلين وعامة المؤمنين بهم. ومن الآيات الواردة فيها قول الله تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68] وقوله: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 17 - 18] والآيات في هذا المعنى كثيرة. الإطلاق الثاني: إطلاقات العبادة بحسب الاسمية والمصدرية: فالعبادة باعتبارها مصدراً تعني التعبد، وهو فعل العابد وتعريفها: (التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه) (¬3) اهـ. وأما باعتبارها اسماً، فهي تعني: المتعبد (¬4) به وتعريفها: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) (¬5). ومن التعريف المذكور في معنى العبادة باعتبارها اسماً يتضح أن للعبادة أربع مراتب وهي: قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح، وهذا معنى قوله: (من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) وقد فصل ابن القيم هذه المراتب فقال: ¬

(¬1) انظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 125). (¬2) ((مدارج السالكين)) (1/ 127). (¬3) هذا التعريف لابن عثيمين في ((المجموع الثمين)) من فتاويه (2/ 25). (¬4) انظر: ((تقريب التدميرية)) لابن عثيمين (ص: 129). (¬5) هذا التعريف لشيخ الإسلام ابن تيمية في ((رسالة العبودية ضمن مجموعة التوحيد)) (2/ 454).

(قول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته ولقائه على لسان رسله. وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره وتبليغ أوامره. وعمل القلب: كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضى به عنه، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والذل له، والخضوع، والإخبات إليه والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب، التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح، ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة. وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك.) (¬1) اهـ. فظهر من هذا أن جميع أمور الديانة من الاعتقادات والإرادات والأقوال والأعمال داخلة في مسمى العبادة. ولما جهل كثير من المتأخرين حقيقة العبادة على الوجه المذكور أعلاه كان من الأفضل زيادة البيان لبعض أنواع العبادة بذكر أمثلة لها – خاصة المتنازع فيها – مع نقل أقوال الأئمة الأعلام وبيانهم أنها من العبادة وأن صرفها لغير الله لا يجوز. ومن هذه الأمثلة: الاستعاذة والاستغاثة والحلف. فالاستعاذة: طلب العوذ – وهي الالتجاء إلى الله تعالى من الشر لإزالته أو دفعه (¬2). والاستغاثة: طلب الغوث، وهي: إزالة الشدة، كالاستنصار وهو طلب النصر. ولا خلاف في أنه تجوز الاستغاثة بالمخلوق فيما كان قادراً عليه من الأمور (¬3) ومنه قول الله تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال: 72] وقوله: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص: 15]. وأما ما لا يقدر عليه إلا الله كغفران الذنوب وإنزال الرزق وكل ما هو من خصائص الربوبية فلا يستغاث فيه إلا بالله جل وعلا. قال الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال: 9]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ [فاطر: 3]. والاستعاذة والاستغاثة نوعان من أنواع الدعاء – والدعاء عبادة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الدعاء هو العبادة)) (¬4) ثم تلا قول الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، ومن أقوال أهل العلم في أن الدعاء عبادة: (قال نعيم بن حماد في كتابه (الرد على الجهمية): دلت هذه الأحاديث على أن القرآن غير مخلوق، إذ لو كان مخلوقاً لم يستعذ بها، إذ لا يستعاذ بمخلوق، قال الله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللهِ [الأعراف: 200] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإذا استعذت فاستعذ بالله)) (¬5) اهـ. ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 120 - 121). وانظر: ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 11). (¬2) انظر: ((فتج المجيد)) (ص: 173). (¬3) انظر: ((فتح المجيد)) (ص: 176)، و ((الدر النضيد)) للشوكاني (ص: 144). (¬4) رواه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3101)، وأحمد (4/ 271) (18415)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 450) (11464)، وابن حبان (3/ 172) (890)، والحاكم (1/ 667). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال النووي في ((الأذكار)) (478): إسناده صحيح. (¬5) لم أقف عليه بهذا اللفظ.

وهذا الكلام ساقه نعيم بن حماد ليدلل على أن القرآن غير مخلوق، وحجته في ذلك ما ورد في الاستعاذة بكلمات الله وأسمائه الحسنى، فلو كانت مخلوقة لم جازت الاستعاذة بها وهذا يؤكد أن هذه المسألة – وهي عدم جواز الاستعاذة بغير الله – كانت معلومة عند الموافق والمخالف، وإلا لما أوردها عليهم. ونظير هذا الاستدلال وهذا القول: قول ابن خزيمة: فإنه قال: (أفليس العلم محيطاً يا ذوي الحجا أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه؟ هل سمعتم عالماً يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله؟ أو يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالصفا والمروة، أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله؟ هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه) (¬1) اهـ. وقد أورد الإمام البخاري في كتابه الصحيح باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها ضمن كتاب التوحيد، ثم ساق فيه تسعة أحاديث، ومقصوده بهذه الترجمة: إثبات أن أسماء الله تعالى غير مخلوقة، لأنه قد وردت الاستعاذة بها والسؤال بها، لأن المخلوق لا يستعاذ به ولا يسأل به. ويؤكد صحة هذا المعنى الذي تدل عليه ترجمته هو أنه أورد في الباب تسعة أحاديث وتاسعها لفظه: ((لا تحلفوا بآبائكم ومن كان حالفاً فليحلف بالله)) (¬2) وقد قال في كتابه خلق أفعال العباد: (¬3) (وليس لأحد أن يحلف بالخواتيم والدراهم البيض وألواح الصبيان التي يكتبونها ثم يمحونها مرة بعد مرة، وإن حلف فلا يمين عليه لقول الله عز وجل فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22]). فهذا نص واضح من الإمام البخاري يفيد أن الحلف بغير الله يعتبر شركاً، وإيراده حديث الأمر بالحلف بالله وحده في باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها يدل على أنه يرى عدم جواز السؤال والاستعاذة بغير الله تعالى، وهذا واضح. والإطلاق الثالث للعبادة: هو باعتبار المتوجه بها إليه: فمن توجه بعبادته لله تعالى كانت هذه العبادة توحيداً، ومن توجه بها إلى غير الله كانت شركاً، فعن الثاني يقول الله جل وعلا فيمن دعا غيره: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: 13 - 14] فدعاؤهم لغير الله عبادة لهم، وسماها الله تعالى شركاً، وهكذا كل عبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك إذا توجه بها صاحبها إلى الله تعالى كان ذلك توحيداً، وإذا صرفها إلى غير الله تعالى كانت شركاً. الإطلاق الرابع للعبادة: باعتبار ما يُلاحظ فيها من حق: فإن العبادة قد تطلق على معنى أخص وهو ما يقابل المعاملات، ولذلك فإن الفقهاء في كتب الفقه يدرجون أبواباً في قسم العبادات وهي: الصلاة والزكاة والصيام والحج، وما عداها في باب المعاملات وهذا لا يعني أن العبادات منحصرة في المذكورات فقط بل تشمل غيرها، بل إن المعاملات نفسها داخلة في مسمى العبادة العام وذلك من جهة التزامها وفق الشرع. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 56 ¬

(¬1) ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 401 - 402). (¬2) رواه البخاري (7401). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) ((خلق أفعال العباد)) (ص: 159).

المبحث الثالث: أركان العبادة

المطلب الأول: الركن الأول كمال الخضوع والذل وهو أن يستكين العبد لله تعالى ويخضع له ويذل. والذل له أربع مراتب كما ذكر ابن القيم: (المرتبة الأولى: مشتركة بين الخلق، وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله، فأهل السموات والأرض جميعاً محتاجون إليه فقراء إليه، وهو وحده الغني عنهم، وكل أهل السموات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحداً. المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الاختيار وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية. والمرتبة الثالثة: ذل المحبة، فإن المحب ذليل بالذات، وعلى قدر محبته له يكون ذله. والمرتبة الرابعة: ذل المعصية والجناية، فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع: كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم، إذ يذل له خوفاً وخشية، ومحبة وإنابة، وطاعة وفقراً وفاقة) (¬1) اهـ. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 65 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 224).

المطلب الثاني: الركن الثاني كمال المحبة

المطلب الثاني: الركن الثاني كمال المحبة فإن الذي يدل على اعتبار كمال الحب مع كمال الذل هو أن أصل التأله: التعبد وهو كما يقول ابن القيم: (التعبد آخر مراتب الحب، يقال: عبده الحب وتيمه إذا ملكه، وذلك لمحبوبه) (¬1) اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل، فالعابد محب خاضع، بخلاف من يحب من لا يخضع له، بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر، وبخلاف من يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم، فإن كلا من هذين ليس عبادة محضة) (¬2) اهـ. ومما يدل على أن هذا الحب ركن لابد منه قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة: 165]. قال ابن القيم: (فأخبر أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية، بخلاف ند المحبة) (¬3) اهـ. فإذا تبين هذا علم أن إفراد الله بالمحبة أصل العبادة، وهذا يستلزم أن يكون الحب كله لله ولأجله وفيه (¬4). ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية حقيقة حب الله وما يحب لله فيقول: (وكل ما أمر الله أن يحب ويعظم فإنما محبته وتعظيمه لله، فالله هو المحبوب المعظم في المحبة والتعظيم، والمقصود المستقر الذي إليه المنتهى، وأما ما سوى ذلك فيحب لأجل الله، أي لأجل محبة العبد لله يحب ما أحبه الله، فمن تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب وبغض بغيضه، ويشهد لهذا الحديث: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) (¬5).) (¬6) اهـ. وشرط صحة المحبة: المتابعة التي لابد فيها من الصدق والإخلاص. ومما يدل على أن أتباع أمر المحبوب واجتناب نهيه لازم للمحبة قول الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31] فجعل الله تعالى أتباعهم لرسوله صلى الله عليه وسلم علامة على صدق محبتهم لله، وجعل حبه لهم مشروطاً بأتباعهم له، فعلم بهذا استحالة ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن المحبة مستلزمة للمتابعة (¬7). فإن لم تتحقق المتابعة والطاعة يكون مدعي المحبة كاذباً في دعواه محبة الله ويكون من الكافرين، وهذا المعنى هو ما قررته الآية التي تلي الآية التي تقدم ذكرها، وهي قول الله تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 32]. ومن العرض السابق يعلم أن للعبادة بمعنى التعبد شرطين هما: معرفة المعبود، ومعرفة دينه. ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (3/ 28). (¬2) ((قاعدة في المحبة ضمن جامع الرسائل)) (2/ 284). (¬3) ((مدارج السالكين)) (3/ 21). (¬4) انظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 119). (¬5) رواه الطبراني (11/ 215) (11537)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 70) (9513) بلفظ: ((أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله)). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 440) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬6) ((قاعدة في المحبة ضمن جامع الرسائل)) (2/ 287 - 288). (¬7) انظر: ((تفسير الطبري)) (6/ 322)، و ((مدارج السالكين)) (1/ 119).

فأما الشرط الأول وهو: معرفة المعبود سبحانه وتعالى فهو واضح جداً، فإنه حتى يتحقق الذل والخضوع للمعبود فإنه يشترط أن تتحقق معرفته، والسبيل إلى ذلك هو العلم بما للمعبود سبحانه من الأسماء والصفات ومعاني الربوبية فإنه (لا تكون العبادة إلا مع المعرفة للمعبود) (¬1). وأما الشرط الثاني: وهو معرفة دينه – فإنه واضح في البيان المتقدم في شرط المحبة – فإن شرطها هو متابعة أوامر المعبود واجتناب نواهيه، وأوامره ونواهيه هي دينه الذي أنزله، ولا يمكن أن تتحقق المتابعة لدينه إلا بعد معرفته، ولذلك كانت معرفة دين الله شرطاً في التعبد. وقد بين ابن القيم مراتب العلم بالله وبدينه بقوله: (فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به. والعلم بدينه مرتبتان: إحداهما: دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه، والثانية: دينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه، وقد دخل في هذا العلم: العلم بملائكته وكتبه ورسله) (¬2) اهـ. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 65 العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له فإن آخر مراتب الحب هو التتيم وأوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة لانصباب القلب إليه ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب ثم العشق وآخرها التتيم يقال تيم الله أي عبد الله فالمتيم المعبد لمحبوبه ومن خضع لإنسان مع بعضه له لا يكون عابدا له ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له كما قد يحب ولده وصديقه ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة وما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلا قال الله تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره [التوبة:24] فجنس المحبة تكون لله ورسوله كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله والإرضاء لله ورسوله والله ورسوله أحق أن يرضوه والإيتاء لله ورسوله وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [التوبة: 59] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 10/ 153 والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام ومنشأ هذين الأصلين .... هما مشاهدة المنة التي تورث المحبة ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرة وغيلة وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - ص11 ولابد في عبادته من أصلين أحدهما: إخلاص الدين له، والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئاً وقال الفضيل بن عياض: في قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [هود:7] قال: أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال: إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 333 ومن لا إخلاص له ولا متابعة فليس عمله موافقا للشرع: وليس هو خالصا للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل ولهم أوفر نصيب من قوله: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188] يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - 1/ 84 ¬

(¬1) ((الفروق في اللغة)) لأبي هلال العسكري (ص: 215). (¬2) ((مدارج السالكين)) (1/ 128).

المبحث الرابع: بيان مستحقها

المبحث الرابع: بيان مُستَحِقِّها الذي يستحق العبادة هو الله جل وعلا وحده دون غيره، فإن العبادة لا تكون إلا للخالق المنعم .... قال الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] وهذا أسلوب يفيد الحصر والاختصاص (¬1)، ومعنى هذه الآية مركب من أمرين: نفي وإثبات، فالنفي: خلع جميع المعبودات بغير حق في جميع أنواع العبادات. والإثبات: إفراد الله تعالى وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع، فقوله: إِيَّاكَ يفيد الحصر: أي لا أحداً سواك، وهذا هو النفي، أما الإثبات ففي قوله: نعبد أي وحدك، وهذا المعنى يستفاد من آيات كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة: 21] فهذا إثبات، ثم ذكر النفي في آخر الآية التالية: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] ومنها قوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ [البقرة: 256]. فالنفي في قوله: (فمن يكفر) والإثبات في قوله: (ويؤمن بالله) (¬2). ومن الآيات الدالة على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه قول الله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87] والمعنى كما قال ابن جرير: (فأي وجه يصرفون عن عبادة الذي خلقهم ويحرمون إصابة الحق في عبادته!) (¬3). وبالجملة فإن العبادة: (لا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى) (¬4) .... وأما سببها الذي تستحق به فهو الاتصاف بصفات الكمال والتنزه عن النقص فالله هو الخالق لجميع الخلق والمسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة، وكلهم مفتقرون إليه ويرغبون نعمته وفضله، فالحاجة والرغبة في نعمته وفضله يبعثان على الانقياد لله والخضوع له (¬5) وبه يعلم أن العبادة: (لا تستحق إلا بغاية الإنعام) (¬6) وقال ابن كثير (إنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22].) (¬7) اهـ. فلما كان هو المالك المتصرف في الأمور كيف شاء، كان له سبحانه أن يأمر بما يشاء وينهى، وإنه سبحانه قد أمر بعبادته وحده لا شريك له ونهى عن عبادة غيره. ويدل على صحة ما ذكرته من السبب الذي تستحق به العبادة ما يذكره الله تعالى من أدلة دالة على استحقاقه وحده العبادة دون غيره، ومن ذلك: بيان أنه الخالق الرازق المنعم، وبيان أن غيره عاجز ضعيف لا يملك شيئاً، وبيان أن الأمر كله له شرعاً وجزاءً ... وبهذا يتضح سبب وقوع بعض الناس في الشرك بالله تعالى، وذلك لظنهم أن غير الله تعالى يكون منعماً بشيء استقلالاً أو له تأثير في التصرف ونحو ذلك فيقع في تعظيمه والخوف منه ورهبته ورجائه، وتلك هي عبادته. والأدلة الدالة على استحقاق الله تعالى العبادة والسبب الذي استحق به العبادة كثيرة، وسأكتفي بذكر دليلين فقط – الأول: في أفضل سورة في القرآن، والثاني: في أعظم آية في القرآن. ¬

(¬1) انظر: ((شرح الكوكب المنير)) (3/ 521)، و ((أضواء البيان)) (1/ 41 - 42). (¬2) انظر: ((أضواء البيان)) (1/ 41 - 42). (¬3) ((تفسير الطبري)) (21/ 655). (¬4) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب (ص: 542). (¬5) انظر: ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص: 88). (¬6) ((الفروق في اللغة)) لأبي هلال العسكري (ص: 215). (¬7) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 57).

فالدليل الأول وهو سورة الفاتحة: فإن قول الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] جاء بعد آيات تضمنت الحمد لله والثناء الحسن له، وأنه رب العالمين المنعم عليهم بأنواع النعم التي لا تحصى، وأنه الرحمن الرحيم بعباده، والمجازي لهم يوم الدين، فمجيء تلك الآية بعد هذه الآيات يدل على أن ما ذكر قبلها سبب في استحقاق الله جل وعلا للعبادة وحده دون سواه، فإنه قد حمد نفسه بما له من الصفات العظيمة، وبين أنه رب العالمين أي سيدهم وخالقهم ومربيهم ومدبر أمرهم، فله أن يأمرهم بما يشاء، وبين أنه الرحمن الرحيم، فهذان اسمان يبعثان على الرغبة فيما عند الله، ويدفعان توهم بعض المشركين من أنه لا يمكن التقرب إلى الله إلا بواسطة لكثرة الذنوب والمعاصي، ثم بين ملكه ليوم الدين فيبعث هذا على عبادة الله وحده لأنه هو المجازي وحده، وهو الذي يملك الشفاعة ولا يشفع عنده أحد إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له. وأما الدليل الثاني وهو: آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن – فإن فيها بيان استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والسبب الذي استحق به العبادة – وبيان ذلك: أن الله تعالى بدأها بأنه هو المستحق للعبادة فقال: اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ثم ذكر بعد ذلك من الصفات ما يدل على أنه بها قد استحق العبادة فقال: الْحَيُّ الْقَيُّومُ فالحي اسم دال على حياة الله الكاملة المقتضية كمال علمه وعزته وقدرته وغير ذلك من صفاته الذاتية، والْقَيُّومُ اسم دال على قيام الله بنفسه وقيامه بخلق الموجودات وإحكامها ورزقها وتدبيرها ثم قال: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ فنفى هذه النقائص ليؤكد كمال ما ذكره من اسميه الْحَيُّ الْقَيُّومُ هذا يقتضي الاعتماد على الله جل وعلا وحده كما قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وقال: أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد: 33] والمعنى كما قال ابن جرير: (أفالرب الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق، متضمن لها، عالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال، رقيب عليهم لا يعزب عنه شيء أينما كانوا كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئاً ولا يدفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضرا ولا يجلب إليهما نفعاً كلاهما سواء؟!) (¬1) اهـ والمقصود هنا ذم من أشرك بالله غيره وهو يعلم أن غيره لا يستحق العبادة، وقد بين الله أنه هو وحده المستحق للعبادة بما ذكره من صفاته سبحانه. ثم بين الله ملكه لكل شيء في آية الكرسي فقال: لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ قال ابن جرير: (وإنما يعني بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه، لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه وليس له خدمة غيره إلا بأمره) (¬2) اهـ. ثم قال الله تعالى بعدها مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ وفيه رد على زعم المشركين بعد إقرارهم ما تقدم في أول آية الكرسي من أن الله هو الخالق والمالك فزعموا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] فبين الله تعالى أنه لا يشفع عنده أحد لأحد إلا بعد تخليته إياه من العذاب وإذنه بالشفاعة لمن يشفع له من رسله وأوليائه وأهل طاعته ثم قال تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ والمقصود بيان وجوب إخلاص الدين لله تعالى الذي هو محيط بكل شيء علماً. ثم بين الله تعالى أن ما سواه لا يعلم شيئاً إلا إذا شاء تعليمه فقال: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء والمقصود بيان أن العبادة لا تنبغي لمن كان جاهلاً (¬3). وهكذا سياق الآية إلى آخرها ... وعليه فإنه يعلم مما تقدم أن لاستحقاق الله وحده العبادة دون سواه سببين: الأول: اتصاف الله جل وعلا بصفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، ومن صفاته: إنعامه وإفضاله على خلقه الباعثان على الرغبة فيما عند الله والقيام بعبادته وشكره، والخوف منه. الثاني: أمره الشرعي، فالله جل وعلا له الملك وله الأمر فهو مالك لخلقه يتصرف فيهم بأمره، وقد أمرهم بعبادته وترك عبادة غيره. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف - بتصرف– 1/ 69 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (16/ 462). (¬2) ((تفسير الطبري)) (5/ 395). (¬3) ((تفسير الطبري)) (12/ 15).

الفصل الخامس: الولاء والبراء

المبحث الأول: تعريف الولاء والبراء الولاء في اللغة: جاء في لسان العرب: الموالاة - كما قال ابن الأعرابي -: أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح، ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه. ووالى فلان فلاناً: إذا أحبه. والمولى: اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو: الرب، والمالك، والسيد والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والعقيد، والصهر، والعبد، والمعتق، والمنعم عليه. ويلاحظ في هذه المعاني أنها تقوم على النصرة والمحبة (¬1) والولاية – بالفتح - في النسب والنصرة والعتق. والموالاة – بالضم - من والى القوم. قال الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) (¬2) يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]. والموالاة ضد المعاداة، والولي ضد العدو، قال تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:45]. قال ثعلب: كل من عبد شيئاً من دون الله فقد اتخذه ولياً. وقوله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ [البقرة:257]. وليهم في نصرهم على عدوهم، وإظهار دينهم على دين مخالفيهم. وقيل: وليهم، أي: يتولى ثوابهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم. والولي: القرب والدنو (¬3). والموالاة: المتابعة. والتولي: يكون بمعنى الإعراض، ويكون بمعنى الاتباع. قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [محمد:38]. أي: أن تعرضوا عن الإسلام. وقوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]. معناه: من يتبعهم وينصرهم (¬4). وقال صاحب (المصباح المنير) الولي: فعيل بمعنى فاعل، من وليه إذا قام به، ومنه قوله تعالى: الله ولي الذين ءامنوا [البقرة:257]. ويكون الولي: بمعنى مفعول، في حق المطيع، فيقال: المؤمن ولي الله. ووالاه موالاة وولاء: من باب (قاتل) أي تابعه (¬5). تعريف البراء في اللغة: قال ابن الأعرابي: بَرِئ إذا تخلص، وبَرِئ، إذا تنزه وتباعد، وبَرِئ: إذا أعذر وأنذر، ومنه قوله تعالى: بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:1] أي: إعذار وإنذار. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما دعاه عمر إلى العمل فأبى قال عمر: (إن يوسف قد سأل العمل، فقال أبو هريرة: إن يوسف مني بريء وأنا منه براء) (¬6). أي برئ عن مساواته في الحكم وأن أقاس به، ولم يرد براءة الولاية والمحبة لأنه مأمور بالإيمان به، انتهى من (النهاية). والبراء والبريء سواء. وليلة البراء: ليلة يتبرأ القمر من الشمس، وهي أول ليلة من الشهر (¬7). ¬

(¬1) ((لسان العرب)) لابن منظور (3/ 985 - 986)، وانظر: ((القاموس المحيط)) (ص294). (¬2) رواه الترمذي (3713)، وأحمد (1/ 118) (950)، والحاكم (3/ 118). من حديث زيد بن الأرقم رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 423) - كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) ((لسان العرب)) (3/ 986). (¬4) ((لسان العرب)) (3/ 988). (¬5) ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 841). (¬6) هذا الأثر ذكره ابن الأثير في كتابه ((النهاية في غريب الأحاديث)) (1/ 112) تحقيق الزاوي والطناحي. (¬7) ((لسان العرب)) (1/ 183)، و ((القاموس المحيط)) (1/ 8).

تعريف الولاء بالمعنى الاصطلاحي: الولاية هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً. قال تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] (¬1). فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم وإظهار الود لهم، بالأقوال والأفعال والنوايا (¬2). تعريف البراء بالمعنى الاصطلاحي: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار. شرح تعريف الولاء والبراء: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الولاية: ضد العداوة: البغض والبعد ... والولي: القريب يقال: هذا يلي هذا: أي يقرب منه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر)) (¬3) أي: لأقرب رجل إلى الميت. فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له. كما قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]. فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه ولهذا جاء في الحديث: ((ومن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)) (¬4) (¬5). ومسمى الموالاة (لأعداء الله): يقع على شعب متفاوتة منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات (¬6). ولما عقد الله الأخوة والمحبة والموالاة والنصرة بين المؤمنين، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى وملحدين ومشركين وغيرهم كان من الأصول المتفق عليها بين المسلمين: أنّ كل مؤمن موحّد تارك لجميع المكفرات الشرعية تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان بخلاف ذلك وجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان. وحيث إن الولاء والبراء تابعان للحب والبغض، فإن أصل الإيمان أن تحب في الله أنبياءه وأتباعهم، وتبغض في الله أعداءه وأعداء رسله (¬7). ¬

(¬1) ((شرح الطحاوية)) (ص403)، و ((تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد)) (ص422). (¬2) كتاب ((الإيمان)) لنعيم ياسين (ص145). (¬3) رواه البخاري (6732)، ومسلم (1615). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6502) بلفظ: ((إن الله قال: من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب .. )). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (1/ 192) بلفظ: (من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 270): رواه الطبراني في ((الأوسط)) وفيه: عمر بن سعيد أبو حفص الدمشقي وهو ضعيف. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1775): ضعيف جداً. وقال في ((السلسلة الصحيحة)) (2/ 384): إسناده ضعيف، مسلسل بالعلل. (¬5) ((الفرقان)) لابن تيمية (ص7). (¬6) انظر: ((الرسائل المفيدة)) للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ص43). (¬7) انظر: ((الفتاوى السعدية)) للشيخ عبدالرحمن بن سعدي (1/ 98).

وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: من أحب في الله، وأبغض في الله ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً (¬1). وإذا كان حبر هذه الأمة يذكر أن مؤاخاة الناس في زمانه قد أصبحت على أمر الدنيا وأن ذلك لا يجدي على أهله شيئاً، وهذا في القرن الذي هو خير القرون: فجدير بالمؤمن أن يعي ويعرف من يحب ومن يبغض، ومن يوالي ومن يعادي ثم يزن نفسه بميزان الكتاب والسنة ليرى أواقف هو في صفّ الشيطان وحزبه أم في صفّ عباد الرحمن وحزب الله الذين هم المفلحون، وما عداهم فأولئك هم الذين خسروا الدنيا والآخرة! وإذا أصبحت المؤاخاة والمحبة على أمر الدنيا - كما قال الصحابي الجليل عبدالله بن عباس - فإن تلك المحبة والمؤاخاة لا تلبث أن تزول بزوال العرض الزائل وحينئذ لا يكون للأمة شوكة ومنعة أمام أعدائها. وفي عصرنا الحاضر عصر المادة والدنيا قد أصبحت محبة الناس في الأغلب على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً. ولن تقوم للأمة الإسلامية قائمة إلا بالرجوع إلى الله والاجتماع على الحب فيه والبغض فيه والولاء له والبراء ممن أمرنا الله بالبراء منه، وعندئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد القحطاني – ص87 ¬

(¬1) رواه محمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 406)، والعدني في ((الإيمان)) (63)، وأورده السيوطي في ((الدر المنثور)) (8/ 87) وقال: وأخرج ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول))، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ثم ذكره بنحوه ... وفيه الليث بن أبي سليم قال عنه ابن حجر في ((تقريب التهذيب)) (2/ 48): صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه.

المبحث الثاني: أهمية الولاء والبراء

المبحث الثاني: أهمية الولاء والبراء إن الولاء والبراء شرط في الإيمان، كما قال سبحانه: تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:83 - 84]. يقول ابن تيمية عن هذه الآية: فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط، وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه ... (¬1). والولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) (¬2). يقول الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب: فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في دين الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (¬3). ويقول الشيخ حمد بن عتيق: فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك، وأكد إيجابه وحرّم موالاتهم وشدد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده (¬4). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فعن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله أبسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم قال: ((أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين)) (¬5). وجاء من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: " قلت يا نبي الله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عددهن - لأصابع يديه - ألا آتيك، ولا آتي دينك، وإني كنت امرءاً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله ورسوله، وإني أسألك بوجه الله عز وجل بما بعثك ربك إلينا؟ قال: بالإسلام، قال: قلت: وما آيات الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي إلى الله عز وجل وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين (¬6). ¬

(¬1) ((الإيمان)) (ص14). (¬2) رواه الطبراني (11/ 215). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2539). (¬3) رسالة ((أوثق عرى الإيمان)) (ص38). (¬4) ((النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الاشراك)) (ضمن مجموعة التوحيد) (ص363). (¬5) رواه النسائي (7/ 148)، وأحمد (4/ 365) (18258). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. (¬6) رواه النسائي (5/ 82)، وأحمد (5/ 4) (20055)، والحاكم (4/ 643). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): حسن.

وما أجمل تلك العبارة التي سطرها أبو الوفاء بن عقيل قائلاً: إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً ... وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب (¬1). وأما معنى الولاء فهو المحبة والمودة والقرب، والبراء هو البغض والعداوة والبعد، والولاء والبراء من أعمال القلوب، لكن تظهر مقتضياتهما على اللسان والجوارح. يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: وأصل الموالاة الحب، وأصل المعادة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال (¬2). والولاء لا يكون إلا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين قال سبحانه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]. فالولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم لإيمانهم، ونصرتهم، والنصح لهم، والدعاء لهم، والسلام عليهم، وزيارة مريضهم، وتشييع ميتهم، وإعانتهم، والرحمة بهم، وغير ذلك (¬3). والبراءة من الكفار تكون ببغضهم - ديناً - ومفارقتهم، وعدم الركون إليهم، أو الإعجاب بهم، والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعاً، وجهادهم بالمال واللسان والسنان، ونحو ذلك من مقتضيات العداوة في الله (¬4). 2 - ولما كانت موالاة الكفار تقع على شعب متفاوتة، وصور مختلفة، لذا فإن الحكم فيها ليس حكماً واحداً، فإن من هذه الشعب والصور ما يوجب الردة، ونقض الإيمان بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من المعاصي (¬5). يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة (¬6). وهذه الموالاة التي تناقض الإيمان، قد تكون اعتقاداً فحسب، وقد تظهر في أقوال وأعمال. والذي يهمنا في هذا المبحث الموالاة العملية، حيث سنورد مسألة مظاهرة الكفار على المسلمين كمثال لتلك الموالاة، وقبل أن نفصل الحديث عن تلك المسألة، فإننا نوضح - باختصار - جملة من الأمثلة على تلك الموالاة العملية، نظراً لعظم خطرها، وسعة انتشارها، وكثرة الوقوع فيها، فنذكر منها ما يلي: ¬

(¬1) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 268). (¬2) ((الدرر السنية)) (2/ 157). (¬3) انظر: تفصيل ذلك في رسالة ((أوثق عرى الإيمان)) لسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (ص49 - 51)، وكتاب ((الولاء والبراء)) لمحمد القحطاني، و ((الموالاة والمعاداة)) لمحماس الجلعود. (¬4) انظر: تفصيل ذلك في رسالة ((أوثق عرى الإيمان)) لسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب (ص49 - 51)، وكتاب ((الولاء والبراء)) لمحمد القحطاني، و ((الموالاة والمعادة)) لمحماس الجلعود. (¬5) انظر: ((الدرر السنية)) (7/ 155, 159, 220)، و ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (3/ 10، 31، 38، 57). (¬6) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (3/ 7).

أ- من أقام ببلاد الكفر رغبةً واختياراً لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين، أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين، فهذا كافر عدو لله ورسوله، لقوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28] (¬1). يقول ابن رشد: فإذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر، ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين، ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليه أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجري علينا أحكامهم في تجارة أو غيرها، وقد كره مالك رحمه الله تعالى أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، وتعبد فيه من دونه الأوثان، ولا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء، مريض الإيمان (¬2). ومما حرره ابن حزم في هذه المسألة قوله: قد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أَبِقَ عن الله تعالى، وعن إمام المسلمين وجماعتهم، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين (¬3) وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]. قال أبو محمد: فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه وغير ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم. وأما من فرّ إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليه، ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره (¬4). ويقول في موضع آخر: من لحق بأرض الشرك بغير ضرورة فهو محارب، هذا أقل أحواله إن سلم من الردة بنفس فراقه جماعة الإسلام، وانحيازه إلى أرض الشرك (¬5). ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:97]: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع (¬6). ولما سئل أحمد بن يحيى الونشريسي عن قوم من الأندلسيين هاجروا من بلادهم الأندلس - وقد كانت دار شرك - إلى دار الإسلام في بلاد المغرب ... ¬

(¬1) انظر: ((الدفاع عن أهل السنة والاتباع)) لحمد بن عتيق (ص12)، و ((الدرر السنية)) (7/ 202). (¬2) ((مقدمات ابن راشد)) (2/ 612, 613). (¬3) الحديث: رواه أبو داود (2645)، والترمذي (1604). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. قال البخاري في ((البدر المنير)) (9/ 163): الصحيح أنه مرسل. وقال ابن حزم في ((المحلى)) (10/ 369): صحيح. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 298): إسناده صحيح. وقال ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (2/ 454): صحيح على طريقة بعض أهل الحديث - كما اشترط على نفسه في المقدمة -. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 408) –كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) ((المحلى)) (13/ 138، 139). (¬5) ((المحلى)) (13/ 31). (¬6) تفسير ابن كثير 1/ 514.

ثم ندموا على تلك الهجرة، وسخطوا وصرحوا بذم دار الإسلام، ومدح دار الكفر وأهله ... فكتب رحمه الله جواباً مبسوطاً عن هذه النازلة، بعنوان: (أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر) (¬1) فأورد النصوص الشرعية في تحريم الموالاة الكفرية، ووجوب الهجرة إلى دار الإسلام ثم قال: وتكرار الآيات في هذا المعنى وجريها على نسق وتيرة واحدة مؤكد للتحريم، ورافع للاحتمال المتطرق إليه، فإن المعنى إذا نُصّ عليه وأُكّد بالتكرار فقد ارتفع الاحتمال لا شك، فتتعاضد هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والاجتماعات القطعية على هذا النهي، فلا تجد في تحريم هذه الإقامة، وهذه الموالاة الكفرانية مخالفاً من أهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فهو تحريم مقطوع به من الدين ... ومن خالف الآن في ذلك أو رام الخلاف من المقيمين معهم والراكنين إليهم، فجوز هذه الإقامة واستخفّ أمرها واستسهل حكمها، فهو مارق من الدين، ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما لا مدفع فيه لمسلم، ومسبوق بالإجماع الذي لا سبيل إلى مخالفته وخرق سبيله (¬2). وجاء في آخر فتواه، قوله للسائل: وما ذكرت عن هؤلاء المهاجرين من قبيح الكلام وسبّ دار الإسلام، وتمني الرجوع إلى دار الشرك والأصنام، وغير ذلك من الفواحش المنكرة التي لا تصدر إلا من اللئام، يوجب لهم خزي الدنيا والآخرة وينزلهم أسوأ المنازل، والواجب على من مكنه الله في الأرض ويسره لليسرى أن يقبض على هؤلاء وأن يرهقهم العقوبة الشديدة، والتنكيل المبرح ضرباً وسجناً حتى لا يتعدوا حدود الله؛ لأن فتنة هؤلاء أشد ضرراً من فتنة الجوع والخوف ونهب الأنفس والأموال، وذلك أن من هلك هنالك فإلى رحمة الله تعالى وكريم عفوه، ومن هلك دينه فإلى لعنة الله وعظيم سخطه، فإن محبة الموالاة الشركية، والمساكنة النصرانية والعزم على رفض الهجرة والركوب إلى الكفار، والرضى بدفع الجزية إليهم، ونبذ العزة الإسلامية، والطاعة الإمامية، والبيعة السلطانية، وظهور السلطان النصراني عليها وإذلاله إياها فواحش عظيمة مهلكة قاصمة للظهر يكاد أن تكون كفراً والعياذ بالله (¬3). ويقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض، ودين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والإلهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين أظهرهم والحالة هذه لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين ... بل لا يصدر عن قلبٍ رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فإن الرضى بهذه الأصول الثلاثة قطب الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وفي قصة إسلام جرير بن عبدالله أنه قال يا رسول الله بايعني واشترط، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تعبدالله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وأن تفارق المشركين)) أخرجه أبو عبدالرحمن النسائي (¬4)، وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام. ¬

(¬1) انظر المعيار المعرب 2/ 119 - 135 (¬2) ((المعيار المعرب)) 2/ 123، 124 = باختصار. (¬3) ((المعيار المعرب)) (2/ 132)، وانظر ما كتبه الونشريسي من مفاسد الإقامة في ديار الكفر في كتابه ((المعيار)) (2/ 137 - 141). (¬4) رواه النسائي (7/ 148)، وأحمد (4/ 365) (18258). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح.

ب- من أطاع الكفار في التشريع والتحليل والتحريم، فأظهر الموافقة في ذلك، فهو كافر وخارج عن الملة، وسنورد بعض النصوص القرآنية في هذا الشأن: يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]. ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية: وتعليق الرد بطاعة فريق منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجاب الاجتناب عن مصاحبتهم بالكلية، فإنه في قوة أن يقال: لا تطيعوا فريقاً ... (¬1). وتأمل قوله تعالى: إِن تُطِيعُواْ .. (فإن هذا الفعل جاء مطلقاً، فحذف المتعلق المعمول فيه، ليفيد تعميم المعنى (¬2)، فالآية الكريمة تحذر أيّما تحذير عن طاعة أهل الكتاب - فضلاً عن غيرهم من أصناف الكفار - في جميع الأحوال وسائر شؤون الحياة. ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ [آل عمران:149]. يقول الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب: عند هذه الآية: أخبر تعالى أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلا بد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر، وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، ولم يرخص في مواقفهم وطاعتهم خوفاً منهم. وهذا هو الواقع فإنهم لا يقتنعون ممن وافقهم إلا بشهادة أنهم على حقٍّ وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين (¬3). ويقول سبحانه وتعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121]. فصرح تعالى بأنهم مشركون في طاعة أولئك الكفار، حينما وافقوهم في تحليل أو تحريم (¬4). وقال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:25, 26]. فهذا النوع من الموالاة كان سبباً في ردة أولئك القوم (¬5)، ولذا يقول ابن حزم: فجعلهم مرتدين كفاراً بعد علمهم الحق، وبعد أن تبيّن لهم الهدى بقولهم للكفار ما قالوا فقط، وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم (¬6). ويقول القاسمي في (تفسيره): ذلك إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم، بِأَنَّهُمْ أي: لسبب أنهم قَالُوا أي: المنافقون الذين كرهوا ما نزل الله أي: اليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ أي بعض أموركم، أو ما تأمرون به ... كما أوضح ذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ [الحشر:11] (¬7). ¬

(¬1) ((تفسير أبي السعود)) (1/ 523). (¬2) انظر توضيح هذه النكته في كتاب ((القواعد الحسان لتفسير القرآن)) لعبدالرحمن السعدي (ص46 - 51). (¬3) ((الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك)) (ص33). (¬4) انظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 83). (¬5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 193). (¬6) ((الفصل)) (3/ 262). (¬7) ((تفسير القاسمي)) (15/ 56).

فتلك الآيات الكريمات قد قررت أن بعضاً من الطاعة لأولئك الكفار هي ردة عن دين الإسلام، كموافقتهم في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو المظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء مفصلاً في كتب التفسير (¬1). ولذا عاقبهم الله تعالى بحبوط الأعمال، كما جاء في الآيات التالية: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 27, 28] ومما سطره يراع الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب - رحمهم الله - عند قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا ... الآية: أخبر تعالى أن سبب ما جرى عليهم من الردة وتسويل الشيطان والإملاء لهم هو قولهم للذين كرهوا ما نزل الله، سنطيعكم في بعض الأمر فإذا كان من وَعَدَ المشركين الكارهين لما نزل الله بطاعتهم في بعض الأمر كافراً، وإن لم يفعل ما وعدهم به، فكيف بمن وافق المشركين وأظهر أنهم على هدى (¬2). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف - 358 ¬

(¬1) انظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (7/ 409)، و ((فتح القدير)) للشوكاني (5/ 39)، و ((تفسير النسفي)) (5/ 512). (¬2) ((الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك)) (50، 51).

المبحث الثالث: عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء

المبحث الثالث: عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: على المؤمن أن يعادي في الله ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه – وإن ظلمه. فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية. قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]. (فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن: أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك. فإن الله سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام والثواب لأوليائه والإهانة والعقاب لأعدائه. (وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة كاللص تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم) (¬1) ولمّا كان الولاء والبراء مبنيين على قاعدة الحب والبغض ... فإن الناس في نظر أهل السنة والجماعة – بحسب الحب والبغض والولاء والبراء – ثلاثة أصناف: الأول: من يحب جملة. وهو من آمن بالله ورسوله، وقام بوظائف الإسلام ومبانيه العظام علماً وعملاً واعتقاداً. وأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله، وانقاد لأوامره وانتهى عما نهى الله عنه، وأحب في الله، ووالى في الله وأبغض في الله، وعادى في الله، وقدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد كائناً من كان (¬2) الثاني: من يحب من وجه ويبغض من وجه، فهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر ومن لم يتسع قلبه لهذا كان ما يفسد أكثر مما يصلح .. وإذا أردت الدليل على ذلك فهذا عبد الله بن حمار (¬3) وهو رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)) (¬4) مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه (¬5). ¬

(¬1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (28/ 208 – 209) (¬2) ((إرشاد الطالب)) لابن سحمان (ص13) (¬3) عبد الله بن حمار هكذا أورده ابن سحمان والموجودة في (صحيح البخاري) (12/ 75) أنه عبد الله، كان يلقب حماراً. وقال ابن حجر: كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكه في كلامه. انظر ((الإصابة)) (4/ 275). (¬4) رواه البخاري (6780). (¬5) رواه الترمذي (1295) , وابن ماجه (3381) , والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 93) ,من حديث أنس رضي الله عنه, قال الترمذي هذا حديث غريب من حديث أنس وقد روي نحو هذا عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 246): رواته ثقات, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/ 698): [فيه] شبيب بن بشر وثقه ابن معين فينبغي إذن تصحيحه, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

الثالث: من يبغض جملة وهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنه كله بقضاء الله وقدره وأنكر البعث بعد الموت، وترك أحد أركان الإسلام الخمسة، أو أشرك بالله في عبادته أحداً من الأنبياء والأولياء والصالحين، وصرف لهم نوعاً من أنواع العبادة كالحب والدعاء، والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل، والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة، والذبح والنذر والإبانة والذل والخضوع والخشية والرغبة والرهبة والتعلق، أو ألحد في أسمائه وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين، وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء المضلة، وكذلك كل من قامت به نواقض الإسلام العشرة أو أحدها (¬1) فأهل السنة والجماعة – إذن – يوالون المؤمن المستقيم على دينه ولاء كاملاً ويحبونه وينصرونه نصرة كاملة، ويتبرؤون من الكفرة والملحدين والمشركين والمرتدين ويعادونهم عداوة وبغضاً كاملين. أما من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيوالونه بحسب ما عنده من الإيمان، ويعادونه بحسب ما هو عليه من الشر. وأهل السنة والجماعة يتبرؤون ممن حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]. ويمتثلون لنهيه تعالى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:23 - 24]. ويلخص الإمام ابن تيمية مذهب أهل السنة والجماعة فيقول: (الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعادة إنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان. قال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 55 - 56]. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]. ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي كما يقول الخوارج والمعتزلة. ¬

(¬1) ((إرشاد الطالب)) (ص19).

ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9 - 10]. فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي. ( ... ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم بشهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم من بعض، ويتوارثون ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك) (¬1) الولاء والبراء القلبي: ومن عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الموضوع أن الولاء القلبي وكذلك العداوة يجب أن تكون كاملة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأما حب القلب وبغضه، وإرادته وكراهته، فينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان، وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل. ذلك أن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله، وبغض الله ورسوله وهذا نوع من الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50]. (¬2) موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب البدع والأهواء: يدخل في معتقد أهل السنة والجماعة البراءة من أرباب البدع والأهواء. والبدعة: مأخوذة من الابتداع وهو الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق ولا مثال احتذي ولا ألف مثله ومنه قولهم: ابتدع الله الخلق أي خلقهم ابتداء ومنه قوله تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة: 117]. وقوله: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9]. أي لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض. وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة وفيما تفعله الجوارح (¬3) قال ابن الجوزي: (البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع. والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان) (¬4) ولقائل أن يقول: ما شأننا الآن وأصحاب البدع لا سيما وأنت تتكلم عن ولاء الكفار والبراء منهم وموالاة المؤمنين ونصرتهم؟؟ والجواب على ذلك: أولاً: أن البدعة خطرها عظيم وكبير، والدليل على ذلك أنها تنقسم إلى رتب متفاوتة ما بين الكفر الصريح إلى الكبيرة والصغيرة، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: (البدعة تنقسم إلى رتب متفاوتة منها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن بقوله: ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (ص 108 –201) الطبعة الأولى سنة 1349 هـ مطبعة المنار بمصر (¬2) ((شذرات البلاتين)) (1/ 354) و ((الأمر بالمعروف لابن تيمية)). (¬3) كتاب ((الحوادث والبدع)) للطرطوشي (38 – 39) تحقيق محمد الطالبي (¬4) ((تلبيس إبليس)) (ص26)

وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136]. وقوله تعالى: وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 139]. وقوله: مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [المائدة: 103]. وكذلك بدعة المنافقين حين اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح) (¬1) وقضية التحليل والتحريم خصوصية لله عز وجل، فمن ادعى التحليل والتحريم فقد شرع ومن شرع فقد أله نفسه. وكما أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق فهو أيضاً صاحب الأمر والسلطان، قال تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54]. وقال سبحانه: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل:116]. فهذه البدعة الكفرية وأمثالها لأصحابها منا العداء والبغض والكره والجهاد بعد الإعذار والإنذار، والبراءة منهم لا تختلف عن البراءة من الكافر الأصلي. فقد قال صلى الله عليه وسلم ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬2). قال البغوي: (وقد اتفق علماء السنة على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم) (¬3) ونعود لرتب البدع كما ذكرها الشاطبي فقال: (ومن البدع ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف فيها هل هي كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة. ومنها ما هو معصية ويتفق على أنها ليست بكفر، كبدعة التبتل (¬4) والصيام قائماً في الشمس والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع. ومنها: ما هو مكروه كالاجتماع للدعاء عشية عرفة، وذكر السلاطين في خطبة الجمعة على ما قاله ابن عبد السلام الشافعي (¬5) وما أشبه ذلك) (¬6) فأرباب هذه البدع يتبرأ منهم أهل السنة والجماعة. ثانياً: لخطورة البدع على الدين أورد هنا نماذج من أقوال سلف الأمة في التحذير من البدع وأصحابها. ومن ذلك ما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث يقول: ¬

(¬1) ((الاعتصام)) (2/ 37) (¬2) رواه البخاري (2697) , ومسلم (1718). (¬3) ((شرح السنة)) (1/ 227) (¬4) التبتل: هو الانقطاع عن الدنيا إلى الله. انظر ((مختار الصحاح)) (ص 53). (¬5) هو سلطان العلماء عبد العزيز السلمي الدمشقي فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد ولد سنة 577 هـ وتوفي سنة 660 هـ من مؤلفاته ((التفسير الكبير))، و ((الإلمام في أدلة الأحكام))، و ((قواعد الشريعة)) و ((قواعد الأحكام)) و ((الفتاوى)). انظر ((الأعلام)) للزركلي (4/ 21) الطبعة الرابعة وفية أن له ترجمة في فوات الوفيات (1/ 287) و ((طبقات السبكي)) (5/ 80) و ((النجوم الزاهرة)) (7/ 208) و ((ذيل الروضتين)) (216) – و ((مفتاح السعادة)) (2/ 212). (¬6) ((الاعتصام)) (2/ 37)

(من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم كانوا على الهدي المستقيم) (¬1). وقال سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. (¬2) وقال الإمام مالك رحمه الله: من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله تعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3]. فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً (¬3) وذكر الشاطبي رحمه الله أن مفاسد البدع تنحصر في أمرين: (1) أنها مضادة للشارع، ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه منصب المستدرك على الشريعة لا منصب المكتفي بما حد له. (2) أن كل بدعة – وإن قلت – تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً، لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير – قل أو كثر – كفر (¬4). ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) (¬5) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) (¬6). وقال أحد علماء السلف: (لا تجالسوا أصحاب الأهواء، أو قال أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون) (¬7). الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد القحطاني – ص138 ¬

(¬1) ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 214). (¬2) ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 216). (¬3) ((الاعتصام)) (2/ 53). (¬4) ((الاعتصام)) (2/ 61) بتصرف بسيط. (¬5) رواه مسلم (867). (¬6) رواه مسلم (2674). (¬7) ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 227).

المبحث الرابع: التشبه بالكفار

المبحث الرابع: التشبه بالكفار لا شك أن الدين الإسلامي ليس حريصاَ على تميز المسلمين في المضمون فحسب وإنما حتى في المظهر العام للمسلم في نفسه وللمجتمع الإسلامي في عمومه. ولذلك كان النهي عن التشبه بالكفار أحد التكاليف الربانية لهذه العقيدة. وقد حفل الكتاب والسنة بأدلة كثيرة حول هذه القضية. لأن التشبه بالكفار في الظاهر يورث التشبه بهم في العقيدة أو مودتهم، ومسايرتهم وموافقتهم على هواهم مما يحدث التميع في حياة المسلم ويجعله إمعة يتبع كل ناعق، والله يريد له العزة والكرامة. وإذا تمعنا في طريقة التربية القرآنية: وجدنا أن الإسلام ربى المسلمين على العقيدة الصحيحة فترة طويلة قبل نزول التكاليف، فلما رست جذور هذه الشجرة المباركة في النفوس جاءت التكاليف واحداً إثر الآخر مما جعل المسلمين يترقون في هذا السلم التربوي الإيماني إلى الذروة. من هنا جاء النهي عن التشبه بالكفار في العهد المدني. وذلك بعد الجهاد من أجل صيانة وحماية المجتمع الإسلامي من كل دخيل، وحرصاً على بناء الشخصية الإسلامية الفريدة. فكما أن هذه العقيدة فريدة في مضمونها وجوهرها فهي أيضاً فريدة في شكلها ومظهرها. لذا وجب على صاحبها أن يكون متميزاً بعد أن أخرجه الله من الظلمات إلى النور. وتجتاح العالم الإسلامي اليوم موجة من التبعية الجارفة في كل شيء، ومن ذلك التشبه بالغرب الكافر من قبل ضعاف الإيمان الذين يرون أن ذلك الفعل هو سبيل التقدم والرقي! وفي هذا يقول الأستاذ محمد أسد (وإن السطحيين من الناس فقط ليستطيعوا أن يعتقدوا أنه من الممكن تقليد مدنية ما في مظاهرها الخارجية من غير أن يتأثروا في الوقت نفسه بروحها. "إن المدنية ليست شكلاً أجوف فقط، ولكنها نشاط حي. وفي اللحظة التي نبدأ فيها. بتقبل شكلها تأخذ مجاريها الأساسية ومؤثراتها الفعالة تعمل فينا، ثم تخلع على اتجاهنا العقلي كله شكلاً ولكن ببطء ومن غير أن نلحظ ذلك. ولقد قدر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاختيار حق قدره حينما قال: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (¬1). وهذا الحديث المشهور ليس إيماءة أدبية فحسب، بل تعبير إيجابي يدل على أن لا مفر من أن يصطبغ المسلمون بالمدنية التي يقلدونها؟ "ومن هذه الناحية قد يستحيل أن نرى الفرق الأساسي بين "المهم" وبين غير المهم في نواحي الحياة الاجتماعية وليس ثمة خطأ أكبر من أن نفترض أن اللباس – مثلاً – شيء خارجي بحت وأن لا خوف منه على "حياة الإنسان" العقلية والروحية. إنه على وجه العموم نتيجة تطور طويل الأمد لذوق شعب ما في ناحية معينة وزي هذا اللباس يتفق مع الإدراك البديعي لذلك الشعب ومع ميوله. لقد تشكل هذا الزي ثم ما فتئ يبدل أشكاله باستمرار حسب التبدل الذي طرأ على خصائص ذلك الشعب وميوله. وبلبس الثياب الأوربية يوافق المسلم من غير شعور ظاهر بين ذوقه والذوق الأوربي ثم يشوه "حياته" العقلية بشكل يتفق نهائياً مع اللباس الجديد وبعمله هذا يكون (المسلم) قد تخلى عن الإمكانيات الثقافية لقومه، وتخلى عن ذوقهم التقليدي، وتقبل لباس العبودية العقلية الذي خلعته عليه المدنية الأجنبية. ¬

(¬1) [1039])) رواه أبو داود (4031) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 471) , من حديث عبد الله بن عمر, وروي من حديث حذيفة وأبي هريرة, وأنس رضي الله عنهم, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 359): إسناده صحيح, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 282): ثابت [و] إسناده حسن, وقال الألباني في ((صحيح أبي داود)): حسن صحيح.

" إذا حاكى المسلم أوروبة في لباسها، وعاداتها وأسلوب حياتها فإنه يتكشف عن أنه يؤثر المدنية الأوربية، مهما كانت دعواه التي يعلنها، وإنه لمن المستحيل عملياً أن تقلد مدنية أجنبية في مقاصدها العقلية والبديعية من غير إعجاب بروحها، وإنه لمن المستحيل أن تعجب بروح مدنية مناهضة للتوجيه الديني، وتبقى مع ذلك مسلماً صحيحاً. (إن الميل إلى تقليد التمدن الأجنبي نتيجة الشعور بالنقص هذا ولا شيء سواه، ما يصاب به المسلمون الذين يقلدون المدنية الغربية) (¬1) وأصل المشابهة: أن الله جبل بني آدم – بل سائر المخلوقات – على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر: كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم. والمشاركة بين بني الإنسان أشد تفاعلاً فلأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم فاكتسب بعضهم، أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة. والمشابهة في الأمور الظاهرة: توجب مشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام (¬2) ثم إن المشاركة في الهدي الظاهر: توجب مناسبة وائتلافاً وإن بعد المكان والزمان وهذا أمر محسوس، بل إنها تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر. وإذا كانت المشابهة في الأمور الدنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ نعم. إنها تقتضي إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد. والمحبة لهم تنافي الإيمان كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. وثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم (¬3) وهنا لابد أن نورد بعض النصوص الكثيرة والمستفيضة من الكتاب والسنة التي نهت عن مشابهة الكفار واتباع أهوائهم. منها قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 18 - 19]. الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد القحطاني – ص 273 قال الله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 16 - 19] ¬

(¬1) [1040])) ((الإسلام على مفترق الطرق)). ترجمة د. عمر فروخ (ص 81 – 83) الطبعة الثامنة سنة 1974م دار العلم للملايين. (¬2) [1041])) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) بتصرف (22) (¬3) [1042])) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) بتصرف (ص 219 - 222)

أخبر سبحانه، أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغياً من بعضهم على بعض. ثم جعل محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. وأهواؤهم: هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه، اتباع لما يهوونه، ولهذا: يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا عظيماً ليحصل ذلك، ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن " من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه " وأي الأمرين كان، حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأول أظهر. وفي هذا الباب قوله سبحانه: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ [الرعد: 36 - 37]. فالضمير في أهوائهم، يعود - والله أعلم - إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئاً من القرآن: من يهودي، ونصراني، وغيرهما. وقد قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة: 120] ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم، إتباع لأهوائهم، بل يحصل إتباع أهوائهم بما هو دون ذلك. ومن هذا - أيضاً - قوله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة: 120]. فانظر كيف قال في الخبر: مِلَّتَهُمْ وقال في النهي: أَهْوَاءهُم، لأن القوم لا يرضون إلا بإتباع الملة مطلقاً، والزجر وقع عن إتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين، نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه، كما تقدم.

ومن هذا الباب قوله سبحانه: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [البقرة: 145 - 150]. قال غير واحد من السلف: معناه، لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، إذ الحجة: اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وهم قريش، فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا، فيوشك أن يعودوا إلى ديننا. فبين سبحانه، أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها، مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذ اتبع في شيء من أمره، كان له في الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة. وقال سبحانه: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] (وهم: اليهود والنصارى، الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته: ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، مع أن قوله: لا تكن مثل فلان، قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى، وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم، وترك مشابهتهم أمر مشروع: ودل على أنه - كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا - كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها، وهذه مصلحة جليلة. وقال سبحانه لموسى وهارون: قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [يونس: 89] وقال سبحانه: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] وقال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] إلى غير ذلك من الآيات.

وما هم عليه من الهدي والعمل، هو من سبيل غير المؤمنين، بل ومن سبيل المفسدين، والذين لا يعلمون، وما يقدر عدم اندراجه في العموم، فالنهي ثابت عن جنسه، فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي، ومقاربته مظنة وقوع المنهي عنه، قال سبحانه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ إلى قوله: وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة: 48 - 49] ومتابعتهم في هديهم، هي من اتباع ما يهوونه، أو مظنة لاتباع ما يهوونه وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه. واعلم: أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه - كثير. مثل قوله، لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2] وقوله: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف: 111] وأمثال ذلك، ومنه ما يدل على مقصودنا، ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود. ثم هذا الذي دل عليه الكتاب: من مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك، دلت عليه - أيضاً - سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأول الآية - على ذلك - أصحابه رضي الله عنهم. فمما جاء في الاستمتاع: حديث لتأخذن كما أخذت الأمم قبلكم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم: ذراعاً بذراع، وشبراً بشبر، وباعاً بباع، حتى لو أن أحداً من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه - قال أبو هريرة: اقرؤا - إن شئتم - كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟)) (¬1). وما أثر عن بعض الصحابة في ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، في هذه الآية، أنه قال: (ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم) (¬2). وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟) (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو يعلى في ((المسند)) (11/ 182) وابن جرير في ((التفسير)) (14/ 341) , ورواه ابن ماجه (3994) بنحوه, قال العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (15): إسناده حسن, قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (7/ 321) , وابن جرير في ((التفسير)) (14/ 342). (¬3) رواه البغوي في ((التفسير)) (4/ 72) قال البزار في ((البحر الزخار)) (5/ 416): [فيه] أبو قيس ليس بالقوي، وقد روى عنه غير واحد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 73): فيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 914): [فيه] ليث بن أبي سليم صدوق ولكنه كان اختلط.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم، وهؤلاء أعلنوه) (¬1). ما أخذ به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة من مشابهة أمته الماضين في الدنيا، وتحذيره من ذلك حديث أبي عبيدة، حين جاء بمال من البحرين وأما السنة: فجاءت بالإخبار بمشابهتهم في الدنيا، وذم ذلك، والنهي عن ذلك، وكذلك في الدين. فأما الأول: الذي هو الاستمتاع بالخلاق: ففي (الصحيحين) - عن عمرو بن عوف: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال: أبشروا، وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) (¬2). فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: أنه لا يخاف فتنة الفقر وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها، وإهلاكها، وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية. خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من فتنة الدنيا: وفي (الصحيحين) - عن عقبة بن عامر: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج يوماً، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض - وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم: أن تتنافسوا فيها)) (¬3). وفي رواية: ((ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتلوا، - فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم)). قال عقبة: ((فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)) (¬4). وفي (صحيح مسلم)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، أو - تتباغضون، أو غير ذلك - ثم تنطلقون إلى مساكين المهاجرين، فتحملون بعضهم على رقاب بعض (((¬5). ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (3/ 134). (¬2) رواه البخاري (4015) ومسلم (2961). (¬3) رواه البخاري (4042) ومسلم (2296) (30) واللفظ لمسلم. (¬4) رواه مسلم (2296) (31). (¬5) رواه مسلم (2962).

وفي (الصحيحين) - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ((جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: إن مما أخاف عليكم بعدي: ما يفتح من زهرة الدنيا، وزينتها، فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله! قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرحضاء وقال: أين هذا السائل؟ - وكأنه حمده - فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر)) - وفي رواية - فقال: ((أين السائل آنفاً أو خير هو؟ - ثلاثاً - إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما ينبت الربيع كما يقتل حبطا، أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت، ثم رتعت - وإن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو، لمن أعطى منه المسكين واليتيم، وابن السبيل -أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة (((¬1). خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من فتنة النساء وأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء وروى مسلم في (صحيحه) - عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله سبحانه، مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) (¬2). فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة النساء، معللاً بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. وهذا نظير ما سنذكره: من حديث معاوية، عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم)) (¬3) يعني وصل الشعر. وكثير من مشابهات أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها، إنما يدعو إليها النساء. ومما جاء في الخوض: حديث افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين ملة. وأما الخوض كالذي خاضوا: فروينا من حديث الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إذا كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (¬4) رواه أبو عيسى والترمذي، وقال: هذا حديث غريب مفسر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وهذا الافتراق مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وسعد ومعاوية، وعمرو بن عوف، وغيرهم، وإنما ذكرت حديث ابن عمرو لما فيه من ذكر المشابهة. ¬

(¬1) رواه البخاري (1465) ومسلم (1052). (¬2) رواه مسلم (2742). (¬3) رواه البخاري (5932) , ومسلم (2127). (¬4) رواه الترمذي (2641) , والحاكم (1/ 218) , قال الترمذي هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه, وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 316): في طريقه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

حديث ثان في افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة: فعن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) (¬1) رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح حديث ثالث: وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)). وقال: ((إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به)) (¬2). هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو، عن الأزهر بن عبد الله الحرازي، عن أبي عامر - عبد الله بن لحي، عن معاوية، رواه عنه غير واحد، منهم أبو اليمان، وبقية وأبو المغيرة، رواه أحمد وأبو داود في ((سننه)). وقد روى ابن ماجه هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي، ويروى من وجوه أخرى، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة، واثنتان وسبعون: لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم. الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين، أو في الدنيا، أو بهما معاً ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا، ثم قد يؤول إلى الدماء، وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط. وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث: هو مما نهى الله عنه في قوله سبحانه: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا [آل عمران: 105]. وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] وقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. حديث: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين: وهو موافق لما رواه مسلم في (صحيحه)، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه: ((أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)) (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4596) والترمذي (2640) وابن ماجه (3991) بنحوه, قال الترمذي حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح, وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬2) رواه أبو داود (4597) , وأحمد (4/ 102) (16979) , والحاكم (1/ 218) , والطبراني ((19/ 376) , قال الحاكم: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث, وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 137): محفوظ من حديث صفوان بن عمرو, وقال الألباني في ((كتاب السنة)) (2): صحيح لغيره. (¬3) رواه مسلم (2890).

حديث: إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وخوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من الأئمة المضلين، وإخباره صلى الله عليه وسلم إنه سيلحق حي من أمته بالمشركين، وتعبد فئام الأوثان، ويخرج فيهم ثلاثون كذابون يزعمون النبوة، وإنه لا تزال طائفة منهم على الحق منصورة. وروى - أيضاً - في (صحيحه) عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي: أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً)) (¬1) ورواه البرقاني في (صحيحه) وزاد: ((وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)) (¬2). وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة، والاختلاف، لا بد من قوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته، لينجو منه من شاء الله له السلامة، كما روى النزال بن سيرة، عن عبد الله بن مسعود قال: ((سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) (¬3) رواه مسلم. ¬

(¬1) رواه مسلم (2889). (¬2) رواه أبو داود (4252) , وابن حبان (7238) والحاكم (4/ 496) , الحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة وإنما أخرج مسلم حديث معاذ بن هشام عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مختصرا, ووافقه الذهبي, وقال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/ 328): ثابت من حديث أيوب عن أبي قلابة وفيه ألفاظ تفرد بها عن النبي ثوبان, وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 142): محفوظ من غير وجه, وصححه السخاوي في ((البلدانيات)) (105) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (¬3) رواه البخاري (2410) , ولم يروه مسلم كما ذكر المصنف رحمه الله.

ومن ذلك: ما روى الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أنه قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن، قلتم - والذين نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، لتركبن سنن من كان قبلكم)) (¬1). رواه مالك والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح - ولفظه ((لتركبن سنة من كان قبلكم)). وقد قدمت ما خرجاه في (الصحيحين) - عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟، قال: فمن)) (¬2). وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها: شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك)) (¬3). وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات. فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى، وفارس والروم - مما ذمه الله ورسوله، وهو المطلوب، ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهي عنه؟ لأن الكتاب والسنة - أيضاً - قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، ففي النهي عن ذلك تكثير هذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فنسأل الله المجيب: أن يجعلنا منها. وأيضاً: لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة، لكان في العلم بها معرفة القبيح، والإيمان بذلك، فإن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير، وإن لم يعمل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم، فإن الإنسان إذا عرف المعروف، وأنكر المنكر: كان خيراً من أن يكون ميت القلب، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))؟ (¬4) رواه مسلم. وفي لفظ: ((ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)). (¬5). ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار: قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 104] قال قتادة وغيره: (كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم) وقال أيضاً: (كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم، راعنا سمعك يستهزؤن بذلك، وكانت في اليهود قبيحة). ¬

(¬1) [1061])) رواه الترمذي (2180) وأحمد (5/ 218) (21950) وابن حبان (15/ 94) والطبراني (3/ 244) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 346) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (2/ 54): [أشار في المقدمة إلى صحته] , وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) [1062])) رواه البخاري (7320). (¬3) [1063])) رواه البخاري (7319). (¬4) [1064])) رواه مسلم (49). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬5) [1065])) رواه مسلم (50). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وروى أحمد عن عطية قال: كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك، حتى قالها ناس من المسلمين، فكره الله لهم ما قالت اليهود (¬1). وقال عطاء: (كانت لغة في الأنصار في الجاهلية). وقال أبو العالية: إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضاً يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك، فنهوا عن ذلك وكذلك قال الضحاك. فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهى المسلمون عن قولها، لأن اليهود كانوا يقولونها - وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة - لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار، وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم. وأما الإجماع فمن وجوه:- - من ذلك أن أمير المؤمنين، عمر في الصحابة رضي الله عنهم، ثم عامة الأئمة بعده، وسائر الفقهاء - جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم، فيما شرطوه على أنفسهم: أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا، إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء، من لباسهم: قلنسوة، أو عمامة أو نعلين، أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رؤوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كان، وأن نشد الزنابير، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر صليباً، ولا كتباً، في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفياً، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين. (¬2) رواه حرب بإسناد جيد. وفي رواية أخرى رواها الخلال: وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً، في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا القراءة في كنائسنا، فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليباً، ولا كتاباً في سوق المسلمين، وأن لا نخرج باعوثاً - والباعوث: يخرجون يجتمعون كما يخرج يوم الأضحى والفطر - ولا شعانينا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن لا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور- إلى أن قال: وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين، في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا. وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة، بين العلماء من الأئمة المتبوعين، وأصحابهم، وسائر الأئمة، كذلك الشروط التي شرطها عمر بن عبد العزيز تقتضي منعهم من التشبه بالمسلمين. وروى - أيضاً - أبو الشيخ بإسناده، عن محمد بن قيس، وسعد بن عبد الرحمن بن حبان قالا: دخل ناس من بني تغلب على عمر بن عبد العزيز عليهم العمائم كهيئة العرب، فقالوا يا أمير المؤمنين ألحقنا بالعرب قال: فمن أنتم؟ قالوا: نحن بنو تغلب، قال أولستم من أوسط العرب؟ قالوا نحن نصارى، قال علي بجلم (¬3)، فأخذ من نواصيهم، وألقى العمائم وشق رداء كل واحد شبراً يحتزم به، وقال: لا تركبوا السروج، واركبوا على الأكف، ودلوا رجليكم من شق واحد. ¬

(¬1) [1066])) رواه ابن جرير في ((التفسير)) (2/ 460). (¬2) [1067])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 202). (¬3) [1068])) الجلم: هو ما يجز به الشعر ونحوه، وهو آلة كالمقص. انظر ((مختار الصحاح))، مادة (ج ل م)، (ص 108).

وعن مجاهد أبي الأسود قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أن لا يضرب الناقوس خارجاً من الكنيسة، وعن معمر: أن عمر بن عبد العزيز كتب: أن امنع من قبلك، فلا يلبس نصراني قباء، ولا ثوب خز، ولا عصب وتقدم في ذلك أشد التقدم، واكتب فيه حتى لا يخفى على أحد نهي عنه، وقد ذكر لي أن كثيراً ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم، وتركوا لبس المناطق على أوساطهم، واتخذوا الوفر والجمام وتركوا التقصيص، ولعمري إن كان يصنع ذلك فيما قبلك، إن ذلك بك ضعف وعجز، فانظر كل شيء كنت نهيت عنه، وتقدمت فيه، إلا تعاهدته وأحكمته ولا ترخص فيه، ولا تعْد عنه شيئاً. فاتفق عمر رضي الله عنه، والمسلمون معه، وسائر العلماء بعدهم ومن وفقه الله تعالى من ولاة الأمور - على منعهم من أن يظهروا في دار الإسلام شيئاً مما يختصون به، مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين، فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها؟. الوجه الثاني من دلائل الإجماع: أن هذه القاعدة قد أمر بها غير واحد من الصحابة والتابعين في أوقات وقضايا متعددة وانتشرت ولم ينكرها منكر من ذلك: نهى أبي بكر عن الصمت لغير سبب لأنه من فعل الجاهلية. فعن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، على امرأة من أحمس، يقال لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال ما لها لا تتكلم؟. قالوا: حجت مصمته، فقال لها تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا عمل الجاهلية، فتكلمت فقالت من أنت؟ قال امرؤ من المهاجرين قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش قالت: من أي قريش؟ قال: إنك لسؤول، وقال: أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت لكم أئمتكم قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف، يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى قال: فهم أولئك على الناس. (¬1) رواه البخاري في (صحيحه). فأخبر أبو بكر: أن الصمت المطلق لا يحل، وعقب ذلك بقوله: هذا من عمل الجاهلية، قاصداً بذلك عيب هذا العمل، وذمه. الوجه الثالث - في تقرير الإجماع: ما ذكره عامة علماء الإسلام من المتقدمين، والأئمة المتبوعين وأصحابهم في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار، أو مخالفة النصارى، أو مخالفة الأعاجم، وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه، وما من أحد له أدنى نظر في الفقه إلا وقد بلغه من ذلك طائفة، وهذا بعد التأمل والنظر، يورث علماً ضرورياً، باتفاق الأئمة، من النهي عن موافقة الكفار والأعاجم، والأمر بمخالفتهم. فمن ذلك: أن الأصل المستقر عليه في مذهب أبي حنيفة: أن تأخير الصلاة أفضل من تعجيلها، إلا في مواضع يستثنونها، كاستثناء يوم الغيم، وكتعجيل الظهر في الشتاء - وإن كان غيرها من العلماء يقولون: الأصل أن التعجيل أفضل - فيستحبون تأخير الفجر والعصر، والعشاء والظهر إلا في الشتاء في غير الغيم. ثم قالوا: يستحب تعجيل المغرب، لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود، وهذا - أيضاً - قول سائر الأئمة، وهذه العلة منصوصة كما تقدم. وقالوا - أيضاً - يكره السجود في الطاق، لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب، من حيث تخصيص الإمام بالمكان، بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق، وهذا - أيضاً - ظاهر مذهب أحمد وغيره، وفيه آثار صحيحة عن الصحابة - ابن مسعود، وغيره. وقالوا: لا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق، أو سيف معلق، لأنهما لا يعبدان، وباعتباره تثبت الكراهة ولا بأس أن يصلي على بساط فيه تصاوير لأن فيه استهانة بالصورة، ولا يسجد على التصاوير لأنه يشبه عبادة الصور، وأطلق الكراهة في الأصل لأن المصلي معظم. ¬

(¬1) [1069])) رواه البخاري (3834).

وقالوا: لو لبس ثوباً فيه تصاوير كره، لأنه يشبه حامل الصنم، ولا يكره تماثيل غير ذوي الروح لأنه لا يعبد. وقالوا - أيضاً -: إن صام يوم الشك ينوي أنه من رمضان كره، لأنه تشبه بأهل الكتاب، لأنهم زادوا في مدة صومهم. وقالوا: فإذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه على هيئتهم حتى يأتوا مزدلفة، لأن فيه إظهار مخالفة المشركين. وقالوا - أيضاً -: لا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة، للرجال، والنساء، للنصوص، ولأنه تشبه بزي المشركين، وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين. وقالوا في تعليل المنع من لباس الحرير في حجة أبي يوسف ومحمد على أبي حنيفة، في المنع من افتراشه وتعليقه والستر به، لأنه من زي الأكاسرة، والجبابرة، والتشبه بهم حرام. قال عمر: إياكم وزي الأعاجم (¬1) وقال محمد في الجامع الصغير: ولا يتختم إلا بالفضة. قالوا: وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر، حرام، للحديث المأثور: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل خاتم صفر فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام؟، ورأى على آخر خاتم حديد فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟)) (¬2). ومثل هذا كثير في مذهب أبي حنيفة وأصحابه. نماذج من أقوال المالكية: وأما مذهب مالك وأصحابه، ففيه ما هو أكثر من ذلك، حتى قال مالك فيما رواه ابن القاسم في المدونة: لا يحرم بالأعجمية ولا يدعو بها ولا يحلف. وقال: ونهى عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال: إنها خب (¬3). قال: وأكره الصلاة إلى حجر منفرد في الطريق وأما أحجار كثيرة فجائز. قال: ويكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد. قال: ويقال من تعظيم الله تعظيم ذي الشيبة المسلم، قيل: فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه؟ قال: أكره ذلك ولا بأس بأن يوسع له في مجلسه، قال: وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس من فعل الجبابرة وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا، فليس هذا من فعل الإسلام، وهو فيما ينهى عنه من التشبه بأهل الكتاب والأعاجم، وفيما ليس من عمل المسلمين، أشد من عمل الكوفيين وأبلغ، مع أن الكوفيين يبالغون في هذا الباب، حتى تكلم أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في لباسهم وأعيادهم. ¬

(¬1) [1070])) رواه ابن حبان (12/ 268) من حديث قتادة عن أبي عثمان بلفظ: (( .... وإياكم والتنعم وزي العجم .... )) قال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) [1071])) رواه أبو داود (4223) , والترمذي (1785) , والنسائي (8/ 172) (5195) وابن حبان (12/ 299) , من حديث بريدة بن الحصيب, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث غريب وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسلم, وقال النسائي في ((السنن الكبرى)) (9442): منكر, وقال البغوي في ((شرح السنة)) (5/ 92): إسناده غريب وحديث سهل أصح, وقال الشوكاني في ((الفتح الرباني)) (8/ 4243): في إسناده عبد الله بن مسلم أبو طيبة السلمي المروزي قال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به, وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)). (¬3) [1072])) روى البيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 234) (18640) , وعبد الرزاق في ((المصنف)) (1/ 411) عن عمر بن الخطاب قال: ((لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم)). قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 511) , وابن القيم في ((أحكام أهل الذمة)) (3/ 1247):إسناده صحيح, وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 417) , وابن كثير في ((مسند الفاروق)) (2/ 494): إسناده صحيح.

وقال بعض أصحاب مالك: من ذبح بطيخة في أعيادهم، فكأنما ذبح خنزيرا، وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا الأصل في غير موضع من مسائلهم، مما جاءت به الآثار، كما ذكر غيرهم من العلماء، مثل ما ذكروه في النهي عن الصلوات في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها - مثل طلوع الشمس وغروبها - ذكروا تعليل ذلك بأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، كما في الحديث: ((إنها ساعة يسجد لها الكفار)) (¬1). وذكروا في السحور وتأخيره: أن ذلك فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، وذكروا في اللباس النهي عما فيه تشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال. وذكروا - أيضاً - ما جاء من أن المشركين كانوا يقفون بعرفات إلى اصفرار الشمس، ويفيضون من جمع بعد طلوع الشمس، وأن السنة جاءت بمخالفة المشركين في ذلك بالتعريف إلى الغروب، والوقوف بجمع إلى قبيل طلوع الشمس، كما جاء في الحديث: ((خالفوا المشركين)) (¬2) و (خالف هدينا هدي المشركين). وذكروا - أيضاً - الشروط على أهل الذمة، منعهم عن التشبه بالمسلمين في لباسهم وغيره، مما يتضمن منع المسلمين أيضاً عن مشابهتهم في ذلك، تفريقاً بين علامة المسلمين وعلامة الكفار. نماذج من أقوال الشافعية: وبالغ طائفة منهم، فنهوا عن التشبه بأهل البدع، فيما كان شعاراً لهم، وإن كان مسنوناً، كما ذكره طائفة منهم في تسنيم القبور، فإن مذهب الشافعي: أن الأفضل تسطيحها. ومذهب أحمد وأبي حنيفة: أن الأفضل تسنيمها. ثم قال طائفة من أصحاب الشافعي، بل ينبغي تسنيمها في هذه الأوقات، لأن الرافضة تسطحها ففي تسطيحها تشبه بهم فيما هو شعار لهم. وقالت طائفة: بل نحن نسطحها، فإذا سطحناها لم يكن تسطيحها شعاراً لهم. فالتفت الطائفتان على النهي عن التشبه بأهل البدع فيما هو شعار لهم، وإنما تنازعوا في أن التسطيح هل يحصل به ذلك أم لا؟. فإن كان هذا في التشبه بأهل البدع، فكيف بالكفار؟. نماذج من أقوال الحنابلة: وأما كلام أحمد وأصحابه في ذلك فكثير جداً، أكثر من أن يحصر، قد قدمنا منه طائفة من كلامه عند ذكر النصوص، عند قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (¬3)، وقوله: ((أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى، لا تشبهوا بالمشركين)) (¬4). قوله: ((إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) (¬5). ¬

(¬1) [1073])) رواه مسلم (832) , من حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه. ولفظه: ( ...... ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ..... ). (¬2) [1074])) رواه البخاري (1684) من حديث عمرو بن ميمون بلفظ: ((شهدت عمر- رضي الله عنه – صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير وأن النبي – صلى الله عليه وسلم- خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس)). (¬3) [1075])) رواه أبو داود (4031) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 471) , من حديث عبد الله بن عمر, وروي من حديث حذيفة وأبي هريرة, وأنس رضي الله عنهم, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 359): إسناده صحيح, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 282): ثابت [و] إسناده حسن, وقال الألباني في ((صحيح أبي داود)): حسن صحيح. (¬4) [1076])) رواه البخاري (5892) ومسلم (259) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بلفظ: ((خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب)). (¬5) [1077])) رواه البخاري (5633).

ومثل قول أحمد: ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب، وقال لبعض أصحابه: أحب لك أن تخضب ولا تشبه باليهود، وكره حلق القفا وقال: هو من فعل المجوس من تشبه بقوم فهو منهم وقال: أكره النعل الصرار، وهو من زي العجم. وكره تسمية الشهور بالعجمية، والأشخاص بالأسماء الفارسية مثل: آذرماه، وقال للذي دعاه: زي المجوس، زي المجوس؟ ونفض يده في وجهه وهذا كثير في نصوصه لا يحصر. وقال حرب الكرماني: قلت لـ أحمد: الرجل يشد وسطه بحبل ويصلي؟ قال: على القباء لا بأس به، وكرهه على القميص، وذهب إلى أنه من زي اليهود، فذكرت له السفر، وأنا نشد ذلك على أوساطنا، فرخص فيه قليلاً، وأما المنطقة والعمامة ونحو ذلك، فلم يكرهه إنما كره الخيط، وقال: هو أشنع. قلت: وكذلك كره أصحابه أن يشد وسطه على الوجه الذي يشبه فعل أهل الكتاب. فأما ما سوى ذلك: فإنه لا يكره في الصلاة على الصحيح المنصوص، بل يؤمر من صلى في قميص واسع الجيب أن يحتزم، كما جاء في الحديث، لئلا يرى عورة نفسه، وقال الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيره، منهم: القاضي أبو يعلى وابن عقيل، والشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي، وغيره، في أصناف اللباس وأقسامه:- ومن اللباس المكروه: ما خالف زي العرب، وأشبه زي الأعاجم وعادتهم، ولفظ عبد القادر: ويكره كل ما خالف زي العرب، وشابه زي الأعاجم. وقال أيضاً أصحاب أحمد وغيرهم، منهم أبو الحسن الآمدي المعروف بـ ابن البغدادي - وأظنه نقله أيضاً عن أبي عبد الله بن حامد -: ولا يكره غسل اليدين في الإناء الذي أكل فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وقد نص أحمد على ذلك، وقال: لم يزل العلماء يفعلون ذلك ونحن نفعله وإنما تنكره العامة، وغسل اليدين بعد الطعام مسنون، رواية واحدة. وإذا قدم ما يغسل فيه اليد، فلا يرفع حتى يغسل الجماعة أيديها لأن الرفع من زي الأعاجم، وكذلك قال الشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي: ويستحب أن يجعل ماء اليد في طست واحد، لما روى في الخبر: ((لا تبددوا يبدد الله شملكم)). وروي ((أنه صلى الله عليه وسلم: نهى أن يرفع الطست حتى يطف)) (¬1) يعني يمتلئ. وقالوا أيضاً - ومنهم أبو محمد عبد القادر - في تعليل كراهة حلق الرأس، على إحدى الروايتين، لأن في ذلك تشبهاً بالأعاجم، وقال صلى الله عليه وسلم:)) من تشبه بقوم فهو منهم) ((¬2). بل قد ذكر طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما: كراهة أشياء لما فيها من التشبه بأهل البدع، مثل ما قال غير واحد من الطائفتين - ومنهم عبد القادر-: ويستحب أن يتختم في يساره للآثار، ولأن خلاف ذلك عادة وشعار للمبتدعة. ¬

(¬1) [1078])) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 2020) والقضاعي في ((المسند)) (1/ 408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترفعوا الطست حتى يطف اجمعوا وضوءكم جمع الله شملكم)) , قال البيهقي في إسناده بعض من يجهل, وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1553). (¬2) [1079])) رواه أبو داود (4031) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 471) , من حديث عبد الله بن عمر, وروي من حديث حذيفة, وأبي هريرة, وأنس رضي الله عنهم, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 359): إسناده صحيح, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 282): ثابت [و] إسناده حسن, وقال الألباني في ((صحيح أبي داود)): حسن صحيح.

وحتى إن طوائف من أصحاب الشافعي، استحبوا تسنيم القبور، وإن كانت السنة عندهم تسطيحها، قالوا: لأن ذلك صار شعاراً للمبتدعة، وليس الغرض هنا تقرير أعيان هذه المسائل، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات، وإنما الغرض بيان ما اتفق عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام. وقد يتردد العلماء في بعض هذه القاعدة، لتعارض الأدلة فيها، أو لعدم اعتقاد بعضهم اندراجه في هذه القاعدة، مثل ما نقله الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن لبس الحرير في الحرب؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس. قال: وسمعت أبا عبد الله يسأل عن المنطقة والحلية فيها؟ فقال: أما المنطقة فقد كرهها قوم، يقولون: من زي العجم، وكانوا يحتجزون العمائم. وهذا إنما علق القول فيه، لأن في المنطقة منفعة عارضت ما فيها من التشبه، ونقل عن بعض السلف أنه كان يتمنطق، فلهذا حكى الكلام عن غيره وأمسك. ومثل هذا هل يجعل قولاً له إذا سئل عن مسألة فحكى فيها جواب غيره ولم يردفه بموافقة ولا مخالفة؟ فيه لأصحابه وجهان: أحدهما: نعم، لأنه لولا موافقته له لما كان قد أجاب السائل، لأنه إنما سأله عن قوله، ولم يسأله أن يحكي له مذاهب الناس. والثاني: لا يجعل بمجرد ذلك قولاً له، لأنه إنما حكاه فقط، ومجرد الحكاية لا يدل على الموافقة. وفي لبس المنطقة أثر، وكلام ليس هذا موضعه. ولمثل هذا - تردد كلامه في القوس الفارسية، فقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القوس الفارسية؟ فقال: إنما كانت قسي الناس العربية ثم قال: إن بعض الناس احتج بحديث عمر رضي الله عنه: ((جعاب وأدم)) (¬1) , قلت: حديث أبي عمرو بن حماس؟ قال: نعم، قال أبو عبد الله يقول: فلا تكون جعبة إلا للفارسية، والنبل فإنما هو قرن. قال الأثرم: قلت لـ أبي عبد الله: في تفسير مجاهد، قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] قال: كالجعبة للنبل، قال: فإن كان يسمي جعبة للنبل، فليس ما احتج به الذي قال هذا بشيء، ثم قال: ينبغي أن يسأل عن هذا أهل العربية. قال أبو بكر: قيل لـ أبي عبد الله: الدراعة يكون لها فرج؟ فقال: كان لـ خالد بن معدان دراعة لها فرج من بين يديها قدر ذراع، قيل لـ أبي عبد الله: فيكون لها فرج من خلفها؟ قال: ما أدري، أما من بين يديها فقد سمعت، وأما من خلفها فلم أسمع، قال: إلا أن في ذلك سعة له عند الركوب ومنفعة. قال: وقد احتج بعض الناس في هذا بقوله تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 60] قال الأثرم: قلت لـ أبي عبد الله: واحتج بهذه الآية بعض الناس في القوس الفارسية، ثم قلت: إن أهل خراسان يزعمون أنه لا منفعة لهم في القوس العربية، وإنما النكاية عندهم للفارسية، قال: كيف!؟ وإنما افتتحت الدنيا بالعربية، قال الأثرم: قلت لـ أبي عبد الله ورأيتهم بالثغر لا يكادون يعدلون بالفارسية قال: إنما رأيت الرجل بالشام متنكباً قوساً عربية. ¬

(¬1) [1080])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (4/ 147) , قال الألباني في ((إرواء الغليل)) (3/ 311): إسناده ضعيف.

وروى الأثرم، عن حفص بن عمر، حدثنا رجاء بن مرجى، حدثني عبد الله بن بشر، عن أبي راشد الحبراني، وأبي الحجاج السكسكي، عن علي قال: ((بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوكأ على قوس له عربية، إذ رأى رجلاً معه قوس فارسية فقال: ألقها فإنها ملعونة، ولكن عليكم بالقسي العربية، وبرماح القنا، فبها يؤيد الله الدين، وبها يمكن لكم في الأرض)) (¬1)، ولأصحابنا في القوس الفارسية ونحوها، كلام طويل، ليس هذا موضعه، وإنما نبهت بذلك على أن ما لم يكن من هدي المسلمين بل هو من هدي العجم أو نحوهم، وإن ظهرت فائدته، ووضحت منفعته، تراهم يترددون فيه، ويختلفون لتعارض الدليلين: دليل ملازمة الهدي الأول، ودليل استعمال هذا الذي فيه منفعة بلا مضرة، مع أنه ليس من العبادات، وتوابعها، وإنما هو من الأمور الدنيوية، وأنت ترى عامة كلام أحمد إنما يثبت الرخصة بالأثر عن عمر أو بفعل خالد بن معدان، ليثبت بذلك أن ذلك كان يفعل على عهد السلف، ويقرون عليه، فيكون من هدي المسلمين، لا من هدي الأعاجم وأهل الكتاب، فهذا هو وجيه الحجة، لا أن مجرد فعل خالد بن معدان حجة. وأما ما في هذا الباب عن سائر أئمة المسلمين، من الصحابة والتابعين وسائر الفقهاء، فأكثر من أن يمكن ذكر عشره، وقد قدمنا في أثناء الأحاديث كلام بعضهم الذي يدل على كلام الباقين، وبدون ما ذكرناه يعلم إجماع الأمة على كراهة التشبه بأهل الكتاب والأعاجم في الجملة، وإن كانوا قد يختلفون في بعض الفروع، إما لاعتقاد بعضهم أنه ليس من هدي الكفار، أو لاعتقاده أن فيه دليلاً راجحاً، أو لغير ذلك، كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة، وإن كان قد يخالف بعضهم شيئاً من ذلك لنوع تأويل، والله سبحانه أعلم. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – 1/ 154 ¬

(¬1) [1081])) رواه أبو داود في ((المراسيل)) (396) وقال: قد أسند هذا الحديث وليس بصحيح, وذكره الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 268) وقال: رواه الطبراني عن شيخه بكر بن سهل الدمياطي قال الذهبي وهو مقارب الحديث وقال النسائي ضعيف، وبقية رجاله رجال الصحيح إلا أنى لم أجد لأبي عبيدة عيسى بن سليم من عبد الله بن بشر سماعا.

المبحث الخامس: العلاقة بين التشبه والولاء

المبحث الخامس: العلاقة بين التشبه والولاء من نافلة القول: أن الشارع ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه، وما ترك شراً إلا حذر الأمة عنه. وحين أمر الشارع الحكيم بمخالفة الكفار – في الهدي الظاهر – فإن ذلك لحكم جليلة (¬1) منها: (1) إن المشاركة في الهدي الظاهر: تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال. وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب الجند المقاتلة – مثلاً – في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضياً لذلك، إلا أن يمنعه من ذلك مانع. (2) إن المخالفة في الهدي الظاهر: توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال. والانعطاف إلى أهل الهدي والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام – لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً، أو باطناً بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة – كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً أو ظاهراً أتم. وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد. (3) إن مشاركتهم في الهدي الظاهر: توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً، لو تجرد عن مشابهتهم. فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالتهم ومعاصيهم. وهذا أصل ينبغي أن يتفطن إليه (¬2). مثال واحد من مشابهة اليهود والنصارى: (العيد): العيد مظهر مميز للأمة، ومن هنا اخترته مثالاً واحداً من أمثلة التشبه باليهود والنصارى، وقد وردت الأدلة الكثيرة المحرمة للتشبه بهم في هذا الشأن من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار (¬3). أما الكتاب فقد قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان: 72]. قال مجاهد في تفسيرها إنها أعياد المشركين وكذلك قال مثله الربيع بن أنس والقاضي أبو يعلى والضحاك (¬4). وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده؟ ومن السنة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر)) (¬5) رواه أبو داود وأحمد والنسائي على شرط مسلم. ¬

(¬1) [1082])) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (11 - 12) (¬2) [1083])) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص12). (¬3) [1084])) أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الموضوع بما يكفي ويشفي في كتابه القيم ((اقتضاء الصراط المستقيم)). ولذا فما أذكره هنا مقتبس من كلامه رحمه الله (¬4) [1085])) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص181). (¬5) [1086])) رواه أبو داود (1134) , وأحمد (3/ 250) (13647) , والحاكم (1/ 434) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال النووي في ((الخلاصة)) (2/ 819): إسناده صحيح, وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 485): إسناده على شرط مسلم, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)).

ووجه الدلالة: أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما ... )) والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه. وهذه العبارة لا تستعمل إلا فيها ترك اجتماعهما كقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [الكهف: 50]. وقوله صلى الله عليه وسلم ((خيراً منهما)) يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية. والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى وأخبروا إن سيفعل قوم منهم هذا المحذور، بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموماً، ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله على ما لا يخفى، إذ الشر الذي له فاعل موجود يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضي له قوي (¬1) أما الإجماع: فما هو معلوم من السير أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم، ومع ذلك لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك. وكذلك ما فعله عمر بخصوص أهل الذمة وما اتفق عليه الصحابة والفقهاء أن أهل الذمة لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وإذا كان هذا اتفاقهم فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟ أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهراً لها؟ وقد قال عمر رضي الله عنه: (إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تتنزل عليهم) رواه أبو الشيخ الأصبهاني ورواه البيهقي بإسناد صحيح (¬2). وأما الاعتبار: فالأعياد من جملة الشرع، والمناهج والمناسك التي قال الله فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48]. فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد: موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه: موافقة في بعض شعب الكفر، بل إن الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره. ولا ريب: أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة (¬3). ثم إن عيدهم من الدين الملعون هو وأهله، فموافقتهم فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه. ومن أوجه الاعتبار أيضاً: (أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيداً لهم، حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر) (¬4). ¬

(¬1) [1087])) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص 184 – 186). (¬2) [1088])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 234) (18640) , وعبد الرزاق في ((المصنف)) (1/ 411) , قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 511) , وابن القيم في ((أحكام أهل الذمة)) (3/ 1247): إسناده صحيح, وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 417) , وابن كثير في ((مسند الفاروق)) (2/ 494): إسناده صحيح. (¬3) [1089])) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص 208) (¬4) [1090])) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص 209).

أما ما ينعكس على نفوسهم إذا تشبه بهم المسلمون في العيد خاصة فهو السرور والفرح لأن في ذلك رفعة لباطلهم وتنافياً لمبدأ القهر والجزية والصغار الواقعين تحته. وخلاصة المشابهة: أنها تفضي إلى كفر أو معصية غالباً، أو تفضي إليهما في الجملة وليس في هذا المفضي مصلحة، وما أفضى إلى ذلك كان محرماً فالمشابهة محرمة، والمقدمة الثانية لا ريب فيها، لأن استقرار الشريعة يدل على أن ما أفضى إلى الكفر غالباً وما أفضى إليه على وجه خفي حرام وما أفضى إليه في الجملة ولا حاجة تدعو إليه حرام (¬1). وبعد أن يتمعن المسلم كل هذه الأحكام بخصوص العيد عليه أن يقيس بمقياس الكتاب والسنة: الأعياد المحدثة اليوم ومن يحدثونها ومن يهنئون بها الكفرة والملاحدة. مثل عيد الثورة! وعيد الجلوس! وعيد الميلاد! وعيد الأم، وعيد تحكيم القانون ونبذ الشريعة وعيد الوطن وعيد الجلاء إلى أخر هذه المسميات والأسماء الجاهلية التي ما أنزل بها من سلطان، والتي هي مضاهاة ومنازعة لشريعة الله وحكمه. فواجب المسلم أن لا يقر بها ولا يهنئ أحداً بها ويكتفي بالعيدين الإسلاميين الفطر والأضحى وفي الأيام الأخرى كالجمعة وغيرها ما يغنينا عن استيراد شعائر وشعارات الكفر وأربابه. صورة مشرقة من صور التميز في المجتمع الإسلامي الأول: كلما عاد الحديث إلى الرعيل الأول كان له حلاوة خاصة تبعث في النفس الأمل والرجاء بالاقتضاء بأولئك العظام، وتحفز الهمم لتشمر عن ساعد الجد فتلحق بركب قافلة الإيمان، ودعاة الهدى والخير. ولقد كانت الشروط العمرية التي وضعها الفاروق رضي الله عنه مثالاً رائعاً في تعامل المسلمين مع غيرهم وتميز أهل الذمة عن المسلمين مما يحفظ على المجتمع الإسلامي شخصيته المستقلة ويرعى لأولئك الذميين حقوقهم التي أمر بها هذا الدين الحنيف. إن الحرص العمري على تميز المسلمين عن غير المسلمين هو عمق هذه العقيدة في نفسه والقيام بمسؤوليته كراع للأمة يعلم أنه مسؤول عنها كما في الحديث الصحيح ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (¬2) متفق عليه. والذي جعلني أختار موضوع أهل الذمة في هذه النقطة بالذات هو أن وضع الذميين في الدولة الإسلامية وضع خاص غير وضع الكفار الحربيين أو المهادنين. وحيث ينشأ ويعيش الذميون وسط المجتمع الإسلامي فإن هذا الشيء يجب أن يكون محاطاً بحصانة خاصة للمسلمين لئلا يؤدي احتكاكهم بالذميين إلى التشبه بهم وذوبان الشخصية الإسلامية التي أراد هذا الدين أن تكون فريدة متميزة في كل شيء. ثم إن من صفات هذا الدين الحنيف العدل حتى مع الكفار، ولكن ما حدود هذا العدل وما سماته؟ خاصة وأنه قد أقر (الذميين) على العيش وسط المجتمع الإسلامي؟ ¬

(¬1) [1091])) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص 216). . (¬2) [1092])) رواه البخاري (893) ومسلم (1829) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

الجواب: هو ما ورد في (الشروط العمرية) التي نصت على حماية المسلمين وكفلت للذميين حقوقهم على أن يكونوا هم أيضاً متميزين بزيهم وديانتهم حتى لا يلتبس المسلم بالذمي: وينتج من ذلك خليط لا يعرف له اتجاه محدد وهوية خاصة. وهذه الشروط – كما يقول عنها شيخ الإسلام ابن تيمية – منها: ما مقصوده التمييز عن المسلمين في الشعور واللباس، والأسماء، والمراكب والكلام ونحوها ليتميز المسلم من الكافر ولا يشبه أحدهما الآخر في الظاهر. ولم يرض عمر رضي الله عنه والمسلمون بأصل التمييز، بل بالتمييز في عامة الهدي وذلك يقتضي: إجماع المسلمين على التميز عن الكفار ظاهراً، وترك التشبه بهم، ولقد كان أمراء الهدى مثل العمرين وغيرهما يبالغون في تحقيق ذلك بما يتم به المقصود. ومنها: ما يعود بإخفاء منكرات دينهم وترك إظهارها، كمنعهم من إظهار الخمر، والناقوس والنيران في الأعياد. ومنها: ما يعود بإخفاء شعار دينهم كأصواتهم بكتابهم. ومنها: ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله (¬1). وإليك نص هذه الشروط: روى سفيان الثوري عن مسروق عن عبدالرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه (ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة، ولا قلاية (¬2)، ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤوا جاسوساً، ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركاً، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سرجاً، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفياً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من محضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين) (¬3). فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق (¬4) انتهى. ولهذه الشروط طرق أخرى في روايتها، ولكنها كلها تلتقي عند هذا المعنى، ولذلك عقب ابن القيم رحمه الله على اختلاف تلك الروايات بقوله: وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها من بعده الخلفاء وعملوا بها (¬5). سبحان الله!!! ¬

(¬1) [1093])) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (122 – 124). (¬2) [1094])) القلاية: مبنى يبنيه النصارى كالمنارة ولا تكون إلا لواحد ينفرد فيها بنفسه ولا يكون لها باب، بل فيها طاقة يتناول منها طعامه وشرابه وما يحتاج إليه. انظر ((أحكام أهل الذمة)) (2/ 668). (¬3) [1095])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 202) , قال الذهبي في ((المهذب)) (7/ 3767): فيه يحيى بن عقبة قال أبو حاتم: يفتعل الحديث وقال النسائي وغيره: ليس بثقة, وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (5/ 103): إسناده ضعيف جدا. (¬4) [1096])) ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/ 661 – 662) (¬5) [1097])) ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/ 663) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص12).

ما هذا البون الشاسع بين تلك القمة وبين هذا الغثاء الذي يعيش اليوم على الأرض متميعاً متسكعاً وراء الكفار والملاحدة. ويحسب نفسه مسلماً؟ أين تلك العزة والقوة والسلطان الرباني الذي أخذ به ذلك الجيل، وأين الضعف والاستخذاء والتبعية العمياء التي يعيشها (المسلمون) اليوم؟ ترى: هل المنتسبون اليوم للإسلام في درجة الذميين الذين طبقت عليهم هذه الشروط؟ هل "المسلمون" اليوم ذميون للكفار؟ إن الذي يظهر لي أنه حتى على هذا الافتراض الأخير فإن المسلمين اليوم أقل قدراً من ذميي الأمس. ذميو الأمس: في صغار وفى ذلة وفي زي معين ومكان معين. نعم. أما مسلمو اليوم ففي صغار وذلة واستكانة عن إسلامهم وتبعية للشرق الملحد والغرب الكافر، وإعجاب وانبهار بما عليه أعداء الإسلام، وسخرية واستهزاء بما كان عليه سلف هذه الأمة! من هنا فهم أحط قدراً عند الله – ما داموا بهذه الصفات – وأحقر من أن يهابوا وأصغر من أن يسمع لهم كلمة في المجتمع الدولي المعاصر. فعلى المسلم الصادق. المسلم الواعي. المسلم المدرك لحقيقة إسلامه أن يعرف أين يضع قدمه ولمن يهب حبه وولاءه، وأن يعلم أن حب أعداء الله وموالاتهم والتشبه بهم لا تلتقي مع صدق إيمانه وإنما يفعل ذلك من يزعم الإسلام زعماً وبئس ذلك الزعم الكاذب. وقد ذكر علماء الإسلام ما ينتقض به عهد الذمي حرصاً على حماية المسلمين من أي دخيل يستغل سماحة الإسلام فيغدر بالمسلمين. وهذه النواقض هي:- (1) الإعانة على قتال المسلمين، وقتل المسلم أو المسلمة. (2) قطع الطريق عليهم. (3) إيواء جواسيس المشركين أو التجسس للمشركين بأن يكتب لهم أسرار المسلمين. (4) الزنا بالمسلمة أو إصابتها باسم النكاح. (5) افتتان المسلم عن دينه. (6) سب الله أو النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). والأدلة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله ووجوب قتله، وقتل المسلم إذا فعل ذلك كثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار (¬2). أما الكتاب: فقوله تعالى: وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ [التوبة: 12]. وقوله تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29]. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 57 – 58]. ¬

(¬1) [1098])) انظر: ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) لابن تيمية (5 - 26). (¬2) [1099])) ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)): والمراد بالاعتبار: القياس.

ومن السنة: ما رواه الشعبي عن علي رضي الله عنه ((أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها)) (¬1) رواه أبو داود وابن بطة في (سننه)، والحديث متصل لأن الشعبي رأى علياً وكان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة. ثم إن كان فيه إرسال – لأن الشعبي يبعد سماعه من علي – فهو حجة وفاقاً، لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل لا يعرفون له مرسلاً إلا صحيحاً (¬2). وأيضاً ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: أنشد رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام " قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم اشهدوا أن دمها هدر)) رواه أبو داود والنسائي (¬3). ومن السنة أيضاً: ما احتج به الشافعي على أن الذمي إذا سب قتل وبرئت منه الذمة وهو قصة كعب بن الأشرف اليهودي. والحديث متفق عليه (¬4). وأما إجماع الصحابة: فقد نقل ذلك عنهم في قضايا متعددة مستفيضة ولم ينكرها أحد فصارت إجماعاً ومن ذلك: ما رفع إلى المهاجر بن أبي أمية، وكان أميراً على اليمامة ونواحيها: أن امرأتين مغنيتين غنت أحدهما بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع يدها ونزع ثنيتيها وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيتيها، فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي غنت وزمزمت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر (¬5). ¬

(¬1) [1100])) رواه أبو داود (2/ 533) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 200) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/ 380): رجاله رجال الصحيح, وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (5/ 91): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) [1101])) ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) (ص61). (¬3) [1102])) رواه أبو داود (4361) , والنسائي (7/ 107) (4070) , والدارقطني (3/ 112) , والطبراني (11/ 351) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (363): رواته ثقات, وقال الشوكاني في ((الدراري المضية)) (406): رجال إسناده ثقات, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) [1103])) رواه البخاري (4037) ومسلم (1801). (¬5) [1104])) انظر ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) (ص 200).

وفي عهد عمر رضي الله عنه: جاءه رجل من أهل الكتاب – حين دخل الشام – وهو مشجوج مضروب فغضب لذلك عمر وأمر بإحضار عوف بن مالك الأشجعي لأنه هو الذي فعل ذلك بالذمي فلما سأله عمر عن فعله هذا قال: يا أمير المؤمنين رأيت هذا يسوق بامرأة مسلمة على حمار فنخس بها لتصرع، فلم تصرع، فدفعها فصرعت فغشيها، وأكب عليها، فقال عمر ائتني بالمرأة فلتصدق على ما قلت فأتاها عوف، فذهب معه أبوها وزوجها فأخبر عمر بمثل قول عوف، فأمر عمر باليهودي فصلب وقال: ما على هذا صالحناكم ثم قال: يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم مثل هذا فلا ذمة له (¬1). وأما الاعتبار: فمن وجوه: (¬2) أحدها: أن عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة، فكان نقضاً للعهد كالمجاهدة والمحاربة بطريق الأولى. الثاني: - إن مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي أن يكفوا ويمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا، وشتم رسولنا، كما يقتضي الإمساك عن دمائنا ومحاربتنا. الثالث: إن الله فرض علينا تعزيز رسوله وتوقيره، وتعزيزه: نصره ومنعه، وتوقيره: إجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق. فلا يجوز أن نصالح أهل الذمة، وهم يسمعونا شتم نبينا وإظهار ذلك، لأنا إذا تركناهم على هذا تركنا الواجب علينا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد القحطاني – 322 قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومشاركتهم في الظاهر: إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً، أو بعيداً إلى نوع ما من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة المباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة - كما توجبه الطبيعة، وتدل عليه العادة - ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات. فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، (عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً قال مالك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. ألا اتخذت حنيفاً؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه. قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله) (¬3). كما جاء القرآن بالنهي عن موالاة الكفار ومودتهم، وكذلك جاءت السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين، وأجمع الفقهاء عليها. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – 1/ 164 ¬

(¬1) [1105])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 201) من حديث سويد بن غفلة, وقال: تابعه ابن أشوع عن الشعبى عن عوف بن مالك, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 217): معروف, وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 344): إسناده صحيح, وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (5/ 120): فقد قال البيهقي عقبه: " تابعه ابن أشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك ". قلت: فهو بهذه المتابعة حسن إن شاء الله تعالى. (¬2) [1106])) رواه البخاري (5633). (¬3) [1107])) الحديث لم أجده في ((المسند)) ورواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 127) ,بلفظ آخر, قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 184): إسناده صحيح,

وقال رحمه الله: أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة، وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى أن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة، كان بينهما من المودة، والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين، وذاك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر، أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب، أو الشعر، أو المركوب ونحو ذلك - لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً، ما لا يألفون غيرهم، حتى أن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة: إما على الملك، وإما على الدين، وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء، وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض، وهذا كله موجب الطباع ومقتضاه، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص. فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية، تورث المحبة والموالاة لهم، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ [المائدة: 15 - 53]. وقال تعالى فيما يذم بها أهل الكتاب: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 78 - 81]. فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال سبحانه: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22]. فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة، فتكون محرمة، ... ، وأعلم أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة، فلنقتصر على ما نبهنا عليه. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – 1/ 488

المبحث السادس: الفرق بين الموالاة وبين المعاملة بالحسنى

المبحث السادس: الفرق بين الموالاة وبين المعاملة بالحسنى أن الولاء شيء والمعاملة بالحسنى شيء آخر والأصل في هذا قوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. وقد اختلف أهل العلم في تفسيرها فقال بعضهم أن المعني بها: الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا فأذن الله للمؤمنين ببرهم والإحسان إليهم وإلى هذا ذهب مجاهد. وقال آخرون: عني بها من غير أهل مكة من لم يهاجر. وقال آخرون: بل عني بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجوهم من ديارهم ونسخ الله ذلك بعد بالأمر بقتالهم. ويروى هذا عن قتادة (¬1). ورجح ابن جرير: أن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم. لأن الله عز وجل عم بقوله: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ. لأن بر المؤمن أحداً من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينهما ولا نسب غير محرم، ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. ويبين ذلك الخبر المروي عن ابن الزبير في قصة أسماء مع أمها (¬2). والإسلام بفعله هذا – حتى في حالة الخصومة – يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع (¬3). ... إن الله أمر بصلة الأقارب الكفار والمشركين و ... ذلك ليس موالاة لهم في شيء. ونزيد هذا الأمر إيضاحاً بقصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها مع أمها فقد روى البخاري ومسلم عن أسماء رضي الله عنها قالت: ((قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك)) (¬4). قال الخطابي: فيه – أي الحديث – أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلماً (¬5). قال ابن حجر: البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22]. فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل (¬6). ¬

(¬1) [1108])) ((تفسير الطبري)) (28/ 66) (¬2) [1109])) ((تفسير الطبري)) (28/ 66) (¬3) [1110])) انظر ((الظلال)) (6/ 3544) (¬4) [1111])) رواه البخاري (2620) ومسلم (1003). (¬5) [1112])) ((فتح الباري)) (5/ 234) (¬6) [1113])) ((فتح الباري)) (5/ 233)

وقال ابن القيم: الذي يقوم عليه الدليل وجوب الإنفاق، وإن اختلف الدينان لقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 14 –15]. وليس من الإحسان ولا من المعروف ترك أبيه وأمه في غاية الضرورة والفاقة وهو في غاية الغنى. وقد ذم الله قاطعي الرحم وعظم قطيعتها وأوجب حقها وإن كانت كافرة لقوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]. وفي الحديث ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) (¬1). وصلة الرحم واجبة، وإن كانت لكافر، فله دينه وللواصل دينه وقياس النفقة على الميراث قياس فاسد، فإن الميراث مبناه على النصرة والموالاة بخلاف النفقة فإنها صلة ومواساة من حقوق القرابة. وقد جعل الله للقرابة حقاً – وإن كانت كافرة – فالكفر لا يسقط حقوقها في الدنيا. قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء: 36]. وكل من ذكر في هذه الآية فحقه واجب وإن كان كافراً، فما بال ذي القربى وحده يخرج من جملة من وصى الله بالإحسان إليه (¬2). من هنا: يتضح لنا: أن الموالاة الممثلة في الحب والنصرة شيء. والنفقة والصلة والإحسان للأقارب الكفار شيء آخر. وسماحة الإسلام أيضاً تتضح في معاملة الأسرى والشيوخ والأطفال والنساء في الحرب. كما هو معلوم من صفحاته المشرقة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الأصل أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه، كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا مما دل الكتاب والسنة على شرعه. إذ الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرمه الله، بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دون الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله (¬3). وانطلاقاً من هذه القاعدة وبناء على النصوص الشرعية وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الراشدين وأئمة المسلمين نقول: إن التعامل مع الكفار في البيع والشراء والهدية وخلاف ذلك لا يدخل في مسمى الموالاة، بل يباح للمسلم البيع والشراء مع الكفار فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يسأل عن معاملة التتار فيقول: (يجوز فيها ما يجوز في معاملة أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم في معاملة أمثالهم، فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم وخيلهم ونحو ذلك كما يبتاع من مواشي الأعراب والتركمان والأكراد ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك ما يبيعه لأمثالهم. فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات، كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالاً محرماً فهذا لا يجوز قال تعالى: ¬

(¬1) [1114])) رواه البخاري (5984) ومسلم (2556) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. (¬2) [1115])) ((أحكام أهل الذمة)) (2/ 417 – 418). (¬3) [1116])) ((السياسة الشرعية)) (ص 155).

وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2]. وإذا كان الذي معهم أو مع غيرهم، أموال يعرف أنهم غصبوها من معصوم فذلك لا يجوز اشتراؤها لمن يمتلكها لكن إذا اشتريت على طريق الاستنقاذ لتصرف في مصارفه الشرعية فتعاد إلى أصحابها – إن أمكن – وإلا صرفت في مصالح المسلمين: جاز هذا. وإذا علم أن في أموالهم شيئاً محرماً لا تعرف عينه، فهذا لا تحرم معاملتهم فيه كما إذا علم أن في الأسواق ما هو مغصوب ومسروق ولم يعلم عينه) (¬1). وقد روى البخاري في كتاب البيوع باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب عن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعان (¬2) طويل بغنم يسوقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بيعاً أم عطية) أو قال: أم هبة؟ فقال: لا. بيع فاشترى منه شاة)) (¬3). قال ابن بطال: معاملة الكفار جائزة إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين (¬4) وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه أخذ من يهودي ثلاثين وسقاً من شعير ورهنه درعه)) (¬5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: - (وإذا سافر الرجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام وهي حينذاك دار حرب وغير ذلك من الأحاديث. فأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم: فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم، وهو مبني على أصل وهو: أنه لا يجوز أن يبيع الكفار عنباً أو عصيراً يتخذونه خمراً. وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحاً يقاتلون به مسلماً) (¬6). (2) الوقف عليهم أو وقفهم على المسلمين: قال ابن القيم: (أما ما وقفوه. فينظر فيه، فإن وقفوه على معين أو جهة يجوز للمسلم الوقف عليها كالصدقة على المساكين والفقراء وإصلاح الطرق والمصالح العامة، أو على أولادهم وأنسالهم وأعقابهم: فهذا الوقف صحيح. حكمه حكم وقف المسلمين على هذه الجهات لكن إذا شرط في استحقاق الأولاد والأقارب بقاءهم على الكفر- فإن أسلموا لم يستحقوا شيئاً- لم يصح هذا الشرط، ولم يجز للحاكم أن يحكم بموجبه باتفاق الأمة لأنه مناقض لدين الإسلام، مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. أما وقف المسلم عليه: فإنه يصح منه ما وافق حكم الله ورسوله، فيجوز أن يقف على معين منهم، أو على أقاربه، وبني فلان ونحوه. ¬

(¬1) [1117])) ((المسائل الماردينية)) (ص 132 – 133) تحقيق الشاويش الطبعة الثالثة سنة 1399هـ (¬2) [1118])) أي طويل مشعث الشعر. (¬3) [1119])) رواه البخاري (2216) ومسلم (2056). (¬4) [1120])) ((فتح الباري)) (4/ 410) (¬5) [1121])) رواه أحمد (2724) , والطبراني (11/ 268) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (6/ 36) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (4/ 272) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما, قال ابن جرير في ((مسند ابن عباس)) (1/ 239): اسناده صحيح, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 126): رجاله موثوقون, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 256): إسناده صحيح, وصححه مقبل الوادعي في ((الصحيح المسند)) (612). وروى البخاري (2513) نحوه من حديث عائشة بلفظ: (اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما ورهنه درعه). (¬6) [1122])) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص 229).

ولا يكون الكفر موجباً ولا شرطاً في الاستحقاق ولا مانعاً منه – فلو وقف على ولده أو أبيه أو قرابته استحقوا ذلك وإن بقوا على كفرهم، فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق. وأما الوقف على كنائسهم وبيعهم ومواضع كفرهم التي يقيمون فيها شعار الكفر: فلا يصح من كافر ولا مسلم. فإن في ذلك أعظم الإعانة له على الكفر والمساعدة والتقوية عليه، وذلك مناف لدين الله) (¬1). (3) عيادتهم وتهنئتهم: روى البخاري في كتاب الجنائز عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار)) (¬2). وروى أيضاً: قصة أبي طالب حين حضرته الوفاة فزاره النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الإسلام (¬3). قال ابن بطال: إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا (¬4) قال ابن حجر: والذي يظهر: أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى (¬5). (أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق، وذلك مثل أن يهنأهم بأعيادهم فيقول: عيدك مبارك، أو تهنأ بهذا العيد، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير مما لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل. فمن هنأ عبداً بمعصية، أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والافتاء تجنباً لمقت الله وسقوطهم من عينه " وإن بلي الرجل فتعاطاه دفعاً لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيراً ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك) (¬6). ويدخل في هذا أيضاً: تعظيمهم ومخاطبتهم بالسيد والمولى وذلك حرام قطعاً، ففي الحديث المرفوع ((لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيداً فقد اسخطتم ربكم عز وجل)) (¬7). ولا يجوز أيضاً تلقيبهم – كما يقول ابن القيم – بمعز الدولة أو فلان السديد، أو الرشيد أو الصالح ونحو ذلك. ومن تسمى بشيء من هذه الأسماء لم يجز للمسلم أن يدعوه به، بل إن كان نصرانياً قال: يا نصراني، يا صليبي، ويقال لليهودي، يا يهودي. ثم قال ابن القيم بالنص ( .. وأما اليوم فقد وقفنا إلى زمان يصدرون في المجالس، ويقام لهم وتقبل أيديهم ويتحكمون في أرزاق الجند، والأموال السلطانية، ويكنون بأبي العلاء وأبي الفضل، وأبي الطيب، ويسمون حسناً وحسيناً وعثمان وعلياً! وقد كانت أسماؤهم من قبل: يوحنا ومتى وجرجس وبطرس وعزراً وأشعياً، وحزقيل وحيي، ولكل زمان دولة ورجال) (¬8). ¬

(¬1) [1123])) ((أحكام أهل الذمة)) (1/ 299 - 302) وانظر ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/ 229) (¬2) [1124])) رواه البخاري (1356). (¬3) [1125])) رواه البخاري (3884). (¬4) [1126])) ((فتح الباري)) (10/ 119). (¬5) [1127])) ((فتح الباري)) (10/ 119). (¬6) [1128])) ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/ 205 – 206). (¬7) [1129])) رواه أبو داود (4977) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 44) , والنووي في ((الأذكار)) (449) , والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 484): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (¬8) [1130])) ((أحكام أهل الذمة)) (2/ 771).

وإذا كان هذا كلام العلامة ابن القيم وهو المتوفى سنة 751 هـ رحمه الله. فلينظر المسلم اليوم إلى هذا الغثاء الذي هو كغثاء السيل، ينتسبون للإسلام وهم يتبعون أعداء الله في كل صغيرة وكبيرة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، وليست تبعية لهم فحسب بل إنها تبعية بإعجاب وانبهار! فما تمر بأعدائنا مناسبة إلا وتنهال التهاني عليهم من كل حدب وصوب بالتهنئة والتبريك ومعسول الأماني!! (4) حكم السلام عليهم: اختلف العلماء في معني قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام حين دعا أباه فأبى قال إبراهيم سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم: 47]. فأما الجمهور فقالوا: المراد بسلامه المسالمة التي هي المشاركة لا التحية. وقال الطبري: معناه: أمنة مني لك. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام (¬1). وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق. وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال نعم: قال الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8]. وقال: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ [الممتحنة: 4]. وقال إبراهيم لأبيه سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم: 47]. قال القرطبي: قلت: والأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة (¬2). وفي الشأن حديثان: فقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه)) (¬3). وفي (الصحيحين) عن أسامة بن زيد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حماراً عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، وفيهم عبدالله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبدالله بن أبي أنفه برادئه ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬4) الحديث. قال القرطبي: (فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء، لأن ذلك إكرام والكافر ليس أهله والثاني: يجوز ذلك. قال الطبري: ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة، فإنه ليس أحدهما خلاف للآخر، وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص: قال النخعي إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأ بالسلام. فبان بهذا أن حديث أبي هريرة ((لا تبدؤهم بالسلام)) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤهم بالسلام من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جوار أو سفر. قال الطبري: قد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه قال له علقمة: يا أبا عبدالرحمن أليس يكره أنه يبدؤا بالسلام؟ قال: نعم. ولكن حق الصحبة. وقال الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك وروي عن الحسن البصري أنه قال إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم) (¬5). قال ابن القيم: إن صاحب هذا الوجه – أي من أجاز ابتداءهم بالسلام – قال: يقال له – السلام عليك. فقط بدون ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد (¬6). (أما رد السلام عليهم فاختلف في وجوبه: فالجمهور على وجوبه وهو الصواب. وقالت طائفة: لا يجب الرد عليهم كما لا يجب على أهل البدع وأولى والصواب الأول: والفرق: أنا مأمورون بهجر أهل البدع تعزيراً لهم وتحذيراً منهم بخلاف أهل الذمة) (¬7). قلت: ومما يرجح رأي الجمهور في وجوب الرد على أهل الكتاب قوله صلى الله عليه وسلم ((إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم. فقل وعليك)) (¬8). وقوله صلى الله عليه وسلم ((إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)) (¬9) الولاء والبراء في الإسلام لمحمد بن سعيد القحطاني – ص352 ¬

(¬1) [1131])) ((تفسير القرطبي)) (11/ 111 - 112). (¬2) [1132])) ((تفسير القرطبي)) (11/ 111 - 112). (¬3) [1133])) رواه مسلم (2167). (¬4) [1134])) رواه البخاري (4566) , ومسلم (1798). (¬5) [1135])) ((تفسير القرطبي)) (11/ 112) (¬6) [1136])) زاد المعاد (2/ 425) (¬7) [1137])) زاد المعاد (2/ 425) (¬8) [1138])) رواه البخاري (6257) , ومسلم (2164) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬9) [1139])) رواه البخاري (6258) , ومسلم (2163) , من حديث أنس رضي الله عنه.

المبحث السابع: أمور نهى عنها الشارع مخالفة للكفار

المبحث السابع: أمور نهى عنها الشارع مخالفة للكفار كان النبي عليه الصلاة والسلام يكره مشابهة أهل الكتابين في ... الآصار والأغلال، وزجر أصحابه عن التبتل، وقال: ((لا رهبانية في الإسلام)) (¬1)، وأمر بالسحور (¬2)، ونهى عن المواصلة (¬3)، وقال فيما يعيب أهل الكتابين ويحذر موافقتهم: (فتلك بقاياهم في الصوامع) (¬4) وهذا باب واسع جداً. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص160 ومما جاء في مخالفتهم الأمر بصبغ الشيب لأن اليهود والنصارى لا يصبغون، والفعل المأمور به إذا عبر عنه بلفظ مشتق من معنى أعم فلابد أن يكون المشتق أمراً مطلوباً. ولما دل عليه معنى الكتاب: جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم. ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) (¬5) أمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً للشارع، لأنه: إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط - فهو لأجل ما فيه من المخالفة. فالمخالفة: إما علة مفردة، أو علة أخرى، أو بعض علة اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص165 ¬

(¬1) [1140])) أورده ابن رجب في ((فتح الباري)) لابن رجب (1/ 102) عن طاوس مرسلا, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 13): لم أره بهذا اللفظ, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 281): عن طاووس مرفوعا بلفظ: ((لا زمام ولا خزام ولا رهبانية ولا تبتل ولا سياحة في الإسلام)) وهذا إسناد رجاله ثقات، وهو مرسل وقد عزاه في ((الجامع الصغير)) لعبد الرزاق عن طاووس مرسلا, وضعفه في ((ضعيف الجامع)) (6287). (¬2) [1141])) رواه البخاري (1923) , ومسلم (1095) , من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ((تسحروا فإن في السحور بركة)). (¬3) [1142])) رواه البخاري (1962) , ومسلم (1102) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬4) [1143])) رواه أبو داود (4904) وأبو يعلى (6/ 365) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 296): له شواهد في الصحيح, وقال ابن القيم في ((الصلاة وحكم تاركها)) (122): تفرد به ابن أبي العمياء وهو شبه مجهول, وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (2/ 98): إسناده جيد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 259): رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العميا وهو ثقة، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (6232) , ثم تراجع وصححه, انظر ((جلباب المرأة المسلمة)) (20). (¬5) [1144])) رواه البخاري (3462) ومسلم (2103).

ومما جاء أيضاً كما في (الصحيحين) عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين: أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى)) (¬1) رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه، فأمر بمخالفة المشركين مطلقاً، ثم قال: ((أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى)) وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى، فإن الإبدال يقع في الجمل، كما يقع في المفردات، كقوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49]. فهذا الذبح والاستحياء: هو سوء العذاب، كذلك هنا: هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا، لكن الأمر بها أولاً بلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، وإن عينت هنا في هذا الفعل، فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص، كما يقال: أكرم ضيفك أطعمه وحادثه، فأمرك بالإكرام أولاً دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عينت الفعل الذي يكون إكراماً في ذلك الوقت، والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: ((لا يصبغون فخالفوهم)) وقد روى مسلم في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)) (¬2). مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع: فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم، أو علة أخرى، أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق: أنه عامة تامة، لهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس، في هذا وغيره - كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدي المجوس. النهي عن حلق القفا مخالفة للمجوس: قال المروذي: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا، فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم. وقال - أيضاً - قيل لـ أبي عبد الله: يكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه؟ فقال: أما أنا فلا أحلق قفاي. وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة: كراهيته، وقال: إن حلق القفا من فعل المجوس. قال: وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة. وقال أحمد - أيضاً -: لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة. وقد روى عنه ابن منصور، قال: سألت أحمد عن حلق القفا، فقال: لا أعلم فيه حديثاً، إلا ما يروى عن إبراهيم أنه كره قرداً يرقوس ذكر الخلال هذا، وغيره. وذكر - أيضاً - بإسناده، عن الهيثم بن حميد، قال: حف القفا من شكل المجوس. وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه، قيل له لم؟ قال: كان يكره أن يتشبه بالعجم. والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب، وتارة بالتشبه بالأعاجم، وكلا العلتين منصوصة في السنة، مع أن الصادق - صلى الله عليه وسلم، قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء، ... اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص181 ومن ذلك أيضاً الأمر بالسحور، مخالفة لأهل الكتاب: عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السحر)) رواه مسلم في (صحيحه) (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص186 ¬

(¬1) [1145])) رواه البخاري (5892) ومسلم (259). (¬2) [1146])) رواه مسلم (260). (¬3) [1147])) رواه مسلم (1096).

وما رواه أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال أمتي بخير - أو على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم)) (¬1) ورواه ابن ماجه من حديث العباس، (¬2) ورواه الإمام أحمد من حديث السائب بن يزيد. وقد جاء مفسراً، تعليله: لا يزالون بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى طلوع النجم، مضاهاة لليهودية ويؤخروا الفجر إلى محاق النجوم: مضاهاة للنصرانية. قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الصلت بن بهرام، عن الحارث بن وهب، عن أبي عبد الرحمن الصنابحي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم، مضاهاة لليهودية، ولم ينتظروا بالفجر محاق النجوم، مضاهاة للنصرانية، ولم يكلوا الجنائز إلى أهلها)) (¬3). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص187 ومن مخالفة أهل الكتاب أيضاً الأمر بتعجيل الفطور ... وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين: أمر مقصود للشارع، وقد صرح بذلك - فيما رواه - أبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) (¬4)، وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى. وإذا كان مخالفتهم سبباً لظهور الدين، فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص187 ¬

(¬1) [1148])) رواه أبو داود (418) , والطبراني (4/ 183) , وأحمد (4/ 147) (17367) , والحاكم (1/ 303) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (1/ 370) , من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وله شاهد صحيح الإسناد, ووافقه الذهبي, وقال ابن عبد الهادي في ((تنقيح تحقيق التعليق)) (1/ 254): [فيه] محمد بن إسحاق صدوق, وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (1/ 403): في إسناده محمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (¬2) [1149])) رواه ابن ماجه (689) , والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 214) و ((الصغير)) (1/ 56) , والحاكم (1/ 304) , من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه, قال النووي في ((المجموع شرح المهذب)) (3/ 35): إسناده جيد, وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 142): [فيه] عمر وهو تالف, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) [1150])) رواه أحمد (4/ 349) (19090) , والطبراني (8/ 80) , قال ابن رجب في ((فتح الباري لابن رجب)) (3/ 240): مرسل, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 316): رجاله ثقات. (¬4) [1151])) رواه أبو داود (1/ 718) , وأحمد (2/ 450) (9809) , والحاكم (1/ 596) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (2/ 253) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (4/ 237) , وابن حبان (8/ 273) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 277) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, وأشار المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 151): إلى أن [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما] , وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7689).

ومن ذلك ما جاء في النهي عن الوصال قال سعيد بن منصور: حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، عن أبيه عن ليلى - امرأة بشير بن الخصاصية - قالت: ((أردت أن أصوم يومين مواصلة، فنهاني عنه بشير، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك، وقال: إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله، وأتموا الصوم كما أمركم الله، وأتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا)) (¬1) وقد رواه أحمد في (المسند). فعلل النهي عن الوصال: بأنه صوم النصارى، وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص189 ومن ذلك ما جاء من النهي عن مشابهة اليهود في ترك مؤاكلة المرأة حال حيضها عن أنس رضي الله عنه: ((أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ [البقرة: 222] , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح)) , فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما)). رواه مسلم (¬2). فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل: على أنه خالفهم في عامة أمورهم، حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. ثم أن المخالفة - كما سنبينه - تارة تكون في أصل الحكم، وتارة في وصفه، ومجانبة الحائض: لم يخالفوا في أصله، بل خولفوا في وصفه، حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يعتدي في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله: تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الباب - باب الطهارة - كان على اليهود فيه أغلال عظيمة، فابتدع النصارى ترك ذلك كله، حتى أنهم لا ينجسون شيئاً! بلا شرع من الله. فهدى الله الأمة: الوسط بما شرعه لها إلى وسط من ذلك، وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضاً مشروعاً، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه: مقاربة لليهود، وملابسة ما شرع الله اجتنابه: مقاربة للنصارى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص190 ¬

(¬1) [1152])) رواه أحمد (5/ 225) (429) , وعبد بن حميد (1/ 159) , وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (1/ 484) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 161): فيه ليلى امرأة بشير لم أجد من خرجها وبقية رجاله رجال الصحيح, وقال ابن حجر في ((فتح الباري لابن حجر)) (4/ 239): إسناده صحيح إلى ليلى, وقال الألباني في ((جلباب المرأة المسلمة)) (177): إسناده صحيح. (¬2) [1153])) رواه مسلم (302).

ومما جاء أيضاً في النهي عن مشابهتهم ما رواه البخاري عن مسروق عن عائشة: أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله ورواه - أيضاً - من حديث أبي هريرة قال: ((نهي عن الخصر في الصلاة)) (¬1)، وفي لفظ: ((نهي أن يصلي الرجل مختصراً)) (¬2) قال: وقال هشام وأبو هلال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه مسلم في (صحيحه): نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن زياد بن صبيح قال: ((صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه)) (¬3). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص197 ومما جاء في مخالفتهم كذلك ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: ((اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً فلما سلم قال: إن كدتم آنفاً تفعلون فعل فارس والروم: يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائماً فصلوا قياماً وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً)) (¬4) رواه مسلم، وأبو داود: من حديث الليث عن أبي الزبير، عن جابر. ورواه أبو داود، وغيره، من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: ((ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً بالمدينة فصرعه على جذم نخلة، فانقطعت قدمه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالساً، قال: فقمنا خلفه، فسكت عنا، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده، فصلى المكتوبة جالساً، فقمنا خلفه، فأشار إلينا فقعدنا قال: فلما قضى الصلاة قال: إذا صلى الإمام جالساً فصلوا جلوساً، وإذا صلى الإمام قائماً فصلوا قياماً، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها)) (¬5). وأظن في غير رواية أبي داود: ((ولا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً))، ففي هذا الحديث: أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود. ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهى - أيضاً - عما يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك، ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وعن الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، كالنار ونحوها. وفي هذا الحديث - أيضاً - نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم، لقوله: ((فلا تفعلوا)). فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية؟. ¬

(¬1) [1154])) رواه البخاري (1219). (¬2) [1155])) رواه مسلم (545). (¬3) [1156])) رواه أبو داود (903) , وأحمد (2/ 106) (5836) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/ 288) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (1/ 399) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (8/ 126): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) [1157])) رواه مسلم (413). (¬5) [1158])) رواه أبو داود (602) , والطبراني في ((الأوسط)) (4/ 379) , وابن حبان (5/ 476) , وابن خزيمة في ((صحيحه)) (3/ 53) , وأبو يعلى (3/ 411) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (7/ 286) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الهيثمي في ((موارد الظمآن)) (1/ 173) , هو في الصحيح باختصار, وقال الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (14/ 308): جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيئا متواترا من وجوه صحاح مقبولة, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

ثم هذا الحديث - سواء كان محكماً في قعود الإمام، أو منسوخاً - فإن الحجة منه قائمة، لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها، مثل كون القيام فرضاً في الصلاة، فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية، وهذا محل اجتهاد وأما المشابهة الصورية - إذا لم تسقط فرضاً - كانت تلك العلة التي علل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمة عن معارض، أو نسخ، لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة، فلا يكون محذوراً، فالحكم إذا علل بعلة، ثم نسخ مع بقاء العلة فلابد من أن يكون غيرها ترجح عليها وقت الناسخ أو ضعف تأثيرها، أما أن تكون في نفسها باطلة: فهذا محال، هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخاً، فكيف والصحيح أن هذا الحديث محكم، قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كونهم علموا صلاته في مرضه. وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث المرض ناسخاً له، على ما هو مقرر في غير هذا الموضع: إما بجواز الأمرين، إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعداً، والصلاة التي ابتدأها الإمام قائماً، لعدم دخول هذه الصلاة في قوله: ((وإذا صلى قاعداً)) ولعدم المفسدة التي علل بها، ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها من بنائها على صلاة الإمام، ونحو ذلك من الأمور المذكورة، في غير هذا الموضع. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص199 وقد ذهب غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين، قال محمد بن أبي حرب: سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه؟ فكرهه للرجل والمرأة، وقال: إن كان للكنيف والوضوء وأكره الصرار، وقال: هو من زي العجم. وقد سئل سعيد بن عامر عنه فقال: سنة نبينا أحب إلينا من سنة باكهن. وقال في رواية المروذي، وقد سأله عن النعل السندي فقال: أما أنا فلا أستعملها، ولكن إن كان للطين، أو المخرج فأرجو، وأما من أراد الزينة فلا ورأى على باب المخرج نعلاً سندياً فقال: يتشبه بأولاد الملوك!. وقال حرب الكرماني قلت لـ أحمد، فهذه النعال الغلاظ؟ قال: هذه السندية؟ قال إذا كان للوضوء، أو للكنيف، أو موضع ضرورة، فلا بأس، وكأنه كره أن يمشي فيها في الأزقة قيل: فالنعل من الخشب؟ قال: لا بأس بها أيضاً إذا كان موضع ضرورة. وقال حرب: حدثنا أحمد بن نصر، حدثنا حبان بن موسى، قال سئل ابن المبارك عن هذه النعال الكرمانية، فلم تعجبه وقال أما في هذه غنية عن تلك؟. وروى الخلال: عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: سألت سعيد بن عامر، عن لباس النعال السبتية فقال: زي نبينا أحب إلينا من زي باكهن ملك الهند، ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة. سعيد بن عامر الضبعي: إمام أهل البصرة علماً وديناً، من شيوخ الإمام أحمد، قال يحيى بن سعيد القطان - وذكر عنده سعيد بن عامر فقال: هو شيخ المصر منذ أربعين سنة، وقال أبو مسعود بن الفرات: ما رأيت بالبصرة مثل سعيد بن عامر، وقال الميموني،: رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه، ويكره غير ذلك، وقال: العرب عمائمها تحت أذقانها. وقال أحمد - في رواية الحسن بن محمد -: يكره أن لا تكون - العمامة تحت الحنك كراهية شديدة وقال: إنما يتعمم بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس. ولهذا - أيضاً - كره أحمد: لباس أشياء، كانت شعار الظلمة في وقته: من السواد ونحوه، وكره هو وغيره: تغميض العين في الصلاة وقال: هو من فعل اليهود.

وقد روى أبو حفص العكبري - بإسناده - عن بلال بن أبي حدرد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تمعددوا، واخشوشنوا وانتعلوا وامشوا حفاة)) (¬1). وهذا مشهور محفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص243 وأيضاً - ما روى أبو داود، حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي، حدثنا محمد بن ربيعة، حدثنا أبو الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن ركانة، أو محمد بن علي بن ركانة، عن أبيه: أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، قال ركانة: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((فرق ما بيننا وبين المشركين: العمائم على القلانس)) (¬2). وهذا يقتضي أنه حسن عند أبي داود، ورواه الترمذي - أيضاً - عن قتيبة وقال: غريب، وليس إسناده بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة، وهذا القدر لا يمنع: أن يعتضد بهذا الحديث ويستشهد به، وهذا بين في أن مفارقة المسلم المشرك في اللباس أمر مطلوب للشارع، كقوله: ((فرق ما بين الحلال والحرام: الدف والصوت)) (¬3) , فإن التفريق بينهما مطلوب في الظاهر، إذ الفرق بالاعتقاد والعمل بدون العمامة حاصل، فلولا أنه مطلوب بالظاهر - أيضاً - لم يكن فيه فائدة. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص250 وأيضاً - عن أبي غطفان المري قال: سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: ((حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬4). رواه مسلم في (صحيحه). ¬

(¬1) [1159])) رواه الطبراني في ((الكبير)) (19/ 40) , وفي ((الأوسط)) (6/ 152) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 303) , قال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (27/ 333) , [فيه] عبد الله بن سعيد ضعيف بمرة, وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 352): ضعيف, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 139): فيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري وهو ضعيف, وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (3417): ضعيف جدا. (¬2) [1160])) رواه أبو داود (4078) , والترمذي (1784) , والطبراني (5/ 71) , وأبو يعلى في ((المسند)) (3/ 5) , والحاكم (3/ 511) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وإسناده ليس بالقائم ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة, وقال البخاري في ((التاريخ الكبير)) (1/ 82): إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض, وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (3/ 286): علة هذا الخبر أنه من رواية أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه أن ركانة: فذكره وما من هؤلاء من تعرف له حال, وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (3/ 546): لم يصح, وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (346): لا يثبت, وقال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 95): واه, وضعفه الألباني في ((ضعيف أبي داود)). (¬3) [1161])) رواه الترمذي (1088) , والنسائي (3/ 398) (3369) , وابن ماجه (1896) , وأحمد (3/ 418) (15489) , قال الترمذي حديث محمد بن حاطب حديث حسن, وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/ 1138): محفوظ من حديث هشيم عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم, وحسنه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (¬4) [1162])) رواه مسلم (1134).

وروى الإمام أحمد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا يوم عاشوراء، خالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً)) (¬1) ورواه سعيد بهذا الإسناد، ولفظه: ((صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، وصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)). والحديث رواه ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده: ابن عباس. فتدبر: هذا يوم عاشوراء، يوم فاضل يكفر سنة ماضية صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه ورغب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك. ولهذا: استحب العلماء - منهم الإمام أحمد - أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء، وذلك عللت الصحابة رضي الله عنهم. قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، سمع عطاء سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ((صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود)) (¬2). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص255 قد روي عن غير واحد من أهل العلم: أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية - أيضا - في صومهم وعباداتهم، وتأولوا على ذلك قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ولكن أهل الكتابين بدّلوا. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن تقدم رمضان باليوم واليومين، وعلل الفقهاء ذلك: بما يخاف من أن يزاد في الصوم المفروض ما ليس منه، كما زاده أهل الكتاب، من النصارى، فإنهم زادوا في صومهم، وجعلوه فيما بين الشتاء والصيف، وجعلوا له طريقة من الحساب يتعرفونه بها. وقد يستدل بهذا الحديث، على خصوص النهي عن أعيادهم، فإن أعيادهم معلومة بالكتاب والحساب، والحديث فيه عموم. أو يقال: إذا نهينا عن ذلك في عيد الله ورسوله، ففي غيرها من الأعياد والمواسم أولى وأحرى، ولما في ذلك: من مضارعة الأمة الأمية، سائر الأمم. وبالجملة - فالحديث يقتضي: اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها، وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم أقرب إلى حصول الوفاء اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص255 وأيضاً - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا أمة أمية: لا نكتب ولا نحسب، الشهر: هكذا هكذا، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين)) (¬3). رواه البخاري ومسلم. ¬

(¬1) [1163])) رواه أحمد (1/ 241) (2154) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (4/ 287) , وابن خزيمة في ((صحيحه)) (3/ 290) , قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (3/ 554): [فيه] داود بن علي عندي أنه لا بأس برواياته, وقال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (3/ 1543): [فيه] داود بن علي سئل يحيى بن معين عنه فقال: أرجو أنه لا يكذب, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 21):إسناده حسن, وقال الشيخ الألباني في ((صحيح ابن خزيمة)) (2095): إسناده ضعيف، وروي موقوفاً وسنده صحيح. (¬2) [1164])) رواه الترمذي (755) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (4/ 287). (¬3) [1165])) رواه البخاري (1913) ومسلم (1080).

فوصف هذه الأمة، بترك الكتاب والحساب، الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عباداتهم وأعيادهم، وأحالها على الرؤية، حيث قال - في غير حديث: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) (¬1)، وفي رواية: ((صوموا من الوضح إلى الوضح)) (¬2)، أي من الهلال إلى الهلال. وهذا: دليل على ما أجمع عليه المسلمون - إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين، المسبوقين بالإجماع - من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك: إنما تقام بالرؤية عند إمكانها، لا بالكتاب والحساب، الذي تسلكه الأعاجم: من الروم، والفرس، والقبط والهند، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقد روي عن غير واحد من أهل العلم: أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية - أيضاً - في صومهم وعباداتهم، وتأولوا على ذلك: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، ولكن أهل الكتابين بدلوا. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص254 وأيضاً - ففي (الصحيحين): عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أنه سمع معاوية، عام حج، على المنبر، وتناول قصة من شعر، كانت في يد حرسي، فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: ((إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم)) (¬3) , وفي رواية سعيد بن المسيب - في (الصحيح) -: ((أن معاوية قال ذات يوم: إنكم أحدثتم زي سوء، وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور، قال: وجاء رجل بعصى على رأسها خرقة قال معاوية: ألا وهذا الزور)) (¬4). قال قتادة: يعني ما يكثر به النساء أشعارهن، من الخرق. وفي رواية عن ابن المسيب - في (الصحيح) - قال: ((قدم معاوية المدينة فخطبنا، وأخرج كبة من شعر، فقال: ما كنت أرى أن أحداً يفعله، إلا اليهود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه، فسماه الزور)) (¬5) فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وصل الشعر: ((أن بني إسرائيل هلكوا حين أحدثه نساؤهم))، يحذر أمته مثل ذلك، ولهذا: قال معاوية: ما كنت أرى أن أحداً يفعله إلا اليهود. فما كان من زي اليهود، أي لم يكن عليه المسلمون: إما أن يكون مما يعذبون عليه، أو مظنة لذلك، أو يكون تركه حسماً لمادة ما عذبوا عليه، لا سيما إذا لم يتميز ما هو الذي عذبوا عليه من غيره، فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره، فيترك الجميع، كما أن ما يخبرونا به لما اشتبه صدقه بكذبه: ترك الجميع. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص256 ¬

(¬1) [1166])) رواه البخاري (1909) ومسلم (1081). (¬2) [1167])) رواه الطبراني (1/ 212) , والبزار (4/ 116) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 161): فيه سالم بن عبيد الله بن سالم ولم أجد من ترجمه وبقية رجاله موثقون, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1918): حسن لغيره. (¬3) [1168])) رواه البخاري (3468). (¬4) [1169])) رواه مسلم (2127). (¬5) [1170])) رواه البخاري (3488) , ومسلم (2127).

ولما نهى الله عن التشبه بهؤلاء الذين قست قلوبهم، وذكر أيضاً في آخر السورة حال الذين ابتدعوا الرهبانية، فما رعوها حق رعايتها، فعقبها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 28 - 29]- فإن الإيمان بالرسول: تصديقه وطاعته وإتباع شريعته، وفي ذلك مخالفة للرهبانية، لأنه لم يبعث بها، بل نهى عنها، وأخبر أن من اتبعه: كان له أجران، وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة، من طريق ابن عمر وغيره، في مثلنا ومثل أهل الكتاب. وقد صرح صلى الله عليه وسلم بذلك - فيما رواه أبو داود في (سننه)، من حديث ابن وهب، أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء: أن سهل بن أبي أمامة حدثه: أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة، فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)) (¬1). هذا الذي في رواية اللؤلؤي، عن أبي داود، وفي رواية ابن داسة عنه: أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك، بالمدينة، في زمان عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فإذا هو يصلي صلاة خفيفة، كأنها صلاة المسافر، أو قريباً منها، فلما سلم قال: يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته؟ قال: إنها للمكتوبة، وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع، رهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم)) (¬2). ¬

(¬1) [1171])) رواه أبو داود (4904) وأبو يعلى (6/ 365) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 296): له شواهد في الصحيح, وقال ابن القيم في ((الصلاة وحكم تاركها)) (122): تفرد به ابن أبي العمياء وهو شبه مجهول, وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (2/ 98): إسناده جيد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 259): رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العميا وهو ثقة، وضعفه الألباني في ((ضعيف أبي داود)) و ((ضعيف الجامع)) (6232) , ثم تراجع وصححه, انظر ((جلباب المرأة المسلمة)) (20). (¬2) [1172])) رواه أبو داود (4904) وأبو يعلى (6/ 365) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 296): له شواهد في الصحيح, وقال ابن القيم في ((الصلاة وحكم تاركها)) (122): تفرد به ابن أبي العمياء وهو شبه مجهول, وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (2/ 98): إسناده جيد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 259): رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العميا وهو ثقة، وضعفه الألباني في ((ضعيف أبي داود)) و ((ضعيف الجامع)) (6232) , ثم تراجع وصححه, انظر ((جلباب المرأة المسلمة)) (20).

ثم غدا من الغد: فقال ألا تركب لتنظر ولتعتبر؟ قال: نعم، فركبوا جميعاً، فإذا بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا، خاوية على عروشها قال: أتعرف هذه الديار؟ فقال: نعم، ما أعرفني بها وبأهلها، هؤلاء أهل ديار أهلكهم الله ببغيهم وحسدهم، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني، والكف والقدم، والجسد واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. فأما سهل بن أبي أمامة، فقد وثقه يحيى بن معين وغيره، وروى له مسلم وغيره، وأما ابن أبي العمياء، فمن أهل بيت المقدس ما أعرف حاله، لكن رواية أبي داود للحديث، وسكوته عنه: يقتضي أنه حسن عنده، وله شواهد في (الصحيح). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص262 ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم حذرنا من مشابهة من قبلنا، في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يسوي بين الناس في ذلك، وإن كان كثير من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة. ففي (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها - في شأن المخزومية التي سرقت، لما كلم أسامة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟!. إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (¬1). وكان بنو مخزوم من أشرف بطون قريش، واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم، فبين صلى الله عليه وسلم: أن هلاك بني إسرائيل، إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات، وأخبر: أن فاطمة ابنته - التي هي أشرف النساء - لو سرقت - وقد أعاذها الله من ذلك - لقطع يدها، ليبين: أن وجوب العدل والتعميم في الحدود، لا يستثنى منه بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن بنت غيره. وهذا يوافق ما في (الصحيحين)، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: ((مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي، محمم مجلود، فدعاهم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم قال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده: الرجم ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك، إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ [المائدة: 41] (¬2). يقول: ائتوا محمداً فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47] في الكفار كلها. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – 294 ¬

(¬1) [1173])) رواه البخاري (3475) ومسلم (1688). (¬2) [1174])) رواه مسلم (1700).

وأيضا ما روى أبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عياش بن عباس، عن ابن الحصين - يعني الهيثم بن شفي - قال: خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر - رجل من المعافر - لنصلي بإيلياء، وكان قاصهم - رجل من الأزد - يقال له: أبو ريحانة، من الصحابة، قال أبو الحصين: فسبقني صاحبي إلى المسجد، ثم ردفته فجلست إلى جنبه فسألني: هل أدركت قصص أبي ريحانة؟ قلت: لا قال: سمعته يقول ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر: عن الوشر، والوشم، والنتف، وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار، وأن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريراً، مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبيه حريراً، مثل الأعاجم، وعن النهبى، وركوب النمور، ولبوس الخاتم، إلا لذي سلطان)) (¬1). وفي رواية عن أبي ريحانة قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. .. هذا الحديث محفوظ من حديث عياش بن عباس، رواه عنه المفضل بن فضالة، وحيوة بن شريح المصري، ويحيى بن أيوب، وكل منهم ثقة، وعياش بن عباس روى له مسلم، وقال يحيى بن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح، وأما أبو الحصين - الهيثم ين شفي - قال الدارقطني - شفي بفتح الشين وتخفيف الفاء وأكثر المحدثين يقولون: شفي هو غلط - وأبو عامر الحجري فشيخان، قد روى عن كل واحد منهما، أكثر من واحد، وهما من الشيوخ القدماء. وهذا الحديث: قد أشكل على أكثر الفقهاء، من جهة أن يسير الحرير قد دل على جوازه نصوص متعددة، ويتوجه تحريمه على هذا الأصل وهو: أن يكون صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما كره أن يجعل الرجل على أسفل ثيابه، أو على منكبيه حريراً، مثل الأعاجم، فيكون المنهي عنه نوعاً كان شعاراً للأعاجم، فنهى عنه لذلك، لا لكونه حريراً، فإنه لو كان النهي عنه لكونه حريراً لعم الثوب كله، ولم يخص هذين الموضعين، ولهذا قال فيه: ((مثل الأعاجم)). والأصل في الصفة: أن تكون لتقييد الموصوف، لا لتوضيحه، وعلى هذا: يمكن تخريج ما رواه أبو داود، بإسناده صحيح، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أركب الأرجوان، ولا ألبس المعصفر، ولا ألبس القميص المكفف بالحرير، قال: فأومأ الحسن إلى جيب قيمصه قال: وقال: ألا وطيب الرجال ريح لا لون له، ألا وطيب النساء لون لا ريح له)) (¬2) قال سعيد: أراه قال: إنما حملوا قوله في طيب النساء، على أنها إذا خرجت، فأما إذا كانت عند زوجها فلتطيب بما شاءت، أو يخرج هذا الحديث على الكراهة فقط. وكذلك: قد يقال في الحديث الأول، لكن في ذلك نظر اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص307 ¬

(¬1) [1175])) رواه أبو داود (2/ 446) , والنسائي (8/ 143) (5091) , وأحمد (4/ 134) (17248) , والدارمي (2/ 363) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (3/ 277) , قال أبو داود الذي تفرد به من هذا الحديث خبر الخاتم, وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (7/ 400): مسند لا تجد بمثل إسناده حجة, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)). (¬2) [1176])) رواه أبو داود (4048) , وأحمد (4/ 442) (19989) , والحاكم (4/ 211) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (3/ 271) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (1/ 478): صحيح ثابت, وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 346): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

وأيضاً - ففي (الصحيحين) عن رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ((ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكل، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن: فعظم، وأما الظفر: فمدى الحبشة)) (¬1). نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالظفر، معللاً بأنها مدى الحبشة، كما علل السن: بأنه عظم، وقد اختلف الفقهاء في هذا، فذهب أهل الرأي: إلى أن علة النهي كون الذبح بالسن والظفر يشبه الخنق، أو هو مظنة الخنق، والمنخنقة محرمة، وسوغوا على هذا، الذبح بالسن والظفر المنزوعين، لأن التذكية بالآلات المنفصلة المحددة، لا خنق فيه، والجمهور منعوا من ذلك مطلقاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: استثنى السن والظفر مما أنهر الدم، فعلم أنه من المحدد الذي لا يجوز التذكية به، ولو كان لكونه خنقاً، لم يستثنه، والمظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية أو غير منضبطة، فأما مع ظهورها وانضباطها فلا. وأيضاً - فإنه مخالف لتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص في الحديث، ثم اختلف هؤلاء، هل يمنع من التذكية بسائر العظام، عملاً بعموم العلة؟ على قولين، في مذهب أحمد وغيره. وعلى الأقوال الثلاثة: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأما الظفر فمدى الحبشة))، بعد قوله: ((وسأحدثكم عن ذلك))، يقتضي أن هذا الوصف - وهو كونه مدى الحبشة - له تأثير في المنع: إما أن يكون علة، أو دليلاً على العلة، أو وصفاً من أوصاف العلة، أو دليلها، والحبشة في أظفارهم طول، فيذكون بها دون سائر الأمم، فيجوز أن يكون نهى عن ذلك: لما فيه من مشابهتهم فيما يختصمون به. وأما العظم: فيجوز أن يكون نهيه عن التذكية به، كنهيه عن الاستنجاء به لما فيه من تنجيسه على الجن، إذ الدم نجس، وليس الغرض هنا ذكر مسألة الذكاة بخصوصها، فإن فيها كلاماً ليس هذا موضعه. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص310 وأيضاً - فقد روى أبو داود في (سننه)، وغيره من حديث هشيم: أخبرنا أبو بشر عن أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من الأنصار، قال: ((اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكروا له القنع، شبور اليهود، فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكروا له الناقوس، قال: هو من فعل النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهو مهتم لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأري الأذان في منامه، قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: يا رسول الله: إني لبين نائم ويقظان، إذ أتاني آت، فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما منعك أن تخبرنا؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله قال: فأذن بلال)) (¬2)، قال أبو بشر: فحدثني أبو عمير: أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد، لولا أنه كان يومئذ مريضاً، لجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً. ¬

(¬1) [1177])) رواه مسلم (1968). (¬2) [1178])) رواه أبو داود (498) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (1/ 390) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/ 21): حسن, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (2/ 97): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((جلباب المرأة)) (167).

وروى سعيد بن منصور في (سننه): حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن عامر الشعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اهتم بالصلاة اهتماماً شديداً، تبين ذلك فيه، وكان فيما أهتم به من أمر الصلاة: أن ذكر الناقوس، ثم قال: هو من أمر النصارى، ثم أراد أن يبعث رجالاً يؤذنون الناس بالصلاة، في الطرق، ثم قال: أكره أن أشغل رجالاً عن صلاتهم بأذان غيرهم، وذكر رؤيا عبد الله بن زيد. ويشهد لهذا ما أخرجاه في (الصحيحين)، عن أبي قلابة، عن أنس قال: ((لما كثر الناس، ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن ينوروا ناراً، أو يضربوا ناقوساً، فأمر بلال أن يشفع الأذان - ويوتر الإقامة)). (¬1). وفي (الصحيحين)، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر قال: ((كان المسلمون حين قدموا المدينة، يجتمعون، فيتحينون الصلاة، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فناد بالصلاة)) (¬2). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– ص315 وأن كراهية الرسول صلى الله عليه وسلم بوق اليهود وناقوس النصارى لعلة المخالفة، وهذا يقتضي كراهة هذا النوع من الأصوات مطلقاً في غير الصلاة أيضاً، لأنه من أمر اليهود والنصارى، فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة، غير أوقات عباداتهم. وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للإعلان بذكر الله، الذي به تفتح أبواب السماء، فتهرب الشياطين، وتنزل الرحمة. وقد ابتلي كثير من هذه الأمة، من الملوك وغيرهم بهذا الشعار اليهودي والنصراني، حتى إنا رأيناهم، في هذا الخميس الحقير الصغير (¬3) , يزفون البخور، ويضربون له بنواقيس صغار، حتى إن من الملوك من كان يضرب بالأبواق، والدبادب، في أوقات الصلوات الخمس، وهو نفس ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كان يضرب بها طرفي النهار، تشبهاً منه - زعم - بذي القرنين، ووكل ما دون ذلك إلى ملوك الأطراف. وهذه المشابهة لليهود والنصارى، وللأعاجم: من الروم والفرس، لما غلبت على ملوك المشرق، هي وأمثالها، مما خالفوا به هدي المسلمين، ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله - سلط عليهم، الترك الكافرون، الموعود بقتالهم حتى فعلوا في العباد والبلاد، ما لم يجر في دولة الإسلام مثله، وذلك تصديق قوله صلى الله عليه وسلم: ((لتركبن سنن من كان قبلكم)) (¬4). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص318 ¬

(¬1) [1179])) رواه البخاري (603) , ومسلم (378). (¬2) [1180])) رواه البخاري (604) , ومسلم (377). (¬3) [1181])) الخميس الصغير: يوم من أيام النصارى التي يحتفلون بها، وهو الواقع قبل آخر الخميس من أيام صومهم، ويحتفلون بهذا الخميس الصغير تقديماً للاحتفال بيوم الخميس الكبير، وهو آخر صوم النصارى، وهو عيد المائدة. (من تعليق: د. ناصر بن عبد الكريم العقل). (¬4) [1182])) رواه الترمذي (2180) وأحمد (5/ 218) (21950) وابن حبان (15/ 94) والطبراني (3/ 244) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 346) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (2/ 54): [أشار في المقدمة إلى صحته] , وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

وأيضاً - فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) (¬1) متفق عليه. وعن جبير بن نفير، عن عبد الله بن عمرو قال: ((رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه ثياب الكفار، فلا تلبسها)) (¬2) رواه مسلم. علل النهي عن لبسها بأنها: من ثياب الكفار، وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار، بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا، أو مما يعتاده الكفار لذلك. كما أنه في الحديث قال: يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا، وهي للمؤمنين في الآخرة، ولهذا كان العلماء، يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة، تشبهاً بالكفار. ففي (الصحيحين) عن أبي عثمان النهدي، قال: كتب إلينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان، مع عتبة بن فرقد، ((يا عتبة إنه ليس من كد أبيك، ولا من كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم، مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس الحرير، قال: إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأصبعيه: الوسطى والسبابة وضمهما)) (¬3). وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين، أن حذيفة بن اليمان أتى بيتاً، فرأى فيه حارستان: فيه أباريق الصفر والرصاص، فلم يدخله، وقال: ((من تشبه بقوم فهو منهم))، وفي لفظ آخر: ((فرأى شيئاً من زي العجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم)) (¬4)، وقال علي بن أبي صالح السواق: كنا في وليمة، فجاء أحمد بن حنبل، فلما دخل نظر إلى كرسي في الدار عليه فضة، فخرج فلحقه صاحب الدار، فنفض يده في وجهه وقال: زي المجوس! زي المجوس!. وقال في رواية صالح: إذا كان في الدعوة مسكر، أو شيء من: آنية المجوس: الذهب والفضة، أو ستر الجدران بالثياب - خرج ولم يطعم. ولو تتبعنا ما في هذا الباب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما دل عليه كتاب الله، لطال. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص321 وقد تقدم ما رواه البخاري في (صحيحه)، ((عن عمر بن الخطاب: أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: إياكم وزي أهل الشرك)). وهذا نهي منه للمسلمين، عن كل ما كان من زي المشركين. وقال الإمام أحمد في (المسند): حدثنا يزيد، حدثنا عاصم، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب أنه قال: ((اتزروا، وارتدوا، وانتعلوا، والبسوا الخفاف، والسراويلات، وألقوا الركب، وانزوا نزوا، وعليكم بالمعدية، وارموا الأغراض، وذروا التنعم وزي العجم، وإياكم والحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه، وقال: لا تلبسوا من الحرير، إلا ما كان هكذا، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعيه)) (¬5). وقال أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال: جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه، ونحن بأذربيجان: يا عتبة بن فرقد، إياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهانا عن لبوس الحرير وقال: إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصبعيه)) (¬6)، وهذا ثابت على شرط الصحيحين. وفيه: أن عمر رضي الله عنه أمر بالمعدية، وهي زي بني معد بن عدنان، وهم العرب، فالمعدية نسبة إلى معد ونهى عن زي العجم وزي المشركين، وهذا عام كما لا يخفى اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص333 ¬

(¬1) [1183])) رواه البخاري (5633) , ومسلم (2067) , واللفظ للبخاري. (¬2) [1184])) رواه مسلم (2077). (¬3) [1185])) رواه البخاري (5829) , ومسلم (2069) , واللفظ لمسلم. (¬4) [1186])) رواه أحمد في ((الورع)) (1/ 178). (¬5) [1187])) رواه أحمد (1/ 43) (301) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 128) , وابن حبان (12/ 268) , قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (1/ 153): إسناده صحيح. وقال أبو نعيم في ((الحلية)) (3/ 145): ثابت مشهور من حديث عاصم. (¬6) [1188])) رواه أحمد (1/ 15) (92) , قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 373): ثابت على شرط (الصحيحين) , وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد) (1/ 62): إسناده صحيح.

المبحث الثامن: شبهات وجوابها حول التشبه

المبحث الثامن: شبهات وجوابها حول التشبه فإن قيل ما ذكر ... من الأدلة معارض بما يدل على خلافه وذلك: أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقوله تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ. وقوله: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ. وقوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ [المائدة: 44]. وغير ذلك من الدلائل المذكورة في غير هذا الموضع، مع أنكم مسلمون لهذه القاعدة، وهي قول عامة السلف وجمهور الفقهاء. ومعارض بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياماً، يوم عاشوراء، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه)). (¬1) متفق عليه. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فصوموه أنتم)). (¬2) متفق عليه وهذا اللفظ للبخاري ولفظ مسلم: ((تعظمه اليهود وتتخذه عيداً)) (¬3)، وفي لفظ: ((كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه عيداً، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشاراتهم)) (¬4). وعن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناصيته، ثم فرق بعد)) (¬5). متفق عليه. بيان أن هذا الاعتراض مبني على مقدمتين كلتاهما منتفية قيل: أما المعارضة بكون شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، فذاك مبني على مقدمتين، كلتاهما منتفية، في مسألة التشبه بهم. ¬

(¬1) [1189])) رواه البخاري (3397) ومسلم (1130). (¬2) [1190])) رواه البخاري (2005). (¬3) [1191])) رواه مسلم (1131). (¬4) [1192])) رواه مسلم (1131) (130). (¬5) [1193])) رواه البخاري (5917) ومسلم (2336).

إحداهما: أن يثبت أن ذلك شرع لهم، بنقل موثوق به، مثل أن يخبرنا الله في كتابه، أو على لسان رسوله، أو ينقل بالتواتر، ونحو ذلك، فأما مجرد الرجوع إلى قولهم، أو إلى ما في كتبهم، فلا يجوز بالاتفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد استخبرهم فأخبروه، ووقف على ما في التوراة، فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم، بل الله سبحانه يعرفه ما يكذبون مما يصدقون، كما قد أخبره بكذبهم غير مرة، وأما نحن فلا نأمن أن يحدثونا بالكذب، فيكون فاسق، بل كافر، قد جاءنا بنبأ فاتبعناه، وقد ثبت في (الصحيح) (¬1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)) (¬2). المقدمة الثانية: أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك، فأما إذا كان فيه بيان خاص: إما بالموافقة، أو بالمخالفة، استغني عن ذلك فيما ينهى عنه عن موافقته، ولم يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا، وإن ثبت فقد كان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخلافه، وبهم أمرنا نحن أن نتبع ونقتدي، وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم: أن يكون هدينا مخالفاً لهدي اليهود والنصارى، وإنما تجيء الموافقة في بعض الأحكام العارضة، لا في الهدي الراتب، والشعار الدائم. ثم ذلك بشرط: أن لا يكون قد جاء عن نبينا وأصحابه خلافه، أو ثبت أصل شرعه في ديننا، وقد ثبت عن نبي من الأنبياء أصله أو وصفه، مثل: فداء من نذر أن يذبح ولده بشاة، ومثل: الختان المأمور به في ملة إبراهيم عليه السلام، ونحو ذلك، وليس الكلام فيه .. .. كل ما جاء من تشبه النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الكتاب إنما كان في صدر الهجرة ثم نسخ فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقة لأهل الكتاب، فيكون قوله: ((فنحن أحق بموسى منكم)). توكيداً لصومه، وبياناً لليهود: أن يفعلونه من موافقة موسى نحن أيضاً نفعله، فنكون أولى بموسى منكم. ثم الجواب عن هذا، وعن قوله: كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء من وجوه: أحدها: أن هذا كان متقدماً، ثم نسخ الله ذلك، وشرع له مخالفة أهل الكتاب، وأمره بذلك، وفي متن الحديث: أنه سدل شعره موافقة لهم، ثم فرق شعره بعد. ولهذا صار الفرق شعار المسلمين، وكان من الشروط على أهل الذمة أن لا يفرقوا شعورهم، وهذا كما أن الله تعالى شرع له في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب، ثم نسخ ذلك، وأمره باستقبال الكعبة، وأخبره عن اليهود وغيرهم من السفهاء، أنهم سيقولون: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [البقرة: 142]. وأخبره أنهم لا يرضون عنه حتى يتبع قبلتهم، وأخبره أنه: إن اتبع أهواءهم من بعد ما جاءه من العلم ما له من الله من ولي ولا نصير، وأخبره أن: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة: 148] وكذلك أخبره في موضع آخر أنه: جعل لكلٍ شرعة ومنهاجاً، فالشعار من جملة الشرعة. ¬

(¬1) [1194])) الذي ثبت في الصحيح وهو ما رواه البخاري (7542) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا *البقرة: 136*)). (¬2) [1195])) رواه أبو داود (3644) , وأحمد (4/ 136) (17264) , والطبراني (22/ 349) , وابن حبان (14/ 151) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) , من حديث أبي نملة الأنصاري, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (3/ 47): [فيه] نملة بن أبي نملة قال ابن قطان مجهول الحال وله سند آخر, وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 52): إسناده جيد, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (6/ 712): إسناده ثقات رجال الشيخين غير ابن أبي نملة يقولون صدوق يحسنون أو يجودون حديثه.

والذي يوضح ذلك: أن هذا اليوم يوم - عاشوراء - الذي صامه وقال: ((نحن أحق بموسى منكم)) , قد شرع - قبيل موته - مخالفة اليهود في صومه، وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك، ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو الذي يقول: وكان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، وهو الذي روى قوله: ((نحن أحق بموسى منكم)) - أشد الصحابة رضي الله عنهم أمراً بمخالفة اليهود في صوم عاشوراء، وقد ذكرنا أنه هو الذي روى شرع المخالفة. وروى - أيضاً - مسلم في (صحيحه) عن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس، وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: ((إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع صائماً، فقلت: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم)) (¬1). وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) (¬2) , يعني يوم عاشوراء، ومعنى قول ابن عباس: صم التاسع يعني والعاشر، هكذا ثبت عنه، وعلله بمخالفة اليهود، قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان بن عمرو بن دينار، أنه سمع عطاء، سمع ابن عباس رضي الله عنهما، يقول: صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود. وروينا في فوائد داود بن عمرو، عن إسماعيل بن علية قال: ذكروا عند ابن أبي نجيح، أن ابن عباس كان يقول: يوم عاشوراء يوم التاسع فقال ابن أبي نجيح: إنما قال ابن عباس: أكره أن أصوم يوماً فاردا، ولكن صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً. ويحقق ذلك: ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم)) (¬3)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروى سعيد في (سننه) عن هشيم، عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي، عن أبيه عن جده ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)) ورواه أحمد ولفظه: ((صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً)) (¬4)، ولهذا ذهب أحمد على مثل ما رواه ابن عباس وأفتى به، فقال في رواية الأثرم: أنا أذهب في عاشوراء: أن يصام يوم التاسع والعاشر، لحديث ابن عباس: ((صوموا التاسع والعاشر)) (¬5)، وقال حرب: سألت أحمد عن صوم يوم عاشوراء، فقال: يصوم التاسع والعاشر، وقال في رواية الميموني، وأبي الحارث: من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام، ابن سيرين يقول ذلك. وقد قال بعض أصحابنا: إن الأفضل صوم التاسع والعاشر، وإن - اقتصر على العاشر لم يكره. ¬

(¬1) [1196])) رواه مسلم (1133) (132). (¬2) [1197])) رواه مسلم (1133) (134). (¬3) [1198])) رواه الترمذي (755) , وقال حديث ابن عباس حسن صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) , وقال الوادعي في ((أحاديث معلة)) (206): سنده رجال الصحيح ولكنه منقطع. (¬4) [1199])) رواه أحمد (1/ 241) (2154) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (4/ 287) , وابن خزيمة في ((صحيحه)) (3/ 290) , قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (3/ 554): [فيه] داود بن علي عندي أنه لا بأس برواياته, وقال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (3/ 1543): [فيه] داود بن علي سئل يحيى بن معين عنه فقال: أرجو أنه لا يكذب, وقال الشيخ الألباني في ((صحيح ابن خزيمة)) (2095): إسناده ضعيف، وروي موقوفاً وسنده صحيح. (¬5) [1200])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (4/ 287).

ومقتضى كلام أحمد: أنه يكره الاقتصار على العاشر، لأنه سئل عنه فأفتى بصوم اليومين وأمر بذلك، وجعل هذا هو السنة لمن أراد صوم عاشوراء، واتبع في ذلك حديث ابن عباس، وابن عباس كان يكره إفراد العاشر على ما هو مشهور عنه. ومما يوضح ذلك: أن كل ما جاء من التشبه بهم، إنما كان في صدر الهجرة، ثم نسخ، ذلك: أن اليهود إذ ذاك، كانوا لا يتميزون عن المسلمين لا في شعور ولا في لباس، ولا بعلامة ولا غيرها. ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع، الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدي. وسبب ذلك: أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أولٍ ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا، شرع ذلك. ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم، لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة. فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة تختلف لهم باختلاف الزمان والمكان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا. الوجه الثاني: لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان له أن يوافقهم لأنه يعلم حقهم من باطلهم، بما يعلمه الله إياه، ونحن نتبعه، فأما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئاً من الدين عنهم: لا من أقوالهم، ولا من أفعالهم، بإجماع المسلمين المعلوم بالاضطرار، من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو قال رجل: يستحب لنا موافقة أهل الكتاب، الموجودين في زماننا، لكان قد خرج عن دين الأمة. الثالث: أن نقول بموجبه: كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم إنه أمر بمخالفتهم، وأمرنا نحن أن نتبع هديه وهدي أصحابه السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والكلام إنما هو في أنا منهيون عن التشبه بهم، فيما لم يكن سلف الأمة عليه، فأما ما كان سلف الأمة عليه: فلا ريب فيه، سواء فعلوه أو تركوه، فإنا لا نترك ما أمر الله به لأجل أن الكفار تفعله، مع أن الله لم يأمرنا بشيء يوافقونا عليه إلا ولا بد فيه من نوع مغايرة يتميز بها دين الله المحكم مما قد نسخ أو بدل اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية –ص 412

الباب الثالث: توحيد الأسماء والصفات

المطلب الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات توحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في القرآن والسنة، والإيمان بمعانيها وأحكامها. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 29

المطلب الثاني: شرح مفردات التعريف

المطلب الثاني: شرح مفردات التعريف أولاً: (إفراد الله): هذا معنى كلمة (التوحيد)، فأصل هذه الكلمة من (وحد) فيقال: وحد يوحد توحيداً: أي جعله واحداً. ومادة (وحد) في اللغة مصدرها على انفراد الشيء. فإذا قلت: توحيد الله بأسمائه: فالمعنى إفراد الله بأسمائه. ثانيا: (بأسمائه الحسنى): (بأسمائه): الاسم في اللغة: هو اللفظ الموضوع لمعنى تعييناً أو تمييزاً. أو الاسم: ما دل على الذات وما قام بها من الصفات. ومن أسماء الله تعالى: الله – الرحمن – الرحيم – الغفور – العزيز – القدير – السميع – البصير – البارئ ... (الحسنى): هذا وصف لأسماء الله، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم. 1 - المواضع التي ورد فيها: ورد هذا الوصف لأسماء الله عز وجل في أربعة مواضع من كتاب الله عز وجل، وهذه المواضع هي: أ- قال تعالى: وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180]. ب- قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى [الإسراء: 110] ج- قال تعالى: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى [طه: 8]. د- قال تعالى: هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى [الحشر: 24]. 2 - تصريفها: حسنى على وزن (فعلى) تأنيث أفعل التفضيل، فحسنى تأنيث أحسن، ككبرى تأنيث أكبر، وصغرى تأنيث أصغر، ولذلك يخطئ من يقول إنها تأنيث حسن؛ لأن تأنيث (حسن) (حسنة)، ومن أجل ذلك لا يصح أن نقول: إن أسماء الله حسنة، والصواب هو أن نقول: إن أسماء الله حسنى ما وصفها الله بذلك. 3 - معناها: معنى حسنى: المفضلة على الحسنة، أي البالغة في الحسن غايته. المعنى العام للآية: وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى: لله أحسن الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها. 5 - الحكم المستفاد: يجب الإيمان بهذا الوصف الذي أخبر الله به عن أسمائه وذلك بالاعتقاد الجازم أن أسماء الله هي أحسن الأسماء, وأتمها, وأكملها معنى، وفي هذا الوصف أحكام أخرى مستفادة ... ثالثاً: (وصفاته العلى): (وصفاته): الصفة هي: ما قام بالذات مما يميزها عن غيرها من أمور ذاتية أو معنوية أو فعلية. ومن صفات الله عز وجل: الذاتية: اليدان – الوجه – العينان – الأصابع. المعنوية: العلم – القدرة – الحياة - الإرادة. الفعلية: النزول – الاستواء – الخلق – الرزق. (العُلَى): قال تعالى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [النحل: 60]. وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [الرُّوم: 27] ........ 2 - تصريفها: (الأعلى) صيغة أفعل التفضيل، أي أعلى من غيره (¬1). 3 - معنى الآية: قال القرطبي: وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى: أي الوصف الأعلى (¬2). وقال ابن كثير: وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وهو كل صفة كمال؛ وكل كمال في الوجود فالله أحق به من غير أن يستلزم ذلك نقصاً بوجه (¬3). ¬

(¬1) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1030). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (10/ 119). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (4/ 104).

4 - الحكم المستفاد: يجب الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه, وذلك بالاعتقاد الجازم بأن كل ما أخبر الله به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات هي صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو سبحانه المستحق للكمال المُطلق من جميع الوجوه. قال الإمام ابن القيم: (المثل الأعلى يتضمن ثبوت الصفات العليا لله سبحانه، ووجودها العلمي، والخبر عنها، وذكرها، وعبادة الرب سبحانه بها ... ) (¬1). رابعاً: الواردة في القرآن والسنة أي يجب الوقوف في أسماء الله وصفاته على ما جاءت به نصوص القرآن والسنة لا نزيد على ذلك ولا ننقص منه. فلا نسمي أو نصف الله بما لم يسم أو يصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وذلك لأنه لا طريق إلى معرفة أسماء الله وصفاته إلا من طريق واحد هو طريق الخبر – أي الكتاب والسنة -. فلو قال شخص: لله سمع بلا أذنين. وقال آخر: لله سمع بأذنين. لحكمنا بخطأ الاثنين؛ لأنه لم يأت ذكر الأذنين في النصوص لا نفياً ولا إثباتاً، والحق هو أن يقال: لله سمع يليق بجلاله كما جاءت بذلك النصوص، وقد نهانا الله أن نتكلم بغير علم، فقال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] وبالتالي لا يجوز الإثبات أو النفي إلا بالنص. قال الإمام أحمد (ت 241) رحمه الله: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه, أو ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم, لا نتجاوز القرآن والسنة) (¬2). وقال ابن عبد البر (ت 463) رحمه الله: (ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه) (¬3). خامساً: والإيمان بمعانيها وأحكامها أي الإيمان بما تضمنته من المعاني, وبما ترتب عليها من مقتضيات وأحكام. وهذا ما جاء الأمر به والحث عليه في القرآن والسنة. فمن القرآن: قوله تعالى: وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]، والشاهد من الآية قوله: (فادعوه بها). ووجه الاستشهاد: أن الله يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، فالدعاء بها يتناول: دعاء المسألة: كقولك: ربي ارزقني. ودعاء الثناء: كقولك: سبحان الله. ودعاء التعبد: كالركوع والسجود (¬4). ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة)) متفق عليه. الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحصاها)). ووجه الاستشهاد: أن معنى أحصاها: أي حفظها ألفاظاً، وفهم معانيها ومدلولاتها، وعمل بمقتضياتها وأحكامها. فالعلم بأسماء الله وصفاته, واعتقاد تسمي الله واتصافه بها هو من العبادة, وإدراك القلب لمعانيها، وما تضمنته من الأحكام والمقتضيات، واستشعاره وتجاوبه لذلك بالقدر الذي يؤدي إلى سلامة تفكيره واستقامة سلوكه، هو عبادة أيضاً. فأهل السنة يؤمنون بما دلت عليه أسماء الله وصفاته من المعاني، وبما يترتب عليها من مقتضيات وأحكام، بخلاف أهل الباطل الذين أنكروا ذلك وعطلوه. فأهل السنة يؤمنون بأن كل اسم من أسماء الله يدل على معنى الذي نسميه (الصفة) , فلذلك كان لزاماً على من يؤمن بأسماء الله تعالى أن يراعي الأمور التالية: ¬

(¬1) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1034) بتصرف. (¬2) ((الفتوى الحموية)) (ص: 61)، دار فجر التراث. (¬3) ((جامع بيان العلم وفضله)) (ص: 96). (¬4) ((مدارج السالكين)) (1/ 420).

أولاً: الإيمان بثبوت ذلك الاسم لله عز وجل. ثانياً: الإيمان بما دل عليه الاسم من المعنى أي (الصفة). ثالثاً: الإيمان بما يتعلق به من الآثار والحكم والمقتضى. مثال ذلك: (السميع). اسم من أسماء الله الحسنى، فلابد من الإيمان به من: 1 - إثبات اسم (السميع) باعتباره اسماً من أسماء الله الحسنى. 2 - إثبات (السمع) صفة له. 3 - إثبات الحكم (أي الفعل) وهو أن الله يسمع السر والنجوى. وإثبات المقتضى والأثر: وهو وجوب خشية الله, ومراقبته, وخوفه, والحياء منه عز وجل. قال ابن القيم رحمه الله: (كل اسم من أسمائه عز وجل له تعبد مختص به علماً ومعرفة وحالاً: علماً ومعرفة: أي إن من علم أن الله مسمى بهذا الاسم وعرف ما يتضمنه من الصفة ثم اعتقد ذلك فهذه عبادة. وحالاً: أي إن لكل اسم من أسماء الله مدلولاً خاصاً وتأثيراً معيناً في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني، وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه) (¬1). وكذلك الشأن في صفات الله عز وجل، فلابد من الإيمان بمعانيها وأحكامها، فهذه عقيدة أهل السنة، بخلاف عقيدة المعطلة الذين نفوا ما دلت عليه تلك الصفات من المعاني، وتلاعبوا بتلك المعاني فحرفوها وبدلوها. فأهل السنة يرون أنه لزاماً على من أراد إثبات الصفات والإيمان بأنها صفات كمال تثبت لله حقيقة – أن يراعي الأمور التالية: 1 - إثبات تلك الصفة فلا يعاملها بالنفي والإنكار. 2 - أن لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة ولا يغير اسمها ويعيرها اسماً آخر، كما تسمي المعطلة سمعه وبصره وكلامه (أعراضاً). ويسمون وجهه ويديه وقدمه (جوارح وأبعاضاً). ويسمون علوه على خلقه واستواءه على عرشه (تحيزاً). 3 - عدم تشبيهها بما للمخلوق، فإن الله سبحانه (ليس كمثله شيء) لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. 4 - اليأس من إدراك كنهها وكيفياتها، فالعقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول أهل السنة: (بلا كيف): أي بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك (¬2). 5 - تحقيق المقتضى والأثر لتلك الصفات، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها – أعني من موجبات العلم بها, والتحقق بمعرفتها – فعلم العبد بتفرد الرب بالخلق, والرزق, والإحياء, والإماتة، يثمر له عبودية (التوكل). وعلم العبد بجلال الله وعظمته وعزه، يثمر له الخضوع, والاستكانة, والمحبة. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– بتصرف - ص: 29 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 420). (¬2) ((مدارج السالكين)) (3/ 358 - 359) بتصرف يسير.

المبحث الثاني: عقيدة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته إجمالا

المبحث الثاني: عقيدة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته إجمالا وأهل السنة والجماعة: يعرفون ربهم بصفاته الواردة في القرآن والسنة، ويصفون ربهم بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ويثبتون لله ما أثبته لنفسه من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف، وقاعدتهم في كل ذلك قول الله تبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وقوله: وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] وأهل السنة والجماعة: لا يحددون كيفية صفات الله – جل وعلا – لأنه تبارك وتعالى لم يخبر عن الكيفية، ولأنه لا أحد أعلم من الله سبحانه بنفسه، قال تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ [البقرة:140] وقال تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74] ولا أحد أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي قال الله تبارك وتعالى في حقه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] وأهل السنة والجماعة: يؤمنون أن الله – سبحانه وتعالى – هو الأول ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، كما قال سبحانه: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] وكما أن ذاته - سبحانه وتعالى - لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفء له ولا ند له، ولا يقاس بخلقه؛ فيثبتون لله ما أثبته لنفسه إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل؛ فحين يثبتون لله ما أثبته لنفسه لا يمثلون، وإذا نزهوه لا يعطلون الصفات التي وصف نفسه بها، وأنه تعالى محيط بكل شيء، وخالق كل شيء، ورازق كل حي، قال الله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] وقال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] ويؤمنون بأن الله تعالى استوى على العرش فوق سبع سموات بائن من خلقه، أحاط بكل شيء علماً، كما أخبر عن نفسه في كتابه العزيز في سبع آيات كريمات بلا تكييف قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وقال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وقال: أَأَمِنتُم مَّنْ فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:17] وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل:50] وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟)) (¬1) ¬

(¬1) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064). من حديث أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ..

وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن الكرسي والعرش حق قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] والعرش لا يقدر قدره إلا الله، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في فلاة وسع السماوات والأرض، والله مستغن عن العرش والكرسي، ولم يستو على العرش لاحتياجه إليه؛ بل لحكمة يعلمها، وهو منزه عن أن يحتاج إلى العرش أو ما دونه، فشأن الله تبارك وتعالى أعظم من ذلك؛ بل العرش والكرسي محمولان بقدرته وسلطانه وأن الله تعالى خلق آدم – عليه السلام – بيديه، وأن كلتا يديه يمين ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء كما وصف نفسه سبحانه فقال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة:64] وقال: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وأهل السنة والجماعة: يثبتون لله سمعاً، وبصراً، وعلماً، وقدرة، وقوة، وعزاً، وكلاماً وحياة، وقدماً وساقاً، ويداً، ومعية وغيرها من صفاته – عز وجل – التي وصف بها نفسه في كتابه العزيز، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها؛ لأنه تعالى لم يخبرنا عن الكيفية، قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] وقال: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2] وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8] يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55] يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42] اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجادلة:14] وغيرها من آيات الصفات وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] وسوف يرونه كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) (¬1) وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وعظمته قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له؟)) (¬2) ¬

(¬1) رواه البخاري (554)، ومسلم (633). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة -يعنى البدر- فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته،. .. ) (¬2) رواه البخاري (1145)، ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ..

ويؤمنون بأنه تعالى يجيء يوم الميعاد للفصل بين العباد، مجيئاً حقيقياً يليق بجلاله، قال سبحانه وتعالى: كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:21 - 22] وقوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة: 210] فمنهج أهل السنة والجماعة في كل ذلك الإيمان الكامل بما أخبر به الله تعالى، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتسليم به؛ كما قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم وكما قال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: (كل ما وصف الله تعالى به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره لا كيف، ولا مثل) وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله) وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي، وسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقالوا: (أمروها كما جاءت بلا كيف) وقال الإمام مالك بن أنس – إمام دار الهجرة – رحمه الله: إياكم والبدع قيل: وما البدع؟ قال: أهل البدع هم الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسأله رجل عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً، وأمر به أن يخرج من المجلس وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء؛ بل يصفه بما وصف به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئاً؛ تبارك الله تعالى رب العالمين ولما سئل – رحمه الله – عن صفة النزول، فقال: ينزل بلا كيف. وقال الحافظ الإمام نعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيها وقال بعض السلف: قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم لذا فإنه من سلك مسلك السلف في الحديث عن ذات الله تعالى وصفاته، يكون ملتزماً بمنهج القرآن في أسماء الله وصفاته سواء كان السالك في عصر السلف، أو في العصور المتأخرة وكل من خالف السلف في منهجهم؛ فلا يكون ملتزماً بمنهج القرآن، وإن كان موجوداً في عصر السلف، وبين أظهر الصحابة والتابعين الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص55

المبحث الثالث: منزلة العلم بأسماء الله وصفاته من الدين

المطلب الأول: العلم بأسماء الله وصفاته هو الطريق إلى معرفة الله سبحانه وتعالى والإيمان بالأسماء والصفات يقوي اليقين بالله، وهو سبب لمعرفة الله، والعلم به، بل إن العلم بالله ومعرفة الله - جل وعلا - تكون بمعرفة أسمائه وصفاته، وبمعرفة آثار الأسماء والصفات في ملكوت الله جل وعلا التمهيد لشرح كتاب التوحيد لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ - ص 437

المطلب الثاني: تزكية النفوس وإقامتها على منهج الله

المطلب الثاني: تزكية النفوس وإقامتها على منهج الله أمَّا التزكية التي أثنى الله تعالى على أصحابها في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [الشمس:9] فالمراد بتزكية النفس هنا تطهيرُها بالأعمال الصالحة وترك الأعمال السيّئة، هذه تزكية النفس، شغلُها بالأعمال الصالحة وتجنيبُها للأعمال السيئة فهناك تزكيةٌ منهيٌّ عنها وهي: الإعجاب والمدح للنفس، وهناك تزكية مأمورٌ بها وهي الإصلاح والتوبة والعمل الصالح: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وتوعَّد الله الذين لا يزكون أنفسهم قال تعالى: وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت: 6 - 7] قال بعض المفسرين: المراد بالزّكاة هنا: تزكية النفس، لأن الآية مكية، والزكاة بالأموال لم تكن نزلت إلاّ في المدينة، وفي قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4] قالوا: والمراد بالزكاة هنا: زكاة النفس، لأنَّ الآية مكيّة- أيضاً-، فتزكية النفس بالأعمال الصالحة مطلوبة مأمور بها إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد لصالح بن فوزان الفوزان - ص246

المطلب الثالث: العلم بأسماء الله وصفاته أشرف العلوم

المطلب الثالث: العلم بأسماء الله وصفاته أشرف العلوم إن العلم بالله وأسمائه وصفاته أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم في هذا العلم هو الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، فالاشتغال بفهم هذا العلم، والبحث التام عنه، اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب، ولذلك بينه الرسول صلى الله عليه وسلم غاية البيان، ولاهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم ببيانه لم يختلف فيه الصحابة رضي الله عليهم كما اختلفوا في الأحكام تفسير أسماء الله الحسنى لعبدالرحمن السعدي - ص6 - 8

المطلب الرابع: العلم بأسماء الله وصفاته أصل للعلم بكل ما سواه

المطلب الرابع: العلم بأسماء الله وصفاته أصل للعلم بكل ما سواه إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقا له تعالى أو أمرا إما علم بما كونه أو علم بما شرعه ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده فوجود من سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى ولهذا لا تجد فيها خللا ولا تفاوتا لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله إما أن يكون لجهله به أو لعدم حكمته وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض بدائع الفوائد لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - 1/ 170

المطلب الخامس: العلم بأسماء الله وصفاته من أسباب زيادة الإيمان

المطلب الخامس: العلم بأسماء الله وصفاته من أسباب زيادة الإيمان إن الإيمان بأسماء الله الحسنى ومعرفتها يتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان ورَوحه (الروح: هو الفرح، والاستراحة من غم القلب)، وأصله وغايته، فكلما زاد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه التوضيح والبيان لشجرة الإيمان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي - ص41

المطلب السادس: عظم ثواب من أحصى أسماء الله سبحانه وتعالى

تمهيد: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله تسعة وتسعون اسماً, مائة إلا واحدة لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)) (¬1). وفي رواية: ((من أحصاها دخل الجنة)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (6410)، ومسلم (2677). (¬2) رواه البخاري (7392)، ومسلم (2636).

المسألة الأولى: هل المراد بالحديث حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد؟

المسألة الأولى: هل المراد بالحديث حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد؟ ((لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحدة)) هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد, أو أنها أكثر من ذلك، ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة؟ فذهب جمهور العلماء إلى الثاني، ونقل النووي اتفاق العلماء عليه، وقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى, وليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث: أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء. وقال أبو سليمان حمد الخطابي: إنما هو بمنزلة قولك إن لزيد ألف درهم أعدها للصدقة، وكقولك: إن لعمرو مائة ثوب من زاره خلعها عليه، وهذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثر من ألف درهم، ولا من الثياب أكثر من مائة ثوب، وإنما دلالته أن الذي أعده زيد من الدراهم للصدقة ألف درهم، وأن الذي أرصده عمرو من الثياب للخلع مائة, والذي يدل على صحة هذا التأويل حديث عبد الله بن مسعود وقد ذكره محمد بن إسحاق بن خزيمة في المأثور: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك, أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك .. إلخ)) (¬1). فهذا يدلك على أن لله أسماء لم ينزلها في كتابه، حجبها عن خلقه، ولم يظهرها لهم. اهـ (¬2). وقال شيخ الإسلام كما في (مجموع الفتاوى) (6/ 381) بعد نقله كلام الخطابي: وأيضاً فقوله: ((إن لله تسعة وتسعون)) تقيده بهذا العدد، بمنزلة قوله تعالى: تِسْعَةَ عَشَرَ فلما استقلوهم قال: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31]. فأن لا يعلم أسماءه إلا هو أولى اهـ. وقال في (درء تعارض العقل والنقل) (3/ 332) والصواب الذي عليه الجمهور أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) (¬3) معناه: أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسماً، ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود السابق (¬4). وقال: وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخط, وبمعافاتك من عقوبتك, وبك منك لا أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬5). فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لا يحصى ثناء عليه، ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها, فكان يحصى الثناء عليه لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه. ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 391) (3712) والطبراني (10/ 169) وابن حبان (3/ 253) والحاكم (1/ 690). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 189): رجاله رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان , وصححه ابن القيم في ((شفاء العليل)) (2/ 749) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 267)) إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (199). (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص: 24). (¬3) رواه البخاري (6410)، ومسلم (2677). (¬4) الحديث رواه أحمد (1/ 391) (3712) والطبراني (10/ 169) وابن حبان (3/ 253) والحاكم (1/ 690). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 189): رجاله رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان , وصححه ابن القيم في ((شفاء العليل)) (2/ 749) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 267)) إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (199). (¬5) رواه مسلم (486). من حديث عائشة رضي الله عنها.

وخالف ابن حزم ههنا، فذهب إلى الحصر في العدد المذكور, ورد عليه الحافظ ابن حجر في الفتح فقال: وابن حزم ممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور، وهو لا يقول بالمفهوم أصلاً، ولكنه احتج بالتأكيد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((مائة إلا واحداً)) قال: لإنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور، لزم أن يكون له مائة، فيبطل قوله: ((مائة إلا واحداً)). قال الحافظ: وهذا الذي قاله ليس بحجة على ما تقدم، لأن الحصر المذكور عندهم باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها، فمن ادعى أن الوعد وقع لمن أحصى زائداً على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد. اهـ (¬1). وقد تكلم العلماء – ومنهم الرازي في شرح الأسماء - عن سر هذا العدد المخصوص بكلام كثير (¬2)، والذي نراه أن تفويض علمه لله أقرب إلى الصواب، لأن الله لم يطلعنا على حكمة ذلك، فهو كأعداد الصلوات، والله تعالى أعلم. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود- ص 43 قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: أسماء الله ليست محصورة بعدد معين، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك – إلى أن قال: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) (¬3)، وما أستأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يُعلَم به، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) (¬4)، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء، لكن معناه أن مَن أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فقوله: ((من أحصاها)) تكميل للجملة الأولى، وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول القائل: عندي مئة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله، فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة بل معناه أن هذه المئة مُعدَّة لهذا الشيء القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 2/ 354 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (11/ 221). (¬2) ((تفسير الرازي)) (ص: 2092). (¬3) رواه أحمد (1/ 391) (3712)، وأبو يعلى في ((المسند)) (9/ 198)، وابن حبان (3/ 253)، والطبراني (10/ 169) والحاكم (1/ 690). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 136): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار إلا أنه قال: ((وذهاب غمي)) مكان ((همي)) والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. وقال ابن القيم في (شفاء العليل) (2/ 749): صحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 267): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (199): صحيح. (¬4) رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المسألة الثانية: معنى إحصاء أسماء الله

المسألة الثانية: معنى إحصاء أسماء الله معنى قوله ((من أحصاها)) وهو يحتمل وجوها: - أن يعدها حتى يستوفيها حفظاً, ويدعو ربه بها، ويثني عليه بجميعها، كقوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28]. واستدل له الخطابي بقوله صلى الله عليه وسلم – كما في الرواية الأخرى – ((من حفظها دخل الجنة)) (¬1) (¬2). وقال النووي: قال البخاري وغيره من المحققين: معناه حفظها, وهذا هو الأظهر لثبوته نصاً في الخبر. وقال في الأذكار: وهو قول الأكثرين (¬3). وقال ابن الجوزي: لما ثبت في بعض طرق الحديث ((من حفظها)) بدل ((من أحصاها))، اخترنا أن المراد (العد) أي: من عدها ليستوفيها حفظاً. ورد هذا القول الحافظ فقال: وفيه نظر، لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ ((حفظها)) تعيين السرد عن ظهر قلب, بل يحتمل الحفظ المعنوي. وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط, لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العلم بها. وكذا قال أبو نعيم الأصبهاني وابن عطية (¬4). - أن يكون المراد بالإحصاء (الإطاقة)، كقوله تعالى: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ [المزمل: 20] أي لن تطيقوه، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم ((استقيموا ولن تحصوا .. )) (¬5). أي: لن تبلغوا كل الاستقامة. فيكون المعنى: أن يطبق الأسماء الحسنى ويحسن المراعاة لها، وأن يعمل بمقتضاها، وأن يعتبرها فيلزم نفسه بواجبها. فإذا قال: يا رحمن يا رحيم، تذكر صفة الرحمة، واعتقد أنها من صفات الله سبحانه، فيرجو رحمته ولا ييأس من مغفرته. وإذا قال: (السميع البصير) علم أنه يراه ويسمعه, وأنه لا تخفى عليه خافية، فيخافه في سره, وعلنه, ويراقبه في كافة أحواله. وإذا قال: (الرزاق) اعتقد أنه المتكفل برزقه يسوقه إليه في وقته, فيثق بوعده, ويعلم أنه لا رازق له سواه .. إلخ (¬6). وقال أبو عمر الطلمنكي: من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعرفة بالأسماء والصفات, وما تتضمن من الفوائد, وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماً لمعاني الأسماء، ولا مستفيداً بذكرها ما تدل عليه من المعاني اهـ (¬7). - أن يكون الإحصاء بمعنى العقل والمعرفة, فيكون معناه أن من عرفها، وعقل معانيها، وآمن بها دخل الجنة، وهو مأخوذ من الحصاة وهي العقل، والعرب تقول: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل، ومعرفة بالأمور (¬8). قال القرطبي: المرجو من كرم الله تعالى أن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة. ¬

(¬1) رواه البخاري (6410)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((شأن الدعاء)) (26). (¬3) ((الأذكار)) (64). (¬4) ((الفتح)) (11/ 226). (¬5) رواه ابن ماجه (226)، وأحمد (5/ 276) (22432)، والدارمى (1/ 174) (655)، وابن حبان (3/ 311) (1037)، والطبراني (2/ 101) (1444)، والحاكم (447)، والبيهقي (1/ 82) (389). من حديث ثوبان رضي الله عنه. قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 47): هذا الحديث رجاله ثقات أثبات، إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان، فإنه لم يسمع منه بلا خلاف، لكن له طرق أخرى متصلة، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 130): إسناده صحيح، وجوّد إسناده النووي في ((المجموع)) (2/ 4)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 181) كما قال في المقدمة. (¬6) ((شأن الدعاء)) ص (27 - 28) ((الفتح)) (11/ 225 - 226). (¬7) ((الفتح)) (11/ 226). (¬8) ((شأن الدعاء)) ص (28 - 29) ((الفتح)) (11/ 225).

وهذه المراتب الثلاثة للسابقين, والصديقين, وأصحاب اليمين اهـ (¬1). د – أن يكون معنى الحديث أن يقرأ القرآن حتى يختمه فيستوفي هذه الأسماء كلها في أضعاف التلاوة، فكأنه قال: من حفظ القرآن وقرأه فقد استحق دخول الجنة. (¬2) قلت: لكن قد يفوته بعض الأسماء الواردة بالأحاديث النبوية الزائدة على القرآن. - طعن أبو زيد البلخي في صحة الخبر بأن دخول الجنة ثبت في القرآن مشروطاً ببذل النفس والمال, فكيف يحصل بمجرد حفظ ألفاظ تعد في أيسر مدة؟ قال الحافظ: وتعقب بأن الشرط المذكور ليس مطرداً ولا حصر فيه، بل قد تحصل الجنة بغير ذلك، كما ورد في كثير من الأعمال غير الجهاد إن فاعله يدخل الجنة. وأما دعوى أن حفظها يحصل في أيسر مدة فإنما يرد على من حمل (الحفظ والإحصاء) على معنى أن يسردها عن ظهر قلب، فأما من أوله على بعض الوجوه المتقدمة فإنه يكون في غاية المشقة. ويمكن الجواب عن الأول بأن الفضل واسع اهـ. (¬3). وقد ذكر الرازي أن من أخذ هذا الحديث دون الزيادة التي فيها تفصيل الأسماء كان المراد بقوله (من أحصاها) أي من طلبها في القرآن, وفي جملة الأحاديث الصحيحة حتى يلتقط منها تلك الأسماء التسعة والتسعين, ومعلوم أن ذلك مما لا يمكن تحصيله إلا بعد تحصيل علم الأصول والفروع حتى يقدر على التقاط هذه الأسماء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ومعلوم أن من حصل هذه العلوم، واجتهد حتى بلغ درجة يمكنه معها التقاط هذه الأسماء من الكتاب والسنة فقد بلغ الغاية القصوى في العبودية (¬4) اهـ باختصار. - قوله: (وهو وتر يحب الوتر). الوتر: هو الفرد، ومعناه في صفة الله جل وعلا الواحد الذي لا شريك له, ولا نظير له، المتفرد عن خلقه, البائن منهم بذاته وصفاته, فهو سبحانه وتر. وجميع خلقه شفع, خلقوا أزواجاً. قال سبحانه: وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49]. فالمراد أن الله يحب الوتر من كل شيء, وإن تعدد ما فيه الوتر، ولذلك أمر بالوتر في كثير من الأعمال والطاعات كما في الصلوات الخمس, ووتر الليل, وأعداد الطهارة, وتكفين الميت. وفي كثير من المخلوقات كالسموات والأرض (¬5). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود- ص 46 وقال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في معنى الإحصاء: 1 - الإحاطة بها لفظاً ومعنى. 2 - دعاء الله بها، لقوله تعالى: فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وذلك بأن تجعلها وسيلة لك عند الدعاء، فتقول: يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم! وما أشبه ذلك 3 - أن تتعبد لله بمقتضاها، فإذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته، وإذا علمت أنه غفور تتعرض لمغفرته، وإذا علمت أنه سميع اتقيت القول الذي يغضبه، وإذا علمت أنه بصير اجتنبت الفعل الذي لا يرضاه القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/ 90 وقال أيضاً: أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)) (¬6)، فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: (إن أسماء الله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة) أو نحو ذلك إذن فمعنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة، وعلى هذا فيكون قوله: (من أحصاها دخل الجنة) جملة مكملة لما قبلها، وليست مستقلة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف قال شيخ الإسلام ابن تيميه في (الفتاوى) ص 383 جـ6 من "مجموع ابن قاسم": تعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه، وقال قبل ذلك ص 379: إن الوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسراً في بعض طرق حديثه اهـ وقال ابن حجر في (فتح الباري) ص215 جـ11 ط السلفية: ليست العلة عند الشيخين (البخاري ومسلم)، تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب، وتدليسه واحتمال الإدراج اهـ ولما لم يصح تعيينها عن النبي صلى الله عليه وسلم اختلف السلف فيه، وروي عنهم في ذلك أنواع القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص17 ¬

(¬1) ((الفتح)) (11/ 225). (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص: 29) وانظر فيما سبق أيضاً ((تفسير الأسماء)) للزجاج ص (22 - 24) والرازي في ((شرح الأسماء)) (ص: 81 - 82). (¬3) ((الفتح)) (11/ 227). (¬4) ((شرح الأسماء للرازي)) (82). (¬5) ((الفتح)) (11/ 227). (¬6) رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المسألة الثالثة: ضعف الطرق التي فيها سرد الأسماء

المسألة الثالثة: ضعف الطرق التي فيها سرد الأسماء الأولى: ما أخرجه الترمذي (3574)، وابن حبان (2384)، والحاكم (1/ 16)، والبيهقي في (السنن) (10/ 27)، وفي (الأسماء والصفات) (ص15 – 16)، وفي (الاعتقاد) (ص50)، والبغوي في (شرح السنة) (5/ 32) , كلهم من طريق الوليد بن مسلم أخبرنا شعيب بن أبي حمزة, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعون اسماً مائة غير واحدة من أحصاها دخل الجنة, هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس .. )) (¬1). قال الترمذي عقب الحديث: (هذا حديث غريب, حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح, ولا نعرفه إلا من حديث صفوان ابن صالح, وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث، وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح) اهـ. ولم ينفرد به صفوان بن صالح كما قال الترمذي, فقد أخرجه البيهقي في (الأسماء) (ص 15) من طريق موسى بن أيوب النصيبي, وهو ثقة عن الوليد بن مسلم. وهذه الطريق هي أحسن الطرق على ضعف فيها كما سيأتي بيانه. الثانية: ما أخرجه ابن ماجه (3861) من طريق عبد الملك ابن محمد الصنعاني ثنا زهير بن محمد التميمي ثنا موسى بن عقبة حدثني عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة به مع اختلاف في سرد الأسماء ونقص وتقديم وتأخير. قال البوصيري في (الزوائد): لم يخرج أحد من الأئمة الستة عدد أسماء الله الحسنى من هذا الوجه ولا من غيره غير ابن ماجه, والترمذي, مع تقديم وتأخير, وطريق الترمذي أصح شيء في الباب. قال: وإسناد طريق بن ماجه ضعيف لضعف عبد الملك بن محمد. اهـ. قلت: عبد الملك بن محمد هو الحميري البرسمي قال فيه الحافظ: لين الحديث. الثالثة: أخرجها الحاكم (1/ 17) والبيهقي في (الأسماء) (ص: 18 - 19) وفي (الاعتقاد) (ص51) من طريق خالد بن مخلد القطواني ثنا عبد العزيز بن حصين بن الترجمان ثنا أيوب السختياني وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به. قال الحاكم: (عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان ثقة وإن لم يخرجاه). فتعقبه الذهبي بقوله: (بل ضعفوه). وقد ذكر من ضعفه في (الميزان) (2/ 627): (قال البخاري ليس بالقوي عندهم, وقال ابن معين ضعيف، وقال مسلم: ذاهب الحديث، وقال ابن عدي: الضعف على رواياته بين). وقال البيهقي في (الأسماء) (ص19): (ويحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة, وكذلك في حديث الوليد بن مسلم, ولهذا الاحتمال ترك البخاري ومسلم إخراج حديث الوليد في الصحيح) اهـ. ونقل الحافظ في (التلخيص) (4/ 173) عن ابن العربي قوله: (لا نعلم هل تفسير هذا الأسامي في الحديث أو من قول الراوي). ¬

(¬1) قال الترمذي: غريب، وقال ابن حجر في ((تخريج حديث الأسماء)) (1/ 45): [له متابعة].

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية – رحمه الله – كما في (مجموع الفتاوى) (6/ 379): (فالحديث الذي فيه ذكر ذلك (أي الأسماء الحسنى) هو حديث الترمذي روى الأسماء الحسنى في (جامعه) من حديث الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, ورواها ابن ماجه في سننه من طريق مخلد بن زياد القطواني عن هشام بن حسان بن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما كل منهما من كلام بعض السلف، فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسراً في بعض طرق حديثه). (وانظر مجموع الفتاوى 8/ 96 - 97 و22/ 482). وقال ابن كثير في (التفسير) (2/ 269):) والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك. أي أنهم جمعوها من القرآن، كما روى عن جعفر بن محمد, وسفيان بن عيينة, وأبو زيد اللغوي والله أعلم) اهـ. وقال الحافظ في (الفتح) (11/ 215): واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر عن بعض الرواة، فمشى كثير منهم على الأول، واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم, لأن كثيراً من هذه الأسماء كذلك، وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه, ونقله عبد العزيز النخشبي عن كثير من العلماء. ثم نقل عن الحاكم قوله: (إن العلة فيه مجرد تفرد الوليد بن مسلم, وأنه أوثق ممن رواه بدون ذكر الأسماء). ورد عليه الحافظ بقوله: (وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط, بل الاختلاف فيه, والاضطراب, وتدليسه, واحتمال الإدراج) اهـ. وقد نقل الحافظ ما يدل على الإدراج، وهو ما أخرجه عثمان الدارمي في (النقض على المريسي) عن هشام بن عمار عن الوليد فقال عن خليد بن دعلج عن قتادة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة فذكره بدون التعيين، قال الوليد: وحدثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك وقال: (كلها في القرآن (هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وسرد الأسماء). وأخرجه أبو الشيخ بن حيان من رواية أبي عامر القرشي عن الوليد بن مسلم بسند آخر فقال: حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة، قال زهير: (فبلغنا أن غير واحد من أهل العلم قال أو أولها أن تفتتح بلا إله إلا الله وسرد الأسماء) اهـ. وهذه الرواية هي رواية ابن ماجه السابقة, ولكن وقع فيها سرد الأسماء أولاً ثم بعد أن انتهى سردها، قال زهير: (فبلغنا من غير واحد من أهل العلم، أن أولها يفتح بقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى). قال الحافظ: (والوليد بن مسلم أوثق من عبد الملك الصنعاني، ورواية الوليد تشعر بأن التعيين مدرج) اهـ. قلت: بل عبد الملك لين الحديث كما نقلنا آنفاً من قول الحافظ نفسه! وقال في (بلوغ المرام) (ص254): (والتحقيق أن سردها إدراج من بعض الرواة) اهـ. وقال الصنعاني في (سبل السلام) (4/ 108): (اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة) اهـ. خلاصة القول أن هذه الزيادة مدرجة في الحديث ولا يصح رفعها. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 50

المطلب السابع: تعظيم الله وتمجيده ودعاؤه بأسمائه وصفاته

المطلب السابع: تعظيم الله وتمجيده ودعاؤه بأسمائه وصفاته قوله: فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] الدعاء هو السؤال، والدعاء قد يكون بلسان المقال، مثل: اللهم اغفر لي يا غفور وهكذا، أو بلسان الحال وذلك بالتعبد له، ولهذا قال العلماء: إن الدعاء دعاء مسألة ودعاء عبادة، لأن حقيقة الأمر أن المتعبد يرجو بلسان حاله رحمة الله ويخاف عقابه والأمر بدعاء الله بها يتضمن الأمر بمعرفتها، لأن لا يمكن دعاء الله بها إلا بعد معرفتها وهذا خلافاً لما قاله بعض المداهنين في وقتنا الحاضر: إن البحث في الأسماء والصفات لا فائدة فيه ولا حاجة إليه أيريدون أن يعبدوا شيئاً لا أسماء له ولا صفات! أم يريدون أن يداهنوا هؤلاء المحرفين حتى لا يحصل جدل ولا مناظرة معهم، وهذا مبدأ خطير أن يقال للناس لا تبحثوا في الأسماء والصفات، مع أن الله أمرنا بدعائه بها، والأمر للوجوب، ويقتضي وجوب علمنا بأسماء الله، ومعلوم أيضاً أننا لا نعلمها أسماء مجردة عن المعاني، بل لابد أن لها معاني فلا بد أن نبحث فيها، لأن علمها ألفاظاً مجردة لا فائدة فيه، وإن قدر أن فيه فائدة بالتعبد باللفظ، فإنه لا يحصل به كمال الفائدة واعلم أن دعاء الله بأسمائه له معنيان: الأول: دعاء العبادة، وذلك بأن تتعبد لله بما تقتضيه تلك الأسماء، ويطلق على الدعاء عبادة، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60]، ولم يقل: عن دعائي، فدل على أن الدعاء عبادة فمثلاً الرحيم يدل على الرحمة، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها والغفور يدل على المغفرة، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله عز وجل بكثرة التوبة والاستغفار كذلك وما أشبه ذلك والقريب: يقتضي أن تتعرض إلى القرب منه بالصلاة وغيرها، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد والسميع: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضي السمع، بحيث لا تسمع الله قولاً يغضبه ولا يرضاه منك والبصير: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضي ذلك البصر بحيث لا يرى منك فعلاً يكرهه منك الثاني: دعاء المسألة، وهو أن تقدمها بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله تعالى مثلاً: يا حي، يا قيوم اغفر لي وارحمني، وقال صلى الله عليه وسلم: ((فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)) (¬1)، والإنسان إذا دعا وعلل، فقد أثنى على ربه بهذا الاسم طالباً أن يكون سبباً للإجابة، والتوسل بصفة المدعو المحبوبة له سبب للإجابة، فالثناء على الله بأسمائه من أسباب الإجابة القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/ 90 ¬

(¬1) رواه البخاري (834) ومسلم (2705). من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

المطلب الثامن: العلم بأسماء الله وصفاته دليل على كماله سبحانه وتعالى في تشريعه للأحكام

المطلب الثامن: العلم بأسماء الله وصفاته دليل على كماله سبحانه وتعالى في تشريعه للأحكام عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا ((إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماء بيمينه)) (¬1) وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص508 ¬

(¬1) رواه البخاري (7412) بلفظ ((الأرض))، ومسلم (2787) بلفظ ((الأرض)) وبلفظ ((يطوي)). وذكره ابن كثير بهذا اللفظ في ((تفسير القرآن العظيم)) (5/ 382) وقال: انفرد به من هذا الوجه البخاري.

المطلب التاسع: التعبد بمقتضى أسماء الله

المطلب التاسع: التعبد بمقتضى أسماء الله التعبد لله بمقتضاها، ولذلك وجهان: الوجه الأول: أن تدعو الله بها، لقوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور! وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب اغفر لي، بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك الوجه الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء، فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل الصالح الذي يكون جالباً لرحمة الله، ومقتضي الغفور المغفرة، إذاً افعل ما يكون سبباً في مغفرة ذنوبك، هذا هو معني إحصائها، فإذا كان كذلك، فهو جدير لأن يكون ثمناً لدخول الجنة، وهذا الثمن ليس على وجه المقابلة، ولكن على وجه السبب، لأن الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة وليست بدلاً، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ((لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة)) (¬1) القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/ 15 ¬

(¬1) رواه البخاري (6467)، ومسلم (2816). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وروي من طرقٍ عن عائشة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.

المبحث الرابع: قواعد دلالات الأسماء والصفات ومعانيها

المطلب الأول: معنى الاسم والصفة والفرق بينهما الاسم: (هو ما دل على معنى في نفسه) (¬1)، و (أسماء الأشياء هي الألفاظ الدالة عليها) (¬2)، (وقيل: الاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل) (¬3) الصفة: (هي الاسم الدال على بعض أحوال الذات وهي الأمارة اللازمة بذات الموصوف الذي يُعرف بها) (¬4)، (وهي ما وقع الوصف مشتقاً منها، وهو دالٌ عليها، وذلك مثل العلم والقدرة ونحوه) (¬5) وقال ابن فارس: (الصفة: الأمارة اللازمة للشيء) (¬6)، وقال: (النعت: وصفك الشيء بما فيه من حسن) (¬7) الفرق بين الاسم والصفة: سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية عن الفرق بين الاسم والصفة؟ فأجابت بما يلي: (أسماء الله كل ما دل على ذات الله مع صفات الكمال القائمة به؛ مثل: القادر، العليم، الحكيم، السميع، البصير؛ فإن هذه الأسماء دلَّت على ذات الله، وعلى ما قام بها من العلم والحكمة والسمع والبصر، أما الصفات؛ فهي نعوت الكمال القائمة بالذات؛ كالعلم والحكمة والسمع والبصر؛ فالاسم دل على أمرين، والصفة دلت على أمر واحد، ويقال: الاسم متضمن للصفة، والصفة مستلزمة للاسم) (¬8) ولمعرفة ما يُميِّز الاسم عن الصفة، والصفة عن الاسم أمور، منها: أولاً: (أن الأسماء يشتق منها صفات، أما الصفات؛ فلا يشتق منها أسماء، فنشتق من أسماء الله الرحيم والقادر والعظيم، صفات الرحمة والقدرة والعظمة، لكن لا نشتق من صفات الإرادة والمجيء والمكر اسم المريد والجائي والماكر) فأسماؤه سبحانه وتعالى أوصاف؛ كما قال ابن القيم في (النونية): أسماؤُهُ أوْصافُ مَدْحٍ كُلُّها مُشْتَقَّةٌ قَدْ حُمِّلَتْ لِمَعان ثانياً: (أن الاسم لا يُشتق من أفعال الله؛ فلا نشتق من كونه يحب ويكره ويغضب اسم المحب والكاره والغاضب، أما صفاته؛ فتشتق من أفعاله فنثبت له صفة المحبة والكره والغضب ونحوها من تلك الأفعال، لذلك قيل: باب الصفات أوسع من باب الأسماء) (¬9) ثالثاً: أن أسماء الله عَزَّ وجَلَّ وصفاته تشترك في الاستعاذة بها والحلف بها، لكن تختلف في التعبد والدعاء، فيتعبد الله بأسمائه، فنقول: عبدالكريم، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، لكن لا يُتعبد بصفاته؛ فلا نقول: عبد الكرم، وعبد الرحمة، وعبد العزة؛ كما أنه يُدعى اللهُ بأسمائه، فنقول: يا رحيم! ارحمنا، ويا كريم! أكرمنا، ويا لطيف! ألطف بنا، لكن لا ندعو صفاته فنقول: يا رحمة الله! ارحمينا، أو: يا كرم الله! أو: يا لطف الله! ذلك أن الصفة ليست هي الموصوف؛ فالرحمة ليست هي الله، بل هي صفةٌ لله، وكذلك العزة، وغيرها؛ فهذه صفات لله، وليست هي الله، ولا يجوز التعبد إلا لله، ولا يجوز دعاء إلا الله؛ لقوله تعالى: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55]، وقوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وغيرها من الآيات (¬10) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص17 ¬

(¬1) ((التعريفات)) للجرجاني (ص24). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 195). (¬3) ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص 83). (¬4) ((التعريفات)) (ص 133). (¬5) ((الكليات)) (ص546) ويعني بالوصف هنا الاسم؛ فالعلم صفة، والعالم وصف دال عليها، والقدرة صفة، والقادر وصف دال عليها. (¬6) ((معجم مقاييس اللغة)) (5/ 448). (¬7) ((معجم مقاييس اللغة)) (6/ 115). (¬8) ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (3/ 116 - فتوى رقم 8942). (¬9) انظر: ((مدارج السالكين)) (3/ 415). (¬10) انظر: ((فتاوى الشيخ ابن عثيمين)) (1/ 26 - ترتيب أشرف عبد المقصود)، وقد نسب هذا القول لشيخ الإسلام ابن تيمية، لكن ينبغي هنا أن نفرق بين دعاء الصفة كما سبق وبين دعاء الله بصفة من صفاته؛ كأن تقول: اللهم ارحمنا برحمتك، فهذا لا بأس به. والله أعلم.

المطلب الثاني: اشتقاق أسماء الله وصفاته ودلالتها على الوصفية

المطلب الثاني: اشتقاق أسماء الله وصفاته ودلالتها على الوصفية وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي تضمنها الاسم كالعليم يدل على الذات والعلم والقدير يدل على الذات والقدرة والرحيم يدل على الذات والرحمة ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون لا يقال هو حي ولا ليس بحي بل ينفون عنه النقيضين فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض كالمضمرات وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقا لغلاة الباطنية في ذلك وليس هذا موضع بسط ذلك وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته ويدل أيضا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم وكذلك أسماء النبي مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والشفاء والبيان والكتاب وأمثال ذلك مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 13/ 333 قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل أسماء الله مشتقة أو جامدة -يعني: هل المراد بها الدلالة على الذات فقط، أو على الذات والصفة-؟ الجواب: على الذات والصفة، أما أسماؤنا نحن، فيراد بها الدلالة على الذات فقط، فقد يسمى محمداً وهو من أشد الناس ذماً، وقد يسمى عبد الله وهو من أفجر عباد الله أما أسماء الله عز وجل، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن، وأسماء اليوم الآخر، وما أشبه ذلك، فإنها أسماء متضمنة للأوصاف القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/ 15

المطلب الثالث: التفاضل بين الأسماء والصفات

المطلب الثالث: التفاضل بين الأسماء والصفات وقول من قال صفات الله لا تتفاضل ونحو ذلك قول لا دليل عليه بل هو مورد النزاع ومن الذي جعل صفته التي هي الرحمة لا تفضل على صفته التي هي الغضب وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبى وفي رواية تسبق غضبى وصفة الموصوف من العلم والإرادة والقدرة والكلام والرضا والغضب وغير ذلك من الصفات تتفاضل من وجهين: أحدهما: أن بعض الصفات أفضل من بعض وأدخل في كل الموصوف بها فإنا نعلم أن اتصاف العبد بالعلم والقدرة والرحمة أفضل من اتصافه بضد ذلك لكن الله تعالى لا يوصف بضد ذلك ولا يوصف إلا بصفات الكمال وله الأسماء الحسنى يدعى بها فلا يدعى إلا بأسمائه الحسنى وأسماؤه متضمنة لصفاته وبعض أسمائه أفضل من بعض وأدخل في كمال الموصوف بها ولهذا في الدعاء المأثور أسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر ولقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وأمثال ذلك فتفاضل الأسماء والصفات من الأمور البينات والثاني: أن الصفة الواحدة قد تتفاضل فالأمر بمأمور يكون أكمل من الأمر بمأمور آخر والرضا عن النبيين أعظم من الرضا عمن دونهم والرحمة لهم أكمل من الرحمة لغيرهم وتكليم الله لبعض عباده أكمل من تكليمه لبعض وكذلك سائر هذا الباب وكما أن أسماءه وصفاته متنوعة فهي أيضا متفاضلة كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع مع العقل وإنما شبهة من منع تفاضلها من جنس شبهة من منع تعددها وذلك يرجع إلى نفي الصفات كما يقوله الجهمية لما ادعوه من التركيب. مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 17/ 211

المطلب الرابع: اقتضاء الصفات والأسماء لآثارهما

المطلب الرابع: اقتضاء الصفات والأسماء لآثارهما إن لكل صفة من الصفات العليا حكما ومقتضيات وأثرا هو مظهر كمالها وإن كانت كاملة في نفسها لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها فلا يجوز تعطيله فإن صفة القادر تستدعي مقدورا وصفة الخالق تستدعي مخلوقا وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز المذل العفو الرؤوف تستدعي آثارها وأحكامها فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر كمالها وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه وفات كمال الملك والتصرف فإن الملك إذا اقتصر تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته فأما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه عجزا أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلا وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد لأن ذلك نقص في ملكه فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب والإكرام والإهانة والإعزاز والإذلال والتقديم والتأخير والضر والنفع وتخصيص هذا على هذا وإيثار هذا على هذا ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك منافيا لحكمته وحكمته تأباه كل الآباء فإنه لا يفرق بين متماثلين ولا يسوي بين مختلفين وقد عاب على من يفعل ذلك وأنكر على من نسبه إليه والقرآن مملوء من عيبه على من يفعل ذلك فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون ويضربون له مثل السوء وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من يفعله وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئا ويتصف به وهو سبحانه إنما عابه لأنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه وإذا كان لا بد من ظهور آثار الأسماء والصفات ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات لم يكن في الحكمة بد من إيجادها إذ لو فقدت لتعطلت الأحكام بتلك الصفات وهو محال يوضحه شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - 1/ 219

المطلب الخامس: اعتبارات إطلاق الأسماء

المطلب الخامس: اعتبارات إطلاق الأسماء - امتناع إطلاق الأسماء على الله مع عدم ثبوت الصفة منها قال السفاريني –رحمه الله- في شرحه لنطم الدرة المضيئة: (لكنها) أي الأسماء الحسنى (في) القول (الحق) المعتمد عند أهل الحق (توقيفية) بنص الشرع وورود السمع بها ومما يجب أن يعلم أن علماء السنة اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء الحسنى والصفات العلى على الباري - جل وعلا - إذا ورد بها الإذن من الشارع، وعلى امتناعه على ما ورد المنع عنه لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لمحمد بن أحمد السفاريني - 1/ 124 - بيان أسمائه تعالى المضافة التي لا تطلق بغير إضافة مثل: أرحم الراحمين وخير الغافرين ورب العالمين ومالك يوم الدين وأحسن الخالقين وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ومقلب القلوب وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 380

المبحث الخامس: أنواع المضاف إلى الله

المبحث الخامس: أنواع المضاف إلى الله المضاف إلى الله سبحانه في الكتاب والسنة سواء كانت إضافة اسم إلى اسم أو نسبة فعل إلى اسم أو خبر باسم عن اسم لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: إضافة الصفة إلى الموصوف: كقوله تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] وقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] وفى حديث الاستخارة: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك)) (¬1) وفي الحديث الآخر: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق)) (¬2) فهذا في الإضافة الاسمية وأما بصيغة الفعل فكقوله: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187] وقوله: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل:20] وأما الخبر الذي هو جملة اسمية فمثل قوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282] وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] وذلك لأن الكلام الذي توصف به الذوات إما جملة أو مفرد فالجملة: إما اسمية كقوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282] أو فعلية كقوله: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ [المزمل:20] أما المفرد فلابد فيه من إضافة الصفة لفظا أو معنى كقوله: بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] وقوله: هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [القصص:78] أو إضافة الموصوف كقوله: هُوَ الرَّزَّاقُ [الذاريات:58] والقسم الثاني: إضافة المخلوقات: كقوله نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13] وقوله وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج:26] وقوله رَسُولَ اللَّهِ [النساء:157] وَعِبَادُ الرحمن [الفرقان:63] وقوله ذو الْعَرْشِ [غافر:15] وقوله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] فهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق كما إن القسم الأول لم يختلف أهل السنة والجماعة في أنه قديم وغير مخلوق وقد خالفهم بعض أهل الكلام في ثبوت الصفات لا في أحكامها وخالفهم بعضهم في قدم العلم وأثبت بعضهم حدوثه وليس الغرض هنا تفصيل ذلك الثالث: وهو محل الكلام هنا ما فيه معنى الصفة والفعل: مثل قوله: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] وقوله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وقوله: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي [الكهف:109] وقوله: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ [البقرة:75] وقوله: إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [هود:107] وقوله: فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90] وقوله: وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93] وقوله: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55] وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد:28] وقوله: رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8] وقوله: وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا [الأعراف:23] وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ [المؤمنون:118] وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ [البقرة:286] وكذلك قوله: خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ [البقرة:210] هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام:158] وفي الأحاديث شيء كثير كقوله في حديث الشفاعة: ((إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)) (¬3) وقوله: ((ضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة)) (¬4) وقوله: ((ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)) (¬5) الحديث وأشباه هذا وهو باب واسع مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 6/ 144 ¬

(¬1) رواه البخاري (1162). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (¬2) رواه النسائي (3/ 54)، وأحمد (4/ 264) (18351)، وأبو يعلى (3/ 195)، وابن حبان (5/ 304)، والحاكم (1/ 705). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 177): رواه النسائي باختصار ... ، رواه أبو يعلى ورجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب اختلط. وقال الألباني في ((صحيح النسائي)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (4712)، ومسلم (194). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890) بلفظ ((يضحك)). (¬5) رواه البخاري (1145) ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المبحث السادس: اتصافه تعالى بالأفعال في الأزل

المبحث السادس: اتصافه تعالى بالأفعال في الأزل فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها وهي نوعان: معنوية وخبرية: فالمعنوية، مثل: الحياة، والعلم، القدرة، والحكمة وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر. والخبرية، مثل: اليدين، والوجه، والعينين وما أشبه ذلك مما سماه، نظيره أبعاض وأجزاء لنا. فالله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان لم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن، ولن ينفك عن شيء منه، كما أن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً، لم يزل عالماً ولا يزال عالماً، ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً وهكذا، يعنى ليس حياته تتجدد، ولا قدرته تتجدد، ولا سمعه يتجدد بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلاً عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان بل هو منذ خلقه الله فيَّ لكن المسموع يتجدد وهذا لا أثر له في الصفة واصطلح العلماء رحمهم الله على أن يسموها الصفات الذاتية، قالوا: لأنها ملازمة للذات، لا تنفك عنها والصفات الفعلية هي الصفات المتعلقة بمشيئته، وهي نوعان: صفات لها سبب معلوم، مثل: الرضى، فالله عز وجل إذا وجد سبب الرضى، رضي، كما قال تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7] وصفات ليس لها سبب معلوم، مثل: النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتبارين، فالكلام صفة فعلية باعتبار آحاده لكن باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً لكنه يتكلم بما شاء متى شاء اصطلح العلماء رحمهم الله أن يسموا هذه الصفات الصفات الفعلية، لأنها من فعله سبحانه وتعالى ولها أدلة كثيرة من القرآن، مثل: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: من الآية158] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة: 119]، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُم [التوبة: 46]، أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة: 80] وليس في إثباتها لله تعالى نقص بوجه من الوجوه بل هذا من كماله أن يكون فاعلاً لما يريد وأولئك القوم المحرفون يقولون: إثباتها من النقص! ولهذا ينكرون جميع الصفات الفعلية، يقولون: لا يجيء ولا يرضى، ولا يسخط ولا يكره ولا يحب ينكرون كل هذه، بدعوى أن هذه حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث وهذا باطل، لأنه في مقابلة النص، وهو باطل بنفسه، فإنه لا يلزم من حدوث الفعل حدوث الفاعل شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 77

المبحث السابع: قواعد أحكام الأسماء والصفات

المطلب الأول: وجوب الإيمان والتسليم بما جاء في الكتاب والسنة في باب الأسماء والصفات اتفق السلف على أنه يجب الإيمان بجميع الأسماء الحسنى، وما دلت عليه من الصفات، وما ينشأ عنها من الأفعال شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس – ص157 اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك أن الواجب على العبد ... الإيمان بالله وأسمائه وصفاته والتسليم لأقداره واليقين بعدله وحكمته والفرح بفضله ورحمته ونحن لا نعلم من حكمة الله وسائر أسمائه وصفاته إلا ما علمناه ولا يحيط بكنه شيء منها ونهايته إلا الذي اتصف بها وهو الله الذي لا إله إلا هو معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- ص297

المطلب الثاني: حكم الوصف والتسمية والخبر

المسألة الأولى: حكم اشتقاق المصدر والفعل والإخبار بهما عن الله إن الاسم إذا أطلق عليه جاز أن يشتق منه المصدر والفعل فيخبر به عنه فعلا ومصدرا ونحو السميع البصير القدير يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو قَدْ سَمِعَ اللَّهُ [المجادلة:1] فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:23] هذا إن كان الفعل متعديا فإن كان لازما لم يخبر عنه به نحو الحي بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل فلا يقال حي بدائع الفوائد لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - 1/ 170

المسألة الثانية: بيان عدم التلازم بين الإخبار بالفعل مقيدا والتسمية به

المسألة الثانية: بيان عدم التلازم بين الإخبار بالفعل مقيدا والتسمية به وأما صفة الكمال بقيد، فهذه لا يوصف الله بها على الإطلاق إلا مقيداً، مثل: المكر، والخداع، والاستهزاء وما أشبه ذلك، فهذه الصفات كمال بقيد، إذا كانت في مقابلة من يفعلون ذلك، فهي كمال، وإن ذكرت مطلقة، فلا تصح بالنسبة لله عز وجل، ولهذا لا يصح إطلاق وصفه بالماكر أو المستهزئ أو الخادع، بل تقيد فنقول: ماكر بالماكرين، مستهزئ بالمنافقين، خادع للمنافقين، كائد للكافرين، فتقيدها لأنها لم تأت إلا مقيدة شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 142

المسألة الثالثة: بيان ما يوصف به الله تعالى من فعل لا يشتق منه اسم

المسألة الثالثة: بيان ما يوصف به الله تعالى من فعل لا يشتق منه اسم أن الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه بل يطلق عليه منها كمالها وهذا كالمريد والفاعل والصانع فإن هذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه ولهذا غلط من سماه بالصانع عند الإطلاق بل هو الفعال لما يريد فإن الإرادة والفعل والصنع منقسمة ولهذا إنما أطلق على نفسه من ذلك أكمله فعلا وخبرا ... أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدا أن يشتق له منه اسم مطلق كما غلط فيه بعض المتأخرين فجعل من أسمائه الحسنى المضل الفاتن الماكر تعالى الله عن قوله فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة فلا يجوز أن يسمى بأسمائها بدائع الفوائد لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - 1/ 169

المطلب الثالث: حكم الألفاظ المجملة نفيا وإثباتا

المطلب الثالث: حكم الألفاظ المجملة نفيا وإثباتا وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل وادعى أن العقل يعارض النصوص فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظا مجملة مثل أن يقول: لو كان فوق العرش لكان جسما أو لكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو كان له علم وقدرة لكان جسما وكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو خلق واستوى وأتى لكان تحله الحوادث وهو منزه عن ذلك ولو قامت به الصفات لحلته الأعراض وهو منزه عن ذلك فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ فإن أراد بها حقا وباطلا قبل الحق ورد الباطل مثل أن يقول: أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به ونفي كونه مركبا فنقول: هو قائم بنفسه وله صفات قائمة به وأنت سميت هذا تجسيما لم يجز أن أدع الحق الذي دل عليه صحيح المنقول وصريح المعقول لأجل تسميتك أنت له بهذا وأما قولك: ليس مركبا فإن أردت به أنه سبحانه ركبه مركب أو كان متفرقا فتركب وأنه يمكن تفرقه وانفصاله فالله تعالى منزه عن ذلك وإن أردت أنه موصوف بالصفات مباين للمخلوقات فهذا المعني حق ولا يجوز رده لأجل تسميتك له مركبا فهذا ونحوه مما يجاب به درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 133 قال ابن أبي العز الحنفي –رحمه الله-: وحول الحوادث بالرب تعالى، المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال: فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة لشيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن - فهذا نفي صحيح وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية، من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته - فهذا نفي باطل وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه وكذلك مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير، فيه إجمال، فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذا كان لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل: فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها - فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة - فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة، كلاً وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً، يتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره هذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد فإذا قلت: أعوذ بالله فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه وإذا قلت: أعوذ بعزة الله، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى، ولم أعذ بغير الله وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن ذات في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم، إلى غير ذلك من الصفات فذات كذا بمعنى صاحبة كذا: تأنيث ذو هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 1/ 97

المطلب الرابع: أحكام التسلسل نفيا وإثباتا

المطلب الرابع: أحكام التسلسل نفياً وإثباتاً والتسلسل لفظ مجمل، لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة، ليجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن: فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية والتسلسل الواجب: ما دل عليه العقل والشرع، من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال، والفرق بين الحي والميت: الفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف: الحي الفعال، وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل وأما التسلسل الممكن: فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف، كما تتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً، وذلك من لوازم ذاته - فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه، فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن قالوا: وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلانه، وكل من اعترف بأن الرب تعالى لم يزل قادراً على الفعل لزمه أحد أمرين، لا بد له منهما: أما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكناً، وأما أن يقول لم يزل واقعاً، وإلا تناقض تناقضاً بيناً، حيث زعم أن الرب تعالى لم يزل قادراً على الفعل، والفعل محال ممتنع لذاته، لو أراده لم يمكن وجوده، بل فرض إرادته عنده محال وهو مقدور له وهذا قول ينقض بعضه بعضاً والمقصود: أن الذي دل عليه الشرع والعقل، أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن أما كون الرب تعالى لم يزل معطلاً عن الفعل ثم فعل، فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل على نقيضه وقد أورد أبو المعالي في إرشاده وغيره من النظار على التسلسل في الماضي، فقالوا: إنك لو قلت: لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده درهماً، كان هذا ممكناً، ولو قلت: لا أعطيك درهماً حتى أعطيك قبله درهماً، كان هذا ممتنعاً وهذا التمثيل والموازنة غير صحيحة، بل الموازنة الصحيحة أن تقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، فتجعل ماضياً قبل ماض، كما جعلت هناك مستقبلاً بعد مستقبل وأما قول القائل: لا أعطيك حتى أعطيك قبله، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل، وهذا ممتنع أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض، فإن هذا ممكن والعطاء المستقبل ابتداؤه من المستقبل والمعطى الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له، فإن ما لا نهاية له فيما يتناهى ممتنع شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 1/ 106

المبحث الثامن: قواعد في أدلة الأسماء والصفات

المطلب الأول: القاعدة الأولى الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته وهي: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما وعلى هذا فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب أو السنة وجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه، مع إثبات كمال ضده، وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه فلا يثبت ولا ينفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه وأما معناه فيفصل فيه، فإن أريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول وإن أريد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده. فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة، أو تضمن، أو التزام ومنه كل صفة دل عليها فعل من أفعاله كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها فضلاً عن أفرادها وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] ومنه: الوجه، والعينان، واليدان ونحوها ومنه الكلام، والمشيئة، والإرادة بقسميها: الكوني، والشرعي فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة ومنه الرضا، والمحبة، والغضب، والكراهة ونحوها ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده: الموت، والنوم، والسنة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ ونحو ذلك ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ (الجهة) فلو سأل سائل هل نثبت لله تعالى جهة؟ قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتاً ولا نفياً، ويغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل أو جهة علو تحيط بالله أو جهة علو لا تحيط به فالأول باطل لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة، والعقل والفطرة، والإجماع والثاني باطل أيضاً؛ لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته والثالث حق؛ لأن الله تعالى العلي فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته ودليل هذه القاعدة السمع والعقل فأما السمع فمنه قوله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] وقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] وقوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] وقوله: مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80] وقوله: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] وقوله: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [المائدة:49]. إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة؛ لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرد إليه عند التنازع والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبر عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المأمور به في القرآن؟ وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يرد النزاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله به في القرآن؟ وأين الإيمان بالرسول الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟

ولقد قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] ومن المعلوم أن كثيراً من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة، فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص39 وإن الشرع قد دل الناس على الطرق العقلية بأيسر طريق وأحسنه، فأكثر الأدلة الشرعية فيها إرشاد للناس للطرق العقلية لتقرير الإلهيات والنبوات والبعث والمعاد (¬1). وما يتعلق بهذا الباب فإنه لابد من طلب الهدى فيه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتعرف الطريقة الشرعية في الإثبات والتنزيه، إذ لا أحد أعلم بالله من الله ولا أحد أعلم به من خلقه من رسوله صلى الله عليه وسلم. والأسماء والصفات من أعظم المسائل التي يجب فيها الاتباع، وقد قال الله تعالى: اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء [الأعراف: 3]، وأمر الله تعالى برد التنازع إلى كتابه وإلى رسوله فقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، وأقسم سبحانه على عدم إيمان من لم يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يذعن ويسلم له فقال: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. ففي هذه الأدلة الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله وأتباع ما أنزل وترك غيره ورد النزاع إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا إلى غيرهما. والذي يدعو إلى القول بالاكتفاء بالكتاب والسنة أمور منها: الأمر الأول: إن الكلام الشرعي لا يخشى فيه جهل ولا خطأ ولا تقصير في البيان ولا كذب، إذ هو كما قال الله تعالى عن كتابه: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]، والجهل والخطأ والتقصير في البيان والكذب والتلبيس كل ذلك من الباطل، وقد نص الله على نفيه عن كتابه، وأثبت العصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4]، ولا شك أن كلام الله تعالى يجب أن يكون مقدماً في هذا الباب إذ هو أعلم بنفسه فقال: أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ [البقرة: 140]، ونفى إحاطة الناس بالعلم به فقال: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110]، ووصف كلامه بأنه أحسن الحديث وأصدق الحديث فقال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء: 87]، وقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23]. ووصفه بذلك يقتضي سلامته من الخطأ في الأخبار والأحكام ويقتضي كذلك أنه مشتمل على أحسن طريق لدلالة الناس وإرشادهم وهدايتهم. ¬

(¬1) انظر: ((الصواعق المرسلة)) (2/ 460 - 499).

ويزيد الأمر وضوحاً: أن الذي خلق هو الذي أنزل الشرع، فهو أعلم بما يناسبهم من السبل الموصلة إلى الحق، ذلك أن الله تعالى قد فطر الخلق على الإقرار به والميل إلى الحق وجعلهم مستعدين لقبوله – إلا إذا تغيرت الفطرة – فظهر من هذا أن الله الذي أنزل الكتاب هو الذي هيأ خلقه لمعرفة أصل الإيمان وفروعه بالشرع، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم: 30 - 31]. فالله عز وجل أعد للناس ما يسددهم ويوصلهم إلى طريق الحق من الفطرة والآيات الظاهرة في الآفاق والأنفس فإذا انقاد الناس واستضاءوا بنور الشرع فإنهم يأمنون ما يخشى من قصور العقل المجرد وحده فيه (¬1) خاصة إذا علم أن النفوس متحركة بإراداتها وأنها قد تفسد وتتغير، فالضلال وعدم العلم إذا يرجع إلى أمرين (¬2): الأول: ما يطرأ على الفطرة من التغيير وما يغشاها من الانحراف، فتنصرف بذلك عما هي معدة له من التوصل إلى الحق وقبوله، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30])) (¬3) لذلك فإن من سلمت فطرته يكون مستعداً لقبول الشرع، ولا يمكن أن يتبادر إلى ذهنه بحال أن ما ذكره الله تعالى من الصفات وذكره عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أن ظاهره يستلزم التشبيه والتمثيل، بل يعلم أن ذلك يثبت على غاية الكمال والتنزيه. الثاني: الإعراض عن الشرع المكمل للمعرفة الفطرية والمجلي لها عما يغشاها من الانحراف والتغيير، يقول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [الشورى: 52 - 53]. فإذا اجتمع الأمران – تغيير الفطرة والإعراض عن الشرع – في شخص كان في غاية الضلال والعياذ بالله. ¬

(¬1) انظر: ((القائد إلى تصحيح العقائد)) للمعلمي (ص: 40 - 43). (¬2) انظر: ((القائد إلى تصحيح العقائد)) للمعلمي (ص: 40). (¬3) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

فإذا علم أن الله قد فطر الناس على الحق وأنزل إليهم ما يناسبهم علم أن الناس في غنى عن الكلام الذي عند إطلاقه قد يتضمن باطلاً، مثل علم الكلام الذي يقوم على الأوهام والشكوك وإن سماها علماء الكلام بالقواطع العقلية والبراهين، فإن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا ولم يعرفوا الكلام عن طريقة الجواهر والأعراض والمقاييس المنطقية والنظر العقلي المتعمق البعيد عن الفطرة. وفي هذا الصدد يقول أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك وكثير منهم إلى الإلحاد، تشم روائح الإلحاد من فلتات المتكلمين، وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي انفرد بها، ولا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور) (¬1). ولزيادة البيان فإنه يقال: إن الله قد أكمل دينه، وشهد على خيرية القرن الأول، ففي إكمال الدين والشهادة بأن الصحابة كانوا خير الناس الدليل الواضح والحجة القاطعة بأن جميع العقائد المطلوب معرفتها في الإسلام كانت مبينة وحاصلة لهم. أما إكمال الدين فإن الله تعالى قد قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، فوضح من هذا أن الناس لا يحتاجون إلى شيء في أمور دينهم إلى نقل سوى القرآن والسنة بله الفلسفات الإلهية اليونانية، وقد جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم)) (¬2). فأنزل الله عز وجل: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51]، وقيل إنها نزلت في المشركين حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل على صدقه، فبين الله تعالى أن في كتابه الكفاية. بل إن الله تعالى وصف كتابه بأنه برهان وشهد بذلك وكفى بالله شهيداً فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا [النساء: 174]، فالطريقة الاستدلالية البرهانية الصحيحة هي الطريقة الشرعية المبينة لمطالب الدين كلها والواعدة بكل خير والداعية إليه. ¬

(¬1) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 98) و ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 228). (¬2) رواه أبو داود في ((المراسيل)) (487)، والطبري (20/ 53)، وابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 40 - 41). مرسلاً من حديث يحيى بن جعدة. قال ابن عبدالبر: ورواه الفريابي وابن وهب والحميدي وأبو الطاهر عن سفيان عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء.

وأما كمال إيمان الصحابة رضوان الله عليهم فقد قال تعالى عنهم: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 74] وقال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ [آل عمران: 110] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني ... )) (¬1)، وتمسكهم بالكتاب والسنة معلوم، وقد أخذوا من ذلك حظاً وافراً فاستحقوا تلك الخيرية المنصوص عليها. ولم يؤثر عنهم الخوض فيما خاض فيه المتأخرون مع قدرتهم على البيان لفصاحتهم ورجحان عقولهم، ولم يكونوا يعدلون عن النصوص الشرعية مهما أثيرت الشبهات، فإن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – لما ذكر له كلام بعض الناس وخوضهم في القدر تبرأ منهم واكتفى بذكر حديث جبريل عليه السلام في الإسلام والإيمان والإحسان ... فهذا يدل على اعتصامهم بالشرع، وأن الشرع هو الحق وأنه قد جاء بإثبات الصفات لله على الوجه اللائق به. ثم إن التابعين الذين أخذوا العلم عن الصحابة، وهم خير من جاء بعدهم لم يكونوا يعدلون عن الأدلة الشرعية ولم يقولوا فيها إنها ظنية، بل كلامهم في ذم الكلام وأهله وهجر المبتدعة مشهور. وهكذا من جاء بعدهم إلى زمان الأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان يقولون بهذا الأصل العظيم. الأمر الثاني: مما يدعو إلى الاكتفاء بالشرع: هو أن مسائل الإيمان بالأسماء والصفات من المسائل الغيبية التي لا يمكن أن تعرف إلا بالخبر الصادق، والخبر الصادق يأتي ببيان الأسماء والصفات، ويأتي كذلك بطرق إثباتها من الطرق العقلية الواضحة – ويبين طريقة الإثبات والتنزيه فيها. أما ما عدا ذلك فعلوم مأخوذة من فلاسفة اليونان دخلت على المسلمين فأحدثت بينهم شراً مستطيراً، فنشأت الفرق، وكلها متناحرة مختلفة فيما بينها، مخالفة للكتاب والسنة، بل إن الفرقة الواحدة يؤثر عنها في المسألة الواحدة أكثر من قول، وهذا حال كل من ابتغى الهدى في غير كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. فدخول هذه العلوم كان شراً لا شك فيه، ومن شرها أنه قد تسلط بها بعض أعداء الإسلام في النيل منه، ذلك لأن بعض من أخذ هذه العلوم من المسلمين حاول تطبيق ما ورد في الشرع على تلك الأصول الفاسدة، فيؤول به الأمر إلى إنكار الصفات وغير ذلك، كما هو الشأن في إثبات وجود الله تعالى، إذ يقوم عندهم دليل إثباته على أصل فاسد وهو منع قيام الحوادث بذات الباري، ففرعوا على هذا: القول بنفي الصفات الاختيارية عنه ... فيكثر عندئذ التناقض، ويلتزمون شنائع يتسلط بها عليهم بعض أعداء الإسلام. ولهذا الاضطراب الواقع والحيرة الشديدة تراجع بعض كبار علماء الكلام عما خاضوا فيه مسلمين للسلف طريقتهم ... فكيف بعد هذا يوثق بعلوم هؤلاء الفلاسفة، وقد اجتمعت الأمور الآتية: 1 - النهي عن متابعة غير الكتاب والسنة. 2 - ونهي الأئمة عن علم الكلام لاشتماله على الباطل. 3 - وحيرة وتردد من خاض فيه من الكبار!. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف - بتصرف– 2/ 434 ¬

(¬1) رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

المطلب الثاني: القاعدة الثانية إجراء نصوص القرآن والسنة على ظاهرها دون تحريف لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها.

المطلب الثاني: القاعدة الثانية إجراء نصوص القرآن والسنة على ظاهرها دون تحريف لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها. ودليل ذلك: السمع، والعقل أما السمع: فقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193] وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2] وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان فقال: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] وقال تعالى: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء:46] الآية وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص42 والمراد بالظاهر: الظاهر الشرعي، وذلك بإثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة على حقيقة الإثبات وتنزيه الخالق عن مشابهة الخلق له في تلك الصفات (¬1) مع قطع الطمع عن إدراك الكيفية – ... – وبهذا يعلم أن معاني نصوص الصفات مفهومة، وأن إدراك كيفية الصفات شيء ممتنع. فما يتبادر إلى الذهن من المعاني الشرعية هو المراد بالظاهر. وأما ترك التحريف، فالمراد به عدم التسلط على نصوص الصفات بصرف معانيها المتبادرة بأصل الوضع أو السياق إلى معاني أخرى غير متبادرة، وهذا الذي يسميه أهله تأويلاً،. ... المسألة الأولى دواعي حمل النصوص على ظاهرها وهذه الدواعي هي أدلة كلية تبين أن حمل نصوص الصفات على ظاهرها متعين، وهو أمر لا خفاء فيه ولا غموض، ويمكن حصرها ... في أربعة أدلة: الدليل الأول: وصف القرآن بالبيان والهدى: إذا كان السامع متمكناً من الفهم، وكان خطاب المتكلم بيناً واضحاً، فهم المخاطب مراد المتكلم بكلامه. وقد وصف الله تعالى كتابه بأنه تبيان لكل شيء فقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]. ¬

(¬1) انظر: ((الرسالة التدمرية)) (ص: 69) و ((أضواء البيان)) (2/ 319 - 320).

فاتضح من هذه النصوص – وغيرها كثير – أن كتاب الله تعالى فيه بيان الحق للناس، وأنه قد أنزل بلسان عربي مبين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم – مبين للناس هذا الكتاب بلسان قومه، فهذا يفيد أن نصوص الصفات مما بينه الله تعالى للناس، وهي كثيرة جداً وتتناول كل الصفات مثل العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والحياة والإرادة والاستواء واليدين والوجه والغضب والرضا، ولا يوجد مع هذا دليل واحد يفيد أن هذه النصوص مراد بها خلاف ظاهرها. فإخلاء المتكلم كلامه من قرينة تفيد أن ظاهره غير مراد ينافي بيانه وإرشاده، مع ملاحظة الأمور الآتية: الأمر الأول: إن الله تعالى أعلم بما ينزل (¬1). الأمر الثاني: إنه لو كان الظاهر غير مراد لجاء البيان بذلك – إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، ووقت الحاجة هو وقت الخطاب، وعلى فرض جواز تأخره إلى ما بعد ذلك فلا يجوز تأخيره بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه على كثرة النصوص الواردة بذكر الصفات لم يأت نص واحد يصرفها عن ظاهرها. فعلم بهذه الأمور مجتمعة أن خطاب الشرع في صفات رب العالمين يجب حمله على ظاهره إذ المخاطب أعلم بما ينزل وكلامه هدى وبيان وقد أخلاه عما يصرفه عن ظاهره. الدليل الثاني: وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم – المبين للكتاب – كما قال الله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] وهو الهادي إلى صراط مستقيم كما قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] قد اشتملت سنته على ذكر الصفات لله تعالى، إما تصريحاً بالقول وإما إقراراً، وكل من القول والإقرار إما أن يكون قد ورد مثله في القرآن أو لم يرد، وكل من ذلك إما صفات فعلية أو ذاتية. فمثال قوله صلى الله عليه وسلم في الصفات وهي مذكورة في القرآن: صفة اليدين، وصفة الاستواء، فالأولى صفة ذاتية، والثانية فعلية ... ومثال قوله صلى الله عليه وسلم في صفات لم يأت ذكرها في القرآن: الضحك والأصابع. ومثال إقراره صلى الله عليه وسلم – لبعض الصفات، وهي مذكورة في القرآن: الاستواء، كما هو في حديث الجارية، لما سألها أين الله؟ قالت في السماء، فقال لسيدها ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (¬2) ومثال إقراره صلى الله عليه وسلم لبعض الصفات، ولم يأت ذكرها في القرآن: الأصابع، كحديث الحبر اليهودي، ... وقد يفسر الرسول صلى الله عليه وسلم – صفة قد لا يفهم من نص القرآن أنها صفة لله تعالى كصفة الساق. الدليل الثالث: فهم الصحابة لها أن ظاهرها مراد ..... الدليل الرابع: إجماع الأئمة على أن ظاهرها مراد. ¬

(¬1) انظر: ((الصواعق المرسلة)) (1/ 310، 320). (¬2) رواه مسلم (537). من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.

قال الوليد بن مسلم: (سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية وغير ذلك، فقالوا: أمضها بلا كيف) (¬1) وفي رواية أنه سألهم ( ... عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قال: أمروها كما جاءت بلا تفسير) (¬2). وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (هذه الأحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض وهي عندنا حق لا نشك فيه ... ) وقال الإمام أحمد: (ولا تفسر هذه الأحاديث إلا مثل ما جاءت ولا نردها ... ) (¬3) وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر (ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى أتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو العلو والارتفاع على شيء .. إلخ) اهـ (¬4). وأقوال الأئمة كثيرة في هذا الباب يصعب حصرها، وفيما ذكر الكفاية وبالله التوفيق. فهذا الذي تقدم يدل دلالة قاطعة على أن ما جاء في نصوص الصفات حق على ظاهره المراد شرعاً، فيجب إثباتها بلا تمثيل، وتنزيه الله عن مشابهة خلقه فيها بلا تعطيل، ذلك أن ذكرها في القرآن بلا قرينة تصرفها عن ظاهرها ثم تأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في سنته قولاً وإقراراً بذكرها كما وردت في القرآن، بل يذكر صفات أخرى لم ترد فيه وهو الذي قال الله فيه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4] يدل دلالة قاطعة أن نصوص الصفات يجب إجراؤها على ظاهرها، إذ المأمور ببيان الدين لم يصرف عن ظاهرها – وهذا أمر بين. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– بتصرف - 2/ 454 ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني في ((الصفات)) (ص: 75) (رقم: 67) وانظر ((مختصر العلو)) (ص: 143) (رقم: 116). (¬2) أخرجه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 314) ورواها الخلال كما في ((سير أعلام النبلاء)) (8/ 162). (¬3) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 164). (¬4) ((التمهيد)) لابن عبد البر (7/ 131).

المطلب الثالث: القاعدة الثالثة ظاهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر.

المطلب الثالث: القاعدة الثالثة ظاهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر. فباعتبار المعنى هي معلومة، وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة وقد دل على ذلك: السمع والعقل أما السمع: فمنه قوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29] وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] وقوله جل ذكره وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44] والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه، ليتذكر الإنسان بما فهمه منه وكون القرآن عربياً ليعقله من يفهم العربية يدل على أن معناه معلوم وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه وأما العقل: فلأن من المحال أن ينزل الله تعالى كتاباً أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء؛ لأن ذلك من السفه الذي تأباه حكمة الله تعالى، وقد قال الله تعالى عن كتابه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات ... وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويدَّعون أن هذا مذهب السلف والسلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحياناً وتفصيلاً أحياناً، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله – عز وجل. قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه المعروف بـ (العقل والنقل 1/ 116) المطبوع على هامش (منهاج السنة): وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله – إلى أن قال .... -: وحينئذٍ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه، قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدىً وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بيَّن للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد أهـ كلام الشيخ وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد – رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص43

المطلب الرابع: القاعدة الرابعة ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام.

المطلب الرابع: القاعدة الرابعة ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام. فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه فلفظ (القرية)، مثلاً يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى فمن الأول قوله تعالى: وَإِن مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً [الإسراء:58] ومن الثاني قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت:31] وتقول: صنعت هذا بيدي، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [ص:75] لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق أو بالعكس ونقول: ما عندك إلا زيد، وما زيد إلا عندك، فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى مع اتحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فغير المعنى به إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقاً يليق بالله – عز وجل – وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة" أهـ وقال القاضي أبو يعلى في كتاب (إبطال التأويل): (لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة) أهـ نقل ذلك عن ابن عبد البر والقاضي شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتوى الحموية 87 - 89 جـ5 من مجموع الفتاوى لابن القاسم وهذا هو المذهب الصحيح، والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين: الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف الثاني: أن يقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم، والثاني باطل لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحاً أو ظاهراً، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحاً ولا ظاهراً بالحق الذي يجب اعتقاده وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.

القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله وهو: التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك وهؤلاء هم المشبهة ومذهبهم باطل محرم من عدة أوجه: الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟ الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها فيكون باطلاً فإن قال المشبه: أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله فجوابه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أنداداً فقال: فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:74] وقال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] وكلامه – تعالى – كله حق يصدق بعضه بعضاً، ولا يتناقض ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتاً لا تشبه الذوات؟ فسيقول: بلى! فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومن فرق بينهما فقد تناقض! ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟ فسيقول: بلى! فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا، فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً، لا يليق بالله وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله، وهم أهل التعطيل سواء كان تعطيلهم عاماً في الأسماء والصفات، أم خاصاً فيهما، أو في أحدهما، فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطراباً كثيراً، وسموا ذلك تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف ومذهبهم باطل من وجوه: أحدها: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره، والله – تعالى – خاطب الناس بلسان عربي مبين، ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر؛ فوجب حمل كلام الله ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي؛ غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله – عز وجل.

الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه، قول على الله بلا علم وهو محرم؛ لقوله – تعالى -: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] ولقوله – سبحانه -: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] فالصارف لكلام الله – تعالى – ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم وقال على الله ما لا يعلم من وجهين: الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله – تعالى – ورسوله كذا، مع أنه ظاهر الكلام الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قول بلا علم؛ فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟! مثال ذلك: قوله – تعالى – لإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] فإذا صرف الكلام عن ظاهره، وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد كذا وكذا قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟! وما دليلك على ما أثبت؟! فإن أتى بدليل – وأنى له ذلك – وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته الوجه الرابع: في إبطال مذهب أهل التعطيل: أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلاً، لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها الوجه الخامس: أن يقال للمعطل: هل أنت أعلم بالله من نفسه؟ فسيقول: لا ثم يقال له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم ثم يقال له: هل تعلم كلاماً أفصح وأبين من كلام الله – تعالى؟ فسيقول: لا ثم يقال له: هل تظن أن الله – سبحانه وتعالى – أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له: هل أنت أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحق صدق وحق؟ فسيقول: نعم ثم يقال له: هل تعلم أن أحداً من الناس أفصح كلاماً، وأبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول لا ثم يقال له هل تعلم أن أحداً من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله؟ فسيقول: لا فيقال له: إذا كنت تقر بذلك فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله – تعالى – لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك، وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟ وماذا يضيرك إذا أثبت لله – تعالى – ما أثبته لنفسه في كتابه، أو سنة نبيه على الوجه اللائق به، فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتاً ونفياً؟ أليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [قصص:65] أوليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها، وتعيين معنى آخر مخاطرة منك؟! فلعل المراد يكون – على تقدير جواز صرفها – غير ما صرفتها إليه الوجه السادس في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة؛ وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم فمن هذه اللوازم: أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله

– تعالى – بخلقه، وتشبيه الله – تعالى – بخلقه كفر؛ لأنه تكذيب لقوله – تعالى-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] قال نعيم بن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري – رحمهما الله -: من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً أهـ ومن المعلوم أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيهاً وكفراً أو موهماً لذلك ثانياً: أن كتاب الله – تعالى – الذي أنزله تبياناً لكل شيء، وهدى للناس، وشفاءً لما في الصدور، ونوراً مبيناً، وفرقاناً بين الحق والباطل لم يبين الله – تعالى – فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكلاً إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاءون، وينكرون ما لا يريدون وهذا ظاهر البطلان ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات أو يمتنع عليه أو يجوز؛ إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله – تعالى – وسموه تأويلاً.

وحينئذ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة، وكلا الأمرين باطل!! رابعاً: أن كلام الله ورسوله ليس مرجعاً للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلههم الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع بل هو زبدة الرسالات، وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة وما خالفها، فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو التحريف الذي يسمونه تأويلاً، إن لم يتمكنوا من تكذيبه خامساً: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله، فيقال في قوله – تعالى -: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] لا يجيء، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) (¬1) ¬

(¬1) رواه البخاري (1145) ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ..

إنه لا ينزل لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم، وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه، ونفي ما أثبته الله ورسوله من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره؛ لأنه ليس في السياق ما يدل عليه ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء – أيضاً – ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية: أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه أو لا يدل عليه فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه كما هو ثابت بالدليل السمعي مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع والعقل عليها أما السمع: فمنه قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة ونفوا الرحمة؛ لأنها تستلزم لين الراحم ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل أو إرادة الفعل ففسروا الرحيم بالمنعم أو مريد الإنعام فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عدداً وتنوعاً من أدلة الإرادة فقد وردت بالاسم مثل: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصفة مثل: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف:58] والفعل مثل: وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ [العنكبوت:21] ويمكن إثباتها بالعقل فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع عنهم في كل حين دالة على ثبوت الرحمة لله – عز وجل – ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة؛ فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة، وهذا يستلزم الحاجة، والله تعالى منزه عن ذلك فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق أمكن الجواب بمثله في الرحمة بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل سواء كانت تعطيلاً عاماً أو خاصاً وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته وما احتجوا به لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية وذلك من وجهين: أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تدفع بالبدعة وإنما تدفع بالسنة الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقلياً وأولتم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقلياً، ونؤول دليله السمعي، فلنا عقول كما أن لكم عقولاً، فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة، وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة، وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى وهذه حجة دامغة وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيهاً لا تعطيل فيه ولا تحريف، وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] (تنبيه) علم مما سبق أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل أما تعطيل المعطل فظاهر، وأما تمثيله فلأنه إنما عطل لاعتقاده أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه فمثل أولاً، وعطل ثانياً، كما أنه بتعطيله مثله بالناقص وأما تمثيل الممثل فظاهر، وأما تعطيله فمن ثلاثة أوجه: الأول: أنه عطل نفس النص الذي أثبت به الصفة، حيث جعله دالاً على التمثيل مع أنه لا دلالة فيه عليه وإنما يدل على صفة تليق بالله عز وجل الثاني: أنه عطل كل نص يدل على نفي مماثلة الله لخلقه الثالث: أنه عطل الله تعالى عن كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص45

المطلب الخامس: عدم التفريق بين الأدلة الشرعية من حيث الأخذ بها انظر ((الصفات الإلهية)) للشيخ محمد أمان الجامي (ص: 64).

المطلب الخامس: عدم التفريق بين الأدلة الشرعية من حيث الأخذ بها (¬1) والمراد بهذه القاعدة أنه يستدل في الاعتقاد – ومنه مسائل الأسماء والصفات – بأدلة الشرع الأصيلة كلها، القرآن، والحديث بقسميه المتواتر والآحاد المتلقاة بالقبول. وعلى هذا كان الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان. وأكثر الكلام هنا سيكون عن الأحاديث إذ أكثر المتكلمون من القول بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن فلا يؤخذ بها في المسائل العلمية الاعتقادية وهذا القول قالوه لعدم مقدرتهم على صرف ظاهرها بأنواع التحريفات التي سموها تأويلات، فأصلوا هذه القاعدة ليتوصلوا بها إلى جحد كثير من المسائل التي تخالف أصولهم. وهذه القاعدة – أي عدم التفريق بين الأدلة – تقوم على بيان ثلاثة أسس هي: الأول: الأدلة من الكتاب والسنة على حجية السمع مطلقاً. الثاني: بيان إفادة خبر الواحد المتلقى بالقبول العلم والعمل. الثالث: بيان عدم مخالفة الأحاديث للقرآن في باب الأسماء والصفات. أما الأساس الأول: الأدلة على حجية السمع بقسميه مطلقاً: فالأدلة في هذا كثيرة يكفي ذكر آيتين من كتاب الله، فالآيتان إحداهما توجب الأخذ بالقرآن والسنة، والثانية تبين حفظهما. أما الآية الأولى فقول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر: 7]، وهذا النص شمل كل ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو في القرآن وبينه في سنته، سواء كان ذلك في الاعتقادات أو غيرها. وأما الآية الثانية فقول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ومعلوم أن هذا يشمل القرآن والحديث، وحتى على القول بأن الذكر في الآية هو القرآن فإنه يقال: قد أنزل الله تعالى كتابه – وهو الذكر – ليبينه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]، وأنواع البيان كثيرة كبيان مجمل، أو تخصيص عام، وكل ذلك جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة أولها وآخرها كما قال الله تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19]، فصح بهذا أن السنة الصحيحة حجة مطلقاً في أي زمان. الأساس الثاني: خبر الواحد إذا احتفت به القرائن يفيد العلم: وأذكر هنا حديثين يفيدان قبوله، ثم أتبعه بأقوال أهل العلم خاصة في الصفات، أما الحديثان، فالأول: حديث بعث معاذ إلى اليمن – حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله)) (¬2). والثاني: عن أنس: ((أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام، قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: هذا أمين هذه الأمة)) (¬3). واكتفيت بهذين الحديثين لأنهما يبينان السنة العملية، ولا يقال إن هذين من أحاديث الآحاد فيكف يجعلان حجة في قبول خبر الآحاد؟ والجواب من وجهين: الأول: إن مثل هذا يعد تواتراً معنوياً إذ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم – أفراداً من أصحابه إلى عدة أماكن – كبعثه علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبا موسى، وأبا عبيدة وغيرهم – رضي الله عنهم. الثاني: إن هذين الحديثين مخرجان في الصحيحين، وهما مما لم يتكلم فيه النقاد بالطعن، وما كان كذلك فقد اجتمعت الأمة على تلقيه بالقبول. ¬

(¬1) انظر ((الصفات الإلهية)) للشيخ محمد أمان الجامي (ص: 64). (¬2) رواه البخاري (1458)، ومسلم (19). بلفظ: ((عبادة الله)) بدلاً من ((شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)). (¬3) رواه مسلم (2419).

ووجه الاستدلال بذلك كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (وهو - صلى الله عليه وسلم- لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق) (¬1). فصح مما تقدم من الحديثين أن خبر الواحد الصحيح المفيد للعلم حجة في العقيدة وعلى هذا كان الأئمة – رحمهم الله تعالى - (¬2). أما الذين قالوا بأنه لا يفيد العلم واخترعوا هذه المقالة إنما كان قصدهم رد الأخبار التي لا توافق بدعهم، وفي هذا الصدد يقول الإمام أبو المظفر السمعاني الشافعي: (إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا عامة قول أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولابد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأخبار ... ) (¬3). وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي: (وكلهم – (أي أهل الفقه والأثر) – يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات ويعادي ويوالي عليها ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة والجماعة) (¬4). ومن القرائن التي ذكرها أهل العلم إذا احتفت بخبر الواحد أفادت العلم (¬5): 1 - كون الحديث في الصحيحين أو في أحدهما مما اتفق على صحته. 2 - إذا كان الحديث مشهوراً له طرق متعددة سالمة من ضعف الرواة والعلل. 3 - كون الحديث مسلسلاً بالأئمة الحفاظ المتقنين. 4 - كونه متلقى بالقبول عند الأمة. والأحاديث الواردة في الصفات هي كلها من هذا الباب وقد تلقاها الأئمة بالقبول، وقد تقدم نقل كلام ابن عبد البر في ذلك وحكاية ذلك عن أهل السنة قاطبة، ويضاف إلى ذلك أقوال كبار الأئمة قبله: فمن ذلك ما ذكره عباد بن العوام فقال: (قدم علينا شريك بن عبد الله منذ نحو خمسين سنة قال: فقلت له: يا أبا عبد الله إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث، قال: فحدثني بنحو من عشرة أحاديث في هذا وقال: أما نحن فقد أخذنا ديننا عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمن أخذوا؟.) اهـ (¬6). وقال الإمام أحمد لما سئل عن أحاديث الرؤية: (أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر، وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جيدة نؤمن به ونقر) فلم يشترط إمام السنة التواتر في الخبر لقبوله وإنما اشترط الصحة فقط. وقال عباس الدوري: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام – وذكر الباب الذي يروى فيه حديث الرؤية والكرسي موضع القدمين وضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره وأين كان ربنا قبل أن يخلق السماء، وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك عز وجل قدمه فيها فتقول قط، قط وأشباه هذه الأحاديث فقال: هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا شك فيها) اهـ (¬7). ¬

(¬1) ((الرسالة)) للإمام الشافعي (ص: 412). (¬2) وانظر: ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) لأبي نصر السجزي (ص: 185 - 191). (¬3) ((رسالة الانتصار لأهل الحديث – مختصرها - للسمعاني ضمن صون المنطق للسيوطي)) (ص: 160 - 161). (¬4) ((التمهيد)) لابن عبد البر (1/ 8). (¬5) انظر: ((نزهة النظر)) لابن حجر (ص: 26 - 27). (¬6) ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 273) (رقم/ 509). (¬7) أخرجه الدارقطني في ((الصفات)) (ص: 39 - 40) (رقم/ 57).

ومثل هذا ما نقله أحمد بن نصر عن سفيان بن عيينة الإمام لما سأله فقال له: (كيف حديث عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يحمل السموات على إصبع والأرضين على إصبع)) (¬1) وحديث: ((إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)) (¬2)، وحديث: ((إن الله عز وجل يعجب ويضحك)) (¬3) ... فقال سفيان: هي كما جاءت، نقر بها، ونحدث بها بلا كيف) (¬4) اهـ. فهذه أقوال الأئمة المشهود لهم بالإمامة في الديانة والعلم صرحوا بقبول هذه الأحاديث، وهم من أخبر الناس بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ أهل كل علم أخبر بعلمهم من غيرهم. الأساس الثالث: بيان عدم مخالفة الأحاديث للقرآن في باب الأسماء والصفات على وجه الخصوص: ويمكن تقسيم الأحاديث إلى قسمين بحسب ما جاءت به من الصفات: قسم من الأحاديث ورد بصفات هي واردة في القرآن كذلك فهذه تكون مؤكدة. وقسم منها ورد بصفات هي من نوع الصفات الواردة في القرآن وإن لم يرد ذكرها في القرآن نصاً. أما القسم الأول: وهي الأحاديث الواردة بالصفات المذكورة في القرآن، فهي أكثر الأحاديث، ومن ذلك في الصفات الذاتية: صفة اليدين، فقد وردت في أحاديث كثيرة جداً منها: ((قال وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع)) (¬5)، ومصداق هذا في القرآن قوله الله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، وقول الله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]. ومثال الصفات الفعلية في الأحاديث: ((لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي)) (¬6). ففي هذا الحديث التصريح بإثبات فوقية الرحمن على العرش، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]. ومثل ما تقدم ما ورد في صفة السمع والبصر والوجه والكلام والرحمة والغضب والقدرة والإرادة والعلم والحياة والعلو الحب، وغير ذلك من الصفات الواردة في كتاب الله ثم وردت كذلك في السنة. أما القسم الثاني: وهي الأحاديث الواردة ببعض الصفات التي لم يأت ذكرها في القرآن نصاً، وهي مثل أحاديث الضحك والنزول من صفات الأفعال، وصفة الأصابع من صفات الذات، فمثل هذه يقال فيها: هذه الأحاديث إما متواترة كحديث النزول (¬7)، فمثل هذه الأحاديث لا يمكن أن يقال فيها إنها ظنية الثبوت، ولكن المخالفون يلجأون إلى تأويلها ... وإما أن تكون هذه الأحاديث من الآحاد، فالكلام فيها من جهتين: 1 - إن هذه الأحاديث قد تلقاها الأئمة بالقبول، وهذه قرينة موجبة للقول بإفادتها للعلم. 2 - والجهة الثانية: إن هذه الصفات الواردة في أحاديث الآحاد هي من نوع الصفات الواردة في القرآن، كالأصبع، فإن في السنة بيان أن الله يأخذ بها السموات والأرضين والشجر يوم القيامة، وفي القرآن بيان أن الله يطوي السموات بيمينه كمال قال الله: وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] وكذلك جاء في السنة، وهكذا يقال في الضحك، فإن الغضب الوارد في القرآن – كقول الله تعالى: وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ [النساء: 93]: صفة فعلية لله، يقال كذلك: إن الضحك صفة فعلية لله وردت بها السنة، فكلاهما: صفة فعل. وبهذا يعلم أنه ليس في السنة شيء يخالف القرآن، فوجب إثبات كل ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله، لأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق على حقيقته، ولا يجوز إنكارها كلها لأن القول في الصفات كالقول في الذات، كما لا يجوز إنكار بعضها لأن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 2/ 443 ¬

(¬1) رواه البخاري (7415)، ومسلم (2786). بلفظ: ((يمسك السموات)) بدلاً من ((يحمل السموات)). (¬2) رواه مسلم (2654). من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬3) الحديث رواه النسائي (6/ 138) (3165). ولفظه: ((إن الله عز وجل يعجب من رجلين يقتل أحدهما صاحبه وقال مرة أخرى ليضحك من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثم يدخلان الجنة)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث في الصحيحين رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890). (¬4) أخرجه الدارقطني في ((الصفات)) (ص: 41 - 42) (رقم/63). (¬5) رواه البخاري (7411). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (7404)، ومسلم (2751). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) حديث النزول رواه البخاري (1145)، ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد روى حديث النزول أيضاً: أحمد ومالك وأبو عيسى الترمذي وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني وأئمة المسلمين.

المطلب السادس: الاستدلال بقياس الأولى دون غيره من أنواع القياس

المطلب السادس: الاستدلال بقياس الأولى دون غيره من أنواع القياس إن الله تعالى لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، ولذلك نهى أن يضرب له المثل فقال: فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل: 74]، فلا يجوز أن يمثل بغيره من الخلق، سواء كان ذلك بقياس تمثيل أو قياس شمول (¬1). وإنما يستعمل في حقه سبحانه، قياس الأولى الدال عليه قول الله تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60] أي الأكمل والأحسن والأطيب كما قال ابن جرير رحمه الله. فقياس الأولى راجع إلى الأمثال المضروبة في الكتاب والسنة. ويستعمل قياس الأولى في الإثبات وفي التنزيه. أما في الإثبات: فإنه يكون في أمرين كليين (¬2): الأول: إن الاتصاف بالصفات الوجودية في حق المخلوق أكمل فيه من اتصافه بالأمور العدمية، فالخالق أحق بالأمور الوجودية من كل مخلوق. الثاني: إن كل كمال ثبت فالخالق أولى به منه، ويشترط في هذا الكمال: 1 - أن لا يكون فيه نقص بوجه من الوجوه، كالقدرة على إنجاب الولد، فهذا كمال في حق المخلوق، ولكن ليس كمالاً مطلقاً، إذ فيه نقص من وجوه وهو أن الوالد محتاج إلى ولده ولا يستغني عنه ولذلك قال الله تعالى: قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس: 68]. 2 - أن لا يكون مستلزماً للعدم، وهذا الشرط ذكر لأن بعض المخالفين يصفونه بصفات السلوب التي لا تتضمن أمراً وجودياً، ويزعمون أنها كمال في حق الخالق مع أنها مستلزمة للعدم. فيجب إذاً أن يوصف الله بصفات كاملة وجودية لا صفات مستلزمة للعدم (¬3). ويمكن الاستدلال لقاعدة استعمال قياس الأولى في الإثبات بذكر ثلاث صفات؛ الأولى: الرحمة، والثانية: القدرة، والثالثة: الفرح. أما الأولى فيدل لها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا والله، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) (¬4) اهـ. والثانية في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود رضي الله عنه لما ضرب مملوكه فقال له: ((اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)) (¬5). والثالثة: في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة)) (¬6). والاستعمال الثاني لقياس الأولى يكون في التنزيه: وهو أن كل نقص وعيب في نفسه ينزه المخلوق عنه، فتنزيه الخالق عنه أولى. والمقصود بالعيب في نفسه ما تضمن سلب كمال ما أثبت (¬7). ومثال هذا القياس ما ذكره الله من مثل في شأن تنزهه عن أن يكون له شريك في صفة الإلهية، قال الله تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28]. ¬

(¬1) انظر: ((الرسالة التدمرية)) (2/ 33). (¬2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 29 - 30). (¬3) انظر: ((نقض التأسيس)) لابن تيمية (2/ 360 - 362). (¬4) رواه البخاري (5999)، ومسلم (2754). من حديث عمر رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (1659). من حديث أبي مسعود رضي الله عنه. (¬6) رواه مسلم (2675). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 29 - 30).

ومعنى المثل على سبيل الإجمال: أن الله عز وجل ذكره يوبخ المشركين على اتخاذهم شركاء مع الله فضرب لهم مثلاً من أنفسهم وهو أنكم إذا كنتم لا ترضون لأنفسكم أن يكون مماليككم شركاء في الذي رزقكم الله من أموال، بل تمتنعون أن يكونوا لكم نظراء فكيف ترضون أن تجعلوا مخلوقي ومملوكي الذين زعمتم أنهم شركاء يدعون ويعبدون كما أدعى وأعبد؟ فإذا كنتم تنزهون وتنفون ذلك عن أنفسكم فالخالق أولى بأن تنزهوه وتنفوا عنه الشريك في العبادة (¬1). وقد نسب شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الطريقة من الاستدلال إلى جمع من أهل العلم منهم الإمام أحمد رحمه الله (¬2). فمن ذلك: قال الإمام أحمد: (ووجدنا كل شيء أسفل منه مذموماً، يقول الله جل ثناؤه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 146] وقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت: 26]) اهـ (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على كلام الإمام أحمد: (وهذه الحجة من باب (قياس الأولى) وهو أن السفل مذموم في المخلوق حيث جعل الله أعداءه في أسفل سافلين، وذلك مستقر في فطر العباد، حتى إن أتباع المضلين طلبوا أن يجعلوهم تحت أقدامهم ليكونوا من الأسفلين، وإذا كان هذا مما ينزه ويقدس عنه المخلوق ويوصف به المذموم المعيب من المخلوق فالرب تعالى أحق أن ينزه ويقدس عن أن يكون في السفل أو يكون موصوفاً بالسفل هو أو شيء منه أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه، بل هو العلي الأعلى بكل وجه) اهـ (¬4). وقال الإمام أحمد: (ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صاف وفيه شراب صاف، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح فالله: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم: 27] قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه) (¬5). قال شيخ الإسلام معلقاً على كلام الإمام: (ثم ذكر الإمام أحمد حجة اعتبارية عقلية قياسية لإمكان ذلك هي من باب الأولى ... فضرب أحمد رحمه الله مثلاً وذكر قياساً وهو أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلاً فيه ولا محايثاً له فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعاً في حقه، وذكر أحمد في ضمن هذا القياس قول الله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم: 27] مطابق لما ذكرناه من أن الله له قياس الأولى والأحرى .. وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال) (¬6) اهـ. وقد حكى ابن هبيرة هذه الطريقة عن عامة أهل السنة والجماعة فقال في كتابه الإفصاح: (إن أهل السنة يحكون: أن النطق بإثبات الصفات وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه، وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة، لأن الله تعالى لا شريك له، بل لله المثل الأعلى، وذلك هو قياس الأولى والأحرى، فكل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 2/ 463 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) (11/ 21 - 38) و ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 37). (¬2) انظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 30). (¬3) ((الرد على الزنادقة والجهمية)) (ص: 38 - 39). (¬4) ((نقض التأسيس)) (2/ 543). (¬5) ((الرد على الزنادقة والجهمية)) للإمام أحمد (ص: 39). (¬6) ((نقض التأسيس)) (2/ 546).

المبحث التاسع: قواعد الاستدلال في باب الأسماء والصفات

المطلب الأول: حكم استعمال الأقيسة في حق الرب سبحانه وتعالى وأما القسم الثاني ـ وهو دلائل هذه المسائل الأصولية ـ فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين المتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق فدلالته موقوفة علي العلم بصدق المخبر ويجعلون ما يبني عليه صدق المخبر معقولات محضة ـ فقد غلطوا في ذلك غلطا عظيما بل ضلوا ضلالا مبينا في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد بل الأمر ما عليه سلف الأمة أهل العلم والإيمان من أن الله سبحانه وتعالي بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته علي أحسن وجه وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه التي قال فيها: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: 27] فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية سواء كانت قياس شمول أو قياس تمثيل ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك كما سمي الله آيتي موسى برهانين: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ [القصص: 32] ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يجوز أن يدخل تحت قضية كلية تستوي أفرادها ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين بل تناقضت أدلتهم وغلب عليهم ـ بعد التناهي ـ الحيرة والاضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولي سواء كان تمثيلا أو شمولا كما قال تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60] مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه ـ وهو ما كان كمالا للموجود غير مستلزم للعدم ـ فالواجب القديم أولى به وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المعلول المدبر فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره فهو أحق به منه وأن كل نقص وعيب في نفسه ـ وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى وأنه أحق بالأمور الوجودية من كل موجود وأما العدمية بالممكن المحدث بها أحق ونحو ذلك ومثل هذه الطرق هي التي كان يستعملها السلف والأئمة في مثل هذه المطالب كما استعمل نحوها الإمام أحمد ومن قبله وبعده من أئمة أهل الإسلام وبمثل ذلك جاء القرآن في تقرير أصول الدين في مسائل التوحيد والصفات والمعاد ونحو ذلك ومثال ذلك أنه سبحانه لما أخبر بالمعاد ـ والعلم به تابع للعلم بإمكانه فإن الممتنع لا يجوز أن يكون ـ بين سبحانه إمكانه أتم بيان ولم يسلك في ذلك ما يسلكه طوائف من أهل الكلام حيث يثبتون الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني فيقولون: هذا ممكن لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال فإن الشأن في هذه المقدمة فمن أين يعلم أنه لا يلزم من تقدير وجوده محال؟ فإن هذه قضية كلية سالبة فلا بد من العلم بعموم هذا النفي وما يحتج به بعضهم على أن هذا ممكن بأنا لا نعلم امتناعه كما نعلم امتناع الأمور الظاهر امتناعها مثل كون الجسم متحركا ساكنا فهذا كاحتجاج بعضهم علي أنها ليست بديهية بأن غيرها من البديهيات أجلى منها وهذه حجة ضعيفة لأن البديهي هو ما إذا تصور طرفاه جزم العقل به والمتصوران قد يكونان خفيين فالقضايا تتفاوت في الجلاء والخفاء لتفاوت تصورها كما تتفاوت لتفاوت الأذهان وذلك لا يقدح في كونها ضرورية ولا يوجب

أن ما لم يظهر امتناعه يكون ممكنا بل قول هؤلاء أضعف لأن الشيء قد يكون ممتنعا لأمور خفية لازمة له فما لم يعلم انتفاء تلك اللوازم أو عدم لزومها لا يمكن الجزم بإمكانه والمحال هنا أعلم من المحال لذاته أو لغيره والإمكان الذهني حقيقته عدم العلم بالامتناع وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجي بل يبقى الشيء في الذهن غير معلوم الامتناع ولا معلوم الإمكان الخارجي وهذا هو الإمكان الذهني فإن الله سبحانه وتعالى لم يكتف في بيان إمكان المعاد بهذا إذ يمكن أن يكون الشيء ممتنعا ولو لغيره وإن لم يعلم الذهن امتناعه بخلاف الإمكان الخارجي فإنه إذا علم بطل أن يكون ممتنعا والإنسان يعلم الإمكان الخارجي: تارة بعلمه بوجود الشيء وتارة بعلمه بوجود نظيره وتارة تعلمه بوجود ما الشيء أولى بالوجود منه فإن وجود الشيء دليل علي أن ما هو دونه أولى بالإمكان منه ثم إنه إذا تبين كون الشيء ممكنا فلا بد من بيان قدرة الرب عليه وإلا فمجرد العلم بإمكانه لا يكفي في إمكان وقوعه إن لم يعلم قدرة الرب على ذلك درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 19 وأسماء الله توقيفية فلا يسمى سبحانه إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يسمى باسم عن طريق القياس أو الاشتقاق من فعل ونحوه خلافاً للمعتزلة والكرَّامية فلا يجوز تسميته بناءً ولا ماكراً ولا مستهزئاً أخذاً من قوله تعالى: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] وقوله: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ [آل عمران:54] وقوله: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15] ولا يجوز تسميته زارعاً، ولا ماهداً ولا فالقاً ولا منشئاً ولا قابلاً، ولا شديداً، ونحو ذلك آخذاً من قوله تعالى: أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:64] وقوله فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:48] وقوله أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ [الواقعة:72] وقوله تعالى فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [الأنعام:95] وقوله وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] لأنها لم تستعمل في هذه النصوص إلا مضافة وفي أخبار على غير طريق التسمي لا مطلقة فلا يجوز استعمالها إلا على الصفة التي وردت عليها في النصوص الشرعية فيجب ألا يعبَّد في التسمية إلا لاسم من الأسماء التي سمى بها نفسه صريحاً في القرآن أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من الأحاديث كأسمائه التي في آخر سورة الحشر، والمذكورة أول سورة الحديد، المنشورة في سور أخرى من القرآن وصلى الله عليه وسلم شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص259

المطلب الثاني: حكم تعميم دلالة النص على الاسم والصفة والذات

المطلب الثاني: حكم تعميم دلالة النص على الاسم والصفة والذات دلالة النصوص نوعان حقيقة وإضافية فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمر أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم - على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله إنك ستأتيه وتطوف به فإنه لا دلالة في هذا اللفظ في تعيين العام الذي يأتونه فيه وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين وأنكر على من فهم من قوله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل وأخبرهم أنه بطر الحق وغمط الناس وأنكر على من فهم من قوله من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه أنه كراهة الموت وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا معارضته لقوله صلى الله عليه وسلم من نوقش الحساب عذب وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض أي حساب العرض لا حساب المناقشة وأنكر على من فهم من قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب وغير ذلك من مصائبها وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة وأنكر على من فهم من قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون أنه ظلم النفس بالمعاصي وبين أنه الشرك وذكر قول لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك فإن الله سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم، بل قال: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [الأنعام:82] إعلام الموقعين عن رب العالمين لمحمد بن أبي بكرابن قيم الجوزية - 1/ 350

المطلب الثالث: حكم الاستدلال بالتشبيه نفيا وإثباتا

المطلب الثالث: حكم الاستدلال بالتشبيه نفيا وإثباتا أن لفظ (التشبيه) و (التركيب) لفظ فيه إجمال وهؤلاء أنفسهم - هم وجماهير العقلاء - يعلمون أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى إذ هو سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم على الرد على هؤلاء الملاحدة وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلا للآخر ولا يجوز أن ينفي عن الخالق سبحانه كل ما يكون فيه موافقة لغيره في معنى ما فإنه يلزمه عدمه بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة بل يلزم نفي وجوده ونفي عدمه وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 3/ 67

فيما يجوز وما لا يجوز على الله من النفي والإثبات أنه لقائل أن يقول: لا بد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه كما في الأسماء والصفات المتواطئة ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرا بمعنى من المعاني ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبه ومنازعوهم يقولون: ذلك المعنى ليس من التشبيه وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل فمن قال إن لله علما قديما أو قدرة قديمة كان عندهم مشبها ممثلا لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديما ويسمونه ممثلا بهذا الاعتبار ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا بل يقولون: أخص وصفه لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين وأنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير وأنه إله واحد ونحو ذلك والصفة لا توصف شيء من ذلك ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات إنها قديمة بل يقول: الرب بصفاته قديم ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة ولا يقول: هو وصفاته قديمان ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم فضلا عن أن تختص بالقدم وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم وليست الصفات إلها ولا ربا كما أن النبي محدث وصفاته محدثة وليست صفاته نبيا فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل: كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك ثم تقول لأولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيها فهذا المعنى لم ينفعه عقل ولا سمع وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ونحو ذلك ولكن يقولون الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفؤه ولا نده فلا يدخل في النص وأما العقل: فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة وكذلك أيضا يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه وكذلك يقول: هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسما فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسما وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه مشبها ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبها كما يقول صاحب الإرشاد وأمثاله وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو لكن هؤلاء يجعلون العلو صفة خبرية كما هو أول قولي

القاضي أبي يعلى فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم كما يقولونه في سائر الصفات والعاقل إذ تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق وأصل كلا م هؤلاء كلهم على إثبات الصفات مستلزم للتجسيم والأجسام متماثلة والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى وتارة بمنع المقدمة الثانية وتارة بمنع كل من المقدمين وتارة بالاستفصال ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار إليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود أو بالمركب من الهيولي والصورة ونحو ذلك فإما يبنى على صحة ذلك وعلى إثبات الجوهر الفرد وعلى أنه متماثل وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك والمقصود: هنا أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيما بناء على تماثل الأجسام والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم كإطلاق الرافضة النصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بناء على أن من أحبهما فقد بغض عليا رضي الله عنه ومن أبغضه فهو ناصبي وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشبهان من وجه ويختلفان من وجه وأكثر العقلاء على خلاف ذلك وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفي ذلك وبينا فساد قول من يقول بتماثلها وأيضا فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل وذلك أنه إذا أثبت تماثل الأجسام عما لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم وثبت امتناع الجسم: كان هذا وحده كافيا في نفي ذلك لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى التشبيه لكن نفي التجسيم يكون مبنيا على نفي هذا التشبيه بأن يقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسما ثم يقال: والأجسام متماثلة فيجب اشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا ممتنع عليه لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمدا في نفي التشبيه على نفي التجسيم فيكون أصل نفيه نفي الجسم وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله وإنما المقصود هنا: أن مجرد الاعتماد في نفي ما ينفي على مجرد نفي التشبيه لا يفيد إذ ما من شيئين إلا يشتبهان من وجه بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب ونحو ذلك مما هو سبحانه مقدس عنه فإن هذه طريقة صحيحة وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها فإن نفي المماثلة فيما هو مستحق له وهذا حقيقة التوحيد: وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات ونفي مماثلته بشيء من المخلوقات فإن قيل: هب الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا كما إذا قيل: إنه موجود حي عليم سميع بصير وقد سمى بعض المخلوقات حيا سميعا عليما بصيرا فإذا قيل: يلزم أنه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودا حيا عليما سميعا بصيرا قيل: لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعا على الرب تعالى فإن ذلك لا يقتضي حدوثا ولا مكانا ولا نقصا ولا شيئا مما ينافي صفات الربوبية وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود أو الحياة أو الحي أو العلم أو العليم أو السمع أو البصر أو السميع أو البصير أو القدرة أو القدير والقدير المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث ولا فيما يخص بالواجب القديم فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال كالوجود والحياة والعلم والقدر ولم يكن في

ذلك شيء مما يدل على خصائص المخلوقين كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق لم يكن في إثبات هذا محذور أصلا بل إثبات هذا من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا ومن نفي هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئا وربما قالت الجهمية هو شيء لا كالأشياء فإن نفي القدر المشترك مطلقا لزم التعطيل العام والمعاني التي يوقف بها الرب تعالى كالحياة والعلم والقدر بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك: يجب لوازمها فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوقات من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك والله سبحانه منزه عن خصائص المخلوقين وملزومات خصائصهم وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره: زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام وقد بسط هذا في مواضع كثيرة وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وإن معنى اشتراك الموجودات في أمر هو تشابهها من ذلك الوجه وإن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام فتارة يظن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفطن انه لا بد من إثبات هذا على تقدير فيجب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك؟ كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها وفي أن المعدوم هل هو شيء أو لا؟ وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟ وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها وتارة يبقى في الشك والتحير وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات وما وقع من اشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة مالا تتسع له هذه الجمل المختصرة وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودين في الخارج بخلاف الماهية التي الذهن فإنهما مغيرة للموجود في الخارج وأن لفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك فهذه الألفاظ كلها متواطئة فإذا قيل: إنها مشككة لتفاضل معانيها فالمشكك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلا في موارده أو متماثلا وبينما أن المعدوم شيء أيضا في العلم والذهن لا في الخارج فلا فرق بين الثبوت والوجود لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف: لها وجود في الأذهان وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة فتتشابه بذلك وتختلف به وأما هذه الجملة المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل جامعة من فهمها علم قدر نفعها وانفتح له باب الهدى وإمكان إغلاق باب إضلال ثم بسطها وشرحها له مقام آخر إذ لكل مقام مقال والمقصود: هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفي عن الرب وينزه عنه - كما يفعله كثير من المصنفين - خطأ لمن تدبر ذلك وهذا من طرق النفي الباطلة الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 73

المطلب الرابع: حكم التجسيم نفيا وإثباتا

المطلب الرابع: حكم التجسيم نفيا وإثباتا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والمركب والمنقسم فلا يوجد له ذكر في كلام أحد من السلف كما لا يوجد له ذكر في الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات إلا بالإنكار على الخائضين في ذلك من النفاة الذين نفوا ما جاءت به النصوص والمشبهة الذين ردوا ما نفته النصوص كما ذكرنا أن أول من تكلم بالجسم نفيا وإثباتا هم طوائف من الشيعة والمعتزلة وهم من أهل الكلام الذين كان السلف يطعنون عليهم وهم في مثل هذا على المعتزلة أعظم إنكارا إذ المتشيعة لم يشتهر عن السلف الإنكار عليهم إلا فيما هو من توابع التشيع مثل مسائل الإمامة التي انفردوا بها عن الأمة وتوابعها بخلاف مسائل الصفات والقدر فإن طعنهم فيه على المعتزلة معروف مشهور ظاهر عند الخاص والعام مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 54 وقال رحمه الله: فإن أراد بقوله ليس بجسم هذا المعنى قيل له: هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلا على نفيه وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لفظ الجوهر والمتحيز ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع أهل الكلام المحدث فيها نفيا وإثباتا وإن قال كل ما يشار إليه ويرى وترفع إليه الأيدي فإنه لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة قيل له هذا محل نزاع فأكثر العقلاء ينفون ذلك وأنت لم تذكر على ذلك دليلا وهذا منتهى نظر النفاة فإن عامة ما عندهم أن ما تقوم به الصفات ويقوم به الكلام والإرادة والأفعال وما يمكن رؤيته بالأبصار لا يكون جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة وما يذكرونه من العبارة فإلى هذا يعود وقد تنوعت طرق أهل الإثبات في الرد عليهم فمنهم من سلم لهم أنه يقوم به الأمور الاختيارية من الأفعال وغيرها ولا يكون إلا جسما ونازعهم فيما يقوم به من الصفات التي يتعلق منها شيء بالمشيئة والقدوة ومنهم من نازعهم في هذا وهذا وقال بل لا يكون هذا جسما ولا هذا جسما ومنهم من سلم لهم أنه جسم ونازعهم في كون القديم ليس بجسم مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/ 550

المبحث العاشر: تأثير عارض الجهل على توحيد الأسماء والصفات وحكم الجهل ببعضها

المطلب الأول: تأثير عارض الجهل على توحيد الأسماء والصفات قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في معرض حديثه عن توحيد الأسماء والصفات: (الأصل في هذا الباب أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه. وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه – مع ما أثبته من الصفات – من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180]. فمن عدل بأسماء الله وصفاته عن حقائقها ومعانيها الصحيحة، فقد وقع في الإلحاد. والإلحاد في أسماء الله وصفاته أنواع: (النوع الأول: أن تسمى الأصنام بها، كتسمية اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. النوع الثاني: تسميتة سبحانه وتعالى بما لا يليق به، كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا أو علة فاعلة. النوع الثالث: وصفه سبحانه وتعالى بما ينزه عنه من النقائص، كقول اليهود الذين قالوا: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران: 181]، وقولهم يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64]، وأنه استراح يوم السبت، تعالى الله عما يقولون. النوع الرابع: جحد معانيها وحقائقها، كقول الجهمية إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فالسميع لا يدل على سمع، والبصير لا يدل على بصر، والحي لا يدل على حياة، ونحو ذلك. النوع الخامس: تشبيه صفاته بصفات خلقه، كقول المثل: يده كيدي إلى غير ذلك، تعالى الله. وقد توعد الله الملحدين في أسمائه وآياته بأشد الوعيد، فقال سبحانه في الآية (180) من سورة الأعراف: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، وقال في الآية (40) من سورة فصلت: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) (¬1). غير أن الإلحاد يختلف حكمه من شخص لآخر، فمن ألحد كفرا وعنادا، ليس كمن ألحد جهلاً وتأولاً وهو مؤمن ومن غير قصد للإلحاد. فهذا الإمام ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 77 - 79]، يورد سبب نزولها وأنها في أبي بن خلف، فقال: (قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدي وقتادة: جاء أبي بن خلف – لعنه الله – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟، قال صلى الله عليه وسلم ((نعم، يُميتك الله ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار)) (¬2). ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الواسطية)) للفوزان (ص: 16). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (20/ 553 - 554)، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 588).

ثم أورد بعد ذلك قصة الرجل المسرف على نفسه الذي دفعه عظم خوفه من الله إلى أن يوصي أهله بأن يحرقوه إذا مات ويذروا رماده في الهواء، ظنا منه أن الله لا يقدر على جمعه. وفي الحديث أنه غُفر له بخوفه من الله، ...... أورد هذا وذاك للتفريق بين المناطين، حيث إن في كل حالة من الحالتين إنكاراً لقدرة الله تعالى على جمع الرميم المتفرق، ولكن الأول كان كافراً معانداً، فكان من أهل النار، ((نعم، يميتك الله ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار)). والثاني كان مؤمناً جاهلاً شديد الخوف من الله تعالى، فغفر له، والله أعلم. الشاهد من هذا أنه لابد من التفريق في مثل هذه المسائل بين جاهل أو متأول لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين جاحد معاند. وعلى هذا الأساس كانت معاملة أئمة أهل السنة مع الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات؛ لأنها إنما ضلت بسبب الشبهات التي عرضت لها – بسبب بُعدها عن النقل الصحيح، وجريها خلف سراب المعقولات، وأهمها شبهة التشبيه أو التجسيم، مما دعاهم إلى المبالغة في تنزيه الله تعالى على غير منهج الكتاب والسنة. فالجهل في هذه المسألة عذر معتبر، وكذلك الشبهة والتأول. فلو لم تكن هذه الأحوال عذرا، للزم تكفير المتكلمين بتأويلهم لنصوص الصفات، وحملهم لها على المجاز، وأنها ليست ثابتة لله على الحقيقة؛ لظنهم أن ذلك يستلزم تشبيه الله بخلقه. فردهم لنصوص الصفات مبني على إرادة التنزيه لله عن مشابهة خلقه – حسب ظنهم -، وعلى هذا فهم لم يريدوا رد تلك النصوص تكذيبا بها (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (فالإمام أحمد رضي الله عنه ترحم عليهم (يعني: الجهمية) واستغفر لهم؛ لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال ذلك لهم) (¬2). وقال – رحمه الله – عن نفسه: (كنت أقول للجهمية من الحلولية، والنفاة الذين نفوا أن لله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم، كنت كافرا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال. وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له) (¬3). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش– بتصرف - ص: 395 ¬

(¬1) انظر: ((ضوابط التكفير عند أهل السنة)) (ص: 244). (¬2) ((المسائل الماردينية)) (ص: 69). (¬3) ((الرد على البكري)) (ص: 259).

المطلب الثاني: حكم الجهل ببعض أسماء الله وصفاته وأدلته

المطلب الثاني: حكم الجهل ببعض أسماء الله وصفاته وأدلته قضية الجهل ببعض أسماء الله وصفاته من القضايا التي يمثل بها أهل العلم على العذر بالجهل فيما يتعلق بقضايا التوحيد، وأن المخطئ فيها بجحد أو نكران لا يكفر، حتى تقام عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ لأن الأسماء والصفات من المسائل العقدية التي لابد من ورود النص الشرعي بها، ولا تثبت بالعقل أو الرؤيا أو الذوق ونحو ذلك. صحيح أن العقل يدركها بالفطرة، ولكن العقل .... تابع للنقل الصحيح. قال الإمام الشافعي –رحمه الله-: (لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه، فقط كفر. وأما قبل قيام الحجة، فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية ولا الفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عن نفسه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]) (¬1). وقال الإمام النووي – رحمه الله -: (قال القاضي: وممن كفره بذلك - أي بجهل الصفة - ابن جرير الطبري، وقاله أبو الحسن الأشعري أولاً. وقال الآخرون: لا يكفر بجهل الصفة، ولا يخرج به عن اسم الإيمان بخلاف جحدها، وإليه رجع أبو الحسن الأشعري، وعليه استقر قوله؛ لأنه لم يعتقد بذلك اعتقاداً يقطع بصوابه، ويراه ديناً وشرعاً، وإنما يكفر من يعتقد أن مقالته حق. قال هؤلاء: ولو سئل الناس عن الصفات، لوجد العالم بها قليلاً) (¬2). وقال ابن قتيبة – رحمه الله -: (قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين، فلا يكفرون بذلك) (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (وقول طائفة من أهل الكلام: إن الصفات الثابتة بالعقل هي التي يجب الإقرار بها ويكفر تاركها، بخلاف ما ثبت بالسمع، فإنهم تارة ينفونه، وتارة يتأولونه أو يفوضون معناه وتارة يثبتونه، لكن يجعلون الإيمان والكفر متعلقا بالصفات العقلية. فهذا لا أصل له عن سلف الأمة وأئمتها؛ إذ الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الدلالة العقلية) (¬4). وقال الشيخ عبد الله البابطين: (من شك في صفة من صفات الرب ومثله لا يجهلها، كفر، وإن كان يجهلها، لم يكفر) (¬5). والقياس هنا يكون بالنظر إلى بيئة كل واحد منهما من حيث مظنة العلم أو عدمها، وبالنظر إلى قدرات كل واحد منهما الإدراكية والعلمية. قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: (ولهذا كان الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته، لا يكون صاحبه كافراً إذا كان مقرا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يتقضي كفره إذا لم يعلمه) (¬6). والأدلة على عذر الجاهل ببعض الأسماء والصفات الإلهية، فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة الشرعية ثم يعاند. الأدلة على هذا كثيرة، نذكر منها ما يلي: - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان رجل يُسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً. فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت، قال: يا رب خشيتك فغفر له)) (¬7). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (13/ 407). (¬2) ((شرح مسلم)) للنووي (5/ 598 - 599). (¬3) ((فتح الباري)) (6/ 523). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 328). (¬5) ((عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين)) (ص: 18). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 538). (¬7) رواه البخاري (3481).

- قال الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله -: (اختلف العلماء في معناه، فقال منهم قائلون: هذا رجل جهل بعض صفات الله عز وجل وهي القدرة، فلم يعلم أن الله على ما يشاء قدير. قالوا: ومن جهل صفة من صفات الله عز وجل وآمن بسائر صفاته وعرفها، لم يكن بجهل بعض صفات الله كافراً، قالوا: وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله. وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين) (¬1). ثم قال: (وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان) (¬2)؛ ثم استدل على ما ذهب إليه بحال الصحابة – رضي الله عنهم -، حيث كانوا يسألون عن القدر، كقولهم: يا رسول الله، أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ (¬3)، ثم قال: (ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، أو يكونوا في حين سؤالهم عنه غير مؤمنين ... ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه. ولو كان لا يسعهم جهله وقتا من الأوقات، لعلمهم ذلك مع الشهادتين بالإيمان، وأخذ ذلك عليهم في حين إسلامهم) (¬4). - وقال الإمام الخطابي – رحمه الله -: (وقد يستشكل هذا، فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟، والجواب أنه لم ينكر البعث، وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب ... ) (¬5). - وقال الإمام ابن حزم – رحمه الله -: (فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله) (¬6). - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: (فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت، كفر، لكن كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاً في هذا الظن مخطئا. فغفر الله له ذلك ... فغاية ما في الأمر أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر. وكثير من المؤمنين قد يجهل ذلك، فلا يكون كافراً) (¬7). - واستشهد الحافظ ابن القيم – رحمه الله بهذا الحديث عند حديثه عن كفر الجحود، فاستثنى منه من جحد صفة وصف الله بها نفسه جهلا، فقال: (كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح. ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله؛ إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً) (¬8). - وقال الإمام ابن الوزير: (وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالاً، فلا يكون كفرا، إلا لو علم أن الأنبياء جاؤوا بذلك، وأنه ممكن مقدور ثم كذبهم أو أحداً منهم) (¬9). - وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل بعد ذلك، لا يقدر الله على بعثه – جهلاً منه لا كفراً ولا عناداً -، فشك في قدرة الله على بعثه. ومع هذا غفر له ورحمه) (¬10). ¬

(¬1) ((التمهيد)) (18/ 42). (¬2) ((التمهيد)) (18/ 46). (¬3) أخرجه الإمام ابن عبد البر في ((التمهيد)) (18/ 47). (¬4) ((التمهيد)) (18/ 46 - 47). (¬5) ((فتح الباري)) (6/ 522). (¬6) ((الفصل)) (3/ 296). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 409 - 411). وانظر: (3/ 231 و 12/ 491)، و ((الاستقامة)) (1/ 164 - 165). (¬8) ((مدارج السالكين)) (1/ 338 - 339). (¬9) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 394). (¬10) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (1/ 248).

ومن الأدلة على عذر من جهل بعض أسماء الله وصفاته كذلك ما روته أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: ((ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي النبي فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً وانتعل رويداً، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويداً. فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: ما لك يا عائش حشياء رائبة؟ قالت: قلت: لا شيء يا رسول الله، قال: لتخبرنني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته، قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم. فلهزني في ظهري لهزة فأوجعتني، وقال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله، قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟، قال: نعم ... )) (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان. وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، ولهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟)). وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع. فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها) (¬2). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 399 ¬

(¬1) رواه مسلم (974). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 412 - 413).

الفصل الثاني: المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى

المبحث الأول: مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء الحسنى مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء الحسنى هو مذهبهم في الصفات عموماً. وذلك أن أسماء الله سبحانه وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات. فهي أسماء وهي أوصاف، وبذلك كانت حسنى. والذي درج عليه سلف الأمة ومن تابعهم بإحسان واتفقوا عليه هو: الإقرار والتصديق لآيات الأسماء الصفات وأحاديثها، وإمرارها كما جاءت وإثباتها، دون تشبيه, أو تعطيل, أو تحريف, أو تأويل. وإليك بعض النقول عنهم التي تثبت ذلك: 1 - قال أحمد الدروقي: سمعت وكيعاً يقول: نسلم هذه الأحاديث كما جاءت ولا نقول كيف كذا، ولا لم كذا، يعني مثل حديث: (يحمل السماوات على إصبع) (وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن) (¬1). 2 - عن يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به فقال: (لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه, وأخبر بها نبيه أمته لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها, وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول. فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها. وتثبت هذه الصفات وينفى عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]) (¬2). 3 - وقال في الرسالة: ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته الذي هو كما وصف نفسه, وفوق ما يصفه به خلقه (¬3). 4 - وعن محمد بن إسماعيل الترمذي: سمعت نعيم بن حماد يقول: (من شبه الله بخلقه فقد كفر. ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهاً) اهـ (¬4). وقال الترمذي بعد روايته لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه, فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهرة .. )) (¬5) الحديث. (وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا, ويؤمن بها, ولا يتوهم ولا يقال كيف. هكذا روي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، أنهم قالوا في هذا الحديث: أمروها بلا (كيف)، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة) (¬6). وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا هذا تشبيه. وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه اليد, والسمع, والبصر, فتأولت الجهمية هذه الآيات, وفسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده. وقالوا: إنما معنى اليد القوة. وقال إسحاق بن إبراهيم (هو ابن راهويه): إنما يكون التشبيه إذا قال: ¬

(¬1) رواه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 267). (¬2) رواه ابن قدامة في ((إثبات صفة العلو)) (ص: 124). (¬3) ((الرسالة)) (ص: 6). (¬4) رواه الذهبي في ((العلو)) (ص: 75)، وصححه الألباني في ((مختصر العلو)). (¬5) رواه الترمذي (662)، وأحمد (2/ 471) (10090)، والبخاري في ((العلل الكبير)) (107). وقال: [روي] عن عائشة وعن أبي هريرة أصح، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/ 119). والحديث أصله في البخاري ومسلم. (¬6) ((سنن الترمذي)) (3/ 50).

يد كيد, أو مثل يد، أو سمع كسمع, أو مثل سمع. فإذا قال: سمع كسمع, أو مثل سمع فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله يد, وسمع, وبصر, ولا يقول: (كيف) ولا يقول: مثل سمع ولا كسمع, فهذا لا يكون تشبيهاً وهو كما قال الله تبارك في كتابه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] (¬1). وهذا ما ذهب إليه أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري الذي رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة, وترك ما كان عليه من علم الكلام المبتدع المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (¬2). قال رحمه الله في كتابه (اختلاف المصلين ومقالات المسلمين) بعد أن ذكر فرق الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم: (ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث). جملة قولهم: الإقرار بالله, وملائكته, وكتبه. ورسله, وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئاً. وأن الله على عرشه كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى , وأن له يدين بلا (كيف) كما قال: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ. وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علماً كما قال: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ. وأثبتوا السمع, والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة. إلى آخر كلامه في إثبات الصفات (¬3). وهذه العقيدة هي التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين، وهي التي تلقاها التابعون منهم، وتواصوا بها جيلاً بعد جيل، محذرين بعضهم البعض من مخالفتها والشطط عنها. ودان بهذه العقيدة أئمة السلف الماضين من المحدثين, والفقهاء, والمفسرين, واللغويين, والمصنفين. كيف لا، والله قد زكى اعتقاد نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين بقوله جل ثناؤه: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [البقرة: 137 - 138]. فمذهب أهل الحق ... إثبات الأسماء الحسنى والواردة بالكتاب العزيز, وبالسنة المطهرة, والإيمان بها، وبما دلت عليه من المعاني, والإيمان بما تعلقت بها من الآثار. فمثلا نؤمن بأن الله سبحانه (رحيم) ومعناه: أنه ذو رحمة، ومن أثار هذا الاسم: أنه يرحم من يشاء. مثال ثان: نؤمن بأن الله (قدير) ومعناه: أنه ذو قدرة, ومن آثار هذا الاسم: أنه على كل شيء قدير، وهذا القول في جميع الأسماء. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود - ص 19 ¬

(¬1) ((سنن الترمذي)) (3/ 50). (¬2) انظر: ((تبيين كذب المفتري)) لابن عساكر (ص: 38)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 285)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (11/ 212)، ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي (ص: 221)، (¬3) ((انظر مقالات الإسلاميين)) من ص (290).

المبحث الثاني: مسألة الاسم عين المسمى أو غيره

المبحث الثاني: مسألة الاسم عين المسمى أو غيره هذه المسألة من المسائل الحادثة التي لم يعرفها السلف الأوائل من الصحابة والتابعين، ولم ينقل عنهم أنهم خاضوا فيها، كما قال ابن جرير رحمه الله تعالى: ثم حدث في دهرنا هذا حماقات خاض فيها أهل الجهل والغباء, ونوكي الأمة, والرعاع, يتعب إحصاؤها ويمل تعدادها، فيها القول في اسم الشيء، أهو هو أم هو غيره. وقال: وأما القول في الاسم أهو المسمى أم غير المسمى, فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيستمع، فالخوض فيه شين والصمت عنه زين. اهـ (¬1). ولكن لما كان الكلام في هذا الأمر مستمراً من أهل البدع والضلالات، اضطر أهل السنة للرد على هؤلاء، وتفنيد أقوالهم الباطلة المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه, وبيان الحق في هذه المسألة. وقبل أن ندخل في بيان هذه المسألة لنتعرف على المعنى اللغوي للفظة (اسم). قال الزجاج: معنى قولنا اسم هو مشتق من السمو وهو الرفعة، والأصل فيه: سمو مثل قنو وأقناء. وقال الجوهري مثله. قال ابن سيده: والاسم اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه من بعض كقولك مبتدئا: اِسم هذا كذا، وإن شئت قلت: اُسم هذا كذا. وقال أبو العباس: الاسم رسم وسمة توضع على الشيء تعرف به. قال الأزهري: ومن قال إن اسماً مأخوذ من وسمت فهو غلط. لأنه لو كان اسم من سمته لكان تصغيره وسيماً مثل تصغير عدةٍ وصلة وما أشبهها. قال ابن تيمية: وهو مشتق من (السمو) وهو العلو كما قال النحاة البصريون، وقال النحاة الكوفيون هو مشتق من (السمة) وهي العلامة، وهذا صحيح في (الاشتقاق الأوسط) وهو ما يتفق فيه حروف اللفظين دون ترتيبهما، فإنه في كليهما (السين والميم والواو) والمعنى صحيح، فإن السمة والسيما: العلامة، ومنه يقال: وسمته اسمه كقوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 16]. ومنه التوسم كقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر: 75]. لكن اشتقاقه من (السمو) هو الاشتقاق الخاص الذي يتفق فيه اللفظان في الحروف, وترتيبها, ومعناه أخص وأتم، فإنهم يقولون في تصريفه: سميت, ولا يقولون وسمت، وفي جمعه أسماء لا أوسام، وفي تصغيره سمي لا وسيم. ويقال لصاحبه مسمى لا يقال موسوم، وهذا المعنى أخص. فإن (العلو) مقارن (للظهور)، كلما كان الشيء أعلى كان أظهر. فالاسم يظهر به المسمى ويعلو، فيقال للمسمى: سمه أي أظهره، وأعله أي أعل ذكره بالاسم الذي يذكر به، لكن تارة بما يحمد به ويذكر تارة بما يذم به، كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50]. وقال وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4] وقال وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات78:- 79]. وقال في النوع المذموم: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص: 42]. وقال تعالى: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص: 3]، فكلاهما ظهر ذكره، لكن هذا إمام في الخير, وهذا إمام في الشر. وما ليس له اسم، فإنه لا يذكر, ولا يظهر, ولا يعلو ذكره، بل هو كالشيء الخفي الذي لا يعرف, ولهذا يقال: الاسم دليل على المسمى، وعلم على المسمى ونحو ذلك. ولهذا كان (أهل الإسلام والسنة) الذين يذكرون أسماء الله يعرفونه, ويعبدونه, ويحبونه, ويذكرونه, ويظهرون ذكره. ¬

(¬1) ((صريح السنة)) (17، 21).

والملاحدة: الذين ينكرون أسماءه, وتعرض قلوبهم عن معرفته وعبادته، ومحبته وذكره، حتى ينسوا ذكره نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67]، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19]. وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205]. والاسم يتناول اللفظ والمعنى المتصور في القلب، قد يراد به مجرد اللفظ، وقد يراد به مجرد المعنى فإنه من الكلام، والكلام اسم للفظ والمعنى، وقد يراد به أحدهما، ولهذا كان من ذكر الله بقلبه أو لسانه فقد ذكره، لكن ذكره بهما أتم. والله تعالى قد أمر بتسبيح اسمه, وأمر بالتسبيح باسمه, كما أمر بدعائه بأسمائه الحسنى، فيدعى بأسمائه الحسنى، ويسبح اسمه، وتسبيح اسمه هو تسبيح له، إذ المقصود بالاسم المسمى، كما أن دعاء الاسم هو دعاء المسمى. قال تعالى: قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء: 110] (¬1). بيان المسألة: قال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فصل في الاسم والمسمى، هل هو هو أو غيره؟ أولا يقال هو هو، ولا يقال هو غيره؟ أو هو له؟ أو يفصل في ذلك؟ فإن الناس قد تنازعوا في ذلك، والنزاع اشتهر بعد الأئمة، بعد أحمد وغيره، والذي كان معروفاً عند (أئمة السنة) أحمد وغيره: الإنكار على الجهمية الذين يقولون أسماء الله مخلوقة، ويقولون: الاسم غير المسمى، وأسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق. وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول، لأن أسماء الله من كلامه، وكلام الله غير مخلوق، بل هو المتكلم به، وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء. والجهمية يقولون: كلامه مخلوق، وأسماؤه مخلوقة، وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته, ولا سمى نفسه باسم هو المتكلم به، بل قد يقولون: إنه تكلم به وسمى نفسه بهذه الأسماء، بمعنى أنه خلقها في غيره، لا بمعنى أنه نفسه تكلم بها الكلام القائم به، فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه). اهـ (¬2). ويقول شارح العقيدة الطحاوية: (طالما غلط كثير من الناس في ذلك وجهلوا الصواب فيه. فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى. فإذا قلت: قال الله كذا، أو سمع الله لمن حمده, ونحو ذلك فهذا المراد به المسمى نفسه. وإذا قلت: الله اسم عربي, والرحمن اسم عربي, والرحيم من أسماء الله تعالى ونحو ذلك، فالاسم ها هنا هو المراد لا المسمَّى، ولا يقال غيره، لما في لفظ الغير من الإجمال. فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق. وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له، حتى خلق لنفسه أسماء أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى) اهـ (¬3). وزيادة في الإيضاح نقول إن الاسم يأتي في مواضع من الكلام ويراد به التسمية: ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 207) باختصار. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 185). (¬3) ((العقيدة الطحاوية)) (131).

بوب لذلك البخاري في كتاب التوحيد: باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، وخرج بعدة أحاديث منها: الذكر الذي يقال عند النوم ((باسمك ربي وضعت جنبي .. )) (¬1) , وحديث أنس في التسمية عند الذبح (¬2)، وحديث ابن عمر في النهي عن الحلف إلا بالله (¬3). قال ابن بطال: (مقصوده بهذه الترجمة تصحيح القول بأن الاسم هو المسمى, فلذلك صحت الاستعاذة بالاسم كما صحت بالذات) اهـ (¬4). وجاء في القرآن الكريم الأمر بتنزيه الاسم في قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى , وقوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ , وقوله: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ فدل هذا على أنه أمر بتسبيح الله تعالى, ودل العقل على أن المسبح هو الله تعالى لا غيره. لأن تسبيح الاسم وذكره هو تسبيح المسمَّى وذكره. فإن المسبح والذاكر إنما يسبح اسمه ويذكر اسمه، فيقول: (سبحان ربي الأعلى) فهو نطق بلفظ ربي الأعلى، والمراد هو المسمى بهذا اللفظ، فتسبيح الاسم هو تسبيح المسمَّى. ويأتي في موضع آخر ويراد به الاسم نفسه: كحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه: محمد رسول الله)) (¬5)، فالمراد هنا نقش الاسم والتسمية. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)) (¬6) , فمعلوم أن المراد تحرك شفتاه بذكر اسم الله وهو القول ليس المراد أن الشفتين تتحرك بنفسه تعالى (¬7). وكذا حديث ((إن لله تسعة وتسعين اسما)) (¬8) المراد به التسمية. وأهل السنة والجماعة الذين قالوا بأن الاسم هو المسمى، لا ينازعون في أن الاسم غير المسمى من جهة أن الأسماء أقوال, وأنها ليست هي المسميات فهذا لا ينازع فيه أحد من العقلاء. لكنهم قالوا ذلك (أي أن الاسم هو المسمى) رداً على الجهمية والمعتزلة الذين قالوا: إن الاسم غير المسمى، ويقصدون أن أسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق، وأن الله كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء, وهذا كله من الباطل المعلوم شرعاً وعقلاً. ¬

(¬1) رواه البخاري (6320)، ومسلم (2714). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) الحديث رواه البخاري (5565)، ومسلم (1966). (¬3) الحديث رواه أبو داود (3251) والترمذي (1535) وأحمد (2/ 125) (6073) وابن حبان (10/ 199) والحاكم (4/ 330) من حديث عبد الله بن عمر, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن, وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي, وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 459) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (¬4) ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 423). (¬5) رواه البخاري (5877)، ومسلم (2092). (¬6) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7524)، ورواه موصولاً ابن ماجه (3792)، وأحمد (2/ 540) (10989)، وابن حبان (3/ 97) (815)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 391) (509)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (52/ 70). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن عساكر: [له متابعة]، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 241): هذا إسناد حسن، وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (452): ذكره البخاري تعليقاً وصححه ابن حبان، وانظر: ((تغليق التعليق)) لابن حجر (5/ 362). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 198). (¬8) رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وهناك قول آخر في هذه المسألة ينقل عن أهل السنة وهو أن (الاسم للمسمى) ذكره ابن جرير حيث قال: (وحسب امرئ من العلم به، والقول فيه، أن ينتهي إلى قول الله عز وجل ثناؤه الصادق وهو قوله: قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء: 110] (¬1). وقوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]) اهـ (¬2). شناعة قول الجهمية في هذه المسألة: قال ابن أبي حاتم في كتاب (الرد على الجهمية): ذكر نعيم بن حماد أن الجهمية قالوا: إن أسماء الله مخلوقة, لأن الاسم غير المسمى, وادعوا أن الله كان ولا وجود لهذه الأسماء ثم خلقها ثم تسمى بها. قال: قلنا لهم إن الله قال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى , وقال: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فأخبر أنه المعبود, ودل كلامه على اسمه بما دل به على نفسه, فمن زعم أن اسم الله مخلوق فقد زعم أن الله أمر نبيه أن يسبح مخلوقاً. ونقل عن إسحاق بن راهويه عن الجهمية أن جهماً قال: لو قلت إن لله تسعاً وتسعين اسماً لعبدت تسعة وتسعين إلهاً. قال: فقلنا لهم عن الله أمر عباده أن يدعوه بأسمائه فقال وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا والأسماء جمع أقله ثلاثة، ولا فرق في الزيادة على الواحد بين الثلاثة وبين التسعة والتسعين (¬3). وقالت الجهمية لمن قال: إن الله لم يزل بأسمائه وصفاته: قلتم بقول النصارى حيث جعلوا معه غيره. فأجابوا (أي أهل السنة): بأنا نقول إنه واحد بأسمائه وصفاته فلا نصف إلا واحداً بصفاته كما قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وصفه بالوحدة مع أنه كان له لسان, وعينان, وأذنان, وسمع, وبصر, ولم يخرج بهذه الصفات عن كونه واحد, ولله المثل الأعلى (¬4). وقال الشافعي: (من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة، لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة، لأنه مخلوق، وذاك غير مخلوق) (¬5). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود -23 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 207) باختصار. (¬2) ((صريح السنة)) (27). (¬3) ((الفتح)) (13/ 378). (¬4) ((الفتح)) (13/ 381). (¬5) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 211)، والذهبي في ((العلو)) (ص: 166).

المبحث الثالث: قواعد في أسماء الله تعالى

القاعدة الأولى: أسماء الله تعالى كلها حسنى أي بالغة في الحسن غايته، قال الله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الأعراف:180] وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالاً ولا تقديراً مثال ذلك: "الحي" اسم من أسماء الله تعالى، متضمن للحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم، والقدرة، والسمع، والبصر وغيرها ومثال آخر: "العليم" اسم من أسماء الله متضمن للعلم الكامل، الذي لم يسبق بجهل، ولا يلحقه نسيان، قال الله تعالى عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً، سواء ما يتعلق بأفعاله، أو أفعال خلقه، قال الله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59] وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6] يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [التغابن:4] ومثال ثالث: "الرحمن" اسم من أسماء الله تعالى متضمن للرحمة الكاملة، التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) (¬1) يعني أم صبي وجدته في السبي فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته، ومتضمن أيضاً للرحمة الواسعة التي قال الله عنها: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7] والحسن في أسماء الله تعالى يكون باعتبار كل اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره، فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال مثال ذلك: "العزيز الحكيم" فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيراً فيكون كل منهما دالاً على الكمال الخاص الذي يقتضيه، وهو العزة في العزيز، والحكم والحكمة في الحكيم، والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلماً وجوراً وسوء فعل، كما قد يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم، فيظلم ويجور ويسيء التصرف وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص9 ¬

(¬1) رواه البخاري (5999) ومسلم (2754). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

القاعدة الثانية:

القاعدة الثانية: أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني، وهي بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد، وهو الله – عز وجل – وبالاعتبار الثاني متباينة لدلالة كل واحد منهما على معناه الخاص فـ "الحي، العليم، القدير، السميع، البصير، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم" كلها أسماء لمسمى واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، لكن معنى الحي غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير، وهكذا. وإنما قلنا بأنها أعلام وأوصاف، لدلالة القرآن عليه كما في قوله تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107] وقوله: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف:58] فإن الآية الثانية دلت على أن الرحيم هو المتصف بالرحمة ولإجماع أهل اللغة والعرف أنه لا يقال: عليم إلا لمن له علم، ولا سميع إلا لمن له سمع، ولا بصير إلا لمن له بصر، وهذا أمر أبين من أن يحتاج إلى دليل وبهذا علم ضلال من سلبوا أسماء الله تعالى معانيها من أهل التعطيل وقالوا: إن الله تعالى سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعزيز بلا عزة وهكذا وعللوا ذلك بأن ثبوت الصفات يستلزم تعدد القدماء وهذه العلة عليلة بل ميتة لدلالة السمع (¬1) والعقل على بطلانها أما السمع: فلأن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف كثيرة، مع أنه الواحد الأحد فقال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج:12 - 16] وقال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى [الأعلى:1 - 5] ففي هذه الآيات الكريمة أوصاف كثيرة لموصوف واحد، ولم يلزم من ثبوتها تعدد القدماء وأما العقل: فلأن الصفات ليست ذوات بائنة من الموصوف، حتى يلزم من ثبوتها التعدد، وإنما هي من صفات من اتصف بها، فهي قائمة به، وكل موجود فلابد له من تعدد صفاته، ففيه صفة الوجود، وكونه واجب الوجود، أو ممكن الوجود، وكونه عيناً قائماً بنفسه أو وصفاً في غيره وبهذا أيضاً علم أن: "الدهر" ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه اسم جامد لا يتضمن معنى يلحقه بالأسماء الحسنى، ولأنه اسم للوقت والزمن، قال الله تعالى عن منكري البعث: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] يريدون مرور الليالي والأيام فأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله – عز وجل -: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)) (¬2) فلا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى؛ وذلك أن الذين يسبون الدهر إنما يريدون الزمان الذي هو محل الحوادث، لا يريدون الله تعالى، فيكون معنى قوله: "وأنا الدهر" ما فسره بقوله: "بيدي الأمر أقلب الليل والنهار"، فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه، وقد بين أنه يقلب الليل والنهار، وهما الدهر، ولا يمكن أن يكون المقلب (بكسر اللام) هو المقلب (بفتحها) وبهذا تبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مراداً به الله تعالى القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص11 ¬

(¬1) السمع هو القرآن والسنة، وسيمر بك هذا التعبير كثيراً فانتبه له. (¬2) رواه البخاري (4826) ومسلم (2246). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

القاعدة الثالثة:

القاعدة الثالثة: أسماء الله تعالى إن دلت على وصف متعد، تضمنت ثلاثة أمور أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها ولهذا استدل أهل العلم على سقوط الحد عن قطاع الطريق بالتوبة، استدلوا على ذلك بقوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:34] لأن مقتضى هذين الاسمين أن يكون الله تعالى قد غفر لهم ذنوبهم، ورحمهم بإسقاط الحد عنهم مثال ذلك: "السميع" يتضمن إثبات السميع اسماً لله تعالى، وإثبات السمع صفة له وإثبات حكم ذلك ومقتضاه وهو أنه يسمع السر والنجوى كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1] دلت على وصف غير متعد تضمنت أمرين: أحدهما: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل مثال ذلك:"الحي" يتضمن إثبات الحي اسماً لله – عز وجل – وإثبات الحياة صفة له القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص13

القاعدة الرابعة:

القاعدة الرابعة: دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة وبالتضمن وبالالتزام مثال ذلك: (الخالق) يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام ولهذا لما ذكر الله خلق السموات والأرض قال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12] ودلالة الالتزام مفيدة جداً لطالب العلم إذا تدبر المعنى ووفقه الله تعالى فهماً للتلازم، فإنه بذلك يحصل من الدليل الواحد على مسائل كثيرة واعلم أن اللازم من قول الله تعالى، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا صح أن يكون لازماً فهو حق؛ وذلك لأن كلام الله ورسوله حق، ولازم الحق حق، ولأن الله تعالى عالم بما يكون لازماً من كلامه وكلام رسوله فيكون مراداً وأما اللازم من قول أحدٍ سوى قول الله ورسوله، فله ثلاث حالات: الأولى: أن يذكر للقائل ويلتزم به، مثل أن يقول من ينفي الصفات الفعلية لمن يثبتها: يلزم من إثباتك الصفات الفعلية لله – عز وجل – أن يكون من أفعاله ما هو حادث فيقول المثبت: نعم، وأنا ألتزم بذلك فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعالاً لما يريد ولا نفاد لأقواله وأفعاله كما قال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف:109] وقال: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] وحدوث آحاد فعله تعالى لا يستلزم نقصاً في حقه الحال الثانية: أن يذكر له ويمنع اللازم بينه وبين قوله، مثل أن يقول النافي للصفات لمن يثبتها: يلزم من إثباتك أن يكون الله تعالى مشابهاً للخلق في صفاته فيقول المثبت: لا يلزم ذلك، لأن صفات الخالق مضافة إليه لم تذكر مطلقة حتى يمكن ما ألزمت به، وعلى هذا فتكون مختصة به لائقة به، كما أنك أيها النافي للصفات تثبت لله تعالى ذاتاً وتمنع أن يكون مشابهاً للخلق في ذاته، فأي فرق بين الذات والصفات؟! وحكم اللازم في هاتين الحالتين ظاهر الحال الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتاً عنه، فلا يذكر بالتزام ولا منع، فحكمه في هذه الحال ألا ينسب إلى القائل، لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر له فتبين له لزومه وبطلانه أن يرجع عن قوله؛ لأن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم ولورود هذين الاحتمالين لا يمكن الحكم بأن لازم القول قول فإن قيل: إذا كان هذا اللازم لازماً من قوله، لزم أن يكون قولاً له، لأن ذلك هو الأصل، لاسيما مع قرب التلازم قلنا: هذا مدفوع بأن الإنسان بشر، وله حالات نفسية وخارجية توجب الذهول عن اللازم، فقد يغفل، أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تفكير في لوازمه، ونحو ذلك القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص14

القاعدة الخامسة:

القاعدة الخامسة: أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النص لقوله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه، جناية في حقه تعالى، فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص16

القاعدة السادسة:

القاعدة السادسة: أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: ((أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) (¬1) وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحدٍ حصره، ولا الإحاطة به فأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)) (¬2) فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: "إن أسماء الله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة" أو نحو ذلك إذن فمعنى الحديث: أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة، وعلى هذا فيكون قوله: (من أحصاها دخل الجنة) جملة مكملة لما قبلها، وليست مستقلة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف قال شيخ الإسلام ابن تيميه في (الفتاوى) (ص 383 جـ6) من (مجموع ابن قاسم): تعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه، وقال قبل ذلك ص 379: إن الوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين كما جاء مفسراً في بعض طرق حديثه اهـ وقال ابن حجر في (فتح الباري) (ص215 جـ11) ط السلفية: ليست العلة عند الشيخين (البخاري ومسلم)، تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب، وتدليسه واحتمال الإدراج أهـ ولما لم يصح تعيينها عن النبي صلى الله عليه وسلم اختلف السلف فيه، وروي عنهم في ذلك أنواع وقد جمعت تسعة وتسعين اسماً مما ظهر لي من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص17 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 391) (3712)، وأبو يعلى في ((المسند)) (9/ 198)، وابن حبان (3/ 253)، والطبراني (10/ 169) والحاكم (1/ 690). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 136): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار إلا أنه قال: ((وذهاب غمي)) مكان ((همي)) والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. وقال ابن القيم في ((شفاء العليل)) (2/ 749): صحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 267): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (199): صحيح. (¬2) رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

القاعدة السابعة:

القاعدة السابعة: الإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها، وهو أنواع: الأول: أن ينكر شيئاً منها أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام، كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم وإنما كان ذلك إلحاداً لوجوب الإيمان بها وبما دلت عليه من الأحكام والصفات اللائقة بالله، فإنكار شيء من ذلك ميل بها عما يجب فيها الثاني: أن يجعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين كما فعل أهل التشبيه، وذلك لأن التشبيه معنى باطل لا يمكن أن تدل عليه النصوص، بل هي دالة على بطلانه، فجعلها دالة عليه ميل بها عما يجب فيها الثالث: أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه، كتسمية النصارى له: (الأب)، وتسمية الفلاسفة إياه (العلة الفاعلة)، وذلك لأن أسماء الله تعالى توقيفية، فتسمية الله تعالى بما لم يسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها، كما أن هذه الأسماء التي سموه بها نفسها باطلة ينزه الله تعالى عنها الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام، كما فعل المشركون في اشتقاق العزى من العزيز، واشتقاق اللات من الإله، على أحد القولين، فسموا بها أصنامهم؛ وذلك لأن أسماء الله تعالى مختصة به، لقوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] وقوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8] وقوله: لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الحشر:24] فكما اختص بالعبادة وبالألوهية الحق، وبأنه يسبح له ما في السماوات والأرض فهو مختص بالأسماء الحسنى، فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله – عز وجل – ميل بها عما يجب فيها والإلحاد بجميع أنواعه محرم؛ لأن الله تعالى هدد الملحدين بقوله: وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] ومنه ما يكون شركاً أو كفراً حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص26

المبحث الرابع: شرح أسماء الله الحسنى

- الله هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص162 وهو علم على ذاته تبارك وتعالى وكل الأسماء الحسنى تضاف إليه كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180] وقال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8] ألا ترى أنك تقول الرحمن من أسماء الله تعالى والرحيم من أسماء الله ونحو ذلك, ولا تقول الله من أسماء الرحمن, وقال النبي: ((إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة)) (¬1) واختلفوا في كونه مشتقا أو لا, ذهب الخليل وسيبويه وجماعة من أئمة اللغة والشافعي والخطابي وإمام الحرمين ومن وافقهم إلى عدم اشتقاقه لأن الألف واللام فيه لازمة فتقول يا الله ولا تقول يا الرحمن, فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام وقال آخرون إنه مشتق, واختلفوا في اشتقاقه إلى أقوال أقواها أنه مشتق من أله يأله إلهة, فأصل الاسم الإله فحذفت الهمزة وأدغمت اللام الأولى في الثانية وجوبا فقيل الله, ومن أقوى الأدلة عليه قوله تعالى: وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3] مع قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84] ومعناه ذو الألوهية التي لا تنبغي إلا له, ومعنى إله يأله إلهة عبد يعبد عبادة فالله المألوه أي المعبود ولهذا الاسم خصائص لا يحصيها إلا الله عز وجل, وقيل إنه هو الاسم الأعظم معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص77 ¬

(¬1) رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

- الإله

- الإله هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فقد دخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح أن (الله) أصله (الإله) وأن اسم (الله) هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى والله أعلم قال الله تعالى: إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً [النساء:171] شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص188

- الأكبر

- الأكبر (الأكبر) الذي السموات والأرض وما فيهن وما بينهما في كفه كخردلة في كف آحاد عباده له العظمة والكبرياء وهو أكبر كل شيء شهادة لا منازع له في عظمته وكبريائه ولا ينبغي العظمة والكبرياء إلا له ومن نازعه في صفة منهما أذاقه عذابه وأحل عليه غضبه ومن يحلل عليه غضبه فقد هوى معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- ص163

- الأول، والآخر، والظاهر، والباطن

- الأول، والآخر، والظاهر، والباطن قال الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] هذه الأسماء الأربعة المباركة قد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً جامعاً واضحاً فقال يخاطب ربه: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (¬1) إلى آخر الحديث، ففسر كل اسم بمعناه العظيم، ونفى عنه ما يضاده وينافيه فتدبَّر هذه المعاني الجليلة الدالّة على تفرد الرب العظيم بالكمال المطلق والإحاطة المطلقة الزمانية في قوله (الأول والآخر) والمكانية في (الظاهر والباطن) فالأول يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية، إذ السبب والمسبب منه تعالى والآخر يدل على أنه هو الغاية، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألهها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها، (والظاهر) يدل على عظمة صفاته واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات على علوه، (والباطن) يدل على إطلاعه على السرائر، والضمائر، والخبايا، والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدل على كمال قربه ودنوه ولا يتنافى الظاهر والباطن لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص77 ¬

(¬1) رواه مسلم (2713). من حديث سهيل بن سعد رضي الله عنه.

- البر، الوهاب

- البر، الوهاب قال الله تعالى: إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28] وقال سبحانه: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] من أسمائه تعالى (البر الوهاب) الذي شمل الكائنات بأسرها ببره وهباته وكرمه، فهو مولى الجميل ودائم الإحسان وواسع المواهب شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص146

- البصير

- البصير الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات، حتى أخفى ما يكون فيها فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك فسبحان من تحيرت العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبرته بالغيب، والشهادة، والحاضر والغائب، ويرى خيانات الأعين وتقلبات الأجفان وحركات الجنان، قال تعالى: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218 - 220]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج:9]، أي مطلع ومحيط علمه وبصره وسمعه بجميع الكائنات (¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص86 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص 34 - 36) و ((شرح النونية)) للهراس (2/ 72).

- التواب

- التواب قال الله تعالى: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم [التوبة:104] (التواب) الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين فكل من تاب إلى الله توبة نصوحاً، تاب الله عليه فهو التائب على التائبين: أولا بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه وهو التائب عليهم بعد توبتهم، قبولاً لها، وعفواً عن خطاياهم (¬1) وعلى هذا تكون توبته على عبده نوعان: أحدهما: يوقع في قلب عبده التوبة إليه والإنابة إليه، فيقوم بالتوبة وشروطها من الإقلاع عن المعاصي، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها واستبدالها بعمل صالح والثاني: توبته على عبده بقبولها وإجابتها ومحو الذنوب بها، فإن التوبة النصوح تجبُّ ما قبلها (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص109 ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (5/ 623). (¬2) ((الحق الواضح المبين)) (ص74).

- الحسيب

- الحسيب قال الله تعالى: وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا [النساء:4] وقال سبحانه: أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62] والحسيب: هو الكافي للعباد جميع ما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم من حصول المنافع ودفع المضار والحسيب بالمعنى الأخص هو الكافي لعبده المتقي المتوكل عليه كفاية خاصة يصلح بها دينه ودنياه والحسيب أيضاً هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أي كافيك وكافي أتباعك فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً وقيامه بعبودية الله تعالى (¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص131 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص78) و ((شرح النونية)) للهراس (2/ 103).

- الحفيظ

- الحفيظ قال الله تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [هود:57] (للحفيظ) معنيان: أحدهما: أنه قد حفظ على عباده ما عملوه من خير وشر وطاعة ومعصية، فإن علمه محيط بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها، وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ووكل بالعباد ملائكة كراماً كاتبين يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:12] فهذا المعنى من حفظه يقتضي إحاطة علم الله بأحوال العباد كلها ظاهرها وباطنها وكتابتها في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي في أيدي الملائكة، وعلمه بمقاديرها، وكمالها ونقصها، ومقادير جزائها في الثواب والعقاب ثم مجازاته عليها بفضله وعدله والمعنى الثاني: من معنيي (الحفيظ) أنه تعالى الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون، وحفظه لخلقه نوعان عام وخاص فالعام: حفظه لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها ويحفظ بنيتها وتمشي إلى هدايته وإلى مصالحها بإرشاده وهدايته العامة التي قال عنها: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] أي هدى كل مخلوق إلى ما قدر له وقضى له من ضروراته وحاجاته، كالهداية للمأكل والمشرب والمنكح، والسعي في أسباب ذلك، وكدفعه عنهم أصناف المكاره والمضار، وهذا يشترك فيه البر والفاجر بل الحيوانات وغيرها، فهو الذي يحفظ السماوات والأرض أن تزولا، ويحفظ الخلائق بنعمه، وقد وكَّل بالآدمي حفظةً من الملائكة الكرام يحفظونه من أمر الله، أي يدفعون عنه كل ما يضره مما هو بصدد أن يضره لولا حفظ الله والنوع الثاني: حفظه الخاص لأوليائه سوى ما تقدم، يحفظهم عما يضر إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الشبه والفتن والشهوات، فيعافيهم منها ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس، فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38] وهذا عام في دفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم، فعلى حسب ما عند العبد من الإيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه، وفي الحديث: ((احفظ الله يحفظك)) (¬1) أي احفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم تعدِّيها، يحفظك في نفسك، ودينك، ومالك، وولدك، وفي جميع ما آتاك الله من فضله (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص112 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669)، والحاكم (3/ 623). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا. وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 495): حسن جيد. وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 327): حسن. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (188): حسن وله شاهد. وقال الصنعاني في ((سبل السلام)) (4/ 267): إسناده حسن. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 233): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) ((الحق الواضح المبين)) (ص60 - 61).

- الحق

- الحق الله عز وجل هو الحق في ذاته وصفاته ... كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به فهو الذي لم يزل، ولا يزال، بالجلال، والجمال، والكمال موصوفاً ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له، هي الحق، وكل شيء ينسب إليه، فهو حق (¬1) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62] وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ [يونس:32] وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81] وقال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:25] فأوصافه العظيمة حق، وأفعاله هي الحق، وعبادته هي الحق، ووعده حق، ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص176 ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (5/ 631 - 632) بتصرف يسير. (¬2) ((تفسير السعدي)) (5/ 405) و ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 277).

- الحكم

- الحكم قال الله تعالى: فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [الأعراف:87] وقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115] وقال تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90] وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو الحكم وإليه الحكم)) (¬1) وقال تعالى: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً الآية [الأنعام:114] والله سبحانه هو الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة بعدله وقسطه فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يحمل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه ويؤدي الحقوق إلى أهلها فلا يدع صاحب حق إلا وصل إليه حقه وهو العدل في تدبيره وتقديره (¬2) وهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله، وأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة ليس فيها شائبة جور أصلاً، فهي كلها بين الفضل والرحمة، وبين العدل والحكمة ... وما ينزله سبحانه بالعصاة والمكذبين من أنواع الهلاك والخزي في الدنيا، وما أعده لهم من العذاب المهين في الآخرة فإنما فعل بهم ما يستحقونه فإنه لا يأخذ إلا بذنب، ولا يعذب إلا بعد إقامة الحجة، وأقواله كلها عدل، فهو لا يأمرهم إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة ولا ينهاهم إلا عما مضرته خالصة أو راجحة وكذلك حكمه بين عباده يوم فصل القضاء، ووزنه لأعمالهم عدل لا جور فيه كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] وهو سبحانه (الحكم) بالعدل في وصفه وفي فعله وفي قوله وفي حكمه بالقسط وهذا معنى قوله: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:56] فإن أقواله صدق، وأفعاله دائرة بين العدل والفضل، فهي كلها أفعال رشيدة وحكمه بين عباده فيما اختلفوا فيه أحكام عادلة لا ظلم فيها بوجه من الوجوه، وكذلك أحكام الجزاء والثواب والعقاب شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص137 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4955)، والنسائي (8/ 226). من حديث هانئ بن يزيد رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) ((تفسير السعدي)) (5/ 627).

- الحليم

- الحليم قال الله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235] الذي يَدِرُّ على خلقه النعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا (¬1) وهو الذي له الحلم الكامل الذي وسع أهل الكفر والفسوق والعصيان، حيث أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا ولو شاء لأخذهم بذنوبهم فور صدورها منهم، فإنَّ الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليها من العقوبات العاجلة المتنوعة ولكن حلمه سبحانه هو الذي اقتضى إمهالهم (¬2) كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45] وقال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61] شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص105 ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (5/ 630). (¬2) ((شرح النونية)) للهراس (2/ 86).

- الحميد

- الحميد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الله حميد من وجهين: أحدهما: أن جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض الأولين منهم والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة، وكل حمد لم يقع منهم بل كان مفروضاً ومقدراً حيثما تسلسلت الأزمان واتصلت الأوقات، حمداً يملأ الوجود كله العالم العلوي والسفلي، ويملأ نظير الوجود من غير عدٍّ ولا إحصاء، فإن الله تعالى مستحقه من وجوه كثيرة: منها أن الله هو الذي خلقهم، ورزقهم، وأسدى عليهم النعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، وصرف عنهم النقم والمكاره، فما بالعباد من نعمة فمن الله، ولا يدفع الشرور إلا هو، فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات، وأن يثنوا عليه ويشكروه بعدد اللحظات الوجه الثاني: أنه يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة، فله كل صفة كمال وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها، فكل صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله، لأنها دائرة بين أفعال الفضل والإحسان، وبين أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدريَّة، وأحكامه الشرعيَّة، وأحكام الجزاء في الأولى والآخرة، وتفاصيل حمده وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار، ولا تحصيها الأقلام (¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص91 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص 39 - 40) و ((شرح القصيدة النونية)) للهراس (2/ 75) و ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد)) (2/ 215).

- الحي، القيوم

- الحي، القيوم قال الله تعالى: اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] وقال سبحانه: آلم اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] وقال عز وجل: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:111] وهما من أسماء الله الحسنى و (الحي القيوم) جمعها في غاية المناسبة كما جمعها الله في عدة مواضع في كتابه، وذلك أنهما محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن جميع الصفات الذاتية لله كالعلم، والعزة، والقدرة والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من صفات الذات المقدسة، والقيوم هو كامل القيومية وله معنيان: هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته. وقامت به الأرض والسماوات وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي أوجدها وأمدها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغني عنها من كل وجه وهي التي افتقرت إليه من كل وجه، فالحي والقيوم من له صفة كل كمال وهو الفعال لما يريد (¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص156 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (87 - 88) وانظر: ((شرح النونية)) للهراس (2/ 109) و ((توضيح المقاصد)) (2/ 236).

- الجبار

- الجبار قال الله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الحشر:23] للجبار ثلاثة معان كلها داخلة باسمه (الجبار): فهو الذي يجبر الضعيف وكل قلب منكسر لأجله، فيجبر الكسير، ويغني الفقير، وييسر على المعسر كل عسير، ويجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر ويعوضه على مصابه أعظم الأجر إذا قام بواجبها، ويجبر جبراً خاصاً قلوب الخاضعين لعظمته وجلاله، وقلوب المحبين بما يفيض عليها من أنواع كراماته وأصناف المعارف والأحوال الإيمانية، فقلوب المنكسرين لأجله جبرها دان قريب وإذا دعا الداعي، فقال: اللهم اجبرني، فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته إصلاح العبد ودفع المكاره عنه. والمعنى الثاني: أنه القهار لكل شيء، الذي دان له كل شيء، وخضع له كل شيء والمعنى الثالث: أنه العلي على كل شيء فصار الجبار متضمناً لمعنى الرءوف القهار العلي. وقد يراد به معنى رابع وهو المتكبر عن كل سوء ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له كفؤ أو ضد أو سمي أو شريك في خصائصه وحقوقه (¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص130 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص77). وانظر: ((شرح النونية)) للهراس (2/ 102) وانظر: ((توضيح المقاصد)) (2/ 233).

- الجميل

- الجميل قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال)) (¬1) فهو سبحانه جميل بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فلا يمكن مخلوقاً أن يعبر عن بعض جمال ذاته، حتى إن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم واللذات والسرور والأفراح التي لا يقدر قدرها إذا رأوا ربهم وتمتعوا بجماله نسوا ما هم فيه من النعيم وتلاشى ما فيه من الأفراح، وودّوا أن لو تدوم هذه الحال، واكتسبوا من جماله ونوره جمالاً إلى جمالهم، وكانت قلوبهم في شوق دائم ونزوع إلى رؤية ربهم، ويفرحون بيوم المزيد فرحاً تكاد تطير له القلوب وكذلك هو الجميل في أسمائه، فإنها كلها حسنى بل أحسن الأسماء على الإطلاق وأجملها، قال تعالى: وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ [الأعراف:180] وقال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] فكلها دالة على غاية الحمد والمجد والكمال، لا يسمى باسم منقسم إلى كمال وغيره وكذلك هو الجميل في أوصافه، فإن أوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت ثناء وحمد، فهي أوسع الصفات وأعمها وأكثرها تعلقاً، خصوصاً أوصاف الرحمة، والبر، والكرم، والجود، وكذلك أفعاله كلها جميلة، فإنها دائرة بين أفعال البر والإحسان التي يحمد عليها ويثنى عليه ويشكر، وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد، فليس في أفعاله عبث، ولا سفه، ولا سدى، ولا ظلم، كلها خير، وهدى، ورحمة، ورشد، وعدل: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:56] فلكماله الذي لا يحصي أحد عليه به ثناء كملت أفعاله كلها فصارت أحكامه من أحسن الأحكام، وصنعه وخلقه أحسن خلق وصنع: أتقن ما صنعه: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] وأحسن خلقه الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة:7] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] والأكوان محتوية على أصناف الجمال، وجمالها من الله تعالى فهو الذي كساها الجمال وأعطاها الحسن، فهو أولى منها لأن معطي الجمال أحق بالجمال، فكل جمال في الدنيا والآخرة باطني وظاهري، خصوصاً ما يعطيه المولى لأهل الجنة من الجمال المفرط في رجالهم ونسائهم، فلو بدا كفُّ واحدة من الحور العين إلى الدنيا، لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، أليس الذي كساهم ذلك الجمال ومنَّ عليهم بذلك الحسن والكمال أحق منهم بالجمال الذي ليس كمثله شيء فهذا دليل عقلي واضح مسلَّم المقدمات على هذه المسألة العظيمة وعلى غيرها من صفاته، قال تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل:60] فكل ما وجد في المخلوقات من كمال لا يستلزم نقصاً، فإن معطيه وهو الله أحق به من المعطى بما لا نسبة بينهم، كما لا نسبة لذواتهم إلى ذاته وصفاتهم إلى صفاته، فالذي أعطاهم السمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والجمال، أحق منهم بذلك، وكيف يعبِّر أحد عن جماله وقد قال أعلم الخلق به: ((لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: ((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) (¬3) فسبحان الله وتقدس عما يقوله الظالمون النافون لكماله علواً كبيراً، وحسبهم مقتاً وخساراً أنهم حرموا من الوصول إلى معرفته والابتهاج بمحبته (¬4) قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم)) (¬5) وقال أيضاً في الصحيح: قال الله تعالى: ((كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)) (¬6) فالله تعالى يدر على عباده الأرزاق المطيع منهم والعاصي، والعصاة لا يزالون في محاربته وتكذيبه وتكذيب رسله والسعي في إطفاء دينه، والله تعالى حليم على ما يقولون وما يفعلون، يتتابعون في الشرور وهو يتابع عليهم النعم، وصبره أكمل صبر لأنه عن كمال قدرة وكمال غنى عن الخلق وكمال رحمة وإحسان، فتبارك الرب الرحيم الذي ليس كمثله شيء الذي يحب الصابرين ويعينهم في كل أمرهم شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص178 ¬

(¬1) رواه مسلم (91). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (486). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه مسلم (179). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬4) توضيح الحق المبين (ص29 - 32) بتصرف يسير. (¬5) رواه البخاري (7378) ومسلم (2804). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (4974). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

- الحيي، الستير

- الحيي، الستير هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حيي يستحي من عبده إذا مدَّ يديه إليه أن يردهما صفراً)) (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل حليم، حيي ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)) (¬2) وهذا من رحمته، وكرمه، وكماله، وحلمه أن العبد يجاهره بالمعاصي مع فقره الشديد إليه، حتى أنه لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى عليها بنعم ربه، والرب مع كمال غناه عن الخلق كلهم من كرمه يستحيي من هتكه وفضيحته وإحلال العقوبة به، فيستره بما يقيِّض له من أسباب الستر، ويعفو عنه ويغفر له، فهو يتحبب إلى عباده بالنعم وهم يتبغّضون إليه بالمعاصي، خيره إليهم بعدد اللحظات وشرهم إليه صاعد، ولا يزال الملك الكريم يصعد إليه منهم بالمعاصي وكل قبيح ويستحي تعالى ممن شاب في الإسلام أن يعذبه وممن يمد يديه إليه أن يردهما صفراً، ويدعو عباده إلى دعائه ويعدهم بالإجابة وهو الحيي الستِّير يحب أهل الحياء والستر، ومن ستر مسلماً ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، ولهذا يكره من عبده إذا فعل معصية أن يذيعها، بل يتوب إليه فيما بينه وبينه ولا يظهرها للناس، وإن من أمقت الناس إليه من بات عاصياً والله يستره، فيصبح يكشف ستر الله عليه، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19] وهذا كله من معنى اسمه (الحليم) الذي وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، ومنع عقوبته أن تحل بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصروا واستمروا في طغيانهم ولم ينيبوا شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص186 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865) بلفظ ((ربكم حيي كريم))، والحاكم (1/ 718). من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ورواه بعضهم ولم يرفعه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (4012) من غير لفظة ((حليم))، والنسائي (1/ 200)، وأحمد (4/ 224). من حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 204)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

- الخالق، الخلاق، البارئ، المصور

- الخالق، الخلاق، البارئ، المصوِّر قال الخطابي: (-الخالق- هو المبدع للخلق المخترع له على غير مثال سابق، قال سبحانه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3]. فأما في نعوت الآدميين فمعنى الخلق: التقدير كقوله عز وجل: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [آل عمران: 49] (¬1) اهـ. والخلاق: من أفعال المبالغة من الخالق تدل على كثرة خلق الله تعالى وإيجاده، فكم يحصل في اللحظة الواحدة من بلايين المخلوقات التي هي أثر من آثار اسمه سبحانه الخلاق: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [الحجر: 86]. واسمه سبحانه (الخالق والخلاق) مما أقرت به جميع الأمم مؤمنهم وكافرهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض رده على من قال: أن اسم (الخالق) يثبت له سبحانه مجازاً. (إنه ليس في المعلومات أظهر من كون الله: (خالقاً)، ولهذا أقرت به جميع الأمم – مؤمنهم وكافرهم – ولظهور ذلك؛ وكون العلم به بديهياً فطرياً؛ احتج الله به على من أشرك به في عبادته فقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38]، في غير موضع من كتابه. فعلم أن كونه سبحانه (خالقاً): من أظهر شيء عند العقول، فكيف يكون الخبر عنه بذلك مجازاً؛ وهو أصل كل حقيقة، فجميع الحقائق تنتهي إلى خلقه وإيجاده، فهو الذي خلق وهو الذي علم، كما قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5]. فجميع الموجودات انتهت إلى خلقه وتعليمه، فكيف يكون كونه خالقاً عالماً مجازاً؟ وإذا كان كونه خالقاً عالماً مجازاً: لم يبق له فعل حقيقة ولا اسم حقيقة، فصارت أفعاله كلها مجازات، وأسماؤه الحسنى كلها مجازات ... إلى قوله: فإن جميع أهل الإسلام متفقون على أن الله خالق حقيقة لا مجازاً، بل وعباد الأصنام وجميع الملل) (¬2). وقد ذكر رحمه الله تعالى اسمه سبحانه (الخلاق) في نونيته حيث قال: (وكذاك يشهد أنه سبحانه ... الخلاق باعث هذه الأبدان) (¬3) @ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 433 (الباري) أي المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود والبرء هو الفري وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود, وليس كل من قدر شيئا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل كما قيل: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري أي أنت تنفذ ما خلقت أي قدرت بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع كل ما يريد فالخلق التقدير, والفري التنفيذ. (المصور) الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض, أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها, يقال هذه صورة الأمر أو مثاله فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا, وهذه الثلاثة الأسماء التي في سورة الحشر في خاتمتها هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الحشر:24] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون على الصفة التي يريد والصورة التي يختار كقوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:8] معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- ص164 ¬

(¬1) ((شأن الدعاء)) (ص: 49). (¬2) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 328). (¬3) ((النونية)) البيت رقم (3085).

- الرب

- الرب قال الله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:164] هو: المربي جميع عباده، بالتدبير، وأصناف النعم وأخص من هذا، تربيته لأصفيائه، بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم وأخلاقهم ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل، لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص161

- الرحمن، الرحيم، الكريم، الأكرم

- الرحمن، الرحيم، الكريم، الأكرم قال الله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2 - 3] الآيات، وقال تعالى: وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]، وقال سبحانه: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30] قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: الرحمن، الرحيم، والبر، الكريم، الجواد، الروءف، الوهاب – هذه الأسماء تتقارب معانيها، وتدل كلها على اتصاف الرب، بالرحمة، والبر، والجود، والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه التي عمَّ بها جميع الوجود بحسب ما تقتضيه حكمته وخص المؤمنين منها، بالنصيب الأوفر، والحظ الأكمل، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156] الآية والنعم والإحسان، كله من آثار رحمته، وجوده، وكرمه وخيرات الدنيا والآخرة، كلها من آثار رحمته (¬1) وقال ابن تيمية رحمه الله في تفسير قوله تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1 - 3] سمَّى ووصف نفسه بالكرم، وبأنه الأكرم بعد إخباره أنه خلق ليتبين أنه ينعم على المخلوقين ويوصلهم إلى الغايات المحمودة كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:2 - 3]، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78] فالخلق يتضمن الابتداء والكرم تضمن الانتهاء كما قال في سورة الفاتحة رَبِّ الْعَالَمِينَ ثم قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ولفظ الكرم جامع للمحاسن والمحامد لا يراد به مجرد الإعطاء بل الإعطاء من تمام معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام والمحاسن والكرم كثرة الخير ويُسْرَتِه والله سبحانه أخبر أنه الأكرم بصيغة التفضيل والتعريف لها فدل على أنه الأكرم وحده بخلاف لو قال (وربك أكرم) فإنه لا يدل على الحصر وقوله الأَكْرَمُ يدل على الحصر ولم يقل ((الأكرم من كذا)) بل أطلق الاسم، ليبين أنه الأكرم مطلقاً غير مقيد فدل على أنه متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص110 (الرحمن الرحيم) اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة, ورحمن أشد مبالغة من رحيم فالرحمن يدل على الرحمة العامة كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] والرحيم يدل على الرحمة الخاصة بالمؤمنين كما قال تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:47] ذكره ابن جرير بسنده عن العزرمي بمعناه وفي الدعاء المأثور ((رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)) (¬3) , والظاهر المفهوم من نصوص الكتاب والسنة أن اسمه الرحمن يدل على الصفة الذاتية من حيث اتصافه تعالى بالرحمة, واسمه الرحيم يدل على الصفة الفعلية من حيث إيصاله الرحمة إلى المرحوم, فلهذا قال تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43] إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:117] ولم يأت قط إنه بهم رحمن, ووصف نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه رؤوف رحيم فقال تعالى: حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128] ولم يصف أحدا من خلقه أنه رحمن فتأمل ذلك, والله أعلم معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص78 ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (5/ 621). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (16/ 293 - 296) بتصرف يسير. (¬3) رواه الطبراني في ((المعجم الصغير)) بدون لفظة ((ورحيمهما)) (1/ 336). وذكره المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 55) بلفظة ((ورحيمهما)). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 186): رواه الطبراني في ((الصغير)) ورجاله ثقات وقال المنذري: رواه الطبراني في ((الصغير)) بإسنادٍ جيد، وحسنه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (1821). والحديث بلفظه قد رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (20/ 154). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. بسند فيه ضعف.

- الرؤوف

- الرؤوف قال ابن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ: (إن الله: بجميع عباده ذو رأفه، والرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الآخرة) (¬1). وقال الخطابي: (-الرؤوف- هو الرحيم العاطف برأفته على عباده، وقال بعضهم: الرأفة أبلغ الرحمة وأرقها، ويقال: إن الرأفة أخص والرحمة أعم، وقد تكون الرحمة في الكراهة للمصلحة، ولا تكاد الرأفة تكون في الكراهة فهذا موضع الفرق بينهما) (¬2). ويؤكد هذا الفرق القرطبي بقوله: (إن الرأفة نعمة ملذة من جميع الوجوه، والرحمة قد تكون مؤلمة في الحال ويكون عقباها لذة، ولذا قال سبحانه: وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2]، ولم يقل: رحمة، فإن ضرب العصاة على عصيانهم رحمة لهم لا رأفة؛ فإن صفة الرأفة إذا انسدلت على مخلوق لم يلحقه مكروه. فلذلك تقول لمن أصابه بلاء في الدنيا، وفي ضمنه خير في الأخرى: إن الله قد رحمه بهذا البلاء، وتقول لمن أصابه عافية في الدنيا، في ضمنها خير في الأخرى واتصلت له العافية أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً: إن الله قد رأف به) (¬3). قال الأقليشي: (فتأمل هذه التفرقة بين الرأفة والرحمة، ولذلك جاءا معا، فقال: إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وعلى هذا الرأفة أعم من الرحمة، فمتى أراد الله بعبد رحمة أنعم عليه بها، إلا أنها قد تكون عقيب بلاء، وقد لا تكون، والرأفة بخلاف ذلك) (¬4). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 534 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (2/ 12). (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص: 91). (¬3) نقلاً عن كتاب ((النهج الأسمى في شرح أسمائه الحسنى)) محمد حمود النجدي (2/ 216). (¬4) نقلاً عن كتاب ((النهج الأسمى في شرح أسمائه الحسنى)) محمد حمود النجدي (2/ 216).

- الرزاق، الرازق

- الرزاق، الرازق وهو مبالغة من: رازق للدلالة على الكثرة والرازق من أسمائه سبحانه قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ [الذارايات:58] وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا [هود:6] وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعِّر القابض الباسط الرازق)) (¬1) ورزقه لعباده نوعان: عام وخاص فالعام إيصاله لجميع الخليقة جميع ما تحتاجه في معاشها وقيامها، فسهل لها الأرزاق، ودبرها في أجسامها، وساق إلى كل عضو صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبر والفاجر والمسلم والكافر، بل للآدميين والجن والملائكة والحيوانات كلها وعام أيضاً من وجه آخر في حق المكلفين، فإنه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من الحرام ويسمى رزقاً ونعمة بهذا الاعتبار، ويقال (رزقه الله) سواء ارتزق من حلال أو حرام وهو مطلق الرزق. وأما الرزق المطلق فهو النوع الثاني، وهو الرزق الخاص، وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على يد رسول الله وهو نوعان: أ - رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألهة لله متعبدة، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها. ب - ورزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه، فإن الرزق الذي خص به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين، فينبغي للعبد إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى (اللهم ارزقني) أي ما يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة ومن الإيمان الشامل لكل عمل صالح وخلق حسن، وما به يصلح بدني من الرزق الحلال الهني الذي لا صعوبة فيه ولا تبعة تعتريه (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص154 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2200)، وأحمد (3/ 156) (12613). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (5/ 423): روي من وجوه صحيحة لا بأس بها. وقال ابن حجر في ((تسديد القوس)) (1/ 93): أصله في مسلم. وقال ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (ص113)، صحيح. (¬2) ((الحق الواضح المبين)) (ص85 - 86) وانظر: ((شرح النونية)) للهراس (2/ 108) و ((توضيح المقاصد)) (2/ 234).

- الرفيق

- الرفيق مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطى على ما سواه)) (¬1) فالله تعالى رفيق في أفعاله، خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئاً فشيئاً بحسب حكمته ورفقه، مع أنه قادر على خلقها دفعة واحدة وفي لحظة واحدة ومن تدبر المخلوقات وتدبر الشرائع كيف يأتي بها شيئاً بعد شيء شاهد من ذلك العجب العجيب، فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة ووقار، اتباعاً لسنن الله في الكون واتباعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم فإن من هذا هديه وطريقه تتيسر له الأمور، وبالأخص الذي يحتاج إلى أمر الناس ونهيهم وإرشادهم، فإنه مضطر إلى الرفق واللين، وكذلك من آذاه الخلق بالأقوال البشعة وصان لسانه عن مشاتمتهم، ودافع عن نفسه برفق ولين، اندفع عنه من أذاهم ما لا يندفع بمقابلتهم بمثل مقالهم وفعالهم، ومع ذلك فقد كسب الراحة والطمأنينة والرزانة والحلم. والله عز وجل يغيث عباده إذا استغاثوا به سبحانه فعن أنس بن مالك أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ثم قال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) (¬2) فالله عز وجل يغيث عباده في الشدائد والمشقات، فهو يغيث جميع المخلوقات عندما تتعسر أمورها وتقع في الشدائد والكربات: يطعم جائعهم ويكسو عاريهم، ويخلص مكروبهم، وينزل الغيث عليهم في وقت الضرورة والحاجة، وكذلك يجيب إغاثة اللهفان أي دعاء من دعاه في حالة اللهف والشدة والاضطرار، فمن استغاثه أغاثه وفي الكتاب والسنة من ذكر تفريجه للكربات، وإزالته الشدائد، وتيسيره للعسير شيء كثير جداً معروف شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص183 ¬

(¬1) رواه مسلم (2593). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري (1014)، ومسلم (897).

- الرقيب

- الرقيب المطلع على ما أكنته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] والرقيب هو سبحانه الذي حفظ المخلوقات وأجراها، على أحسن نظام وأكمل تدبير (¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص110 ¬

(¬1) رواه مسلم (487).

- السبوح

- السبوح قال في اللسان: (قال أبو إسحاق الزجاج: (السبوح): الذي ينزه عن كل سوء) (¬1) (وقال ابن فارس والزبيدي وغيرهما: (سبوح) هو الله - عز وجل – فالمراد بالسبوح القدوس: المسبح المقدس، فكأنه قال: مسبح مقدس رب الملائكة والروح، ومعنى سبوح: المبرأ من النقائص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية) (¬2). والسبوح: هو الذي يسبحه، ويقدسه، وينزهه كل من في السماوات والأرض، كما قال تبارك وتعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الجمعة: 1]، ويقول سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44] (¬3). قال في تهذيب اللغة: (-سبحان- في اللغة تنزيه الله عز وجل عن السوء. قلت: وهذا قول سيبويه فقال: سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً بمعنى واحد فالمصدر تسبيح، والاسم سبحانه يقوم مقام المصدر. قال سيبويه: وقال أبو الخطاب الكبير: سبحان الله كقولك: براءة الله من السوء، كأنه قال: أبرئ الله من السوء، قلت: ومعنى تنزيه الله من السوء: تبعيده منه وكذلك تسبيحه: تبعيده من قولك: سبحت في الأرض. إذا أبعدت فيها ... وجماع معناه بعده – تبارك وتعالى – عن أن يكون له مثل أو شريك أو ضد أو ند) (¬4). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها – عبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 199 ¬

(¬1) ((لسان العرب)) (3/ 1915). (¬2) ((مسلم شرح النووي)) (4/ 204). (¬3) ((بدائع الفوائد)) (2/ 366). (¬4) ((تهذيب اللغة)) (4/ 338، 339).

- السميع

- السميع قال الله تعالى: وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134] وكثيراً ما يقرن الله بين صفة السمع والبصر فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة، والباطنة فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرَّها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللغات، والقريب منها والبعيد والسر والعلانية عنده سواء: سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:10] قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1] قالت عائشة رضي الله عنها: (تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب الحجرة، وإنه ليخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا الآية) (¬1)، وسمعه تعالى نوعان: أحدهما: سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية والجلية، وإحاطته التامة بها الثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم، ومنه قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء [إبراهيم:39] وقول المصلي (سمع الله لمن حمده) أي استجاب شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص84 ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم مختصرا (7385)، والنسائي (6/ 168)، وابن ماجه (188)، وأحمد (6/ 46) (24241) كلهم بلفظ ((الحمد لله)) بدلاً من ((تبارك الله)). وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163) والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجة)): صحيح. وقال ابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (1/ 280): إسناده ثابت.

- السيد، الصمد

- السيد، الصمد قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2] وقال النبي صلى الله عليه سلم: ((السيد الله تبارك وتعالى)) (¬1) و (السيد) يطلق على الرب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، والرئيس، والزوج ومتحمل أذى قومه والله عز وجل هو السيد الذي يملك نواصي الخلق ويتولاهم فالسؤدد كله حقيقة لله والخلق كلهم عبيده وهذا لا ينافي السيادة الإضافية المخصوصة بالأفراد الإنسانية فسيادة الخالق تبارك وتعالى ليست كسيادة المخلوق الضعيف (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص126 (الصمد) قال عكرمة عن ابن عباس: (يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم) (¬3) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (هو السيد الذي قد كمل في سؤدده والشريف الذي قد كمل في شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته والحليم الذي قد كمل في حلمه والعليم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله سبحانه, هذه صفته لا تنبغي إلا له, ليس له كفؤ وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار) (¬4) وعن أبي وائل: (الصمد) الذي قد انتهى سؤدده ورواه عن ابن مسعود رضي الله عنه (¬5) وعن زيد بن أسلم الصمد السيد وقال الحسن وقتادة: هو الباقي بعد خلقه وقال الحسن أيضا: الصمد الحي القيوم الذي لا زوال له, وقال عكرمة: الصمد الذي لم يخرج منه شيء ولم يطعم وقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الله بن بريدة وعكرمة أيضا وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعطية العوفي والضحاك: الصمد الذي لا جوف له (¬6) وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب وقال عبد الله بن بريدة أيضا: الصمد نور يتلألأ قال ابن كثير رحمه الله تعالى: روى ذلك كله وحكاه ابن أبي حاتم والبيهقي والطبراني, وكذا أبو جعفر بن جرير ساق أكثر ذلك بأسانيده قال الطبراني في كتاب السنة له بعد إيراده كثيرا من هذه الأقوال في تفسير الصمد: وكل هذه صحيحة, وهي صفات ربنا عز وجل, وهو الذي يصمد إليه في الحوائج, وهو الذي انتهى سؤدده, وهو الصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب وهو الباقي بعد خلقه وقال البيهقي نحو ذلك. وروى الترمذي رحمه الله تعالى عن أبي بن كعب ((أن المشركين قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك, فأنزل الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ)) (¬7) والصمد الذي لم يلد ولم يولد, لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث وإن الله تعالى لا يموت ولا يورث وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ قال: لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء, قلت: وهذه السورة العظيمة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها تعدل ثلث القرآن)) (¬8) مشتملة على توحيد الإلهية والربوبية والأسماء والصفات, جامعة بين الإثبات لصفات الكمال وبين التنزيه له تعالى عن الأشباه والأمثال, متضمنة الرد على جميع طوائف الكفر والاتحاد ومن نسب له الصاحبة والولد وغيرهم, تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا والله أعلم معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص174 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4806)، وأحمد (4/ 24) (16350). من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الشوكاني في ((إخلاص كلمة التوحيد)) (ص64): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (2/ 418). وانظر: ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) (13/ 161). (¬3) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 528). (¬4) رواه الطبري (24/ 692) وابن أبي حاتم في تفسير سورة الإخلاص (10/ 3474)، وأبو الشيخ في ((العظمة)) (1/ 383). قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (8/ 150): ثابت عن عبد الله بن أبي صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي، لكن يقال: إنه لم يسمع التفسير من ابن عباس، ولكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف. وقال الألباني في ((تصحيح العقائد)) (119) فيه ضعف وانقطاع. (¬5) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (666). قال ابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (1/ 280): إسناده ثابت. وقال الألباني في ((ظلال الجنة)) (666): إسناده حسن. (¬6) رواه الطبري في تفسيره (24/ 690)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (665، 673، 674، 685، 686، 689)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 157).وقال الألباني في ((ظلال الجنة)) (674) من طريق مجاهد: صحيح مقطوع. (¬7) رواه الترمذي (3364)، والحاكم (2/ 589). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. قال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن دون قوله: ((والصمد الذي. .. (( (¬8) رواه البخاري (5013). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ومسلم (812). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

- الشافي

- الشافي الشفاء في اللغة هو البرء من المرض يقال: شفاه الله يشفيه، واشتفى افتعل منه، فنقله من شفاء الأجسام إلى شفاء القلوب والنفوس (¬1) والله سبحانه وتعالى هو الشافي فعن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس أذهب الباس اشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً)) (¬2) ((وقال أنس رضي الله عنه لثابت البناني حينما اشتكى إليه: ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله علية وسلم؟ قال: بلى قال: اللهم رب الناس مذهب الباس اشفي أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقماً)) (¬3) فالله عز وجل هو الشافي من الأمراض والعلل والشكوك وشفاؤه شفاءان أو نوعان: النوع الأول: الشفاء المعنوي الروحي وهو الشفاء من علل القلوب النوع الثاني: الشفاء المادي وهو الشفاء من علل الأبدان وقد ذكر عز وجل هذين النوعين في كتابه وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص224 ¬

(¬1) ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (2/ 488) وانظر: ((مختار الصحاح)) (ص144). (¬2) البخاري (5743)، ومسلم (2191). (¬3) رواه البخاري (5742).

- الشاكر، الشكور

- الشاكر، الشكور قال الله تعالى: وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] وقال تعالى: إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن:17] وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147] من أسمائه تعالى (الشاكر، الشكور) الذي لا يضيع سعي العاملين لوجهه بل يضاعفه أضعافاً مضاعفة، فإنَّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وقد أخبر في كتابه وسنة نبيه بمضاعفة الحسنات الواحدة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وذلك من شكره لعباده، فبعينه ما يتحمل المتحملون لأجله ومن فعل لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن ترك شيئاً لأجله عوضه خيراً منه، وهو الذي وفق المؤمنين لمرضاته ثم شكرهم على ذلك وأعطاهم من كراماته، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكل هذا ليس حقاً واجباً عليه، وإنما هو الذي أوجبه على نفسه جوداً منه وكرماً وليس فوقه سبحانه من يوجب عليه شيئاً قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فلا يجب عليه سبحانه إثابة المطيع، ولا عقاب العاصي بل الثواب محض فضله وإحسانه، والعقاب محض عدله وحكمته؛ ولكنه سبحانه الذي أوجب على نفسه ما يشاء فيصير واجباً عليه بمقتضى وعده الذي لا يخلف كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام:54] وكما قال سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] ومذهب أهل السنة أنه ليس للعباد حق واجب على الله وأنه مهما يكن من حق فهو الذي أحقه وأوجبه ولذلك لا يضيع عنده عمل قام على الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فإنهما الشرطان الأساسيان لقبول الأعمال (¬1) فما أصاب العباد من النعم ودفع النقم، فإنه من الله تعالى فضلاً منه وكرماً، وإن نعَّمهم فبفضله وإحسانه، وإن عذبهم فبعدله وحكمته، وهو المحمود على جميع ذلك شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص124 ¬

(¬1) ((شرح النونية)) للهراس (2/ 98)، وانظر: ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد)) (2/ 231).

- الشهيد

- الشهيد أي المطلع على جميع الأشياء سمع جميع الأصوات، خفيها وجليَّها وأبصر جميع الموجودات، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده، وعلى عباده، بما علموه، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (الرقيب) و (الشهيد) مترادفان، وكلامها يدلُّ على إحاطة سمع الله بالمسموعات، وبصره بالمبصرات، وعلمه بجميع المعلومات الجلية والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان، قال تعالى: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6] ولهذا كانت المراقبة التي هي من أعلى أعمال القلوب هي التعبد لله باسمه الرقيب الشهيد، فمتى علم العبد أنَّ حركاته الظاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك حراسة باطنة عن كل فكر وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط الله، وتعبَّد بمقام الإحسان فعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه فإذا الله كان رقيباً على دقائق الخفيات، مطلعاً على السرائر والنيات، كان من باب أولى شهيداً على الظواهر والجليات، وهي الأفعال التي تفعل بالأركان أي الجوارح شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص110

- الطيب

- الطيب قال النووي رحمه الله تعالى في شرح الحديث: (قال القاضي عياض: الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب: الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث) (¬1). وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((والصلوات والطيبات)) وذلك في دعاء التشهد: (وكذلك قوله: (والطيبات) هي صفة الموصوف المحذوف أي: الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله وحده، فهو طيب وأفعاله طيبة، وصفاته أطيب شيء، وأسماؤه أطيب الأسماء، واسمه (الطيب)، ولا يصدر عنه إلا طيب، ولا يصعد إليه إلا طيب، ولا يقرب منه إلا طيب، وإليه يصعد الكلم الطيب وفعله طيب، والعمل الطيب يعرج إليه، فالطيبات كلها له ومضافة إليه وصادرة عنه ومنتهية إليه ... فإذا كان هو سبحانه الطيب على الإطلاق فالكلمات الطيبات، والأفعال الطيبات، والصفات الطيبات، والأسماء الطيبات كلها له سبحانه لا يستحقها أحد سواه، بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه فطيب كل ما سواه من آثار طيبته، ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له) (¬2). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 763 ¬

(¬1) ((شرح مسلم للنووي)) (7/ 100). (¬2) ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص: 214، 215).

- العزيز

- العزيز قال تعالى: فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [يونس:65] وقال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [هود:66] فمعاني العزة الثلاثة كلها كاملة لله العظيم. عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58] وقال: وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:7]، وقال عز وجل: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، وقال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا [الكهف:45]، وقال عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [القمر:55 - 56]. وعزة الامتناع فإنه هو الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد ولا يبلغ العباد ضره فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع. وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات فهي كلها مقهورة لله خاضعة لعظمته منقادة لإرادته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرك ولا يتصرف متصرف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به فمن قوته واقتداره أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأنه خلق الخلق ثم يميتهم ثم يحييهم ثم إليه يرجعون: مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28]، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص93

- القدير، القادر، المقتدر

- القدير، القادر، المقتدر قال الخطابي رحمه الله تعالى: (-القادر-: هو من القدرة على الشيء، يقال: قدر يقدر قدرة فهو قادر وقدير، كقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 27]، ووصف الله سبحانه نفسه بأنه قادر على كل شيء أراده لا يعترضه عجز ولا فتور) (¬1). ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته: (وهو القدير وليس يعجزه إذا ... مارام شيئاً قط ذو سلطان) (¬2) وقال في موطن آخر من النونية: (وهو القدير فكل شيء فهو ... مقدور له طوعاً بلا عصيان) (¬3) ويقول في طريق الهجرتين: (-القدير- الذي لكمال قدرته: يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً؛ والبر براً والفاجر فاجراً، وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره؛ وجعل فرعون وقومه أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص: 41]، ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء أن يعلمه إياه، ولكمال قدرته خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، ولا يعجزه أحد من خلقه ولا يفوته؛ بل هو في قبضته أين كان، فإن فر منه فإنما يطوي المراحل في يديه، كما قيل: وكيف يفر المرء عنك بذنبه ... إذا كان يطوي في يديك المراحلا (¬4) ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (-القدير-: كامل القدرة، بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد) (¬5). ويقول الراغب الأصفهاني: (القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما، وإذا وصف بها الله تعالى فهي نفي العجز عنه، ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة ... بل حقه أن يقال: قادر على كذا ... لأنه لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه، والله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه. والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه، ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (¬6). وآثار قدرة الله عز وجل لا تعد ولا تحصى؛ فأينما وقع النظر على شيء من خلق الله عز وجل في الآفاق، وفي الأنفس وفي الخوارق والمعجزات رأى قدرة الله عز وجل الباهرة أمامه ومن ذا الذي يحصي ما خلقه الله تعالى. ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 420 ¬

(¬1) ((شأن الدعاء)) (ص: 86). (¬2) ((النونية)) (2/ 218). (¬3) ((النونية)): البيت رقم (530). (¬4) ((طريق الهجرتين)) (ص: 235). (¬5) ((تفسير السعدي)) (5/ 624، 625). (¬6) ((المفردات)) للراغب (ص: 394).

- القوي

- القوي قال الطبري رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (القوي: الذي لا يغلبه غالب ولا يرد قضاءه راد ينفذ أمره، ويمضي قضاؤه في خلقه، شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حججه) (¬1)، وقال ابن كثير – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية: (أي: لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب) (¬2). ويقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – في نونيته: وهو القوي له القوى جمعا تعالى ... رب ذي الأكوان والأزمان (¬3) وقال رحمه الله تعالى: (قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]. فعلم أن (القوي) من أسمائه ومعناه: الموصوف بالقوة) (¬4). وقال الخطابي رحمه الله تعالى: (هو الذي لا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال، والمخلوق وإن وصف بالقوة فإن قوته متناهية وعن بعض الأمور قاصرة) (¬5). وذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى الفرق بين القدرة والقوة فقال: (القدرة يقابلها العجز، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يوصف بها ذو الشعور وغيره. ثانياً: أن القوة أخص فكل قوي من ذي الشعور قادر وليس كل قادر قوياً) (¬6). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 398 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (10/ 17 - 18). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 320). (¬3) ((النونية)) (2/ 218). (¬4) ((مدارج السالكين)) (1/ 28). (¬5) ((شأن الدعاء)) (ص: 77). (¬6) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 167).

- المتين

- المتين يفيد اسم (المتين) في حق الله تعالى: (المتناهي في القوة والقدرة) (¬1). وقال الخطابي: (-والمتين- الشديد القوي الذي لا تنقطع قوته ولا تلحقه في أفعاله مشقة، ولا يمسه لغوب) (¬2). (والمتانة تدل على شدة القوة لله تعالى فمن حيث إنه بالغ القدرة: (القوي)، ومن حيث إنه شديد القوة: -متين-) (¬3). وقال الطبري رحمه الله تعالى: (-ذي القوة المتين-: أي ذي القوة الشديد) (¬4). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 402 ¬

(¬1) ((تفسير الأسماء)) (ص: 55). (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص: 77). (¬3) ((المقصد الأسني)) (ص: 81). (¬4) ((تفسير الطبري)) (27/ 12).

- العظيم

- العظيم قال الله تعالى: وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] الله تعالى عظيم له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم، فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له ولا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده واعلم أن معاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان: أحدهما: أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه، وأوسعه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء والعظمة، ومن عظمته أن السماوات والأرض في كفِّ الرحمن أصغر من الخردلة كما قال ذلك ابن عباس وغيره، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ [فاطر:41]، وقال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 225]، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ [الشورى:5] الآية وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذبته)) (¬1) فلله تعالى الكبرياء والعظمة، الوصفان اللذان لا يقدر قدرهما ولا يبلغ كنههما النوع الثاني: من معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظم كما يعظم الله فيستحق جل جلاله من عباده أن يعظموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته والذل له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته ومن تعظيمه أن يُتقى حق تقاته، فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر ومن تعظيمه تعظيم ما حرمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] وقوله تعالى ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ [الحج:30] ومن تعظيمه أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص80 ¬

(¬1) رواه مسلم (2620) بلفظ ((العز إزاره))، ورواه أبو داود (4090)، وأحمد (2/ 414) (9348) كلاهما بلفظ ((قذفته))، وابن ماجه (4175)، وابن حبان (12/ 486) كلاهما بلفظ: ((ألقيته)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((الحق الواضح المبين)) (ص27 - 28) و ((شرح القصيدة النونية)) للهراس (2/ 68) و ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد)) (2/ 214).

- العفو، الغفور، الغفار

- العفو، الغفور، الغفار قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60] الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه وقد وعد بالمغفرة والعفو، لمن أتى بأسبابها، قال تعالى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [طه:82] والعفوُّ هو الذي له العفو الشامل الذي وسع ما يصدر من عباده من الذنوب، ولاسيما إذا أتوا بما يسبب العفو عنهم من الاستغفار، والتوبة، والإيمان، والأعمال الصالحة فهو سبحانه يقبل التوبة، عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو عفو يحب العفو ويحب من عباده أن يسعوا في تحصيل الأسباب التي ينالون بها عفوه: من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه ومن كمال عفوه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثم تاب إليه ورجع غفر له جميع جرمه صغيره وكبيره، وأنه جعل الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها (¬1) قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] وفي الحديث: ((إن الله يقول: يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) (¬2) وقال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] وقد فتح الله عز وجل الأسباب لنيل مغفرته بالتوبة، والاستغفار، والإيمان، والعمل الصالح، والإحسان إلى عباد الله، والعفو عنهم، وقوة الطمع في فضل الله، وحسن الظن بالله وغير ذلك مما جعله الله مقرباً لمغفرته (¬3) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص106 ¬

(¬1) ((شرح القصيدة النونية)) للهراس (2/ 86)، و ((الحق الواضح المبين)) (ص56). (¬2) رواه الترمذي (3540). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 400): إسناده لا بأس به. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (127): الحديث حسن كما قال الترمذي. (¬3) ((الحق الواضح المبين)) (ص 73 - 74).

- العلي، الأعلى، المتعال

- العلي، الأعلى، المتعال يقول ابن جرير رحمه الله تعالى: (وأما تأويل قوله: (وهو العلي) فإنه يعني: والله العلي، والعلي الفعيل من قولك: علا يعلو علواً إذا ارتفع فهو عال وعلي، والعلي: ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته) (¬1). وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (العلي، الأعلى) هو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه: علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر. فهو الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف، وإليه فيها المنتهى) (¬2). والله تبارك وتعالى له جميع أنواع العلو، ومن أنكر شيئاً منها، فقد ضل ضلالاً بعيداً، وقد جاءت النصوص بإثبات أنواع العلو لله، وهي: 1 - علو الذات، فالله تبارك وتعالى مستو على عرشه، وعرشه فوق مخلوقاته، كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس: 3]. وقال: اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه 5]. والله مستو على عرشه فوق عباده، كما قال تبارك وتعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18]. وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50]. وفي إثبات علو الذات الإلهية يقول ابن القيم في نونيته: فهو العلي بذاته سبحانه ... إذ يستحيل خلاف ذا ببيان وهو الذي حقا على العرش استوى ... قد قام بالتدبير للأكوان ... ... 2 - علو القهر والغلب، كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر: 4]. فلا ينازعه منازع، ولا يغلبه غالب، وكل مخلوقاته تحت قهره وسلطانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد وصف الحق – تبارك وتعالى – نفسه بصفات كثيرة تدل على علو القهر والغلب كالعزيز، والقوي، والقدير، والقاهر والغالب ونحو ذلك. قال سبحانه: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18]. 3 - علو المكانة والقدر، وهو الذي أطلق عليه القرآن: (المثل الأعلى) كما في قوله تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60]، وقوله: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27]. فالمثل الأعلى: الصفات العليا التي لا يستحقها غيره، فالله هو الإله الواحد الأحد، وهو متعال عن الشريك والمثيل والند والنظير: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4]. وفي إثبات كل أنواع العلو للعلي العظيم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وهو العلي فكل أنواع العلو ... له فثباته بلا نكران (¬3) ويقول أيضاً: في نونيته مبيناً اسمي الجلالة (الأعلى، والعلي) ودلالتهما على علو الله تعالى على خلقه: هذا وثانيها صريح علوه ... وله بحكم صريحه لفظان لفظ العلي ولفظة الأعلى معرفة ... أتتك هنا لقصد بيان إن العلو له بمطلقه على التعميم ... والإطلاق بالبرهان وله العلو من الوجوه جميعها ... ذاتاً وقهراً من علو الشان (¬4) @ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 256 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (3/ 13). (¬2) ((تفسير السعدي)) (5/ 487)، طبعة دار المدني. (¬3) ((نونية ابن القيم)) (2/ 214). (¬4) ((النونية رقم الأبيات)) (ص: 1123 - 1126).

- العليم

- العليم قال الله تعالى: ... إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75]، فهو العليم المحيط علمه بكل شيء: بالواجبات، والممتنعات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة، ونعوته المقدسة، وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت كما قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] وقال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها وإخباره بما ينشأ عنها لوجدت على وجه الفرض والتقدير ويعلم تعالى الممكنات، وهي التي يجوز وجودها وعدمها ما وجد منها وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده، فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان ويعلم الغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، والجلي والخفي، قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75] والنصوص في ذكر إحاطة علم الله وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جداً لا يمكن حصرها وإحصاؤها وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأن علوم الخلائق على سعتها وتنوعها إذا نسبت إلى علم الله اضمحلت وتلاشت، كما أن قدرتهم إذا نسبت إلى قدرة الله لم يكن لها نسبة إليها بوجه من الوجوه، فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأقدرهم على ما لم يكونوا عليه قادرين وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي، وما فيه من المخلوقات ذواتها، وأوصافها، وأفعالها، وجميع أمورها، فهو يعلم ما كان وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ أنشأهم وبعد ما يميتهم وبعد ما يحييهم، قد أحاط علمه بأعمالهم كلها خيرها وشرها وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار (¬1) والخلاصة: أنَّ الله تعالى هو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات، والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي، والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص88 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص 37 - 38) و ((شرح النونية)) للهراس (2/ 73) و ((تفسير السعدي)) (5/ 621). (¬2) ((تفسير السعدي)) (5/ 621).

- الخبير

- الخبير قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (الخبير): الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها (¬1). وقال الغزالي رحمه الله تعالى: (-الخبير- هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة ولا يجري في الملك والملكوت شيء ولا يتحرك ذرة ولا يسكن ولا يضطرب نفس ولا يطمئن إلا ويكون عنده خبره. وهو بمعنى العليم، لكن العليم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيراً) (¬2). وقال السعدي رحمه الله تعالى: (-العليم الخبير- وهو الذي أحاط علمِه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء) (¬3). ويقول ابن عاشور رحمه الله تعالى: (-والخبير-: العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية) (¬4). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 392 ¬

(¬1) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 492). (¬2) ((المقصد الأسنى)) (ص: 63). (¬3) ((تفسير السعدي)) (5/ 299). (¬4) ((التحرير والتنوير)) (11/ 310).

- الغني

- الغني قال الله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى [النجم:48]، وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] فهو تعالى (الغني) الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنياً فإن غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا محسناً، جواداً، براً، رحيماً كريماً، والمخلوقات بأسرها لا تستغني عنه في حال من أحوالها، فهي مفتقرة إليه في إيجادها، وفي بقائها، وفي كل ما تحتاجه أو تضطر إليه، ومن سعة غناه أن خزائن السماوات والأرض والرحمة بيده، وأن جوده على خلقه متواصل في جميع اللحظات والأوقات، وأنَّ يده سحاء الليل والنهار، وخيره على الخلق مدرار ومن كمال غناه وكرمه أنه يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعواتهم وإسعافهم بجميع مراداتهم، ويؤتيهم من فضله ما سألوه وما لم يسألوه، ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أول الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلاً منهم ما سأله وما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه مثقال ذرة ومن كمال غناه وسعة عطاياه ما يبسطه على أهل دار كرامته من النعيم واللذات المتتابعات، والخيرات المتواصلات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبة، ولا ولداً، ولا شريكا في الملك، ولا ولياً من الذل فهو الغني الذي كمل بنعوته وأوصافه، المغني لجميع مخلوقاته (¬1) والخلاصة أن الله الغني الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه وهو المغني جميع خلقه، غنىً عاماً، المغني لخواص خلقه، بما أفاض على قلوبهم، من المعارف الربانية، والحقائق الإيمانية (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص98 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص 47 - 48) و ((شرح النونية)) للهراس (2/ 78). (¬2) ((تفسير السعدي)) (5/ 629).

- الفتاح

- الفتاح قال الله تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26] الفاتح: الحاكم والفتاح من أبنية المبالغة فالفتاح هو الحكم المحسن الجواد، وفتحه تعالى قسمين: أحدهما: فتحه بحكمه الديني وحكمه الجزائي والثاني: الفتاح بحكمه القدري ففتحه بحكمه الديني هو شرعه على ألسنة رسله جميع ما يحتاجه المكلفون، ويستقيمون به على الصراط المستقيم وأما فتحه بجزائه فهو فتحه بين أنبيائه ومخالفيهم وبين أوليائه وأعدائهم بإكرام الأنبياء وأتباعهم ونجاتهم، وبإهانة أعدائهم وعقوباتهم وكذلك فتحه يوم القيامة وحكمه بين الخلائق حين يوفي كل عامل ما عمله وأما فتحه القدري فهو ما يقدِّره على عباده من خير وشر ونفع وضر وعطاء ومنع، قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2] فالرب تعالى هو الفتاح العليم الذي يفتح لعباده الطائعين خزائن جوده وكرمه، ويفتح على أعدائه ضد ذلك، وذلك بفضله وعدله (¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص152 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص 83) وانظر: ((شرح النونية)) للهراس (2/ 107).

- القابض، الباسط، المعطي

- القابض، الباسط، المعطي قال الله تعالى: وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245] وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعِّر، القابض، الباسط الرزاق)) (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين والله المعطي وأنا القاسم)) (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل)) (¬3) الحديث وقال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) (¬4) وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد السلام من الصلاة حينما ينصرف إلى الناس: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) (¬5) هذه الصفات الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا ينبغي أن يثنى على الله بها إلا كل واحد منها مع الآخر، لأن الكمال المطلق من اجتماع الوصفين، فهو القابض للأرزاق والأرواح والنفوس، والباسط للأرزاق والرحمة والقلوب وهو الرافع لأقوام قائمين بالعلم والإيمان، الخافض لأعدائه وهو المعز لأهل طاعته، وهذا عز حقيقي، فإنَّ المطيع لله عزيز وإن كان فقيراً ليس له أعوان، المذل لأهل معصيته وأعدائه ذلاً في الدنيا والآخرة فالعاصي وإن ظهر بمظاهر العز فقلبه حشوه الذل وإن لم يشعر به لانغماسه في الشهوات فإن العز كل العز بطاعة الله والذل بمعصيته ومن يهن الله فما له من مكرم [الحج:18] من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً [فاطر:10] وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [المنافقون:8] وهو تعالى المانع المعطي فلا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى وهذه الأمور كلها تبع لعدله وحكمته وحمده، فإن له الحكمة في خفض من يخفضه ويذله ويحرمه، ولا حجة لأحد على الله، كما له الفضل المحض على من رفعه وأعطاه وبسط له الخيرات، فعلى العبد أن يعترف بحكمة الله، كما عليه أن يعترف بفضله ويشكره بلسانه وجنانه وأركانه، وكما أنه هو المنفرد بهذه الأمور وكلها جارية تحت أقداره، فإن الله جعل لرفعه وعطائه وإكرامه أسباباً، ولضد ذلك أسباباً من قام بها ترتبت عليه مسبباتها، وكلٌ ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا يوجب للعبد القيام بتوحيد الله، والاعتماد على ربه في حصول ما يحب، ويجتهد في فعل الأسباب النافعة فإنها محل حكمة الله شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص188 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2200)، وأحمد (3/ 156) (12613). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (5/ 423): روي من وجوه صحيحة لا بأس بها. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 33): إسناده على شرط مسلم. وقال ابن حجر في ((تسديد القوس)) (1/ 93): أصله في مسلم. وقال ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (ص113)، والألباني في ((صحيح أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (3116) واللفظ له، ومسلم (1037). من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. (¬3) رواه مسلم (179) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (817) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬5) البخاري (844)، ومسلم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

- القاهر، القهار

- القاهر، القهار قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (القاهر) المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم (¬1). وقال ابن كثير رحمه الله: (وهو القاهر فوق عباده) أي: هو الذي خضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق وتواضعت لعظمته وجلاله وكبريائه وعلوه وقدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه) (¬2). ويقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – في نونيته: وكذلك القهار من أوصافه ... فالخلق مقهورون بالسلطان لو لم يكن حياً عزيزاً قادراً ... ما كان من قهر ولا سلطان (¬3) ويقول أيضاً: (لا يكون القهار إلا واحداً، إذ لو كان معه كفؤ له فإن لم يقهره لم يكن قهاراً على الإطلاق، وإن قهره لم يكن كفؤاً، فكان القهار واحداً) (¬4). ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (القهار لجميع العالم العلوي والسفلي، القهار لكل شيء الذي خضعت له المخلوقات وذلك لعزته وقوته وكمال اقتداره) (¬5). وقال الخطابي: (-القهار- هو الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلهم بالموت) (¬6). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 414 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (7/ 103). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 126). (¬3) ((النونية)) (2/ 232). (¬4) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1018). (¬5) ((تفسير السعدي)) (5/ 624 – 6/ 448). (¬6) ((شأن الدعاء)) (ص: 53).

- القدوس، السلام

- القدوس، السلام قال الله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23] (القدوس، السلام) معناهما متقاربان، فإنَّ القدوس مأخوذ من قدَّس بمعنى: نزَّهه وأبعده عن السوء مع الإجلال والتعظيم والسلام مأخوذ من السلامة فهو سبحانه السالم من مماثلة أحد من خلقه، ومن النقص، ومن كل ما ينافي كماله (¬1) فهو المقدَّس المعظَّم المنزه عن كل سوء، السالم من مماثلة أحد من خلقه ومن النقصان ومن كل ما ينافي كماله فهذا ضابط ما ينزه عنه: ينزه عن كل نقص بوجه من الوجوه، وينزه ويعظم أن يكون له مثيل، أو شبيه أو كفوء، أو سمي، أو ند، أو مضاد، وينزه عن نقص صفة من صفاته التي هي أكمل الصفات وأعظمها وأوسعها ومن تمام تنزيهه عن ذلك إثبات صفات الكبرياء والعظمة له، فإنَّ التنزيه مراد لغيره ومقصود به حفظ كماله عن الظنون السيئة كظن الجاهلية الذين يظنون به ظن السوء، ظن غير ما يليق بجلاله، وإذا قال العبد مثنيا على ربه: (سبحان الله) أو (تقدس الله) أو (تعالى الله) ونحوها كان مثنياً عليه بالسلامة من كل نقص وإثبات كل كمال (¬2) قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في اسم (السلام): الله أحق بهذا الاسم من كل مسمىً به، لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار، والمخلوق سلام بالإضافة، فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم، وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار، فعلم أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه، ونزهه به رسوله شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص140 ¬

(¬1) ((شرح النونية)) للهراس (2/ 105). (¬2) ((الحق الواضح المبين)) (ص 81 - 82).

- القريب

- القريب قال الله تعالى: هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود:61]. من أسمائه (القريب)، وقربه نوعان: قرب عام وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد وهو بمعنى المعية العامة وقرب خاص بالداعين والعابدين المحبين، وهو قرب يقتضي المحبة، والنصرة، والتأييد في الحركات والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول والإثابة للعابدين (¬1) قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] وإذا فهم القرب بهذا المعنى في العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلاً بينه وبين ما هو معلوم من وجوده تعالى فوق عرشه فسبحان من هو عليٌّ في دنوه قريب في علوه (¬2) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص117 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص64)، و ((شرح النونية)) للهراس (2/ 92). (¬2) ((شرح النونية)) للهراس (2/ 92) و ((توضيح المقاصد)) (2/ 229).

- الكبير

- الكبير وهو سبحانه وتعالى الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى. وله التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه قد مُلئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه (¬1) قال الله تعالى: ذلك بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [غافر:12] شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص84 ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (5/ 622).

- اللطيف

- اللطيف قال الله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ [الشورى:19] وقال تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:113] (اللَّطِيفُ) من أسمائه الحسنى، وهو الذي يلطف بعبده في أموره الداخلية المتعلقة بنفسه، ويلطف بعبده في الأمور الخارجية عنه، فيسوقه ويسوق إليه ما به صلاحه من حيث لا يشعر وهذا من آثار علمه وكرمه ورحمته، فلهذا كان معنى اللطيف نوعين: أنه الخبير الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن والخبايا والخفايا ومكنونات الصدور ومغيبات الأمور، وما لطف ودقَّ من كل شيء. النوع الثاني: لطفه بعبده ووليه الذي يريد أن يتمَّ عليه إحسانه، ويشمله بكرمه ويرقيه إلى المنازل العالية فييسره لليسرى ويجنبه العسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه، وهي عين صلاحه والطريق إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم وبالجهاد في سبيله، وكما ذكر الله عن يوسف صلى الله عليه وسلم وكيف ترقت به الأحوال ولطف الله به وله بما قدَّره عليه من تلك الأحوال التي حصل له في عاقبتها حسن العقبى في الدنيا والآخرة، وكما يمتحن أولياءه بما يكرهونه لينيلهم ما يحبون. فكم لله من لطف وكرم لا تدركه الأفهام، ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية، أو رياسة، أو سبب من الأسباب المحبوبة، فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمة به لئلا تضره في دينه، فيظل العبد حزيناً من جهله وعدم معرفته بربه، ولو علم ما ذخر له في الغيب وأريد إصلاحه فيه لحمد الله وشكره على ذلك، فإن الله بعباده رؤوف رحيم لطيف بأوليائه شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص115

- المبين

- المبين المبين: اسم الفاعل من أبان يبين فهو مبين إذا أظهر وبينَّ إما قولاً، وإما فعلاً والبينة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة والبيان هو الكشف عن الشيء وسمي الكلام بياناً لكشفه عن المقصود وإظهاره نحو هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [آل عمران:138] فالله عز وجل هو المبين لعباده سبيل الرشاد والموضح لهم الأعمال التي يستحقون الثواب على فعلها والأعمال التي يستحقون العقاب عليها، وبين لهم ما يأتون، وما يذرون يقال: أبان الرجل في كلامه ومنطقه فهو مبين والبيان: الكلام ويقال: (بان الكلام وأبان بمعنىً واحد فهو: مُبِّينٌ ومُبينٌ (¬1) وقد سمى الله نفسه بالمبين يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:25] وهو سبحانه الذي بين لعباده طرق الهداية وحذرهم وبين لهم طرق الضلال وأرسل إليهم الرسل وأنزل الكتب ليبين لهم قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ [البقرة:195] وهذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى في كتبه التي أنزلها على رسله عليهم الصلاة والسلام وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118]، كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة:266]، يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26] وقال عز وجل: يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15 - 16] ويقول عز وجل: انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:75] وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:18] والله عز وجل يبين للناس الأحكام الشرعية ويوضحها ويبين الأحكام القدرية وهو عليم بما يصلح عباده حكيم في شرعه وقدره، (¬2) فله الحكمة البالغة والحجة الدامغة وقال عز وجل: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103] وقال: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التوبة:115] يخبر الله عن نفسه الكريمة وحكمه العادل أنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة (¬3) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص197 ¬

(¬1) انظر: ((مفردات القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص68 - 69)، و ((اشتقاق الأسماء)) للزجاجي (ص180). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 274). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 396).

- المتكبر

- المتكبر -المتكبر- العظيم ذو الكبرياء، المتعالي عن صفات خلقه، المتكبر على عتاتهم. والكبرياء: العظمة والملك. وقيل: هي عبارة عن كمال الذات، وكمال الوجود، ولا يوصف بها على وجه المدح إلا الله) (¬1). وقال الخطابي: (المتكبر: المتعالي عن صفات الخلق. ويقال: هو الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فيقصمهم. والتاء في المتكبر: تاء التفرد، والتخصص بالكبر، لا تاء التعاطي والتكلف) (¬2). وقال قتادة: (المتكبر) أي: تكبر عن كل شر (¬3). وقيل: (المتكبر) هو الذي تكبر عن ظلم عباده وهو يرجع إلى الأول (¬4). مما سبق من النقولات يمكن فهم معنى اسمه سبحانه (المتكبر) في المعاني التالية: 1 - المتكبر والمتنزه عن كل سوء وشر. 2 - المتكبر على عتاة خلقه وجبابرتهم إذا نازعوه العظمة فيقصمهم. 3 - المتكبر عن ظلم عباده فلا يظلم أحداً. 4 - المتكبر والمتعالي عن صفات خلقه فلا شيء مثله. 5 - الذي كبر وعظم فكل شيء دون جلاله صغير وحقير. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقول الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي فمن نازعني عذبته)). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح ربه سبحانه ويثني عليه في ركوعه وسجوده بهذا الدعاء: ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 227 ¬

(¬1) ((لسان العرب)) (3/ 210). (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص: 48). (¬3) ((تفسير الطبري)) (28/ 37). (¬4) ((تفسير الطبري)) (28/ 37).

- المجيب

- المجيب من أسمائه تعالى (المجيب) لدعوة الداعين وسؤال السائلين وعباده المستجيبين، وإجابته نوعان: إجابة عامة لكل من دعاه دعاء عبادة أو دعاء مسألة، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] فدعاء المسألة أن يقول العبد اللهم أعطني كذا أو اللهم ادفع عني كذا، فهذا يقع من البر والفاجر، ويستجيب الله فيه لكل من دعاه بحسب الحال المقتضية وبحسب ما تقتضيه حكمته وهذا يُستدل به على كرم المولى وشمول إحسانه للبر والفاجر، ولا يدل بمجرده على حسن حال الداعي الذي أجيبت دعوته إن لم يقترن بذلك ما يدل عليه وعلى صدقه وتعيُّن الحق معه، كسؤال الأنبياء ودعائهم لقومهم وعلى قومهم فيجيبهم الله، فإنه يدل على صدقهم فيما أخبروا به وكرامتهم على ربهم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه كثيراً ما يدعو بدعاء يشاهد المسلمون وغيرهم إجابته، وذلك من دلائل نبوته وآيات صدقه، وكذلك ما يذكرونه عن كثير من أولياء الله من إجابة الدعوات، فإنه من أدلة كراماتهم على الله. وأما الإجابة الخاصة فلها أسباب عديدة، منها دعوة المضطر الذي وقع في شدة وكربة عظيمة، فإنَّ الله يجيب دعوته، قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] وسبب ذلك شدَّة الافتقار إلى الله وقوة الانكسار وانقطاع تعلقه بالمخلوقين، ولسعة رحمة الله التي يشمل بها الخلق بحسب حاجتهم إليها، فكيف بمن اضطر إليها، ومن أسباب الإجابة طول السفر والتوسل إلى الله بأحب الوسائل إليه من أسمائه وصفاته ونعمه، وكذلك دعوة المريض، والمظلوم، والصائم والوالد على ولده أو له، وفي الأوقات والأحوال الشريفة مثل أدبار الصلوات، وأوقات السحر، وبين الأذان والإقامة، وعند النداء، ونزول المطر واشتداد البأس، ونحو ذلك (¬1) إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود:61] شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص119 ¬

(¬1) ((شرح النونية)) للهراس (2/ 93 - 94) و ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد)) (2/ 229).

- المجيد

- المجيد (المجيد) الذي له المجد العظيم، والمجد هو عظمة الصفات وسعتها، فكل وصف من أوصافه عظيم شأنه: فهو العليم الكامل في علمه، الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، القدير الذي لا يعجزه شيء، الحليم الكامل في حلمه، الحكيم الكامل في حكمته، إلى بقية أسمائه وصفاته (¬1) التي بلغت غاية المجد فليس في شيء منها قصور أو نقصان قال تعالى: قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ [هود:73] شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص83 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص33) و ((شرح النونية)) للهراس (2/ 71).

- المحسن

- المحسن والمحسن من أسماء الله تعالى، لحديث أنس رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكمتم؛ فاعدلوا، وإذا قتلتم؛ فأحسنوا؛ فإن الله مُحْسِنٌ يحب الإحسان)) (¬1) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص50 ¬

(¬1) رواه ابن أبي عاصم في ((الدِّيَّات)) (ص94)، والطبراني في ((الأوسط)) (5735) واللفظ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (7/ 306)، وأبو نعيم في ((أخبار أصبهان)) (2/ 113). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 197):رواه الطبراني في ((الأوسط)) ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (469): وهذا إسناد جيد رجاله ثقات. وقال في ((إرواء الغليل)) (7/ 293): سنده حسن.

- المحيط

- المحيط قال الله تعالى: وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا [النساء:126] وقال عز وجل: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120] وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، وقدرة، ورحمة، وقهراً وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسماوات، وقهر بعزته كل مخلوق ودانت له جميع الأشياء (¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص169 ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (2/ 179).

- المقدم، والمؤخر

- المقدم، والمؤخر كان من آخر ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم بين التشهد والتسليم: ((اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم، وأنت المؤخر لا إله إلا أنت)) (¬1). المقدم والمؤخر هما كما تقدم من الأسماء المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق واحد بمفرده على الله إلا مقروناً بالآخر، فإن الكمال من اجتماعهما، فهو تعالى المقدم لمن شاء والمؤخر لمن شاء بحكمته وهذا التقديم يكون كونياً كتقديم بعض المخلوقات على بعض وتأخير بعضها على بعض، وكتقديم الأسباب على مسبباتها والشروط على مشروطاتها وأنواع التقديم والتأخير في الخلق والتقدير بحر لا ساحل له ويكون شرعياً كما فضل الأنبياء على الخلق وفضل بعضهم على بعض، وفضل بعض عباده على بعض، وقدمهم في العلم، والإيمان، والعمل، والأخلاق، وسائر الأوصاف، وأخَّر من أخَّر منهم بشيء من ذلك وكل هذا تبع لحكمته وهذان الوصفان وما أشبههما من الصفات الذاتية لكونهما قائمين بالله والله متصف بهما، ومن صفات الأفعال لأن التقديم والتأخير متعلق بالمخلوقات ذواتها، وأفعالها، ومعانيها، وأوصافها، وهي ناشئة عن إرادة الله وقدرته. فهذا هو التقسيم الصحيح لصفات الباري، وإن صفات الذات متعلقة بالذات، وصفات أفعاله متصفة بها الذات ومتعلقة بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال (¬2) قال الله عز وجل: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [الأنعام:17] وقال الله تعالى: قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الفتح:11] وصفة الضر والنفع هما كما تقدم من الأسماء المزدوجة المتقابلة فالله تعالى النافع لمن شاء من عباده بالمنافع الدينية والدنيوية، الضار لمن فعل الأسباب التي توجب ذلك، وكل هذا تبع لحكمته وسننه الكونية وللأسباب التي جعلها موصلة إلى مسبباتها، فإنَّ الله تعالى جعل مقاصد للخلق وأموراً محبوبة في الدين والدنيا، وجعل لها أسباباً وطرقاً، وأمر بسلوكها ويسَّرها لعباده غاية التيسير، فمن سلكها أوصلته إلى المقصود النافع، ومن تركها أو ترك بعضها أو فوت كمالها أو أتاها على وجه ناقص ففاته الكمال المطلوب فلا يلومنّ إلا نفسه، وليس له حجة على الله، فإن الله أعطاه السمع، والبصر، والفؤاد، والقوة’ والقدرة، وهداه النجدين، وبين له الأسباب، والمسببات، ولم يمنعه طريقاً يوصل إلى خير ديني ولا دنيوي، فتخلفه عن هذه الأمور يوجب أن يكون هو الملوم عليها المذموم على تركها واعلم أن صفات الأفعال كلها متعلقة وصادرة عن هذه الصفات الثلاث: القدرة الكاملة، والمشيئة النافذة، والحكمة الشاملة التامة وهي كلها قائمة بالله، والله متصف بها، وآثارها ومقتضياتها جميع ما يصدر عنها في الكون كله من التقديم والتأخير، والنفع والضر، والعطاء والحرمان، والخفض والرفع، لا فرق بين محسوسها ومعقولها، ولا بين دينيها ودنيويها فهذا معنى كونها أوصاف أفعال لا كما ظنه أهل الكلام الباطل (¬3) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص192 ¬

(¬1) رواه البخاري (1120) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ومسلم (771) وقيده بقوله بين التشهد والتسليم. من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) ((الحق الواضح المبين)) (ص100). (¬3) ((توضيح الكافية الشافية)) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص131 - 132).

- المقيت

- المقيت قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى: وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا، فقال بعضهم في تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظاً وشهيداً. وقال آخرون معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير، وقال آخرون: هو القدير. ثم قال: والصواب من هذه الأقوال: قول من قال: معنى المقيت: القدير وذلك أن ذلك فيما بلغه يذكر كذلك بلغة قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتاً أي: قادراً) (¬1). وقال الخطابي: (المقيت بمعنى القدير، والمقيت أيضاً: معطي القوت) (¬2). وقال ابن العربي: (وعلى القول بأنه (القادر) يكون من صفات الذات، وإن قلنا إنه اسم للذي يعطي القوت فهو اسم للوهاب والرزاق ويكون من صفات الأفعال) (¬3). وقال القرطبي –رحمه الله- في التفسير: (وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ، وقال الكسائي: المقيت المقتدر. وقال النحاس: وقل أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان) (¬4). وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (المقيت الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات، وأوصل إليها أرزاقها وصرفها كيف يشاء بحكمته وحمده) (¬5). وقال الراغب: (وقاته يقيته قوتاً أطعمه قوته، وأقاته يقيته جعل له ما يقوته وفي الحديث الشريف ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)). وقيل: مقتدراً، وقيل: حافظاً، وقيل: شاهداً، وحقيقته قائماً عليه يحفظه ويقيته) (¬6)، وفي الحديث: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)). ويبدو أن هناك فرقاً بين اسم المقيت واسم الرزاق، فالمقيت أخص من الرزاق؛ لأنه يختص بالقوت، أما الرزاق فيتناول القوت وغير القوت. فالمقيت سبحانه يقدر حاجة الخلائق بعلمه، ثم يسوقها إليهم بقدرته، ليقيتهم بها ويحفظهم. قال الله عز وجل: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [فصلت: 10]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (وقدر فيها أقواتها وهو ما يحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس) (¬7). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 687 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (5/ 118). (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص: 68). (¬3) انظر: ((النهج الأسمى)) (1/ 358)، محمد الحمود الجندي. (¬4) ((تفسير الطبري)) (5/ 296). (¬5) ((تفسير السعدي)) (5/ 625). (¬6) ((المفردات)) للراغب (ص: 414). (¬7) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 93).

- الملك، المليك، مالك الملك

- الملِكُ، المليكُ، مالك الملك المعنى اللغوي (للملك): (الملك، والمللك، والمليك، والمالك: ذو الملك. قال ابن سيده: المَلْك، المُلك، المِلْك: احتواء الشيء والقدرة على الاستبدادية وتملكه: أي ملكه قهراً، وأملكه الشيء وملكه إياه تمليكاً: جعله ملكا له. وأملكوه زوجوه، شبه الزوج بملك عليها في سياستها. والملكوت مختص بملك الله تعالى وهو مصدر ملك، أدخلت فيه التاء نحو: جبروت ورهبوت ورحموت. قال تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف: 185]) (¬1). معناه في حق الله تعالى: قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (المَلِك: الذي لا ملك فوقه ولا شيء إلا دونه) (¬2). وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وهو الله الذي لا إله إلا هو الملك أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا مبالغة ولا مدافعة) (¬3). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن من أسمائه: (الملك)، ومعناه الملك الحقيقي ثابت له – سبحانه – بكل وجه، وهذه الصفات تستلزم سائر صفات الكمال. إذ من المحال ثبوت الملك الحقيقي التام لمن ليس له حياة ولا قدرة، ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا فعل اختياري يقوم به، وكيف يوصف بالملك من لا يأمر ولا ينهي؛ ولا يثيب ولا يعاقب؛ ولا يعطي ولا يمنع؛ ولا يعز ولا يذل؛ ولا يهين ولا يكرم؛ ولا ينعم ولا ينتقم؛ ولا يخفض ولا يرفع، ولا يرسل الرسل إلى أقطار مملكته، ولا يتقدم إلى عبيده بأوامره ونواهيه؟ فأي ملك في الحقيقة لمن عدم ذلك؟ وبهذا يتبين أن المعطلين لأسمائه وصفاته: جعلوا مماليكه أكمل منه، ويأنف أحدهم أن يقال في أمره وملكه ما يقوله هو في ربه. فصفة ملكه الحق مستلزمة لوجود ما لا يتم التصرف إلا به، والكل منه – سبحانه – فلم يتوقف كمال ملكه على غيره، فإن كل ما سواه مسند إليه؛ متوقف في وجوده على مشيئته وخلقه) (¬4). وهذه المعاني التي تضمنها اسم الجلالة (الملك): هي ما يتم به حقيقة الملك، كما ذكر ذلك ابن القيم – رحمه الله تعالى – في موطن آخر حيث يقول: (إن حقيقة الملك: إنما تتم بالعطاء والمنع؛ والإكرام والإهانة؛ والإثابة والعقوبة؛ والغضب والرضا؛ والتولية والعزل؛ وإعزاز من يليق به العز، وإذلال من يليق به الذل. قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 26 - 27]، وقال تعالى: يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]. يغفر ذنبا؛ ويفرج كربا؛ ويكشف غما، وينصر مظلوماً؛ ويأخذ ظالماً، ويفك عانيا؛ ويغني فقيراً، ويجبر كسيراً؛ ويشفي مريضاً، ويقيل عثرة؛ ويستر عورة، ويعز ذليلاً؛ ويذل عزيزاً؛ ويعطي سائلاً، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى؛ ويداول الأيام بين الناس؛ ويرفع أقواماً ويضع آخرين، ويسوق المقادير التي قدرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها؛ فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه؛ وجرى به قلمه؛ ونفذ فيه حكمه؛ وسبق به علمه، فهو المتصرف في الممالك كلها وحده؛ تصرف ملك قادر قاهر، عادل رحيم، تام الملك؛ لا ينازعه في ملكه منازع؛ ولا يعارضه فيه معارض، فتصرفه في المملكة دائر بين العدل والإحسان؛ والحكمة والمصلحة والرحمة؛ فلا يخرج تصرفه عن ذلك) (¬5). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 358 ¬

(¬1) أنظر ((النهاية)) (4/ 358)، و ((اللسان)) (6/ 4266)، و ((المفردات)) للراغب (ص: 472). (¬2) ((تفسير الطبري)) (28/ 36). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 343). (¬4) ((شفاء العليل)) (2/ 609 - 610). (¬5) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 228، 229).

- المنان

- المنان المنان من أسماء الله الحسنى التي سماه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك المنان يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)) (¬1) قال ابن الأثير (¬2): (المنان) هو المنعم المعطي من المنِّ: العطاء، لا من المنة وكثيراً ما يرد المن في كلامهم: بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه فالمنان من أبنية المبالغة كالوهاب ومنه الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه ليس من الناس أحد أمنّ عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل)) (¬3) ومعنى ((إن من أمنِّ الناس)) أكثرهم جوداً لنا بنفسه، وماله وليس هو من المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة والله عز وجل هو المنان: من المن العطاء، والمنان: هو عظيم المواهب، فإنه أعطى الحياة، والعقل، والنطق، وصور فأحسن وأنعم فأجزل، وأسنى النعم، وأكثر العطايا والمنح قال وقوله الحق: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34] ¬

(¬1) رواه أبو داود (1495)، والترمذي (3544)، والنسائي (3/ 52)، وابن ماجه (3858) واللفظ له، وأحمد (3/ 120) (12226)، والحاكم (1/ 683). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجة)): حسن صحيح. (¬2) ((النهاية في غريب الحديث)) (4/ 365). (¬3) رواه البخاري (467) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

ومن أعظم النعم بل أصل النعم التي امتن الله بها على عباده الامتنان عليهم بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنقذهم الله به من الضلال وعصمهم به من الهلاك (¬1) قال الله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164] فالله عز وجل هو الذي منَّ على عباده: بالخلق، والرزق، والصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان، أسبغ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، ومن أعظم المنن وأكملها وأنفعها- بل أصل النعم – الهداية للإسلام ومنته بالإيمان وهذا أفضل من كل شيء ومعنى لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ أي تفضل على المؤمنين المصدقين والمنان المتفضل (¬2)، والمنة: النعمة العظيمة قال الأصفهاني: المنة: النعمة الثقيلة وهي على نوعين: النوع الأول: أن تكون هذه المنة بالفعل فيقال: منَّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة وعلى ذلك قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ وقوله تعالى: كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيراً [النساء:94] وقال عز وجل: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:114] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه:37] وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5] فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم:11] وهذا كله على الحقيقة لا يكون إلا من الله تعالى فهو الذي منَّ على عباده بهذه النعم العظيمة فله الحمد حتى يرضى وله الحمد بعد رضاه وله الحمد في الأولى والآخرة. النوع الثاني: أن يكون المنُّ بالقول وذلك مستقبح فيما بين الناس ولقبح ذلك قيل المنة تهدم الصنيعة قال الله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] فالمنة من الله عليهم بالفعل وهو هدايتهم للإسلام، والمنة منهم بالقول المذموم وقد ذم الله في كتابه ونهى عن المنُّ المذموم: وهو المنة بالقول فقال: وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] قال ابن كثير: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره وقيل غير ذلك وقال الله عز وجل: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:262 - 264] وقد ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم المنُّ بالعطية فقال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) (¬3) هذا هو المنُّ المذموم أما المن بمعنى العطاء والإحسان، والجود فهو المحمود والخلاصة: أنَّ الله تبارك وتعالى هو المنان الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو عظيم المواهب، أعطى الحياة، والعقل، والنطق، وصور فأحسن، وأنعم فأجزل، وأكثر العطايا والمنح، وأنقذ عباده المؤمنين، ومنَّ عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بمنه وفضله ومنَّ على عباده أجمعين: بالخلق، والرزق، والصحة، والأمن لعباده المؤمنين وأسبغ على عباده النعم مع كثرة معاصيهم وذنوبهم شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص200 ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (1/ 449). (¬2) ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (1/ 209). (¬3) رواه مسلم (106).

- المهيمن

- المهيمن المطَّلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً (¬1) وقال البغوي (4/ 326): الشهيد على عباده بأعمالهم وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيباً على الشيء شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص169 ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (5/ 624).

- المؤمن

- المؤمن المعنى اللغوي (للمؤمن): له معنيان: الأول: المصدق. قال الزجاج: (أصل الإيمان: التصديق والثقة. وقال الله عز وجل: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17]، أي: لفرط محبتك ليوسف لا تصدقنا) (¬1). الثاني: (من الأمان كما يقول: آمن فلان فلانا أي: أعطاه أمانا ليسكن إليه ويأمن، فكذلك أيضاً: (الله المؤمن) أي: يؤمن عباده المؤمنين فلا يأمن إلا من آمنه) (¬2). معنى هذا الاسم الكريم في حق الله تعالى: أولاً: تعلقه بالمعنى الأول (المصدق): ومن معانيه في حق الله – عز وجل – ما يلي: 1 - أنه يصدق نفسه بتوحيده وصفاته، كما قال عز من قائل: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18]. فقد شهد سبحانه لنفسه بالوحدانية، وهذه الشهادة أعظم شهادة: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً [الأنعام: 19]، فليس فوق شهادة الله شهادة، فهي أعظم من شهادة ملائكته، ورسله، وأنبيائه، ومخلوقاته له بالشهادة. 2 - تصديق الله رسله وأنبياءه وأتباعهم، فمن ذلك ما أنزله الله من الآيات البينات التي دلت على صدقهم، ومن ذلك ما يظهره على أيدي المؤمنين، ومنها: ما يريه أعداءه من نصرة المؤمنين، فقد يرى الكفرة الملائكة تقاتل مع المؤمنين، ومنها: أن الكفرة قد يدعون الله أن ينصر المحق، فينصر الله المؤمنين، وغير ذلك مما يصدق به رسله وأتباعهم. ومن ذلك: إيقاع العذاب بالمجرمين والطغاة، أعداء الرسل فإن وقوع العذاب بهم تصديق من الله – عز وجل – لرسله. 3 - تصديق الله عباده المؤمنين في يوم الدين، فالله يسأل الناس في يوم القيامة، ويصدق المؤمنين بإيمانهم، ويكذب الكفرة والمجرمين، فيشهد عليهم أعضاءهم، فتشهد. ويصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق ما أوعدهم من العقاب (¬3). يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم له من شواهد صدقهم، فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه؛ وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم – قضاء وخلقاً – فإنه سبحانه أخبر وخبره الصدق؛ وقوله الحق: أنه لابد أن يري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله، فقال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53]، أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ [فصلت: 52]. ثم قال: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]، فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حق، ووعده أن يرى العباد من آياته الخلقية ما يشهد بذلك أيضاً، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل؛ شهادته – سبحانه – على كل شيء) (¬4). ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (المؤمن: الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال، والجمال الذي أرسل رسله وأنزل كتبه بالآيات والبراهين، وصدق رسله بكل آية وبرهان، ويدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به) (¬5). ثانياً: تعلقه بالمعنى الثاني المشتق من (الأمان): وفيه من المعاني ما يلي: 1 - أنه الذي يؤمن خلقه من ظلمه وقد ذكر هذا المعنى ابن جرير في تفسيره وقال: (قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما (المؤمن) أي: أمن خلقه من أن يظلمهم) (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير الأسماء)) (ص: 31). (¬2) ((اشتقاق أسماء الله تعالى)) (ص: 385). (¬3) أنظر: ((أسماء الله الحسنى)) للأشقر (ص: 64، 65). (¬4) ((مدارج السالكين)) (3/ 466). (¬5) ((تفسير السعدي)) (5/ 301). (¬6) ((تفسير الطبري)) (28/ 36).

2 - أنه الذي يهب عباده المؤمنين الأمن في الدنيا بالطمأنينة والأنس الذي يجدونه في قلوبهم بفعل الإيمان به سبحانه وتوحيده. 3 - أنه الذي يؤمن خوف عبده الذي لجأ إليه بصدق في كشف كربته وتأمين خوفه. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والمضطر إذا صدق في الاضطرار إليه: وجده رحيماً مغيثاً، والخائف إذا صدق في اللجوء إليه: وجده مؤمناً من الخوف) (¬1). 4 - أنه الذي يؤمن عباده المنقادين لشرعه بما يشرع لهم من الأحكام والحدود التي يأمنون فيها على دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأعراضهم، وأموالهم سواء على مستوى الفرد، أو الأسرة، أو المجتمع بحيث يعيش الجميع في أمن وسلام في ظل أحكام الله – عز وجل – والتي هي أثر من آثار اسمه (السلام المؤمن). 5 - أنه الذي يؤمن عباده يوم الفزع الأكبر من مخاوف يوم القيامة ومن عذاب النار، قال الله تعالى عن عباده المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 101 - 103]، وقال سبحانه عن أثر الإيمان في تحقيق الأمن في الدنيا والآخرة: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82] (¬2). 6 - أنه الذي يؤمن عباده المؤمنين عند نزول الموت حال الاحتضار بأن يسمعوا تطمين ملائكة الرحمة لهم وتبشيرهم بالجنة، وتأمين خوفهم وحزنهم، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت: 30 - 32]. 7 - أنه الذي يؤمن لجميع عباده، بل جميع خلقه، مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، كل ما يأمن بقاء حياتهم إلى الأجل الذي أجل لهم بتوفير رزقهم ودفع الغوائم عنهم. ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 209 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (3/ 324). (¬2) انظر في تفسير هذه الآية وأقسام الأمن وشموله رسالة ((فأي الفريقين أحق بالأمن)) للمؤلف.

- النصير

- النصير النصير: فعيل بمعنى فاعل أو مفعول لأنَّ كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور وقد نصره ينصره نصراً إذا أعانه على عدوه وشدَّ منه (¬1) والنصير هو الموثوق منه بأن لا يسلم وليه ولا يخذله والله عز وجل النصير ونصره ليس كنصر المخلوق: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وقد سمى نفسه تبارك وتعالى باسم النصير فقال: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا [النساء:45]، وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78] فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40] والله عز وجل هو النصير الذي ينصر عباده المؤمنين ويعينهم كما قال عز وجل: إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160] وقال عز وجل: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُون بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:5] وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40] وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47] مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [الحج:15] ونصرة الله للعبد ظاهرة من هذه الآيات وغيرها فهو ينصر من ينصره ويعينه ويسدده. شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص218 ¬

(¬1) ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (5/ 64).

- الهادي

- الهادي قال الله تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الحج:54] (الهادي) أي: الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع، وإلى دفع المضار، ويعلمهم مالا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره والهداية: هي دلالة بلطف شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص132

- الواحد، الأحد

- الواحد، الأحد قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وقال سبحانه: قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد:16] وهو الذي توحَّد بجميع الكمالات، بحيث لا يشاركه فيها مشارك ويجب على العبيد توحيده، عقداً وقولاً وعملاً، بأن يعترفوا بكماله المطلق وتفرده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة. والأحد يعني: الذي تفرَّد بكل كمال، ومجد وجلال، وجمال وحمد، وحكمة، ورحمة، وغيرها من صفات الكمال فليس له مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه فهو الأحد في حياته وقيوميته، وعلمه وقدرته، وعظمته وجلاله، وجماله وحمده، وحكمته ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال ونهايته، من كل صفة من هذه الصفات ومن تحقيق أحديته وتفرده بها أنه (الصمد) أي: الرب الكامل، والسيد العظيم، الذي لم يبق صفة كمال إلا اتصف بها ووصفه بغايتها وكمالها، بحيث لا تحيط الخلائق ببعض تلك الصفات بقلوبهم، ولا تعبر عنها ألسنتهم (¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص166 ¬

(¬1) ((بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) لعبد الرحمن السعدي (ص291).

- الواسع

- الواسع قال في اللسان: (الواسع هو الذي وسع رزقه جميع خلقه، ووسعت رحمته كل شيء، وغناه كل فقر) (¬1). ويقول الخطابي رحمه الله: (الواسع: هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه، والسعة في كلام العرب: الغنى. ويقال: الله يعطي عن سعة أي عن غنى) (¬2). ويقول الطبري – رحمه الله – عند قوله تعالى: إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]: (يعني جل ثناؤه بقوله: واسع أي: يسع خلقه كلهم بالكفاية والاتصال والجود والتدبير) (¬3). ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (الواسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة والسلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم) (¬4). ويلاحظ في هذا المعنى أن كل واحد منها أخذ ببعض معان ومقتضيات هذا الاسم الجليل، وإلا فاسم (الواسع) يشمل – كما قال الشيخ السعدي – جميع الصفات والنعوت، فهو الواسع في علمه، وهو الواسع في غناه، وهو الواسع في فضله وإنعامه وجوده، وهو الواسع في قوته وعظمته وجبروته، وهو الواسع في قدرته، الواسع في حكمته، وهو الواسع في مغفرته ورحمته. ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 322 ¬

(¬1) انظر: ((اللسان)) (6/ 4835). (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص: 72). (¬3) ((تفسير الطبري)) (1/ 403). (¬4) ((تفسير السعدي)) (5/ 631).

- الوتر

- الوتر قال ابن قتيبة رحمه الله تعالى: (الله عز وجل وتر وهو واحد) (¬1). وقال الخطابي رحمه الله تعالى: (-الوتر- هو الفرد الذي لا شريك له ولا نظير) (¬2). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (-الوتر- الفرد ومعناه في حق الله أنه الواحد الذي لا نظير له في ذاته ولا انقسام) (¬3). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها – عبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 763 ¬

(¬1) ((غريب الحديث)) (1/ 172). (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص: 104)، وانظر البيهقي في ((الاعتقاد)) (ص: 68). (¬3) ((فتح الباري)) (11/ 227).

- الودود

- الودود قال تعالى: وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90] وقال تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14] والود مأخوذ من الوُد بضم الواو بمعنى خالص المحبة فالودود هو المحب المحبوب بمعنى واد مودود، فهو الواد لأنبيائه، وملائكته، وعباده المؤمنين، وهو المحبوب لهم بل لا شيء أحبَّ إليهم منه، ولا تعادل محبة الله من أصفيائه محبة أخرى، لا في أصلها، ولا في كيفيتها، ولا في متعلقاتها، وهذا هو الفرض والواجب أن تكون محبة الله في قلب العبد سابقة لكل محبة، غالبة لكل محبة ويتعين أن تكون بقية المحاب تبعاً لها ومحبة الله هي روح الأعمال، وجميع العبودية الظاهرة والباطنة ناشئة عن محبة الله ومحبة العبد لربه فضل من الله وإحسان، ليست بحول العبد ولا قوته فهو تعالى الذي أحبَّ عبده فجعل المحبة في قلبه، ثم لما أحبه العبد بتوفيقه جازاه الله بحب آخر، فهذا هو الإحسان المحض على الحقيقة، إذ منه السبب ومنه المسبب، ليس المقصود منها المعاوضة، وإنما ذلك محبة منه تعالى للشاكرين من عباده ولشكرهم، فالمصلحة كلها عائدة إلى العبد، فتبارك الذي جعل وأودع المحبة في قلوب المؤمنين، ثم لم يزل ينميها ويقويها حتى وصلت في قلوب الأصفياء إلى حالة تتضاءل عندها جميع المحاب، وتسلِّيهم عن الأحباب، وتهون عليهم المصائب، وتلذذ لهم مشقة الطاعات، وتثمر لهم ما يشاءون من أصناف الكرامات التي أعلاها محبة الله والفوز برضاه والأنس بقربه فمحبة العبد لربه محفوفة بمحبتين من ربه: فمحبة قبلها صار بها محباً لربه، ومحبة بعدها شكراً من الله على محبة صار بها من أصفيائه المخلصين وأعظم سبب يكتسب به العبد محبة ربه التي هي أعظم المطالب، الإكثار من ذكره والثناء عليه، وكثرة الإنابة إليه، وقوة التوكل عليه، والتقرُّب إليه بالفرائض والنوافل، وتحقيق الإخلاص له في الأقوال والأفعال، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً (¬1) كما قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [آل عمران:31] شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص121 ¬

(¬1) ((الحق الواضح المبين)) (ص69 - 70)، و ((شرح النونية)) للهراس (2/ 96) و ((توضيح المقاصد)) (2/ 230).

- الوكيل، الكفيل

- الوكيل، الكفيل اسمه سبحانه (الوكيل) يأتي بمعنى الوكيل العام على جميع خلقه، وذلك لأنه خالقهم ومدبر أمرهم والمتكفل بأرزاقهم وحاجاتهم ومحييهم ومميتهم، وذلك كما في قوله تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام: 102]. يقول الطبري رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (والله على كل ما خلق من شيء رقيب وحفيظ، يقوم بأرزاق جميعه وأقواته وسياسته وتدبيره وتصريفه بقدرته) (¬1). ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62]. (فإخباره بأنه على كل شيء وكيل، يدل على إحاطة علمه بجميع الأشياء، وكمال قدرته على تدبيرها، وكمال تدبيره، وكمال حكمته التي يضع بها الأشياء مواضعها) (¬2). ويقول في موطن آخر: (-والوكيل- المتولي لتدبير خلقه بعلمه وكمال قدرته وشمول حكمته، الذي يتولى أولياءه فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى وكفاهم الأمور) (¬3). أما المعنى الخاص (للوكيل) فهو ما ذكره الشيخ السعدي سابقاً بقوله: (الذي يتولى أولياءه فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى وكفاهم الأمور) (¬4)، وهو المراد في قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً [الأحزاب: 3]، وقوله سبحانه: فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173]. وهذه الوكالة خاصة بالمؤمنين حيث إن فيها معنى زائد على المعنى العام الذي سبق ذكره وهو معيته الخاصة بأوليائه وإعانته ونصرته لهم. فتلخص من (الوكيل) المعاني التالية: 1 - الكفيل. 2 - الكافي. 3 - المدبر الحفيظ لخلقه القدر على ذلك. أما معنى (الكفيل): فيقول ابن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً أي: (وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعياً، يرعى الموفي منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض .. وساق بسنده إلى مجاهد في معنى (كفيلا) قال: وكيلاً) (¬5). وقال القرطبي رحمه الله: (-كفيلاً- يعني: شهيداً، ويقال: حافظاً، ويقال: ضامناً) (¬6). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها – عبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 475 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (7/ 299). (¬2) ((تفسير السعدي)) (4/ 335). (¬3) ((تفسير السعدي)) (5/ 488). (¬4) ((تفسير السعدي)) (5/ 488). (¬5) ((تفسير الطبري)) (14/ 110، 111). (¬6) ((تفسير القرطبي)) (10/ 170).

- الولي، المولى

- الولي، المولى أولاً: (الولي): قال ابن جرير في قوله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ [البقرة: 257] (نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه: يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257]، يعني بذلك: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان) (¬1). وقال في قوله تعالى: وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا [النساء: 45]، (وكفاكم وحسبكم بالله ربكم وليا يليكم ويلي أموركم بالحياطة لكم، والحراسة من أن يستفزكم أعداؤكم عن دينكم، أو يصدوكم عن اتباع نبيكم) (¬2). وقال في قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196]، (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد للمشركين من عبدة الأوثان: إن وليي ونصيري ومعيني وظهيري عليكم الله الذي نزل الكتاب علي بالحق، وهو يتولى من صلح عمله بطاعته من خلقه) (¬3). وقال الزجاج: (-الولي- هو فعيل، من الموالاة، والولي: الناصر وقال الله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257]، وهو تعالى وليهم بأن يتولى نصرهم وإرشادهم، كما يتولى ذلك من الصبي وليه، وهو يتولى يوم الحساب ثوابهم وجزاءهم) (¬4). وذكر الخطابي نحو كلام الزجاج، وزاد: (والولي أيضاً المتولي للأمر والقائم به، كولي اليتيم، وولي المرأة في عقد النكاح عليها، وأصله من الولي، وهو القرب) (¬5). ثانياً: (المولى): يقول ابن جرير في قوله تعالى: (أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 386])، أنت ولينا بنصرك، دون من عاداك وكفر بك، لأنا مؤمنون بك ومطيعون فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت ولي من أطاعك وعدو من كفر بك فعصاك، فانصرنا لأنا حزبك، على القوم الكافرين الذين جحدوا وحدانيتك وعبدوا الآلهة والأنداد دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان. والمولى في هذا الموضع المفعل، من ولي فلان أمر فلان فهو يليه ولاية وهو ولية ومولاه) (¬6). والله جل شأنه مولى الخلق أجمعين بمعنى أنه سيدهم ومالكهم وخالقهم ومعبودهم الحق، كما في قوله تعالى: ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62]، وقوله تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [يونس: 30]، ولا تتعارض هذه الآيات مع قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11]، ويجيب الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى عن هذا بقوله: (والجواب عن هذا: أن معنى كونه مولى الكافرين أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء، ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين، أي: ولاية المحبة والتوفيق والنصر، والعلم عند الله تعالى) (¬7). ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها لعبد العزيز بن ناصر الجليل – ص: 460 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (3/ 15). (¬2) ((تفسير الطبري)) (5/ 75). (¬3) ((تفسير الطبري)) (9/ 152). (¬4) ((تفسير الأسماء)) (ص: 55). (¬5) ((شأن الدعاء)) (ص: 78). (¬6) ((تفسير الطبري)) (3/ 106). (¬7) ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) (ص: 116).

المبحث الخامس: تفاضل أسماء الله ودلالة ذلك

المطلب الأول: أدلة تفاضل أسماء الله والحاصل أن أسماء الله كثيرة لا تحصر ولا تحد بعدد، وهي متفاضلة غير متساوية في الفضل بعضها أفضل من بعض، وإن كانت أسماء لمسمى واحد، والأدلة على تفاضل أسماء الله متعددة، فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه سبحانه أفضل من بعض، ففي الآثار ذكر اسمه الأعظم سبحانه وقد وردت روايات متعددة في ذكر الاسم الأعظم، ففي روايات يقول صلى الله عليه وسلم: ((لقد سأل الله باسمه الأعظم)) (¬1). وفي أخرى: ((دعا الله باسمه الأعظم)) (¬2)، ((لقد دعا الله باسمه العظيم)) (¬3)، وفي أخرى: ((اسم الله الأعظم في كذا)) (¬4)، وفي رواية: ((باسمه الأعظم الأكبر)) (¬5)، وفي رواية: ((أسألك باسمك الأعلى الأعز الأجل الأكرم)) (¬6)، على اختلاف في تعيين الاسم الأعظم ما هو؟ وهي مسألة للناس فيها خلاف معروف في كتب العلم (¬7). ففي هذه الروايات دلالة ظاهرة على تفاضل الأسماء الحسنى، لدلالتها على أن في الأسماء الحسنى اسم أعظم يفضلها فهو أعظمها. ومن الأدلة على تفاضل أسمائه سبحانه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة)) (¬8) فخص النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الأسماء التسعة والتسعين بهذه الفضيلة، وهي أن من أحصاها دخل الجنة، فاختصت بهذه الفضيلة. وأسماء الله غير محصورة في هذا العدد فله سبحانه أسماء غيرها، إذ هذه هي دلالة الحديث التي نقل النووي الاتفاق عليها في قوله: (واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها) (¬9). وقد مثل العلماء لهذا بقول من يملك ألف مملوك: إن لي مائة مملوك أعددتهم للجهاد, فليس قوله هذا مانعاً من أن له غيرهم معدون لغير الجهاد، فلا دلالة في الحديث لمن احتج به على حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد وأنه ليس لله من الأسماء إلا هذا العدد فقط، كما فعله ابن حزم (¬10). ومن الأدلة على تفاوت أسماء الله في الفضل: الحديث المتقدم الذي فيه أن أسماءه سبحانه أقسام منها ما استأثر الله بعلمه، ومنها ما أنزله في كتابه، ومنها ما علمه أحداً من خلقه، ففي هذا دلالة على تفاوتها وعلى اختصاص كل منها بخصيصة. ثم أن كل دليل منك كتاب وسنة دل على تفاضل صفات الله التي تدل عليها أسماؤه، هو دليل على تفاضل تلك الأسماء، لتفاضل دلالتها، لأن الاسم يراد لمعناه لا لحروفه. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفيي - ص 68 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3475)، وابن ماجه (3125)، والحاكم (1/ 684). من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). ورواه ابن ماجه (3858). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬2) رواه الترمذي (3544)، وأحمد (3/ 245) (13595). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 159): ورجال أحمد ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس وإن كان ثقة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 430) كما قال ذلك في المقدمة. ورواه الحاكم (1/ 683). من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد على شرط مسلم. (¬3) رواه أبو داود (1495)، والنسائي (3/ 52)، وأحمد (3/ 158) (12632). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داد)). (¬4) لم أقف على هذه الرواية. (¬5) لم أقف على هذه الرواية. (¬6) رواه الطبراني (11/ 360) (12043). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 159): رواه الطبراني في ((الأوسط))، و ((الكبير)) وفيه من لم أعرفهم. (¬7) ((مشكل الآثار للطحاوي)) (1/ 61) ((فتح الباري)) (11/ 224) فقد ذكر أربعة عشر قولاً في تعيين الاسم الأعظم. (¬8) رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬9) ((شرح مسلم)) (17/ 5) و ((المقصد الأسني)) (131) و ((الفتاوى)) (6/ 381) و ((بدائع الفوائد)) (1/ 166). (¬10) ((المحلى)) (1/ 30) و ((الدرة)) (242).

المطلب الثاني: وجوه تفاضل أسماء الله

المطلب الثاني: وجوه تفاضل أسماء الله والناظر في أسماء الله يجد أنها تتفاوت من وجوه عدة يظهر بها تفاضلها، فمن ذلك: أن أسماءه تعالى منها ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره، وهو غالب الأسماء، كالقدير, والسميع, والبصير, والعزيز, والحكيم، وهذا يسوغ أن يدعا به مفرداً ومقترناً بغيره، فتقول: يا عزيز، يا حليم، يا غفور، يا رحمن، يا رحيم، وأن يفرد كل اسم، وكذلك في الثناء عليه الخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد والجمع، ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقروناً بمقابله كالمانع والضار والمنتقم، فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفو، فهو المعطي المانع، الضار النافع، المنتقم العفو، المعز المذل، لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله، لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم عطاء ومنعاً ونفعاً وضراً وعفواً وانتقاماً، وأما أن يثني عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار فلا يسوغ، فهذه الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت، جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجيء مفردة، ولم تطلق عليه إلا مقترنة، فاعلمه، فلو قلت يا مذل, يا ضار, يا مانع, وأخبرت بذلك لم تكن مثنياً عليه, ولا حامداً له حتى تذكر مقابلها (¬1) فهذا وجه من وجوه تفاوتها يظهر به تفاضلها, فليس الاسم الدال على الكمال بمفرده مساوياً للذي لا يدل على الكمال إلا باقترانه بمقابله. ومن ذلك: أن من أسمائه سبحانه ما يدل على صفة واحدة كالسميع والبصير، ومنها ما يدل على صفات عديدة لا تختص بصفة معينة كالمجيد والعظيم، فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، وهو موضوع لبلوغ النهاية في كل محمود، ولنيل الشرف بكرم الفعال، وللكثرة، ولذا قالوا: استمجد المرخ والعفار أي استكثرا من النار حتى تناهيا في ذلك حتى إنه يقبس منهما. وكذا العظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال، وكذلك الصمد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الصمد، السيد الذي كمل في سؤدده, والشريف الذي كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد) (¬2). ومن ذلك: أن من الأسماء ما يتضمن سلب صفة نقص عن الله، وهي الصفة المقابلة للصفة التي يثبتها الاسم، كالبصير مثلا فيها سلب صفة نقص عن الله وهي العمى سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس، ومنها ما يرجع إلى التنزيه المحض من كل نقص وعيب جملة وتفصيلاً فيكون متضمناً للكمال المحض كالقدوس والسلام، وهو وجه قريب من سابقه. ومن ذلك: أن من أسمائه سبحانه ما يدل على صفة بعينها، ومنها ما يدل على تلك الصفة وزيادة، كالعليم يدل على صفة العلم مطلقاً، والخبير يدل على علمه بالأمور الباطنة، وكذلك الغني هو الذي استغنى بنفسه عن كل شيء فلا يحتاج إلى شيء، والملك أيضاً لا يحتاج إلى شيء ولكنه يحتاج إليه كل شيء، فيكون الملك مفيداً معنى الغني وزيادة (¬3). ويدل على تفاوت الأسماء الحسنى في الفضل، وجود أسماء منها دالة على صفة واحدة، واشتقاقها واحد، مع الاختلاف في مبانيها، مثل: القدير المقتدر القادر، والغفور الغفار الغافر، والرحمن الرحيم، ونحو ذلك فإن كلاً منها معدود اسماً مستقلاً، وهي متغايرة متفاضلة، دل على تفاضلها صيغ مبانيها، فإن فعال وفعيل وفعلان صيغ مبالغة و (فعال) أبلغ من (فاعل)، ثم (فعلان) أبلغ من (فعيل)، ولذا ذكر ابن جرير أنه لا تمانع بين أهل العلم بلغات العرب أن الرحمن أبلغ من الرحيم (¬4)، وهو مذهب أكثر العلماء (¬5). قال الزمخشري: (في الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم, ولذلك قالوا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، ويقولون: إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى). وقال الغزالي: (الغافر يدل على أصل المغفرة فقط، والغفور يدل كثرة المغفرة بالإضافة إلى كثرة الذنوب حتى أن من لا يغفر إلا نوعاً واحداً من الذنوب فلا يقال له: الغفور، والغفار يشير إلى كثرة غفران الذنوب على سبيل التكرار، أي يغفر الذنوب مرة بعد أخرى، حتى إن من يغفر الذنوب جميعاً ولكن أول مرة ولا يغفر للعائد إلى الذنب مرة بعد أخرى لم يستحق اسم الغفار) (¬6) .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي - ص72 ¬

(¬1) ((بدائع الفوائد)) (1/ 167) ((تفسير الرازي)) (15/ 67). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (24/ 692)، وابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 3419). (¬3) ((المقصد الأسنى)) (22). (¬4) ((تفسير الطبري)) (1/ 42). (¬5) ((البرهان في علوم القرآن)) (2/ 504) و ((معترك الأقران)) (1/ 412). (¬6) ((المقصد الأسنى)) (22).

المطلب الثالث: دلالة تفاضل أسماء الله تعالى

المطلب الثالث: دلالة تفاضل أسماء الله تعالى تفاضل أسماء الله تعالى يدل على أنها متباينة المعاني، وأن ترادفها إنما هو من جهة المسمى، أي من حيث كونها جميعاً أسماء لذات واحدة هو الله عز وجل، أما من حيث معانيها فهي متباينة، ووجه دلالة تفاضلها على ذلك: أن التفاضل لا يكون إلا بين شيئين فصاعداً، إذ الواحد من كل وجه المترادف من كل وجه لا يعقل فيه شيء أفضل من شيء والأسماء إذا كانت مترادفة المعاني لا يكون في واحد منها زيادة دلالة على الآخر، بل يقوم كل واحد منها مقام الآخر، ويدل على ما يدل عليه الآخر من معنى سواء بسواء، وليست أسماء الله كذلك، بل إن كل اسم منها يدل على معنى غير المعنى الذي يدل عليه غيره منها، ولذلك وقع التفاضل فيها ولا يقع التفاضل في الأسماء المترادفة، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيراً بمرادف محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم (¬1). ويدل تفاضل أسماء الله كذلك على أنها أسماء تدل على معان وصفات، وليست أعلاماً محضة لا مفهوم لها إلا مجرد الدلالة المحضة على مسماها، فإن الأعلام المحضة لا تدل على معان ولا يشتق منها أوصاف للمسمى، ولذلك لا يقع فيها التفاضل إذ لا وجه لتفاضلها، إذ لا يفهم منها جميعها إلا معنى واحد وهو الدلالة على المسمى لا غير. أما أسماء الله فهي معان وأوصاف، ولذلك تشتق منها الأوصاف لله، ولذلك وقع فيها التفاضل, ولا يقع التفاضل في الأعلام المحضة. ففي ثبوت تفاضل أسماء الله نقض لما ضل به المعتزلة ومن لف لفهم من اعتقاد أن أسماء الله أعلام مترادفة .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 76 ¬

(¬1) ((بدائع الفوائد)) (1/ 168).

الفصل الثالث: المسائل المتعلقة بالصفات

القاعدة الأولى: صفات الله تعالى كلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه. كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك وقد دل على هذا السمع، والعقل، والفطرة. أما السمع: فمنه قوله تعالى: لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل:60] والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى. وأما العقل: فوجهه أن كل موجود حقيقة، فلابد أن تكون له صفة إما صفة كمال، وإما صفة نقص والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة؛ ولهذا أظهر الله تعالى بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بالنقص والعجز فقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5] وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20 - 21] وقال عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم:42] وعلى قومه: أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:66 - 67] ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، وهي من الله تعالى، فمعطي الكمال أولى به وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولة مفطورة على محبة الله وتعظيمه وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته؟ وإذا كانت الصفة نقصاً لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى كالموت والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، والصمم ونحوها؛ لقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] وقوله عن موسى: فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52] وقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [فاطر:44] وقوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال ((إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)) (¬1) وقال: ((أيها الناس، اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائباً)) (¬2) وقد عاقب الله تعالى الواصفين له بالنقص، كما في قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وقوله: لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] ونزه نفسه عما يصفونه به من النقائص، فقال سبحانه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180 - 182] وقال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91]. ¬

(¬1) رواه البخاري (7131)، ومسلم (2933). (¬2) رواه البخاري (4202)، ومسلم (2704).

وإذا كانت الصفة كمالاً في حال، ونقصاً في حال، لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتاً مطلقاً، ولا تنفى عنه نفياً مطلقاً بل لابد من التفصيل: فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمتنع في الحال التي تكون نقصاً وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، ونحوها فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصاً في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30] وقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15 - 16] وقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182 - 183] وقوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] وقوله: قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ [البقرة:14 - 15]، ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه فقال تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فقال: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ [الأنفال:71]، ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهي صفة ذم مطلقاً وبذا عرف أن قول بعض العوام: (خان الله من يخون) منكر فاحش، يجب النهي عنه القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص27

القاعدة الثانية:

القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة ... ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تعالى، وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله لا منتهى لها، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27]. ومن أمثلة ذلك: أن من صفات الله تعالى المجيء، والإتيان، والأخذ والإمساك، والبطش، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تحصى كما قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّك [الفجر:22] وقال: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة:210] وقال: فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:11] وقال: وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ [الحج:65] وقال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12] وقال: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) (¬1). فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول إن من أسمائه الجائي، والآتي، والآخذ، والممسك، والباطش، والمريد، والنازل، ونحو ذلك، وإن كنا نخبر بذلك عنه ونصفه به القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص30 ¬

(¬1) رواه البخاري (1145)، ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

القاعدة الثالثة:

القاعدة الثالثة: صفات الله تعالى على قسمين: ثبوتية، وسلبية فالثبوتية: ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به بدليل السمع والعقل أما السمع: فمنه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:136] فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بصفاته والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله وكون محمد صلى الله عليه وسلم رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما أخبر به عن مرسله، وهو الله – عز وجل. وأما العقل: فلأن الله تعالى أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من غيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من غيره، فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد، فإن التردد في الخبر إنما يتأتى حين يكون الخبر صادراً ممن يجوز عليه الجهل، أو الكذب، أو العي بحيث لا يفصح بما يريد، وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله – عز وجل – فوجب قبول خبره على ما أخبر به وهكذا نقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه وأصدقهم خبراً وأنصحهم إرادة، وأفصحهم بياناً، فوجب قبول ما أخبر به على ما هو عليه والصفات السلبية: ما نفاها الله – سبحانه – عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات نقص في حقه كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب فيجب نفيها عن الله تعالى – لما سبق – مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده، لا لمجرد نفيه؛ لأن النفي ليس بكمال، إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، وذلك لأن النفي عدم، والعدم ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون كمالاً، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له، فلا يكون كمالاً كما لو قلت: الجدار لا يظلم وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصاً، كما في قول الشاعر: قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل وقول الآخر: لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا مثال ذلك: قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته. مثال آخر: قوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] ونفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله. مثال ثالث: قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [فاطر:44] فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته ولهذا قال بعده: إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44] لأن العجز سببه إما الجهل بأسباب الإيجاد، وإما قصور القدرة عنه فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض وبهذا المثال علمنا أن الصفة السلبية قد تتضمن أكثر من كمال القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص31

القاعدة الرابعة:

القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر. ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية، كما هو معلوم. أما الصفات السلبية فلم تذكر غالباً إلا في الأحوال التالية: الأولى: بيان عموم كماله كما في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]. الثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون، كما في قوله: أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم:91 - 92]. الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين، كما في قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16] وقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [ق:38] القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص33

القاعدة الخامسة:

القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، والعلو، والعظمة، ومنها الصفات الخبرية، كالوجه، واليدين، والعينين والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا. وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين، كالكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء كما في قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها لكننا نعلم علم اليقين أنه – سبحانه – لا يشاء شيئاً إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]. القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص34

القاعدة السادسة:

القاعدة السادسة: يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين أحدهما: التمثيل والثاني: التكييف فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين، وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل أما السمع: فمنه قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقوله: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17] وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4] وأما العقل فمن وجوه: الأول: أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تبياناً في الذات، وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات؛ لأن صفة كل موصوف تليق به، كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات، فقوة البعير مثلاً غير قوة الذرة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإمكان والحدوث، فظهور التباين بينها وبين الخالق أجلى وأقوى الثاني: أن يقال: كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهاً في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى من يكمله، وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق؟! فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصاً الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية، فنشاهد أن للإنسان يداً ليست كيد الفيل، وله قوة ليست كقوة الجمل، مع الاتفاق في الاسم، فهذه يد وهذه يد، وهذه قوة وهذه قوة، وبينهما تباين في الكيفية والوصف، فعلم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاق في الحقيقة والتشبيه كالتمثيل، وقد يفرق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصفات، لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وأما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا، من غير أن يقيدها بمماثل وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل أما السمع: فمنه قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110] وقوله: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا؛ لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفنا قفواً لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله – عز وجل – فوجب بطلان تكييفها وأيضاً فإننا نقول: أي كيفية تقدرها لصفات الله تعالى؟ إن أي كيفية تقدرها في ذهنك، فالله أعظم وأجل من ذلك وأي كيفية تقدرها لصفات الله تعالى فإنك ستكون كاذباً فيها؛ لأنه لا علم لك بذلك وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديراً بالجنان، أو تقديراً باللسان، أو تحريراً بالبنان ولهذا لما سئل مالك – رحمه الله تعالى – عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ أطرق رحمه الله برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" وروى عن شيخه ربيعة أيضاً: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي فوجب الكف عنه فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته، فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته، فالجأ إلى ربك فإنه معاذك، وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك، قال الله تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36]. القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص35

القاعدة السابعة:

القاعدة السابعة: صفات الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها فلا نثبت لله تعالى من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث" ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه: الأول: التصريح بالصفة كالعزة، والقوة، والرحمة، والبطش، والوجه، واليدين ونحوها الثاني: تضمن الاسم لها مثل: الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع، ونحو ذلك. الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين، الدال عليها – على الترتيب – قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) الحديث (¬1) وقول الله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] وقوله: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22]. القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين- ص38 ¬

(¬1) رواه البخاري (1145)، ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

القاعدة الثامنة

القاعدة الثامنة (التوقف في الألفاظ المجملة التي لم يرد إثباتها ولا نفيها، أما معناها؛ فَيُسْتفصل عنه، فإن أريد به باطل يُنَزَّه الله عنه؛ رُدَّ، وإن أريد به حق لا يمتنع على الله؛ قُبِلَ، مع بيان ما يدلُّ على المعنى الصواب من الألفاظ الشرعية، والدعوة إلى استعماله مكان هذا اللفظ المجمل الحادث) (¬1). مثاله: لفظة (الجهة): نتوقف في إثباتها ونفيها، ونسأل قائلها: ماذا تعني بالجهة؟ فإن قال: أعني أنه في مكان يحويه قلنا: هذا معنى باطل يُنَزَّه الله عنه، ورددناه وإن قال: أعني جهة العلو المطلق؛ قُلْنا: هذا حق لا يمتنع على الله وقبلنا منه المعنى، وقلنا له: لكن الأولى أن تقول: هو في السماء، أو في العلو؛ كما وردت به الأدلة الصحيحة، وأما لفظة (جهة)؛ فهي مجملة حادثة، الأولى تركها. ¬

(¬1) (التدمرية/ 65)، (مجموع الفتاوى) (5/ 299 و6/ 36).

القاعدة التاسعة:

القاعدة التاسعة: (كل صفة ثبتت بالنقل الصحيح؛ وافقت العقل الصريح، ولابد) (¬1) ¬

(¬1) (مختصر الصواعق المرسلة) (1/ 141، 253).

القاعدة العاشرة:

القاعدة العاشرة: (صفات الله عَزَّ وجَلَّ يستعاذ بها ويُحلف بها) (¬1). ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك)) رواه مسلم (¬2)، ولذلك بوب البخاري في كتاب الأيمان والنذور: باب: الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 143، 229) و (35/ 273)، وانظر: ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 185 - 187)، وفَرَّق بعضهم بين الحلف بالصفة الفعليَّة والصفة الذاتِيَّة، وقالوا: لا يجوز الحلف بصفات الفعل. (¬2) رواه مسلم (486).

القاعدة الحادية عشرة:

القاعدة الحادية عشرة: (الكلام في الصفات كالكلام في الذات) (¬1). فكما أن ذاته حقيقية لا تشبه الذوات؛ فهي متصفة بصفات حقيقية لا تشبه الصفات، وكما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، كذلك إثبات الصفات. ¬

(¬1) ((الكلام على الصفات)) للخطيب البغدادي (ص20)، ((الحجة في بيان المحجة)) لقوام السنة (1/ 174)، ((التدمرية)) (ص43)، ((مجموع الفتاوى)) (5/ 330، 6/ 355).

القاعدة الثانية عشرة:

القاعدة الثانية عشرة: (القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر) (¬1). فمن أقر بصفات الله؛ كالسمع، والبصر، والإرادة، يلزمه أن يقر بمحبة الله، ورضاه، وغضبه، وكراهيته يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز؛ كان متناقضاً في قوله، متهافتاً في مذهبه، مشابهاً لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض. ¬

(¬1) ((التدمرية)) (ص31)، ((مجموع الفتاوى)) (5/ 212).

القاعدة الثالثة عشرة:

القاعدة الثالثة عشرة: (ما أضيف إلى الله مما هو غير بائنٍ عنه؛ فهو صفة له غير مخلوقة، وكلُّ شيء أضيف إلى الله بائن عنه؛ فهو مخلوق؛ فليس كل ما أضيف إلى الله يستلزم أن يكون صفةً له) (¬1). مثال الأول: سمعُ الله، وبصرُ الله، ورضاه، وسخطُه ومثال الثاني: بيت الله، وناقة الله. القاعدة الرابعة عشرة: (صفات الله عَزَّ وجَلَّ وسائر مسائل الاعتقاد تثبت بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان حديثاً واحداً، وإن كان آحاداً) (¬2). ¬

(¬1) ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (3/ 145)، ((مجموع الفتاوى)) (9/ 290) له أيضاً، ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (1/ 166). (¬2) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 332، 412، 433).

القاعدة الخامسة عشرة:

القاعدة الخامسة عشرة: (ما جاء في الكتاب أو السنة، وجب على كل مؤمن القول بموجبه والإيمان به، وإن لم يفهم معناه) (¬1). ¬

(¬1) ((التدمرية)) (ص: 65)، ((مجموع الفتاوى)) (5/ 298)، ((دقائق التفسير)) (5/ 245).

القاعدة السادسة عشرة:

القاعدة السادسة عشرة: (باب الأخبار أوسع من باب الصفات، وما يطلق عليه من الأخبار؛ لا يجب أن يكون توقيفياً؛ كالقديم، والشيء، والموجود) (¬1). ¬

(¬1) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/ 162).

القاعدة السابعة عشرة:

القاعدة السابعة عشرة: (صفات الله عَزَّ وجَلَّ لا يقاس عليها) (¬1). فلا يقاس السخاءُ على الجود، ولا الجَلَدُ على القوة، ولا الاستطاعةُ على القدرة، ولا الرقة على الرحمة والرأفة، ولا المعرفة على العلم وهكذا؛ لأن صفات الله عَزَّ وجَلَّ لا يتجاوز فيها التوقيف. القاعدة الثامنة عشرة: (صفات الله عَزَّ وجَلَّ لا حصر لها؛ لأن كل اسم يتضمن صفة، ... وأسماء الله لا حصر لها، فمنها ما استأثر الله به في علم الغيب عنده) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص20 ¬

(¬1) ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 111).

المبحث الثاني: أنواع الصفات

المبحث الثاني: أنواع الصفات • المطلب الأول: الصفات الثبوتية وضابطها. • المطلب الثاني: الصفات المنفية وضابطها.

المطلب الأول: الصفات الثبوتية وضابطها

المطلب الأول: الصفات الثبوتية وضابطها الصفات الثبوتية (المثبتة) هي: (الصفات التي تدل على معنى ثبوتي ووجودي) (¬1). أو هي: ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه, أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه (¬2). وأمثلة هذه الصفات كثيرة عسير حصرها، فمن ذلك: العلم، والخلق، والحياة، والقدرة، والإرادة والسمع، والبصر، والكلام، والإحياء، والإماتة، والرضى، والغضب، والوجه، واليدين، والرجل، والعلو والاستواء، وغير ذلك. فضابط الثبوتي: كل صفة ورد إثباتها لله عز وجل في كتابه, أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا النوع من الصفات الثبوتية ينقسم بدوره إلى أقسام متعددة بحسب الاعتبارات التي يرجع إليها كل تقسيم. - فتنقسم باعتبار تعلقها بذات الله عز وجل إلى: 1 - صفات ذاتية، وهي: التي لا تنفك عن الذات. كالحياة، والعلم، والقدرة، والوجه، واليدين، ونحوها. صفات فعلية، وهي: التي تتعلق بمشيئة الله وقدرته. كالخلق، والرزق، والاستواء، والمجيء، ونحوها (¬3). - وتنقسم باعتبار لزومها لذات الله عز وجل إلى: 1 - صفات لازمة، وهي: اللازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته، وهي: - إما ذاتية، وهي: ما لا يمكن تصور الذات مع تصور عدمها، كالوجه، واليدين، والقدم، والإصبع ونحوها. - وإما معنوية، وهي: ما يمكن تصور الذات مع تصور عدمها، كالحياة، والعلم، والقدرة، ونحوها. 2 - صفات عارضة (اختيارية)، وهي: التي يمكن مفارقتها للموصوف مع بقاء الذات وهي: - إما من باب الأفعال، كالاستواء، والمجيء، والنزول، ونحوها. - إما من باب الأقوال، كالتكليم، والمناداة، والمناجاة، ونحوها. - وإما من باب الأحوال، كالفرح، والضحك، والسخط، ونحوها (¬4). وتنقسم باعتبار أدلة ثبوتها إلى: 1 - الصفات الشرعية العقلية، وهي: التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي، والدليل العقلي، والفطرة السليمة، كالعلم والسمع، والبصر، والعلو، والقدرة، ونحوها. 2 - الصفات الخبرية السمعية، وهي: التي لا سبيل إلى إثباتها إلا بطريق السمع، كالاستواء، واليد، والوجه، والإصبع، والنزول، ونحوها (¬5). النفي في باب صفات الله عز وجل لأرزقي بن محمد سعيداني - ص 101 ¬

(¬1) ((الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية)) (ص: 203). (¬2) ((الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية)) (ص: 203) ((شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين)) (1/ 142)، ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى)) (ص: 28). (¬3) ((تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموع الفتاوى)) (6/ 68) ((الكواشف الجلية)) (429). (¬4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 321، 4/ 23) ((الرد على المنطقيين)) (ص: 80) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 244). (¬5) ((الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية)) (ص: 207) ((الصفات الإلهية، تعريفها وأقسامها)) (65 - 72).

المطلب الثاني: الصفات المنفية وضابطها

المطلب الثاني: الصفات المنفية وضابطها الصفات المنفية (السلبية) هي: (ما نفاه الله عز وجل عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله الله صلى الله عليه وسلم) (¬1). أو هي: (الصفات التي تقع في سياق النفي، أي: التي تدخل عليها أداة النفي، مثل: (ما) و (لا) و (ليس)) (¬2). وأمثلتها كثيرة، منها: الموت، والجهل، والعجز، والنوم، والظلم، واتخاذ الصاحبة, أو الولد, أو الشريك، ونحو ذلك. ومنهم من ذكر تعريفاً آخر للصفات المنفية فقال: (المقصود بصفات السلوب هي: التي يكون السلب داخلاً في مفهومها، فمفهوم القدم عدم الأولية، ومفهوم الوحدة عدم الشركة ونحو ذلك) (¬3). وهذا التعريف عليه بعض الاعتراضات، فهو وإن كان في أصله تعريفاً صحيحاً إلا أنه يؤاخذ عليه أمران، هما: التعريف أولاً: غير جامع فيخرج منه الصفات التي سبقت بأدوات النفي، إذ المنفي فيها هي الصفة نفسها التي هي نقص أو عيب في حق الله عز وجل، لا أن السلب داخل في مفهومها، وهذه الصفات هي الأكثر وروداً في القرآن والسنة (¬4). كما يؤاخذ عليه أيضاً: أنه أدخل في التمثيل بعض الصفات التي لم يرد ثبوتها في القرآن الكريم والسنة الصحيحة على أنها صفة، كالقدم، والقيام بالنفس, والمخالفة للحوادث مثلاً، فأهل السنة والجماعة لا يصفون الله عز وجل إلا بما وصف به نفسه, أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فباب الصفات عندهم توقيفي، وإن كان يجوز عندهم إطلاق وصف القدم, والقيام, بالنفس على الله عز وجل, وبأنه قديم وقائم بنفسه من باب الإخبار لا من باب الأسماء والصفات (¬5). على أن بعض الصفات التي يذكر المتكلمون أنها صفات سلبية ورد إطلاقها في حق الله عز وجل أسماء: كالواحد، والباقي، والغني، لكن على سبيل الإثبات لا النفي، فإن الله عز وجل يسمى الواحد ويوصف بالوحدانية، ويسمى الباقي ويوصف بالبقاء، ويسمى الغني ويوصف بالغنى المطلق عن كل ما سواه. وإن كانت هذه الصفات تتضمن نفي أضدادها، من عدم الشريك وعدم الفناء وعدم الاحتياج إلى الغير، لكن هذا يقال في جميع الصفات المثبتة، أن إثباتها على الوجه الكامل يستلزم نفي ضدها من النقص، فلو جعل هذا ضابطاً في النفي، لم يبق عندنا إلا صفات منفية فقط. والذي يجب أن يعلم أن ما من نفي ورد في القرآن والسنة – على قلته -، فإنه لم يرد إلا لإثبات كمال ضد الأمر المنفي؛ لأن النفي المحض ليس فيه مدح، ... وضابط النفي في صفات الله عز وجل: (أن ينفى عن الله تعالى: أولاً: كل صفة عيب؛ كالعمى، والصم، والخرس، والنوم، والموت .. ونحو ذلك. ثانياً: كل نقص في كماله؛ كنقص حياته، أو علمه، أو قدرته، أو عزته، أو حكمته .. أو نحو ذلك. ثالثا: مماثلة المخلوقين؛ كأن يجعل علمه كعلم المخلوق، أو وجهه كوجه المخلوق، أو استواؤه على عرشه كاستواء المخلوق .. ونحو ذلك. فمن أدلة انتفاء الأول عنه: قوله تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60]، فإن ثبوت المثل الأعلى له – وهو الوصف الأعلى – يستلزم انتفاء كل صفة عيب. ومن أدلة انتفاء الثاني: قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [ق: 38]. ومن أدلة انتفاء الثالث قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] (¬6)). النفي في باب صفات الله عز وجل لأرزقي بن محمد سعيداني – ص 103 ¬

(¬1) ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى)) (ص: 30). ((الصفات الإلهية، تعريفها وأقسامها)) (ص: 58). (¬2) ((الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية)) (ص: 201). (¬3) ((ابن تيمية السلفي لهراس)) (ص: 87). (¬4) انظر: ((الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية)) (ص: 203). (¬5) ((العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية)) (1/ 85). (¬6) ((تقريب التدمرية)) (ص: 85).

المبحث الثالث: صفات الله الواردة في الكتاب والسنة

تمهيد أحصيت جميع الصفات الفعليَّة الخبرية؛ كالضحك، والبشبشة والغضب والحب والبغض والكيد والمكر وغيرها، وبعضاً من الصفات السمعية، أما بقية الصفات الفعليَّة – السمعية العقلية –؛ فهذه لا منتهى لها، وأنَّى لأحدٍ أن يحصيها، وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27] صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص16

- الأولية

- الأولية صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، وذلك من اسمه (الأَوَّلُ)، الثابت في الكتاب والسنة، ومعناه: الذي ليس قبله شيء. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3]. الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((اللهم أنت الأوَّل؛ فليس قبلك شيء)) (¬1). قال ابن القيم: فأوليَّةُ الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أوليَّةِ كل ما سواه، وآخريَّتُه ثابتةٌ بعد آخرِيَّةِ كل ما سواه، فأوليَّتُه سَبْقُه لكل شيء، وآخريَّتُه بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريَّتُه سبحانه فوقيَّتُه وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه، وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون، فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانيَّة، ومكانيَّة، فإحاطة أوليَّتِه وآخريَّتِه بالقَبْلِ والبَعْدِ، فكل سابق انتهى إلى أوليَّتِه، وكلُ آخرٍ انتهى إلى آخريَّتِه، فأحاطت أوليَّتُه وآخريَّتُه بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريَّتُه وباطنيَّتُه بكلِّ ظاهرٍ وباطن، فما من ظاهرٍ إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أولٍ إلا والله قبله، وما من آخرٍ إلا والله بعده، فالأوَّلُ قِدَمُه، والآخرُ دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه، فسبق كلَّ شيء بأوليَّته، وبقي بعد كلُّ شيء بآخريَّتِه، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطناً، بل الباطنُ له ظاهر، والغيبُ عنده شهادة، والبعيدُ منه قريب، والسرُّ عنده علانية، فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأوَّل في آخريَّتِه، والآخر في أوليَّتِه، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً (¬2) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص38 ¬

(¬1) رواه مسلم (2713). (¬2) ((طريق الهجرتين)) (ص27).

- الإتيان والمجيء

- الإتيان والمجيء صفتان فعليتان خبريَّتان ثابتتان بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: 1 - قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210] 2 - وقوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158] 3 - وقوله: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] الدليل من السنة: 1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((وإن تقرَّب إليَّ ذراعاً؛ تقرَّبت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي؛ أتيتُه هرولةً)) (¬1) 2 - حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الرؤية: ((قال: فيأتيهم الجبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم)) (¬2) قال ابن جرير في تفسير الآية الأولى: اختُلِف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ [البقرة: 210] فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصَف به نفسه عَزَّ وجَلَّ من المجيء والإتيان والنُّزُول، وغير جائز تكلف القول في ذلك لأحدٍ إلا بخبرٍ من الله جل جلاله أو من رسولٍ مرسل، فأما القول في صفات الله وأسمائه؛ فغير جائز لأحد من جهة الاستخراج؛ إلا بما ذكرنا وقال آخرون، ثم رجَّح القول الأوَّل وقال أبو الحسن الأشعري: وأجمعوا على أنه عَزَّ وجَلَّ يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً. اهـ (¬3) وقال الشيخ محمد خليل الهرَّاس بعد أن ذكر شيخ الإسلام الآيات السابقة: في هذه الآيات إثبات صفتين من صفات الفعل، وهما صفتا الإتيان والمجيء، والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بذلك على حقيقته، والابتعاد عن التأويل الذي هو في الحقيقة إلحاد وتعطيل اهـ وانظر كلام البغوي في صفة (الأصابع) (¬4). فائدة: لقد جاءت صفتا الإتيان والمجيء مقترنتين في حديثٍ واحدٍ، رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إذا تلقَّاني عبدي بشبرٍ؛ تلقَّيْته بذراع، وإذا تلقَّاني بذراع، تلقَّيْته بباع، وإذا تلقَّاني بباع، جئتُه أتيتُه بأسرع)) (¬5) قال النووي: (هكذا هو في أكثر النسخ: ((جئتُه أتيتُه))، وفي بعضها ((جئتُه بأسرع)) فقط، وفي بعضها: ((أتيتُه))، وهاتان ظاهرتان، والأوَّل صحيح أيضاً، والجمع بينهما للتوكيد، وهو حسن، لاسيما عند اختلاف اللفظ، والله أعلم) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص39 ¬

(¬1) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). (¬2) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183). (¬3) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص227). (¬4) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص112). (¬5) رواه مسلم (2675).

- الإجابة

- الإجابة صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة، والمجيب اسمٌ من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: 1 - قوله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم [آل عمران: 195] 2 - وقوله: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود: 61]. 3 - وقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]. الدليل من السنة: 1 - حديث: ((لا يزال يستجاب للعبد؛ ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم؛ ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوتُ وقد دعوتُ فلم أر يستجيب لي، فيستحسِر عند ذلك، ويدع الدعاء)) (¬1). 2 - حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ((ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود فإذا ركعتم فعظموا ربكم وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء فإنه قَمِنٌ أن يستجاب لكم)) (¬2). قال الحافظ ابن القيم (¬3): وَهُوَ المجُيبُ يَقُوُلُ من يَدْعُو أُجِبْـ ... ـهُ أنا المجُيبُ لِكُلِّ مَنْ نَادَانِي وَهُوَ المُجيبُ لِدَعْوَةِ المُضْطَّرِّ ... يَدْعُوهُ في سِرٍّ وفي إعْلانِ قال الشيخ الهرَّاس في شرح هذه الأبيات: (ومن أسمائه سبحانه (المجيب) وهو اسم فاعل من الإجابة، وإجابته تعالى نوعان: إجابة عامة لكل من دعاه دعاء عبادة أو دعاء مسألة). وقال الشيخ السعدي: ومن آثاره الإجابة للداعين والإنابة للعابدين؛ فهو المجيب إجابة عامة للداعين مهما كانوا، وعلى أي حال كانوا؛ كما وعدهم بهذا الوعد المطلق، وهو المجيب إجابة خاصة للمستجيبين له، المنقادين لشرعه، وهو المجيب أيضاً للمضطرين ومن انقطع رجاؤهم من المخلوقين وقويَ تعلقهم به طمعاً ورجاءً وخوفاً (¬4) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص41 ¬

(¬1) رواه مسلم (2735). (¬2) رواه النسائي (2/ 217). والحديث رواه بنحوه مسلم (479). (¬3) ((النونية)) (2/ 87). (¬4) ((تفسير السعدي)) (5/ 304).

- الأحد

- الأحد يوصف الله جل وعلا بأنه الأحد، وهو اسمٌ له سبحانه وتعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]. الدليل من السنة: 1 - الحديث القدسي الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: ((وأما شتمه إياي؛ فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفأً أحد)) (¬1). 2 - حديث بريدة رضي الله عنه؛ ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد)) (¬2). معناه: 1 - الذي لا شبيه له ولا نظير قاله: البيهقي (¬3). 2 - الأحد: الفرد قاله: ابن الأثير (¬4). 3 - الذي لا نظير له ولا وزير ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحدٍ في الإثبات إلا على الله عَزَّ وجَلَّ؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله قاله: ابن كثير في تفسير سورة الإخلاص. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص43 ¬

(¬1) رواه البخاري (4974). (¬2) رواه أبو داود (1493)، والترمذي (3475)، وابن ماجه (3857)، وأحمد (5/ 349) (23002)، والحاكم (1/ 683). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجة)): صحيح. (¬3) ((الاعتقاد)) (ص67). (¬4) ((جامع الأصول)) (4/ 180).

- الإحسان

- الإحسان صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ الفعلية الثابتة بالكتاب والسنة، والإحسان يأتي بمعنيين: 1 - الإنعام على الغير، وهو زائد على العدل. 2 - الإتقان والإحكام. والمحسن من أسماء الله تعالى الدليل من الكتاب: 1 - قوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ [السجدة: 7]. 2 - وقوله: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن: 3]. 3 - وقوله: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [الطلاق: 11]. 4 - وقوله: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77]. الدليل من السنة: 1 - حديث أنس رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكمتم؛ فاعدلوا، وإذا قتلتم؛ فأحسنوا؛ فإن الله مُحْسِنٌ يحب الإحسان)) (¬1). 2 - حديث شداد بن أوس رضي الله عنه؛ قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين؛ أنه قال: ((إن الله عَزَّ وجَلَّ مُحْسِنٌ يحب الإحسان، فإذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة)) (¬2). 3 - حديث الحسن عن سمرة مرفوعاً: ((إن الله عَزَّ وجَلَّ مُحْسِنٌ؛ فأحسنوا، فإذا قتل أحدكم فليكرم قاتله وإذا ذبح فليحد شفرته وليرح ذبيحته.)) (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص43 ¬

(¬1) رواه ابن أبي عاصم في ((الدِّيَّات)) (ص94)، والطبراني في ((الأوسط)) (5735) واللفظ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (7/ 306)، وأبو نعيم في ((أخبار أصبهان)) (2/ 113). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 197):رواه الطبراني في ((الأوسط)) ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (469): وهذا إسناد جيد رجاله ثقات. وقال في ((إرواء الغليل)) (7/ 293): سنده حسن. (¬2) رواه عبدالرزاق (4/ 492)، ومن طريقه الطبراني (6/ 429)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1824). والحديث رواه مسلم (1955) بدون لفظة: ((محسن)). (¬3) رواه ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (8/ 175). والحسن اختلف في سماعه من سمرة. انظر لذلك: ((نصب الراية)) (1/ 92)، و ((التلخيص الحبير)) (2/ 67) (655). والحديث صححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1823).

- الأخذ باليد

- الأخذ باليد صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ [الأعراف: 172]. الدليل من السنة: 1 - حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: ((يأخذ الله عَزَّ وجَلَّ سماواته وأراضيه بيديه، فيقول: أنا الله - ويقبض أصابعه ويبسطها - أنا الملك)) (¬1). 2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((وما تصدق أحد بصدقة من طيِّب، ولا يقبل الله إلا الطَّيِّب؛ إلا أخذها الرحمن بيمينه)) (¬2). قال ابن فارس: الهمزة والخاء والذال أصل واحد تتفرع منه فروع متقاربة في المعنى أما (أخْذ)؛ فالأصل حَوْزُ الشيء وجَبْيه وجَمْعه، تقول أخذت الشيء آخذه أخذاً قال الخليل: هو خلاف العطاء، وهو التناول اهـ (¬3). فالأخذ إمَّا أن يكون خلاف العطاء، وهو ما كان باليد كالعطاء، وإما أخذ قهر؛ كقوله تعالى: فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:25]، وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى [هود:102]، ومنه أخذ الأرواح، وأخذ العهود والمواثيق، وهذا المعنى ظاهر، والمعنيُّ هنا المعنى الأوَّل، وكلاهما صفة لله تعالى. قال ابن القيم: ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مئة موضع وروداً متنوعاً متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقية؛ من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط وأخذ الصدقة بيمينه وأنه يطوي السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى اهـ (¬4). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: من صفات الله تعالى المجيء والإتيان والأخذ والإمساك والبطش إلى غير ذلك من الصفات فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص45 ¬

(¬1) رواه مسلم (2788). (¬2) رواه مسلم (1014). (¬3) ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 68). (¬4) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 171). (¬5) ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى)) (30).

- الأذن (بمعنى الاستماع)

- الأذن (بمعنى الاستماع) صفةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالحديث الصحيح الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((ما أذِنَ الله لشيءٍ كأَذَنِه لنبي يتغنَّى بالقرآن يجهر به)) (¬1). قال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناده: أما قوله ((كأَذَنِه))؛ يعني: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيٍ يتغنى بالقرآن، حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق:2]؛ قال: سمِعَتْ أو قال: استمعت شكَّ أبو عبيد يُقال: أذنتُ للشيء آذَنُ له أذَناً: إذا استمعتُه اهـ (¬2) وقال البغوي: قوله: ((ما أذِنَ الله لشيءٍ كأَذَنِه)) يعني: ما استمع الله لشيء كاستماعه، والله لا يشغله سمع عن سمع، يقال: أذِنْتُ للشيء آذَنُ أذَناً بفتح الذال: إذا سمعت له) (¬3) وقال الخطابي في: قوله: ((ما أذِنَ الله لشيءٍ كأَذَنِه لنبي يتغنى بالقرآن)) الألف والذال مفتوحتان، مصدر أذِنْتُ للشيء أذناً: إذا استمعت له، ومن قال: (كإذنه) فقد وهم. اهـ (¬4). وقال ابن كثير بعد أن أورد حديث: ((لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن)) قال: ومعناه أنَّ الله تعالى ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك، وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم، كما قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات (¬5)، ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم؛ كما قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس: 61] الآية، ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ؛ كما دل عليه هذا الحديث العظيم، ومنهم من فسر الأذَن ها هنا بالأمر، والأوَّل أولى؛ لقوله: ((ما أذِنَ الله لشيءٍ كأَذَنِه لنبي يتغنى بالقرآن))؛ أي: يجهر به، والأذَن: الاستماع؛ لدلالة السياق عليه ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجة بسند جيد عن فضالة بن عبيد؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد أذَناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنةِ إلى قينتِه)) (¬6) اهـ. قلت: حديث فضالة رُوي بإسنادين ضعيفين: الأوَّل: منقطع، من رواية إسماعيل بن عبيد الله عن فضالة بن عبيد، رواه أحمد في (المسند 6/ 19)، والحاكم في (المستدرك 1/ 571)، وقال: على شرط البخاري، قال الذهبي: قلت: بل هو منقطع. والإسناد الثاني: موصول، رواه ابن ماجة (1340) من طريق إسماعيل بن عبيد الله عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة به، وعلته ميسرة، قال عنه الذهبي في الميزان: ما حدَّث عنه سوى إسماعيل بن عبيد الله، وقال في (الكاشف): نكرة، وقال ابن حجر في (التقريب): مقبول. قال الأزهري: وفي الحديث: ((ما أذِنَ الله لشيءٍ كأَذَنِه لنبي يتغنى بالقرآن))، قال أبو عبيد: يعني: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن يقال: أذِنْتُ للشيء آذنُ له: إذا استمعت له)) (¬7) وقال ابن منظور في (لسان العرب): قال ابن سيدة: وأذن إليه أذَنا ً: استمع، وفي الحديث: ((ما أذِنَ الله لشيءٍ كأَذَنِه لنبي يتغنى بالقرآن))، قال أبو عبيد ثم ذكر كلام أبي عبيدٍ السابق. وقال ابن فارس: ويقال للرجل السامع من كلِّ أحدٍ: أُذُن، قال الله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61] والأذَن: الاستماع، وقيل: أذَنٌ؛ لأنه بالأذُن يكون اهـ (¬8) قلت: هذا في حق المخلوقين، أما الخالق سبحانه وتعالى؛ فشأنه أعظم، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]؛ فنحن نقول: إنَّ الله يأذن أذَناً؛ أي: يستمع استماعاً بلا كيف. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص47 ¬

(¬1) رواه البخاري (5024)، ومسلم (793) واللفظ له. (¬2) ((غريب الحديث)) (1/ 282). (¬3) ((شرح السنة)) (4/ 484). (¬4) ((غريب الحديث)) (3/ 256). (¬5) رواه البخاري (7385). عن عائشة رضي الله عنها. (¬6) ((فضائل القرآن)) (ص114 - 116). (¬7) ((تهذيب اللغة)) (15/ 16). (¬8) ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 76).

- الإرادة والمشيئة

- الإرادة والمشيئة صفتان ثابتتان بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125]. وقوله: إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1]. وقوله: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ [الإنسان: 30]. وقوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء [آل عمران: 26]. الدليل من السنة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وكَّل الله بالرحم ملكاً ... فإذا أراد الله أن يقضي خلقها؛ قال ... )) (¬1). حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أراد الله بقوم عذاباً؛ أصاب العذاب من كان فيهم ثم بُعثوا على أعمالهم)) (¬2). حديث ((إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء)) (¬3). حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)) (¬4). قال أبو الحسن الأشعري: وأجمعوا على إثبات حياة الله عَزَّ وجَلَّ، لم يزل بها حياً إلى أن قال: وإرادة لم يزل بها مريداً اهـ (¬5) وقال شيخ الإسلام - بعد أن سرد بعض الآيات السابقة وغيرها -: وكذلك وصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة ومعلوم أنَّ مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته00 اهـ (¬6) وله رحمه الله كلام طويل حول هذه الصفة في (دقائق التفسير) (¬7) وانظر كلام ابن كثير في صفة (السمع) ويجب إثبات صفة الإرادة بقسميها الكوني والشرعي؛ فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص49 ¬

(¬1) رواه البخاري (6595)، ومسلم (2646). (¬2) رواه مسلم (2879). (¬3) رواه مسلم (2846). (¬4) رواه مسلم (595). (¬5) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص214). (¬6) ((التدمرية)) (25). (¬7) انظر: (5/ 184 - 193).

- استطابة الروائح

- استطابة الروائح صفةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالسنَّةِ الصحيحة، الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) (¬1) قال الحافظ ابن القيم: من المعلوم أنَّ أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك فمثَّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم، ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين كما أنَّ رضاه وغضبه وفرحه وكراهيته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك كما أنَّ ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم، وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه والعمل الصالح فيرفعه وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا، ثم إنَّ تأويله لا يرفع الإشكال إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله في الرضا فإن قال: رضا ليس كرضا المخلوقين فقولوا: استطابة ليست كاستطابة المخلوقين وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب أهـ (¬2) وقال الشيخ علي الشبل: والذي قَرَّظه عددٌ من العلماء وفي مقدمتهم الإمام عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: والاستطابة لرائحة خلوف فم الصائم من جنس الصفات العُلى، يجب الإيمان بها مع عدم مماثلة صفات المخلوقين (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص51 ¬

(¬1) رواه البخاري (5583)، ومسلم (1151). (¬2) ((الوابل الصيب)) (1/ 52). (¬3) ((التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري)) (ص36).

- الاستهزاء بالكافرين

- الاستهزاء بالكافرين صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ في كتابه العزيز الدليل: قوله تعالى: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 14 - 15] قال ابن فارس: الهزء: السخرية، يُقال: هزيءَ به واستهزأ. أهـ وقال ابن جرير الطبري في تفسير الآية بعد أن ذكر الاختلاف في صفة الاستهزاء: والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أنَّ معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزِيء للمستَهْزَأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهراً، وهو بذلك من قِيِله وفعلِه به مورثه مساءة باطناً، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر ثم قال: وأما الذين زعموا أنَّ قول الله تعالى ذكره اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة؛ فنافون عن الله عَزَّ وجَلَّ ما قد أثبته الله عَزَّ وجَلَّ لنفسه وأوجبه لها، وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم ويقال لقائل ذلك: إنَّ الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم، وأخبرنا عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا الله تعالى فيما ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء منه؛ فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرقه وخسف به، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به؟! اهـ (¬1). وقال قوَّام السنة الأصبهاني: وتولى الذب عنهم (أي: عن المؤمنين) حين قالوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، فقال: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وقال: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ [التوبة:79]، وأجاب عنهم فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء [البقرة:13]؛ فأجل أقدارهم أن يوصفوا بصفة عيب، وتولى المجازاة لهم، فقال اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] وقال سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ [التوبة 79]؛ لأن هاتين الصفتين إذا كانتا من الله؛ لم تكن سفهاً؛ لأن الله حكيم، والحكيم لا يفعل السفه، بل ما يكون منه يكون صواباً وحكمة اهـ (¬2). وقال شيخ الإسلام رداً على الذين يدَّعون أنَّ هناك مجازاً في القرآن: وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ (المكر) و (الاستهزاء) و (السخرية) المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة؛ كانت ظلماً له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله؛ كانت عدلاً؛ كما قال تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76] فكاد له كما كادت إخوته لما قال له أبوه لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا [يوسف:5]، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15] وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل:50] وقال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ [التوبة:79] ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلاً يستحق هذا الاسم؛ كما روى عن ابن عباس؛ أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه، فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون إليه، فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون قال تعالى فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:36] وعن الحسن البصري: إذا كان يوم القيامة؛ خمدت النار لهم كما تخمد الإهالة من القدر، فيمشون، فيخسف بهم وعن مقاتل: إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب؛ باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً وقال بعضهم: استهزاؤه: استدراجه لهم وقيل: إيقاع استهزائهم ورد خداعهم ومكرهم عليهم وقيل: إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة وقيل: هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه وهذا كله حق، وهو استهزاء بهم حقيقة)) اهـ (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص52 ¬

(¬1) ((مجمل اللغة)) (904). (¬2) ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 168). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 111). وانظر كلام ابن القيم في صفة (الخداع) في ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 34).

- الاستواء على العرش انظر: ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 387)، و ((رسالة في الاستواء والفوقية)) لأبي محمد الجويني، و ((دقائق التفسير)) لابن تيمية (5/ 237 - 244)، (6/ 436 - 439).

- الاستواء على العرش (¬1) صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54، يونس: 3، الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4]. الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده، فقال: ((يا أبا هريرة! إن الله خلق السماوات والأرضين وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش)) (¬2). حديث قتادة بن النعمان رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما فرغ الله من خلقه؛ استوى على عرشه)) (¬3). ومعنى الاستواء: العلو، والارتفاع، والاستقرار، والصعود؛ كما في نونية ابن القيم (¬4) قال رحمه الله: فلهم عبارات عليها أربع قد ... حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك أر ... تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو أربع وانظر أيضاً: صفة (العلو)، وكلام البغوي في صفة (الأصابع) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص55 ¬

(¬1) انظر: ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 387)، و ((رسالة في الاستواء والفوقية)) لأبي محمد الجويني، و ((دقائق التفسير)) لابن تيمية (5/ 237 - 244)، (6/ 436 - 439). (¬2) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 427). قال الذهبي في ((العلو)) (ص94): غريب. وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (71): جيد الإسناد. (¬3) ذكره الذهبي في ((العلو)) (63)، وفي ((العرش)) (62)، وابن القيم في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص51). قال الذهبي في ((العلو)): رواته ثقات رواه أبو بكر الخلال في كتاب السنة له، وقال في ((العرش)): إسناده صحيح على شرط الصحيحين. وقال ابن القيم - قبل أن يذكره -: روى الخلال في كتاب السنة بإسناد صحيح على شرط البخاري عن قتادة - ثم ذكره -. (¬4) (1/ 215) تحقيق هرَّاس.

- الأسف (بمعنى الغضب)

- الأسف (بمعنى الغَضَب) صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب العزيز الدليل: قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] وقد استشهد بها شيخ الإسلام ابن تيمية في (العقيدة الواسطية)، وكل من شرحها بعد ذلك. قال ابن قتيبة: فَلَمَّا آسَفُونَا؛ أي: أغضبونا، والأسف: الغضب، يُقال: أسِفت آسَف أسفاً؛ أي: غضبت اهـ ونقل هذا المعنى ابن جرير في التفسير بإسناده عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد (¬1) قال الهرَّاس: الأسف يُستعمل بمعنى شدة الحزن، وبمعنى شدة الغضب والسخط، وهو المراد في الآية اهـ (¬2). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص56 ¬

(¬1) ((تفسير غريب القرآن)) (399). (¬2) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص111). وانظر أيضاً: (تهذيب اللغة 13/ 96).

- الأصابع

- الأصابع صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالسُّنَّة الصحيحة الدليل: 1 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن)) (¬1). 2 - حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم! إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع إلى أن قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قرأ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)) (¬2). قال إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة: (باب إثبات الأصابع لله عَزَّ وجَلَّ)، وذكر بأسانيده ما يثبت ذلك (¬3). وقال أبو بكر الآجري: (باب الإيمان بأن قلوب الخلائق بين إصبعين من أصابع الرب عَزَّ وجَلَّ، بلا كيف) (¬4) وقال البغوي بعد ذكر الحديث السابق: (والإصْبَع المذكورة في الحديث صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ، وكذلك كلُّ ما جاء به الكتاب أو السنَّة من هذا القبيل من صفات الله تعالى؛ كالنَّفس، والوجه، والعين، واليد، والرِّجل، والإتيان، والمجيء، والنُّزُول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح) اهـ (¬5) وقال ابن قتيبة بعد أن ذكر حديث عبد الله بن عمرو السابق: ونحن نقول: إنَّ هذا الحديث صحيح، وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث؛ لأنه عليه السلام قال في دعائه: ((يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك فقالت له إحدى أزواجه: أوَ تخاف يا رسول الله على نفسك؟ فقال: إنَّ قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله عَزَّ وجَلَّ)) (¬6)، فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى؛ فهو محفوظ بتينك النعمتين؛ فلأي شيء دعا بالتثبيت؟ ولِمَ احتج على المرأة التي قالت له: أتخاف على نفسك؟ بما يؤكد قولها؟ وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروساً بنعمتين فإن قال لنا: ما الإصبع عندك ها هنا؟ قلنا: هو مثل قوله في الحديث الآخر: ((يحمل الأرض على إصبع))، وكذا على إصبعين، ولا يجوز أن تكون الإصبع ها هنا نعمة، وكقوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، ولم يجز ذلك ولا نقول: إصبعٌ كأصابعنا، ولا يدٌ كأيدينا، ولا قبضةٌ كقبضاتنا؛ لأن كل شيء منه عَزَّ وجَلَّ لا يشبه شيئاً منا)) اهـ (¬7) فأهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى أصابع تليق به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص57 ¬

(¬1) رواه مسلم (2654). (¬2) رواه البخاري (7415) ومسلم (2786). (¬3) ((التوحيد)) (1/ 187). (¬4) ((الشريعة)) (ص316). (¬5) ((شرح السنة)) (1/ 168). (¬6) بنفس اللفظ الذي ذكره ابن قتيبة غير موجود، ولكن رواه الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها وحسنه بلفظ مقارب في سننه (3522) وصححه الألباني، وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها (6/ 91) (24648) والطبراني في الأوسط (2/ 147) وقال الهيثمي: فيه العلاء بن الفضل قال ابن عدى في بعض ما يروية نكرة، وبقية رجاله وثقوا وفيهم خلاف. (¬7) ((تأويل مختلف الحديث)) (ص245).

- الإلهية والألوهية

- الإلهية والألوهية صفةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ من اسمه (الله) واسمه (الإله)، وهما اسمان ثابتان في مواضع عديدة من كتاب الله عَزَّ وجَلَّ وأصل كلمة (الله) إله كما رجَّحَه ابن القيم في (بدائع الفوائد)، وإله بمعنى مألوه؛ أي: معبود؛ ككتاب بمعنى مكتوب والإلهية أو الألوهية صفة مأخوذة من هذين الاسمين. قال الحافظ ابن القيم عند الحديث عن أسماء الله تعالى (الله)، (الرب)، (الرحمن)؛ قال: فالدين والشرع والأمر والنهي مظهره وقيامه من صفة الإلهية، والخلق والإيجاد والتدبير والفعل من صفة الربوبية، والجزاء والثواب والعقاب والجنة والنار من صفة الملك (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في: الله: هو المألوه المعبود ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال (¬2). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص59 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 34). (¬2) ((تفسير السعدي)) (5/ 298).

- الأمر

- الأمر صفةٌ لله عَزَّ وجَلَّ؛ كما قال في محكم تَنْزِيله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54]؛ إلا أنَّ هذا لا يعني أنه كلما ذكرت كلمة (الأمر) في الكتاب أو السنة مضافة إلى الله؛ مثل (أمر الله) أو (الأمر لله)؛ أنها صفة له لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية مثبتاً لهذه الصفة ومنبهاً لهذه القاعدة بقوله: لفظة (الأمر)؛ فإن الله تعالى لما أخبر بقوله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقال: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، واستدل طوائف من السلف على أنَّ الأمر غير مخلوق، بل هو كلامه، وصفة من صفاته بهذه الآية وغيرها؛ صار كثير من الناس يطرد ذلك في لفظ الأمر حيث ورد، فيجعله صفة، طرداً للدلالة، ويجعل دلالته على غير الصفة نقضاً لها، وليس الأمر كذلك؛ فبينت في بعض رسائلي أنَّ الأمر وغيره من الصفات يطلق على الصفة تارة وعلى متعلقها أخرى؛ فالرحمة صفة لله، ويسمى ما خلق رحمة، والقدرة من صفات الله تعالى، ويسمى المقدور قدرة، ويسمى تعلقها بالمقدور قدرة، والخلق من صفات الله تعالى، ويسمى (المخلوق) خلقاً، والعلم من صفات الله، ويسمى المعلوم أو المتعلِّق علماً؛ فتارة يراد الصفة، وتارة يراد متعلقها، وتارة يراد نفس التعلُّق اهـ وقال أبو الحسن الأشعري: وأجمعوا على أنَّ أمره عَزَّ وجَلَّ وقوله غير محدث ولا مخلوق، وقد دلَّ الله تعالى على صحة ذلك بقوله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ اهـ (¬1). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص60 ¬

(¬1) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص221).

- الإمساك

- الإمساك يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه يمسك السماواتِ والأرضَ وغيرهما إمساكاً يليق بجلاله وعظمته، وهي صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا [فاطر:41]. الدليل من السنة: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((أنَّ يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] وفي رواية: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً له)) (¬1) قال ابن خزيمة: (باب ذكر إمساك الله -تبارك وتعالى اسمه وجل ثناؤه- السماوات والأرض وما عليها على أصابعه) (¬2). ثم أورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناده من عدة طرق، ثم قال: أما خبر ابن مسعود؛ فمعناه: أنَّ الله جل وعلا يمسك ما ذكر في الخبر على أصابعه، على ما في الخبر سواء، قبل تبديل الله الأرض غير الأرض؛ لأن الإمساك على الأصابع غير القبض على الشيء، وهو مفهوم في اللغة التي خوطبنا بها اهـ (¬3) وقال أبو بكر الآجري: (باب الإيمان بأن الله عَزَّ وجَلَّ يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع) وقال ابن القيم في (مختصر الصواعق المرسلة 2/ 171): ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مئة موضع، وروداً متنوعاً متصرفاً فيه مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقة؛ من: الإمساك، والطي، والقبض، والبسط أهـ (¬4) وانظر: صفة القبض والطي. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص61 ¬

(¬1) رواه البخاري (7414) واللفظ له، ومسلم (2786). (¬2) ((التوحيد)) (1/ 178). (¬3) ((التوحيد)) (ص 185). (¬4) ((الشريعة)) (ص318).

- الأنامل

- الأنامل صفةٌ ذاتيةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالحديث الصحيح الدليل: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((فإذا أنا بربي عَزَّ وجَلَّ - يعني: في المنام، ورؤى الأنبياء حقٌ - في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب! قال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب! قال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب! فرأيته وضع كفه بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله في صدري)) (¬1) قال شيخ الإسلام: فقوله (أي: الرازي): وجدت برد أنامله؛ أي: معناه وجدت أثر تلك العناية يقال له: أثر تلك العناية كان حاصلاً على ظهره وفي فؤاده وصدره؛ فتخصيص أثر العناية لا يجوز؛ إذ عنده لم يوضع بين الكتفين شيء قط، وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه، فكان يجب أن يبين أنَّ أثر تلك العناية متعلق بما يعم، أو بأشرف الأعضاء، وما بين الثديين كذلك؛ بخلاف ما إذا قرأ الحديث على وجهه؛ فإنه إذا وضعت الكف على ظهره؛ ثقل بردها إلى الناحية الأخرى، وهو الصدر، ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس وأيضاً فقول القائل: وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي نصٌ لا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد الاعتناء، وهذا أمر يعلم بطلانه بالضرورة من اللغة العربية، وهو من غث كلام القرامطة والسوفسطائية. . ثم قال: الوجه السادس: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أشياء؛ حيث قال: ((فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها - وفي رواية - برد أنامله على صدري، فعلمت ما بين المشرق والمغرب)) (¬2)، فذكر وضع يده بين كتفيه، وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين ثدييه، وهذا معنى ثان، وهو وجود هذا البرد عن شيء مخصوص في محل مخصوص، وعقب ذلك بقوله: الوضع الموجود (كذا)، وكل هذا يبين أنَّ أحد هذه المعاني ليس هو الآخر اهـ (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص62 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3235)، وأحمد (5/ 243) (22162). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح؛ سألت محمد بن إسماعيل - البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (4/ 73)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. والحديث روي عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن سمرة وثوبان رضي الله عنهم جميعاً. (¬2) رواه الترمذي (3233، 3234)، وأحمد (1/ 368) (3484)، وأبو يعلى (4/ 475)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (293) بلفظ: ((ثديي)) بدلاً من ((صدري)). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 162): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) ((نقض أساس التقديس)) (ق524 - 526).

- الأنتقام من المجرمين

- الأنتقام من المجرمين يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه (ذو انتقام)، وأنه ينتقم من المجرمين؛ كما يليق به سبحانه، وهي صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، وليس (المنتقم) من أسماء الله تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة: 95] وقوله: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة: 22] الدليل من السنة: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقوله عن قريش: (فكشف عنهم، فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر؛ فذلك قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ إلى قوله جل ذكره إِنَّا مُنتَقِمُونَ) (¬1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((فقال للنار: أنت عذابي، أنتقم بك ممَّن شئت، وقال للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من شئت)) (¬2) قال الأزهري في (تهذيب اللغة): قال أبو إسحاق: معنى (نقمت): بالغت في كراهة الشيء اهـ وقال الراغب في (المفردات): النقمة: العقوبة: قال الله تعالى: فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ [الأعراف:136]، فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الروم:47] وقال الخطابي: الانتقام: افتعال من نقم ينقم: إذا بلغت به الكراهة حد السخط (¬3) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا في أسمائه الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم اسم المنتقم، وإنما جاء المنتقم في القرآن مقيداً كقوله: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22] وجاء معناه مضافاً إلى الله في قوله: إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم:47] اهـ (¬4) وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه: الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها؛ كالاستواء على العرش، والنُّزُول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين، ثم استدل للصفة الأخيرة بقوله تعالى: إِنَّا مِنْ المُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22] اهـ (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص63 ¬

(¬1) رواه البخاري (4822). (¬2) رواه الترمذي (2561)، وأحمد (2/ 450) (9815). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ووافقه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). والحديث في الصحيحين حيث رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846) بلفظ ((أعذب)) بدلاً من ((أنتقم)). (¬3) ((شأن الدعاء)) (ص90). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 95). (¬5) ((القواعد المثلى)) (ص38).

- الإيجاب والتحليل والتحريم

- الإيجاب والتحليل والتحريم صفاتٌ فعليةٌ ثابتةٌ لله تعالى بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] الدليل من السنة: 1 - حديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: ((من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً فلا يقربنَّا في المسجد، فقال الناس حرمت حرمت فبلغ ذاك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس إنه ليس بي تحريم ما أحلَّ الله لي ولكنها شجرة أكره ريحها)) (¬1). 2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت: نعم! لوجبت ولما استطعتم)) (¬2). وقوله لوجبت أي: لأوجبها الله عزَّ وجلَّ قال شيخ الإسلام: الحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلفٌ بصفاتِ الله، فإنَّه إذا قال: إن فعلتُ كذا فعلي الحج فقد حلف بإيجاب الحج عليه وإيجاب الحج عليه حكمٌ من أحكام الله تعالى وهو من صفاته، وكذلك لو قال: فعلي تحريرُ رقبة، وإذا قال: فامرأتي طالقٌ وعبدي حرٌ فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه والتحريم من صفات الله كما أنَّ الإيجاب من صفات الله اهـ (¬3) وانظر صفة: (التشريع). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص65 ¬

(¬1) رواه مسلم (565). (¬2) رواه مسلم (1337). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 273).

- البارئ

- البارئ يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه البارئ، وهو اسم له سبحانه وتعالى، وهذه الصفةُ ثابتةٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ [الحشر: 24]. وقوله: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [البقرة: 54]. الدليل من السنة: حديث أبي جحيفة؛ قال: سألت علياً رضي الله عنه: هل عندكم شيء ما ليس في القرآن؟ فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة؛ ما عندنا إلا ما في القرآن؛ إلا فهماً (¬1). قال ابن قتيبة: ومن صفاته (البارئ)، ومعنى (البارئ): الخالق، يُقال: برأ الخلق يبرؤهم، والبريَّة: الخلق اهـ (¬2) وقال الزجاج: البرء: خلق على صفة، فكل مبروء مخلوق، وليس كل مخلوق مبروء (¬3) وقال ابن الأثير: البارئ: هو الذي خلق الخلق، لا عن مثال، إلا أنَّ لهذه اللفظة من الاختصاص بالحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلما تستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة، وخلق السماوات والأرض (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص66 ¬

(¬1) رواه البخاري (6903). (¬2) ((تفسير غريب القرآن)) (ص15). (¬3) ((تفسير الأسماء الحسنى)) (ص37). (¬4) ((جامع الأصول)) (4/ 177).

- الباطن (الباطنية)

- الباطن (الباطنية) يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الباطن، وهو اسم له ثابت بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة: ((اللهم أنت الأوَّل؛ فليس قبلك شيء وأنت الباطن؛ فليس دونك شيء)) (¬1) والمعنى كما قال ابن جرير: هو الباطن لجميع الأشياء؛ فلا شيء أقرب إلى شيء منه؛ كما قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] وقال ابن منده: الباطن: المحتجب عن ذوي الألباب كنه ذاته وكيفية صفاته عَزَّ وجَلَّ (¬2) وقال البغوي في (التفسير): الباطن: العالم بكل شيء وانظر: كلام ابن القيم في صفة (الأوَّليَّة). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص67 ¬

(¬1) رواه مسلم (2713). (¬2) ((التوحيد)) (2/ 82).

- بديع السموات والأرض

- بديع السموات والأرض يُوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه بديع السماوات والأرض وما فيهن، وهي صفةٌ ثابتةٌ له بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: 1 - قوله تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [البقرة: 117]. 2 - وقوله: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 101]. الدليل من السنة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: ((سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك، لا شريك لك، المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سُئِلَ به؛ أعطى، وإذا دُعِيَ به أجاب)) (¬1). المعنى: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: بديع السماوات والأرض؛ أي: خالقهما ومبدعهما في غاية ما يكون من الحسن والخلق البديع والنظام العجيب المحكم (¬2) وقال ابن منظور في مادة (ب د ع): بديع السماوات والأرض، أي: خالقها ومبدعها؛ فهو سبحانه الخالق المخترع لا عن مثال سابق. وعدَّ بعضُهم (البديع) من أسماء الله عَزَّ وجَلَّ، وفي هذا نظر صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص68 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1495)، والترمذي (3544)، والنسائي (3/ 52)، وابن ماجه (3858) واللفظ له، وأحمد (3/ 120) (12226)، والحاكم (1/ 683). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬2) ((التفسير)) (5/ 303).

- البر

- البر صفةٌ لله عَزَّ وجَلَّ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، و (البَر) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28]. الدليل من السنة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: ((إن من عباد الله تعالى من لو أقسم على الله لأبَرَّه)) (¬1). ومعنى (البَر): 1 - اللطيف بعباده قاله ابن جرير في تفسير الآية السابقة 2 - العطوف على عباده ببره ولطفه قاله ابن الأثير (¬2) 3 - وقال ابن القيم (¬3): والبِرُّ في أوصَافِهِ سُبْحَانَهُ ... هُوَ كثْرةُ الخَيراتِ والإحْسَانِ وفي (لسان العرب): البَرُّ: الصادق، وفي التنزيل العزيز: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 28] والبَرُّ من صفات الله تعالى وتَقَدَّس: العطوفُ الرحيمُ اللطيفُ الكريمُ، قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى البَرُّ دون البارُّ وهو العطوف على عباده ببرِّه ولُطْفِه. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص69 ¬

(¬1) رواه البخاري (2703)، ومسلم (1675). (¬2) ((جامع الأصول)) (4/ 182). (¬3) ((القصيدة النونية)) (2/ 99).

- البركة والتبارك

- البركة والتبارك صفةٌ ذاتيةٌ وفعلية لله عَزَّ وجَلَّ، ثابتةٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ [هود: 73] وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1]. ووردت لفظة (تبارك) في مواضع أخرى من القرآن الكريم: [الزخرف: 85]، [الرحمن: 78]، وفي ثلاث مواضع من سورة الفرقان. الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((بينا أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً فناداه ربه عَزَّ وجَلَّ: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عمَّا ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك)) (¬1). ويكفي استدلالاً لذلك تحية الإسلام: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته). المعنى: قال ابن القيم: وأما صفته تبارك؛ فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه (¬2) وقال: فتبارُكُه سبحانه صفة ذات له وصفة فعل (¬3) وقال السلمان: والنوع الثاني بركة: هي صفته تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره كذلك، ولا يصلح إلا له عَزَّ وجَلَّ؛ فهو سبحانه المبارِك، وعبده ورسوله المبارَك؛ كما قال المسيح: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً [مريم:31]، فمن بارك الله فيه؛ فهو المبارك، وأما صفته؛ فمختصة به؛ كما أطلق على نفسه بقوله تعالى: تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ [الأعراف:54] (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص70 ¬

(¬1) رواه البخاري (279). (¬2) ((بدائع الفوائد)) (2/ 185). (¬3) ((جلاء الأفهام)) (ص167). (¬4) ((الكواشف الجلية)) (ص283).

- البسط والقبض

- البسط والقبض يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بالبسط، وتوصف يده بالبسط، وهي صفةٌ فعلية خبريَّةٌ ٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، و (الباسط) اسم من أسمائه سبحانه وتعالى. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]. وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ (64) سورة المائدة [المائدة: 64]. وقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ [الإسراء: 30]. الدليل من السنة: حديث أنس رضي الله عنه: ((إنَّ الله هو المُسَعِّر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو الله أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال)) حديث صحيح (¬1). حديث نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ثم يبسط يديه تبارك وتعالى؛ يقول: من يقرض غير عَدُومٍ ولا ظَلُوم)) (¬2). حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)) (¬3). قال ابن منده: ومن أسماء الله عَزَّ وجَلَّ: الباسط؛ صفة له اهـ (¬4) قال ابن جرير في تفسير الآية الأولى: يعني بقوله ((يقبض)): يقتِّر بقبضه الرزق عمَّن يشاء من خلقه، ويعني بقوله ((ويبسط)): يوسِّع ببسطه الرزق على من يشاء اهـ فالبسط: نقيض القبض، وبسط الشيء: نشره، ويد بسط؛ أي: مطلقة، والبسطة: الزيادة والسعة ومنه قوله تعالى: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، والباسط: هو الذي يبسط الرزق لعباده، ويوسعه عليهم بجوده ورحمته، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة انظر مادة (ب س ط) في (لسان العرب) قال شيخ الإسلام: ووصف نفسه (يعني: الله) ببسط اليدين، فقال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء:29]، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط) (¬5) وانظر صفة: (القبض). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص71 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2200)، وأحمد (3/ 156) (12613). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (5/ 423): روي من وجوه صحيحة لا بأس بها. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 33): إسناده على شرط مسلم. وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (1/ 93): إسناده على شرط مسلم. وقال ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (ص113)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجة)): صحيح. (¬2) رواه مسلم (758). (¬3) رواه مسلم (2759). (¬4) ((التوحيد)) (2/ 93). (¬5) ((التدمرية)) (ص29).

- البشبشة أو البشاشة

- البشبشة أو البشاشة صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ لله عَزَّ وجَلَّ ثابتةٌ بالحديث الصحيح الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر؛ إلا تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم)) (¬1) قال ابن قتيبة: قوله: يتبشبش، هو من البشاشة، وهو (يتفعَّل) اهـ (¬2) قال أبو يعلى الفراء تعقيباً على كلام ابن قتيبة: فحمل الخبر على ظاهره، ولم يتأوله وقال قبل ذلك بعد أن تكلم عن إثبات صفة الفرح لله تعالى: وكذلك القول في البشبشة؛ لأن معناه يقارب معنى الفرح، والعرب تقول: رأيت لفلان بشاشة وهشاشة وفرحاً، ويقولون: فلان هش بش فرح، إذا كان منطلقاً، فيجوز إطلاق ذلك كما جاز إطلاق الفرح اهـ (¬3) قال الإمام الدارمي: وبلغنا أنَّ بعض أصحاب المريسي قال له: كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا مما لا يمكن التكذيب بها؛ مثل: سفيان عن منصور عن الزهري، والزهري عن سالم، وأيوب بن عوف عن ابن سيرين، وعمرو بن دينار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وما أشبهها؟ قال: فقال المريسي: لا تردوه تفتضحوا، ولكن؛ غالطوهم بالتأويل؛ فتكونوا قد رددتموها بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف؛ كما فعل هذا المعارض سواء. وسننقل بعض ما روي في هذه الأبواب من الحب والبغض والسخط والكراهية وما أشبهه (ثم ذكر أحاديث في صفة الحب ثم البغض ثم السخط ثم الكره ثم العجب ثم الفرح، ثم حديث أبي هريرة السابق في البشاشة، ثم قال) وفي هذه الأبواب روايات كثيرة أكثر مما ذكر، لم نأت بها مخافة التطويل (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص73 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (800)، واللفظ له، وأحمد (2/ 328) (8332)، والطيالسي (2334)، والحاكم (1/ 332). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/ 102): هذا إسناد صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجة)): صحيح. (¬2) ((غريب الحديث)) (1/ 160). (¬3) ((إبطال التأويلات)) (1/ 243). (¬4) ((نقض الدارمي على المريسي)) (ص200).

- البصر

- البصر البصر صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة و (البصير): اسم من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58] وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] الدليل من السنة: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ((يا أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً بَصيراً، إنَّ الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) (¬1) انظر صفة: (الرؤية) و (النظر) و (العين)؛ لله سبحانه وتعالى صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص74 ¬

(¬1) رواه البخاري (6384).

- البطش

- البطش صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب العزيز، ومعناه: الانتقام والأخذ القوي الشديد قد ورد البطش مضافاً إلى الله تعالى في ثلاث مواضع من القرآن الكريم. قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ [القمر: 36]. وقوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12]. قال ابن القيم: قال تعالى في آلهة المشركين المعطلين أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ [الأعراف: 195]، فجعل سبحانه عدم البطش والمشي والسمع والبصر دليلا على عدم إلهية من عُدمت فيه هذه الصفات، فالبطش والمشي من أنواع الأفعال، والسمع والبصر من أنواع الصفات، وقد وصف نفسه سبحانه بضد صفة أربابهم وبضد ما وصفه به المعطلة والجهمية (¬1). وقال: ثم ذكر سبحانه جزاء أوليائه المؤمنين ثم ذكر شدة بطشه وأنه لا يعجزه شيء، فإنه هو المبدئ المعيد، ومن كان كذلك فلا أشد من بطشه، وهو مع ذلك الغفور الودود، يغفر لمن تاب إليه ويوده ويحبه، فهو سبحانه الموصوف بشدة البطش ومع ذلك هو الغفور الودود المتودد إلى عباده بنعمه الذي يود من تاب إليه وأقبل عليه (¬2) قال الشيخ ابن عثيمين: من صفات الله تعالى المجيء والإتيان والأخذ والإمساك والبطش إلى غير ذلك من الصفات فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص75 ¬

(¬1) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 915). (¬2) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص59). (¬3) ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى)) (ص30).

- البغض

- البغض صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالأحاديث الصحيحة الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إن الله تعالى إذا أحب عبداً وإذا أبغض عبداً؛ دعا جبريل، فيقول إني أبغض فلاناً؛ فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إنَّ الله يبغض فلاناً؛ فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض)) (¬1). حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)) (¬2). يقول ابن القيم: إن ما وصف الله سبحانه به نفسه من المحبة والرضى والفرح والغضب والبغض والسخط من أعظم صفات الكمال اهـ (¬3) وفي (تهذيب اللغة): وقال الليث: البغض: نقيض الحب (¬4) وانظر كلام ابن أبي العز في صفة (الغضب) وابن كثير في صفة (السمع). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص76 ¬

(¬1) رواه مسلم (2637). (¬2) رواه مسلم (671). (¬3) في ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1451). (¬4) ((تهذيب اللغة)) (8/ 17).

- البقاء

- البقاء صفةٌ ذاتيةٌ خاصةٌ بالله عَزَّ وجَلَّ ثابتةٌ بالكتاب العزيز الدليل: قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن: 27]. وقد عَدَّ بعضهم (الباقي) من أسماء الله تعالى، ولا دليل معهم، منهم: ابن منده (¬1)، والزجاجي (¬2)، وقوَّام السنة الأصبهاني (¬3)، وغيرهم قال قَوَّامُ السُّنَّة: معنى الباقي: الدائم، الموصوف بالبقاء، الذي لا يستولي عليه الفناء، وليست صفة بقائه ودوامه كبقاء الجنة والنار ودوامهما، وذلك أنَّ بقاءه أبدي أزلي، وبقاء الجنة والنار أبدي غير أزلي، فالأزلي ما لم يزل، والأبدي ما لا يزال، والجنة والنار كائنتان بعد أن لم تكونا اهـ (¬4) وقال أبو بكر الباقلاني فيما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية وأقره عليه: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها هي: الحياة، والعلم والبقاء والوجه، والعينان (¬5). وقال الحافظ ابن حجر: قوله (باب قول الرَّجُل لَعَمْرُ الله) أَيْ هَلْ يَكُون يَمِينًا, وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تفسير (لَعَمْر) (¬6) وقال أَبُو القَاسِم الزَّجَّاج: العُمْر الحياة, فمن قال لَعَمْر الله كأنه حلف بِبَقَاءِ الله, واللام لِلتَّوْكِيدِ والخبر محذوف أَيْ مَا أُقسم به, ومِن ثَمَّ قَالَ المَالِكِيَّة وَالحَنَفِيَّة: تَنْعَقِد بِهَا اليَمِين; لأن بَقَاء الله مِنْ صِفَة ذَاته وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: البقاء من صفات الله، فإذا أسند إلى إنسان؛ فهو من الشرك اهـ (¬7) وانظر صفة (الحياة). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص77 ¬

(¬1) ((التوحيد)) (2/ 86). (¬2) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص200). (¬3) ((الحجة)) (1/ 127). (¬4) ((الحجة)) (1/ 128). (¬5) ((الفتاوى)) (5/ 99). (¬6) ((فتح الباري)) (11/ 547). (¬7) ((الفتاوى والرسائل)) (1/ 207).

- التجلي

- التجلي صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة ومعناه الظهور للعيان، لا كما تقول الصوفية: التَّجَلِّي: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب. الدليل من الكتاب: قوله تعالى قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف: 143]. الدليل من السنة: روى الإمام أحمد بإسناد صحيح: ((حدثنا أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري قال حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الأعراف:143] قال: قال هكذا يعني أنه أخرج طرف الخنصر قال أحمد أرانا معاذ قال: فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد قال فضرب صدره ضربة شديدة وقال من أنت يا حميد وما أنت يا حميد يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم فتقول أنت ما تريد إليه)) (¬1). وعند الترمذي بإسناد صحيح أيضاً من حديث سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: ((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً قال حماد هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى قال فساخ الجبل وخَرَّ موسى صعقاً)) (¬2). حديث تجلِّي الله عز وجل لعباده يوم القيامة المشهور رواه البخاري (¬3) والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح (¬4)، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم رواياتٌ كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أنَّ الناس يرون ربهم وذِكر القدم وما أشبه هذه الأشياء، والمذهبُ في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ثم قالوا تُروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يقال كيف، وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تُروى هذه الأشياء كما جاءت ويُؤمَن بها ولا تُفَسَّر ولا تُتَوَهَّم ولا يقال كيف وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه ومعنى قوله في الحديث: ((فَيُعَرّفَهم نفسه)) يعني: يَتَجَلَّى لهم أهـ. ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 125) (12282)، والحاكم (2/ 351) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((ظلال الجنة)) (481): صحيح. (¬2) رواه الترمذي (3074). وقال: حسن غريب صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) ((صحيح البخاري)) (7437). (¬4) ((سنن الترمذي)) (2557).

وقال الإمام أحمد كما في (مجموع الفتاوى) لشيخ الإسلام ابن تيمية: وهو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وهو الذي كَلَّم موسى تكليماً، وتَجَلَّى للجبل فجعله دكاً، ولا يماثله شيءٌ من الأشياء في شيءٍ من صفاته، فليس كَعِلمه علمُ أحدٍ، ولا كقدرته قدرةُ أحدٍ، ولا كرحمته رحمةُ أحدٍ، ولا كاستوائه استواء أحدٍ، ولا كسمعه وبصره سمع أحدٍ ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحدٍ، ولا كَتَجَلِّيِهِ تَجَلِّي أحدٍ (¬1) قال ابن عبدالبر: وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَنْزِل ربُّنَا إلى السماء الدنيا)) عندهم مثل قول الله عزَّ وجلَّ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ومثل قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً [الفجر:22] كلهم يقول يَنْزِل ويَتَجَلَّى ويجيء، بلا كيف، لا يقولون: كيف يجيء وكيف يَتَجَلَّى وكيف يَنْزِل، ولا من أين جاء ولا من أين تَجَلَّى ولا من أين يَنْزِل، لأنه ليس كشيءٍ من خلقه، وتعالى عن الأشياء، ولا شريك له، وفي قول الله عزَّ وجلَّ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ دلالةٌ واضحةٌ أنه لم يكن قبل ذلك متجلِّيَاً للجبل وفي ذلك ما يفسر معنى حديث التَنْزيل ومن أراد أن يقف على أقاويل العلماء في قوله عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلينظر في تفسير بقيُّ بن مخلد ومحمد بن جرير وليقف على ما ذكرا من ذاك ففيما ذكرا منه كفاية وبالله العصمة والتوفيق (¬2) وقال شيخ الإسلام: وطريقة الرسل هي ما جاء بها القرآن والله تعالى في القرآن يثبت الصفات على وجه التفصيل وينفي عنه - على طريق الإجمال - التشبيه والتمثيل فهو في القرآن يخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه عزيز حكيم غفور رحيم وأنه سميع بصير وأنه غفور ودود وأنه تعالى - على عظم ذاته - يحب المؤمنين ويرضى عنهم ويغضب على الكفار ويسخط عليهم وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وأنه تَجَلَّى للجبل فجعله دكاً ; وأمثال ذلك (¬3) وقال في (مجموع الفتاوى): ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه إذا تَجَلَّى لهم يوم القيامة سجد له المؤمنون، ومن كان يسجد في الدنيا رياءً يصيُر ظهرُه مثل الطبق (¬4) وقال الحكمي: وقوله فتنظرون إليه وينظر إليكم فيه إثبات صفة التَجَلِّي لله عزَّ وجلَّ وإثبات النظر له واثبات رؤيته في الآخرة ونظر المؤمنين إليه أهـ (¬5) قال ابن منظور في (لسان العرب): قال الزجاج: تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: ظهر وبان قال: وهذا قول أهل السنة والجماعة وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب (العين): قال الله عزَّ وجلَّ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي ظهر وبان. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص78 ¬

(¬1) (5/ 257). (¬2) ((التمهيد)) (7/ 153). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 37). (¬4) (23/ 76). (¬5) ((معارج القبول)) (2/ 772).

- التدلي (إلى السماء الدنيا)

- التدلي (إلى السماء الدنيا) صفةٌ فِعْلِيَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالسنة الصحيحة والتَّدَلِّي في اللغة: النُّزُولُ من عُلُوٍ انظر صفة: (النُّزُول). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص82

- التردد في قبض نفس المؤمن

- التردد في قبض نفس المؤمن صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله تعالى على ما يليق به؛ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن الله قال: من عادى لي وليّاً؛ فقد آذنته بالحرب وما تردَّدت عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت، وأنا أكره مَسَاءَته)) (¬1). سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن معنى تردد الله في هذا الحديث؟ فأجاب: هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد ردَّ هذا الكلام طائفة، وقالوا: إنَّ الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إنَّ الله يعامل معاملة المتردد والتحقيق: أنَّ كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بياناً منه، فإذا كان كذلك؛ كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدباً، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور؛ لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنْزلة ما يوصف به الواحد منا؛ فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهل منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه؛ كما قيل: الشَّيْبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أَنْ أفَارِقَهُ ... فأعْجَبْ لِشَيْءٍ عَلى البغضاءِ محبوبُ وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: ((حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره)) (¬2)، وقال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216] الآية ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث؛ فإنه قال: ((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) (¬3)؛ فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوباً للحق محباً له، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة؛ بحيث يحب ما يحبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت؛ ليزداد من محاب محبوبه، والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به؛ فهو يريده، ولا بد منه؛ فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كارهٌ لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مراداً للحق من وجه، مكروهاً له من وجه، وهذا حقيقة التردد، وهو أن يكون الشيء الواحد مراداً من وجه مكروهاً من وجه، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس أرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته ثم قال: والمقصود هنا: التنبيه على أنَّ الشيء المعين يكون محبوباً من وجه مكروهاً من وجه، وأن هذا حقيقة التردد، وكما أنَّ هذا في الأفعال؛ فهو في الأشخاص، والله أعلم (¬4) وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: إثبات التردد لله عَزَّ وجَلَّ على وجه الإطلاق لا يجوز، لأن الله تعالى ذكر التردد في هذه المسألة: ما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن أهـ (¬5) وليس هذا التردد من أجل الشك في المصلحة، ولا من أجل الشك في القدرة على فعل الشيء، بل هو من أجل رحمة هذا العبد المؤمن، ولهذا قال في نفس الحديث: ((يكره الموت، وأكره إساءته، ولابد له منه)) (¬6) وهذا لا يعني أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ موصوف بالتردد في قدرته أو في علمه، بخلاف الآدمي فهو إذا أراد أن يفعل الشيء يتردد، إما لشكه في نتائجه ومصلحته، وإما لشكه في قدرته عليه: هل يقدر أو لا يقدر أما الرب عَزَّ وجَلَّ فلا. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص82 ¬

(¬1) رواه البخاري (6502). (¬2) رواه البخاري (6487) بلفظ (حجبت)، ورواه مسلم (2822) واللفظ له. من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (6502) بلفظ ((ما يزال)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (18/ 129، 135). (¬5) ((لقاء الباب المفتوح)) (سؤال 1369). (¬6) رواه البخاري (6502) دون ((ولا بد .. )). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

- الترك

- الترك صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17]. قوله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45]. الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشِركه)) (¬1). قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: وتركه سبحانه للشيء صفة من صفاته الفعلية الواقعة بمشيئته التابعة لحكمته: قال الله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17] وقال تعالى: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:99] وقال: وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً [العنكبوت:35] والنصوص في ثبوت الترك وغيره من أفعاله المتعلقة بمشيئته كثيرة معلومة، وهي دالة على كمال قدرته وسلطانه وقيام هذه الأفعال به سبحانه لا يماثل قيامها بالمخلوقين، وإن شاركوه في أصل المعنى، كما هو معلوم عند أهل السنة اهـ (¬2) وانظر صفة: (النسيان). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص85 ¬

(¬1) رواه مسلم (2985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((مجموع فتاوى ورسائل)) (2/ 56) (354).

- التشريع

- التشريع صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة، من خصائص ربوبِيَّتِه، من نازعه فيها فقد كفر، والله هو (الشارع) وهو (المُشَرِّع) وليسا هما من أسمائه سبحانه الدليل من الكتاب: قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى: 13] الآية. الدليل من السنة: حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى) (¬1). وقد كثر في أقوال العلماء إضافة التشريع لله سبحانه وتعالى ومن ذلك: 1 - قول العلامة محمد الأمين الشنقيطي: والعجب ممن يحكِّم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام (¬2). 2 - وقوله: وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أنَّ الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم (¬3). 3 - وقوله: ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أو كونية قدرية، من خصائص الربوبية، كما دلت عليه الآيات المذكورة كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّع رباً، وأشركه مع الله (¬4). 4 - وقوله: اعلموا أيها الإخوان: أنَّ الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما البتة فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله وتشريعاً غير تشريع الله - أو غير ما شرعه الله - وقانوناً مخالفاً لشرع الله من وضع البشر مُعْرِضَاً عن نور السماء الذي أنزله الله على لسان رسوله من كان يفعل هذا هو ومن كان يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه، فهما واحد، كلاهما مشرك بالله، هذا أشرك به في عبادته، وهذا أشرك به في حكمه، كلهما سواء (¬5). 5 - قول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والدعوة والإرشاد: الشرك الأكبر أن يجعل الإنسان لله نداً إما في أسمائه وصفاته، وإما أن يجعل له نداً في العبادة وإما أن يجعل لله نداً في التشريع بأن يتخذ مشرِّعاً له سوى الله أو شريكاً لله في التشريع يرتضي حكمه ويدين به في التحليل والتحريم عبادة وتقرباً وقضاءً وفصلاً في الخصومات أو يستحله وإن لم يُرِدْهُ ديناً كما كثر إطلاقهم لكلمة (الشارع) و (المُشَرِّع) على الله عَزَّ وجَلَّ من باب الصفة (¬6) وانظر صفات: (الإيجاب والتحريم والتحليل). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص86 ¬

(¬1) رواه مسلم (654). (¬2) ((أضواء البيان)) (3/ 400). (¬3) ((أضواء البيان)) (4/ 83). (¬4) ((أضواء البيان)) (7/ 169). (¬5) من شريط مسجل نقلاً عن كتاب ((الحاكمية في تفسير أضواء البيان)) لعبد الرحمن السديس (ص52). (¬6) (1/ 516).

- التعجب

- التعجب صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة انظر صفة: (العَجَب). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص88

- التقديم والتأخير

- التقديم والتأخير صفتان من صفات الذات والأفعال لله عَزَّ وجَلَّ ثابتتان بالكتاب والسنة، والمقدِّم والمؤخِّر اسمان لله تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11]. وقوله: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:41]. الدليل من السنة: حديث: ((أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت)) (¬1). حديث: ((أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلغه ستين سنة)) (¬2). حديث: ((لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) (¬3). قال ابن القيم (¬4): وهُوَ المُقَدِّمُ والمُؤخِّرُ ذَانِكَ الـ ... صِّفَتَانِ للأفْعَالِ تَابِعَتَانِ وهُمَا صِفَاتُ الذَّاتِ أيضاً إذْ هُمَا ... بالذَّاتِ لا بِالغَيْرِ قَائِمَتَانِ قال الشيخ محمد خليل الهرَّاس في شرحه للأبيات: والتقديم والتأخير صفتان من صفات الأفعال التابعة لمشيئته تعالى وحكمته، وهما أيضاً صفتان للذات؛ إذا قيامهما بالذات لا بغيرها، وهكذا كل صفات الأفعال هي من هذا الوجه صفات ذات، حيث إنَّ الذات متصفة بها، ومن حيث تعلقها بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال تسمى صفات أفعال صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص88 ¬

(¬1) رواه البخاري (1120)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. ومسلم (771). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6419). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (438). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) ((النونية)) (2/ 109)

- التقرب والقرب والدنو

- التقرب والقرب والدنو التقرب أو القرب والدُّنو من صفات الله الفعلية الاختيارية، ثابتة له بالكتاب والسنة و (القريب) اسم من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] وقوله تعالى: فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيب [هود: 61] الدليل من السنة: حديث: ((من تقرَّب مني شبراً؛ تقرَّبتُ منه ذراعاً، ومن تقرَّب مني ذراعاً؛ تقرَّبتُ منه باعاً)) (¬1). حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ((أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، ولكن تدعون سميعاً قريباً، إنَّ الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) (¬2). حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة)) (¬3). اعلم أنَّ أهل السنة والجماعة من السلف وأهل الحديث يعتقدون أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قريب من عباده حقيقة كما يليق بجلاله وعظمته، وهو مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، وأنه يتقرَّب إليهم حقيقة، ويدنو منهم حقيقة، ولكنهم لا يفسرون كلَّ قربٍ وَرَدَ لفظه في القرآن أو السنة بالقرب الحقيقي؛ فقد يكون القرب قرب الملائكة، وذلك حسب سياق اللفظ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما دنوه وتقربه من بعض عباده؛ فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر اهـ (¬4) ويقول في موضعٍ آخر: ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا؛ حُمل عليه، وإن دل على هذا؛ حُمل عليه، وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء اهـ (¬5) وقد أطال الكلام رحمه الله على هذه المسألة بما لا مزيد عليه (¬6) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص89 ¬

(¬1) رواه مسلم (2687) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. والحديث روي بلفظٍ متقاربٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). (¬2) رواه البخاري (4205)، ومسلم (2704). كلاهما بلفظ ((وهو معكم)) بدلاً من ((إن الذي تدعون ... )). (¬3) رواه مسلم (1348). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 466). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 14). (¬6) انظر إن شئت المواضع التالية: (5/ 232 - 237، 240 - 241، 247 - 248، 459 - 467، 494 - 514)، (6/ 5، 8، 12 - 14، 19 - 25، 30 - 32، 76)، وانظر: ((القواعد المثلى)) للشيخ ابن عثيمين (المثال الحادي عشر والثاني عشر).

- التوب

- التوب صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، و (التَّوَّاب) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّاب الرَّحِيمُ [البقرة: 37]. وقوله: وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها؛ تابَ الله عليه)) (¬1). حديث أنس رضي الله عنه: ((لو أنَّ لابن آدم وادياً من ذهب؛ أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوبُ الله على من تاب)) (¬2). يقول ابن القيم (¬3): وَكَذَلِكَ التَّوَّاب مِنْ أوصَافِهِ ... والتَّوْبُ في أوصَافِهِ نَوْعَانِ إذْنٌ بِتَوْبَةِ عَبْدهِ وقَبُولُهَا ... بَعْدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المنَّانِ قال الشيخ الهرَّاس في شرح هذين البيتين: وأما التَّوَّاب؛ فهو الكثير التَّوْب؛ بمعنى: الرجوع على عبده بالمغفرة وقبول التوبة وتوبته سبحانه على عبده نوعان: أحدهما: أنه يلهم عبده التوبة إليه، ويوفقه لتحصيل شروطها من الندم والاستغفار والإقلاع عن المعصية والعزم على عدم العود إليها واستبدالها بعمل الصالحات والثاني: توبته على عبده بقبولها وإجابتها ومحو الذنوب بها؛ فإنَّ التوبة النصوح تجب ما قبلها صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص91 ¬

(¬1) رواه مسلم (2703). (¬2) رواه البخاري (6439)، ومسلم (1048). (¬3) ((القصيدة النونية)) (2/ 92).

- الجبروت

- الجبروت صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، من اسمه (الجَبَّار)، وهي ثابتةٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ [الحشر: 23] الدليل من السنة: حديث عوف بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فلما ركع؛ مكث قدر سورة البقرة يقول في ركوعه: ((سبحانه ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)) (¬1). حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الرؤية: ((& hellip; قال: فيأتيهم الجبَّارُ في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة & hellip;)) (¬2) . قال ابن قتيبة في: (جبروته): تجبُّره، أي: تعظمه اهـ (¬3). وقال ابن القيم (¬4): Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA MicrosoftInternetExplorer4 وكَذلكَ الجَبَّارُ في أَوْصافِهِ والجَبْرُ في أَوْصَافِه نَوْعَانِ جَبْرُ الضَّعِيفِ وكُلُّ قَلْبٍ قد غَدَاَ ذَا كَسْرَةٍ فَالجَبْرُ مِنْهُ دَانِ والثَّاني جَبْرُ القَهْرِ بِالعِزِّ الَّذي لا يَنْبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنْسَانِ ولَهُ مُسَمَّىً ثَالِثٌ وَهُوَ العُلُـ ـوَ فَلَيْسَ يَدْنُو مِنْهُ مِنْ إِنْسَانِ مِنْ قولهم جَبَّارةٌ للنَّخْلَةِ العُلْيَا التي فاتَتْ لِكُلِّ بَنَانِ قال الهرَّاس في شرحه لهذه الأبيات: وقد ذكر المؤلف هنا لاسمه (الجبار) ثلاثة معان، كلها داخلة فيه، بحيث يصح إرادتها منه: أحدها: أنه الذي يجبر ضعف الضعفاء من عباده، ويجبر كسر القلوب المنكسرة من أجله، الخاضعة لعظمته وجلاله؛ فكم جبر سبحانه من كسير، وأغنى من فقير، وأعز من ذليل، وأزال من شدة، ويسر من عسير؟ وكم جبر من مصاب، فوفقه للثبات والصبر، وأعاضه من مصابه أعظم الأجر؟ فحقيقة هذا الجبر هو إصلاح حال العبد بتخليصه من شدته ودفع المكاره عنه المعنى الثاني: أنه القهار، دانَ كلُّ شيء لعظمته، وخضع كل مخلوق لجبروته وعزته؛ فهو يجبر عباده على ما أراد مما اقتضته حكمته ومشيئته؛ فلا يستطيعون الفكاك منه والثالث: أنه العلي بذاته فوق جميع خلقه؛ فلا يستطيع أحد منهم أنَّ يدنو منه اهـ وقد ذكر العلامة الشيخ السعدي -رحمه الله- أنَّ له معنى رابعاً، وهو أنه المتكبر عن كل سوء ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أنَّ يكون له كفوٌ أو ضدٌ أو سميٌ أو شريكٌ في خصائصه وحقوقه اهـ صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص92 ¬

(¬1) رواه أبو داود (873) والنسائي (2/ 191)، وأحمد (6/ 24) (24026). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال النووي في ((الأذكار)) (81): صحيح. وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/ 74): حسن. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/ 375): رجال إسناده ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (7439). (¬3) ((تفسير غريب القرآن)) (ص19). (¬4) ((القصيدة النونية)) (2/ 95).

- الجلال

- الجلال صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، و (الجليل) ليس من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام [الرحمن:27]. وقوله: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ [الرحمن: 78]. الدليل من السنة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: ((فيقول: وعزَّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي؛ لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله)) (¬1). حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) (¬2) والجلال بمعنى العظمة قال ابن القيم (¬3): وَهُوَ الجَلِيلُ فَكُلُّ أوْصَافِ الجَلا ... لِ لهُ مُحَقَّقَةٌ بِلا بُطْلانِ قال الهرَّاس: (وأوصاف الجلال الثابتة له سبحانه؛ مثل العزة والقهر والكبرياء والعظمة والسعة والمجد؛ كلها ثابتةٌ له على التحقيق، لا يفوته منها شيء) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص94 ¬

(¬1) رواه البخاري (7510) واللفظ له، ومسلم (193). (¬2) رواه مسلم (2566). (¬3) ((القصيدة النونية)) (2/ 64).

- الجمال

- الجمال صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، من اسمه (الجميل)، الثابت في السنة الصحيحة الدليل: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: ((إنَّ الله جميل يحب الجمال)) (¬1). قال الحافظ قَوَّام السنة أبو القاسم الأصبهاني: قال بعض أهل النظر وقال: لا يجوز أنَّ يوصف الله بـ (الجميل) ولا وجهَ لإنكار هذا الاسم أيضاً؛ لأنه إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا معنى للمعارضة، وقد صح أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله جميل يحب الجمال)) (¬2)؛ فالوجه إنما هو التسليم والإيمان اهـ (¬3) وقال ابن القيم (¬4): وَهُوَ الجَمِيلُ عَلَى الحَقِيقَةِ كَيْفَ لا ... وجمَالُ سَائِرِ هذهِ الأكْوَانِ مِنْ بَعْض آثَارِ الجَمِيلِ فَرَبُّهَا ... أَوْلْى وَأجْدرُ عِنْدَ ذِي العِرْفَانِ فَجَمَالُهُ بِالذَّاتِ والأوصَافِ وَالـ ... ـأفعَالِ وَالأسماء بالبُرهَانِ لا شَيءَ يُشْبِهُ ذَاتَهُ وصِفَاتِهِ ... سُبْحَانَهُ عَنْ إفْكِ ذِي بُهْتَانِ وقال الهرَّاس في (الشرح): وأما الجميل؛ فهو اسم له سبحانه من الجمال، وهو الحسن الكثير، والثابت له سبحانه من هذا الوصف هو الجمال المطلق، الذي هو الجمال على الحقيقة؛ فإنَّ جمال هذه الموجودات على كثرة ألوانه وتعدد فنونه هو من بعض آثار جماله، فيكون هو سبحانه أولى بذلك الوصف من كل جميل؛ فإنَّ واهب الجمال للموجودات لابدَّ أنَّ يكون بالغاً من هذا الوصف أعلى الغايات، وهو سبحانه الجميل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله أما جمال الذات؛ فهو ما لا يمكن لمخلوق أنَّ يعبر عن شيء منه أو يبلغ بعض كنهه، وحسبك أنَّ أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم وأفانين اللذات والسرور التي لا يقدر قدرها، إذا رأوا ربهم، وتمتعوا بجماله؛ نسوا كل ما هم فيه، واضمحل عندهم هذا النعيم، وودوا لو تدوم لهم هذه الحال، ولم يكن شيء أحب إليهم من الاستغراق في شهود هذا الجمال، واكتسبوا من جماله ونوره سبحانه جمالاً إلى جمالهم، وبقوا في شوق دائم إلى رؤيته، حتى إنهم يفرحون بيوم المزيد فرحاً تكاد تطير له القلوب وأما جمال الأسماء؛ فإنها كلها حسنى، بل هي أحسن الأسماء وأجملها على الإطلاق؛ فكلها دالة على كمال الحمد والمجد والجمال والجلال، ليس فيها أبداً ما ليس بحسن ولا جميل وأما جمال الصفات؛ فإنَّ صفاته كلها صفات كمال ومجد، ونعوت ثناء وحمد، بل هي أوسع الصفات وأعمها، وأكملها آثاراً وتعلقات، لاسيما صفات الرحمة والبر والكرم والجود والإحسان والإنعام وأما جمال الأفعال؛ فإنها دائرة بين أفعال البر والإحسان التي يحمد عليها ويشكر، وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد؛ فليس في أفعاله عبث ولا سفه ولا جور ولا ظلم، بل كلها خير ورحمة ورشد وهدى وعدل وحكمة، قال تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56]، ولأنَّ كمال الأفعال تابع لكمال الذات والصفات؛ فإنَّ الأفعال أثر الصفات، وصفاته كما قلنا أكمل الصفات؛ فلا غرو أنَّ تكون أفعاله أكمل الأفعال. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص94 ¬

(¬1) رواه مسلم (91). (¬2) رواه مسلم (91). (¬3) ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 456). (¬4) ((القصيدة النونية)) (2/ 64).

- الجنب

- الجنب جعل بعضهم (الجنب) صفةً من صفات الله الذاتية، وهذا خطأ، والسلف على خلاف ذلك، ومن هؤلاء الذين أثبتوا هذه الصفة صديق حسن خان في كتابه (قطف الثمر) (¬1)، والذين أثبتوا هذه الصفة يستدلون بقوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ [الزمر: 56] يقول ابن جرير عند تفسير هذه الآية: وقوله: عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه؛ يقول: على ما ضيعت من العمل بما أمرني الله به، وقصرت في الدنيا في طاعة الله أهـ وقال الدارمي: وادعى المعارض أيضاً زوراً على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ؛ قال: يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو، وليس على ما يتوهمونه فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك، فإن كنت صادقاً في دعواك؛ فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا؛ فلم تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا التفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك؟! إنما تفسيرها عندهم: تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله تعالى، واختاروا عليها الكفر والسخرية بأولياء الله، فسماهم الساخرين، فهذا تفسير (الجنب) عندهم، فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب؟! فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين، فضلاً عن علمائهم أهـ (¬2) ويقول شيخ الإسلام: لا يُعرف عالم مشهور عند المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين، أثبتوا لله جنباً نظير جنب الإنسان، وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ [الزمر:56] فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أنَّ يكون المضاف إلى الله صفة له، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق؛ كقوله تعالى: (بَيْت الله)، ناقَة الله [الأعراف:73]، وعِبَاد الله [الصافات:40]، بل وكذلك (رُوح الله) (¬3) عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم، ولكن؛ إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره؛ مثل كلام الله، وعلم الله، ويد الله، ونحو ذلك؛ كان صفة له وفي القرآن ما يبين أنه ليس المراد بالجنب ما هو نظير جنب الإنسان؛ فإنه قال: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ، والتفريط ليس في شيء من صفات الله عَزَّ وجَلَّ، والإنسان إذ قال: فلان قد فرط في جنب فلان أو جانبه؛ لا يريد به أنَّ التفريط وقع في شيء من نفس ذلك الشخص، بل يريد به أنه فرط في جهته وفي حقه فإذا كان هذا اللفظ إذا أضيف إلى المخلوق لا يكون ظاهره أنَّ التفريط في نفس جنب الإنسان المتصل بأضلاعه، بل ذلك التفريط لم يلاصقه؛ فكيف يظن أنَّ ظاهره في حق الله أنَّ التفريط كان في ذاته؟ اهـ (¬4) ويقول ابن القيم: فهذا إخبار عما تقوله هذه النفس الموصوفة بما وصفت به، وعامة هذه النفوس لا تعلم أنَّ لله جنباً، ولا تقر بذلك؛ كما هو الموجود منها في الدنيا؛ فكيف يكون ظاهر القرآن أنَّ الله أخبر عنهم بذلك، وقد قال عنهم: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ [الزمر: 56]، والتفريط فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائماً بذات الله؛ لا في جنب ولا في غيره، بل يكون منفصلاً عن الله، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، وظاهر القرآن يدل على أنَّ قول القائل: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ؛ ليس أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله وأبعاضه اهـ (¬5) قلت: لا يصح إضافة الأبعاض إلى الله تعالى وذكر ابن الجوزي في (زاد المسير) عند تفسير الآية السابقة خمسة أقوال لجنب الله: طاعة الله، وحق الله، وأمر الله، وذكر الله، وقرب الله. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص97 ¬

(¬1) ((قطف الثمر)) (ص67). (¬2) ((نقض الدارمي على المريسي)) (ص184). (¬3) ليس في القرآن بيت الله بل فيه بيتي [الحج:26] وفيه روح الله [يوسف:87] بفتح الراء لا بضمها وفيه روحي [الحجر:29] (¬4) ((الجواب الصحيح)) (3/ 145، 146). (¬5) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 250).

- الجهة

- الجهة لم يرد لفظ (الجهة)؛ لا إثباتاً ولا نفياً، لا في الكتاب ولا في السنة، ولذلك؛ فالحق فيها التفصيل، ويغني عنه العلو والفوقية، وأنه سبحانه وتعالى في السماء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرسالة التدمرية) (القاعدة الثانية): فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله؛ فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السماوات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى؛ كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه؛ كما فيه إثبات العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه ونحو ذلك، وقد علم أنَّ ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق سبحانه وتعالى مباين للمخلوق، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أنَّ الله فوق العالم مباين للمخلوقات وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة، أتريد بذلك أنَّ الله فوق العالم؟ أو تريد به أنَّ الله داخلٌ في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول؛ فهو حق، وإن أردت الثاني؛ فهو باطل اهـ ويقول في (مجموع الفتاوى): فإذا قال القائل: هو في جهة أو ليس في جهة؟ قيل له: الجهة أمر موجود أو معدوم، فإن كان أمراً موجوداً، ولا موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن عن المخلوق؛ لم يكن الرب في جهة موجودة مخلوقة، وإن كانت الجهة أمراً معدوماً؛ بأنَّ يسمى ما وراء العالم جهة، فإذا كان الخالق مبايناً العالم، وكان ما وراء العالم جهة مسماة، وليس هو شيئاً موجوداً؛ كان الله في جهة معدومة بهذا الاعتبار لكن؛ لا فرق بين قول القائل: هو في معدوم، وقوله: ليس في شيء غيره؛ فإنَّ المعدوم ليس شيئاً باتفاق العقلاء. ولا ريب أنَّ لفظ الجهة يريدون به تارة معنى موجوداً، وتارة معنى معدوماً، بل المتكلم الواحد يجمع في كلامه بين هذا وهذا، فإذا أزيل الاحتمال؛ ظهر حقيقة الأمر فإذا قال القائل: لو كان في جهة؛ لكانت قديمة معه قيل له: هذا إذا أريد بالجهة أمرٌ موجود سواه؛ فالله ليس في جهة بهذا الاعتبار. وإذا قال: لو رُئي؛ لكان في جهة، وذلك محال قيل له: إن أردت بذلك: لكان في جهة موجودة؛ فذلك محال؛ فإنَّ الموجود يمكن رؤيته، وإن لم يكن في موجود غيره؛ كالعالم، فإنه يمكن رؤية سطحه وليس هو في عالم آخر وإن قال: أردت أنه لابدَّ أنَّ يكون فيما يسمى جهة، ولو معدوماً؛ فإنه إذا كان مبايناً للعالم؛ سمي ما وراء العالم جهة قيل له: فلم قلت: إنه إذا كان في جهة بهذا الاعتبار كان ممتنعاً؟ فإذا قال: لأنَّ ما باين العالم ورُئي لا يكون إلا جسماً أو متحيزاً؛ عاد القول إلى لفظ الجسم والمتحيز كما عاد إلى لفظ الجهة فيقال له: المتحيز يراد به ما حازه غيره ويراد به ما بان عن غيره فكان متحيزاً عنه، فإن أردت بالمتحيز الأول؛ لم يكن سبحانه متحيزاً؛ لأنه بائن عن المخلوقات، لا يحوزه غيره، وإن أردت الثاني؛ فهو سبحانه بائن عن المخلوقات، منفصل عنها، ليس هو حالاً فيها، ولا متحداً بها؛ فبهذا التفصيل يزول الاشتباه والتضليل اهـ (¬1) وقال الشيخ العثيمين -رحمه الله-: وممَّا لم يرد إثباته ولا نَفْيه لفظ (الجهة)، فلو سأل سائل: هل نُثْبِت لله تعالى جهة؟ قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتاً ولا نفياً، ويُغني عنه ما ثبت فيهما من أنَّ الله تعالى في السَّماء، وأما معناه؛ فإمَّا أنَّ يراد به: جهةُ سُفْلٍ أو جهةُ عُلُوٍ تحيط بالله أو جهةُ عُلُوٍ لا تحيط به فالأول باطل؛ لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع والثاني باطلٌ أيضاً، لأنَّ الله تعالى أعظم من أنَّ يحِيط به شيء من مخلوقاته والثالث حقٌّ؛ لأنَّ الله تعالى العليّ فوق خلْقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته اهـ (¬2). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص99 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 39 - 40). (¬2) ((القواعد المثلى)) (ص40).

- الحاكم والحكم

- الحاكم والحكم يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الحاكم والحكم، و (الحكم) اسم له ثابتٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمَاً [الأنعام: 114]. قوله تعالى: فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [الأعراف: 87]. الدليل من السنة: حديث هانئ بن يزيد رضي الله عنه؛ أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه؛ سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ الله هو الحَكَم، وإليه الحُكم، فلِمَ تكنى أبا الحكم؟ (¬1) والحَكَم والحاكم بمعنى واحد؛ إلا أنَّ الحَكَم أبلغ من الحاكم، وهو الذي إليه الحُكْم، وأصل الحُكم منع الفساد والظلم ونشر العدل والخير. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص103 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4955)، والنسائي (8/ 226)، والحاكم (1/ 75). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

- الحب والمحبة

- الحب والمحبة صفاتٌ لله عَزَّ وجَلَّ فِعْلِيَّةٌ اختيارِيَّةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195]. وقوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54]. الدليل من السنة: حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)) (¬1). حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((إنَّ الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي)) (¬2). فأهل السنة والجماعة يثبتون صفة الحب والمحبة لله عَزَّ وجَلَّ، ويقولون: هي صفة حقيقية لله عَزَّ وجَلَّ، على ما يليق به، وليس هي إرادة الثواب؛ كما يقول المؤولة كما يثبت أهل السنة لازم المحبة وأثرها، وهو إرادة الثواب وإكرام من يحبه سبحانه قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى 2/ 354): إنَّ الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] وقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] وقوله: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِه [التوبة:24] وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام اهـ صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص103 ¬

(¬1) رواه البخاري (3009)، ومسلم (2406). (¬2) رواه مسلم (2965).

- الحثو

- الحثو صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالسنة الصحيحة الدليل: حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه مرفوعاً: ((وعدني ربي أنَّ يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات ربي)) (¬1). حديث عامر بن زيد البكالي عن عتبة بن عبدٍ السُّلَمي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ ربي وعدني أنَّ يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً بغير حساب، ثم يتبع كل ألف سبعين ألفاً، ثم يحثي بكفه ثلاث حثيات، فكبَّر عمر)) (¬2) الحديث. 3 - حديث أبي سعيد الأنماري الخير رضي الله عنه مرفوعاً: ((إنَّ ربي وعدني أنَّ يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب، ويشفع لكل ألف سبعين ألفاً، ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه)) (¬3). وقد أورد الدارمي في حديث عتبة وأبي سعيد في موطن (النقض على المريسي) في طعنه إثبات صفة اليد والكف لله عَزَّ وجَلَّ. وقال المباركفوري عند شرحه لحديث أبي أمامة المتقدم: (ثلاث حثيات)؛ بفتح الحاء والمثلثة، جمع حثية، والحثية والحثوة يستعمل فيما يعطيه الإنسان بكفيه دفعة واحدة من غير وزن وتقدير. اهـ (¬4) وقال ابن القيم: ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مئة موضع وروداً متنوعاً متصرفاً فيه مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقة من الإمساك والطي والقبض والبسط والمصافحة والحثيات اهـ (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص104 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2437)، وابن ماجه (4286)، وأحمد (5/ 268) (22357). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (8/ 93): رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (16/ 460): إسناده قوي. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه ابن حبان (16/ 231)، والطبراني في ((الكبير)) (17/ 126)، وفي ((الأوسط)) (1/ 126). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 414): رواه الطبراني في ((الأوسط)) ... وفى ((الكبير)) وأحمد باختصار عنهما، وفيه عامر بن زيد البكالى وقد ذكره ابن أبى حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه، وبقية رجاله ثقات. اهـ. والدارمي في ((نقضه على المريسي)) (1/ 276)، والفسوي في ((المعرفة والتاريخ)) (2/ 341)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 418): سنده جيد ... وأخرجه الحافظ الضياء وقال: لا أعلم له علة. قلت: علته الاختلاف في سنده. اهـ .. وأبو عامر البكالي: ذكره أيضاً البخاري في ((التاريخ الكبير)) ولم يجرحه أو يوثقه، وذكره ابن حبان في ((الثقات)) (5/ 191) وقال: يروي عن عتبة بن عبدٍ، روى عنه أبو سلام ويحيى بن أبي كثير، عداده في أهل الشام. اهـ. وأبو سلام قال عنه ابن حجر في ((تقريب التهذيب)) (6879): ممطور الأسود الحبشي أبو سلام ثقة يرسل. اهـ. ويحيى بن أبي كثير قال عنه ابن حجر في ((تقريب التهذيب)) (7632): يحيى بن أبي كثير الطائي مولاهم أبو نصر اليمامي ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل. اهـ. وبقية رجال الحديث ثقات، ويشهد له حديث أبي أمامة رضي الله عنه السابق. (¬3) رواه الطبراني في ((الكبير)) (22/ 304)، و ((الأوسط)) (1/ 128). وقال: لا يروى هذا الحديث عن أبي سعيد الأنماري إلا بهذا الإسناد تفرد به معاوية بن سلام. ورواه الدارمي في ((نقضه على المريسي)) (1/ 280)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (814)، قال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (8/ 94): رواه الطبراني في ((الأوسط))، وأبوأحمد الحاكم في ((الكنى)) وسياقه أتم. وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (7/ 177): سنده صحيح وكلهم من رجال الصحيح إلا قيس بن حجر وهو شامي ثقة ولكن أخرجه الحاكم أبو أحمد أيضا من طريق أبي توبة عن معاوية بن سلام فقال إن قيس بن حجر الكندي حدث الوليد بن عبد الملك أن أبا سعيد الخير حدثه وأخرجه الطبراني من طريق أبي توبة عن معاوية فقال إن أبا سعيد الأنماري وقيل قيس بن الحارث وأخرجه أيضا من وجه آخر عن الزبيدي عن عبد الله بن عامر فقال: عن قيس بن الحارث إن أبا سعيد الخير الأنصاري حدثه فذكر طرفا منه فمن هذا الاختلاف يتوقف في الجزم بصحة هذا السند. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 409): رواه الطبراني في ((الأوسط)) و ((الكبير)) ... ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((ظلال الجنة)) (814): ضعيف. والحديث يشهد له حديث أبي أمامة رضي الله عنه السابق. (¬4) ((تحفة الأحوذي)) (7/ 129). (¬5) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 171).

- الحجزة والحقو

- الحجزة والحقو صفتان ذاتيان خبريَّتان ثابتتان بالسنة الصحيحة الدليل: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((إنَّ الرحم شَجْنَةٌ آخذةٌ بحُجزة الرحمن؛ يصل من وصلها، ويقطع من قطعها)) (¬1). حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((خلق الله الخلق، فلما فرغ منه؛ قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه! قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة)) (¬2). والحقو والحُجْزة: موضع عقد الإزار وشده قال الحافظ أبو موسى المديني: وفي الحديث: ((إنَّ الرحم أخذت بحجزة الرحمن)) - ثم ذكر تفسيرين للحديث- ثم قال: وإجراؤه على ظاهره أولى اهـ (¬3). وقال الشيخ عبد الله الغنيمان في (شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري) ناقلاً من (نقض التأسيس) لشيخ الإسلام، ومن (إبطال التأويلات) لأبي يعلى الفراء، ومعلقاً: قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده على الرازي في زعمه أنَّ هذا الحديث: (يعني: حديث أبي هريرة المتقدم) يجب تأويله: قال: فيقال له: بل هذا من الأخبار التي يقرها من يقر نظيره، والنِّزاع فيه كالنِّزاع في نظيره؛ فدعواك أنه لا بدَّ فيه من التأويل بلا حجة تخصه؛ لا تصح وقال: وهذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات، التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجبه، وما ذكره الخطابي وغيره أنَّ هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق؛ فهذا بحسب علمه، حيث لم يبلغه فيه عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت قال ابن حامد: ومما يجب التصديق به: أنَّ لله حَقْواً قال المروزي: قرأت على أبي عبد الله كتاباً، فَمَرَّ فيه ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله خلق الرحم، حتى إذا فرغ منها؛ أخذت بحقو الرحمن)) فرفع المحدث رأسه، وقال: أخاف أنَّ تكون كفرت قال أبو عبد الله: هذا جهمي وقال أبو طالب: سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث هشام بن عمار؛ أنه قريء عليه حديث الرحم: (تجيء يوم القيامة فتعلق بالرحمن تعالى)، فقال: أخاف أنَّ تكون قد كفرت فقال: هذا شامي؛ ما له ولهذا؟ قلت: فما تقول؟ قال: يمضي كل حديث على ما جاء. وقال القاضي أبو يعلى: اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأنَّ (الحقو) و (الحجزة) صفة ذات، لا على وجه الجارحة والبعض، وأنَّ الرحم آخذة بها، لا على وجه الاتصال والمماسة، بل نطلق ذلك تسمية كما أطلقها الشرع، وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله - رحمه الله - هذا الحديث في كتابه، وأخذ بظاهره، وهو ظاهر كلام أحمد. قلت: قوله: (لا على وجه الجارحة والبعض)، وقوله: (لا على وجه الاتصال والمماسة)؛ قول غير سديد، وهو من أقوال أهل البدع التي أفسدت عقولَ كثير من الناس؛ فمثل هذا الكلام المجمل لا يجوز نفيه مطلقاً، ولا إثباته مطلقاً؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً، فلا بدَّ من التفصيل في ذلك، والإعراض عنه أولى؛ لأنَّ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم خال منه، وليس هو بحاجة إليه؛ فهو واضح، وليس ظاهر هذا الحديث أنَّ لله إزاراً ورداءً من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس، مما يصنع من الجلود والكتان والقطن وغيره، بل هذا الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد؛ فإنه لو قيل عن بعض العباد: إنَّ العظمة إزاره والكبرياء رداؤه؛ لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء اللذين ليسا من جنس ما يلبس من الثياب فإذا كان هذا المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق؛ لأنَّ تركيب اللفظ يمنع ذلك، وبين المعنى المراد؛ فكيف يدّعى أنَّ هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله تعالى، فإنَّ كل من يفهم الخطاب ويعرف اللغة؛ يعلم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن ربه بلبس الأكسية والثياب، ولا أحد ممن يفهم الخطاب يدعي في قوله صلى الله عليه وسلم في خالد بن الوليد إنه سيف الله؛ أنَّ خالداً حديد، ولا في قوله صلى الله عليه وسلم في الفرس: ((إنا وجدناه بحراً)) (¬4)؛ أنَّ ظاهره أنَّ الفرس ماء كثير ونحو ذلك اهـ (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص106 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 321) (2956)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (538)، والطبراني (10/ 327)، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 150): رواه أحمد والبزار والطبراني بنحوه وفيه صالح مولى التوأمة وقد اختلط وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 344): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1602): وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير صالح مولى التوأمة ففيه كلام. (¬2) رواه البخاري (4830). (¬3) ((المجموع المغيث)) (1/ 405). (¬4) رواه البخاري (2820)، ومسلم (2307) بدون (إنا) وفي لفظٍ لهما أيضاً: ((إن وجدناه لبحرا)). (¬5) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (2/ 383).

- الحركة

- الحركة لم يرد هذا اللفظ في الكتاب والسنة، ويغني عنه إثبات النُّزول والإتيان والمجيء ونحو ذلك قال شيخ الإسلام في شرح حديث النُّزول: لفظ (الحركة)؛ هل يوصف الله بها أم يجب نفيه عنه؟ اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل من أهل الحديث وأهل الكلام وأهل الفلسفة وغيرهم على ثلاثة أقوال، وهذه الثلاثة موجودة في أصحاب الأئمة الأربعة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم ثم شرع رحمه الله في ذكر معنى الحركة عند المتكلمين والفلاسفة وأصحاب أرسطو وأنواع الحركة (¬1) إلى أنْ قال: والمقصود هنا أنَّ الناس متنازعون في جنس الحركة العامة التي تتناول ما يقوم بذات الموصوف من الأمور الاختيارية؛ كالغضب والرضى والفرح، وكالدنو والقرب والاستواء والنُّزول، بل والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان وغير ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: قول من ينفي ذلك مطلقاً وبكل معنى وهذا أول من عرف به هم الجهمية والمعتزلة والقول الثاني: إثبات ذلك، وهو قول الهشامية والكرامية وغيرهم من طوائف أهل الكلام الذين صرحوا بلفظ الحركة. وذكر عثمان بن سعيد الدارمي إثبات لفظ الحركة في كتاب نقضه على بشر المريسي، ونصره على أنه قول أهل السنة والحديث، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني - لما ذكر مذهب أهل السنة والأثر - عن أهل السنة والحديث قاطبة، وذكر ممن لقي منهم على ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وهو قول أبي عبد الله بن حامد وغيره. وكثيرٌ من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن؛ لا يطلق هذا اللفظ؛ لعدم مجيء الأثر به؛ كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النُّزول والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة؛ من أنه يأتي وينْزل وغير ذلك من الأفعال اللازمة قال أبو عمرو الطَّلْمَنْكِيُّ: أجمعوا (يعني: أهل السنة والجماعة) على أنَّ الله يأتي يوم القيامة والملائكة صفَّاً صفَّاً لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء؛ قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ [البقرة:210]، وقال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً [الفجر:22] قال: وأجمعوا على أنَّ الله يَنْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء، لا يحدون في ذلك شيئا ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح؛ قال: وسألت يحيى بن معين عن النُّزول؟ فقال: نعم؛ أقر به، ولا أحِدُّ فيه حَدَّاً (¬2) والقول الثالث: الإمساك عن النفي والإثبات، وهو اختيار كثيرٌ من أهل الحديث والفقهاء والصوفية؛ كابن بطة وغيره، وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما، ولكن؛ لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات والذي يجب القطع به أنَّ الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه، فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء؛ فهو مخطئ قطعاً؛ كمن قال: إنه ينْزل فيتحرك وينتقل كما يَنْزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار؛ كقول من يقول: إنه يخلو منه العرش! فيكون نزوله تفريغاً لمكان وشغلاً لآخر؛ فهذا باطل يجب تنْزِيه الرب عنه كما تقدم اهـ (¬3). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 565). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 577). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 577) وانظر كلامه رحمه الله في ((الاستقامة)) (1/ 70 - 78).

وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: النصوص في إثبات الفعل والمجيء والاستواء والنُّزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله؛ فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة وإن كانت هذه النصوص لا تستلزم الحركة لله تعالى؛ لم يكن لنا إثبات الحركة له بهذه النصوص، وليس لنا أيضاً أنَّ ننفيها عنه بمقتضى استبعاد عقولنا لها، أو توهمنا أنها تستلزم إثبات النقص، وذلك أنَّ صفات الله تعالى توقيفية، يتوقف إثباتها ونفيها على ما جاء به الكتاب والسنة؛ لامتناع القياس في حقه تعالى؛ فإنه لا مثل له ولا ند، وليس في الكتاب والسنَّة إثبات لفظ الحركة أو نفيه؛ فالقول بإثبات نفيه أو لفظه قول على الله بلا علم وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من رسائله في الصفات على مسألة الحركة، وبيَّن أقوال الناس فيها، وما هو الحق من ذلك، وأنَّ من الناس من جزم بإثباتها، ومنهم من توقف، ومنهم من جزم بنفيها، والصواب في ذلك أنَّ ما دل عليه الكتاب والسنة من أفعال الله تعالى ولوازمها؛ فهو حق ثابت يجب الإيمان به، وليس فيه نقص ولا مشابهة للخلق؛ فعليك بهذا الأصل؛ فإنه يفيدك، وأعرض عما كان عليه أهل الكلام من الأقيسة الفاسدة التي يحاولون صرف نصوص الكتاب والسنة إليها؛ ليحرفوا بها الكلم عن مواضعه، سواء عن نية صالحة أو سيئة اهـ (¬1). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص109 ¬

(¬1) ((إزالة الستار عن الجواب المختار)) (ص32).

- الحسيب

- الحسيب يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الحسيب، وهو اسم له ثابتٌ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً [النساء: 86]. وقوله: وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً [النساء: 6 والأحزاب: 39]. الدليل من السنة: حديث أبي بكرة رضي الله عنه: ((إن كان أحدكم مادحاً لا محالة؛ فليقل: أحسب كذا وكذا - إن كان يرى أنه كذلك -، وحسيبه الله، ولا يُزكَّى على الله أحد)) (¬1). قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فمن أظهر لنا خيراً؛ أمَّناه وقرَّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته) (¬2). ومعنى الحسيب؛ أي: الحفيظ، والكافي، والشهيد، والمحاسب انظر: تفسير الآية 6و86 من سورة النساء في (تفسير ابن جرير) وابن الجوزي في (زاد المسير). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص113 ¬

(¬1) رواه البخاري (6061)، ومسلم (3000). (¬2) رواه البخاري (2641).

- الحفظ

- الحفظ صفةٌ من صفاته تعالى الثابتة بالكتاب والسنة من اسميه (الحافظ) و (الحفيظ) الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [هود: 57]. وقوله: فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أرْحَمُ الرَّاحِمينَ [يوسف: 64]. الدليل من السنة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما المشهور: ((احفظ الله يحفظك)) (¬1). يقول ابن القيم (¬2): وَهُوَ الحَفِيظُ عَلَيْهِمُ وَهُوَ الكَفِيـ ... لُ بِحِفْظِهِمْ مِنْ كُلِّ أمْرٍ عانِ يقول الهرَّاس في الشرح (باختصار): ومن أسمائه سبحانه: الحفيظ، وله معنيان: أحدهما: أنه يحفظ على العباد ما عملوه من خير وشر، وعرف ونكر، وطاعة ومعصية والمعنى الثاني من معنيي الحفيظ: أنه تعالى الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون وحفظه لخلقه نوعان: عام وخاص فالعام هو حفظه لجميع المخلوقات والنوع الثاني حفظه الخاص لأوليائه حفظاً زائداً على ما تقدم؛ يحفظهم عما يضر إيمانهم ويزلزل يقينهم. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص113 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669)، والحاكم (3/ 623). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا لشهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا. وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 495): حسن جيد. وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 327): حسن. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (188): حسن وله شاهد. وقال الصنعاني في ((سبل السلام)) (4/ 267): إسناده حسن. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 233): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) ((القصيدة النونية)) (2/ 83).

- الحفي

- الحفي يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه حفيٌّ، وهذا ثابت بالكتاب العزيز. الدليل: قوله تعالى: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيَّاً [مريم: 47] ومعنى الحفيِّ؛ أي: البَر اللطيف قاله الراغب في (المفردات). وقال ابن قتيبة في (تفسير غريب القرآن): أي: بارَّاً عوَّدني منه الإجابة إذا دعوته. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص114

- الحق

- الحق يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الحق سبحانه وتعالى، وهو اسمٌ له ثابتٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج: 6]. وقوله تعالى: فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 116]. الدليل من السنة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أنت الحق وقولك الحق)) (¬1). قال قَوَّام السنة: ومن أسمائه تعالى: الحق، وهو المتحقق كونه ووجوده، وكل شيء صح وجوده وكونه فهو حق اهـ (¬2). وبنحوه قال ابن الأثير (¬3)، وقال السعدي: الحق؛ في ذاته وصفاته؛ فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلاَّ به، فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفاً، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً، فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق، وكل شيء ينسب إليه فهو حق، ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62]، وَقُل الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ [يونس:32] 00 اهـ (¬4). قلت: قوله: وكل شيء ينسب إليه فهو حق؛ أي: كل شيء ينسب إليه بحق، فهو حق صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص115 ¬

(¬1) رواه البخاري (7385). (¬2) ((الحجة)) (1/ 135). (¬3) ((جامع الأصول)) (4/ 179). (¬4) ((تفسير السعدي)) (5/ 305).

- الحكمة

- الحكمة صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، و (الحكيم) من أسمائه تعالى، وهو ثابتٌ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 18]. وقوله: وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 228]. الدليل من السنة: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)) (¬1). قال ابن القيم (¬2): وهو الحكيمُ وذَاكَ من أوْصَافِه حُكْمٌ وإحْكَامٌ فَكُلٌّ مِنْهُمَا ... نَوْعَانِ أيْضاَ مَا هُمَا عَدَمَانِ نَوْعَانِ أيْضاً ثَابِتا البُرْهَانِ قال الهرَّاس: ومن أسمائه الحسنى سبحانه: (الحكيم)، وهو إما فعيل بمعنى فاعل؛ أي: ذو الحكم، وهو القضاء على الشيء بأنه كذا أو ليس كذا، أو فعيل بمعنى مفعل، وهو الذي يُحكِم الأشياء ويتقنها، وقيل: الحكيم ذو الحكمة، وهي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص116 ¬

(¬1) رواه مسلم (2696). (¬2) ((القصيدة النونية)) (2/ 75).

- الحلم

- الحلم يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بالحِلم، وهي صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ له بالكتاب والسنة، و (الحليم) اسم من أسمائه تعالى. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة: 263]. وقوله: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر: 41]. الدليل من السنة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم)) (¬1). قال ابن القيم (¬2): وَهُوَ الحليمُ فَلاَ يُعاجِلُ عَبْدهُ وَهُوَ العَفُوُّ فَعَفْوُهُ وَسِعَ الوَرَى ... بعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ منْ عِصْيَانِ لَوْلاَهُ غَارَ الأرْضُ بِالسُّكَّانِ وقال الهرَّاس في (الشرح): ومن أسمائه سبحانه (الحليم) و (العفو)؛ فالحليم الذي له الحلم الكامل الذي وسع أهل الكفر والفسوق والعصيان، حيث أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة؛ رجاء أنَّ يتوبوا، ولو شاء؛ لأخذهم بذنوبهم فور صدورها منهم؛ فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليها من العقوبات العاجلة المتنوعة، ولكن حلمه سبحانه هو الذي اقتضى إمهالهم؛ كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر:45]. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص117 ¬

(¬1) رواه البخاري (6345)، ومسلم (2730). (¬2) ((القصيدة النونية)) (2/ 81).

- الحميد

- الحميد يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الحميد، وهو صفةٌ ذاتيةٌ له، و (الحميد) اسم من أسمائه، ثابتٌ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: 1 - قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة: 267]. 2 - وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُم الْفُقَرَاءُ إلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15]. الدليل من السنة: حديث كعبٍ بن عُجرة رضي الله عنه في التشهد: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)) (¬1). المعنى: قال ابن منظور في (اللسان): الحميد من صفاته سبحانه وتعالى، بمعنى المحمود على كل حال، وهو فعيل بمعنى مفعول. وقال ابن الأثير: الحميد: المحمود، الذي استحق الحمد بفعله، وهو فعيل بمعنى مفعول (¬2) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص118 ¬

(¬1) رواه البخاري (3370)، ومسلم (406). (¬2) ((جامع الأصول)) (4/ 180).

- الحنان (بمعنى الرحمة)

- الحنان (بمعنى الرحمة) صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيَّاً وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيَّاً [مريم: 12 - 13] الدليل من السنة: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: ((يوضع الصراط بين ظهراني جهنم، عليه حسك كحسك السعدان ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أنَّ لا إله إلا الله مخلصاً، فيخرجونهم منها، قال: ثم يتحنَّن الله برحمته على مَن فيها، فما يترك فيها عبداً في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا أخرجه منها)) (¬1). قال ابن جرير: قوله: وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا: يقول تعالى ذكره: ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيّاً، وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان، فقال بعضهم: معناه: الرحمة اهـ، ثم نسب ذلك بإسناده إلى ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة، ثم قال: وقال آخرون: معنى ذلك: وتعطُّفاً من عندنا عليه فعلنا ذلك، ونسب ذلك بإسناده إلى مجاهد، ثم قال: وقال آخرون: بل معنى الحنان: المحبة، ووجهوا معنى الكلام إلى: ومحبة من عندنا فعلنا ذلك، ثم نسب ذلك بإسناده إلى عكرمة وابن زيد، ثم قال: وقال آخرون: معناه تعظيماً منَّا له، ونسب ذلك بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح ثم قال: وأصل ذلك - أعني: الحنان- من قول القائل: حنَّ فلان إلى كذا، وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق، ثم يقال: تحنَّن فلان على فلان: إذا وصف بالتعطُّف عليه والرقة به والرحمة له؛ كما قال الشاعر: تَحَنَّنْ عليَّ هَداك المليكُ ... فإنَّ لِكُلِّ مَقامٍ مَقالاً بمعنى: تعطَّف عليَّ؛ فالحنان: مصدر من قول القائل: حنَّ فلانٌ على فلانٍ، يقال منه: حننتُ عليه؛ فأنا أحِنُّ عليه، وحناناً اهـ (¬2). وقال الفراء: وقوله: وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا الحنان: الرحمة، ونصب حناناً؛ أي: وفعلنا ذلك رحمة لأبويه اهـ (¬3). وبنحوه قال ابن قتيبة، ونسب البيت السابق للحطيئة يخاطب فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬4). وروى أبو عبيد القاسم بن سلاَّم عن أبي معاوية (الضرير) عن هشام بن عروة عن أبيه؛ أنه كان يقول في تلبيته: لبيك ربنا وحنانيك (¬5) وهذا إسناد صحيح، وعروة بن الزبير تابعي ثقة، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة قال أبو عبيد: قوله: حنانيك؛ يريد: رحمتك، والعرب تقول: حنانك يا رب، وحنانيك يا رب؛ بمعنى واحد اهـ (¬6). ¬

(¬1) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (ص448)، وابن أبي شيبة (7/ 58)، وأحمد (3/ 11) (11096)، وابن ماجه - عن ابن أبي شيبة- مختصراً (4280)، والطبري في تفسيره (18/ 235)، والخلال - عن أحمد - في ((السنة)) (5/ 51)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (2/ 766) بإثبات لفظة (يتجلى) في المطبوع بدلا من (يتحنن) التي في النسخة الألمانية، والحاكم (4/ 628). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (8/ 62): رواه أحمد بن منيع، ورواته ثقات، وأبوبكر بن أبي شيبة مختصرًا وعنه ابن ماجه. وقال السفارييني في ((لوائح الأنوار)) (2/ 238): وأخرج الحاكم بسندٍ صحيح - ثم ذكر الحديث -. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. وقال الوادعي في ((الشفاعة)) (ص159): والحديث بهذا السند - أي سند أحمد - حسن. والحديث أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. (¬2) ((تفسير الطبري)) (16/ 55). (¬3) ((معاني القرآن)) (2/ 163). (¬4) ((تفسير غريب القرآن)) (ص273). (¬5) ((غريب الحديث)) (2/ 405). (¬6) ((غريب الحديث)) (2/ 405).

وقال أبو موسى المديني: في حديث زيد بن عمرو: ((حنانيك؛ أي: ارحمني رحمة بعد رحمة)) اهـ (¬1). وقال الأزهري: روى أبو العباس عن ابن الأعرابي؛ أنه قال: الحنَّان: من أسماء الله؛ بتشديد النون؛ بمعنى: الرحيم قال: والحنَان؛ بالتخفيف: الرحمة قال: والحنان: الرزق، والحنان: البركة، والحنان: الهيبة، والحنان: الوقار ثم قال الأزهري: وقال الليث: الحنان: الرحمة، والفعل التحنُّن قال: والله الحنَّان المنَّان الرحيم بعباده، ومنه قوله تعالى: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا؛ أي: رحمة من لدنا قلت (أي: الأزهري): والحنَّان من أسماء الله تعالى، جاء على فعَّال بتشديد النون صحيح، وكان بعض مشايخنا أنكر التشديد فيه؛ لأنه ذهب به إلى الحنين، فاستوحش أنَّ يكون الحنين من صفات الله تعالى، وإنما معنى الحنَّان: الرحيم، من الحنان، وهو الرحمة ثم قال: قال أبو إسحاق: الحنَّان في صفة الله: ذو الرحمة والتعطف اهـ كلام الأزهري (¬2) وقال أبو سليمان الخطابي: الحنَّان: ذو الرحمة والعطف، والحنان – مخفف - الرحمة (¬3). وقال ابن تيمية: وقال (يعني: الجوهري): الحنين: الشوق، وتوقان النفس وقال: حنَّ إليه يحنُّ حنيناً فهو حانٌّ، والحنان: الرحمة، يقال: حنَّ عليه يحنُّ حناناً، ومنه قوله تعالى: وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا وزكاةً، والحنَّان بالتشديد: ذو الرحمة، وتحننَّ عليه: ترحَّم، والعرب تقول: حنانيك يا رب! وحنانك! بمعنى واحد؛ أي: رحمتك وهذا كلام الجوهري، وفي الأثر في تفسير الحنَّان المنَّان: أنَّ الحنان هو الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنَّان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، وهذا باب واسع اهـ كلام ابن تيمية (¬4). وقال ابن القيم (¬5) راداً على الجهمية نفاة الصفات: قالوا وليس لربِّنَا سَمْعٌ ولا بَصَرٌ ... ولا وَجْهٌ فكيفَ يَدَانِ وكذاك ليس لربِّنَا من قُدْ ... رَةٍ وإرادةٍ أو رحمةٍ وحَنَانِ كلا ولا وَصْفٌ يَقُومُ بِه ... سِوى ذاتٌ مجردةٌ بِغَيْرِ مَعَانِ تنبيهات: الأول: فَسَّرَ بعض المفسرين، ومنهم ابن كثير: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيَّاً وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا؛ أي آتيناه الحكم وحناناً وزكاةً؛ أي: جعلناه ذا حنان وزكاة، فيكون الحنان صفة ليحيى عليه الصلاة والسلام. الثاني: روى ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن ماجه؛ من طريق وكيع عن أبي خزيمة عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: ((سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت، وحدك، لا شريك لك، المنان، بديع السماوات والأرض)) (¬6) وهذا إسناد صحيح. ورواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والطبراني، والبغوي، والحاكم؛ من طريق خلف بن خليفة عن حفص بن عمر أخي أنس بن مالك لأمه؛ بلفظ: ((المنَّان)) (¬7). وأخرجه أحمد من طريق خلف بن خليفة به بلفظ: ((الحنَّان)) (¬8). ¬

(¬1) ((المجموع المغيث)) (1/ 514). (¬2) ((تهذيب اللغة)) (3/ 446). (¬3) ((شأنَّ الدعاء)) (ص 105). (¬4) ((شرح حديث النُّزول)) (184). (¬5) ((القصيدة النونية)) (1/ 50). (¬6) رواه ابن أبي شيبة (6/ 47)، وأحمد (3/ 120) (12226)، وابن ماجه (3858). قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬7) رواه أبو داود (1495)، والنسائي (3/ 52)، أحمد (3/ 245) (13595)، والطبراني في ((الدعاء)) (116)، والبغوي في ((شرح السنة)) (1258)، والحاكم (1/ 683). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الشيخ الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬8) رواه أحمد (3/ 158) (12632). وقال شعيب الأرناؤوط في ((مسند أحمد)): حديث صحيح، وهذا إسناد قوي.

وأخرجه ابن حبان من طريق خلف بن خليفة به بلفظ: ((الحنَّان المنَّان)) (¬1). وخلف بن خليفة: قال عنه الحافظ في (التقريب): صدوق، اختلط في الآخر، وادَّعى أنه رأى عمرو بن حريث الصحابي، فأنكر عليه ذلك ابن عيينة وأحمد اهـ (¬2). الثالث: روى الإمام أحمد وغيره حديث: ((أنَّ عبداً في جهنم لينادي ألف سنة يا حنَّان يا منَّان)) (¬3) وإسناده ضعيف الرابع: روى الحاكم من طريق عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان حديث: ((إنَّ لله تعالى تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) فذكرها وعدَّ منها: ((الحنَّان)) (¬4)، وعبد العزيز هذا ضعيف، قال عنه الحافظ: متفق على ضعفه، وهَّاه البخاري ومسلم وابن معين، وقال البيهقي: ضعيف عند أهل النقل اهـ (¬5). قال الخطابي: ومما يدعو به الناس خاصُّهم وعامُّهم، وإن لم تثبت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحنَّان اهـ (¬6) هذا حسب النسخة المغربية كما أفاده الأستاذ أحمد يوسف الدقاق محقق الكتاب، وفي النسخة التيمورية زيادة: ((المنَّان))، وأظنها خطأ من الناسخ، وعلى أية حال فقد تقدم إثبات أنَّ ((المنَّان)) من أسماء الله عَزَّ وجَلَّ والخلاصة: أنَّ عدَّ بعضهم (الحنَّان) من أسماء الله تعالى فيه نظر؛ لعدم ثبوته والله أعلم صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص119 ¬

(¬1) رواه ابن حبان (3/ 175). وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 430) - كما أشار في مقدمته -، وقال الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (2230): إسناده صحيح. (¬2) ((تقريب التهذيب)) (1731). (¬3) رواه أحمد (3/ 230) (13435)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 387): رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح غير أبي ظلال وضعفه الجمهور ووثقه ابن حبان. وقال العراقي في ((المغني)) (4/ 9): أخرجه أحمد وأبو يعلى من رواية أبي ظلال القسملي عن أنس وأبو ظلال ضعيف واسمه هلال بن ميمون. وقال ابن حجر في ((القول المسدد)) (ص34 - 35):أورده ابن الجوزي في ((الموضوعات)) من طريق ((المسند)) أيضاً وقال: هذا حديث ليس بصحيح. قال ابن معين: أبو ظلال ليس بشيء. وقال ابن حبان: كان مغفلا يروي عن أنس ما ليس من حديثه لا يجوز الاحتجاج به بحال. قلت: قد أخرج له الترمذي وحسّن له بعض حديثه، وعلق له البخاري حديثاً، وأخرج هذا الحديث ابن خزيمة في كتاب ((التوحيد)) من صحيحه إلا أنه ساقه بطريقة له تدل على أنه ليس على شرطه في الصحة، وفي الجملة ليس هو موضوعاً وأخرجه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) له من وجه آخر عن سلام بن مسكين. وأبو ظلال قد قال فيه البخاري: إنه مقارب. وقال أبو بكر الآجري: في أواخر طريق حديث الإفك له: حدثنا عبد الله بن عبد الحميد ثنا زياد بن أيوب ثنا مروان بن معاوية ثنا مالك بن أبي الحسن عن الحسن قال: يخرج رجل من النار بعد ألف عام فقال الحسن: ليتني كنت ذلك الرجل انتهى. فهذا شاهد لبعض حديث أنس. اهـ. قال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1249): ضعيف جداً. (¬4) رواه الحاكم (1/ 63). (¬5) ((تلخيص الحبير)) (4/ 172 - 173). (¬6) ((شأنَّ الدعاء)) (ص105).

- الحياء والاستحياء

- الحياء والاستحياء صفةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة، و (الحيي) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة: 26] قوله تعالى: وَاللهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ [الأحزاب: 53] الدليل من السنة: حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه مرفوعاً: ((وأما الآخر؛ فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر؛ فأعرض، فأعرض الله عنه)) (¬1). حديث سلمان رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أنَّ يردهما صفراً خائبتين)) (¬2) رواه الترمذي واللفظ له، وأبو داود، وأحمد، والحاكم انظر: (جامع الأصول 2118)، و (صحيح الجامع 1757 ومِمَّن أثبت صفة الاستحياء من السلف الإمام أبو الحسن محمد بن عبدالملك الكرجي، فيما نقله عنه شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى 4/ 181)؛ موافقاً له وقال ابن القيم (¬3): وهو الحييُّ فليسَ يفضحُ عبده ... عندَ التجاهُرِ منهُ بالعصيانِ لكنَّهُ يُلقِي عليه سِترهُ ... فَهُو السِّتِّيرُ وصاحب الغفرانِ قال الهرَّاس: وحياؤه تعالى وصف يليق به، ليس كحياء المخلوقين، الذي هو تغير وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو يذم، بل هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته وكمال جوده وكرمه وعظيم عفوه وحلمه؛ فالعبد يجاهره بالمعصية مع أنه أفقر شيء إليه وأضعفه لديه، ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الرب سبحانه مع كمال غناه وتمام قدرته عليه يستحي من هتك ستره وفضيحته، فيستره بما يهيؤه له من أسباب الستر، ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر اهـ. قال الأزهري: وقال الليث: الحياء من الاستحياء؛ ممدود قلت: وللعرب في هذا الحرف لغتان: يُقال: استحى فلان يستحي؛ بياء واحدة، واستحيا فلان يستحْيِي؛ بياءين، والقرآن نزل باللغة التامَّة؛ (يعني الثانية) اهـ (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص125 ¬

(¬1) رواه البخاري (66)، ومسلم (2176). (¬2) رواه أبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865)، وأحمد (5/ 438) (23765)، والحاكم (1/ 718). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (3/ 159): هذا حديث حسن غريب. وقال الذهبي في ((العلو)) (63): مشهور. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 413) - كما أشار في مقدمته -.وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) ((النونية)) (2/ 80). (¬4) ((تهذيب اللغة)) (5/ 288).

- الحياة

- الحياة صفة من صفات الله عَزَّ وجَلَّ الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة، و (الحي) اسم من أسمائه تعالى. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران: 2]. وقوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوت [الفرقان: 58]. الدليل من السنة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)) (¬1). قال شيخ الإسلام: كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته. وقال: لم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله فمن حمل كلامَ أحدٍ من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب (¬2). وقال الهرَّاس في (شرحه للنونية) (¬3): ومعنى الحي: الموصوف بالحياة الكاملة الأبدية، التي لا يلحقها موت ولا فناء، لأنها ذاتية له سبحانه، وكما أنَّ قيوميته مستلزمة لسائر صفات الكمال الفعلية؛ فكذلك حياته مستلزمة لسائر صفات الكمال الذاتية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والعزة والكبرياء والعظمة ونحوها اهـ. فائدة: في حديث الإفك عند البخاري ومسلم: ((قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله! أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس؛ ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج؛ أمرتنا، ففعلنا فيه أمرك فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: كذبت لعمر الله؛ لا تقتله، ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن الحضير رضي الله عنه، فقال: كذبت لعمر الله؛ لنقتلنَّه)) (¬4). قال الحافظ: العَمْر؛ بفتح العين المهملة: هو البقاء، وهو العُمُر بضمها، لكن لا يستعمل في القسم إلا بالفتح (¬5). وقال القاضي عياض: وقوله: ((لعمر الله))؛ أي: بقاء الله (¬6). وقال البيهقي: فحلف كلُّ واحد منهما بحياة الله وببقائه والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع (¬7). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص127 ¬

(¬1) رواه مسلم (2717). (¬2) ((دقائق التفسير)) (2/ 102)، ((الجواب الصحيح)) (4/ 50). (¬3) ((شرح القصيدة النونية)) (2/ 103) (¬4) رواه البخاري (2661)، ومسلم (2770). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) ((الفتح)) (8/ 472). (¬6) ((مشارق الأنوار)) (2/ 87). (¬7) ((الاعتقاد)) (83). وانظر: ((الأسماء والصفات)) (1/ 292).

- الخبير

- الخبير صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة، وذلك من اسمه (الخبير) الدليل من الكتاب: قوله تعالى: قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم: 3] وقوله: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 73] الدليل من السنة: حديث عائشة رضي الله عنها؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في قصة تتبعها له إلى البقيع: ((ما لك يا عائش حشياً رابية؟)) قالت: قلت: لا شيء قال: ((لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير)) (¬1). معنى (الخبير): 1 - العالم بما كان وما يكون: قاله ابن منظور في ((اللسان)). 2 - وقال الخطابي: هو العالم بكنه الشيء، المطلع على حقيقته (¬2). 3 - وقال أبو هلال العسكري: الفرق بين العلم والخَبْر: أنَّ الخَبْر هو العلم بكنه المعلومات على حقائقها؛ ففيه معنى زائد على العلم (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص129 ¬

(¬1) رواه مسلم (974). (¬2) ((شأنَّ الدعاء)) (ص63). (¬3) ((الفروق)) (ص74)

- الخداع لمن خادعه

- الخداع لمن خادعه الخداعُ صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ الفعليَّة الخبريَّة الثابتة بالكتاب والسنة، ولكنه لا يوصف بها على سبيل الإطلاق، إنما يوصف بها حين تكون مَدْحاً. الدليل من الكتاب: قول الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142]. الدليل من السنة: حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه، ((أنَّ أم كلثوم بنت عقبة كانت عنده، فقالت له وهي حامل: طيِّب نفسي بتطليقة فطلقها تطليقة، ثم خرج إلى الصلاة، فرجع وقد وضعت، فقال: ما لها خدعتني خدعها الله؟! ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سبق الكتاب أجله، اخطبها إلى نفسها)) (¬1). قال ابن القيم في (إعلام الموقعين) بعد أنَّ ذكر آيات في صفة (الكيد) و (المكر): قيل: إنَّ تسمية ذلك مكراً وكيداً واستهزاءً وخداعاً من باب الاستعارة ومجاز المقابلة؛ نحو: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، ونحو قوله: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194]، وقيل -وهو أصوب-: بل تسميته بذلك حقيقة على بابه؛ فإنَّ المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة اهـ (¬2). قلت: قوله عن القول الثاني: وهو أصوب: قد يوهم أنَّ الأول صواب، والحق أنَّ القول الأول باطل مخالف لطريقة السلف في الصفات، وانظر كلامه رحمه الله في (مختصر الصواعق المرسلة) (¬3). وقال الشيخ عبد العزيز بن بار معقباً على الحافظ ابن حجر لَمَّا تأوَّل صفةً من صفات الله: هذا خطأ لا يليق من الشارح، والصواب إثبات وصف الله بذلك حقيقة على الوجه اللائق به سبحانه كسائر الصفات، وهو سبحانه يجازي العامل بمثل عمله، فمن مكر؛ مكر الله به، ومن خادع؛ خادعه، وهكذا من أوعى؛ أوعى الله عليه، وهذا قول أهل السنة والجماعة؛ فالزمه؛ تفز بالنجاة والسلامة، والله الموفق اهـ (¬4). وسئل الشيخ العثيمين -رحمه الله- في (المجموع الثمين): هل يوصف الله بالخيانة والخداع كما قال الله تعالى: يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ فأجاب بقوله: أما الخيانة؛ فلا يوصف الله بها أبداً؛ لأنها ذم بكل حال؛ إذ إنها مكر في موضع الائتمان، وهو مذموم؛ قال الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ [الأنفال: 71]، ولم يقل: فخانهم وأما الخداع؛ فهو كالمكر، يوصف الله تعالى به حين يكون مدحاً، ولا يوصف به على سبيل الإطلاق؛ قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142] اهـ (¬5) وانظر كلام ابن جرير الطبري في صفة (الاستهزاء)؛ فإنه مهم، وكلام الشيخ محمد بن إبراهيم في صفة (الملل). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص129 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (2026)، والبيهقي (7/ 421). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/ 124): هذا إسنادٌ رجاله ثقات إلا أنه منقطع، ميمون بن مهران أبو أيوب روايته عن الزبير مرسلة قاله المزي في ((التهذيب)). قال الشوكاني في ((الدراري المضية)) (235): رجال إسناده رجال الصحيح إلا محمد بن عمر بن هياج وهو صدوق لا بأس به. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) ((إعلام الموقعين)) (3/ 229) (¬3) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 33 - 34). (¬4) ((فتح الباري)) (3/ 300). (¬5) ((المجموع الثمين)) (2/ 66).

- الخلق

- الخلق صفةٌ من صفات الله الفعلية الثابتة بالكتاب والسنة، وهي مأخوذة أيضاً من اسميه (الخالق) و (الخلاَّق)، وهي من صفات الذات وصفات الفعل معاً. الدليل من الكتاب: وردت هذه الصفة في القرآن مرات عديدة، تارة بالفعل (خَلَقَ)، أو بمصدره، وتارة باسمه (الخالق) أو (الخلاَّق)، ومن ذلك: قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ واَلأمْرُ [الأعراف: 54]. وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ [الحجر: 86]. وقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16]. وقوله: هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِيءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى [الحشر: 24]. الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كَخَلْقي؛ فليخلقوا ذرَّة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة)) (¬1). حديث عائشة رضي الله عنها في التصاوير: ((أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)) (¬2). قال الأزهري: ومن صفات الله: الخالق والخلاق، ولا تجوز هذه الصفة بالألف واللام لغير الله جل وعز. والخلق في كلام العرب ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه. وقال أبو بكر بن الأنباري: الخلق في كلام العرب على ضربين: أحدهما: الإنشاء على مثال أبدعه والآخر: التقدير. وقال في قول الله جَلَّ وعَزَّ: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]: معناه: أحسن المقدرين اهـ (¬3). وقال ابن تيمية: وأما قولنا: هو موصوف في الأزل بالصفات الفعلية من الخلق والكرم والمغفرة؛ فهذا إخبار عن أنَّ وصفه بذلك متقدم؛ لأن الوصف هو الكلام الذي يخبر به عنه، وهذا مما تدخله الحقيقة والمجاز، وهو حقيقة عند أصحابنا، وأما اتصافه بذلك؛ فسواء كان صفةً ثبوتِيَّةً وراء القدرة أو إضافية؛ فيه من الكلام ما تقدم (¬4). وقال في موضع آخر: والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقاته، بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم، ويقولون: إنَّ خلق الله للسماوات والأرض ليس هو نفس السماوات والأرض، بل الخلق غير المخلوق، لاسيما مذهب السلف والأئمة وأهل السنة الذين وافقوهم على إثبات صفات الله وأفعاله (¬5). وقال في موضع ثالث: ولهذا كان مذهب جماهير أهل السنة والمعرفة - وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد وأبي حنيفة وغيرهم من المالكية والشافعية والصوفية وأهل الحديث وطوائف من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم - أنَّ كون الله سبحانه وتعالى خالقاً ورازقاً ومحيياً ومميتاً وباعثاً ووارثاً وغير ذلك من صفات فعله، وهو من صفات ذاته؛ ليس من يخلق كمن لا يخلق ومذهب الجمهور أنَّ الخلق غير المخلوق؛ فالخلق فعل الله القائم به، والمخلوق هو المخلوقات المنفصلة عنه (¬6). وقد نقل رحمه الله في (مجموع الفتاوى) قول أبي يعلى الصغير الحنبلي: فالخلق صفة قائمة بذاته، والمخلوق الموجود المخترَع، وهذا بناء على أصلنا، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة قال: وهذا هو الصحيح (¬7). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص131 ¬

(¬1) رواه البخاري (5953)، ومسلم (2111). (¬2) رواه البخاري (5954)، ومسلم (2107). (¬3) ((تهذيب اللغة)) (7/ 26). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 272). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 126). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 435 - 436). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 149).

- الخلة

- الخلة صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، فالله عَزَّ وجَلَّ يحبُ ويخالِلُ من يشاء ويكرهُ ويبغضُ من يشاء. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء: 125]. الدليل من السنة: حديث: ((ولقد اتخذ الله صاحبكم خَلِيلاً))؛ يعني نفسه صلى الله عليه وسلم (¬1). حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((قيل: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله؛)) (¬2). قال البغوي في تفسير آية النساء: وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً؛ صفيَّاً، والخُلَّةُ: صفاء المودة، ثم قال: قال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل، والخُلَّة: الصداقة، فسمي خليلاً لأن الله أحبه واصطفاه. وقال ابن كثير في تفسير الآية نفسها: وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه عَزَّ وجَلَّ له؛ لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها. ونقل ابن تيمية من كلام أبي عبد الله محمد بن خفيف من كتابه (اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات) قوله: والخُلَّة والمحبة صفتان لله، هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخُلَّة جائز عليها الكيف (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص134 ¬

(¬1) رواه مسلم (2383) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (3353)، ومسلم (2378). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 80). وانظر أيضاً: (5/ 71).

- الدلالة أو الدليل

- الدلالة أو الدليل يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الدليل يدُلُّ عباده ويهديهم طريق الرشاد وليس الدليل من أسمائه والدليل: الهادي، والدِّلالة (بفتح الدال وكسرها): الهداية. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف: 10]. الدليل من السنة: حديث أبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله - وأيام الله: نعماؤه وبلاؤه - إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً خيراً وأعلم مني، قال: فأوحى الله إليه إني أعلم بالخير منه، أو عند من هو، إنَّ في الأرض رجلاً هو أعلم منك قال: يا رب فَدُلَّنِي عليه)) (¬1). قال شيخ الإسلام: وهدايتُه ودلالتُه من مقتضى اسمه الهادي وفي الأثر المنقول عن أحمد بن حنبل أنه أمر رجلا أنْ يقول يا دليل الحيارى دُلَّنِي على طريق الصادقين واجعلني من عبادك الصالحين (¬2). وقال: وفي الدعاء الذي علَّمه الإمام أحمد لبعض أصحابه: (يا دليل الحيارى دُلَّنِي على طريق الصادقين واجعلني من عبادك الصالحين) ولهذا كان عامة أهل السنة من أصحابنا وغيرهم على أنَّ الله يسمى دليلاً، ومنع ابن عقيل وكثيرٌ من أصحاب الأشعري أن يسمى دليلاً لاعتقادهم أنَّ الدليل هو ما يستدل به وأن الله هو الدالُّ، وهذا الذي قالوه بحسب ما غلب في عرف استعمالهم من الفرق بين الدال والدليل، وجوابه من وجهين؛ أحدهما: أنَّ الدليل معدول عن الدال وهو ما يؤكد فيه صفة الدلالة فكلُّ دليلٍ دالٌ وليس كلُّ دالٍ دليلاً، وليس هو من أسماء الآلات التي يفعل بها فإن فَعِيل ليس من أبنية الآلات كمِفْعَل ومِفْعَال، وإنما سُمِّي ما يستدل به من الأقوال والأفعال والأجسام أدلة باعتبار أنها تدل من يستدل بها، كما يخبر عنها بأنها تَهْدِي وَتُرْشِدُ وَتَعْرِفُ وَتَعْلَمُ وَتَقُولُ وَتُجِيبُ وَتَحْكُمُ وَتُفْتِي وَتَقُصُّ وَتَشْهَدُ وإن لم يكن لها في ذلك قصد وإرادة ولا حس وإدراك كما هو مشهورٌ في الكلام العربي وغيره، فما ذكروه من الفرق والتخصيص لا أصل له في كلام العرب، الثاني: أنه لو كان الدليل من أسماء الآلات التي يفعل بها فقد قال الله تعالى فيما روى عنه نبيه في عبده المحبوب: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يعقل، وبي ينطق، وبي يبطش، وبي يسعى، والمسلم يقول: استعنت بالله، واعتصمت به، وإذا كان ما سوى الله من الموجودات الأعيان والصفات يستدل بها سواء كانت حية أو لم تكن بل ويستدل بالمعدوم، فلأن يستدل بالحي القيوم أولى وأحرى، على أنَّ الذي في الدعاء المأثور: (يا دليل الحيارى دُلَّنِي على طريق الصادقين واجعلني من عبادك الصالحين) يقتضي أنَّ تسميته دليلاً باعتبار أنه دالٌ لعباده لا بمجرد أنه يستدل به كما قد يستدل بما لا يقصد الدلالة والهداية من الأعيان والأقوال والأفعال اهـ (¬3). قلت: أسماء الله توقيفية وليس منها (الدليل) وتوجيه كلام شيخ الإسلام في ردِّه على ابن عقيل وكثيرٍ من الأشاعرة أنهم لا يُوصِفُون الله بالدليل ويقولون هو دالٌ وليس دليلاً، فردَّ عليهم مُثبتاً صفةَ الدَّلالة لله عَزَّ وجَلَّ بما سبق نقله ومنه قوله: (الدليل معدولٌ عن الدالِّ وهو ما يؤكد فيه صفةَ الدِّلالة فكلُّ دليلٍ دالٌ وليس كلُّ دالٍ دليلاً)؛ أما دعاء الإمام أحمد –إن صحَّ عنه- فليس فيه تسمية الله بـ (الدليل) إنما فيه مناداة الله عَزَّ وجَلَّ بصفة من صفاته وهذا جائز كقولك: يا فارج الهم ويا كاشف الغم، ويا دليل الحيارى ونحو ذلك، وليس الفارج والكاشف من أسمائه تعالى، والله أعلم. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص135 ¬

(¬1) رواه مسلم (2380). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 207). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 17).

- الديان

- الديان يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الدَيَّان الذي يجازي عباده بعملهم، وهو اسم له ثابتٌ بالسنة. الدليل: حديث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة أو قال العباد عراة غرلاً بُهْمَاً قال قلنا وما بهما قال ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من قرب أنا الملك أنا الدَيَّان ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه)) (¬1). وممن أثبت هذا الاسم لله عَزَّ وجَلَّ الإمام ابن القيم في قصيدته النونية المشهورة المسماة (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) (¬2) في أكثر من موضع من ذلك قوله: جَهْمُ بنُ صَفْوَانٍ وشِيِعَتِهِ الأُلَى ... جَحَدُوا صِفَاِت الخَاِلقِ الدَيَّان وفي (مختار الصحاح): وقوله تعالى أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53] أي: لمجزيون محاسبون ومنه الدَيَّان في صفة الله تعالى. وفي (لسان العرب): الدَيَّان من أسماء الله عَزَّ وجَلَّ معناه: الحكم القاضي وسئل بعض السلف عن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: كان ديان هذه الأمة بعد نبيها أي قاضيها وحاكمها، والدَيَّان: القهار وهو فعال من دان الناس أي قهرهم على الطاعة يقال دنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص138 ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة التمريض بعد حديث (7480) كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: ولا تنفع الشفاعة ... ، ورواه موصولاً أحمد (3/ 495) (16085)، وابن أبي عاصم (514)، والطبراني في ((الأوسط)) (8/ 265)، والحاكم (2/ 475). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في ((التلخيص)): صحيح. وقال ابن القيم في ((الصواعق المرسلة)) (ص489): هذا حديث حسن جليل. وقال الهيتمي المكي في ((الزواجر)) (2/ 243): إسناده صحيح. وقال العراقي في ((المغني)) (4/ 233): رواه أحمد بإسناد حسن. وقال ابن ناصر الدمشقي في ((حديث جابر)) (34): حسن. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 133): رواه أحمد والطبراني في ((الكبير)) وعبد الله بن محمد: ضعيف. وقال في (10/ 345 - 346): رواه أحمد ورجاله وثقوا ورواه الطبراني في ((الأوسط)) بنحوه إلا أنه قال بمصر. وقال الألباني في ((ظلال الجنة)) (514): صحيح. وانظر كلام ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 355) ففيه حظ. (¬2) ((القصيدة النونية)) (1/ 44).

- الذات

- الذات يصح إضافة لفظة (الذات) إلى الله عَزَّ وجَلَّ؛ كقولنا: ذات الله، أو: الذات الإلهية، لكن لا على أنَّ (ذات) صفة له، بل ذات الشيء بمعنى نفسه أو حقيقته. وقد وردت كلمة (ذات) في السنة أكثر من مرة، ومن ذلك: ما رواه البخاري، ومسلم؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إنَّ إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله)) (¬1). وما رواه البخاري (¬2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة مقتل خبيب الأنصاري رضي الله عنه، وقوله: ولَسْتُ أبالي حَيْنَ أُقْتَلُ مسلماً ... على أي شِقٍّ كان لله مصْرعِي وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشأْ ... يُبَارِكْ على أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ وقد أفرد قَوَّام السُّنَّة في (الحجة في بيان المحجة) فصلاً في الذات، فقال: فصل في بيان ذكر الذات، ثم قال: قال قوم من أهل العلم: ذات الله حقيقته وقال بعضهم: انقطع العلم دونها وقيل: استغرقت العقول والأوهام في معرفة ذاته وقيل: ذات الله موصوفة بالعلم غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهو موجود بحقائق الإيمان على الإيقان بلا إحاطة إدراك، بل هو أعلم بذاته، وهو موصوف غير مجهول، وموجود غير مدرك، ومرئي غير محاط به؛ لقربه، كأنك تراه، يسمع ويرى، وهو العلي الأعلى، وعلى العرش استوى تبارك وتعالى، ظاهرٌ في ملكه وقدرته، قد حجب عن الخلق كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته؛ فالقلوب تعرفه، والعقول لا تكيفه، وهو بكل شيء محيط، وعلى كل شيء قدير اهـ (¬3) وقال شيخ الإسلام: اسم (الله) إذا قيل: الحمد لله، أو قيل: بسم الله؛ يتناول ذاته وصفاته، لا يتناول ذاتاً مجردة عن الصفات، ولا صفات مجردة عن الذات، وقد نص أئمة السنة كأحمد وغيره على أنَّ صفاته داخلة في مسمى أسمائه، فلا يقال: إنَّ علم الله وقدرته زائدة عليه، لكن من أهل الإثبات من قال: إنها زائدة على الذات وهذا إذا أريد به أنها زائدة على ما أثبته أهل النفي من الذات المجردة؛ فهو صحيح؛ فإن أولئك قصروا في الإثبات، فزاد هذا عليهم، وقال: الرب له صفات زائدة على ما علمتموه وإن أراد أنها زائدة على الذات الموجودة في نفس الأمر؛ فهو كلام متناقض؛ لأنه ليس في نفس الأمر ذات مجردة حتى يقال: إنَّ الصفات زائدة عليها، بل لا يمكن وجود الذات إلا بما به تصير ذاتاً من الصفات، ولا يمكن وجود الصفات إلا بما به تصير صفات من الذات، فتخيل وجود أحدهما دون الآخر، ثم زيادة الآخر عليه تخيل باطل اهـ (¬4). وقال في أيضاً: ويفرق بين دعائه والإخبار عنه؛ فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وأما الإخبار عنه؛ فلا يكون باسم سيء، لكن قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم بحسنه؛ مثل اسم: شيء، وذات، وموجود اهـ (¬5). وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: وبعض الناس يظن أنَّ إطلاق الذات على الله تعالى كإطلاق الصفات؛ أي أنه وصف له، فينكر ذلك بناء على هذا الظن، ويقول: هذا ما ورد، وليس الأمر كذلك، وإنما المراد التفرقة بين الصفة والموصوف، وقد تبين مراد الذين يطلقون هذا اللفظ؛ أنهم يريدون نفس الموصوف وحقيقته فلا إنكار عليهم في ذلك؛ كما وضحه كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم (¬6). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص139 ¬

(¬1) رواه البخاري (3358)، ومسلم (2371). (¬2) رواه البخاري (3045). (¬3) ((الحجة)) (1/ 171). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 206). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 142). وانظر كلامه رحمه الله عن (الذات) في ((مجموع الفتاوى)) (5/ 330، 338). (¬6) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 245).

- الرأفة

- الرأفة صفةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، وذلك من اسمه (الرؤوف)، وهو ثابت بالكتاب العزيز. الدليل: قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النور: 20]. قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10]. والرأفة أشد وأبلغ من الرحمة. قال ابن جرير في تفسير الآية 65 من سورة الحج إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ: إنَّ الله بجميع عباده ذو رأفة، والرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الآخرة. وقال الخطابي: الرَّؤوف: هو الرحيم العاطف برأفته على عباده، وقال بعضهم: الرأفة أبلغ الرحمة وأرقها، ويقال: إنَّ الرأفة أخص والرحمة أعم، وقد تكون الرحمة في الكراهة للمصلحة، ولا تكاد الرأفة تكون في الكراهة؛ فهذا موضع الفرق بينهما (¬1). وقال الأزهري: ومن صفات الله عَزَّ وجَلَّ: الرؤوف، وهو الرحيم، والرأفة أخص من الرحمة وأرقّ (¬2). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص141 ¬

(¬1) ((شأن الدعاء)) (ص91). وانظر: ((جامع الأصول)) (4/ 182). (¬2) ((تهذيب اللغة)) (15/ 238).

- الرؤي

- الرؤي الرؤية - كالبصر والنظر- صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] وقوله: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى [العلق: 14] الدليل من السنة: حديث جبريل المشهور وفيه: ((قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك)) رواه البخاري، ومسلم؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (¬1) ورواه مسلم أيضاً من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬2). قول أنس بن النضر رضي الله عنه في غزوة أحد: ((لئن الله أشهدني قتال المشركين؛ لَيرَيَنَّ الله ما أصنع)) (¬3). قال قَوَّامُ السُّنَّة الأصبهاني: قال الله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود:37]، وقال: تَجْري بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، وقال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، وقال: وَاصْبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]؛ فواجب على كل مؤمن أن يثبت من صفات الله عَزَّ وجَلَّ ما أثبته الله لنفسه، وليس بمؤمن من ينفي عن الله ما أثبته الله لنفسه في كتابه؛ فرؤية الخالق لا تكون كرؤية المخلوق، وسمع الخالق لا يكون كسمع المخلوق، قال الله تعالى: فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، وليس رؤية الله تعالى أعمال بني آدم كرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإن كان اسم الرؤية يقع على الجميع، وقال تعالى: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مريم:42]، جل وتعالى عن أن يشبه صفة شيء من خلقه صفته، أو فعل أحد من خلقه فعله؛ فالله تعالى يرى ما تحت الثرى، وما تحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات العلى، لا يغيب عن بصره شيء من ذلك ولا يخفي؛ يرى ما في جوف البحار ولججها كما يرى ما في السموات، وبنو آدم يرون ما قرب من أبصارهم، ولا تدرك أبصارهم ما يبعد منهم، لا يدرك بصر أحد من الآدميين ما يكون بينه وبينه حجاب، وقد تتفق الأسامي وتختلف المعاني اهـ (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص142 ¬

(¬1) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). (¬2) رواه مسلم (8). (¬3) رواه البخاري (2805)، ورواه مسلم (1903) بلفظ: ((ليراني الله)). (¬4) ((الحجة)) (1/ 181).

- رؤيته سبحانه وتعالى

- رؤيته سبحانه وتعالى أهل السنة والجماعة يؤمنون أنَّ المؤمنين يرون ربهم عياناً يوم القيامة، وهذا ثابت بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23] الدليل من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) (¬1). حديث صهيب رضي الله عنه مرفوعاً: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة؛ يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم عَزَّ وجَلَّ، ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحسنَى وَزِيَادَةٌ)) (¬2). قال أبو الحسن الأشعري: وأجمعوا على أنَّ المؤمنين يرون الله عَزَّ وجَلَّ يوم القيامة بأعين وجوههم، على ما أخبر به تعالى، في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وقد بيَّن معنى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ودفع إشكاله فيه؛ بقوله للمؤمنين: ((ترون ربكم عياناً))، وقوله: ((ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر؛ لا تُضامون في رؤيته))، فبيَّن أنَّ رؤيته تعالى بأعين الوجوه اهـ (¬3). وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: والأحاديث في رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة كثيرة جدّاً، وقد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاها أتباعه بكل قبول وارتياح وانشراح لها، وكلهم يرجو ربه ويسأله أن يكون ممن يراه في جنات عدن يوم يلقاه (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص144 ¬

(¬1) رواه البخاري (554)، ومسلم (633). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (181). (¬3) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص237). (¬4) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (2/ 8). وانظر الكلام عن (صفة الرؤية) في: كتاب (الرؤية) للدارقطني، و (الرد على الجهمية 87) و (الشريعة /251) للآجري، و (التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة) له أيضاً، وكتاب (رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها) للدكتور أحمد بن ناصر آل حمد، وكتاب (دلالة القرآن والأثر على رؤية الله تعالى بالبصر) للأستاذ عبد العزيز الرومي.

- الربوبية

- الربوبية صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، وذلك من اسمه (الرب) الثابت بالكتاب والسنة في مواضع عديدة؛ تارة وحده (الرب)، وتارة مضافاً؛ مثل: (رب العالمين)، و (رب المشرقين). الدليل من الكتاب: قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2]. وقوله: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17]. الدليل من السنة: حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: ((ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً وساجداً، فأما الركوع؛ فعظموا فيه الرب عَزَّ وجَلَّ)) (¬1). حديث عمرو بن عبسة مرفوعاً: ((أقرب ما يكون الرَّبُّ من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة؛ فكن)) (¬2). ومعنى الرَّب: المالك والمتصرف والمدبر والسيد والمربي قال ابن قتيبة: ومن صفاته (الرب)، والرب المالك، يُقال: هذا رب الدار ورب الضيعة ورب الغلام؛ أي: مالكه، قال الله سبحانه: ارْجعْ إلى رَبِّك؛ أي: إلى سيدك ولا يُقال لمخلوق: هذا الرَّبُّ؛ معرفاً بالألف واللام؛ كما يُقال لله، إنما يُقال: هذا رب كذا، فيُعرَّف بالإضافة؛ لأن الله مالك كل شيء فإذا قيل: الرَّبُّ؛ دلَّت الألف واللام على معنى العموم، وإذا قيل لمخلوق: ربُّ كذا وربُّ كذا؛ نُسب إلى شيء خاص؛ لأنه لا يملك شيئاً غيره اهـ (¬3). وقال ابن القيم: وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة، وهي (الله)، و (الرب)، و (الرحمن)؛ كيف نشأ عنها الخلق والأمر والثواب والعقاب، وكيف جمعت الخلق وفرقتهم؛ فلها الجمع، ولها الفرق. فاسم (الرب) له الجمع الجامع لجميع المخلوقات؛ فهو رب كل شيء وخالقه والقادر عليه، لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السماوات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره، فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترقوا بصفة الإلهية، فألَّهه وحده السعداء، وأقروا له طوعاً بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي العبادة والتوكل والرجاء والخوف والحب والإنابة والإخبات والخشية والتذلل والخضوع إلاَّ له، وهنا افترق الناس، وصاروا فريقين: فريقاً مشركين في السعير، وفريقاً موحدين في الجنة؛ فالإلهية هي التي فرقتهم كما أنَّ الربوبية هي التي جمعتهم؛ فالدين والشرع، والأمر والنهي –مظهره وقيامه- من صفة الإلهية، والخلق والإيجاد والتدبير والفعل من صفة الربوبية، والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار من صفة الملك، وهو ملك يوم الدين، فأمرهم بإلهيته، وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته، وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله، وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى إلخ (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص146 ¬

(¬1) رواه مسلم (479). (¬2) رواه أبو داود (1277)، والترمذي (3579)، والنسائي (1/ 279)، وابن ماجه (1364)، وأحمد (4/ 113) (17067)، والحاكم (1/ 453). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال البيهقي في ((السنن الصغير)) (1/ 326): صحيح. وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (4/ 15، 23): صحيح. وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/ 248): صحيح. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (3/ 69): رجال إسناده رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح الترمذي)): صحيح. (¬3) ((غريب القرآن)) (ص9). (¬4) ((مدارج السالكين)) (1/ 34).

- الرجل والقدمان

- الرجل والقدمان صفةٌ ذاتيةٌ خبريةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بصحيح السنة الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تحاجج الجنة والنار، وفيه: ((فأما النار؛ فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله، فتقول: قط قط)) (¬1). ورواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه (¬2). أثر ابن عباس رضي الله عنه؛ قال: (الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره) (¬3). أثر أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ قال: (الكرسي موضع القدمين، وله أطيطٌ كأطيطِ الرَّحْل) (¬4). وبهذه الأحاديث والآثار الصحيحة نثبت لله عَزَّ وجَلَّ صفة القَدَم والرِّجل، وأن لله عَزَّ وجَلَّ قدمين – كما في أثر ابن عباس وأبي موسى رضي الله عنهما – تليقان به وبعظمته، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. قال الشيخ عبد الله الغنيمان في (شرحه لكتاب التوحيد من صحيح البخاري) بعد ذكر روايات صفة القدم والرجل: (ففي مجموع هذه الروايات البيان الواضح بأن القدم والرجل – وكلاهما عبارة عن شيء واحد – صفة لله تعالى حقيقة على ما يليق بعظمته) اهـ (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص148 ¬

(¬1) رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846) (36). وثبت عندهما أيضاً بلفظ ((قدمه)) من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهما. (¬2) ((صحيح البخاري)) رقم (4848). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في (العرش) (ص79)، والدارمي في ((نقضه على المريسي)) (1/ 399 - 400)، وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 301)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 491)، والطبراني (12/ 39)، وأبو الشيخ في ((العظمة)) (2/ 582)، وابن بطة في ((الإبانة)) (3/ 339)، وابن منده في ((الرد على الجهمية)) (ص21)، والحاكم (2/ 310)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/ 196) (758). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الذهبي في ((العلو)) (76): رواته ثقات. وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 11): محفوظ والصواب موقوف. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 323): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (75): صحيح موقوف. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في (العرش) (ص67)، وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 302)، والطبري في تفسيره (5/ 398)، وأبو الشيخ في ((العظمة)) (2/ 627)، وابن منده في ((الرد على الجهمية)) (ص21)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/ 296) (859)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/ 47): إسناده صحيح، وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (75): صحيح. (¬5) ((شرح كتاب التوحيد)) (1/ 156). وانظر عن صفة (الرجل والقدمين): كتاب ((التوحيد)) (1/ 202) لابن خزيمة، ((نقض الدارمي على المريسي)) (67 - 70)، ((إبطال التأويلات)) للفراء (ص192)، و ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/ 151). وانظر كلام ابن كثير في صفة (الأصابع).

- الرحمة

- الرحمة صفةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، و (الرحمن) و (الرحيم) من أسمائه تعالى تكررا في الكتاب والسنة مراتٍ عديدة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1 - 2]. قوله تعالى: أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ [البقرة: 218]. الدليل من السنة: تحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقد وردت في أحاديث صحيحة كثيرة (¬1). حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله الخلق، كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي تغلب غضبي)) (¬2). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص149 ¬

(¬1) منها ما رواه البخاري (1822)، ومسلم (1196). من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: (( ... يا رسول الله إن أصحابك أرسلوا يقرءون عليك السلام ورحمة الله وبركاته ... )). (¬2) رواه البخاري (7404)، ومسلم (2751).

- الرزق

- الرزق صفةٌ فعليةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة، و (الرزَّاق) و (الرَّازق) من أسمائه تعالى. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبَاً [النحل: 114]. وقوله تعالى: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقَاً حَسَنَاً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج: 58]. وقوله تعالى: إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]. الدليل من السنة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ((لو أنَّ أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رَزَقْتَنَا)) (¬1). حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن الله هو المسعِّر القابض الباسط الرَّازق)) (¬2). قال ابن القيم في (النونية شرح الهرَّاس): وكذلك الرزَّاقُ من أسمائه ... والرَّزْقُ من أفعالهِ نوعانِ قال الهرَّاس: ومن أسمائه سبحانه (الرزَّاقُ)، وهو مبالغة من (رازق)؛ للدلالة على الكثرة، مأخوذ من الرَّزْق – بفتح الراء – الذي هو المصدر، وأما الرِّزق – بكسرها –؛ فهو لعباده الذين لا تنقطع عنهم أمداده وفواضله طرفة عين، والرزق كالخلق، اسم لنفس الشيء الذي يرزق الله به العبد؛ فمعنى الرزَّاق: الكثير الرزق، صفةٌ من صفات الفعل، وهو شأن من شؤون ربوبيته عَزَّ وجَلَّ، لا يصح أن ينسب إلى غيره، فلا يسمى غيره رازقاً كما لا يسمى خالقاً، قال تعالى: اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الروم:40]؛ فالأرْزاق كلها بيد الله وحده، فهو خالق الأرزاق والمرتزقة، وموصلها إليهم، وخالق أسباب التمتع بها؛ فالواجب نسبتها إليه وحده وشكره عليها فهو مولاها وواهبها اهـ (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص150 ¬

(¬1) رواه البخاري (141)، ومسلم (1434). (¬2) رواه أبو داود (3451)، والترمذي (1314) بلفظ: (الرزاق) بدلا من (الرازق)، وابن ماجه (2200)، وأحمد (3/ 156) (12613). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (5/ 423): روي من وجوه صحيحة لا بأس بها. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 33): إسناده على شرط مسلم. وقال ابن حجر في ((تسديد القوس)) (1/ 93): أصله في مسلم. وقال ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (ص113)، والألباني في ((صحيح أبي داود)): صحيح. (¬3) ((شرح القصيدة النونية)) للهراس (2/ 101).

- الرشد

- الرشد صفةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، وقد ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)) (¬1). قال الخطابي: الرشيد: هو الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم، فعيل بمعنى مُفْعِل، ويكون بمعنى الحكيم ذي الرُّشد؛ لاستقامة تدبيره، وإصابته في أفعاله (¬2) قال ابن القيم (¬3): وَهُوَ الرَّشيدُ فقوله وفِعَالُهُ ... رُشْدٌ ورَبُّكَ مُرْشِدُ الحَيْرَانِ وكِلاهُما حقٌ فهذا وصْفهُ ... والفعلُ للإرشادِ ذاك الثَّاني وقال الهرَّاس: قال العلامة السعدي رحمه الله في شرحه لهذا الاسم الكريم: يعني أنَّ (الرشيد) هو الذي قوله رُشد وفعله كله رُشد، وهو مُرشد الحيران الضال، فيهديه إلى الصراط المستقيم بياناً وتعليماً وتوفيقاً فالرُّشد الدال عليه اسمه (الرشيد) وصفه تعالى، والإرشاد لعباده فعله اهـ. قلت: وتسمية الله بـ (الرشيد) يفتقر إلى دليل. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص152 ¬

(¬1) رواه أبو داود (517)، والترمذي (207)، وأحمد (2/ 232) (7169). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 92): صحيح متفق عليه. وقال الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (11/ 304): محفوظ. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (50): حسن. وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/ 653): حسن صحيح من حديث أبي صالح. وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 338): حسن. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 155): إسناده صحيح. قال الألباني في ((صحيح أبي داود)): صحيح. والحديث روي عن عائشة، وابن عمر، وأبي أمامة، ووائلة، وأبي محذورة رضي الله عنهم أجمعين بألفاظ متقاربة. (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص97). (¬3) ((النونية)) (2/ 97).

- الرضى

- الرضى صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ الفعليَّة الخبريَّة الثابتة بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: رَضيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة: 119]. وقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18]. الدليل من السنة: حديث عائشة رضي الله عنها: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك)) (¬1). حديث: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً)) (¬2). قال أبو إسماعيل الصابوني: وكذلك يقولون (أي: الإثبات) في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح؛ من: السمع، والبصر، والعين والرضى، والسخط، والحياة اهـ (¬3). وقد استشهد شيخ الإسلام ابن تيمية في (الواسطية) (¬4)، و (التدمرية) (¬5) ببعض ما مضى على إثبات صفة الرضى لله تعالى على ما يليق به. وانظر: صفة (الغضب) وكلام ابن كثير في صفة (السمع) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص152 ¬

(¬1) رواه مسلم (486). (¬2) رواه مسلم (1715). (¬3) ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص5). (¬4) (ص108). (¬5) (ص26).

- الرفق

- الرفق من الصفات الفعلية الخبريَّة الثابتة لله عَزَّ وجَلَّ، و (الرفيق) اسم من أسمائه تعالى الدليل: حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((يا عائشة! إنَّ الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله)) (¬1). حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فَشَقَّ عليهم، فاشقُقْ عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم، فارفق به)) (¬2). قال أبو يعلى الفراء اعلم أنه غير ممتنع وصفه بالرفق لأنه ليس في ذلك ما يحيل على صفاته، وذلك أنَّ الرفق هو الإحسان والإنعام وهو موصوف بذلك لما فيها من المدح، ولأن ذلك إجماع الأمة اهـ (¬3). وقال ابن القيم (¬4): وهُوَ الرَّفِيقُ يُحبُّ أهل الرِّفْقِ بَلْ ... يُعطيهمُ بالرِّفقِ فَوْق أمَانِي قال الهرَّاس: ومن أسمائه (الرفيق)، وهو مأخوذ من الرفق الذي هو التأني في الأمور والتدرج فيها، وضده العنف الذي هو الأخذ فيها بشدة واستعجال اهـ. وفي (تهذيب اللغة): قال الليث: الرفق: لين الجانب، ولطافة الفعل، وصاحبه رفيق (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص153 ¬

(¬1) رواه البخاري (6927)، ومسلم (2165). (¬2) رواه مسلم (1828). (¬3) ((إبطال التأويلات)) (ص467). (¬4) ((القصيدة النونية)) (2/ 86). (¬5) (9/ 109).

- الرقيب

- الرقيب يُوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الرقيب، وهو من صفات الذات، و (الرقيب) اسمٌ من أسماء الله الثابتة بالكتاب. الدليل: قوله تعالى: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. وقوله تعالى: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة: 117]. قال ابن منظور في (اللسان): الرقيب: فعيل بمعنى فاعل، وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء. وقال ابن الأثير: الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء (¬1). وقال السعدي: الرقيب: المطلع على ما أكنَّته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير (¬2). قال القرطبي: رقيب؛ بمعنى: رَاقِب، فهو من صفات ذاته، راجعة إلى العلم والسمع والبصر؛ فإن الله تعالى رقيب على الأشياء بعلمه المقدس عن مباشرة النسيان، ورقيب للمبصَرات ببصره الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ورقيب للمسموعات بسمعه المُدرِكِ لكل حركة وكلام؛ فهو سبحانه رقيب عليها بهذه الصفات، تحت رِقبته الكليات والجزئيات وجميع الخفيات في الأرضين والسماوات، ولا خفي عنده، بل جميع الموجودات كلها على نمطٍ واحدٍ، في أنها تحت رِقبته التي هي من صفته اهـ (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص154 ¬

(¬1) ((جامع الأصول)) (4/ 179). (¬2) ((التفسير)) (5/ 301). (¬3) ((الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)) (1/ 401).

- الروح

- الرَّوْحُ الرَّوح؛ بفتح الراء وسكون الواو؛ بمعنى: الرحمة، ونسيم الريح، والراحة (انظر: (لسان العرب)، وعلى المعنى الأول تكون صفة لله عزَّ وجلَّ. ورود (رَوْح) بمعنى (رحمة) في القرآن الكريم: في قوله تعالى: وََلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]. قال ابن جرير: إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ؛ يقول: لا يقنط من فرجه ورحمته ويقطع رجاءه منه، ثم نقل بسنده عن قتادة قوله: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ؛ أي: من رحمته اهـ (¬1). وقال البغوي: مِنْ رَوْحِ اللهِ؛ أي: من رحمة الله، وقيل: من فَرَجِه. وقال السعدي في تفسير الآية أيضاً: وََلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ؛ فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه، والإياس يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد فضل الله وإحسانه ورحمته وروْحه إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، فإنهم لكفرهم يستَبعدون رحمته، ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبَّهوا بالكافرين، ودلَّ هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه (¬2). ورود لفظة (رَوْح) في السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً ((الريح من رَوْح اللهِ)) (¬3). و (رَوْح) هنا إما بمعنى رحمة أو هي نسيم الريح، وعلى الأول تكون صفة، وعلى الثاني تكون من إضافة المخلوق لله عزَّ وجلَّ. قال ابن الأثير: وفيه: (الريح من روح الله)؛ أي: من رحمته بعباده (¬4). وقال النووي: (من روح الله)؛ هو بفتح الراء، قال العلماء: أي: من رحمة الله بعباده (¬5). وقال شمس الحق العظيم آبادي: (الريح من روح الله)؛ بفتح الراء؛ بمعنى الرحمة؛ كما في قوله تعالى: وََلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (¬6). وقال أحمد شاكر: وقوله: (من روح الله)؛ بفتح الراء وسكون الواو؛ أي: من رحمته بعباده اهـ (¬7). وبنحوه قال الألباني - رحمه الله - في (الكلم الطيب) (¬8). ولشيخ الإسلام تفسير آخر للحديث، سيأتي ذكره قريباً في لفظة (رُوح)؛ بالضم، وكأنه جعل لفظ الحديث: ((الريح من رُوحِ الله)). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص156 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (16/ 232 – شاكر). (¬2) ((تفسير السعدي)) (4/ 27). (¬3) رواه أبو داود (5097)، وابن ماجه (3727)، وأحمد (2/ 267) (7619). والحديث سكت عنه أبو داود. قال النووي في ((الأذكار)) (232): إسناده حسن. قال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 272):حسن صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا ثابت بن قيس. وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) النهاية (2/ 272) (¬5) في (الأذكار/ 232) (¬6) ((عون المعبود)) (14/ 3). (¬7) ((شرح المسند)) (13/ 144). (¬8) (153)

- الروح

- الرُّوُحُ الرُّوح؛ بالضم: خلقٌ من مخلوقات الله عَزَّ وجَلَّ، أضيفت إلى الله إضافة ملكٍ وتشريفٍ لا إضافة وصف؛ فهو خالقها ومالكها، يقبضها متى شاء ويرسلها متى شاء سبحانه، وقد وردت في الكتاب والسنة مضافة إلى الله عَزَّ وجَلَّ في عدة مواضع. ذكرها في الكتاب: قوله تعالى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171]. وقوله: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29،ص: 72]. وقوله: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيَّاً [مريم: 17]. وقوله: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [السجدة: 9]. ذكرها في السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في استفتاح الجنة، وفيه: ((فيأتون آدم ثم موسى عليهما السلام، فيقول: اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه)) (¬1). حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الشفاعة، وفيه: ((يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)) (¬2). أقوال العلماء في (الرُّوح) المضافة إلى الله تعالى: 1 - قال ابن تيمية: فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق؛ كقوله تعالى: (بيت الله)، وناقة الله، وعباد الله، بل وكذلك (روح الله) (¬3) عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم، ولكن؛ إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره؛ مثل كلام الله، وعلم الله، ويد الله ونحو ذلك؛ كان صفة له (¬4). وقال في (مجموع الفتاوى): وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الريح من روح الله)) (¬5)؛ أي: من الروح التي خلقها الله، فإضافة الروح إلى الله إضافة ملك، لا إضافة وصف؛ إذ كل ما يضاف إلى الله إن كان عيناً قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به؛ فهو صفة لله؛ فالأول كقوله نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13]، وقوله: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا [مريم:17]، وهو جبريل، فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:17 - 19]، وقال: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم:12]، وقال عن آدم: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:29] (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (195). والحديث رواه البخاري (4476) عن أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (4712)، ومسلم (194). (¬3) ليس في القرآن بيت الله بل فيه بيتي [الحج:26] وفيه روح الله [يوسف:87] بفتح الراء لا بضمها وفيه روحي [الحجر:29]. (¬4) ((الجواب الصحيح)) (3/ 145). (¬5) رواه أبو داود (5097)، وابن ماجه (3727)، وأحمد (2/ 267) (7619). والحديث سكت عنه أبو داود. قال النووي في ((الأذكار)) (232): إسناده حسن. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 272): حسن صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا ثابت بن قيس. وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (9/ 290)

2 - وقال ابن القيم: فصل: وأما المسألة السابعة عشرة، وهي: هل الروح قديمة أم محدثة مخلوقة؟ وإذا كانت محدثة مخلوقة، وهي من أمر الله؛ فكيف يكون أمر الله محدثاً مخلوقاً؟ وقد أخبر سبحانه أنه نفخ في آدم من روحه؛ فهذه الإضافة إليه هل تدل على أنها قديمة أم لا؟ وما حقيقة هذه الإضافة؛ فقد أخبر عن آدم أنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، فأضاف اليد والروح إليه إضافة واحدة؟. فهذه مسألة زلَّ فيها عالم، وضل فيها طوائف من بني آدم، وهدى الله أتباع رسوله فيها للحق المبين والصواب المستبين، فأجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؛ كما يُعلم بالاضطرار من دينهم أنَّ العالم حادث، وأن معاد الأبدان واقع، وأن الله وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق له، وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم - وهم القرون المفضلة - على ذلك من غير اختلاف بينهم في حدوثها وأنها مخلوقة، حتى نبغت نابغة ممَّن قصر فهمه في الكتاب والسنة، فزعم أنها قديمة غير مخلوقة، واحتج بأنها من أمر الله، وأمره غير مخلوق، وبأن الله تعالى أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وكتابه وقدرته وسمعه وبصره ويده، وتوقف آخرون فقالوا: لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة. ثم نقل كلام الحافظ أبي عبد الله بن منده والحافظ محمد بن نصر المروزي، وهما ممن يقولان بأنها مخلوقة، ثم قال: ولا خلاف بين المسلمين أنَّ الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومَن سواه من بني آدم كلها مخلوقة لله، خلقها وأنشأها وكوَّنها واخترعها، ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه، قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13] اهـ (¬1). 3 - وقال ابن كثير في (التفسير): فقوله في الآية والحديث: وَرُوحٌ مِنْهُ؛ كقوله: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]؛ أي: من خلقه ومن عنده، وليست (من) للتبعيض؛ كما تقول النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة، بل هي لابتداء الغاية، وقد قال مجاهد في قوله:: وَرُوحٌ مِنْهُ، أي ورسول منه، وقال غيره: ومحبة منه، والأظهر الأول؛ أنه مخلوق من روح مخلوقة، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف؛ كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله اهـ. لكن روى الإمام أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: ((حتى لا يبقى في الأرضين إلا شرار أهلها، وتلفظهم أرضوهم، وتقذرهم رُوح الرحمن عزَّ وجلَّ)) (¬2) قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده ضعيف، ولكن الغريب أنه علق على الحديث بقوله: روح الرحمن من الصفات التي يجب الإيمان بها دون تأويل أو إنكار، من غير تشبيه ولا تمثيل، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، سبحانه وتعالى! قلت: هذا مردود بما سبق، والحديث ضعيف. نقل أبو موسى المديني في (المجموع المغيث) كلاماً نافعاً جداً لأبي إسحاق إبراهيم الحربي عن الاختلاف في قراءة وتفسير (الرَّوْح)؛ فراجعه إن شئت (¬3). فائدة: قال شيخ الإسلام: لم يعبر أحدٌ من الأنبياء عن حياة الله بأنها رُوُحُ الله فمن حمل كلام أحدٍ من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب اهـ (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص158 ¬

(¬1) ((الروح)) (ص501). (¬2) رواه أحمد (2/ 84) (5562). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 254): رواه أحمد في حديث طويل في قتال أهل البغي وفيه أبو جناب الكلبي وهو ضعيف. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (7/ 268): ضعيف. (¬3) ((المجموع المغيث)) (1/ 812 - 814). (¬4) ((الجواب الصحيح)) (4/ 50).

- الزارع

- الزارع يُوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الزَّارِع، ولكنه ليس اسماً من أسمائه. وقد وردت هذه الصفة في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 64]. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: أضاف الحرث إليهم والزَّرعَ إليه تعالى؛ لأن الحرث فعلهم، ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى، وينبت على اختياره، لا على اختيارهم اهـ. وقال الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - في جواب له عن سؤال: لماذا كان التسمي بعبد الحارث من الشرك مع أنَّ الله هو الحارث؟ قال: أما قول السائل في سؤاله (مع أنَّ الله هو الحارث)؛ فلا أعلم اسماً لله تعالى بهذا اللفظ، وإنما يوصف عَزَّ وجَلَّ بأنه الزَّارِع، ولا يسمى به؛ كما في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:64] اهـ (¬1). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص162 ¬

(¬1) ((فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين)) (1/ 25).

- الساق

- الساق صفةٌ من صفات الذات الخبريَّة، ثابتةٌ لله تعالى بالكتاب وصريحِ السنة الصحيحة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42]. الدليل من السنة: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن)) (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الوجه السادس: أنه من أين في ظاهر القرآن أنَّ لله ساقاً وليس معه إلا قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، والصحابة قد تنازعوا في تفسير الآية؛ هل المراد به الكشف عن الشِّدَّة، أو المراد به أنه يكشف الرب عن ساقه؟ ولم تتنازع الصحابة والتابعون فيما يذكر من آياتِ الصفات إلا في هذه الآية؛ بخلاف قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] ونحو ذلك؛ فإنه لم يتنازع فيها الصحابة والتابعون، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أنَّ ذلك صفة لله تعالى؛ لأنه قال: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، ولم يقل: عن ساق الله، ولا قال: يكشف الرب عن ساقه، وإنما ذكر ساقاً نكرة غير معرفة ولا مضافة، وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله، والذين جعلوا ذلك من صفات الله تعالى أثبتوه بالحديث الصحيح المفسر للقرآن، وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرج في (الصحيحين)، الذي قال فيه ((فيكشف الرب عن ساقه))، وقد يقال: إنَّ ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه وأيضاً فحمل ذلك على الشِّدَّة لا يصح، لأن المستعمل في الشِّدَّة أن يقال: كشف الله الشِّدَّة، أي: أزالها، كما قال: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف:50]، وقال: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ [الأعراف:135]، وقال: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أن يقال: كشف الشِّدَّة؛ أي: أزالها؛ فلفظ الآية: يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، وهذا يراد به الإظهار والإبانة؛ كما قال: كَشَفْنَا عَنْهُمُ وأيضاً فهناك تحدث الشِّدَّة لا يزيلها، فلا يكشف الشِّدَّة يوم القيامة، لكن هذا الظاهر ليس ظاهراً من مجرد لفظة سَاقٍ، بل بالتركيب والسياق وتدبر المعنى المقصود اهـ (¬2). ولتلميذه ابن القيم في (الصواعق المرسلة) كلام شبيه بهذا، قال رحمه الله: الثامن: أن نقول من أين في ظاهر القرآن أنَّ لله ساقاً؟ وليس معك إلا قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم: 42]، والصحابة متنازعون في تفسير الآية؛ هل المراد الكشف عن الشِّدَّة، أو المراد بها أنَّ الرب تعالى يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أنَّ ذلك صفة الله؛ لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه، وإنما ذكره مجرداً عن الإضافة منكراً، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: ((فيكشف الرب عن ساقه، فيخرون له سُجَّداً))، ومن حمل الآية على ذلك؛ قال: قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ [القلم: 42]: مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فيكشف عن ساقه، فيخرون له سجداً)) وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة؛ جلت عظمتها، وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثيل أو شبيه قالوا: وحمل الآية على الشِّدَّة لا يصح بوجه، فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كُشِفَتِ الشِّدَّة عن القوم، لا كُشِف عنها، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا كشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف: 50]، وقال: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ [المؤمنون: 75]؛ فالعذاب والشِّدَّة هو المكشوف لا المكشوف عنه، وأيضاً فهناك تحدث الشِّدَّة وتشتد ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشِّدَّة اهـ (¬3) قلتُ: ليس مقصود الإمامين الجليلين أنَّ الصحابة اختلفوا في إثبات صفة السَّاق لله عَزَّ وجَلَّ مع ورودها صراحةً في حديث أبي سعيد المتقدم، بل مقصودهما أنهم اختلفوا في تفسير الآية؛ هل المراد بها الكشف عن الشِّدَّة، أو المراد الكشف عن ساق الله؟ والله أعلم. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص163 ¬

(¬1) رواه البخاري (7439) واللفظ له، ومسلم (183). (¬2) ((نقض أساس التقديس)) (ق/261). (¬3) (1/ 252).

- السبوح

- السبوح يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه السُبُّوح، وهذا ثابت بالسنة الصحيحة، والسُبُّوح من أسماء الله تعالى، أثبته ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (¬1)، والشيخ العثيمين -رحمه الله- في (القواعد المثلى). الدليل: حديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: ((سُبُّوح قُدُّوس رب الملائكة والروح)) (¬2). المعنى: قال الفيروزأبادي في (القاموس المحيط): سُبُّوح قُدُّوس-ويفتحان- من صفاته تعالى؛ لأنه يُسَبَّحُ ويُقَدَّس. وقال ابن قتيبة: ومن صفاته: (سُبُّوح)، وهو حرف مبني على (فُعُّول)، من (سبَّح الله): إذا نَزَّهه وبرَّأه من كل عيب، ومنه قيل: سبحان الله؛ أي: تَنْزيهاً لله، وتبرئة له من ذلك اهـ (¬3). (قال أبو إسحاق الزجاج: السبوح: الذي ينزه عن كل سوء، وقال الحليمي: السبوح معناه: المنزه عن المعائب، والصفات التي تعتري المحدثين من ناحية الحدث، والتسبيح: التنزيه) وقال النووي في شرحه لـ (صحيح مسلم) في الحديث المتقدم: قوله: ((سُبُّوح قُدُّوس)): هما بضم السين والقاف وبفتحهما، والضم أفصح وأكثر قال الجوهري في (فصل: ذرح): كان سيبويه يقولهما بالفتح وقال الجوهري في (فصل: سبح): سُبُّوح من صفات الله تعالى قال ثعلب: كل اسم على فعول؛ فهو مفتوح الأول؛ إلا السُبُّوح والقُدُّوس؛ فإن الضم فيهما أكثر، وكذلك الذروح، وهي دويبة حمراء منقطة بسواد تطير، وهي من ذوات السموم وقال ابن فارس والزبيدي وغيرهما: سُبُّوح هو الله عَزَّ وجَلَّ؛ فالمراد بالسُبُّوح القُدُّوس المسَبَّح المقدَّس؛ فكأنه قال: مُسَبَّحٌ مُقَدَّسٌ رب الملائكة والروح، ومعنى سُبُّوح: المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالإلهية، وقُدُّوس: المطهر من كل ما لا يليق بالخالق، وقال الهروي: قيل: القُدُّوس المبارك قال القاضي عياض: وقيل فيه: سُبُّوحاً قُدُّوساً على تقدير: أسبح سُبُّوحاً أو أذكر أو أعظم أو أعبد. وقوله: ((رب الملائكة والرُّوح))؛ قيل: الرُّوح ملك عظيم وقيل: يحتمل أن يكون جبريل عليه السلام وقيل: خلق لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة، والله سبحانه وتعالى أعلم. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص166 ¬

(¬1) (22/ 485). (¬2) رواه مسلم (487). (¬3) ((تفسير غريب القرآن)) (ص8).

- الستر

- الستر صفةٌ فعليةٌ لله عَزَّ وجَلَّ ثابتةٌ بالسنة الصحيحة، و (السِّتِّير) من أسمائه تعالى الدليل: حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن الله عَزَّ وجَلَّ حليم، حيي، سِتِّير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم؛ ليستتر)) (¬1). حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((لا يستر الله على عبد في الدنيا، إلا ستره الله يوم القيامة)) (¬2). قال ابن القيم (¬3): وهو الحَيِيُّ فليسَ يفضحُ عبدَه ... عند التَّجاهُرِِ منهُ بالعصيانِ لكنَّه يُلْقِي عليه سِتْرَهُ ... فَهُوَ السِّتِّير وصاحِبُ الغُفرَانِ وستِّير؛ أي: يحب الستر لعباده المؤمنين؛ ستر عوراتهم، وستر ذنوبهم، فيأمرهم أن يستروا عوراتهم، وأن لا يجاهروا بمعاصيهم في الدنيا، وهو يسترها عليهم في الآخرة. فائدة: اعلم أنَّ (السَّتَّار) ليس من أسمائه تعالى، ولم يرد ما يدل على ذلك؛ خلاف ما هو شائع عند عوام الناس. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص167 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4012) من غير لفظة ((حليم))، والنسائي (1/ 200)، وأحمد (4/ 224). من حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 204)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه مسلم (2590). (¬3) ((القصيدة النونية)) (2/ 80).

- السخرية بالكافرين

- السخرية بالكافرين من الصفات الفعليَّة الخبريَّة الثابتة لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 79] الدليل من السنة: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، وفيه أنه قال يخاطب الله عَزَّ وجَلَّ: ((أتسخر بي؟ أو تضحك بي وأنت الملك)) (¬1). قال الأزهري: يُقال: سَخِرَ منه وبه: إذا تَهَزَّأ به (¬2). قال قَوَّام السنة: وتولى الذب عنهم (يعني: المؤمنين) حين قالوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، فقال: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:14 - 15]، وقال: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ، وأجاب عنهم، فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة:13]، فأجل أقدارهم أن يوصفوا بصفة عيب، وتولى المجازاة لهم، فقال: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وقال: سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ؛ لأن هاتين الصفتين إذا كانت من الله؛ لم تكن سفهاً، لأن الله حكيم، والحكيم لا يفعل السفه، بل ما يكون منه يكون صواباً وحكمة (¬3). وقال شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى) عند الرد على من زعم أنَّ هناك مجازاً في القرآن: وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن؛ كلفظ (المكر) و (الاستهزاء) و (السخرية) المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة؛ كانت ظلماً له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله؛ كانت عدلاً؛ كما قال تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76]، فكاد له كما كادت إخوته لما قاله له أبوه: لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5]، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15]، وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل:51]، وقال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ [التوبة:79] اهـ (¬4). فأهل السنة والجماعة يثبتون صفة السخرية لله عَزَّ وجَلَّ كما أثبتها لنفسه، كما يثبتون صفة الكيد والمكر، ولا يخوضون في كيفيتها، ولا يشبهونها بسخرية المخلوق؛ فالله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. وانظر كلام ابن جرير الطبري في صفة (الاستهزاء)، فإنه مهم صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص168 ¬

(¬1) رواه البخاري (6571)، ومسلم (186). (¬2) ((تهذيب اللغة)) (7/ 167). (¬3) ((الحجة)) (1/ 168). (¬4) (7/ 111).

- السخط أو السخط

- السَّخَطُ أو السُّخْطُ صفةٌ من صفات الله الفعليَّة الخبريَّة الثابتة بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ [المائدة: 80]. قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد: 28]. الدليل من السنة: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((إن الله عَزَّ وجَلَّ يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك وسعديك (إلى أن قال فيه:) فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني؛ فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) (¬1). حديث بريدة رضي الله عنه: ((لا تقولوا للمنافق سيد، فإن يك سيداً؛ فقد أسخطتم ربكم عزَّ وجلَّ)) (¬2). قال أبو إسماعيل الصابوني: وكذلك يقولون في جميع الصفات (يعني: الإثبات) التي نزل بها القرآن ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والرضى والسخط اهـ (¬3). وقال الشيخ محمد خليل الهرَّاس في (شرحه للواسطية) تعليقاً على بعض الآيات التي أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية فيها بعض صفات الله عَزَّ وجَلَّ الفعلية: تضمنت هذه الآيات إثبات بعض صفات الفعل؛ من الرضى لله، والغضب، واللعن، والكره، والسخط، والمقت، والأسف، وهي عند أهل الحق صفات حقيقية لله عَزَّ وجَلَّ، على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق (¬4). وانظر كلام ابن كثير في: صفة (السمع) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص170 ¬

(¬1) رواه البخاري (6549)، ومسلم (2829). (¬2) رواه أبو داود (4977)، وأحمد (5/ 346) (22989). وسكت عنه أبو داود، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 44): إسناده صحيح. وقال النووي في ((الأذكار)) (ص449): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((سنن أبي داود)): صحيح. (¬3) ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص5) (¬4) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص108).

- السرعة

- السرعة صفةٌ فعليَّةٌ اختياريةٌ ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة الصحيحة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 202، النور: 39]. وقوله: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ [الأنعام: 165]. الدليل من السنة: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟! فلما أنزل الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ؛ قلت: ما أرى ربَّك إلا يسارع في هواك)) (¬1). حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن الله قال: إذا تلقَّاني عبدي بشبر؛ تلقيته بذراع، وإذا تلقاني بذراع؛ تلقيته بباع، وإذا تلقاني بباع؛ جئته أتيته بأسرع)) (¬2). قال ابن جرير في تفسير الآية 202 من سورة البقرة: وإنما وصف جَلَّ ثناؤه نفسه بسرعة الحساب لأنه جَلَّ ذكره يحصي ما يحصي من أعمال عباده بغير عقد أصابع، ولا فكرٍ، ولا روية، فِعْلَ العجزةِ الضَّعَفة من الخلق، ولكنه لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزُب عنه مثقالُ ذرة فيهما، ثم هو مجازٍ عباده على كلِّ ذلك، فلذلك جَلَّ ذكره أُمْتُدِحَ بسرعة الحساب. وقال أيضاً: القولُ في تأويل قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر: 17] إن الله ذو سرعة في محاسبة عباده يومئذٍ على أعمالهم التي عملوها في الدنيا. وقال الشوكاني في (فتح القدير) في تفسير آية البقرة السابقة: والمعنى أن حسابه لعباده في يوم القيامة سريعٌ مجيئه فبادروا ذلك بأعمال الخير، أو أنه وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم، وأنه لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ فيحاسبهم في حالة واحدة. وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد: 41]: وهو سريع الحساب فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته على السرعة. وقد عدَّ الحافظ أبو عبد الله بن منده رحمه الله (السريع) من أسماء الله في كتابه، مستشهداً بحديث أبي هريرة السابق، ووافقه عليه محقق الكتاب (¬3)، وفي ذلك نظرٌ كبيرٌ، ولكن عدُّهما له اسماً يتضمن أنه صفة عندهما. فالله عَزَّ وجَلَّ سريعٌ في حسابه، سريعٌ عقابه، سريعٌ في إتيانه ومجيئه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سبحانه. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص171 ¬

(¬1) رواه البخاري (4788)، ومسلم (1464). (¬2) رواه مسلم (2675) (3). (¬3) ((التوحيد)) (2/ 137).

- السكوت

- السكوت يُوصف ربنا عَزَّ وجَلَّ بالسُّكوت كما يليق به سبحانه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ وهذا ثابتٌ بالسنة الصحيحة، وهي صفةٌ فعليَّةٌ اختيارية متعلقة بمشيئته سبحانه وتعالى. الدليل: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: ((ما أحلَّ الله في كتابه فهو الحلال، وما حَرَّم فهو الحرام، وما سكت عنه فهو عَفْوٌ، فاقبلوا من الله عافيته)) الحديث (¬1). حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه: الحلال ما أحلَّ الله في كتابه، والحرام ما حرَّم الله في كتابه، وما سكت عنه؛ فهو مما عفا لكم (¬2). قال شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام (يعني: أبا إسماعيل الأنصاري): فطار لتلك الفتنة (يعني: التي وقعت بين الإمام أبي بكر بن خزيمة وأصحابه) ذاك الإمام أبو بكر، فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها، كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر، وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب، ونقش في المحاريب: إنَّ الله متكلم، إن شاء تكلم، وإن شاء سكت؛ فجزى الله ذاك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه، وتوقير نبيه خيراً، قلت: في حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرَّم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه)) (¬3) رواه أبو داود ويقول الفقهاء في دلالة المنطوق والمسكوت، وهو ما نطق به الشارع - وهو الله ورسوله - وما سكت عنه: تارة تكون دلالة السكوت أولى بالحكم من المنطوق، وهو مفهوم الموافقة، وتارة تخالفه، وهو مفهوم المخالفة، وتارة تشبهه، وهو القياس المحض فثبت بالسنة والإجماع أنَّ الله يوصف بالسكوت، لكن السكوت يكون تارة عن التكلم وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه اهـ (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص173 ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((مسند الشاميين)) (6/ 249)، والحاكم (2/ 406). قال البزار في ((البحر الزخار)) (10/ 27): إسناده صالح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في ((التلخيص)): صحيح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 171): رواه البزار والطبراني في ((الكبير)) وإسناده حسن ورجاله موثقون. وقال الألباني في ((التعليقات الرضية)) (3/ 24): صحيح. (¬2) رواه الترمذي (1726)، وابن ماجه (3367)، والحاكم (4/ 129). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح مفسر في الباب وسيف بن هارون لم يخرجا له. ووافقه الذهبي. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 185): معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 216): محفوظ عن سلمان الفارسي موقوفاً عليه أو مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (1/ 222): إسناده جيد مرفوع. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن. (¬3) رواه الترمذي (1726)، وابن ماجه (3367)، والحاكم (4/ 129). من حديث سلمان رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح مفسر في الباب وسيف بن هارون لم يخرجا له. ووافقه الذهبي. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 185): معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 216): محفوظ عن سلمان الفارسي موقوفاً عليه أو مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (1/ 222): إسناده جيد مرفوع. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن. ورواه بنحوه أبو داود (3800) موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما وسكت عنه وقال النووي في ((المجموع شرح المهذب)) (9/ 25): إسناده حسن. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 367): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((غاية المرام)) (ص34). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 178).

- السلام

- السلام يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه السلام، وهو اسم له ثابت بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر: 23]. الدليل من السنة: حديث ثوبان رضي الله عنه: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) (¬1). قال ابن قتيبة: ومن صفاته (السلام)؛ قال: السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِن، ومنه سمي الرجل: عبد السلام؛ كما يُقال: عبد الله، ويرى أهل النظر من أصحاب اللغة أنَّ السلام بمعنى السلامة؛ كما يُقال: الرَّضاع والرَّضاعة، واللَّذاذ واللَّذاذة؛ قال الشاعر: تُحَيِّي بالسلامةِ أُمَّ بَكْرٍ ... فَهَلْ لَكَ بَعْدَ قَوْمِكَ مِنْ سَلامِ فسمى نفسه جلَّ ثناؤه سلاماً لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء والموت اهـ (¬2). وقال الخطابي: السلام في صفة الله سبحانه هو الذي سلم من كل عيب، وبريء من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين؛ وقيل: الذي سلم الخلق من ظلمه (¬3). وقال ابن كثير في تفسير الآية السابقة: السلام؛ أي: من جميع العيوب والنقائص؛ لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله. وقال ابن الأثير: السلام: ذو السلام؛ أي: الذي سلم من كل عيب وبريء من كل آفة (¬4). وقال السعدي: القُدُّوس السَّلام؛ أي: المعظم المنَزَّه عن صفات النقص كلها، وأن يماثله أحد من الخلق؛ فهو المتنَزِّه عن جميع العيوب، والمتنَزِّه عن أن يقاربه أو يماثله أحدٌ في شيء من الكمال (¬5). وقال البيهقي: السلام: هو الذي سلم من كل عيب، وبريء من كلِّ آفة، وهذه صفة يستحقها بذاته (¬6). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص175 ¬

(¬1) رواه مسلم (591). (¬2) ((تفسير غريب القرآن)) (ص: 6). (¬3) ((شأن الدعاء)) (ص: 41). (¬4) ((جامع الأصول)) (4/ 176). (¬5) ((تفسير السعدي)) (5/ 300). (¬6) ((الاعتقاد)) (ص: 55).

- السلطان

- السلطان يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه (ذو سلطان)، والسُّلطان صفةٌ من صفاته يستعيذ الإنسان بها كما يستعيذ بالله وبسائر صفاته، وهذا ثابتٌ في الحديث الصحيح. الدليل: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ((عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان إذا دخل المسجد يقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)) (¬1). قال الأزهري: وقال الليث: السُّلطان: قدرة الملك وقدرة من جعل ذلك له، وإن لم يكن ملكاً (¬2). قال أبو محمد الجويني: نصفه بما وصف به نفسه من الصفات التي توجب عظمته وقدسه ذو الوجه الكريم، والسمع السميع، والبصر البصير والقدرة والسُّلطان والعظمة (¬3). قال الحافظ ابن القيم (¬4): والرُّوُحُ والأمْلاكُ تَصْعَدُ في مَعَا رِجِهِ إليْهِ جَلَّ ذُو السُّلْطَانِ صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص176 ¬

(¬1) رواه أبو داود (466). وسكت عنه. وقال النووي في ((الأذكار)) (ص46): حديث حسن رواه أبو داود بإسناد جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) ((تهذيب اللغة)) (12/ 336). (¬3) ((رسالة إثبات الاستواء والفوقية)) (ص175). (¬4) ((القصيدة النونية)) (1/ 415).

- السمع

- السمع صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة، و (السميع) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وقوله: قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1] الدليل من السنة: حديث عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة وقولها: ((الحمد لله الذي وسع سمعُه الأصوات)) (¬1). حديث عائشة رضي الله عنها؛ أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة (وفي الحديث:) فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال)) (¬2). فأهل السنة والجماعة يقولون: إن الله سميع بسمع يليق بجلاله وعظمته، كما أنه بصير ببصر، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ. قال أبو الحسن الأشعري: وأجمعوا على أنه عَزَّ وجَلَّ يسمع ويرى (¬3). قال الحافظ ابن القيم: وهو سميعٌ بصيرٌ له السَّمْعُ والبصر، يسمع ويبصر وليس كمثله شيءٌ في سمعه وبصره (¬4). وقال الحافظ ابن كثير في رسالته (العقائد): فإذا نطق الكتاب العزيز، ووردت الأخبار الصحيحة، بإثبات السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة والعظمة والمشيئة والإرادة والقول والكلام والرضى والسخط والحب والبغض والفرح والضحك؛ وجب اعتقاد حقيقته؛ من غير تشبيهٍ بشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، والانتهاء إلى ما قاله الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولا زيادة عليه، ولا تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، وإزالة لفظ عما تعرفه العرب وتصرفه عليه، والإمساك عما سوى ذلك انظر: (علاقة الإثبات والتفويض) لرضا نعسان معطي (¬5). وقال الهرَّاس: أمَّا السَّمْعُ فقد عبَّرت عنه الآيات بكل صيغ الاشتقاق، وهي: سَمِعَ، ويَسْمَعُ، وسَمِيعٌ، وأسْمَعُ، فهو صفة حقيقية لله، يدرك بها الأصوات (¬6). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص177 ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم بعد حديث (7385)، ورواه موصولاً النسائي (6/ 168)، وابن ماجه (188)، وأحمد (6/ 46) (24241). قال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163)، وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 339)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795). (¬3) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص225). (¬4) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1020). (¬5) (ص51). (¬6) ((شرحه للواسطية)) (120).

- السيد

- السيد يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه السَّيِّدُ، وهو اسمٌ ثابتٌ له بالسنة الصحيحة. الدليل: حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه؛ قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدنا فقال: ((السَّيِّد الله تبارك وتعالى)) (¬1). قال ابن القيم (¬2): وهوَ الإلهُ السَّيِّدُ الصَّمدُ الذي ... صَمَدَتْ إليهِ الخلقُ بالإذْعَانِ الكَامِلُ الأوْصَافِ منْ كُلِّ الوجُوه ... كَمالُهُ ما فيهِ مِنْ نُقْصَانِ ومن معاني الصمد - كما سيأتي في بابه -: السَّيِّد الذي كَمُل في سؤدَدِه. وقال في (تحفة المودود): وأمَّا وصفُ الربِّ تعالى بأنه السَّيِّد فذلك وصفٌ لربه على الإطلاق، فإن سَيَّد الخلق هو مالك أمرهم الذي إليه يرجعون، وبأمره يعملون، وعن قوله يصدرون، فإذا كانت الملائكة والإنس والجن خلقاً له سبحانه وتعالى وملكاً له ليس لهم غنى عنه طرفة عين، وكل رغباتهم إليه، وكل حوائجهم إليه، كان هو سبحانه وتعالى السَّيِّد على الحقيقة (¬3). وقال في (بدائع الفوائد): السَّيِّد إذا أطلق عليه تعالى فهو بمعنى: المالك، والمولى، والرب، لا بالمعنى الذي يُطلق على المخلوق والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص179 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4806)، وأحمد (4/ 24) () وسكت عنه. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 403):- كما أشار لذلك في المقدمة-. وقال الشوكاني في ((الفتح الرباني)) (5646): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) ((القصيدة النونية)) (2/ 94). (¬3) (ص80). (¬4) (3/ 730).

- الشافي

- الشافي يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الشَّافي، الذي يشفي عباده من الأسقام، و (الشَّافي) اسم من أسمائه تعالى الثابتة بالسنة الصحيحة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: ((وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) [الشعراء: 80]. الدليل من السنة: حديث عائشة رضي الله عنهما مرفوعاً: ((اللهم رب الناس! أذهب البأس، واشف أنت الشَّافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) (¬1). حديث عائشة رضي الله عنها – في سِحْرِ النبي صلى الله عليه وسلم-مرفوعاً: ((أمَّا أنا فقد شفاني الله وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً)) (¬2). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص180 ¬

(¬1) البخاري (5743)، ومسلم (2191). (¬2) رواه البخاري (3268).

- الشخص

- الشخص يجوز إطلاق لفظة (شخص) على الله عَزَّ وجَلَّ، وقد وردت هذه اللفظة في صحيح السنة. من ذلك ما رواه مسلم من حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه؛ قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي؛ لضربته بالسيف غير مصفح عنه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حَرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك؛ بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، من أجل ذلك؛ وعد الله الجنة)) (¬1) ورواه البخاري (7416) بلفظ: ((لا أحد))، لكنه قال: (وقال عبيد الله بن عمرو بن عبد الملك (أحد رواة الحديث): ((لا شخص أغير من الله)) (¬2). وقال البخاري: باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا شخص أغير من الله)) (¬3). وقال ابن أبي عاصم في (السنة): باب: ذكر الكلام والصوت والشخص وغير ذلك (¬4). وقال أبو يعلى الفراء في فصل عنونه المحقق بقوله: (إثبات صفة الشخص والغيرة لربنا جل شأنه)؛ قال بعد ذكر حديث مسلم السابق: اعلم أنَّ الكلام في هذا الخبر في فصلين: أحدهما: إطلاق صفة الغيرة عليه والثاني: في إطلاق الشخص أما الغيرة وأما لفظ الشخص فرأيت بعض أصحاب الحديث يذهب إلى جواز إطلاقه، ووجهه أنَّ قوله: ((لا شخص)) نفي من إثبات، وذلك يقتضي الجنس؛ كقولك: لا رجل أكرم من زيد؛ يقتضي أنَّ زيداً يقع عليه اسم رجل، كذلك قوله: ((لا شخص أغير من الله))؛ يقتضي أنه سبحانه يقع عليه هذا الاسم اهـ (¬5) وقال الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله في (شرحه لكتاب التوحيد من صحيح البخاري): قال (أي: البخاري): باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا شخص أغير من الله)) الغيرة بفتح الغين والشخص: هو ما شخص وبان عن غيره، ومقصد البخاري أنَّ هذين الاسمين يطلقان على الله تعالى وصفاً له؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبتهما لله، وهو أعلم الخلق بالله تعالى اهـ (¬6). وتعقيباً على قول عبيد الله القواريري: ليس حديثٌ أشدَّ على الجهمية من هذا الحديث (يعني: حديث مسلم)؛ قال حفظه الله (¬7): وبهذا يتبين خطأ ابن بطال في قوله: أجمعت الأمة على أنَّ الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به اهـ ذكره الحافظ وهذه مجازفة، ودعوى عارية من الدليل؛ فأين هذا الإجماع المزعوم؟! ومن قاله سوى المتأثرين ببدع أهل الكلام؛ كالخطاب، وابن فورك، وابن بطال؛ عفا الله عنا وعنهم؟! وقوله: لأن التوقيف لم يرد به: يبطله ما تقدم من ذكر ثبوت هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرق صحيحة لا مطعن فيها، وإذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجب العمل به والقول بموجبه، سواء كان في مسائل الاعتقاد أو في العمليات، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم إطلاق هذا الاسم - أعني: الشخص - على الله تعالى، فيجب اتباعه في ذلك على من يؤمن بأنه رسول الله، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم بربه وبما يجب له وما يمتنع عليه تعالى من غيره من سائر البشر. وتقدم أنَّ الشخص في اللغة: ما شخص وارتفع وظهر؛ قال في (اللسان): الشخص كل جسم له ارتفاع وظهور، والله تعالى أظهر من كل شيء وأعظم وأكبر، وليس في إطلاق الشخص عليه محذورٌ على أصل أهل السنة الذين يتقيدون بما قاله الله ورسوله اهـ. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص181 ¬

(¬1) رواه مسلم (1499). (¬2) رواه البخاري (7416). (¬3) قبل حديث (7416). (¬4) (1/ 225). (¬5) (1/ 225). (¬6) (1/ 335). (¬7) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 338).

- الشدة (بمعنى القوة)

- الشدة (بمعنى القوَّة) صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجَلَّ ثابتةٌ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد: 13]. وقوله تعالى: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا [القصص: 35]. وقوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [الإنسان: 28]. الدليل من السنة: حديث: ((اللهم اشْدُدْ وطأتك على مضر)) (¬1). قال الزجاجي: (الشديد في صفات الله عَزَّ وجَلَّ على ضربين: أحدهما: أنْ يُرَادَ بالشديد: القويُّ؛ لأنه قد يقال للقوي من الآدميين: شديدٌ، وكأنه في صفات الآدميين، يذهب به إلى معنى شدة البدن وصلابته وجلده، وذلك في صفات الله عَزَّ وجَلَّ غير سائغ، بل يكون الشديد في صفاته بمعنى القوي حسب، والشديد: خلاف الضعيف. والآخَرُ: أنْ يُراد بالشديدِ في صفاته عَزَّ وجَلَّ: أنه شديد العقاب، فيرجع المعنى في ذلك في الحقيقة إلى أنَّ عذابَهُ شديدٌ؛ كما قال: إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، ألا ترى أنا إذا قُلنا: زيدٌ كثيرٌ العيال؛ أنَّ المعنى إنما هو وصف عيالهِ بالكثرة، وكذلك إذا قلنا: زيدٌ كثيرٌ المالِ؛ فإنَّما وصفنا مالهُ بالكَثْرةِ، وإنْ كان الخبر قد جَرى عليه لفظاً، وكذلك إذا قلنا: زيدٌ شديد العقاب؛ فإنما وَصَفنا عقابه بالشدَّة، فكذلك مجراه في قولنا: اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:196]: شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165] اهـ (¬2). وقد عدَّ الزجاجي وابن منده في (كتاب التوحيد) ووافقه محققه (الشَّدِيدَ) من أسماء الله تعالى، ولا يُوافَقُونَ على ذلك. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص184 ¬

(¬1) رواه البخاري (2932) ومسلم (675). (¬2) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص192).

- الشكر

- الشكر صفةٌ فعليةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، و (الشاكر) و (الشكور) من أسمائه تعالى، وكل ذلك ثابت بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة: 158]. وقوله: وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن: 17]. الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ساقي الكلب ماءً، وفيه: ((فنَزل البئر، فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له)) (¬1). قال ابن منظور في (لسان العرب): والشكور: من صفات الله جل اسمه، معناه: أنه يزكو عنده القليل من أعمال العباد، فيضاعف لهم الجزاء، وشكره لعباده: مغفرة لهم. وقال أبو القاسم الزجاجي (¬2): وقد تأتي الصِّفة بالفعل لله عَزَّ وجَلَّ ولعبده، فيقال: (العبد شكور لله)؛ أي: يشكر نعمته، والله عَزَّ وجَلَّ شكورٌ للعبد؛ أي: يشكر له عمله؛ أي: يجازيه على عمله، والعبد توابٌ إلى الله من ذنبه، والله توابٌ عليه؛ أي: يقبل توبته ويعفو عنه. قلت: تفسير شكر الله لعباده بالمغفرة والمجازاة قد يُفهم منه صرفه عن الحقيقة وهذا غير صحيح. قال ابن القيم (¬3): وأما شكر الرب تعالى؛ فله شأن آخر؛ كشأن صبره، فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة؛ فإنه يعطي العبد، ويوفقه لما يشكره عليه إلى آخر كلامه رحمه الله، وهو نفيس جداً. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص185 ¬

(¬1) رواه البخاري (2363)، ومسلم (2244). (¬2) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص152). (¬3) ((عدة الصابرين)) (414).

- الشهيد

- الشهيد يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه (شهيد)، والشهيد اسم من أسمائه تعالى، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [آل عمران: 18]. قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام: 19]. الدليل من السنة: حديث حجة الوداع، وفيه: ((اللهم اشهد! فليبلغ الشاهد الغائب)) (¬1). المعنى: قال ابن الأثير: الشهيد: هو الذي لا يغيب عنه شيء، يقال: شاهد وشهيد؛ كعالم وعليم؛ أي أنه حاضر يشاهد الأشياء ويراها (¬2). وقال الشيخ السعدي: الشهيد؛ أي: المطلع على جميع الأشياء، سمع جميع الأصوات خفيها وجليها، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه اهـ (¬3). و (شهد الله)؛ بمعنى: علم، وكتب، وقضى، وأظهر، وبيَّن انظر: (تهذيب اللغة). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص187 ¬

(¬1) رواه البخاري (1741)، ومسلم (1679) (31). (¬2) ((جامع الأصول)) (4/ 179). (¬3) ((تفسير السعدي)) (5/ 303).

- شيء

- شيء يصح إطلاق لفظة (شيء) على الله عَزَّ وجَلَّ أو على صفة من صفاته، لكن لا يقال: (الشيء) اسم من أسمائه تعالى. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام: 19] وقوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص: 88] والوجه صفةٌ ذاتيةٌ لله تعالى وقوله: أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93]، والقرآن كلام الله، وهو صفةٌ من صفاته، والقول في الصفة كالقول في الذات. الدليل من السنة: حديث سهل بن سعد رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: ((أمعك من القرآن شيْءٌ؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا؛ لسُوَرٍ سمَّاها)) (¬1). قال البخاري في كتاب التوحيد من (صحيحه): باب: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللهُ، فسمى الله تعالى نفسه شيئاً، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً، وهو صفةٌ من صفات الله، وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ (ثم أورد حديثَ سهلٍ السابق). قال الشيخ عبد الله الغنيمان: يريد بهذا أنه يطلق على الله تعالى أنه شيء، وكذلك صفاته، وليس معنى ذلك أن الشيء من أسماء الله الحسنى، ولكن يخبر عنه تعالى بأنه شيء، وكذا يخبر عن صفاته بأنها شيء؛ لأن كل موجود يصح أن يقال: إنه شيء اهـ (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويفرق بين دعائه والإخبار عنه؛ فلا يدعى إلاَّ بالأسماء الحسنى، وأما الإخبار عنه؛ فلا يكون باسم سيء، لكن قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم بحسنه؛ مثل اسم شيء، وذات، وموجود (¬3). وقال ابن القيم: ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيَّاً؛ كالقديم، والشيء، والموجود (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص188 ¬

(¬1) رواه البخاري (7417). (¬2) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 343). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 142). وانظر أيضاً: (9/ 300 - 301). (¬4) ((بدائع الفوائد)) (1/ 162).

- الصبر

- الصبرُ يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بصفة الصبر؛ كما هو ثابت في السنة الصحيحة، أما (الصبور)؛ ففي إثبات أنه اسم لله تعالى نظر؛ لعدم ثبوته. الدليل: حديث أبي موسى رضي الله عنه: ((ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من الله؛ يدَّعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم)) (¬1). قال الخطابي: معنى الصبور في صفة الله سبحانه قريب من معنى الحليم؛ إلا أن الفرق بين الأمرين أنهم لا يأمنون العقوبة في صفة الصبور كما يسلمون منها في صفة الحليم، والله أعلم بالصواب (¬2). قال قَوَّام السنة الأصبهاني: قال بعض أهل النظر: لا يوصف الله بالصبر، ولا يقال: صبور، وقال: الصبر تحمل الشيء، ولا وجه لإنكار هذا الاسم؛ لأن الحديث قد ورد به؛ ولولا التوقيف؛ لم نقله اهـ (¬3). قلت: وصف الله عَزَّ وجَلَّ بالصبر ثابت؛ كما مرَّ في حديث أبي موسى رضي الله عنه، أما اسم الصبور؛ فلعله يعني بالحديث حديث سرد الأسماء عند الترمذي، وهو ضعيف، ولا أعرفُ آيةً أو حديثاً صحيحاً يثبت هذا الاسم له سبحانه وتعالى وقال الحافظ ابن القيم: وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه متعددة، والفرق بين الصبرِ والحلمِ: أنَّ الصبر ثمرة الحلم وموجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره، فالحلم في صفات الرب تعالى أوسع من الصبر وكونه حليماً من لوازم ذاته سبحانه، وأمَّا صبرُه سبحانه فمتعلقٌ بكفرِ العباد وشركهم ومسبتهم له سبحانه وأنواع معاصيهم وفجورهم اهـ (¬4). وقال الشيخ عبد الله الغنيمان في (شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري) تعليقاً على كلام المازري الذي نقله النووي في شرح حديث أبي موسى رضي الله عنه؛ حيث قال المازري: حقيقة الصبر: منع النفس من الانتقام أو غيره؛ فالصبر نتيجة الامتناع، فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى؛ قال الغنيمان: قلت: قوله: فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى؛ فيه نظر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق على ربه الصبر، وأنه ما أحد أصبر منه، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله تعالى، وأخشاهم له، وأقدرهم على البيان عن الحق، وأنصحهم للخلق؛ فلا استدراك عليه، فيجب أن يبقى ما أطلقه صلى الله عليه وسلم على الله تعالى بدون تأويل؛ إلا إذا كان يريد بذلك تفسير معنى الصبر، ولكن الأولى أن يبقى كما قال؛ لأنه واضح، ليس بحاجة إلى تفسير (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص189 ¬

(¬1) رواه البخاري (7378)، ومسلم (2804). (¬2) ((شأن الدعاء)) (98). (¬3) ((الحجة)) (2/ 456). (¬4) ((عدة الصابرين)) (408). (¬5) (1/ 93).

- الصدق

- الصدق صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [آل عمران:95]. قوله تعالى: قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب: 22]. الدليل من السنة: حديث: ((صَدَقَ الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)) (¬1). حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((صَدَقَ الله وكذب بطن أخيك)) (¬2). قال أبو القاسم الزجاجي: الصادق في خبره: الذي لا تكذيب له؛ فالله عَزَّ وجَلَّ الصادق في جميع ما أخبر به عباده قال الفراء: الصدق: قوة الخبر، والكذب: ضعف الخبر (ثم قال أبو القاسم:) والصادق أيضاً: الصادق في وعده، الوافي به، يقال: وفي بعهده ووعده وأوفي به فالله عَزَّ وجَلَّ الصادق في جميع ما وعد به عباده، وهذه الصفة من صفاته مستنبطة من سورة مريم، من قوله: إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيَّاً؛ أي: آتياً، مفعول بمعنى فاعل، وإذا كان وعده آتياً؛ فهو الصادق فيه، وكل شيء وعد الله عَزَّ وجَلَّ عباده به؛ فهو كائن كما وعد به عَزَّ وجَلَّ لا محالة اهـ (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص191 ¬

(¬1) رواه البخاري (1797)، ومسلم (1344). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (5684)، ومسلم (2217). (¬3) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص168).

- الصفة

- الصفة يجوز إطلاق هذه اللفظة وإضافتها إلى الله تعالى، فتقول: صفة الله، وصفة الرحمن، ومن صفاته وأوصافه كذا ونحو ذلك، وهذا ثابت بمفهوم القرآن ومنطوق السنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون [الصافات:180]. وسيأتي توجيه ابن حجر للآية. الدليل من السنة: حديث عائشة رضي الله عنها؛ ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته، فيختم بـ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فلما رجعوا؛ ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلوه: لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله يحبه)) (¬1). وقد بوَّب البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد من (صحيحه): باب: قول الله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ، ومن حلف بعزة الله وصفاته. وقال: باب: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ؛ فسمى الله تعالى نفسه شيئاً، وسمى النبيُّ صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً، وهو صفةٌ من صفاته اهـ. ومن طالع كتب السلف رحمهم الله؛ كـ (كتاب التوحيد) لابن خزيمة، و (كتاب التوحيد) لابن منده، و (رد الدارمي على المريسي)، وغيرهم؛ وجد أنهم يستخدمون ذلك كثيراً. وأنكر ابن حزم إطلاق الصفة، ورد عليه الحافظ فقال: وفي حديث الباب حجة لمن أثبت أن لله صفةً، وهو قول الجمهور، وشذَّ ابن حزم، فقال: هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم، ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه، فإن اعترضوا بحديث الباب؛ فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال، وفيه ضعف قال: وعلى تقدير صحته؛ فـ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ صفة الرحمن كما جاء في هذا الحديث، ولا يزاد عليه؛ بخلاف الصفة التي يطلقونها؛ فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على جوهرٍ أو عَرَضٍ كذا قال! وسعيد متفق على الاحتجاج به؛ فلا يلتفت إليه في تضعيفه، وكلامه الأخير مردود باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] وقال بعد أن ذكر منها عدة أسماء في آخر سورة الحشر: لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الحشر:24]، والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات، ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته؛ لأنه إذا ثبت أنه حي مثلاً؛ فقد وُصف بصفة زائدة على الذات، وهي صفة الحياة، ولولا ذلك؛ لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قال سبحانه وتعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون، فنَزَّه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع اهـ (¬2). وقال الشيخ عبد الله الغنيمان في (شرحه لكتاب التوحيد من صحيح البخاري) (¬3) بعد إيراده جملة من آيات وأحاديث الصفات، منها حديث عائشة؛ قال: وقال الله تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون [الصافات:180]، وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته، فثبت بهذه النصوص وغيرها كثير أن لله صفات، وأن كل اسم تسمى الله به يدل على الصفة؛ لأن الأسماء مشتقة من الصفات وانظر: (النعت). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص192 ¬

(¬1) رواه البخاري (7375)، ومسلم (813). (¬2) ((فتح الباري)) (13/ 356). (¬3) (1/ 63).

- الصمد

- الصمد صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، وهو اسمٌ له ثابتٌ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى في سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ، ولم يَرِد هذا الاسم إلا في هذه السورة. الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه القدسي: ((كذبني ابن آدم وأما شتمه إياي؛ فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد)) (¬1). معنى الصمد: اختلفوا في معنى الصمد على أقوال كثيرة؛ منها - كما في (تفسير ابن جرير) -: 1 - المصمت الذي لا جوف له. 2 - الذي لا يأكل ولا يشرب. 3 - الذي لا يخرج منه شيء، لم يلد ولم يولد. 4 - السيِّد الذي انتهى سؤدده. 5 - الباقي الذي لا يفنى. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص195 ¬

(¬1) رواه البخاري (4974).

- الصنع

- الصنع يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه صانعُ كلِّ شيء، وهذا ثابت بالكتاب والسنة، وليس (الصانع) من أسمائه تعالى. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88]. الدليل من السنة: حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن الله يصنع صنع كل صانع وصنعته)) (¬1). قال قَوَّام السنة الأصبهاني: ومن أسماء الله تعالى: الصانع، قال الله عَزَّ وجَلَّ: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، وروي عن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عَزَّ وجَلَّ صنع كل صانع وصنعته))؛ قيل: الصنع: الاختراع والتركيب اهـ (¬2). وقال البيهقي في (الأسماء والصفات): ومنها (أي: أسماء الله عزَّ وجلَّ): الصانع، ومعناه: المركب والمهيئ قال الله عَزَّ وجَلَّ: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، وقد يكون الصانع الفاعل، فيدخل فيه الاختراع والتركيب معاً اهـ. وممَّن عدَّ (الصانع) من أسماء الله تعالى أيضاً ابن منده في (التوحيد) (¬3)، وفي هذا نظرٌ كبير. قال أبو موسى المديني: قوله: صُنْعَ اللهِ أي: قوله وفعله والصُّنْع والصَّنع والصَّنْعَةُ واحد (¬4). وقال ابن الجوزي في (زاد المسير) في تفسير آية النمل: قوله تعالى: صُنْعَ اللهِ: قال الزجاج: هو منصوب على المصدر؛ لأن قوله: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً [النمل:88]؛ دليل على الصنعة، فكأنه قال: صنع الله ذلك صنعاً، ويجوز الرفع على معنى: ذلك صنعُ الله اهـ. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21]. (وقال آخرون: من تأمل هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء؛ استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه عليه توكلت وإليه أنيب؛ والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً). وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين كما في (الكنز الثمين) (¬5) عن جواز إطلاق كلمة الصانع على الله عَزَّ وجَلَّ فقال: هذه تجوز على وجه الصفة، فنعتقد أن الله الصانع، بمعنى أنه المبدع للكون، وهو الذي صنع الكون بذاته وأبدعه، فلذلك يُكْثَرُ من إطلاقها في الكتب؛ كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] وأطلق ذلك شيخ الإسلام في عدة مواضع في الجزء الثاني من مجموع الفتاوى، ونحو ذلك فإطلاق الصانع معناه: بأنه وصفٌ لله أنه مبدع للكون. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص196 ¬

(¬1) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (117)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (357و358)، وابن منده في ((التوحيد)) (115)، والحاكم في (المستدرك)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 75).وعند بعضهم بلفظ (خلق)؛ بدل (صنع). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي، وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 114)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 498) والألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1637): صحيح. (¬2) ((الحجة)) (1/ 159). (¬3) (1/ 143). (¬4) ((المجموع المغيث)) (2/ 295). (¬5) (173).

- الصورة

- الصورة صفةٌ ذاتيةٌ خبريةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالأحاديث الصحيحة. الدليل: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الطويل في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وفيه: ((فيأتيهم الجبار في صورته التي رأوه فيها أوَّلَ مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) (¬1). حديث: ((رأيت ربي في أحسن صورة)) (¬2). قال أبو محمد ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث/ 261): والذي عندي – والله تعالى أعلم – أن الصُّورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حدٍّ (¬3). وقال أبو يعلى الفراء في (إبطال التأويلات) في التعليق على حديث: ((رأيت ربي في أحسن صورة))؛ قال: اعلم أن الكلام في هذا الخبر يتعلق به فصول: أحدها جواز إطلاق الصُّورة عليه (¬4). وقال شيخ الإسلام في (نقض تأسيس الرازي): والوجه الخامس: أن الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف، وعند هؤلاء هو كل آتٍ، وما في الدنيا والآخرة، وأما أهل الإلحاد والحلول الخاص، كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأولون أيضاً هذا الحديث كما تأوله أهل الاتحاد والحلول المطلق؛ لكونه قال: فيأتيهم الله في صورة، لكن يقال لهم: لفظ (الصُّورة) في الحديث (يعني رحمه الله: حديث أبي سعيد) كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله مختصة به؛ مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خلقه بيديه واستوائه على العرش ونحو ذلك اهـ (¬5) وبهذا يتضح أن الصُّورةَ صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ الذاتية كسائر الصفات الثابتة بالأحاديث الصحيحة. أما حديث: ((خلق الله آدم على صورته))؛ فلم أورده في الأدلة؛ للاختلاف القائم بين أهل العلم: هل الضمير في (صورته) عائد على آدم أم على الله، وإن كان كثيرٌ من السلف ومن تبعهم من الخلف يجعلونه عائداً على الله عزَّ وجلَّ. راجع لذلك: كتاب (نقض أساس التقديس) لابن تيمية، وكتاب الشيخ حمود التويجري رحمه الله (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن)، وكتاب (شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري) للشيخ عبد الله الغنيمان (¬6). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص198 ¬

(¬1) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183). (¬2) رواه الترمذي (3235)، وأحمد (5/ 243) (22162). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح؛ سألت محمد بن إسماعيل - البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (4/ 73)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. والحديث روي عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن سمرة وثوبان رضي الله عنهم جميعاً. (¬3) ((تأويل مختلف الحديث)) (261). (¬4) (1/ 126). (¬5) (ورقة 455). (¬6) (2/ 32 - 68).

- الضحك

- الضحك صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجلَّ الفعليَّة الخبريَّة الثابتة بالأحاديث الصحيحة. الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة)) (¬1). حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند البخاري ومسلم، وقد تقدم في صفة السخرية (¬2). اعلم أنَّ أهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفة وغيرها من صفات الله عَزَّ وجلَّ الثابتة له بالكتاب أو السنة الصحيحة؛ من غير تمثيل ولا تكييف، ويسلمون بذلك، ويقولون: كلٌ من عند ربنا. قال الإمام ابن خزيمة في كتاب (التوحيد) (¬3): باب: ذكر إثبات ضحك ربنا عَزَّ وجلَّ: بلا صفةٍ تصفُ ضحكه جلَّ ثناؤه، لا ولا يشبَّه ضَحِكُه بضحك المخلوقين، وضحكهم كذلك، بل نؤمن بأنه يضحك؛ كما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم، ونسكت عن صفة ضحكه جلَّ وعلا، إذ الله عَزَّ وجلَّ استأثر بصفة ضحكه، لم يطلعنا على ذلك؛ فنحن قائلون بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، مصَدِّقون بذلك، بقلوبنا منصتون عمَّا لم يبين لنا مما استأثر الله بعلمه. ومعنى قوله: بلا صفةٍ تصفُ ضحكه، أي بلا تكييف لضحكه. وقال أبو بكر الآجري في (الشريعة): باب الإيمان بأن الله عَزَّ وجلَّ يضحك: اعلموا - وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل - أنَّ أهل الحق يصفون الله عَزَّ وجلَّ بما وصف به نفسه عَزَّ وجلَّ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم وهذا مذهب العلماء مِمَّن اتّبع ولم يبتدع، ولا يقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به؛ أنَّ الله عَزَّ وجلَّ يضحك، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته رضي الله عنهم؛ فلا ينكر هذا إلا من لا يحمد حاله عند أهل الحق اهـ (¬4). وقال أبو عبيد القاسم بن سلام لما قيل له: هذه الأحاديث التي تروى؛ في: الرؤية، والكرسي موضع القدمين، وضحك ربنا من قنوط عباده، وإن جهنم لتمتلئ وأشباه هذه الأحاديث؟ قال رحمه الله: هذه الأحاديث حقٌ لا شك فيها رواها الثقات بعضهم عن بعض (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص200 ¬

(¬1) رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890). (¬2) رواه البخاري (6571)، ومسلم (186). وفيه أنه قال يخاطب الله عَزَّ وجَلَّ: ((أتسخر بي؟ أو تضحك بي وأنت الملك000)). (¬3) (2/ 563). (¬4) ((الشريعة)) (ص277). (¬5) انظر: ((التمهيد)) (7/ 149 - 150). راجع عن صفة الضحك: كتاب ((الحجة في بيان المحجة)) لقوَّام السُّنَّة الأصبهاني (1/ 429، 2/ 456)، ((المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة)) (1/ 315)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/ 121)، ((شرح الغنيمان لكتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (2/ 104). وانظر: كلام البغوي في صفة (الأصابع)، وكلام ابن كثير في صفة (السمع).

- الطبيب

- الطبيب يوصف الله عَزَّ وجلَّ بأنه (الطَّبيب)، وهذا ثابت بالحديث الصحيح. الدليل: حديث أبي رمثة رضي الله عنه؛ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرني هذا الذي بظهرك؛ فإني رجل طبيب قال: ((الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها)) (¬1). حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: ((ثم مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت يدي على صدره فقلت: أذهب البأس، رب الناس، أنت الطبيب، وأنت الشافي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألحقني بالرفيق الأعلى وألحقني بالرفيق الأعلى)) (¬2). قال ابن فارس: الطِّبُّ: هو العلم بالشيء، يقال: رجل طَب وطبيبٌ؛ أي: عالمٌ حاذق (¬3). وقال الأزهري في (تهذيب اللغة) (¬4) بعد أن أورد حديث أبي رمثة رضي الله عنه: ((طبيبها الذي خلقها)): معناه: العالم بها خالقها الذي خلقها لا أنت. وقال شمس الدين الحق أبادي: الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق؛ أي: أنت ترفق بالمريض، وتتلطفه، والله هو يبرئه ويعافيه اهـ (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص202 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4207)، وأحمد (4/ 163) (17527). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال ابن العربي في ((القبس شرح الموطأ)) (3/ 1127): صحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 67): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه أحمد (6/ 108) (24818)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 364)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 217). قال شعيب الأرناؤوط في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح على شرط البخاري. (¬3) ((معجم مقاييس اللغة)) (3/ 407). (¬4) (13/ 304). (¬5) ((عون المعبود)) (11/ 262).

- الطيب

- الطيب يوصف الله عَزَّ وجلَّ بأنه طَّيِّب، وهو اسم له، ثابت بالسنة الصحيحة. الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أيها الناس! إنَّ الله طَيَّبٌ لا يقبل إلا طَيَّباً)) (¬1). قال النووي في (شرح صحيح مسلم): قال القاضي: الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنَزَّه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث. وقال ابن القيم في (الصواعق المرسلة) (¬2): إنه سبحانه يحب صفاته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفو)) (¬3)، وقال: ((إن الله جميل يحب الجمال)) (¬4)، و ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)) (¬5). وقال المباركفوري: قال القاضي رحمه الله: الطيب ضد الخبيث، فإذا وصفه به تعالى أُريد به أنه مُنَزَّهٌ عن النقائص، مُقَدَّسٌ عن الآفات، وإذا وصف به العبد مطلقاً أُريد به أنه المتعري عن رذائل الأخلاق وقبائح الأعمال والمتحلي بأضداد ذلك، وإذا وصف به الأموال أُريد به كونه حلالا من خيار الأموال (¬6). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص204 ¬

(¬1) ((صحيح مسلم)) (1015). (¬2) (4/ 1458). (¬3) رواه الترمذي (3513)، وابن ماجه (3850)، وأحمد (6/ 171) (25423)، والحاكم (1/ 712). من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬4) رواه مسلم (91). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬5) ((صحيح مسلم)) (1015). (¬6) ((تحفة الأحوذي)) (8/ 334).

- الظاهرية

- الظاهرية صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجلَّ، من اسمه (الظاهر) الثابت بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3]. الدليل من السنة: ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)) (¬1). المعنى: فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظاهر بقوله: ((ليس فوقك شيء))، وليس بعد تفسيره تفسير، وقد نظرت في أغلب من فسَّرها فوجدتُهم كلَّهم يرجعون إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيا سبحان من أعطاه جوامع الكلم! قال البيهقي في (الاعتقاد) بعد تفسير الظاهر والباطن: هما من صفات الذات (¬2) وانظر كلام ابن القيم في صفة (الأوليَّة) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص204 ¬

(¬1) ((صحيح مسلم)) (2713). (¬2) ((الاعتقاد)) (64).

- الظل

- الظل اعلم رحمني الله وإياك أنَّ الظل جاء تارة مضافاً إلى الله تعالى، وتارة مضافاً إلى العرش. فقد روى: البخاري، ومسلم؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) (¬1) وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) (¬2). وروى مسلم أيضاً من حديث أبي اليسر رضي الله عنه مرفوعاً: ((من أنظر معسراً أو وضع عنه؛ أظله الله في ظله)) (¬3) وستأتي الإضافة مفسرة بـ (ظل العرش) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الإمام أحمد والترمذي. وروى الإمام أحمد، والحاكم، والطبراني، وابن حبان من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله)) (¬4) وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا؛ من حديث عبادة بن الصامت: ((حقت محبتي للمتحابين فيَّ والمتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله)) (¬5) وقال الألباني في (صحيح الجامع): (صحيح) (¬6) وروى الإمام أحمد، والدارمي، والبغوي؛ من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: ((من نَفَّسَ عن غريمه أو محا عنه؛ كان في ظل العرش يوم القيامة)) (¬7) وصححه الألباني في (صحيح الجامع) (¬8) وروى الإمام أحمد في (المسند 8696 - شاكر)، والترمذي (صحيح سنن الترمذي 1052) واللفظ له؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((من أنظر معسراً، أو وضع له؛ أظلَّه الله يوم القيامة تحت ظل عرشه، يوم لا ظلَّ إلا ظِلُّه)) (¬9) وأورده الشيخ مقبل الوادعي في (الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين) (¬10). ¬

(¬1) رواه البخاري (660)، ومسلم (1031). (¬2) صحيح مسلم (2566). (¬3) صحيح مسلم (3006). (¬4) رواه أحمد في (5/ 328) (22834)، وابن حبان في (2/ 338)، والطبراني (20/ 79)، والحاكم في (4/ 187). وقال: هذا إسناد صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)): صحيح. (¬5) رواه أحمد في (5/ 236) (22117)، وابن أبي الدنيا في ((الأخوان)) (ص9). (¬6) ((صحيح الجامع)) (4320). (¬7) رواه أحمد (5/ 300) (22612)، والدارمي (2/ 340)، والبغوي في ((شرح السنة)) (4/ 349) وقال: هذا حديث حسن. وصححه الألباني كما سيأتي. (¬8) ((صحيح الجامع)) (6576). (¬9) رواه الترمذي (1306)، وأحمد (2/ 359). وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬10) ((الصحيح المسند)) (1307) قال الوادعي بعد أن أورد حديث أحمد: هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح. و (1461) قال الوادعي بعد أن أورد حديث الترمذي: هو صحيح على شرط مسلم.

معنى (الظل) الوارد في الأحاديث: قال الحافظ أبو عبد الله بن منده: بيان آخر يدل على أن العرش ظل يستظل فيه من يشاء الله من عباده، ثم ذكر بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي)) (¬1)، ثم أورد حديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) (¬2)، وكأنه رحمه الله يشير إلى أنَّ الظل في حديث السبعة هو ظل العرش الوارد في حديث المتحابين في الله وقال ابن عبد البر في (التمهيد) بعد أو أورد حديث ((سبعة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله)): والظل في هذا الحديث يراد به الرحمة، والله أعلم، ومن رحمة الله الجنة، قال الله عَزَّ وجلَّ: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد:35]، وقال: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30]، وقال: فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات:41] اهـ وقال البغوي في (شرح السنة 2/ 355) في شرح حديث السبعة: قيل: في قوله: ((يظلهم الله في ظله))؛ معناه: إدخاله إياهم في رحمته ورعايته، وقيل: المراد منه ظل العرش اهـ (¬3). وقال الشيخ حافظ الحكمي في (معارج القبول) عند كلامه على عُلُو الله فوق عرشه ووصف العرش؛ قال: ومن ذلك النصوص الواردة في ذكر العرش وصفته، وإضافته غالباً إلى خالقه تبارك وتعالى فوقه، ثم ذكر بعض الآيات والأحاديث، إلى أن قال: وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) اهـ (¬4) فأنت ترى أنَّ سياق الكلام يدل على أنَّ الظل عنده من صفات العرش وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) عند شرح حديث السبعة: قوله: ((في ظله))؛ قال عياض: إضافة الظل إلى الله إضافة ملك، وكل ظل؛ فهو ملكه كذا قال، وكان حقه أن يقول: إضافة تشريف؛ ليحصل امتياز هذا على غيره؛ كما قيل للكعبة: بيت الله، مع أنَّ المساجد كلها ملكه وقيل: المراد بظله: كرامته وحمايته؛ كما يقال: فلان في ظل الملك وهو قول عيسى بن دينار، وقوَّاه عياض وقيل: المراد ظل عرشه ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن: سبعة يظلهم الله في ظل عرشه (فذكر الحديث)، وإذا كان المراد ظل العرش؛ استلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس؛ فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيده أيضاً تقييد ذلك بيوم القيامة؛ كما صرح به ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر، وهو عند المصنف في كتاب الحدود، وبهذا يندفع قول من قال: المراد ظل طوبى أو ظل الجنة؛ لأن ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار في الجنة، ثم إنَّ ذلك مشترك لجميع من يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيرجح أنَّ المراد ظل العرش اهـ (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص205 ¬

(¬1) ((التوحيد)) (3/ 190). (¬2) رواه البخاري (660)، ومسلم (1031). (¬3) ((التمهيد)) (2/ 282). (¬4) ((معارج القبول)) (1/ 170). (¬5) ((فتح الباري)) (2/ 144).

- العتاب أو العتب

- العتاب أو العتب صفةٌ فعليَّةٌ اختياريَّةٌ ثابتةٌ بالسنة الصحيحة كما يليق بربنا جلَّ وعلا. الدليل: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه: ((قام موسى خطيباً في بني إسرائيل، فَسُئِل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم فَعَتَبَ الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه)) (¬1). قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقص ما جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته: ((فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة، وكان قد قال: ما أنا بداخل عليهن شهراً؛ من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله)) (¬2). وفي (القاموس): يطلق العتاب على الموجِدَة والسخط والغضب واللوم. قال أبو موسى المديني: وفي حديث أبيٍّ في ذكر موسى حين سئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا (فعتب الله عليه) العتبُ: أدنى الغضب اهـ (¬3) وهذا منه رحمه الله إثباتٌ لهذه الصفة بمعناها، وهو أدنى الغضب. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص209 ¬

(¬1) رواه البخاري (122)، ومسلم (2380). (¬2) رواه البخاري (2468)، ومسلم (1479). (¬3) ((المجموع المغيث)) (2/ 400).

- العجب

- العجب صفةٌ من صفاتِ الله عَزَّ وجلَّ الفعليَّة الخبريَّة الثابتة له بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: 12]. قال ابن جرير في (التفسير): قوله: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ؛ اختلفت القرَّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرَّاء الكوفة: بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ؛ بضم التاء من عَجِبْتَ؛ بمعنى: بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكاً وتكذيبهم تَنْزيلي وهم يسخرون، وقرأ ذلك عامة قرَّاء المدينة والبصرة وبعض قرَّاء الكوفة عَجِبْتَ؛ بفتح التاء؛ بمعنى: بل عجبت أنت يا محمد ويسخرون من هذا القرآن. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قرَّاء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ؛ فمصيب. فإن قال قائل: وكيف يكون مصيباً القارئ بهما مع اختلاف معنييهما؟! قيل: إنهما وإن اختلف معنياهما؛ فكل واحد من معنييه صحيح، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل، وسخر منه أهل الشرك بالله، وقد عجِب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله، وسَخِر المشركونَ مما قالوه اهـ. وقال أبو زرعة عبدالرحمن بن زنجلة في كتابه (حجة القراءات): قرأ حمزة والكسائي: بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ؛ بضم التاء، وقرأ الباقون بفتح التاء، ثم قال: قال أبو عبيد: قوله: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ؛ بالنصب: بل عجِبت يا محمد من جهلهم وتكذيبهم وهم يسخرون منك، ومن قرأ: عَجِبْتُ؛ فهو إخبار عن الله عَزَّ وجلَّ اهـ (¬1). وقد صحت القراءة بالضم عن ابن مسعود رضي الله عنه كما سيأتي. وقوله تعالى: وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد: 5]. نقل ابن جرير في (تفسير) هذه الآية بإسناده إلى قتادة قوله: قوله: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ: إن عجِبت يا محمد؛ فعََجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ: عجِب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت. قال ابن زنجلة في (حجة القراءات) بعد ذكر قراءة بَلْ عَجِبْتُ بالضم: قال أبو عبيد: والشاهد لها مع هذه الأخبار قوله تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، فأخبر جل جلاله أنه عجيب (¬2). الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((لقد عَجِبَ الله عَزَّ وجلَّ (أو: ضحك) من فلان وفلانة)) (¬3). حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((عَجِبَ الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل)) (¬4). روى الحاكم في (المستدرك)، ومن طريقه البيهقي في (الأسماء والصفات)؛ بسند صحيح عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة؛ قال: قرأ عبد الله (يعني: ابن مسعود) رضي الله عنه: بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ؛ قال شريح: إنَّ الله لا يعجب من شيء، إنما يعجب من لا يعلم قال الأعمش: فذكرت لإبراهيم، فقال: إنَّ شريحاً كان يعجبه رأيه، إنَّ عبدالله كان أعلم من شريح، وكان عبد الله يقرأها: بَلْ عَجِبْتُ (¬5) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال أبو يعلى الفراء في (إبطال التأويلات) بعد أن ذكر ثلاثة أحاديث في إثبات صفة العَجَب: اعلم أنَّ الكلام في هذا الحديث (يعني: الثالث) كالكلام في الذي قبله، وأنه لا يمتنع إطلاق ذلك عليه وحمله على ظاهره؛ إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه؛ لأنا لا نثبت عَجَبَاً هو تعظيم لأمر دَهَمَه استعظمه لم يكن عالماً به؛ لأنه مما لا يليق بصفاته، بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا غيرها من صفاته (¬6). وقال قوَّام السُّنَّة الأصبهاني: وقال قوم: لا يوصف الله بأنه يَعْجَبُ؛ لأن العَجَب ممَّن يعلم ما لم يكن يعلم، واحتج مثبت هذه الصفة بالحديث، وبقراءة أهل الكوفة: بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ؛ على أنه إخبار من الله عَزَّ وجلَّ عن نفسه (¬7). وقال ابن أبي عاصم في (السنة): باب: في تَعَجُّبِ ربنا من بعض ما يصنع عباده مما يتقرب به إليه، ثم سرد جملة من الأحاديث التي تثبت هذه الصفة لله عَزَّ وجلَّ (¬8). وانظر إن شئت: (مجموع الفتاوى) لشيخ الإسلام ابن تيمية (¬9). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص210 ¬

(¬1) ((حجة القراءات)) (ص: 606). (¬2) ((حجة القراءت)) (ص: 607). (¬3) رواه البخاري (4889)، ومسلم (2054) بلفظ: ((قد عَجِب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة)). (¬4) رواه البخاري (3010). (¬5) رواه الحاكم (2/ 466)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/ 415). (¬6) ((إبطال التأويلات)) (ص245). (¬7) ((الحجة)) (2/ 457). (¬8) ((السنة)) (1/ 249). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 181، 6/ 123و124).

- العدل

- العدل صفةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالأحاديث الصحيحة. الدليل: ما رواه البخاري، ومسلم؛ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي قال: والله؛ إنَّ هذه قسمة ما عدل فيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمَن يعدل إذا لم يَعْدِل الله ورسوله)) (¬1). قال ابن القيم (¬2): والعَدْلُ مِنْ أوْصَافِهِ فِي فِعْلِهِ ... وَمَقَالِهِ وَالحُكْمِ فِي المِيزانِ قال الهرَّاس: وهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله، فأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة، ليس فيها شائبة جور أصلاً؛ فهي دائرة كلها بين الفضل والرحمة، وبين العدل والحكمة اهـ. وقد عدَّ بعضهم (العدل) من أسماء الله تعالى، وليس معهم في ذلك دليل، والصواب أنه ليس اسماً له، بل هو صفة. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص213 ¬

(¬1) رواه البخاري (3150)، ومسلم (1062). (¬2) ((القصيدة النونية)) (2/ 98).

- العز والعزة

- العز والعزة صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله تعالى بالكتاب والسنة، و (العزيز) و (الأعز) من أسماء الله عَزَّ وجلَّ الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129]. وقوله: وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران: 26]. وقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء: 139]، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [يونس: 65]، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10]، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] الدليل من السنة: حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته)) (¬1). حديث ابن عباس رضي الله عنه: ((اللهم أعوذ بعِزَّتك)) (¬2). حديث أنس رضي الله عنه: ((لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العِزَّة فيها قدمه، فتقول: قط قط وعِزَّتك، ويزوي بعضها إلى بعض)) (¬3). أثر عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أنهما كانا يقولان في السعي بين الصفا والمروة: (رب اغفر وارحم، وتجاوز عمَّا تعلم؛ إنك أنت الأعزُّ الأكرم) (¬4). قلت: فثبت بذلك أنَّ (الأعز) من أسماء الله الثابتة بالسنة؛ فهذا مما لا يقال بالرأي، و (الأكرم) ثابت بالكتاب والسنة انظر صفة (الكرم). المعنى: بوب البخاري الباب الثاني عشر من كتاب الأيمان والنذور بقوله: باب الحلف بعِزَّة الله وصفاته وكلماته، وفي كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ، ومن حلف بعِزَّة الله وصفاته. فأنت ترى أنه يثبت صفة العِزَّة لله عَزَّ وجلَّ، ولذلك قال الحافظ: والذي يظهر أنَّ مراد البخاري بالترجمة إثبات العِزَّة لله، رادّاً على من قال: إنه عزيز بلا عِزَّة؛ كما قالوا: العليم بلا علم (¬5). قال الشيخ الغنيمان حفظه الله تعقيباً: قلت: لا يقصد إثبات العِزَّة بخصوصها، بل مع سائر الصفات؛ كما هو ظاهر (¬6). وقال الغنيمان أيضاً: والعِزَّة من صفات ذاته تعالى التي لا تنفك عنه، فغلب بعِزَّته، وقهر بها كل شيء، وكل عِزَّة حصلت لخلقه؛ فهي منه اهـ (¬7). ومعنى (العِزَّة)؛ أي: المنعة والغلبة، ومنه قوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ؛ أي: غَلَبني وقهرني، ومن أمثال العرب: (من عزَّ بزَّ)؛ أي: من غلب استلب (¬8). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص214 ¬

(¬1) رواه مسلم (2620). (¬2) رواه البخاري (7383)، ومسلم (2717). (¬3) رواه البخاري (6661)، ومسلم (2848). (¬4) رواه ابن أبي شيبة (3/ 420)، والطبراني في ((الدعاء)) (870)، والبيهقي (5/ 95). موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه. وقال العراقي في ((المغني)) (1/ 424): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 401 - 402): موقوف صحيح الإسناد. ورواه ابن أبي شيبة (3/ 420) موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الألباني - رحمه الله - في ((مناسك الحج والعمرة)) (ص28): رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما بإسنادين صحيحين. والحديث رواه الطبراني في ((الأوسط)) (3/ 147) مرفوعاً بسند ضعيف من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: ((مجمع الزوائد)) (3/ 248)، و ((تلخيص الحبير)) (2/ 251). (¬5) ((فتح الباري)) (13/ 370). (¬6) ((شرح كتاب التوحيد)) (1/ 150). (¬7) ((شرح كتاب التوحيد)) (1/ 149). (¬8) انظر: ((معاني القرآن الكريم)) للنحاس (2/ 219).

- العزم

- العزم صفةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالسنة الصحيحة الدليل: حديث أم سلمة رضي الله عنه في (صحيح مسلم)؛ قالت: ((فلما توفي أبو سلمة؛ قلت: من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم عَزَمَ الله لي، فقلتها قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهل يجوز وصفه بالعَزْم؟ فيه قولان: أحدهما: المنع؛ كقول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى، والثاني: الجواز، وهو أصح؛ فقد قرأ جماعة من السلف: فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]؛ بالضم، وفي الحديث الصحيح من حديث أم سلمة: (ثم عَزَمَ الله لي)، وكذلك في خطبة مسلم: (فعَزَمَ لي) اهـ (¬2). يعني ابن تيمية بخطبة الإمام مسلم قوله في المقدمة: وللذي سألتَ أكرمك الله حين رجعتُ إلى تدبره وما تؤول به الحال إن شاء الله عاقبةٌ محمودةٌ، ومنفعةٌ موجودةٌ، وظننتُ حين سألتني تجشُّم ذلك أن لو عُزِم لي، عليه وقُضِي لي تمامُه، كان أوَّلُ من يصيبه نفعُ ذلك إياي خاصةً قبل غيري من الناس لأسباب كثيرة يطول بذكرها الوصف اهـ ­­فقوله: (لو عُزِم لي) أي لو عَزَمَ الله لي. قلت: والعَزْمُ في حق المخلوقين عقد القلب على إمضاء الأمر، ولا نقول في حق الله: كيف؟ بل نثبته على وجه يليق بجلاله وعظمته، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ومعناه في اللغة: الجد وإرادة الفعل. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص216 ¬

(¬1) رواه مسلم (918) (5). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (16/ 303).

- العطاء والمنع

- العطاء والمنع صفتان فعليتان لله عَزَّ وجلَّ ثابتتان بالكتاب والسنة، و (المعطي) من أسماء الله عَزَّ وجلَّ. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1]. وقوله: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50]. الدليل من السنة: حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: ((من يرد الله به خيراً؛ يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله)) (¬1). وفي رواية عند البخاري: ((والله المعطي وأنا القاسم)) (¬2). الحديث المشهور: ((اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت)) (¬3). قال ابن منظور في (لسان العرب): المانع: من صفات الله تعالى له معنيان: أحدهما: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: ((اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعْطي لما منعت)) (¬4)، فكان عَزَّ وجلَّ يُعطي من استحق العطاء، ويمنع من لم يستحق إلا المنع، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وهو العادل في جميع ذلك. والمعنى الثاني: أنه تبارك وتعالى يمنع أهل دينه؛ أي: يَحُوطُهم وينصرهم وقيل: يمنع من يريد من خلقه ما يريد، ويعطيه ما يريد ومن هذا يقال: فلان في مَنَعَةٍ؛ أي: في قوم يمنعونه ويحمونه، وهذا المعنى في صفة الله جل جلاله بالغ؛ إذ لا منعة لمن لم يمنعه الله، ولا يمتنع من لم يكن الله له مانعاً. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص217 ¬

(¬1) رواه البخاري (7312)، ومسلم (1037) (100). (¬2) رواه البخاري (3116). (¬3) رواه البخاري (844)، ومسلم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (844)، ومسلم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

- العظمة

- العظمة صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، والعظيم اسم من أسمائه. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255]. وقوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 96، الحاقة: 52]. وقوله: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة: 33]. الدليل من السنة: حديث أنس رضي الله عنه في الشفاعة، وفيه: ((فيقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع فأقول: يا رب! فيمن قال: لا إله إلا الله والله أكبر فيقول: وعزتي وجلالي وعظمتي؛ لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله)) (¬1). حديث ابن عباس رضي الله عنه في دعاء الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم)) (¬2). قال قوَّام السُّنَّة الأصبهاني: ومن أسمائه تعالى العظيم: العَظَمَة صفة من صفات الله، لا يقوم لها خلق، والله تعالى خلق بين الخلق عظمة يعظم بها بعضهم بعضاً، فمن الناس من يعظم لمال، ومنهم من يعظم لفضل، ومنهم من يعظم لعلم، ومنهم من يعظم لسلطان، ومنهم من يعظم لجاه، وكل واحد من الخلق إنما يعظم لمعنى دون معنى، والله عَزَّ وجلَّ يعظم في الأحوال كلها (¬3). وقال الأزهري: ومن صفات الله عَزَّ وجلَّ: العلي العظيم وعظمة الله لا تُكيَّف ولا تُحدُّ ولا تُمثَّل بشيء، ويجب على العباد أن يعلموا أنه عظيم كما وصف نفسه، وفوق ذلك؛ بلا كيفية ولا تحديد اهـ (¬4). وانظر كلام ابن كثير في صفة (السمع) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص219 ¬

(¬1) رواه البخاري (7510)، ومسلم (193). (¬2) رواه البخاري (7431)، ومسلم (2730). (¬3) ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 130). (¬4) ((تهذيب اللغة)) (2/ 303).

- العفو والمعافاة

- العفو والمعافاة صفةٌ فعليَّةٌ لله عَزَّ وجلَّ ثابتةٌ له بالكتاب والسنة، ومعناها الصفح عن الذنوب، و (العَفُوُّ) اسم لله تعالى. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 43]. وقوله: عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهمْ [التوبة: 43]. الدليل من السنة: حديث الدعاء على الجنازة: ((اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه واعف عنه)) (¬1). حديث عائشة رضي الله عنها: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك)) (¬2) ولا يستعاذ إلا بالله أو بصفة من صفاته. قال الأزهري: قال أبو بكر بن الأنباري: الأصل في قوله جلَّ وعزَّ: عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهمْ: محا الله عنك؛ مأخوذ من قولهم: عفت الرياح الآثار: إذا درستها ومحتها (¬3). وقال ابن القيم (¬4): وَهُوَ العَفُوُّ فَعَفْوُهُ وَسِعَ الوَرَى ... لَوْلاَهُ غَارَ الأرْضُ بِالسُّكَّانِ وقال السعدي: العفو، الغفور، الغفار: الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً (¬5). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص220 ¬

(¬1) رواه مسلم (963). من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (486). (¬3) ((تهذيب اللغة)) (3/ 222). (¬4) ((القصيدة النونية)) (2/ 81). (¬5) ((التفسير)) (5/ 300).

- العلم

- العلم صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، ومن أسمائه (العليم). الدليل من الكتاب: قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام: 73، الرعد: 9، التغابن: 18]. وقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ [البقرة: 255]. وقوله: وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ [المائدة: 97]. وقوله: إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة: 116]. الدليل من السنة: حديث الاستخارة: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك)) (¬1). حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وقول الخضِر لموسى عليهما السلام: ((إنك على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علمٍ من علم الله علمنيه لا تعلمه)) (¬2). والأدلة لإثبات هذه الصفة كثيرة جداً. قال البخاري في (صحيحه) كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، وإِنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وأَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ، إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ. قال الشيخ الغنيمان: أراد البخاري رحمه الله بيان ثبوت علم الله تعالى، وعلمه تعالى من لوازم نفسه المقدسة، وبراهين علمه تعالى ظاهرة مشاهدة في خلقه وشرعه، ومعلوم عند كل عاقل أنَّ الخلق يستلزم الإرادة، ولا بدَّ للإرادة من علم بالمراد؛ كما قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، ثم قال: والأدلة على وصف الله بالعلم كثيرة، ولا ينكرها إلا ضال أو معاند مكابر اهـ (¬3). قال الإمام أحمد: إذا قال الرجل: العلم مخلوق؛ فهو كافر، لأنه يزعم أنَّ الله لم يكن له علم حتى خلقه. وقال: وهو يعلم ما في السماوات السبع، والأرضين السبع، وما بينهما، وما تحت الثرى، وما في قعر البحار، ومنبت كل شعرة وكل شجرة وكل زرع وكل نبات، ومسقط كل ورقة، وعدد ذلك، وعدد الحصى والرمل والتراب، ومثاقيل الجبال، وأعمال العباد وآثارهم، وكلامهم، وأنفاسهم، ويعلم كل شيء، لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو على العرش فوق السماء السابعة (¬4). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص221 ¬

(¬1) رواه البخاري (1162). (¬2) رواه البخاري (122)، ومسلم (2380). (¬3) ((شرح كتاب التوحيد)) (1/ 103). (¬4) انظر: ((المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة)) (1/ 283، 284).

- العلو والفوقية

- العلو والفوقية صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، ومن أسمائه (العلي) و (الأعلى) و (المتعال). والعُلُوُ ثلاثة أقسام: 1 - عُلُوُ شأن انظر صفة: (العَظَمَة) و (الجلال). 2 - عُلُوُ قهر انظر صفة (القهر). 3 - عُلُوُ فَوْقِيَّة (عُلُوُ ذات). وأهل السنة والجماعة يعتقدون أنَّ الله فوق جميع مخلوقاته، مستوٍ على عرشه، في سمائه، عالياً على خلقه، بائناً منهم، يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويرى حركاتهم وسكناتهم لا تخفى عليه خافية. الدليل من الكتاب: الأدلة من الكتاب كثيرة جداً ومن ذلك: قوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255]. وقوله: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى: 1]. وقوله: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9]. وقوله: وَهوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18]. وقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] وقوله: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ [الملك:16]. الدليل من السنة: والأدلة من السنة أيضاً كثيرة جداً منها: حديث: ((ألا تأمنوني وأنا أمين مَن في السماء؟!)) (¬1). حديث النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة (¬2). حديث: ((أين الله)) قالت: في السماء قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص223 الدليل من أقوال الصحابة والتابعين والعلماء: عن مجاهد قال: (قيل لابن عباس إن ناسا يقولون في القدر قال: يكذبون بالكتاب لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فخلق الخلق فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه) (¬4). عن ابن عباس قال: (الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره). عن قيس قال: (لما قدم عمر رضي الله عنه الشام استقبله الناس وهو على بعيره فقالوا: يا أمير المؤمنين لو ركبت برذونا يلقاك عظماء الناس ووجوههم؟ فقال عمر رضي الله عنه: ألا أريكم ههنا إنما الأمر من ههنا فأشار بيده إلى السماء) (¬5). عائشة رضي الله عنها قالت: (وايم الله إني لأخشى لو كنت أحب قتله لقتلت - يعني عثمان رضي الله عنه - ولكن علم الله فوق عرشه أني لم أحب قتله) (¬6). مختصر العلو لمحمد بن ناصر الدين الألباني- ص95 فما بعدها ¬

(¬1) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064). من حديث أبو سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (1145)، ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (537). (¬4) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (كتاب القدر) (1/ 338)، والذهبي في ((العلو)) (57)، وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص29): صحيح. (¬5) رواه ابن أبي شيبة (5/ 9)، والخلال في ((السنة)) (2/ 317)، والذهبي في ((العلو)) (ص77) وقال: إسناده كالشمس. وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص46): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬6) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (11/ 447)، والبخاري في ((خلق أفعال العباد)) (148)، والدارمي في ((الرد على الجهمية)) (83). قال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص52): صحيح.

- العمل والفعل

- العمل والفعل وهما صفتان ثابتتان لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27]. وقوله تعالى: إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الحج: 14]. وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس: 17]. الدليل من السنة: حديث أم رومان وهي أم عائشة رضي الله عنهما قالت: ((بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت فَعَلَ الله بفلان وفعل)) (¬1). قال ابن منظور في لسان العرب: الفعل كنايةٌ عن كل عَمَلٍ مُتَعَدٍ أو غير مُتَعَدٍ. قال البخاري في (خلق أفعال العباد): واختلف الناس في الفاعل والمفعول والفعل فقالت القدرية الأفاعيل كلها من البشر ليست من الله، وقالت الجبرية الأفاعيل كلها من الله، وقالت الجهمية الفعل والمفعول واحد لذلك قالوا لكن مخلوق، وقال أهل العلم التخليق فعل الله وأفاعيلنا مخلوقة لقوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَق يعني السِّرَّ والجهرَ من القول ففعل الله صفة الله والمفعول غيره (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ووصف نفسه بالعمل فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71] ووصف عبده بالعمل فقال جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] وليس العمل كالعمل اهـ (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص224 ¬

(¬1) رواه البخاري (4143). (¬2) ((خلق أفعال العباد)) (1/ 114). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 14).

- العين

- العين صفةٌ ذاتيةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، وأهل السنة والجماعة يعتقدون أنَّ الله يبصر بعين، كما يعتقدون أن، الله عَزَّ وجلَّ له عينان تليقان به؛ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود: 37]. وقوله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]. وقوله: وَاصْبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48]. الدليل من السنة: روى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية إِنَّ الله كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا، فَوَضَعَ إبْهَامَهُ عَلَى أذنه، والتي تليها على عينيه)) (¬1). حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((إنَّ الله لا يخفى عليكم إنَّ الله ليس بأعور (وأشار إلى عينيه)، وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية)) (¬2). قال ابن خزيمة في (كتاب التوحيد) بعد أن ذكر جملة من الآيات تثبت صفة العين: فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبَّت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبَّته الله في محكم تَنْزيله ببيان النبي صلى الله عليه الذي جعله الله مبيِّناً عنه عَزَّ وجلَّ في قوله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عينين فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التَنْزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب (¬3). وقال: نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات العلى اهـ (¬4). وبوَّب الَّلالَكَائي في (أصول الاعتقاد) بقوله: سياق ما دل من كتاب الله عَزَّ وجلَّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن صفات الله عَزَّ وجلَّ الوجه والعينين واليدين اهـ (¬5). وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: قوله: ((إن الله ليس بأعور)): هذه الجملة هي المقصودة من الحديث في هذا الباب؛ فهذا يدل على أن لله عينين حقيقة؛ لأن العور فقدُ أحد العينين أو ذهاب نورها اهـ (¬6). وقال الشيخ ابن عثيمين: وأجمع أهل السنة على أن العينين اثنتان، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدجَّال: ((إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور)) اهـ (¬7). وله - رحمه الله - إجابة مطولة حول هذه الصفة، وإثبات أن لله عينين في (مجموع الفتاوى) (¬8)؛ فلتراجع. وانظر كلام البغوي في صفة (الأصابع)، وكلام ابن كثير في صفة (السمع). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص226 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4728). وسكت عنه، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 385): إسناده قوي على شرط مسلم. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): إسناده صحيح. (¬2) رواه البخاري (7407). (¬3) ((التوحيد)) (1/ 97). (¬4) ((التوحيد)) (1/ 114). (¬5) ((أصول الاعتقاد)) (3/ 412). (¬6) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 285). (¬7) ((عقيدة أهل السنة والجماعة)) (ص12). (¬8) (3/ 41 - 50) الطبعة الأولى.

- الغضب

- الغضب صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ [النور: 9]. وقوله: كلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه: 81]. وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ [الممتحنة: 13]. الدليل من السنة: حديث: ((إنَّ رحمتي غلبت غضبي)) (¬1). حديث الشفاعة الطويل، وفيه: ((إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)) (¬2). وأهل السنة والجماعة يثبتون صفة الغضب لله عَزَّ وجلَّ بوجه يليق بجلاله وعظمته، لا يكيفون ولا يشبهون ولا يؤولون؛ كمن يقول: الغضب إرادة العقاب، ولا يعطلون، بل يقولون: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ. قال الطحاوي في (عقيدته) المشهورة: والله يغضب ويرضى لا كأحدٍ من الورى. قال الشارح ابن أبي العز الحنفي: ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضى والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة اهـ. وقال قوَّام السُّنَّة الأصبهاني: قال علماؤنا: يوصف الله بالغضب، ولا يوصف بالغيظ (¬3). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص228 ¬

(¬1) رواه البخاري (3194) واللفظ له، ومسلم (2751). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (3340)، ومسلم (194). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 457).

- الغلبة

- الغلبة صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة؛ فالله غالب على أمره، ولا غالب له الدليل من الكتاب: قوله تعالى: كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21]. وقوله: وَالله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21]. الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((لا إله إلا الله وحده، أعَزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده؛ فلا شيء بعده)) (¬1). والغلبة بمعنى القهر؛ كما في (القاموس)، والله سبحانه وتعالى يتصف بالقهر، ومن أسمائه (القاهر) و (القهار)؛ كما سيأتي. ومعنى: لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي؛ أي: لأنتصرن أنا ورسلي. وَالله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ؛ قال السعدي: أي: أمره تعالى نافذ؛ لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب اهـ. (غلب الأحزاب وحده)؛ أي: قهرهم وهزمهم وحده. وقد عدَّ بعضُ العلماء (الغالب) من أسماء الله تعالى، وفيه نظر. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص229 ¬

(¬1) رواه البخاري (4114)، ومسلم (2724).

- الغنى

- الغنى صفةٌ ذاتيَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، و (الغني) من أسماء الله تعالى. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15]. وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ [التوبة: 28]. وقوله: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى: 8]. الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((بينا أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً فناداه ربه عَزَّ وجلَّ: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعِزَّتِكَ)) (¬1). حديث: ((ومن يستعفف؛ يعفه الله، ومن يستغن؛ يغنه الله)) (¬2). حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك)) (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - كما في طريق الهجرتين لابن القيم (¬4) -: والفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لاَزِمٌ أبَداً ... كَمَا أَنَّ الغِنى أَبداً وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي وقال ابن القيم في (النونية) (¬5): وَهُوَ الغَنِيُّ بِذَاتِهِ فَغِنَاهُ ذَا ... تِيٌّ لَهُ كَالجُود وَالإحْسَانِ قال الشيخ الهرَّاس في (الشرح): ومن أسمائه الحسنى (الغني)؛ فله سبحانه الغنى التام المطلق من كل وجه؛ بحيث لا تشوبه شائبة فقر وحاجة أصلاً، وذلك لأن غناه وصف لازم له، لا ينفك عنه؛ لأنه مقتضى ذاته، وما بالذات لا يمكن أن يزول؛ فيمتنع أن يكون إلا غنيَّاً كما يمتنع أن يكون إلا جواداً محسناً برَّاً رحيماً كريماً اهـ وانظر كلام الزجاجي في: صفة (الواسع). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص230 ¬

(¬1) رواه البخاري (279). (¬2) رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053). (¬3) رواه مسلم (2985). (¬4) ((طرق الهجرتين)) (6). (¬5) ((القصيدة النونية)) (2/ 74).

- الغيرة

- الغيرة يوصف الله عَزَّ وجلَّ بالغَيْرة، وهي صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ تليق بجلاله وعظمته، لا تشبه غَيْرَةَ المخلوق، ولا ندري كيف: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إن الله تعالى يغار، وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرَّم الله عليه)) (¬1). حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير، واللهُ أغير مني، من أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخصٌ أغير من الله)) (¬2) رواه البخاري ومسلم. قال البخاري في (صحيحه) كتاب التوحيد، باب 20: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا شخص أغير من الله)). قال الشيخ الغنيمان في (الشرح): وغيرة الله تعالى من جنس صفاته التي يختص بها؛ فهي ليست مماثلة لغيرة المخلوق، بل هي صفة تليق بعظمته؛ مثل الغضب والرضى ونحو ذلك من خصائصه التي لا يشاركه الخلق فيها. وقال أبو يعلى الفراء في (إبطال التأويلات) بعد ذكر الحديثين السابقين: اعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصلين: أحدهما: إطلاق صفة الغَيْرة عليه. والثاني: في إطلاق الشخص. أما الغيرة؛ فغير ممتنع إطلاقها عليه سبحانه؛ لأنه ليس في ذلك ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه؛ لأن الغيرة هي الكراهية للشيء، وذلك جائز في صفاته قال تعالى: وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ [التوبة: 46] اهـ (¬3). وقال الحافظ ابن القيم: إنَّ الغيرة تتضمن البغض والكراهة، فأخبر أنَّه لا أحد أغير منه، وأنَّ من غَيْرته حرَّم الفواحش، ولا أحد أحب إليه المدحة منه، والغيرةُ عند المعطلة النفاة من الكيفيات النفسية، كالحياء والفرح والغضب والسخط والمقت والكراهية، فيستحيل وصفه عندهم بذلك، ومعلومٌ أنَّ هذه الصفات من صفات الكمال المحمودة عقلاً وشرعاً وعرفاً وفطرةً، وأضدادها مذمومة عقلاً وشرعاً وعرفاً وفطرةً، فإنَّ الذي لا يغار بل تستوي عنده الفاحشةُ وتركها؛ مذمومٌ غايةَ الذمِّ مستحقٌ للذمِّ القبيح اهـ (¬4). وانظر: (مجموع الفتاوى) لابن تيمية (¬5) حيث نقل كلام شيخ الحرمين الكرجي في إثبات جملة من صفات الله عَزَّ وجلَّ، منها صفة (الغَيْرة). صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص232 ¬

(¬1) رواه البخاري (5223)، ومسلم (2761). (¬2) رواه البخاري (7416)، ومسلم واللفظ له (1499). (¬3) ((إبطال التأويلات)) (1/ 165). (¬4) ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1497). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 181)، (6/ 119 - 120).

- الفتح

- الفتح صفةٌ لله عَزَّ وجلَّ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، و (الفتاح) اسم من أسمائه تعالى. الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ: 26] وقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 89] قوله: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((اللهم احبسها علينا (يعني: الشمس)، فحبست حتى فتح الله عليه)) (¬1) حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم خيبر: ((لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه)) (¬2) قال ابن القيم (¬3): وكذلك الفتَّاح مِنْ أسْمَائِهِ ... والفَتْحُ فِي أوْصَافِهِ أمْرَانِ فتحٌ بحُكْمٍ وهو شرعُ إلهِنَا ... والفتحُ بالأقْدارِ فَتْحٌ ثانِ والرَّبُ فَتَّاحٌ بِذين كليْهِمَا ... عدْلاً وإحْسَاناً مِنَ الرَّحْمنِ والفتح بمعنى الحكم والقضاء كما في الآية الثانية، والفتح ضد الغلق كما في الآية الثالثة، والفتح بمعنى النصر كما في الحديثين السابقين صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص233 ¬

(¬1) رواه البخاري (3124)، ومسلم (1747). (¬2) رواه البخاري (2942)، ومسلم (2406). (¬3) ((القصيدة النونية)) (2/ 100).

- الفرح

- الفرح صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالأحاديث الصحيحة الدليل: حديث: ((لله أفرح بتوبة عبده - وفي لفظٍ - أشد فرحاً)) (¬1) قال أبو إسماعيل الصابوني: وكذلك يقولون في جميع الصفات (أي: الإثبات) التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والفرح والضحك وغيرها اهـ (¬2) وقال الشيخ محمد خليل الهرَّاس في شرحه للعقيدة الواسطية عند شرحه لهذا الحديث: وفي هذا الحديث إثبات صفة الفرح لله عَزَّ وجلَّ، والكلام فيه كالكلام في غيره من الصفات؛ أنه صفة حقيقية لله عَزَّ وجلَّ، على ما يليق به، وهو من صفات الفعل التابعة لمشيئته تعالى وقدرته، فيحْدُث له هذا المعنى المعبَّر عنه بالفرح عندما يُحدِثُ عبدُهُ التوبةَ والإنابَةَ إليه، وهو مستلزمٌ لرضاه عن عبده التائب، وقبوله توبته وإذا كان الفرح في المخلوق على أنواع؛ فقد يكون فرح خفة وسرور وطرب وقد يكون فرح أشر وبطرٍ؛ فالله عَزَّ وجلَّ مُنَزَّه عن ذلك كله، ففرحهُ لا يشبه فرح أحد من خلقه؛ لا في ذاته، ولا في أسبابه، ولا في غاياته؛ فسببه كمال رحمته وإحسانه التي يحب من عباده أن يتعرَّضوا لها، وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين وأما تفسير الفرح بلازمه، وهو الرضى، وتفسير الرضى بإرادة الثواب؛ فكل ذلك نفيُ وتعطيلٌ لفرحه ورضاه سبحانه، أوجبه سوءُ ظنِّ هؤلاء المعطِّلة بربهم، حيث توهَّموا أن هذه المعاني تكون فيه كما هي في المخلوق، تعالى الله عن تشبيههم وتعطيلهم اهـ (¬3) وممَّن أثبت صفة (الفرح) من السلف: الدارمي، وابن قتيبة، وأبو يعلى الفراء انظر: صفة (البشبشة) وانظر كلام البغوي في صفة (الأصابع) وكلام ابن كثير في صفة (السمع) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص234 ¬

(¬1) رواه البخاري (6308)، ومسلم (2744) بلفظ: ((لله أشد فرحا)). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث روي بألفاظ متقاربة عن أبي هريرة، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، والنعمان بن بشير رضي الله عنهم أجمعين. (¬2) ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص5). (¬3) ((شرح العقيدة الواسطية)) (166).

- الفطر

- الفطر من صفات أفعاله تعالى أنه فَطَرَ الخلق، وهو فاطر السماوات والأرض، وهذا ثابت بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَولَ مَرَّةٍ [الإسراء: 51] وقوله: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر: 1] وقوله: إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف: 27] الدليل من السنة: حديث: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض)) (¬1) حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً)) (¬2) المعنى: فَطَرَ؛ أي: شَقَّ، والفَطْر: الابتداء والاختراع، فطركم أول مرة؛ أي: ابتدأ خلقكم، فطر السماوات والأرض؛ أي: شقهما وفتقهما بعد أن كانتا رتقاً، وهو مبدعها ومبتدئها وخالقها انظر كتب التفسير، و (النهاية) لابن الأثير صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص236 ¬

(¬1) رواه مسلم (770). (¬2) رواه مسلم (771).

- القبض والطي

- القبض والطي صفتان فعليتان خبريَّتان لله عَزَّ وجلَّ، ثابتتان بالكتاب والسنة، و (القابض) من أسماء الله تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245] قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه)) (¬1) قال أبو يعلى الفراء في (إبطال التأويلات) بعد ذكر حديث: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها)): اعلم أنه غير ممتنع إطلاق القبض عليه سبحانه، وإضافتها إلى الصفة التي هي اليد التي خلق بها آدم؛ لأنه مخلوق باليد من هذه القبضة، فدلَّ على أنها قبضةٌ باليد، وفي جواز إطلاق ذلك أنه ليس في ذلك ما يُحيل صفاته ولا يُخرجها عما تستحقه اهـ (¬2) وقال ابن القيم: ورد لفظ (اليد) في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع وروداً متنوعاً متصرفاً فيه مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقة من الإمساك والطي والقبض والبسط (¬3) وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: قوله: ((يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه)): القبض: هو أخذ الشيء باليد وجمعه، والطي: هو ملاقاة الشيء بعضه على بعض وجمعه، وهو قريب من القبض وهذا من صفات الله تعالى الاختيارية، التي تتعلق بمشيئته وإرادته، وهي ثابتةٌ بآيات كثيرة وأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مما يجب الإيمان به؛ لأن ذلك داخل في الإيمان بالله تعالى، ويحرم تأويلها المخرج لمعانيها عن ظاهرها، وقد دلَّ على ثبوتها لله تعالى العقل أيضاً؛ فإنه لا يمكن لمن نفاها إثبات أن الله هو الخالق لهذا الكون المشاهد؛ لأن الفعل لابد له من فاعل، والفاعل لابدَّ له من فعل، وليس هناك فعل معقول إلا ما قام بالفاعل، سواءً كان لازماً كالنُّزُول والمجيء، أو متعديَّاً كالقبض والطي؛ فحدوث ما يحدثه تعالى من المخلوقات تابع لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة به تعالى؛ وهو تعالى حيٌ قيُّوم، فعَّال لما يريد، فمن أنكر قيام الأفعال الاختيارية به تعالى فإن معنى ذلك أنه ينكر خلقه لهذا العالم المشاهد وغير المشاهد، وينكر قوله: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ فالعقل دل على ما جاء به الشرع وما صرح به في هذا الحديث من القبض والطي، قد جاء صريحاً أيضاً في كتاب الله تعالى؛ كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، والأحاديث والآثار عن السلف في صريح الآية والحديث المذكور في الباب كثيرة وظاهرة جلية لا تحتمل تأويلاً ولا تحتاج إلى تفسير، ولهذا صار تأويلها تحريفاً وإلحاداً فيها اهـ (¬4) وانظر: صفة (البسط) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص237 ¬

(¬1) رواه البخاري (4812)، ومسلم (2787) واللفظ له. (¬2) ((إبطال التأويلات)) (ص168). (¬3) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 171). (¬4) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 140).

- القدرة

- القدرة صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، ومن أسمائه تعالى: (القادر) و (القدير) و (المقتدر) الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 20] وغيرها وقوله: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عذَاباً [الأنعام: 65] وقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54 - 55] الدليل من السنة: حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه مرفوعاً: ((أعوذ بعِزَّة الله وقدرته من شر ما أجدُ وأحاذِرُ)) (¬1) حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه، لما ضرب غلامه؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعلم أبا مسعود! أن الله أقدرُ عليك منك على هذا الغلام)) (¬2) قال الخطابي: ووصف الله نفسه بأنه قادرٌ على كلِّ شيء أراده، لا يعترضه عجز ولا فتور، وقد يكون القادر بمعنى المقدِّر للشيء، يقال: قَدَّرت الشيءَ وقدَرْتُه؛ بمعنى واحد (¬3) وانظر كلام ابن كثير في صفة (السمع) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص240 ¬

(¬1) رواه مسلم (2202). (¬2) رواه مسلم (1659). (¬3) ((شأن الدعاء)) (ص85).

- القدم

- الْقِدَمُ يُخْبَرُ عن الله عَزَّ وجلَّ بأنه قديم، لا صفةً له، والقديم ليس اسماً له قال الحافظ ابن القيم: ((ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيَّاَ؛ كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه)) اهـ (¬1) قال قوَّام السُّنَّة: فبيَّن (أي: النبي صلى الله عليه وسلم) مراد الله تعالى فيما أخبر عن نفسه، وبيَّن أن نفسه قديم غير فانٍ، وأن ذاته لا يوصف إلا بما وصف، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم اهـ (¬2) وفي الحديث الصحيح: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم؛ من الشيطان الرجيم)) (¬3) وفيه وصف سلطان الله عَزَّ وجلَّ بالقِدَم وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية عِلْمَ الله بالقِدَم في (الواسطية)، فقال: والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين، فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله عليمٌ بالخلق وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوفٌ به أزلاً وأبداً (¬4) وقال في (مجموع الفتاوى): والناس متنازعون؛ هل يسمى الله بما صح معناه في اللغة والعقل والشرع، وإن لم يرد بإطلاقه نصٌ ولا إجماعٌ، أم لا يطلق إلا ما أطلق نص أو إجماع؟ على قولين مشهورين، وعامة النظار يطلقون ما لا نص في إطلاقه ولا إجماع؛ كلفظ (القديم) و (الذات) ونحو ذلك، ومن الناس من يفصل بين الأسماء التي يدعى بها، وبين ما يخبر به عند الحاجة؛ فهو سبحانه إنما يدعى بالأسماء الحسنى؛ كما قال: وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى، وأما إذا احتيج إلى الإخبار عنه؛ مثل أن يُقال: ليس هو بقديم، ولا موجود، ولا ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك؛ فقيل في تحقيق الإثبات: بل هو سبحانه قديم، موجود، وهو ذات قائمة بنفسها، وقيل: ليس بشيء، فقيل: بل هو شيء؛ فهذا سائغ اهـ (¬5) وقال البيهقي: القديم هو الموجود لم يزل، وهذه صفة يستحقها بذاته (¬6) وقد عَدَّه السفاريني في (لوامع الأنوار) صفة لله تعالى، بل اسماً له، وعلق عليه الشيخ عبد الله بابطين بقوله: قوله: إن القديم اسم من أسمائه تعالى: فيه نظر من وجهين، إلى أن قال: وبذلك لا يصح إطلاق القديم على الله باعتبار أنه من أسمائه، وإن كان يصح الإخبار به عنه؛ كما قلنا: إنَّ باب الإخبار أوسع من باب الإنشاء، والله أعلم (¬7) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص241 ¬

(¬1) ((بدائع الفوائد)) (1/ 162). (¬2) ((الحجة)) (1/ 93). (¬3) رواه أبو داود (466). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال النووي في ((الأذكار)) (ص86): حديث حسن رواه أبو داود بإسنادٍ جيد. وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 277): هذا حديث حسن غريب، ورجاله موثقون، وهم من رجال الصحيح إلا إسماعيل وعقبة. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) ((العقيدة الواسطية)) (ص20). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (9/ 300و301). (¬6) ((الاعتقاد)) (ص68). (¬7) ((لوامع الأنوار)) (1/ 38).

- االقدوس

- االقدوس يوصف الله عَزَّ وجلَّ بأنه سبحانه القُدُّوس، وهي صفةٌ ذاتيةٌ، والقُدُّوس اسم له، ثابت بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر: 23] الدليل من السنة: حديث عائشة رضي الله عنها- وقد تقدم -: ((سُبُّوح قُدُّوس رب الملائكة والروح)) (¬1) قال ابن قتيبة: ومن صفاته (قُدُّوس)، وهو حرفٌ مبنيٌّ على (فُعُّول)، من (القدس)، وهو الطهارة (¬2) وانظر: صفة (السُّبُّوح) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص243 ¬

(¬1) رواه مسلم (487). (¬2) ((تفسير غريب القرآن)) (ص8).

- القرآن

- القرآن صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ وهو كلام الله بَوَّبَ البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه: باب قل أيُّ شيء أكبر شهادة قل الله فسمى نفسه شيئاً وسمى النبيُّ القرآنَ شيئاً وهو صفة من صفات الله وقال اللالكائي: سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن القرآن من صفات الله القديمة ثم ساق حديث محاجَّة آدم لعيسى – عليهما السلام -المشهور (¬1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: القرآنُ صفةٌ من صفات الله وصف بها نفسه (¬2) وقال في مجموع الفتاوى: أهل السنة متفقون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن كلامه من صفاته القائمة بنفسه ليس من مخلوقاته (¬3) تنبيه: القرآن كلام الله وهو صفة من صفاته، أمَّا ما في المصحف من ورقٍ ومِداد فهو مخلوق وانظر: صفة (الكلام) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص243 ¬

(¬1) ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (2/ 224). (¬2) ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 165). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 77).

- القهر

- القهر صفةٌ لله عَزَّ وجلَّ ثابتةٌ بالكتاب، ويوصف الله بأنه القاهر، والقَهَّار، وهما اسمان لله تعالى الدليل: قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18، 61] قوله تعالى: وَهُوَ الْوَاحدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16] ولم يرد في القرآن (القَهَّار) إلا مسبوقاً بـ (الواحد) وذلك في ستة مواضع قال ابن القيم (¬1): وَكذلِكَ القّهَّار مِنْ أوْصَافِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيّاً عَزِيزاً قَادِراً ... فَالخَلْقُ مَقْهُورُونَ بِالسُّلْطَانِ مَا كَانَ مِنْ قَهْرٍ وَمِنْ سُلْطانِ والقهر بمعنى الغلبة والأخذ من فوق قال ابن جرير عند تفسير قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ: وإنما قال: فَوْقَ عِبَادِهِ؛ لأنه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم، ومن صفةِ كلِّ قاهرٍ شيئاً أن يكون مستعلياً عليه، فمعنى الكلام إذاً: والله الغالب عباده المذلل لهم صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص244 ¬

(¬1) ((القصيدة النونية)) (2/ 94).

- القول

- القول صفةٌ ذاتيةٌ فعليَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، وهو والكلام شيء واحد الدليل من الكتاب: قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة: 38] وقوله: وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] وقوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] الدليل من السنة: أما السنة، فإن أغلب الأحاديث القدسية مبدوءة بـ (قال الله)، أو (يقول الله) وانظر: صفة (الكلام) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص245

- القوة

- القوة صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجلَّ ثابتةٌ بالكتاب العزيز و (القوي) من أسماء الله تعالى الدليل: قوله تعالى: وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ [الشورى: 19] قوله تعالى: إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] قال البخاري في (صحيحه) في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ قال الشيخ الغنيمان: وهذه الآية ونظائرها تدل بوضوح على أن الله تعالى موصوف بالصفات العليا، كما أنه مسمى بالأسماء الحسنى؛ فالقوة صفته، والرزاق اسمه، وتقدم أن كل اسم لابدَّ أن يتضمن الصفة، وبذلك وغيره يرد على المنكرين للصفات، كما سبقت الإشارة إليه، والله أعلم (¬1) وانظر كلام ابن كثير في صفة (السمع) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص246 ¬

(¬1) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 93).

- القيوم

- القيوم يوصف الله عَزَّ وجلَّ بأنه القَيُّوم والقَيِّم والقَيَّام، وهو وصفٌ ذاتيٌ ثابت لله بالكتاب والسنة، و (القَيُّوم) اسم من أسمائه تبارك وتعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم [البقرة: 255، آل عمران: 2] وقوله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّوم [طه: 111] الدليل من السنة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في تهجده: ((لك الحمد؛ أنت قَيِّم السماوات والأرض ومن فيهن)) (¬1) قال العلماء: من صفاته القيَّام والقيِّم، والقَيُّوم بنص القرآن وقائم، ومنه قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ؛ قال الهروي: ويقال: قَوَّام قال ابن عباس: القَيُّوم الذي لا يزول وقال غيره: هو القائم على كل شيء ومعناه مدبر أمر خلقه، وهما سائغان في تفسير الآية والحديث اهـ قال ابن جرير في تفسير الآية الأولى من سورة آل عمران: ((القَيُّوم)): القَيِّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحب من تغيير وتبديل وزيادة ونقص، ثم ذكر قولين في معنى القَيُّوم، ثم قال: وأولى التأويلين بالصواب ما قال مجاهد والربيع، وأن ذلك وصفٌ من الله - تعالى ذكره- نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء؛ في رزقه، والدفع عنه، وكلاءته، وتدبيره، وصرفه في قدرته وقال ابن قتيبة: ومن صفاته: (القَيُّوم) و (القيَّام)، وقرئ بهما جميعاً، وهما (فيعول) و (فيعال)، من قمت بالشيء: إذا وليته، كأنه القيِّم بكل شيء، ومثله في التقدير: دَيُّور وديَّار اهـ (¬2) وقال الزجاجي: القَيُّوم: فيعول من قام يقوم، وهو من أوصاف المبالغة في الفعل اهـ (¬3) وقال ابن القيم (¬4): هذا وَمِنْ أوصافِهِ القَيُّوم ... وَالقَيُّوم في أوصافه أمْرَانِ إِحْدَاهُما القَيُّوم قَامَ بِنَفْسِهِ ... والكَوْنُ قَامَ بهِ هُمَا الأمرَانِ فالأوَّلُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ غَيْرهِ ... والفَقْرُ مِنْ كُلٍّ إليهِ الثَّانِيِ والوَصْفُ بِالقَيُّوم ذُو شَأْنٍ كذا ... مَوْصُوفُهُ أيْضاً عَظيمُ الشَّانِ صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص247 ¬

(¬1) رواه البخاري (1120)، ومسلم (769) ورواه أيضاً بلفظ: ((قيّام)). (¬2) ((تفسير غريب القرآن)) (ص7). (¬3) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص105). (¬4) ((القصيدة النونية)) (2/ 102).

- الكافي

- الكافي يوصف الله عَزَّ وجلَّ بأنه كافٍ عباده ما يحتاجون إليه، وهي صفةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمْ الله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 137] وقوله: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] وقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] الدليل من السنة: حديث أنس رضي الله عنه؛ ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه؛ قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا؛ فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)) (¬1) قصة الغلام مع الساحر والراهب في (صحيح مسلم) من حديث أنس رضي الله عنه، وفيه أنه كلما ذهبوا به إلى مكان لقتله؛ قال: ((اللهم اكفنيهم بما شئت)) (¬2) المعنى: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه، الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه واستمد منه حوائج دينه ودنياه (¬3) قال الراغب الأصفهاني في (المفردات): الكفاية ما فيه سد الخلة وبلوغ المراد في الأمر وقد عدَّ بعض العلماء (الكافي) من أسماء الله تعالى وفي هذا نظر صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص248 ¬

(¬1) رواه مسلم (2715). (¬2) رواه مسلم (3005). (¬3) ((تفسير السعدي)) (5/ 304).

- الكبر والكبرياء

- الكبر والكبرياء صفةٌ ذاتيةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، و (المُتَكَبِّر) من أسماء الله تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23] وقوله: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية: 37] الدليل من السنة: حديث عبد الله بن قيس رضي الله عنه مرفوعاً: ((جنتان من فضَّة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) (¬1) حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: ((العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني؛ عذبته)) (¬2) وأبو داود بلفظ: ((الكبرياء ردائي، والعَظَمَة إزاري)) (¬3) قال ابن قتيبة: وكبرياء الله: شرفه، وهو من (تكبَّر): إذا أعلى نفسه اهـ (¬4) وقال قوَّام السُّنَّة: أثبت الله العِزَّة والعَظَمَة والقدرة والكِبر والقوة لنفسه في كتابه (¬5) وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)): ومن المعلوم أن الكبرياء من صفات الله تعالى، ولا يجوز للعباد أن يتصفوا بها؛ فقد توعد الله المتكبر بجهنم؛ كما قال تعالى: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:72] ثم قال: ووصف الله تعالى بأن العَظَمَة إزاره والكبرياء رداؤه؛ كسائر صفاته؛ تثبت على ما يليق به، ويجب أن يؤمن بها على ما أفاده النص؛ دون تحريف ولا تعطيل (¬6) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص250 ¬

(¬1) رواه البخاري (4878)، ومسلم (180). (¬2) رواه مسلم (2620). (¬3) رواه أبو داود (4090). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وسكت عنه. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) ((تفسير غريب القرآن)) (ص18). (¬5) ((الحجة)) (2/ 186). (¬6) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (2/ 161).

- الكبير

- الكبير يوصف الله عَزَّ وجلَّ بأنه الكبير، وهو أكبر من كل شيء، وهي صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، و (الكبير) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9] وقوله تعالى: وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [لقمان: 30] الدليل من السنة: إن الأحاديث الصحيحة والأذكار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتي فيها وصف الله عَزَّ وجلَّ بالكِبَر، وأنه أكبر من كل شيء كثيرة جدَّاً، منها تكبيرات الأذان والصلاة ((الله أكبر)) (¬1)، ومنها: ((الله أكبر كبيراً)) (¬2)، ومنها: ((فمن كبر الله وحمد الله)) (¬3)، ومنها: ((يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك)) (¬4) وغيرها كثير ومعنى الكبير؛ أي: العظيم الذي كل شيء دونه، وهو أعظم من كل شيء قال ابن منظور في (لسان العرب): والكبير في صفة الله تعالى: العظيم الجليل صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص251 ¬

(¬1) منها في الأذان: ما رواه البخاري (914) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. ومسلم (379) من حديث أبي محذورة رضي الله عنه. ومنها في الصلاة: ما رواه البخاري (795) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (601). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه مسلم (1007). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) رواه البخاري (6408)، ومسلم (2689). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

- الكتابة والخط

- الكتابة والخط صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، فهو سبحانه يكتب ما شاء متى شاء، كما يليق بعظيم شأنه، لا ككتابة المخلوقين، والتي تليق بصغر شأنهم الدليل من الكتاب: قوله تعالى: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 181] وقوله تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً [الأعراف: 145] وقوله: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لما قضى الله الخلق؛ كتب في كتابه؛ فهو عنده فوق عرشه: إنَّ رحمتي تغلب غضبي)) (¬1)، ورواه الترمذي، وابن ماجه؛ بلفظ: (( .. لما خلق الخلق؛ كتب بيده على نفسه ... )) (¬2) حديث احتجاج موسى وآدم عليهما السلام، وفيه قول آدم لموسى: ((أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيّاً؛ فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟)) (¬3) رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652) وفي رواية: ((وخط لك التوراة بيده)) (¬4) قال أبو بكر الآجري في (الشريعة): باب الإيمان بأن الله عَزَّ وجلَّ خلق آدم عليه السلام بيده، وخَطَّ التوراة لموسى عليه السلام بيده (¬5) وقال الشيخ عبد الله الغنيمان: قوله: ((كتب في كتابه)): يجوز أن يكون المعنى: أمر القلم أن يكتب؛ كما قال الحافظ، ويجوز أن يكون على ظاهره؛ بأن كتب تعالى بدون واسطة، ويجوز أن يكون قال: كن؛ فكانت الكتابة، ولا محذور في ذلك كله، وقد ثبت في (سنن الترمذي) و (ابن ماجه) في هذا الحديث: ((أن الله عَزَّ وجلَّ لما خلق الخلق؛ كتب بيده على نفسه: إنَّ رحمتي سبقت غضبي)) (¬6) قلت: أما حديث الترمذي وابن ماجه؛ فلا يصح إلا على أن الكتابة كانت بدون واسطة، وأنها كانت بيده سبحانه وتعالى صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص254 ¬

(¬1) رواه البخاري (3194)، ومسلم (2751). (¬2) رواه الترمذي (3543)، وابن ماجه (4295). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. والحديث صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح عند ابن خزيمة - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. (¬3) رواه البخاري (4738)، ومسلم (2652) (15) واللفظ له. (¬4) رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652) (13). (¬5) ((الشريعة)) (ص323). (¬6) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 260).

- الكرم

- الكرم صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، ومن أسمائه: (الكريم) و (الأكرم) الدليل من الكتاب: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] وقوله: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر: 15] وقوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق: 3] الدليل من السنة: حديث عوف بن مالك رضي الله عنه في الدعاء على الجنازة: ((اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسع مدخله)) (¬1) حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وقول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم ((والذي أكرمك؛ لا أتطوع شيئاً)) (¬2) حديث غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: ((بلى؛ والذي أكرمك بالحق)) (¬3) أثر عبد الله بن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما: (رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم) (¬4) قال ابن منظور في (لسان العرب): الكريم من صفات الله وأسمائه، وهو الكثير الخير، الجواد المعطي، الذي لا ينفد عطاؤه، وهو الكريم المطلق قال الشيخ السعدي: الرحمن الرحيم والبر الكريم الجواد الرؤوف الوهاب؛ هذه الأسماء تتقارب معانيها، وتدل كلها على اتصاف الرب بالرحمة والبر والجود والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه التي عم بها جميع الوجود بحسب ما تقتضيه حكمته، وخص المؤمنين منها بالنصيب الأغر والحظ الأكمل اهـ (¬5) وقال أبو هلال العسكري: الفرق بين الكرم والجود أن الجود هو الذي ذكرناه (يعني: كثرة العطاء من غير سؤال)، والكرم يتصرف على وجوه، فيقال لله تعالى: كريم، ومعناه أنه عزيز، وهو من صفات ذاته، ومنه قوله تعالى: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6]؛ أي: العزيز الذي لا يغلب، ويكون بمعنى الجواد المفضال، فيكون من صفات فعله (¬6) وذكر معانيَ وأقوالاً أخرى وقال الزجاجي: الكريم: الجواد، والكريم: العزيز، والكريم: الصَّفوح هذه ثلاثة أوجه للكريم في كلام العرب، كلها جائز وصف الله عَزَّ وجلَّ بها، فإذا أريد بالكريم الجواد أو الصفوح؛ تعلق بالمفعول به؛ لأنه لا بدَّ من مُتكرم عليه ومصفوح عنه موجود، وإذا أريد به العزيز؛ كان غير مقتض مفعولاً اهـ (¬7) يعني رحمه الله: إذا أريد به الجواد والصفوح؛ فهي صفةُ فعلٍ، وإذا أريد به العزيز؛ فهي صفةُ ذاتٍ والله أعلم صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص254 ¬

(¬1) رواه مسلم (963). (¬2) رواه البخاري (1891). (¬3) رواه مسلم (1498). (¬4) رواه ابن أبي شيبة (3/ 420)، والطبراني في ((الدعاء)) (870)، والبيهقي (5/ 95). موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه. وقال العراقي في ((المغني)) (1/ 424): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 401 - 402): موقوف صحيح الإسناد. ورواه ابن أبي شيبة (3/ 420) موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الألباني - رحمه الله - في ((مناسك الحج والعمرة)) (ص28): رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما بإسنادين صحيحين. والحديث رواه الطبراني في ((الأوسط)) (3/ 147) مرفوعاً بسند ضعيف من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر: ((مجمع الزوائد)) (3/ 248)، و ((تلخيص الحبير)) (2/ 251). (¬5) ((تفسير السعدي)) (5/ 299). (¬6) ((الفروق)) (ص143). (¬7) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص176).

- الكره

- الكره صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ [التوبة: 46] الدليل من السنة: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن الله حَرَّم عليكم: عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكَرِهَ لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) (¬1) حديث عائشة رضي الله عنها: ((وإن الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله وسَخَطِه؛ كَرِهَ لقاء الله وكَرِهَ الله لقاءه)) (¬2) وانظر: صفة (السَّخْط) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص256 ¬

(¬1) رواه البخاري (2408)، ومسلم (593). (¬2) رواه مسلم (2684). والحديث رواه البخاري معلقاً بعد حديث (6507).

- الكف

- الكف صفةٌ ذاتيةٌ خبريةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ما تصدق أحد بصدقة من طيِّب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كفِّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربيِّ أحدكم فَلُوَّه أو فصيله)) (¬1) حديث: ((رأيت ربي في أحسن صورة - وفيه - فرأيته وضع كَفَّه بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله في صدري)) (¬2) قال أبو يعلى الفراء في (إبطال التأويلات) مثبتاً الكف ورادّاً على من أول الصورة والكف في حديث الصورة بقوله: الثالث: أنه وصفه بالصورة، ووضع الكف بين كتفيه، وهذه الصفة لا تتصف بها الأفعال والمَلَك (¬3) وقال قَوَّام السُّنَّة الأصبهاني في (الحجة) بعد سرده لجملة من أحاديث الصفات: وقوله: ((إنَّ أحدكم يأتي بصدقته فيضعها في كف الرحمن)) (¬4)، وقوله: ((يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع)) (¬5) وأمثال هذه الأحاديث، فإذا تدبَّره متدبر، ولم يتعصب؛ بان له صحة ذلك، وأنَّ الإيمان به واجب، وأنَّ البحث عن كيفية ذلك باطل اهـ ثم قال: وللقدم معان، وللكف معان، وليس يحتمل الحديث شيئاً من ذلك؛ إلا ما هو معروف في كلام العرب؛ فهو معلوم بالحديث، مجهول الكيفية وقال صديق حسن خان في (قطف الثمر/ 66): ومن صفاته سبحانه: اليد، واليمين، والكف، والإصبع (¬6) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص256 ¬

(¬1) رواه البخاري (1410)، ومسلم (1014). (¬2) رواه الترمذي (3235)، وأحمد (5/ 243) (22162). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح؛ سألت محمد بن إسماعيل - البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (4/ 73)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. والحديث روي عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن سمرة وثوبان رضي الله عنهم جميعاً. (¬3) ((إبطال التأويلات)) (1/ 131). (¬4) رواه أحمد (2/ 418) (9413) بلفظ مقارب. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط: صحيح. (¬5) رواه البخاري (7451) عن عبد الله بن مسعود بلفظ: جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول بيده: أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)). (¬6) ((الحجة)) (2/ 259، 262).

- الكفيل

- الكفيل يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الكفيل، الذي يكفل ويحفظ عباده، وهي صفةٌ ثابتةٌ له بالكتاب والسُّنَّة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل: 91] الدليل من السُّنَّة: قصة الرجل من بني إسرائيل، الذي أسلفَ آخَرَ ألفَ دينار، وفيه أنه قال: ((اللهم إنك تعلم أني كنت تبلغت فلاناً ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك)) (¬1) والكفيل بمعنى الوكيل والحفيظ والشهيد والعائل والضامن قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً: وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعياً، يرعى الموفي منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض قال الراغب الأصفهاني في (المفردات): كفل: الكفالة الضمان والكفيل الحظ الذي فيه الكفاية، كأنه تكفل بأمره وقد عدَّ بعضهم الكفيل من أسماء الله تعالى صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص258 ¬

(¬1) رواه البخاري (2291).

- الكلام والقول والحديث والنداء والصوت

- الكلام والقول والحديث والنداء والصوت يعتقد أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يتكلم ويقول ويتحدث وينادي، وأنَّ كلامه بصوت وحرف، وأنَّ القرآن كلامه، مُنَزَّلٌ غير مخلوق، وكلام الله صفةٌ ذاتيةٌ فعليةٌ (ذاتيةٌ باعتبار أصله وفعليةٌ باعتبار آحاده) الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] وقوله: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] (نداء بصوت مسموع) وقوله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] (كلام مكتوب) وقوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] (كلام يُسمع) وقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء: 87] الدليل من السُّنَّة: حديث احتجاج آدم وموسى وفيه: ((قال له آدم: يا موسى! اصطفاك الله بكلامه)) (¬1) حديث قصة الإفك وقول عائشة رضي الله عنها: ((ولَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ يتلى)) (¬2) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((إنَّ الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول: هل رضيتم؟)) (¬3) حديث ابن عباس رضي الله عنه: ((بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهنَّ لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما؛ إلا أعطيته)) (¬4) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: ((يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادى بصوت: إنَّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)) (¬5) ومن أقوال العلماء في ذلك: 1 - قال الإمام البخاري: وإنَّ الله عَزَّ وجَلَّ ينادي بصوتٍ يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب، فليس هذا لغير الله جل ذكره، وفي هذا (يعني: حديث عبد الله بن أنيس ذكره بعد كلامه هذا) دليل أنَّ صوت الله لا يشبه أصوات الخلق؛ لأنَّ صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأنَّ الملائكة يصعقون من صوته؛ فإذا تنادى الملائكة؛ لم يصعقوا (¬6) 2 - وقال أبو بكر الخلال: أخبرني علي بن عيسى أنَّ حنبلاً حدثهم؛ قال: قلت لأبي عبد الله: الله يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم؛ فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عَزَّ وجَلَّ؟! يكلم عبده ويسأله، الله متكلم، لم يزل الله متكلماً؛ يأمر بما يشاء، ويحكم بما يشاء، وليس له عدل ولا مثل، كيف شاء وأين شاء (¬7) 3 - وقال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمهما الله: سألت أبي رحمه الله عن قوم يقولون: لما كلم الله عَزَّ وجَلَّ موسى؛ لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بلى؛ إن ربك عَزَّ وجَلَّ تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت (¬8). 4 - وقال ابن أبي عاصم في (السُّنَّة): باب: ذكر الكلام والصوت والشخص وغير ذلك (¬9) 5 - وقال أبو الحسن الأشعري: وأجمعوا على إثبات حياة الله عَزَّ وجَلَّ، لم يزل بها حيّاً وكلاماً لم يزل به متكلماً اهـ (¬10) ¬

(¬1) رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652). (¬2) رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770). (¬3) رواه البخاري (6549)، ومسلم (2829). (¬4) رواه مسلم (806). (¬5) رواه البخاري (7483). (¬6) ((خلق أفعال العباد)) (ص149). (¬7) انظر: ((المسائل والرسالة المروية عن الإمام أحمد)) (1/ 288). (¬8) ((المسائل والرسالة المروية عن الإمام أحمد)) (1/ 302). (¬9) ((السنة)) (1/ 225). (¬10) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص214).

6 - وقال قَوَّام السُّنَّة الأصبهاني: وخاطر أبو بكر رضي الله عنه (أي: راهن قوماً من أهل مكة)، فقرأ عليهم القرآن، فقالوا: هذا من كلام صاحبك فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر: (إنَّ هذا القرآن كلام الله) فهو إجماع الصحابة وإجماع التابعين بعدهم، مثل: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، والشعبي, وغيرهم ممَّن يطول ذكرهم، أشاروا إلى أنَّ كلام الله هو المتلو في المحاريب والمصاحف وذكر: صالح بن أحمد بن حنبل، وحنبل؛ أنَّ أحمد رحمه الله؛ قال: جبريل سمعه من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم وفي قول أبي بكر رضي الله عنه: (ليس بكلامي، ولا كلام صاحبي، إنما هو كلام الله تعالى): إثبات الحرف والصوت؛ لأنه إنما تلا عليهم القرآن بالحرف والصوت اهـ (¬1) 7 - وبوب رحمه الله في (الحجة) (فصل في إثبات النداء صفة لله عَزَّ وجَلَّ) ثم سرد جملة من الآيات والأحاديث (¬2) 8 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السُّنَّة؛ أنه سبحانه ينادي بصوت؛ نادى موسى، وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال: إنَّ الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنَه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف (¬3) 9 - وقال ابن القيم (¬4) على لسان مُعَطِّلٍ يعترض على ما يثبته سني: وزَعَمْتَ أنَّ الله كَلَّمَ عَبْدَهُ أَفَتَسْمَعُ الآذَانُ غَيرَ الحَرْفِ وَالصَّـ وَكَذا النِّداءُ فَإنَّهُ صَوْتٌ بِإجْمـ لَكنَّهُ صَوْتٌ رَفِيعٌ وَهُوَ ضِـ ... مُوسَى فَأسْمَعَهُ نِدَا الرَّحْمنِ ـوْتِ الَّذي خُصَّتْ بِهِ الأذُنانِ ـمَاعِ النُّحَاةِ وأهْلِ كُلِّ لِسَانِ ـدٌّ للنِّجَاءِ كِلاهُمَا صَوْتَانِ ولمزيد شرح فيما يتعلق بصفة الكلام انظر: (شرح الشيخ عبد الله الغنيمان لكتاب التوحيد من صحيح البخاري) (2/ 307 - 316)، وكتاب (العقيدة السلفية في كلام رب البرية) للأخ عبد الله بن يوسف الجديع، وهي نافعة جدَّاً صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص259 ¬

(¬1) ((الحجة)) (1/ 331و332). (¬2) ((الحجة)) (1/ 269). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 304). وانظر أيضاً: (6/ 513 - 545). (¬4) ((القصيدة النونية)) (1/ 80).

- الكنف

- الكنف صفةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالحديث الصحيح، والكَنَف في اللغة: السِّتر والحِرز والجانب والنَّاحية الدليل: ما رواه البخاري ومسلم؛ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كَنَفَه عليه فيقول)) (¬1) قال البخاري: قال عبد الله بن المبارك: كَنَفَه؛ يعني: ستره (¬2) وقال الأزهري في (تهذيب اللغة) بعد أن نقل كلام ابن المبارك هذا: وقال ابن شميل: يضع الله عليه كَنَفَه؛ أي: رحمته وبرَّه (¬3) وقال شيخ الإسلام في (نقض التأسيس)؛ كما ذكر الغنيمان في (شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري): قال الخلال في (كتاب السُّنَّة) باب: يضع كَنَفَه على عبده، تبارك وتعالى: أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر؛ أنَّ أبا الحارث حدثهم؛ قال: قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله: (إنَّ الله يدني العبد يوم القيامة؛ فيضع عليه كَنَفَه؟) قال: هكذا نقول: يدنيه ويضع كَنَفَه عليه؛ كما قال؛ يقول له: أتعرف ذنب كذا قال الخلال: أنبأنا إبراهيم الحربي؛ قال: قوله: ((فيضع عليه كَنَفَه))؛ يقول: ناحيته قال إبراهيم: أخبرني أبو نصر عن الأصمعي؛ يقال: نزل في كَنَفِ بني فلان؛ أي: في ناحيتهم. اهـ (¬4) قال الحافظ أبو موسى المديني في (المجموع المغيث): في الحديث: ((يُدني المؤمن من ربه عَزَّ وجَلَّ حتى يضع عليه كَنَفَه)) (¬5)؛ أي: يستره، وقيل: يرحمه، وقال الإمام إسماعيل: لم أر أحداً فسَّرَه؛ إلا إن كان معناه: يستره من الخلق، وقيل في رواية: يستره بيده وكنفا الإنسان: ناحيتاه، ومن الطائر: جناحاه (¬6) وقال الشيخ الغنيمان في المصدر السابق: قوله: ((حتى يضع كَنَفَه عليه)): جاء الكَنَفُ مفسراً في الحديث بأنه السِّتر، والمعنى: أنه تعالى يستر عبده عن رؤية الخلق له؛ لئلا يفتضح أمامهم فيخزى؛ لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويظهر على وجهه الخوف الشديد، ويتبين فيه الكرب والشدة (¬7) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص263 ¬

(¬1) رواه البخاري (6070)، ومسلم (2768). (¬2) انظر: ((خلق أفعال العباد)) (ص103). (¬3) ((تهذيب اللغة)) (10/ 274). (¬4) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (2/ 423) (¬5) رواه البخاري (4685). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬6) ((المجموع المغيث)) (3/ 78). (¬7) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (2/ 423).

- الكيد لأعدائه

- الكيد لأعدائه صفةٌ فعلِيَّةٌ خبريَّةٌ ثابتة لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب، ولا يوصف به إلا مقيداً في مقابلة كَيْدِ المخلوق الدليل: قوله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] وقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 16] وقوله: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 183، القلم: 45] قال أبو إسحاق الحربي: (الكيد من الله خلافه من الناس، كما أنَّ المَكْر منه خلافه من الناس) اهـ (¬1) وهذا إثباتٌ منه لصفة الكيد والمَكْر على حقيقتهما وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) رادَّاً على من زعم أنَّ في القرآن مجازاً: وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن؛ كلفظ: (المَكْر) و (الاستهزاء)، و (السخرية)؛ المضاف إلى الله، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة؛ كانت ظلماً له، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله؛ كانت عدلاً؛ كما قال تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76]، فكاد له كما كادت إخوته لما قال له أبوه: لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف:5]، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق:15] اهـ (¬2) وقال في (التدمرية): وهكذا وصف نفسه بالمَكْر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ [الأنفال:30]، وقال: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق:16]، وليس المَكْر كالمَكْر ولا الكيد كالكيد (¬3) وانظر كلام ابن القيم في (مدارج السالكين) (¬4)، و (مختصر الصواعق المرسلة) (¬5) وقال الشيخ محمد خليل هرَّاس في (شرح العقيدة الواسطية) عند قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ، وقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً، قال رحمه الله: تضمنت هذه الآيات إثبات صفتي المَكْر والكيد، وهما من صفات الفعل الاختيارية، ولكن لا ينبغي أن يشتق له من هاتين الصفتين اسم، فيقال: ماكر، وكائد، بل يوقف عند ما ورد به النص من أنه خير الماكرين، وأنه يكيد لأعدائه الكافرين اهـ (¬6) وانظر: صفة (الخِدَاع) و (المَكْر) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص265 ¬

(¬1) ((غريب الحديث)) (1/ 94). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 111). (¬3) ((التدمرية)) (ص26). (¬4) (3/ 415). (¬5) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 32 - 34).). (¬6) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص123).

- اللطف

- اللطف صفةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسُّنَّة، و (اللطيف) من أسمائه سبحانه الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] وقوله: اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [الشورى: 19] الدليل من السُّنَّة: حديث عائشة رضي الله عنها في تتبعها للنبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من عندها خفية لزيارة البقيع، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: ((ما لك يا عائش حشياً رابية؟ قالت: قلت: لا شيء قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير)) (¬1) قال ابن القيم في (النونية 2/ 85): وَهُوَ اللَّطيفُ بِعَبْدهِ وَلِعَبْدِهِ ... واللُّطفُ في أوصَافِهِ نِوْعَانِ قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: اللطيف: الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن والأمور الدقيقة، اللطيف بعباده المؤمنين، الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه من طرق لا يشعرون بها، فهو بمعنى الخبير وبمعنى الرؤوف (¬2) وقال ابن منظور في (لسان العرب): اللُّطف واللَّطف: البر والتكرمة والتَّحفِّي اللطيف: صفة من صفات الله، واسم من أسمائه، ومعناه والله أعلم: الرفيق بعباده صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص266 ¬

(¬1) رواه مسلم (974). (¬2) ((تفسير السعدي)) (5/ 301).

- اللعن

- اللعن صفةٌ فعلِيَّةٌ اختياريةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسُّنَّة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء: 93] وقوله: إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا [الأحزاب: 64] وقوله: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: 44]، [هود:18] الدليل من السُّنَّة: حديث: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) (¬1) حديث: ((لعن الله السارق يَسْرِقُ البيضة)) (¬2) حديث: ((المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو أوى محدثاً؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) (¬3) وقد استشهد شيخ الإسلام ابن تيمية في (الواسطية) بقوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93]؛ بإثبات صفة الغضب واللعن (¬4) وقال الشيخ خليل الهرَّاس عن هذه الآية وآيات معها: تضمنت هذه الآيات إثبات بعض صفات الفعل؛ من الرضى لله، والغضب، واللعن، والكره، ثم قال: واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، واللعين والملعون: من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص267 ¬

(¬1) رواه البخاري (5934) ومسلم (2123). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري (6783) ومسلم (1687). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (6755)، ومسلم (1370). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬4) ((العقيدة الواسطية)) (108).

- المؤمن

- المؤمن يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه المؤمن، وهو اسم له ثابتٌ بالكتاب الدليل من الكتاب: قوله تعالى: السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر: 23] قال ابن قتيبة: ومن صفاته (المؤمن)، وأصل الإيمان: التصديق فالعبد مؤمن؛ أي: مصدِّق محقِّق، والله مؤمن؛ أي: مصدِّق ما وعده ومحقِّقه، أو قابل إيمانه وقد يكون (المؤمن) من الأمان؛ أي: لا يأمن إلا من أمَّنَه الله وهذه الصفة من صفات الله جَلَّ وعَزَّ لا تتصرَّف تصرُّف غيرها، لا يقال: أمن الله؛ كما يقال: تقدَّس الله، ولا يقال: يؤمن الله؛ كما يقال: يتقدَّس الله وإنما ننتهي في صفاته إلى حيث انتهى، فإن كان قد جاء من هذا شيء عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله أو عن الأئمة؛ جاز أن يطلق كما أطلق غيره اهـ (¬1) وقال ابن منظور في (لسان العرب): المؤمن من أسماء الله تعالى الذي وحَّد نفسه؛ بقوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163]، وبقوله: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [آل عمران:18]، وقيل: المؤمن الذي آمن أولياءَه عذابه، وقيل: المؤمن في صفة الله الذي أمِن الخلق من ظلمه، وقيل: المؤمن الذي يصدُق عبادَه ما وعدهم، وكل هذه الصفات لله عَزَّ وجَلَّ؛ لأنه صدق بقوله ما دعا إليه عباده من توحيد، وكأنه أمن الخلق من ظلمه، وما وعدنا من البعث والجنة لمن آمن به والنار لمن كفر به، فإنه مصدِّق وعده، لا شريك له وقال الزجاجي: المؤمن في صفات الله عَزَّ وجَلَّ على وجهين: أحدهما: أن يكون من الأمان؛ أي: يؤمن عبادَه المؤمنين من بأسهِ وعذابهِ، فيأمنونَ ذلك؛ كما تقول: (آمَنَ فلانٌ فلاناً)؛ أي: أعطاهُ أماناً ليسكنَ إليه ويأمنَ، فكذلك أيضاً يقال: اللهُ المؤمنُ؛ أي: يُؤْمِن عبادَه المؤمنين، فلا يأمن إلا منْ آمنه والوجه الآخر: أن يكون المؤمن من الإيمان، وهو التصديق، فيكون ذلك على ضربين: أحدهما: أن يقال: الله المؤمنُ؛ أي: مُصَدِّق عباده المؤمنين؛ أي: يصدِّقُهم على إيمانِهم، فيكون تصديقه إياهم قبول صدقِهِم وإيمانهم وإثابتهم عليه والآخر: أن يكون الله المؤمنُ؛ أي: مُصدقٌ ما وَعَدَهُ عباده؛ كما يقال: صَدَقَ فُلانٌ في قوله وصَدَّقَ؛ إذا كَررَ وبالغَ، يكون بمنْزلةِ ضَرَبَ وضَرَّبَ؛ فالله عَزَّ وجَلَّ مُصدقٌ ما وعد به عبادُهُ ومحققه فهذه ثلاثة أوجهٍ في المؤمن، سائغٌ إضافتها إلى الله ولا يصرفُ فعلُ هذه الصفة من صفاته عَزَّ وجَلَّ، فلا يقال: آمن الله؛ كما يقال: تقدسَ اللهُ، وتباركَ اللهُ، ولا يقال: اللهُ يؤمنُ؛ كما يقال: الله يحلم ويغفر، ولم يُستعمل ذلك؛ كما قيل: تباركَ الله، ولم يقل: هو متباركٌ، وإنما تستعمل صفاتهُ على ما استعملتها الأمة وأطلقتها (¬2) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص268 ¬

(¬1) ((تفسير غريب القرآن)) (ص9). (¬2) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص221).

- المبين:

- المبين: يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه المبين، وهو اسم له ثابتٌ بالكتاب العزيز الدليل من الكتاب: قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 25] قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: يقول: ويعلمون يومئذ أنَّ الله هو الحق الذي يبين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، ويزول حينئذ الشك فيه عن أهل النفاق الذين كانوا فيما كان يعدهم في الدنيا يمترون وقال قَوَّام السُّنَّة الأصبهاني: المبين: ومعناه البيِّن أمره، وقيل: البيِّن الربوبية والملكوت، يقال: أبان الشيء بمعنى تبين، وقيل معناه: أبان للخلق ما احتاجوا إليه (¬1) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص270 ¬

(¬1) ((الحجة)) (1/ 143).

- المتانة

- المتانة صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب، و (المتين) من أسماء الله تعالى الدليل: قوله تعالى: إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] قال أبو زكريا الفراء: وقرأ الناس الْمَتِينُ، رفعٌ من صفة الله تبارك وتعالى اهـ (¬1) وبه قال الزجَّاج (¬2)، والأزهري (¬3)، وقال: ومعنى ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ: ذو الاقتدار الشديد، والمتين في صفة الله القوي وقال ابن منظور في (لسان العرب): والمتين في صفة الله القوي والمتانة: الشدة والقوة؛ فهو من حيث إنه بالغُ القدرة تامُّها قويٌ، ومن حيث إنه شديدُ القوة متينٌ وقال الشيخ عبد العزيز السلمان: وما يؤخذ من الآية إثبات المتانة وهي من الصفات الذاتية (¬4) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص271 ¬

(¬1) ((معاني القرآن)) (3/ 90). (¬2) ((معاني القرآن)) (5/ 59). (¬3) ((تهذيب اللغة)) (14/ 306). (¬4) ((الكواشف الجلية عن معاني الواسطية)) (ص144).

- المجد

- المجد صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، من اسمه (المجيد) الثابت بالكتاب والسُّنَّة وليس (الماجد) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُوُدُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: 15] وقوله: رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ [هود: 73] الدليل من السُّنَّة: حديث: ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)) (¬1) قال ابن قتيبة: (مجد الله): شرفه، وكرمه اهـ (¬2) وقال ابن القيم (¬3): وَهُوَ المَجِيدُ صِفَاتُهُ أَوْصَافُ تَعْـ ... ـظِيمٍ فَشَأْنٌ الوَصْفِ أعْظَمُ شَانِ وقال أيضاً: وأما المجد؛ فهو مستلزم للعظمة والسعة والجلال؛ كما يدل على موضوعه في اللغة؛ فهو دالٌّ على صفات العظمة والجلال، والحمد يدل على صفات الإكرام، والله سبحانه ذو الجلال والإكرام، وهذا معنى قول العبد: لا إله إلا الله والله أكبر؛ فلا إله إلا الله دال على ألوهيته وتفرده فيها، فألوهيته تستلزم محبته التامة، والله أكبر دال على مجده وعظمته اهـ (¬4) قال ابن منظور في (لسان العرب): المجد: المروءة والسخاء، والمجد: الكرم والشرف، والمجيد: من صفات الله عَزَّ وجَلَّ، وفعيل أبلغ من فاعل، فكأنه يجمع معنى الجليل والوهَّاب والكريم وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: المجيد الكبير العظيم الجليل: وهو الموصوف بصفات المجد والكبرياء والعظمة والجلال (¬5) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص272 ¬

(¬1) رواه البخاري (4797)، ومسلم (406). من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه. (¬2) ((تفسير غريب القرآن)) (ص19). (¬3) ((القصيدة النونية)) (2/ 66). (¬4) ((جلاء الأفهام)) (ص174). (¬5) ((التفسير)) (5/ 300).

- المحيط

- المحيط يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه محيط، قد أحاط بكل شيء، وهي صفةٌ ذاتيةٌ، و (المحيط) اسم من أسمائه تعالى ثابت بالكتاب الدليل: قوله تعالى: وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة: 19] وقوله: وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] وغيرها من الآيات قال قَوَّام السُّنَّة الأصبهاني: المحيط: هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً (¬1) وقال البيهقي: المحيط: هو الذي أحاطت قدرته بجميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع المعلومات، والقدرة له صفة قائمة بذاته، والعلم له صفة قائمة بذاته (¬2) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص273 ¬

(¬1) ((الحجة)) (1/ 163 - 164). (¬2) ((الاعتقاد)) (ص68)

- المحيي والمميت

- المحيي والمميت يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه المحيي والمميت، وهذا ثابت بالكتاب والسُّنَّة، وهما صفتان فعليتان خاصتان بالله عَزَّ وجَلَّ، وليسا هما من أسمائه الدليل من الكتاب: قوله تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28] وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ [الحج: 66] وقوله: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] الدليل من السُّنَّة: حديث حذيفة رضي الله عنه في دعاء الاستيقاظ من النوم: ((الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)) (¬1) حديث أنس رضي الله عنه: ((اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) (¬2) قال البيهقي: المحيي: هو الذي يحيي النطفة الميتة، فيخرج منها النسمة الحية، ويحيي الأجسام البالية بإعادة الأرواح إليها عند البعث، ويحيي القلوب بنور المعرفة، ويحيي الأرض بعد موتها؛ بإنزال الغيث، وإنبات الرزق المميت: هو الذي يميت الأحياء، ويوهي بالموت قوة الأقوياء (¬3) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص274 ¬

(¬1) رواه البخاري (6312). والحديث رواه مسلم (2711). من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (5671)، ومسلم (2680). (¬3) ((الاعتقاد)) (ص62).

- المستعان

- المستعان يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه المستعان، الذي يستعين به عباده فيعينهم، وهذا ثابت بالكتاب والسُّنَّة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] وقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18] الدليل من السُّنَّة: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) (¬1) حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((إذا سألت؛ فاسأل الله، وإذا استعنت؛ فاستعن بالله)) (¬2) وقد عدَّ بعضهم (المستعان) من أسماء الله، وفي هذا نظر أما (المعين)؛ فهو ليس من أسماء الله، خلاف ما هو منتشر عند العامة، فتراهم يتعبَّدون الله به بتسمية عبد المعين صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص275 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1522)، والنسائي (3/ 53) بلفظة: ((رب)) بدلاً من ((اللهم))، وأحمد (5/ 244) (22172). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال النووي في ((المجموع)) (3/ 486)، وابن الملقن في ((الإعلام)) (4/ 14): إسناده صحيح. وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 97)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/ 297)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669)، والحاكم (3/ 623). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا لشهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا. وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 495): حسن جيد. وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 327): حسن. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (188): حسن وله شاهد. وقال الصنعاني في ((سبل السلام)) (4/ 267): إسناده حسن. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 233): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

- المسح

- المسح ثبت في الحديث الصحيح أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ مسح على ظهر آدم، وهو مسحٌ على حقيقته، يليق بجلال الله وعظمته الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لمَّا خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة00)) (¬1) حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ قال: لما نزلت آية الدَّيْن؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أول من جحد آدم، إنَّ الله تعالى لما خلقه؛ مسح ظهره، فأخرج منه ما هو من ذراري إلى يوم القيامة، فعرضهم عليه)) (¬2) قال ابن القيم: وورد لفظ اليد في القرآن والسُّنَّة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مئة موضع وروداً متنوعاً متصرفاً فيه مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقية من الإمساك والطي والقبض والبسط وأنه مسح ظهر آدم بيده اهـ (¬3) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص276 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3076)، والحاكم (2/ 354). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن منده في ((الرد على الجهمية)) (50): صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (2/ 333)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. والحديث روي عن عمر رضي الله عنه. (¬2) رواه أحمد (1/ 251) (2270)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (204)، والطبراني (12/ 214). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 206): رواه أحمد والطبراني وقال في أوله لما نزلت آية الدين وقال كم عمره قال ستون سنة، والباقي بمعناه وفيه علي بن زيد وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 71): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((ظلال الجنة)) (204): صحيح. (¬3) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/ 171).

- المصور

- المصور يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه المُصَوِّر، وهذا ثابت بالكتاب والسُّنَّة، و (المُصَوِّر) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّر [الحشر: 24] وقوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحامِ كَيْفَ يَشَاء [آل عمران:6] الدليل من السُّنَّة: حديث أنس رضي الله عنه: ((لمَّا صوَّر الله آدم في الجنة؛ تركه ما شاء الله أن يتركه)) (¬1) حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشق سمعه وبصره)) (¬2) قال ابن منظور في (لسان العرب): ومن أسماء الله المُصَوِّر، وهو الذي صوَّر جميع الموجودات ورتبها، فأعطى كل شيء منها صورة خاصة وهيئة مفردة يتميز بها على اختلافها وكثرتها قال الشيخ ابن سعدي: الخالق البارئ المُصَوِّر: الذي خلق جميع الموجودات وبرأها وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل ولا يزال على هذا الوصف العظيم (¬3) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص277 ¬

(¬1) رواه مسلم (2611). (¬2) رواه مسلم (771). (¬3) ((التفسير)) (5/ 301).

- المعية

- المعية يعتقد أهل الحقِّ، أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ الله معنا على الحقيقة، وأنه فوق سماواته، مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، وهذه المَعِيَّةُ ثابتةٌ بالكتاب والسُّنَّة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] وقوله: وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] الدليل من السُّنَّة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((إذا كان أحدكم في الصلاة؛ فلا يبصق قِبَل وجهه؛ فإنَّ الله قِبَل وجهه)) (¬1) الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني ... )) (¬2) وانظر: صفة (القُرْب) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الواسطية): فصل: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله، وأجمع عليه سلف الأمة؛ من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليُّ على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، ثم بعد أن أورد بعض الآيات؛ قال: وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حقٌ على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة (¬3) قال الشيخ العثيمين -رحمه الله- في (تعقيب مَعِيَّة الله على خلقه) في بيان سبب كتابه هذا التعقيب: جـ - ولبيان معنى هذه الصفة العظيمة التي وصف الله بها نفسه في عدة آيات من القرآن، ووصفه بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اهـ وهذه الرسالة من أفضل ما قرأت في توضيح معنى المَعِيَّة؛ فلتراجع، وقد طبعها الشيخ رحمه الله في آخر كتابه القيم: (القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص278 ¬

(¬1) رواه البخاري (406)، ومسلم (547). (¬2) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((العقيدة الواسطية)) (ص193).

- المغفرة والغفران

- المغفرة والغفران صفةٌ فعلِيَّةٌ ثابتة لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسُّنَّة، ومن أسمائه (الغفار) و (الغفور) الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] وقوله: إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28] وقوله: أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر: 5] وقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [فصلت: 43] الدليل من السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)) (¬1) حديث عائشة رضي الله عنها: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله؛ كره الله لقاءه فقيل: يا رسول الله! كراهية لقاء الله كراهية الموت، كلنا نكره الموت؟ قال: ذاك عند موته، إذا بشر برحمة الله ومغفرته؛ أحب لقاء الله)) (¬2) قال ابن قتيبة: ومن صفاته (الغفور)، وهو من قولك: غفرت الشيء: إذا غطيته؛ كما يُقال: كَفَرْتُه: إذا غطيته ويقال: كذا أغفر من كذا؛ أي: أستر (¬3) وقال الزجاجي: غفور – كما ذكرت لك – من أبنية المبالغة؛ فالله عَزَّ وجَلَّ غفور؛ لأنه يفعل ذلك لعباده مرة بعد مرة إلى ما لا يحصى، فجاءت هذه الصفة على أبنية المبالغة لذلك، وهو متعلق بالمفعول؛ لأنه لا يقع الستر إلا بمستور يُستر ويُغطى، وليست من أوصاف المبالغة في الذات، إنما هي من أوصاف المبالغة في الفعل (¬4) وقال الشيخ ابن سعدي: العفُو الغفور الغفار: الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه (¬5) وقال الشيخ عبد العزيز السلمان: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ في هذه الآيات إثبات وصف الله بالعفو والمغفرة اهـ (¬6) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص279 ¬

(¬1) رواه مسلم (125). (¬2) رواه النسائي (4/ 10)، وابن ماجه (4264). وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) ((تفسير غريب القرآن)) (ص14). (¬4) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص93). (¬5) ((تفسير السعدي)) (5/ 300). (¬6) ((الكواشف الجلية عن معاني الواسطية)) (ص270).

- المقت

- المقت صفةٌ فعلِيَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسُّنَّة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر: 10] الدليل من السُّنَّة: حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: ((وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم؛ عربهم وعجمهم؛ إلا بقايا من أهل الكتاب)) (¬1) وفي (معاني القرآن وإعرابه) في معنى قوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً [النساء: 22]؛ قال الزجاج: المَقْت: أشد البغض اهـ (¬2) وقد استشهد شيخ الإسلام في (الواسطية) لإثبات صف (المَقْت) بقوله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3] وقال الشيخ محمد خليل الهرَّاس شارحاً هذه الآيات: تضمنت هذه الآيات بعض صفات الفعل؛ من الرضى لله والغضب والمَقْت والأَسَف، وهي عند أهل الحق صفات حقيقية لله عَزَّ وجَلَّ، على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق اهـ وقال شيخ الإسلام أيضاً في (التدمرية): وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمَقْت، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، وليس المَقْت مثل المَقْت (¬3) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص281 ¬

(¬1) رواه مسلم (2865). (¬2) ((معاني القرآن وإعرابه)) (2/ 32). (¬3) ((العقيدة التدمرية)) (26).

- المقيت

- المقيت يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه مُقِيت، يقدر لعباده القوت، ويحفظ عليهم رزقهم، وهذا ثابت بالكتاب العزيز والمقيت من أسمائه تعالى الدليل: قوله تعالى: وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً [النساء: 85] قال ابن جرير في تفسير الآية: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً، قال بعضهم: تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظاً وشهيداً - ونقل بإسناده هذا القول عن ابن عباس ومجاهد – وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيءٍ بالتدبير وقال آخرون: هو القدير - ونقل ذلك بإسناده عن السدي وابن زيد - والصواب من هذه الأقوال قول من قال: معنى (المُقِيت): القدير اهـ (¬1) وممَّن قال من أهل اللغة: المُقِيت بمعنى القدير: أبو إسحاق الزَّجَّاج في (تفسير أسماء الله الحسنى) (¬2) – وله قولٌ آخر سيأتي -، وتلميذه أبو القاسم الزَّجَّاجِي – نسبةً إلى شيخه الزَّجَّاج – في (اشتقاق أسماء الله) (¬3)، والفراء في (معاني القرآن) (¬4) ومِمَّن قال: المُقِيت بمعنى الحفيظ: الزجاج في (معاني القرآن وإعرابه) (¬5)، وهذا قولٌ آخرٌ له، ووافقه أبو جعفر النحاس في (معاني القرآن الكريم) (¬6) قال القرطبي في (الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) (¬7): وعلى القول بأنه القادر يكون من صفات الذات، وإن قلنا إنه اسم الذي يعطي القوت؛ فهو اسم للوهَّاب والرزاق، ويكون من صفات الأفعال وقد عدَّ الشيخ العثيمين -رحمه الله- (المُقِيت) من أسماء الله تعالى، انظر: (القواعد المثلى)، وانظر أيضاً: (النهج الأسمى) (¬8) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص282 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (8/ 583 - شاكر). (¬2) ((تفسير أسماء الله الحسنى)) (ص 48) (¬3) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص136). (¬4) ((معاني القرآن)) (1/ 280). (¬5) ((معاني القرآن وإعرابه)) (2/ 85). (¬6) ((معاني القرآن الكريم)) (2/ 147). (¬7) ((الأسنى)) (1/ 275). (¬8) ((النهج الأسمى)) (1/ 337).

- المكر على من يمكر به

- المكر على من يمكر به من صفات الله الفعليَّة الخبريَّة التي لا يوصف بها وصفاً مطلقاً، وهي ثابتة بالكتاب والسُّنَّة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران54] وقوله: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل50] الدليل من السُّنَّة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي)) (¬1) رواه أبو داود (صحيح سنن أبي داود/1337)، والترمذي (2816)، وابن ماجه قال أبو إسحاق الحربي: والكيد من الله خلافه من الناس، كما المَكْر منه خلافه من الناس (¬2) وهذا إثبات منه لصفتي الكَيْد والمَكْر على الحقيقة قال شيخ الإسلام: وهكذا وصف نفسه بالمَكْر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ [الأنفال:30]، وقال: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق:15]، وليس المَكْر كالمَكْر، ولا الكيد كالكيد (¬3) وانظر كلام تلميذه ابن القيم في (مختصر الصواعق المرسلة) (¬4) وفي (المجموع الثمين) سئل الشيخ العثيمين -رحمه الله- هل يوصف الله بالمَكْر؟ وهل يسمى به؟ فأجاب: لا يوصف الله تعالى بالمَكْر إلا مقيداً، فلا يوصف الله تعالى به وصفاً مطلقاً؛ قال الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، ففي هذه الآية دليل على أنَّ لله مكراً، والمَكْر هو التوصل إلى إيقاع الخصم من حيث لا يشعر، ومنه جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ((الحرب خدعة)) (¬5) فإن قيل: كيف يوصف الله بالمَكْر مع أنَّ ظاهره أنه مذموم؟ قيل: إن المَكْر في محله محمود، يدل على قوة الماكر، وأنه غالب على خصمه، ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق، فلا يجوز أن تقول: إنَّ الله ماكر! وإنما تذكر هذه الصفة في مقام يكون مدحاً؛ مثل قوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ، وقوله وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50]، ومثل قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ، ولا تنفى عنه هذه الصفة على سبيل الإطلاق، بل إنها في المقام التي تكون مدحاً؛ يوصف بها، وفي المقام التي لا تكون مدحاً؛ لا يوصف بها، وكذلك لا يسمى الله به؛ فلا يقال: إنَّ من أسماء الله الماكر والمَكْر من الصفات الفعلية؛ لأنها تتعلق بمشيئة الله سبحانه اهـ (¬6) وانظر كلام الإمام ابن جرير الطبري في صفة (الاسْتِهْزَاء)، وكلام ابن القيم في صفة (الخِدَاع) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص283 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1510)، والترمذي (3551)، وابن ماجه (3830)، وأحمد (1/ 227) (1997). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (3/ 153): حسن صحيح. وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (ص206): حسن. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 310): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) ((غريب الحديث)) (1/ 94). (¬3) ((العقيدة التدمرية)) (ص26). (¬4) (2/ 32 - 34). (¬5) رواه البخاري (3029)، ورواه مسلم (1740). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث روي في الصحيحين أيضاً عن علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬6) ((المجموع الثمين)) (2/ 65).

- الملك والملكوت

- الملك والملكوت من صفات الله الذاتية الثابتة بالكتاب والسُّنَّة، و (المَلِك) و (المَليك) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: قُلْ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 26] قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] قوله تعالى: هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ [الحشر: 23] الدليل من السُّنَّة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)) (¬1) حديث عوف بن مالك رضي الله عنه: ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)) (¬2) قال في (اللسان) مُلك الله وملكوته: سلطانه وعظمته وقال في (القاموس المحيط): الملكوت: العز والسلطان وقال الزَّجَّاجي: فأما الملك؛ فتأويله: ذو الملك يوم الدين، ويوم الدين هو يوم الجزاء والحساب، فوصف الله نفسه جَلَّ وعَزَّ بأنه الملك يوم لا ملك سواه (¬3) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص285 ¬

(¬1) رواه البخاري (4812)، ومسلم (2787). (¬2) رواه أبو داود (873) والنسائي (2/ 191)، وأحمد (6/ 24) (24026). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال النووي في ((الأذكار)) (81): صحيح. وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/ 74): حسن. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/ 375): رجال إسناده ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬3) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص43)

- الملل

- الملل ورد في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بما تطيقون، فوالله؛ لا يمل الله حتى تملوا)) (¬1) وفي رواية لمسلم: ((فوالله؛ لا يسأم الله حتى تسأموا)) (¬2) قال أبو إسحاق الحربي في (غريب الحديث): قوله: ((لا يَمَلُّ الله حتى تملوا)): أخبرنا سلمة عن الفراء؛ يقال: مللت أمَلُّ: ضجرت، وقال أبو زيد: ملَّ يَمَلُّ ملالة، وأمللته إملالاً، فكأنَّ المعنى لا يملُّ من ثواب أعمالكم حتى تملُّوا من العمل)) اهـ (¬3) قلت: وهذا ليس تأويلاً، بل تفسير الحديث على ظاهره؛ لأنَّ الذين أوَّلُوه كالنووي في (رياض الصالحين) باب الاقتصاد في العبادة، والبيهقي في (الأسماء والصفات) فصل: ما جاء في المِلال؛ قالوا: معنى لا يَمَلُّ الله؛ أي: لا يقطع ثوابه، أو أنه كناية عن تناهي حق الله عليكم في الطاعة وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: ((فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملُّوا)): من نصوص الصفات، وهذا على وجه يليق بالباري، لا نقص فيه؛ كنصوص الاستهزاء والخداع فيما يتبادر (¬4) وقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: هل نستطيع أن نثبت صفة الملل والهرولة لله تعالى؟ فأجاب: جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملوا)) فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن؛ ملل الله ليس كملل المخلوق؛ إذ إنَّ ملل المخلوق نقص؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله؛ فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالاً ومن العلماء من يقول: إنَّ قوله: ((لا يَمَلُّ حتى تملوا))؛ يراد به بيان أنه مهما عملت من عمل؛ فإنَّ الله يجازيك عليه؛ فاعمل ما بدا لك؛ فإنَّ الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا، فيكون المراد بالملل لازم الملل ومنهم من قال: إنَّ هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقاً؛ لأنَّ قول القائل: لا أقوم حتى تقوم؛ لا يستلزم قيام الثاني، وهذا أيضاً: ((لا يمل حتى تملوا))؛ لا يستلزم ثبوت الملل لله عَزَّ وجَلَّ وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أنَّ الله تعالى مُنَزَّه عن كل صفة نقص من الملل وغيره، وإذا ثبت أنَّ هذا الحديث دليل على الملل؛ فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق اهـ (¬5) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص286 ¬

(¬1) رواه البخاري (43)، ومسلم (785). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه مسلم (785) (220). (¬3) ((غريب الحديث)) (1/ 338). (¬4) ((الفتاوى والرسائل)) (1/ 209). (¬5) ((مجموعة دروس وفتاوى الحرم)) (1/ 152).

- المماحلة والمحال

- المماحلة والمحال من صفات الله الفعليَّة الخبريَّة الثابتة بالكتاب العزيز الدليل: قوله تعالى: وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] نقل الأزهري في (تهذيب اللغة) قول القتيبي في قول الله جَلَّ وعَزَّ: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ؛ أي: شديد الكيد والمَكْر، وقول سفيان الثوري: شَدِيدُ الْمِحَالِ؛ قال: شديد الانتقام وقول أبي عبيد: الْمِحَالِ: الكيد والمَكْر وقول الفراء: الْمِحَالِ: المُمَاحلة وغيرها من الأقوال (¬1) وفي (الصحاح): (المُمَاحلة): المماكرة والمكايدة اهـ وقال الخطابي في (غريب الحديث): الْمِحَالِ: الكيد، ومنه قول الله تعالى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ اهـ (¬2) وقد استشهد شيخ الإسلام بهذه الآية في (الواسطية) لإثبات هذه الصفة مع الآيات التي فيها صفة المَكْر والكيد (¬3) وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وقال الشيخ زيد بن فياض: وفي هذه الآيات إثبات وصف الله بالمَكْر والكيد والمُمَاحلة، وهذه صفات فعلية تثبت لله كما يليق بجلاله وعظمته، قوله: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ؛ أي: الأخذ بشدة وقوة، والمِحَال والمُمَاحلة المماكرة والمغالبة اهـ (¬4) وبنحوه قال الشيخ عبد العزيز السلمان في (الكواشف الجلية) (¬5) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص288 ¬

(¬1) ((تهذيب اللغة)) (5/ 95). (¬2) ((غريب الحديث)) (3/ 152). (¬3) ((العقيدة الواسطية)) (ص122). (¬4) ((الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية)) (ص114) (¬5) ((الكواشف الجلية)) (ص266).

- المن والمنة

- المن والمنة صفةٌ فعلِيَّةٌ ثابتةٌ بالكتاب والسُّنَّة، و (المَنَّان) من أسماء الله الثابتة بالحديث الصحيح الدليل من الكتاب: قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: 164] وقوله: وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم: 11] الدليل من السُّنَّة: حديث أنس رضي الله عنه: ((اللهم أسألك بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنَّان، بديع السماوات والأرض)) (¬1) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا)) (¬2) قال الراغب الأصفهاني في (المفردات): المِنَّة: النعمة الثقيلة، ويقال ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: منَّ فلان على فلان: إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:164]، كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات: 114]، يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم: 11]، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا (5) سورة القصص [القصص: 5] وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى والثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس؛ إلا عند كفران النعمة اهـ وقال في (القاموس المحيط): منَّ عليه منَّاً: أنعم واصطنع عنده صنيعة ومِنَّة والمنَّان من أسماء الله تعالى؛ أي: المعطي ابتداءً صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص289 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1495)، والترمذي (3544)، والنسائي (3/ 52)، وابن ماجه (3858)، وأحمد (3/ 120) (12226). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬2) رواه مسلم (2701).

- الموجود

- الموجود يُخْبَر عن الله عَزَّ وجَلَّ بأنه موجود، وليس الموجود من أسمائه تعالى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويفرق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وأما الإخبار عنه؛ فلا يكون باسم سيئ، لكن قد يكون باسم حسن أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم بحسنه؛ مثل: شيء وذات وموجود (¬1) وانظر كلامه في (القِدَم) كما في (مجموع الفتاوى) (¬2) وقال في (دقائق التفسير) في معرض رده على المتكلمين: فصار أهل السُّنَّة يصفونه بالوجود وكمال الوجود، وأولئك يصفونه بعدم كمال الوجود، أو بعدم الوجود بالكلية؛ فهم ممثلة معطلة؛ ممثلة في العقل والشرع، معطلة في العقل والشرع اهـ (¬3) وقال ابن القيم: ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيّاً؛ كالقديم، والشيء، والموجود (¬4) وفي (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) سئلت اللجنة السؤال التالي: س: لم أجد في أسماء الله وصفاته اسم الموجود، وإنما وجدت اسم الواجد، وعلمت في اللغة أنَّ الموجود على وزن مفعول، ولابد أن يكون لكل موجود موجِد كما أنَّ لكل مفعول فاعل، ومحال أن يوجد لله موجِد ورأيت أنَّ الواجِد يشبه اسم الخالِق، والموجود يشبه اسم المخلوق، وكما أنَّ لكل موجود موجِد؛ فلكل مخلوق خالق؛ فهل لي بعد ذلك أن أصف الله بأنه موجود؟ وقد أجابت اللجنة بتوقيع كل من الشيخ: عبد العزيز بن باز، عبدالرزاق عفيفي، عبدالله بن غديان، عبدالله بن قعود الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله، وصحبه وبعد: ج: وجود الله معلوم من الدين بالضرورة، وهو صفة لله بإجماع المسلمين، بل صفة لله عند جميع العقلاء، حتى المشركين، لا ينازع في ذلك إلا مُلْحِد دهري، ولا يلزم من إثبات الوجود صفة لله أن يكون له موجِد؛ لأنَّ الوجود نوعان: الأول: وجود ذاتي، وهو ما كان وجوده ثابتاً له في نفسه، لا مكسوباً له من غيره، وهذا هو وجود الله سبحانه وصفاته؛ فإنَّ وجوده لم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] الثاني: وجود حادث، وهو ما كان حادثاً بعد عدم، فهذا الذي لابد له من موجد يوجده وخالق يحدثه، وهو الله سبحانه، قال تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الزمر:62 - 63]، وقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور:35 - 36] وعلى هذا يوصف الله تعالى بأنه موجود، ويخبر عنه بذلك في الكلام، فيقال: الله موجود، وليس الوجود اسماً، بل صفة وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم اهـ (¬5) قلت: الأولى أن يُقال: حي؛ بدل: موجود أما قول السائل: إنه وجد الواجِد من أسماء الله تعالى؛ فهذا غير صحيح، ولم يثبت في كتاب ولا سنة والله أعلم صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص290 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 142). (¬2) (9/ 300). (¬3) ((دقائق التفسير)) (5/ 110). (¬4) ((بدائع الفوائد)) (1/ 162). (¬5) ((فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)) (3/ 138/فتوى رقم 6245).

- الناصر والنصير

- الناصر والنصير يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الناصر والنصير، وأنَّ النصر بيده، وهذا ثابت بالكتاب والسنة، و (النصير) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران: 150] وقوله: وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال: 40] وقوله: إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ [محمد: 7] وقوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] الدليل من السنة: حديث أنس رضي الله عنه: ((اللهم أنت عضدي، وأنت نَصِيري، بك أحول وبك أصول وبك أقاتل)) (¬1) حديث صحيح رواه أبو داود (2632)، والترمذي (صحيح سنن الترمذي/2836)، وغيرهما وصححه الألباني في (الكلم الطيب/126 حديث: ((صدق وعده، ونَصَرَ عبده، وهزم الأحزاب وحده)) (¬2) فائدة: (الناصر): ليس من أسماء الله تعالى، وعليه؛ فلا يصح التعبد به؛ مثل: عبدالناصر صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص293 ¬

(¬1) رواه أبو داود (2632)، والترمذي (3584)، وأحمد (3/ 184) (12932). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (5/ 90)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (1797)، ومسلم (1344). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

- النزول والهبوط والتدلي (إلى السماء الدنيا)

- النزول والهبوط والتدلي (إلى السماء الدنيا) صفاتٌ فِعْلِيَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالسنة الصحيحة الدليل: حديث النُّزول المشهور: ((يَنْزِلُ ربُّنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر)) (¬1) حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعاً: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولأخرت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل الأول فإنه إذا مضى ثلث الليل الأول هبط الله تعالى إلى السماء الدنيا فلم يزل هناك حتى يطلع الفجر)) (¬2) وبنحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه (¬3) حديث: ((إنَّ الله تعالى ليُمْهِل في شهر رمضان كُلَّ ليلة حتى اذا ذهب الليل الأول هبط إلى السماء ثم قال: هل من سائلٍ يعطى، هل من مستغفر يغفر له، هل من تائبٍ يتاب عليه)) (¬4) حديث الإسراء عن أنس رضي الله عنه قال: ((حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجَبَّار ربُّ العِزَّةِ فَتَدَلَّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)) (¬5) قال أبو سعيد الدارمي في (الرد على الجهمية) بعد أن ذكر ما يثبت النُّزول من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن، وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا، لا ينكرها منهم أحد، ولا يمتنع من روايتها اهـ (¬6) وقال إمام الأئمة محمد بن خزيمة في (كتاب التوحيد): باب: ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام، رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة: نشهد شهادة مقر بلسانه، مصدق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نُزول الرب، من غير أن نصف الكيفية؛ لأنَّ نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه يَنْزل، والله جل وعلا لم يترك ولا نبيه عليه السلام بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه من أمر دينهم؛ فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النُّزول، غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النُّزول وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح أنَّ الله جل وعلا فوق سماء الدنيا الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يَنْزل إليه، إذ محال في لغة العرب أن يقول: نزل من أسفل إلى أعلى، ومفهوم في الخطاب أنَّ النُّزول من أعلى إلى أسفل اهـ (¬7) وقال أبو القاسم اللالكائي: سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب تبارك وتعالى، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرون نفساً اهـ (¬8) ¬

(¬1) رواه البخاري (1145) ومسلم (758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه أحمد (1/ 120) (967) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه (2/ 509) (10626) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه (2/ 433) (9589) بلفظ: ((نزل)) بدلاً من ((هبط)). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 154): رواه أحمد وأبو يعلى ... ورجالهما ثقات. قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (2/ 203): إسناده صحيح. والحديث أصله في الصحيحين مختصراً. (¬3) رواه أحمد (1/ 388) (3673). قال الألباني في ((إرواء الغليل)) (2/ 199): إسناده صحيح. (¬4) رواه ابن أبي عاصم (513). وقال الألباني في ((ظلال الجنة)): صحيح. (¬5) رواه البخاري (7517). (¬6) ((الرد على الجهمية)) (ص79). (¬7) كتاب ((التوحيد)) (1/ 289). (¬8) ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/ 434).

وقال شيخ الإسلام رحمه الله في تفسير سورة الإخلاص: فالرب سبحانه إذا وصفه رسوله بأنه يَنْزِل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وأنه يدنو عشية عرفة إلى الحجاج، وأنه كلَّم موسى بالوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأنه استوى إلى السماء وهي دخانٌ، فقال لها وللأرض: ائتيا طَوْعاً أو كَرْهاً؛ لم يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفعال من جنس ما نشاهده من نزول هذه الأعيان المشهودة، حتى يُقال: ذلك يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر (¬1) وقال الإمام ابن جرير الطبري في (التبصير في معالم الدين) في فصل: القول فيما أُدرك علمه من صفات الصانع خبراً لا استدلالاً: وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره إيانا أنه سميعٌ بصيرٌ، وأنَّ له يدين بقوله بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ وأنه يَهْبِطُ إلى السماء الدنيا لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) وقال شيخ الإسلام نقلاً عن الكرجي مؤيداً له: رُوي عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال في الأحاديث التي جاءت إنَّ الله يهبط إلى السماء الدنيا ونحو هذا من الأحاديث إنَّ هذه الأحاديث قد رواها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها (¬3) وكذا ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية) نقلاً عن أبي القاسم اللالكائي (¬4) وقال أيضاً: وقد تأوَّل قومٌ من المنتسبين إلى السنة والحديث حديث النُّزُول وما كان نحوه من النصوص التي فيها فعل الرب اللازم كالإتيان والمجيء والهبوط ونحو ذلك وردَّ على ذلك مثبتاً هذه الصفات (¬5) وقال بعد أن ذكر روايات ابن منده لحديث النُّزُول: فهذا تلخيصُ ما ذكره عبدالرحمن بن منده مع أنه استوعب طرق هذا الحديث وذكر ألفاظه مثل قوله: ((يَنْزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا إذا مضى ثلث الليل الأوَّل فيقول: أنا الملك من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك إلى الفجر)) (¬6) وفى لفظ: ((إذا بقي من الليل ثلثاه يَهْبِطُ الرب إلى السماء الدنيا)) (¬7) وفى لفظ: ((حتى ينشق الفجر ثم يرتفع)) (¬8) وفي رواية: ((يقول لا أسأل عن عبادي غيري، من ذا الذي يسألني فأعطيه)) (¬9) وفي رواية عمرو بن عبسة: ((أنَّ الرب يَتَدَّلى في جوف الليل إلى السماء الدنيا)) (¬10) (¬11) قلت: فحديث النُّزُول إذاً صح بثلاثة ألفاظ: النُّزُول والْهُبُوط والتًّدَلِّي وانظر: (رسالة شرح حديث النُّزول) لشيخ الإسلام رحمه الله صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص294 ¬

(¬1) ((دقائق التفسير)) (6/ 424). (¬2) ((التبصير في معالم التنزيل)) (ص132). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 186). (¬4) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (1/ 139). (¬5) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (5/ 397). (¬6) رواه أحمد (2/ 282) (7779) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬7) رواه أحمد (1/ 388، 403)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 137) بلفظ (ثلث الليل الباقي). (¬8) ابن أبي عاصم في ((السنة)) (500، 501) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 124، 125). من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. وقال الألباني في ((ظلال الجنة)): إسناده جيد. (¬9) رواه ابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 313)، وابن حبان (1/ 444)، والطبراني (5/ 50). من حديث رفاعة بن عرابة الجهني رضي الله عنه. وأشار الألباني إلى صحة هذه الرواية في ((السلسلة الضعيفة)) تحت الحديث رقم (3897). (¬10) رواه أحمد (4/ 385) (19452) دون آخره (إلى السماء الدنيا) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف لانقطاعه بين سليم بن عامر وعمرو بن عبسة على خطأ في متنه واختلف فيه على يزيد بن هارون. (¬11) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (5/ 394).

- النسيان (بمعنى الترك)

- النسيان (بمعنى الترك) صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] وقوله: فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الأعراف:51] وقوله: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ [السجدة: 14] وقوله: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية: 34] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في رؤية الله يوم القيامة، وفيه: أنَّ الله يلقى العبد، فيقول: أفظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا فيقول – أي: الله عَزَّ وجَلَّ – فإني أنساك كما نسيتني)) (¬1) قال الإمام أحمد: أما قوله: الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا؛ يقول: نترككم في النار؛ كما نَسيتُمْ؛ كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا اهـ (¬2) وقال ابن فارس: النِّسْيان: الترك، قال الله جَلَّ وعَزَّ: نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ اهـ (¬3) وقال الطبري في تفسير قوله تعالى نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ: معناه: تركوا الله أن يطيعوه ويتبعوا أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته، وقد دللنا فيما مضى على أنَّ معنى النسيان: الترك، بشواهده فأغنى ذلك عن إعادته ههنا أهـ وسُئِل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في (مجموع فتاوى ورسائل) (¬4) السؤال التالي: هل يوصف الله تعالى بالنِّسْيَان؟ فأجاب حفظه الله تعالى بقوله: (للنِّسْيَان معنيان: أحدهما: الذهول عن شيء معلوم؛ مثل قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]-وضرب مجموعة من الأمثلة لذلك- ثم قال: وعلى هذا؛ فلا يجوز وصف الله بالنِّسْيَان بهذا المعنى على كل حال والمعنى الثاني للنِّسْيَان: الترك عن علم وعمد؛ مثل قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] الآية، ومثل قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]؛ على أحد القولين، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في أقسام أهل الخيل: ((ورجل ربطها تغنياً وتعففاً، ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها؛ فهي له كذلك ستر)) (¬5) وهذا المعنى من النِّسْيَان ثابت لله تعالى عَزَّ وجَلَّ؛ قال الله تعالى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ [السجدة: 14]، وقال تعالى في المنافقين: نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67] وفي (صحيح مسلم) في (كتاب الزهد والرقائق) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: ((قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر الحديث، وفيه: أنَّ الله تعالى يلقى العبد، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا فيقول: فإني أنساك كما نسيتني)) (¬6) وتركُه سبحانه للشيء صفةً من صفاته الفعلية الواقعة بمشيئته التابعة لحكمته؛ قال الله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]، وقال تعالى: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:99]، وقال: وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً [العنكبوت:35] والنصوص في ثبوت الترك وغيره من أفعاله المتعلقة بمشيئته كثيرة معلومة وهي دالة على كمال قدرته وسلطانه وقيام هذه الأفعال به سبحانه لا يماثل قيامها بالمخلوقين، وإن شاركه في أصل المعنى؛ كما هو معلوم عند أهل السنة) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص298 ¬

(¬1) رواه مسلم (2968). (¬2) ((الرد على الزنادقة والجهمية)) (ص21) (¬3) ((مجمل اللغة)) (ص866) (¬4) (3/ 54 - 56) (354). (¬5) رواه البخاري (2371)، ومسلم (987). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه مسلم (2968).

- النظر

- النظر صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 77] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إنَّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (¬1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرَّ إزاره بطراً)) (¬2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً: ((ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم)) (¬3) قال ابن أبي العز الحنفي: النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه: فإن عدي بنفسه؛ فمعناه: التوقف والانتظار: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] وإن عدي بـ (في)؛ فمعناه: التفكر والاعتبار؛ كقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف: 185] وإنْ عُدي بـ (إلى)؛ فمعناه: المعاينة بالأبصار؛ كقوله تعالى: انظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام: 99] اهـ (¬4) وأنت ترى أنَّ النظر فيما سبق من أدلة متعدٍّ بـ (إلى)؛ فأهل السنة والجماعة يقولون: إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يرى ويبصر وينظر إلى ما يشاء بعينه سبحانه وتعالى؛ كما يليق بشأنه العظيم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وانظر صفة: (البصر) و (الرؤية) و (العين) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص300 ¬

(¬1) رواه مسلم (2564). (¬2) رواه البخاري (5788)، ومسلم (2087). (¬3) رواه البخاري (2358)، ومسلم (108). (¬4) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 190).

- النعت

- النعت يصح إطلاق هذه اللفظة وإضافتها إلى الله تعالى، فتقول: نعت الله أو نعوت الله، ونحو ذلك، لأنَّ النعت في اللغة بمعنى الصفة – على الراجح - قال ابنُ فارس في (معجم مقاييس اللغة): النعتُ: وصفك الشيء بما فيه من حسن؛ كذا قاله الخليل وقال ابن منظور في (لسان العرب): النعتُ: وصفك الشيء، تنعته بما فيه وتبالغ في وصفه وفي (مختار الصحاح): الصفة عندهم – يعني النحويين- هي النعت قال المناوي في (التوقيف على مهمات التعاريف): الصفة لغة: النعت وقال أبو هلال العسكري في كتاب (الفروق): الفرق بين (الصفة) و (النعت): النعت هو ما يظهر من الصفات ويشتهر، لأنَّ (النعت) يفيد من المعاني التي ذكرناها ما لا تفيده (الصفة)، ثم قد تتداخل (الصفة) و (النعت) فيقع كلُّ واحدٍ منهما موضع الآخر، لتقارب معنييهما، ويجوز أن يقال: (الصفة) لغة و (النعت) لغة أخرى، ولا فرق بينهما وقد كَثُر في أقوال العلماء إضافة النعت إلى الله عزَّ وجلَ ومن ذلك: قول ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام: 14]: يقول الله: فاطرِ السموات والأرض أتخذُ ولياً؟ ففاطرِ السموات من نعتِ الله وصفتِه ولذلك خُفِض، وقوله في تفسير قوله تعالى: وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23]، واختلفت القراء أيضاً في قراءة قوله: وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فقرأ ذلك عامةُ قرَّاء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين والله ربِّنا خفضاً على أنَّ الرب: نعتٌ لله قول شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه من الصفات الفعلية (¬1) وقوله: إذا قيل: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، فهي كُلُّها أسماء لمسمى واحدٍ سبحانه وتعالى وإن كان كُلُّ اسمٍ يدل على نعتٍ لله تعالى لا يدل عليه الاسم الآخر (¬2) وقوله واصفاً أهل الإيمان: وتضمن إيمانهم بالله إيمانهم بربوبيته وصفاتِ كمالِه ونعوتِ جلاله وأسمائه الحسنى، وعموم قدرته ومشيئته وكمال علمه وحكمته؛ فباينوا بذلك جميعَ طوائف أهل البدع والمنكرين لذلك أو لشيء منه (¬3) قول الحافظ ابن القيم: أسماؤه كلُّها أسماء مدحٍ وحمدٍ وثناءٍ وتمجيدٍ، ولذلك كانت حسنى، وصفاتُه كلُّها صفات كمالٍ، ونعوتُه كلُّها نعوتُ جلالٍ، وأفعالُه كلُّها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل (¬4) وقوله: التوحيدُ الحقُ هو ما نعت الله به نفسه على ألسنة رسله فهم لم ينعتوه من تلقاء أنفسهم وإنما نعتوه بما أذن لهم في نعته به (¬5) وقوله: والتحقيق: أنَّ صفاتِ الرب جلَّ جلالُه داخلةٌ في مسمى اسمه، فليس اسمه: الله، والرب، والإله، أسماء لذاتٍ مجردة لا صفة لها البتة، فإنَّ هذه الذات المجردة وجودها مستحيل، وإنما يفرضها الذهن فرض الممتنعات ثم يحكم عليها واسم الله سبحانه والرب والإله اسم لذات لها جميع صفات الكمال ونعوت الجلال كالعلم والقدرة والحياة والإرادة والكلام والسمع والبصر والبقاء والقدم وسائر الكمال الذي يستحقه الله لذاته، فصفاته داخلة في مسمى اسمه، فتجريد الصفات عن الذات والذات عن الصفات فرضٌ وخيالٌ ذهني لا حقيقة له وهو أمر اعتباري لا فائدة فيه ولا يترتب عليه معرفة ولا إيمان ولا هو علم في نفسه فليس الله اسماً لذاتٍ لا نعتَ لها، ولا صفة ولا فعل ولا وجه ولا يدين، ذلك إلهٌ معدومٌ مفروضٌ في الأذهان، لا وجود له في الأعيان (¬6) ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (16/ 372). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 160). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 135). (¬4) ((مدارج السالكين)) (1/ 125). (¬5) ((مدارج السالكين)) (3/ 521). (¬6) ((مدارج السالكين)) (3/ 362).

وقوله: فهذا الموصوف بهذه الصفات والنعوت والأفعال والعلو والعظمة والحفظ والعزة والحكمة والملك والحمد والمغفرة والرحمة والكلام والمشيئة والولاية وإحياء الموتى والقدرة التامة الشاملة والحكم بين عباده وكونه فاطر السموات والأرض وهو السميع البصير؛ فهذا هو الذي ليس كمثله شيء لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله وثبوتها له على وجه الكمال الذي لا يماثله فيه شيء (¬1) قول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف: 44]: منهم من رفع (الحق) على أنه نعتٌ للولاية كقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان:26] ومنهم من خفض القاف على أنه نعتٌ لله عز وجل كقوله: ثُمَّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ [الأنعام:62] قول الحافظ الذهبي (¬2): فإننا على أصلٍ صحيح، وعِقْدٍ متين، من أنَّ الله تقدس اسمه لا مثل له، وأنَّ إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدسة، إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقلُ وجود الباري ونُمَيِّز ذاته المقدسة عن الأشباه من غير أن نتعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته نؤمن بها ونعقل وجودها ونعلمها في الجملة من غير أن نتعقَّلها أو نُشبهها أو نُكيفها أو نمثلها بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وغيرُهم وغيرُهم كثيرٌ، لكن الأولى أن نقول (صفة الله) أو (صفات الله) بدل (نعت الله) أو (نعوت الله) لورود الحديث الصحيح بذلك انظر: (الصفة) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص301 ¬

(¬1) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1029). (¬2) ((العلو للعلي الغفار)) (ص13).

- النفس (بسكون الفاء)

- النَّفْسُ (بسكون الفاء) أهل السنة والجماعة يثبتون النَّفْس لله تعالى، ونَفْسُه هي ذاته عَزَّ وجَلَّ، وهي ثابتة بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28، 30] وقوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] وقوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] الدليل من السنة: الحديث المشهور: ((يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي)) (¬1) حديث عائشة رضي الله عنها: ((وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي)) (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن نَفْس الله: ونفسه هي ذاته المقدسة (¬4) وقال أيضاً: ويراد بنَفْس الشيء ذاته وعينه؛ كما يقال: رأيت زيداً نفسه وعينه، وقد قال تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، وفي الحديث الصحيح؛ أنه قال لأم المؤمنين: ((لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزن بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله مداد كلماته)) (¬5)، وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ؛ ذكرته في ملأ خير منهم)) (¬6)؛ فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النَفْس عند جمهور العلماء: الله نفسه، التي هي ذاته، المتصفة بصفاته، ليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات، وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ اهـ (¬7). وفي (كتاب التوحيد) من (صحيح البخاري): باب: قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ، وقوله جل ذكره: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ وقال القاسمي في (التفسير): وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ أي: ذاته المقدسة. قال الشيخ عبد الله الغنيمان: المراد بالنَّفْسِ في هذا: اللهَ تعالى، المتصف بصفاته، ولا يقصد بذلك ذاتاً منفكة عن الصفات، كما لا يراد به صفة الذات كما قاله بعض الناس اهـ (¬8) لكن من السلف من يعدُّ (النَّفْس) صفةً لله عَزَّ وجَلَّ، منهم الإمام ابن خزيمة في كتاب (التوحيد)؛ حيث قال في أوله: فأول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا جل وعلا في كتابنا هذا: ذكر نفسه، جل ربنا عن أن تكون نَفْسُه كنَفْسِ خلقه، وعزَّ أن يكون عَدَماً لا نَفْس له اهـ (¬9) ومنهم عبد الغني المقدسي؛ قال: ومما نطق به القرآن وصحَّ به النقل من الصفات (النَّفْس)، ثم سرد بعض الآيات والأحاديث لإثبات ذلك (¬10) ومنهم البغوي انظر: صفة (الأصابع) ومن المتأخرين صديق حسن خان في (قطف الثمر) (¬11)؛ قال: ومما نطق بها القرآن وصحَّ بها النقل من الصفات: (النَّفْس) لكنه في تفسير قوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ، قال: أي: ذاته المقدسة والله أعلم صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص305 ¬

(¬1) رواه مسلم (2577). من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (486). (¬3) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 196). (¬5) رواه مسلم (2726). من حديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها. (¬6) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (9/ 292 - 293). (¬8) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 249). (¬9) ((التوحيد)) (1/ 11). (¬10) ((عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي)) (ص40). (¬11) ((قطف الثمر)) (ص65).

- النفس (بالتحريك)

- النَّفَسُ (بالتحريك) صفةٌ فعليةٌ لله عَزَّ وجَلَّ؛ من التنفيس؛ كالفَرَج والتفريج، ثابتةٌ بالسنة الصحيحة الدليل: حديث سلمة بن نفيل السكوني رضي الله عنه؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو مُوَلٍّ ظهره إلى اليمن: ((إني أجدُ نَفَسَ الرحمن من هنا)) (¬1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((ألا إنَّ الإيمان يمان والحكمة يمانية، وأجد نَفَسَ ربكم من قبل اليمن)) (¬2) حديث أبي بن كعب رضي الله عنه موقوفاً عليه: ((لا تسبوا الريح؛ فإنها من نَفَسِ الرحمن تبارك وتعالى)) (¬3) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نَفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) (¬4) قال الأزهري بعد أن ذكر حديث: ((أجد نَفَسَ ربكم من قبل اليمن))؛ قال: ((أجد تنفيس ربكم عنكم من جهة اليمن؛ لأنَّ الله جَلَّ وعَزَّ نصرهم بهم، وأيدهم برجالهم، وكذلك قوله: ((الريح من نَفَس الرحمن))؛ أي: من تنفيس الله بها عن المكروبين، وتفريجه عن الملهوفين)) اهـ (¬5) وقال في (القاموس المحيط): وفي قوله: ((ولا تسبوا الريح؛ فإنها من نَفَسِ الرحمن))، و ((أجد نَفَس ربكم من قبل اليمن))؛ اسم وضِع موضع المصدر الحقيقي، من نَفَّسَ تنفيساً ونَفَساَ؛ أي: فَرَّجَ تفريجاً)) قال أبو يعلى الفراء بعد ذكره حديث: ((الريح من نَفَس الرحمن)): اعلم أنَّ شيخنا أبا عبد الله ذكر هذا الحديث في كتابه، وامتنع أن يكون على ظاهره، في أنَّ الريح صفةٌ ترجع إلى الذات، والأمر على ما قاله، ويكون معناه أنَّ الريح مما يُفَرِّج الله عَزَّ وجَلَّ بها عن المكروب والمغموم؛ فيكون معنى النَّفَس معنى التنفيس، وذلك معروف في قولهم: نَفَّسْتُ عن فلان؛ أي: فَرَّجْتُ عنه، وكلمت زيداً في التَّنفيس عن غريمه، ويقال: نفَّس الله عن فلان كربة؛ أي: فرَّج عنه، وروي في الخبر: ((من نفَّس عن مكروب كُربة؛ نَفَّس الله عنه كربة يوم القيامة))، وروي في الخبر أنَّ اللهَ فَرَّجَ عن نبيِّه بالريح يوم الأحزاب، فقال سبحانه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب: 9] وإنما وجب حمل هذا الخبر على هذا، ولم يجب تأويل غيره من الأخبار؛ لأنه قد روي في الخبر ما يدل على ذلك، وذلك أنَّه قال: ((فإذا رأيتموها؛ فقولوا: اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، ونعوذ بك من شرَّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أرسلت به))، وهذا يقتضي أنَّ فيها شرّاً وأنها مرسلة، وهذه صفات المحدثات اهـ (¬6) وبنحو هذا الكلام قال ابن قتيبة (¬7) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية شارحاً لحديث: ((إني لأجد نَفَسَ الرحمن من قبل اليمن)): فقوله: ((من اليَمَن))؛ يبين مقصود الحديث؛ فإنه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يظن ذلك، ولكن منها جاء الذين يحبهم ويحبونه، الذين قال فيهم: مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وقد روي أنه لما نزلت هذه الآية؛ سئل عن هؤلاء؟ فذكر أنهم قوم أبي موسى الأشعري، وجاءت الأحاديث الصحيحة مثل قوله: ((أتاكم أهل اليمن؛ أرق قلوباً، وألين أفئدة؛ الإيمان يمان، والحكمة يمانية)) (¬8)، وهؤلاء هم الذين قاتلوا أهل الردة، وفتحوا الأمصار؛ فبهم نفّس الرحمن عن المؤمنين الكربات)) (¬9) وبنحوه قال الشيخ العثيمين -رحمه الله- في (القواعد المثلى) (¬10) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص307 ¬

(¬1) رواه الطبراني (7/ 52)، والبزار في ((البحر الزخار)) (9/ 150)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/ 391). وأشار عبد الحق الإشبيلي إلى تصحيحه في مقدمة كتابه ((الأحكام الصغرى)) (502)، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3367): إسناده صحيح. (¬2) رواه أحمد (2/ 541) (10991)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (2/ 149). قال العراقي في ((المغني)) (1/ 143): رجاله ثقات. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 56): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة. وأشار الألباني إلى تصحيحه في ((السلسلة الصحيحة)) بعد حديث رقم (3367) وقال: فهذا شاهد قوي له من حديث سلمة بن نفيل أوجب عليَّ تخريجه هنا والتنبيه على أن الحديث صار به صحيحاً. والحديث أصله في الصحيحين مختصرا. (¬3) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 232)، والحاكم (2/ 298)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/ 393). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد أسند من حديث حبيب بن أبي ثابت من غير هذه الرواية. وقال الذهبي في ((التلخيص)): على شرط البخاري. (¬4) رواه مسلم (2699). (¬5) ((تهذيب اللغة)) (13/ 9). (¬6) ((إبطال التأويلات)) (ص250). (¬7) ((تأويل مختلف الحديث)) (249). (¬8) رواه البخاري (4388)، ومسلم (52). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 398). (¬10) ((القواعد المثلى)) (ص57).

- النور, ونور السماوات والأرض

- النور, ونور السماوات والأرض صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجَلَّ ثابتةٌ بالكتاب والسنة، وقد عدَّ بعضهم (النُّور) من أسماء الله تعالى؛ كما سيأتي الدليل من الكتاب: قوله تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور: 35] وقوله: وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر: 69] الدليل من السنة: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً: ((إنَّ الله تبارك وتعالى خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور؛ اهتدى، ومن أخطأه؛ ضلَّ)) (¬1) حديث: ((اللهم لك الحمد؛ أنت نور السَّماوات والأرض، ولك الحمد)) (¬2) قال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه: اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات – كما في (مجموع الفتاوى) موافقاً له -: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه السلام، بنقل العدل عن العدل، حتى يتصل به صلى الله عليه وسلم، وإنَّ مما قضى الله علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك؛ أن قال: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ [النور:35]، ثم قال عقيب ذلك: نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35]، وبذلك دعاه صلى الله عليه وسلم: ((أنت نور السماوات والأرض)) (¬3) وقال شيخ الإسلام: النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السماوات والأرض، وقد أخبر النص أنَّ الله نور، وأخبر أيضاً أنه يحتجب بالنور؛ فهذه ثلاثة أنوار في النص، وقد تقدم ذكر الأول، وأمَّا الثاني؛ فهو في قوله: وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:69] وفي قوله: مَثَلُ نُورِهِ، وفيما رواه مسلم في (صحيحه) عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور؛ اهتدى، ومن أخطأه؛ ضلَّ)) (¬4) (¬5) وقال في موضع آخر: وقد أخبر الله في كتابه أنَّ الأرض تشرق بنور ربها، فإذا كانت تشرق من نوره؛ كيف لا يكون هو نوراً؟ ‍‍! ولا يجوز أن يكون هذا النور المضاف إليه إضافة خلق وملك واصطفاء؛ كقوله: ناقة الله ونحو ذلك؛ لوجوه (وذكرها) اهـ (¬6) تنبيه: حديث عبد الله بن عمرو لم يروه مسلم في (صحيحه) وقال ابن القيم: والنور يضاف إليه سبحانه على أحد الوجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله؛ فالأول كقوله تعالى: وَأَشْرَقَتْ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا الآية؛ فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء (¬7) وقال رحمه الله في (النونية) (¬8): وَالنُّورُ مِنْ أسْمائِهِ أيْضاً وَمِنْ ... أَوْصَافِهِ سُبْحَانَ ذِي البُرْهَانِ قال الهرَّاس في (الشرح): ومن أسمائه سبحانه النور، وهو أيضاً صفة من صفاته، فيقال: الله نور، فيكون اسماً مخبراً به على تأويله بالمشتق، ويقال: ذو نور، فيكون صفة؛ قال تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، وقال: وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان حين يستيقظ من الليل؛ يقول: ((اللهم لك الحمد؛ أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن)) (¬9) اهـ وانظر: (مجموع الفتاوى (6/ 374 - 396))، و (مختصر الصواعق المرسلة (2/ 192 - 206))، و (شرح الشيخ عبد الله الغنيمان لكتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 170 - 177)) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص311 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2642)، وأحمد (2/ 176) (6644). والحاكم (1/ 84). قال الترمذي: هذا حديث حسن. ووافقه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 316). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح قد تداوله الأئمة وقد احتجا بجميع رواته ثم لم يخرجاه ولا أعلم له علة. ووافقه الذهبي. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (10/ 128): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (6317)، ومسلم (769) واللفظ له. من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 73). (¬4) رواه الترمذي (2642)، وأحمد (2/ 176) (6644). والحاكم (1/ 84). قال الترمذي: هذا حديث حسن. ووافقه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 316). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح قد تداوله الأئمة وقد احتجا بجميع رواته ثم لم يخرجاه ولا أعلم له علة. ووافقه الذهبي. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (10/ 128): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. والحديث لم يروه مسلم. (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 386). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 392). (¬7) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص45). (¬8) ((القصيدة النونية)) (2/ 105). (¬9) رواه البخاري (6317)، ومسلم (769).

- الهادي

- الهادي يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه (الهادي)، وهذا ثابتٌ بالكتاب والسنة، وهو اسم له سبحانه وتعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف: 43] وقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] وقوله: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان: 31] الدليل من السنة: الحديث القدسي المشهور، حديث أبي ذر رضي الله عنه: ((يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم)) (¬1) حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني)) (¬2) قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: الهادي: أي الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع وإلى دفع المضار، ويعلمهم ما لا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه منقادة لأمره (¬3) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص313 ¬

(¬1) رواه مسلم (2577). (¬2) رواه مسلم (2696). (¬3) (تفسير السعدي) (5/ 305).

- الهبوط (إلى السماء الدنيا)

- الهبوط (إلى السماء الدنيا) صفةٌ فِعْلِيَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالسنة الصحيحة وفي اللسان: الهبوط نقيض الصعود (أي: نزولٌ من علوٍ) انظر صفة: (النُّزُول) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص314

- الهرولة

- الهرولة صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالحديث الصحيح الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري ومسلم: ((وإن أتاني يمشي؛ أتيته هَرْوَلَةً)) (¬1) قال أبو إسماعيل الهروي في (الأربعون في دلائل التوحيد): باب الهَرْوَلَةِ لله عزَّ وجلَّ، ثم أورد الحديث (¬2) وقال أبو إسحاق الحربي في (غريب الحديث) بعد أن أورد حديث أبي هريرة: قوله: ((هَرْوَلَة)): مشيٌ سريع اهـ (¬3) وقال أبو موسى المديني في (المجموع المغيث) في الحديث عن الله تبارك وتعالى: من أتاني يمشي؛ أتيته هَرْوَلَة))، وهي مشي سريع، بين المشي والعدو اهـ (¬4) وهذا إثبات منهما رحمهما الله للصِّفة على حقيقتها وقد ورد في الفتوى (رقم 6932) من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/ 142) ما يلي: س: هل لله صفة الهَرْوَلَة؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: ج: نعم؛ صفة الهَرْوَلَة على نحو ما جاء في الحديث القدسي الشريف على ما يليق به، قال تعالى: ((إذا تقرب إليَّ العبد شبراً؛ تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليَّ ذراعاً؛ تقربت منه باعاً، وإذا أتاني ماشياً؛ أتيته هَرْوَلَة)) رواه البخاري، ومسلم وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم وقد وقع على هذه الفتوى كلٌ من المشايخ: عبد العزيز بن باز، عبدالرزاق عفيفي، عبد الله بن غديان، عبد الله بن قعود وفي (الجواب المختار لهداية المحتار- ص24) للشيخ محمد العثيمين قوله: صفة الهَرْوَلَة ثابتة لله تعالى؛ كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي به (فذكر الحديث، وفيه:) وإن أتاني يمشي؛ أتيته هَرْوَلَة))، وهذه الهَرْوَلَةُ صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل؛ لأنه أخبر بها عن نفسه، فوجب علينا قبولها بدون تكييف، لأنَّ التكييف قول على الله بغير علم، وهو حرام، وبدون تمثيل؛ لأنَّ الله يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص314 ¬

(¬1) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). (¬2) ((الأربعون في دلائل التوحيد)) (ص: 79). (¬3) ((غريب الحديث)) (2/ 684). (¬4) ((المجموع المغيث)) (3/ 96).

- الهيمنة

- الهيمنة صفةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ بالكتاب العزيز، من اسمه (المهيمن) الدليل: قوله تعالى: الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر: 23] قال ابن جرير في تفسير الآية 48 من سورة المائدة مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ الآية: وأصل الهَيْمَنَة: الحفظ والارتقاب، يقال: إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده؛ قد هيمن فلان عليه؛ فهو يهيمن هَيْمَنَة، وهو عليه مهيمن اهـ وقال ابن منظور في (اللسان): المهيمن: اسم من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة، والمهيمن: الشاهد، وهو من أمن غيره من الخوف وقال الكسائي: المهيمن الشهيد وقال غيره: الرقيب يقال: هيمن يهيمن هَيْمَنَة إذا كان رقيباً على الشيء وقيل: مهيمن في الأصل مؤيمن، وهو مفيعل من الأمانة وقال البيهقي: المهيمن: هو الشهيد على خلقه بما يكون منهم من قول أو عمل، وهو من صفات ذاته، وقيل: هو الأمين، وقيل: هو الرقيب على الشيء والحافظ له (¬1) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص316 ¬

(¬1) ((الاعتقاد)) (ص55).

- الواحد والوحدانية

- الواحد والوحدانية يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بالوَحْدَانِيَّة بدلالة الكتاب والسنة، و (الواحد) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النساء: 171] وقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] الدليل من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك)) وقد تكرر في كثير من الأحاديث الصحيحة (¬1) قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: ((فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى)) (¬2) قال البيهقي: الواحد: هو الفرد الذي لم يزل وحده بلا شريك، وقيل؛ هو الذي لا قسيم لذاته ولا شبيه له ولا شريك، وهذه صفة يستحقها بذاته (¬3) وقال الشيخ عبد العزيز السلمان: مثال صفات الذات: النفس، العلم، الحياة الوَحْدَانِيَّة، الجلال، وهي التي لا تنفك عن الله (¬4) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص317 ¬

(¬1) منها ما رواه البخاري (844)، ومسلم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (7372)، ورواه مسلم (19) بلفظ: ((عبادة الله)) بدلاً من ((أن يوحدوا الله)). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) ((الاعتقاد)) (ص63). (¬4) ((الكواشف الجلية)) (ص429).

- الوارث

- الوارث يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الوارِث، وهذا ثابت بالكتاب العزيز، وقد عدَّه كثيرون من أسماء الله تعالى الدليل: قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 40] وقوله: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر: 23] قال الأزهري: الوارِث: صفة من صفات الله عَزَّ وجَلَّ، وهو الباقي الدائم (¬1) وقال البيهقي: الباقي: هو الذي دام وجوده، والبقاء له صفة قائمة بذاته، وفي معناه الوارِث (¬2) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص318 ¬

(¬1) ((تهذيب اللغة)) (15/ 117). (¬2) ((الاعتقاد)) (ص66).

- الواسع والموسع

- الواسع والموسع يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الواسِع والمُوسِع، وهذا ثابت بالكتاب والسنة، و (الواسِع) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115] وقوله: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [الأنعام: 80] وقوله: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات: 47] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إنَّ أول الناس يقضى يوم القيامة ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال)) (¬1) حديث الدعاء في صلاة الجنازة، وفيه: ((وأكرم نُزُلَه، ووسِّع مدخله)) (¬2) قال ابن قتيبة: ومن صفاته (الواسِع)، وهو الغني، والسعة: الغنى (¬3) وقال قَوَّام السُّنَّة الأصبهاني: الواسِع: وسعت رحمته الخلق أجمعين، وقيل: وسع رزقه الخلق أجمعين، لا تجد أحداً إلا وهو يأكل رزقه، ولا يقدر أن يأكل غير ما رزق (¬4) وقال البيهقي: الواسِع: هو العالم، فيرجع معناه إلى صفة العلم، وقيل: الغني الذي وسع غناه مفاقر الخلق (¬5) وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الواسِع الصفات والنعوت ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحدٌ ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة والسلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم (¬6) وقال الراغب الأصفهاني في (المفردات): وقوله: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الأنعام:80]: وصفٌ له؛ نحو: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12]، وقوله: وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]، وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً [النساء:130]، فعبارة عن سعة قدرته وعلمه ورحمته وأفضاله وقال الزجاجي: الواسِع: الغني، يقال: فلان يعطي من سعة؛ أي: من غنى وجدة (¬7) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص318 ¬

(¬1) رواه مسلم (1905). (¬2) رواه مسلم (963) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. (¬3) ((تفسير غريب القرآن)) (ص15). (¬4) ((الحجة)) (1/ 150). (¬5) ((الاعتقاد)) (ص60). (¬6) ((التفسير)) (5/ 305). (¬7) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص72).

- الوتر

- الوتر يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه وِتْر، وهذا ثابت بالأحاديث الصحيحة، و (الوِتْر) من أسمائه تعالى الدليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((لله تسعة وتسعون اسماً من حفظها دخل الجنة، وإنَّ الله وِتْر يحب الوِتْر)) (¬1) حديث علي رضي الله عنه: ((إنَّ الله وِتْر يحب الوتر؛ فأوتروا يا أهل القرآن)) (¬2) قال الخطابي: الوتر: الفرد ومعنى الوتر في صفة الله جل وعلا: الواحد الذي لا شريك له، ولا نظير له، المتفرد عن خلقه، البائن منهم بصفاته، فهو سبحانه وِتْر، وجميع خلقه شفع، خُلقوا أزواجاً (¬3) قال البيهقي: الوِتْر: هو الفرد الذي لا شريك له ولا نظير، وهذه صفة يستحقها بذاته (¬4) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص320 ¬

(¬1) رواه البخاري (6410)، ومسلم (2677). (¬2) رواه أبو داود (1416)، والترمذي (453) واللفظ له، وابن ماجه (1169)، وأحمد (1/ 144) (1224)، والحاكم (1/ 441). والحديث سكت عنه أبو داود. قال الترمذي: حديث علي حديث حسن. ووافقه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 57) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (2/ 290): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) ((شأن الدعاء)) (ص29 - 30). (¬4) ((الاعتقاد)) (ص68).

- الوجه

- الوجه صفةٌ ذاتيةٌ خبرِيَّة لله عَزَّ وجَلَّ ثابتة بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ [البقرة: 272] وقوله: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد: 22] الدليل من السنة: حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((لما قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وقال رجل: والله إنَّ هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وَجْه الله)) (¬1) حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الثلاثة الذين حُبِسُوا في الغار، فقال كل واحد منهم: ((اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ ففرج عنا ما نحن فيه)) (¬2) حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((إنك لن تخلَّف فتعمل عملاً تبتغي به وَجْه الله؛ إلا ازددت به درجة ورفعة)) (¬3) قال إمام الأئمة ابن خزيمة في (كتاب التوحيد) بعد أن أورد جملة من الآيات تثبت صفة الوَجْه لله تعالى: (فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر؛ مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا؛ من غير أن نشبه وَجْه خالقنا بوَجْه أحد من المخلوقين، عز ربنا أن يشبه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين) (¬4). وقال الحافظ ابن منده: (ومن صفات الله عَزَّ وجَلَّ التي وصف بها نفسه قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]، وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجلاَلِ وَالإِكْرَام [الرحمن:27]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بوَجْه الله من النار والفتن كلها، ويسأل به)، ثم سرد أحاديث بسنده، ثم قال: (بيان آخر يدل على أنَّ العباد ينظرون إلى وَجْه ربهم عَزَّ وجَلَّ، وسرد بسنده ما يدل على ذلك) (¬5) وقال قَوَّام السُّنَّة الأصفهاني: ذكر إثبات وَجْه الله عَزَّ وجَلَّ الذي وصفه بالجلال والإكرام والبقاء في قوله عَزَّ وجَلَّ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجلاَلِ وَالإِكْرَام اهـ (¬6) وانظر: (أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للالكائي (¬7)، و (تفسير ابن جرير) لقوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ، وتفسير الآية نفسها من (أضواء البيان)، وانظر كلام البغوي في صفة (الأصابع)، وكلام ابن كثير في صفة (السمع) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص321 ¬

(¬1) رواه البخاري (3150)، ومسلم (1062). (¬2) رواه البخاري (2215)، ومسلم (2743). (¬3) رواه البخاري (1295)، ومسلم (1628). (¬4) ((التوحيد)) (1/ 25). (¬5) ((التوحيد)) (3/ 36). (¬6) ((الحجة)) (1/ 199). (¬7) (3/ 412).

- الودود

- الودود يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الوَدُوُد، الذي يَوَد ويحب عباده الصالحين ويودونه، وهذا ثابت بالكتاب العزيز، و (الوَدُوُد) من أسمائه تعالى الدليل: قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90] وقوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الوَدُوُد [البروج: 14] الوِدُ والمَوَدَّة: الحب والمحبة، والوَدُوُد: المُحِب انظر: (اللسان) قال أبو القاسم الزجاجي: الوَدُوُد: فيه قولان: أحدهما: أنه فعولٌ بمعنى فاعلٍ؛ كقولك: غفورٌ بمعنى غافر، وكما قالوا: رجلٌ صَبورٌ بمعنى صابر، وشَكورٌ بمعنى شاكر، فيكون الوَدُوُد في صفات الله تعالى عَزَّ وجَلَّ على هذا المذهب أنه يودُّ عبادهُ الصالحينَ ويُحبهم، والودُّ والمودةُ والمحبة في المعنى سواءٌ؛ فالله عَزَّ وجَلَّ ودودٌ لأوليائه والصالحين من عباده، وهو مُحِبٌ لهم والقول الآخر: أنه فعولٌ بمعنى مفعولٍ؛ كما يقال: رجل هيوبٌ؛ أي: مهيبٌ، فتقديره: أنه عَزَّ وجَلَّ مودودٌ؛ أي: يوده عباده ويحبونه وهما وجهان جيدان وقد تأتي الصِّفة بالفعل لله عَزَّ وجَلَّ ولعبده، فيقال: العبد شكور لله؛ أي: يشكر نعمته، والله عَزَّ وجَلَّ شكورٌ للعبد؛ أي: يشكر له عمله؛ أي: يجازيه على عمله، والعبد توابٌ إلى الله من ذنبه، والله تَّوابٌ عليه؛ أي: يقبل توبته ويعفو عنه اهـ (¬1) وقال ابن القيم: الوَدُوُد المُتَوَدِّد إلى عباده بنعمه الذي يَوَدُّ من تاب إليه وأقبل عليه وهو الوَدُوُد أيضاً أي المحبوب قال البخاري في (صحيحه) الوَدُوُد: الحبيب والتحقيق أنَّ اللفظ يدل على الأمرين على كونه وادَّاً لأوليائه ومَوْدُوُدَاً لهم فأحدهما بالوضع والآخر باللزوم فهو الحبيب المحب لأوليائه يحبهم ويحبونه (¬2) وانظر: (تفسير غريب القرآن) لابن قتيبة (¬3) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص323 ¬

(¬1) ((اشتقاق أسماء الله)) (ص152). (¬2) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص59). (¬3) (ص18).

- الوصل والقطع

- الوصل والقطع صفتان فعليتان ثابتتان بالسنة الصحيحة، تليقان بالله عَزَّ وجَلَّ والوَصْلُ: ضد الهجران والقطع الدليل: حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرَّحِمُ معلقة بالعرش تقول مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّه)) (¬1) حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ وَصَلَ صفاً وَصَلَهُ اللهُ وَمَنْ قَطَعَ صفاً قَطَعَهُ اللهُ)) (¬2) رواه أبو داود (570) والنسائي (810) انظر: صحيح سنن النسائي (1/ 177 قال الشيخ علي الشبل في كتاب (التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري) وقد قَرَّظَه عددٌ من العلماء في مقدمتهم الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله -: الوصل والقطع فعلان ثابتان لله سبحانه لائقان به من باب المجازاة والمقابلة لمن يستحقهما، وهما من الصفات الواجب إثباتهما له سبحانه كسائر الصفات، وليستا بمستحيلتين على الله في حقيقتيهما (¬3) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص324 ¬

(¬1) رواه البخاري (5989) ومسلم (2555) واللفظ له. (¬2) رواه أبو داود (666)، والنسائي (2/ 93)، وأحمد (2/ 97) (5724)، والحاكم (1/ 333). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬3) ((التنبيه على المخالفات العقدية في كتاب فتح الباري)) (ص72).

- الوكيل

- الوكيل يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الوَكِيل، وهذا ثابتٌ بالكتاب والسنة، وهو اسم من أسمائه الدليل من الكتاب: قوله تعالى: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيل [آل عمران: 173] وقوله: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام: 102] الدليل من السنة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: ((حسبنا الله ونعم الوَكِيل قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬1) قال ابن منظور في (اللسان): وفي أسماء الله تعالى الوَكِيل: هو المقيم الكفيل بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يستقلُّ بأمر التوكل الموكَل إليه، وفي التَنْزيل العزيز: أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلاً [الإسراء:2] وقال أبو إسحاق: الوَكِيل في صفة الله تعالى الذي توكَّل بالقيام بجميع ما خلق اهـ وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيل [آل عمران:173]: كفانا الله؛ يعني: يكفينا الله وَنِعْمَ الوَكِيل، يقول: ونعم المولى لمن وليه وكفله، وإنما وصف الله تعالى نفسه بذلك؛ لأنَّ الوَكِيل في كلام العرب هو: المُسْنَدُ إليه القيام بأمر من أسند إليه القيام بأمره، فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات قد كانوا فَوَّضُوا أمرهم إلى الله، ووثقوا به، وأسندوا ذلك إليه؛ وصف نفسه بقيامه لهم بذلك، وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة، فقال: ونعم الوَكِيل الله تعالى لهم صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص325 ¬

(¬1) رواه البخاري (4563).

- الولي والمولى (الولاية والموالاة)

- الولي والمولى (الولاية والموالاة) يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه وَلِيُّ الذين آمنوا ومولاهم، و (الوَلِيُّ) و (المَوْلَى): اسمان لله تعالى ثابتان بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257] وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11] والآيات في ذلك كثيرة جداً الدليل من السنة: قول الزبير لابنه عبد الله يوم الجمل: (يا بني! إن عجزت عن شيء منه (يعني: دَيْنَه)؛ فاستعن عليه بمولاي قال: فوالله؛ ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت! من مولاك؟ قال: الله قال: فوالله؛ ما وقعت في كربة من دينه إلاَّ قلت: يا مولى الزبير! اقض عنه دينه فيقضيه) (¬1) حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: ((اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها)) (¬2) قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 257]: نصيرهم وظهيرهم؛ يتولاهم بعونه وتوفيقه وانظر كلام ابن أبي العز الحنفي في صفة (الغَضَب) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص326 ¬

(¬1) رواه البخاري (3129). (¬2) رواه مسلم (2722).

- الوهاب

- الوهاب يوصف الله عَزَّ وجَلَّ بأنه الوَهَّاب، يهب ما يشاء لمن يشاء كيف شاء، وهذا ثابت بالكتاب والسنة، وهي صفةٌ فعليةٌ، و (الوَهَّاب) من أسمائه تعالى الدليل من الكتاب: قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] وقوله: يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى: 49] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((ثم ذكرت قول أخي سليمان: رب اغفر لي وَهَبْ لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي)) (¬1) قال أبو القاسم الزجاجي: الوَهَّاب: الكثير الهبة والعطية، وفعَّال في كلام العرب للمبالغة؛ فالله عَزَّ وجَلَّ وهَّاب، يهب لعباده واحداً بعد واحد ويعطيهم، فجاءت الصفة على فعَّال لكثرة ذلك وتردده، والهبة: الإعطاء تفضلاً وابتداءً من غير استحقاق ولا مكافأة اهـ (¬2) وقال ابن منظور في (لسان العرب): الهبة: العطية الخالية عن الأعواض والأغراض، فإذا كثرت؛ سمِّي صاحبها وهَّاباً، وهو من أبنية المبالغة، ثم قال: واسم الله عَزَّ وجَلَّ الوهاب؛ فهو من صفات الله تعالى المنعم على العباد، والله تعالى الوَهَّاب الوَاهِب صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص327 ¬

(¬1) رواه البخاري (461)، ومسلم (541) واللفظ له. (¬2) ((اشتقاق أسماء الله)) (126).

- اليدان

- اليدان صفةٌ ذاتيةٌ خبرِيَّةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، نثبتها كما نثبت باقي صفاته تعالى؛ من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، وهي ثابتةٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64] وقوله: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] الدليل من السنة: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ((إنَّ الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) (¬1) حديث الشفاعة، وفيه: ((فيأتونه فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر؛ خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه)) (¬2) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك)) (¬3) حديث: ((يد الله ملأى لا يغيضها نفقة وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع)) (¬4) قال إمام الأئمة ابن خزيمة في (كتاب التوحيد): باب: ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جلَّ وعلا، والبيان أنَّ الله تعالى له يدان كما أعلمنا في محكم تَنْزيله، وسرد جملة من الآيات تدل على ذلك، ثم قال: باب ذكر البيان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم على إثبات يد الله جل وعلا موافقاً لما تلونا من تَنْزيل ربنا لا مخالفاً، قد نَزَّه الله نبيه وأعلى درجته ورفع قدره عن أن يقول إلا ما هو موافق لما أنزل الله عليه من وحيه اهـ (¬5) وقال أبو الحسن الأشعري: وأجمعوا على أنه عَزَّ وجَلَّ يسمع ويرى، وأنَّ له تعالى يدين مبسوطتين اهـ (¬6) وقال أبو بكر الإسماعيلي: وخلق آدم عليه السلام بيده، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، بلا اعتقاد كيف يداه، إذ لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف اهـ (¬7) وقال قَوَّام السُّنَّة الأصبهاني في (الحجة): فصل: في إثبات اليد لله تعالى صفة له، ثم أورد بعض الآيات التي تدل على ذلك، ثم قال: ذكر البيان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم على إثبات اليد موافقاً للتَنْزيل، ثم أورد أحاديث بسنده تدل على ذلك اهـ (¬8) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنَّ لله تعالى يدين مختصتان به ذاتيتان له كما يليق بجلاله (¬9) وانظر: (أصول الاعتقاد) للالكائي (¬10) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص328 ¬

(¬1) رواه مسلم (2759). (¬2) رواه البخاري (3340)، ومسلم (194). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (6549)، ومسلم (2829). (¬4) رواه البخاري (7411)، ورواه مسلم (993) بلفظ: ((يمين)) بدلاً (يد). (¬5) ((التوحيد)) (1/ 118). (¬6) ((رسالة إلى أهل الثغر/ 225). (¬7) ((اعتقاد أئمة الحديث)) (ص51). (¬8) ((الحجة)) (1/ 185). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 263). (¬10) (3/ 412).

- اليمين والشمال واليسار

- اليمين والشمال واليسار توصف يَدُ الله عَزَّ وجَلَّ بأنها يَمِين، وهذا ثابتٌ بالكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] الدليل من السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((يَمِينُ الله ملأى لا يغيضها نفقة)) (¬1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((ويطوي السماء بيَمِينه)) (¬2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب؛ فإنَّ الله يتقبلها بيَمِينه)) (¬3) يؤمن أهل السنة والجماعة أنَّ لله عَزَّ وجَلَّ يدين، وأنَّ إحدى يديه يَمِين؛ فهل الأخرى توصف بالشِّمال؟ أم أنَّ كلتا يديه يَمِين؟ تحقيق القول في صفة الشِّمال: أولاً: القائلون بإثبات صفة الشِّمال أو اليسار ومنهم: الإمام عثمان بن سعيد الدارمي، وأبو يعلى الفراء، ومحمد بن عبد الوهاب، وصديق حسن خان، ومحمد خليل الهرَّاس، وعبدالله الغنيمان، وإليك أدلتهم وأقوالهم: أدلتهم: ما رواه مسلم في (صحيحه) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: ((يطوي الله عَزَّ وجَلَّ السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول)) (¬4) الخ الحديث حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: ((خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليَمِين فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحُمم، فقال للتي في يَمِينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للتي في يساره: إلى النار ولا أبالي)) (¬5) ومن أدلتهم وصف إحدى اليدين باليَمِين؛ كما في الأحاديث السابقة، وأنَّ هذا يقتضي أنَّ الأخرى ليست يَمِيناً، فتكون شمالاً، وفي بعض الأحاديث تذكر اليَمِين، ويذكر مقابلها: ((بيده الأخرى))، وهذا يعني أنَّ الأخرى ليست اليَمِين، فتكون الشِّمال أقوالهم: قال الإمام أبو سعيد الدارمي (¬6): وأعجب من هذا قول الثلجي الجاهل فيما ادعى تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يَمِين الرحمن وكلتا يديه يَمِين)) (¬7)، فادعى الثلجي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تأول كلتا يديه يَمِين؛ أنه خرج من تأويل الغلوليين أنها يَمِين الأيدي، وخرج من معنى اليدين إلى النعم؛ يعني بالغلوليين: أهل السنة؛ يعني أنه لا يكون لأحد يَمِينان، فلا يوصف أحد بيَمِينين، ولكن يَمِين وشمال بزعمه ¬

(¬1) رواه البخاري (7419)، ومسلم (993). (¬2) رواه البخاري (6519)، ومسلم (2787). (¬3) رواه البخاري (7430) واللفظ له، ومسلم (1014). (¬4) رواه مسلم (2788). (¬5) رواه أحمد (6/ 441) (27528)، والبزار في ((البحر الزخار)) (10/ 78)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (3/ 261). قال البزار: إسناده حسن. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 188): رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (49): إسناده صحيح. (¬6) ((نقض الدارمي على المريسي)) (ص155). (¬7) رواه مسلم (1827) بلفظ: ((إن المقسطين عند الله ... )). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

قال أبو سعيد: ويلك أيها المعارض! إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد أطلق على التي في مقابلة اليَمِين الشِّمال، ولكن تأويله: ((وكلتا يديه يَمِين))؛ أي: مُنَزَّه على النقص والضعف؛ كما في أيدينا الشِّمال من النقص وعدم البطش، فقال: ((كِلتا يدي الرحمن يَمِين))؛ إجلالاً لله، وتعظيماً أن يوصف بالشِّمال، وقد وصفت يداه بالشِّمال واليسار، وكذلك لو لم يجز إطلاق الشِّمال واليسار؛ لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يجز أن يُقال: كلتا يدي الرحمن يَمِين؛ لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قد جوزه الناس في الخلق؛ فكيف لا يجوز ابن الثلجي في يدي الله أنهما جميعاً يَمِينان، وقد سُمِّي من الناس ذا الشِّمالين، فجاز نفي دعوى ابن الثلجي أيضاً، ويخرج ذو الشِّمالين من معنى أصحاب الأيدي وقال أبو يعلى الفراء في (إبطال التأويلات) (¬1) بعد أن ذكر حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: واعلم أنَّ هذا الخبر يفيد جواز إطلاق القبضة عليه، واليَمِين واليسار والمسح، وذلك غير ممتنع؛ لما بيَّنا فيما قبل من أنَّهُ لا يحيل صفاته؛ فهو بمثابة اليدين والوَجْه وغيرهما وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في آخر باب من (كتاب التوحيد) في المسألة السادسة: (التصريح بتسميتها الشِّمال)؛ يعني: حديث ابن عمر رضي الله عنه عند مسلم وقال العلامة صديق حسن خان في كتابه (قطف الثمار) (¬2): ومن صفاته سبحانه: اليد، واليَمِين، والكف، والإصبع، والشِّمال وقال الشيخ محمد خليل هرَّاس في تعليقه على (كتاب التوحيد) لابن خزيمة (¬3): يظهر أنَّ المنع من إطلاق اليسار على الله عَزَّ وجَلَّ إنما هو على جهة التأدب فقط؛ فإنَّ إثبات اليَمِين وإسناد بعض الشؤون إليها كما في قوله تعالى: وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، وكما في قوله عليه السلام: ((إنَّ يَمِين الله ملأى سحاء الليل والنهار؛ يدل على أنَّ اليد الأخرى المقابلة لها ليست يَمِيناً)). وقال الشيخ عبد الله الغنيمان في شرحه (لكتاب التوحيد من صحيح البخاري): (هذا؛ وقد تنوعت النصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثبات اليدين لله تعالى وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض وتثنيتهما، وأنَّ إحداهما يَمِين كما مر، وفي نصوص كثيرة، والأخرى شمال؛ كما في (صحيح مسلم)، وأنه تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه تعالى يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيَمِينه، فيربيها لصاحبها، وأنَّ المقسطين على منابر من نور عن يَمِين الرحمن، وكلتا يديه يَمِين، وغير ذلك مما هو ثابت عن الله ورسوله وقال: وقد أتانا صلى الله عليه وسلم بذكر الأصابع، وبذكر الكف، وذكر اليَمِين، والشِّمال، واليدين مرة مثناة، ومرة منصوص على واحدة أنه يفعل بها كذا وكذا، وأنَّ الأخرى فيها كذا؛ كما تقدمت النصوص بذلك) (¬4) ثانياً: القائلون بأنَّ كلتا يدي الله يَمِين لا شمال ولا يسار فيهما منهم: الإمام ابن خزيمة في (كتاب التوحيد)، والإمام أحمد، والبيهقي، والألباني، وإليك أدلتهم وأقوالهم: أدلتهم: ما رواه مسلم في (صحيحه) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً: ((إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يَمِين الرحمن عَزَّ وجَلَّ، وكلتا يديه يَمِين)) (¬5) ¬

(¬1) (ص176). (¬2) (ص66). (¬3) (ص66). (¬4) (1/ 311، 318، 319). (¬5) رواه مسلم (1827).

حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مرفوعاً: ((أول ما خلق الله تعالى القلم، فأخذه بيَمِينه، وكلتا يديه يَمِين)) (¬1) رواه ابن أبي عاصم في (السنة 106)، والآجري في (الشريعة) وصحَّحَه الألباني حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لما خلق الله آدم، ونفخ فيه من روحه؛ قال بيده وهما مقبوضتان: خذ أيها شئت يا آدم، فقال: اخترت يَمِين ربي، وكلتا يداه يَمِين مباركة، ثم بسطها)) (¬2) رواه ابن أبي عاصم في السنة (206)، وابن حبان (6167)، والحاكم (1/ 64) وصحَّحَه، وعنه البيهقي في (الأسماء والصفات 2/ 56) والحديث حسَّنه الألباني في تخريجه لـ (السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((يَمِين الله ملأى لا يغيضها نفقة وبيده الأخرى القبض؛ يرفع ويخفض)) رواه البخاري، ومسلم (¬3) ورواه ابن خزيمة في (كتاب التوحيد)، وسنده صحيح؛ بلفظ: ((وبيَمِينه الأخرى القبض)) (¬4) أقوالهم: قال ابن خزيمة في (كتاب التوحيد): باب: ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أنَّ لخالقنا جلَّ وعلا يدين، كلتاهما يَمِينان، لا يسار لخالقنا عَزَّ وجَلَّ؛ إذ اليسار من صفة المخلوقين، فَجَلَّ ربنا عن أن يكون له يسار وقال أيضاً: بل الأرض جميعاً قبضةُ ربنا جَلَّ وعلا، بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيَمِينه، وهي اليد الأخرى، وكلتا يدي ربنا يَمِين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار؛ إذ كون إحدى اليدين يساراً إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز عن شبه خلقه اهـ (¬5) وقال الإمام أحمد بن حنبل – كما في (طبقات الحنابلة) لأبي يعلى -: وكما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: ((وكلتا يديه يَمِين))، الإيمان بذلك، فمن لم يؤمن بذلك، ويعلم أنَّ ذلك حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو مُكَذِّبٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم (¬6) وسئل الشيخ الألباني-رحمه الله- في مجلة الأصالة (¬7): كيف نوفِّق بين رواية: ((بشماله)) الواردة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في (صحيح مسلم) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وكلتا يديه يَمِين))؟ جواب: لا تعارض بين الحديثين بادئ بدء؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: ((وكلتا يديه يَمِين)): تأكيد لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ؛ فهذا الوصف الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيدٌ للتنْزيه، فيدُ الله ليست كيدِ البشر: شمال ويَمِين، ولكن كلتا يديه سبحانه يَمِين وأمر آخر؛ أنَّ رواية: ((بشماله)): شاذة؛ كما بيَّنتها في (تخريج المصطلحات الأربعة الواردة في القرآن رقم 1) للمودودي ويؤكد هذا أنَّ أبا داود رواه وقال: ((بيده الأخرى))، بدل: ((بشماله))، وهو الموافق لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وكلتا يديه يَمِين))، والله أعلم مناقشة الأدلة التي تثبت صفة (الشِّمال) و (اليَسَار): ¬

(¬1) رواه ابن أبي عاصم في السنة (106)، وابن بطة في ((الإبانة)) (كتاب القدر) (1/ 335)، والآجري في ((الشريعة)) (ص166). وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3136). (¬2) رواه الترمذي (3368)، وابن حبان (14/ 40)، والحاكم (1/ 132)، والبيهقي (10/ 147). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. والحديث صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح عند ابن خزيمة – كما أشار لذلك في مقدمة كتاب ((التوحيد)) (1/ 160). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. (¬3) رواه البخاري (7419)، ومسلم (993). (¬4) رواه ابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 162 - 163). (¬5) ((التوحيد)) (159، 197). (¬6) ((طبقات الحنابلة)) (1/ 313). (¬7) العدد الرابع - (ص268)

حديث عبدالله بن عمر عند مسلم (2788 - 24)، وفيه لفظة (الشِّمال)، تفرد بها عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن سالم عن ابن عمر، وعمر بن حمزة ضعيف، والحديث عند البخاري (7412) من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وعند مسلم (2788 - 25و26) من طريق عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر، وليس عندهما لفظة (الشِّمال). قال الحافظ البيهقي: ذكر (الشِّمال) فيه، تفرد به عمر بن حمزة عن سالم، وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر؛ لم يذكرا فيه الشِّمال وروى ذكر الشِّمال في حديث آخر في غير هذه القصة؛ إلا أنه ضعيف بمرة، تفرد بأحدهما: جعفر بن الزبير، وبالآخر: يزيد الرقاشي وهما متروكان، وكيف ذلك؟! وصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمَّى كلتي يديه يَمِيناً اهـ (¬1) حديث أبي الدرداء رضي الله عنه المتقدم، وفيه: ((وقال للتي في يساره: إلى النار ولا أبالي)) (¬2). قولهم: ((إنَّ ذكر اليَمِين يدل على أنَّ الأخرى شمال)): قول صحيح لو لم يرد ما يدل على أنَّ كلتا يدي الله يَمِين. مناقشة الأدلة التي تثبت أنَّ يدي الله كلتاهما يَمِين: وصفُ اليدين بأنَّ كلتيهما يَمِين لا يعني عند العرب أنَّ الأخرى ليست يَسَاراً، بل قد يوصف الإنسان بأنَّ يديه كلتاهما يَمِين كما قال المرَّار: وإِنَّ عَلَى الأمانَةِ مِنْ عَقِيلٍ ... فَتىً كِلْتَا اليدَيْنِ لَهُ يَمِينَ ولا يعني أن لا شمال له، بل هو من كرمه وعطائه شماله كيَمِينه انظر البيت في: (مختلف تأويل الحديث) لابن قتيبة (¬3) ولُقِّب أبو الطيب طاهر بن الحسين بن مصعب بذي اليَمِينين، كتب له أحد أصحابه: للأمِيرِ المُهَذَّبِ ... المُكَنَّى بِطَيِّبِ ذِي اليَمِينينِ طَاهِرِ بـ ... ـنِ الحُسَيْنِ بنِ مُصْعَبِ انظر: (ثمار القلوب) (¬4) كما أنَّ العرب تسمى الرجل ذا الشِّمالَين، وقد سمي عمير بن عبد عمرو بن نضلة رضي الله عنه بذلك، وقيل: بل هو ذو اليدين راجع: (الإصابة) ولا يعنون بذي الشِّمالَين؛ أي: لا يَمِين له الترجيح: إنَّ تعليل القائلين بأنَّ إحدى يدي الله عَزَّ وجَلَّ يَمِين والأخرى شمال - وأننا إنما نقول: كلتاهما يَمِين؛ تأدباً وتعظيماً؛ إذ الشِّمال من صفات النقص والضعف - قول قوي، وله حظٌ من النظر؛ إلا أننا نقول: إنَّ صفات الله توقيفية، وما لم يأتِ دليلٌ صحيحٌ صريحٌ في وصف إحدى يدي الله عَزَّ وجَلَّ بالشِّمال أو اليَسَار؛ فإننا لا نتعدى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلتاهما يَمِين)) والله أعلم صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص330 ¬

(¬1) ((الأسماء والصفات)) (2/ 143). (¬2) رواه أحمد (6/ 441) (27528)، والبزار في ((البحر الزخار)) (10/ 78)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (3/ 261). قال البزار: إسناده حسن. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 188): رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (49): إسناده صحيح. (¬3) (247). (¬4) (ص291)

- الآخرية

- الآخرية صفةٌ ذاتيةٌ لله عَزَّ وجَلَّ، وذلك من اسمه الآخِر، والذي ورد في الكتاب والسنة الدليل من الكتاب: قوله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] الدليل من السنة: ما رواه مسلم في (صحيحه) عن سهيل؛ قال: كان أبو صالح يأمرنا؛ إذا أراد أحدنا أن ينام: أن يضطجع على شقِّه الأيمن، ثم يقول: ((اللهم رب السماوات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنَّوى، ومُنْزِل التَّوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذٌ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء؛ اقضِ عنا الدَّيْنَ، واغننا من الفقر)) وكان يروى ذلك عن أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) المعنى: 1 - أي: الذي ليس بعده شيء كما في الحديث 2 - الباقي بعد الأشياء كلها قاله ابن الأثير في (جامع الأصول) (¬2)، وبنحوه قال الزجاج في (تفسير أسماء الله الحسنى)، وابن منظور في (اللسان) وانظر كلام ابن القيم في صفة (الأَوَّلِيَّةِ) صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص338 ¬

(¬1) رواه مسلم (1035). (¬2) (4/ 181).

المبحث الرابع: معاني التنزيه التي جاءت بها النصوص

تمهيد: الصفات المنفية التي ذكرت في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ترد لمعان عديدة يمكن حصرها في نوعين من التنزيه: النوع الأول: نفي النقائص والعيوب عن الله عز وجل، المنافية لصفات كماله. النوع الثاني: تنزيه أوصاف الكمال الثابتة له عز وجل عن مماثلة شيء من صفات المخلوقين، أو هو: إثبات أنه ليس كمثل الله شيء في صفات كماله الثابتة له. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والتنزيه الذي يستحقه الرب يجمعه نوعان: - أحدهما: نفي النقص عنه. - والثاني: نفي مماثلة شيء من الأشياء فيما يستحقه من صفات الكمال (¬1)). النفي في باب صفات الله عز وجل لأرزقي بن محمد سعيداني – ص 107 ¬

(¬1) ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 186) و (1/ 157، 5/ 169) و ((مجموع الفتاوى)) (16/ 98، 36)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (10/ 245) ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 378)، ((الصفدية)) (2/ 228)، ((التسعينية)) (1/ 188)، ((الجواب الصحيح)) (2/ 261)، ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (248)، ((شرح حديث النزول)) (78)، ((شرح القصيدة النونية)) (2/ 55 - 60).

المطلب الأول: نفي النقائص عن الله عز وجل

المطلب الأول: نفي النقائص عن الله عز وجل توحيد الله عز وجل الذي دلت عليه النصوص ينقسم إلى توحيد قولي، وتوحيد عملي، فالتوحيد القولي هو ما كان خبرا عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا الخبر إما أن يكون بنفي أو إثبات (¬1). فالنفي هو تنزيه الله عز وجل عن كل نقص أو عيب من كل وجه، وهو ما دلت عليه نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، وهو ما فطر الله عليه جميع الخلق من إثبات كمال الله عز وجل نفي النفص عنه، وهو مما يعلم بالعقل أيضاً (¬2). وقد ضرب الله عز وجل الأمثال وأقام الحجج والبراهين على المشركين بإظهار بطلان ألوهية الأصنام التي يعبدونها لما تتصف به من النقائص والعيوب التي يجب أن يتنزه عنها الرب المعبود (¬3)، فقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [النحل: 75]، فبين أن كونه مملوكاً عاجزاً صفة نقص وهذا مثل للآلهة التي تعبد من دون الله، وإن القدرة والملك والإحسان صفة كمال، وهذا مثل لله عز وجل، فهذا ليس مثل هذا. وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 76]، فالأول مثل العاجز عن الكلام والفعل الذي لا يقدر على شيء، كآلهتهم التي يعبدون، والآخر مثل المتكلم الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم، فلا يستوي هذا والعاجز عن الكلام والفعل (¬4). وقال تعالى: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: 42]، أي: (لم تعبد أصناماً ناقصة في ذاتها وفي أفعالها، فلا تسمع، ولا تبصر، ولا تملك لعبادها نفعاً ولا ضراً، بل لا تملك لأنفسها شيئاً من النفع، ولا تقدر على شيء من الدفع، فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلاً وشرعاً، ودل تنبيهه وإشارته، أن الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه، ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو، وهو الله تعالى) (¬5). وقال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ [الأعراف: 148]، (فدل ذلك على أن عدم التكلم والهداية نقص، وإن الذي يتكلم ويهدي أكمل ممن لا يتكلم ولا يهدي) (¬6)، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، إلى أمثال ذلك من الآيات. (ومثل هذا في القرآن متعدد من وصف الأصنام بسلب صفات الكمال، كعدم التكلم, والفعل, وعدم الحياة ونحو ذلك، مما يبين أن المتصف بذلك منتقص معيب كسائر الجمادات، وأن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب. وأما رب الخلق الذي هو أكمل من كل موجود، فهو أحق الموجودات بصفات الكمال، وأنه لا يستوي المتصف بصفات الكمال والذي لا يتصف بها، وهو يذكر أن الجمادات في العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات) (¬7). وهذا ما دلت عليه النصوص الصريحة, والعقول الصحيحة، وما استقر في الفطر من أن الرب الخالق المستحق للعبادة وحده، يجب أن يتصف بكل كمال على أتم وجوهه، وأن يتنزه عن كل نقص وعيب يمكن أن يتصوره العقل (¬8). النفي في باب صفات الله عز وجل لأرزقي بن محمد سعيداني – ص 108 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 33) ((الصواعق المرسلة)) (2/ 402)، ((شرح القصيدة النونية)) (2/ 56 - 60). (¬2) ((تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل)) (5/ 195) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 293، 3/ 914، 1010، 1018). (¬3) ((مدارج السالكين)) (1/ 34). (¬4) ((تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل)) (5/ 202) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 293، 3/ 914، 1010، 1018)، ((النبوات)) (2/ 890)، ((القواعد المثلى)) (ص: 23). (¬5) ((تيسير الكريم الرحمن)) (443). (¬6) ((تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل)) (5/ 203). (¬7) ((تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل)) (5/ 203) و ((مجموع الفتاوى)) (5/ 223) و ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 160). (¬8) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 363)، ((الصفدية)) (2/ 27)، ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 97)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (119) و ((شفاء العليل)) (2/ 333، 343).

المطلب الثاني: إثبات أنه ليس كمثل الله عز وجل شيء في صفاته الثابتة له

المطلب الثاني: إثبات أنه ليس كمثل الله عز وجل شيء في صفاته الثابتة له وهذا هو النوع الثاني من المعاني الجامعة للصفات المنفية التي جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهو يقوم على تنزيه أوصاف الكمال الثابتة له سبحانه عن مماثلة أوصاف المخلوقين. فجميع ما اتصف الله عز وجل به من الصفات لا يماثله فيها أحد من خلقه، والنص إذا ورد بإثبات صفة من الصفات وجب الإيمان به والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين (¬1)، وهذا الذي أخبرنا به سبحانه وتعالى في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] ونحوها، أي: أن الله عز وجل منزه عن أن يكون له مثل في شيء مما يوصف به من صفات كماله؛ لأن مماثلة المخلوق من أعظم النقص الذي يجب أن ينزه الله عنه (¬2). (وكذلك ما كان مختصاً بالمخلوق فإنه يمتنع اتصاف الرب به، فلا يوصف الرب بشيء من النقائص، ولا بشيء من خصائص المخلوق، وكل ما كان من خصائص المخلوق فلا بد فيه من نقص) (¬3). فمن شبه صفات الله عز وجل بصفات خلقه لم يكن عابداً لله في الحقيقة، وإنما يعبد وثناً. وكذلك من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه في حقيقة أمره لا يعبد شيئاً موجوداً، وإنما يعبد عدماً مفقوداً (¬4). كما قيل: (الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً) (¬5)، والسبيل الذي عليه أهل السنة والجماعة، هو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، مع تنزيهه عز وجل أن يشبه شيء من صفاته شيئاً من صفات خلقه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه, وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. يثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مماثلة المخلوقات، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ رد على أهل التمثيل، وقوله: السَّمِيعُ البَصِيرُ رد على أهل التعطيل) (¬6). وقال رحمه الله: (فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال، ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال، ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال، وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه التمثيل) (¬7). والأدلة السمعية التي وردت في نفي المماثلة تنقسم إلى قسمين: 1 - خبر. 2 - وطلب. قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (الأدلة السمعية (¬8) تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب. - فمن الخبر قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل. وقوله: تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر؛ لأنه استفهام بمعنى النفي. وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية. - وأما الطلب؛ فقال تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22]، أي: نظراء مماثلين. وقال: فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل: 74]). (¬9). النفي في باب صفات الله عز وجل لأرزقي بن محمد سعيداني – ص 110 ¬

(¬1) ((منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات)) (ص: 20). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 449، 6/ 516). (¬3) ((الصفدية)) (1/ 102)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 70). (¬4) ((شرح القصيدة النونية)) (2/ 63). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 261)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (10/ 306). (¬6) ((الصفدية)) (1/ 103)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (6/ 349، 7/ 111)، ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 523). (¬7) ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (4/ 406)، ((جلاء الأفهام)) (93). (¬8) على نفي المماثلة. (¬9) ((شرح العقيدة الواسطية)) (1/ 103).

المبحث الخامس: الكلمات المجملة، وطريقة أهل السنة والجماعة في التعامل معها

تمهيد: أ- المقصود بالكلمات المجملة: أنها ألفاظ يطلقها أهل التعطيل: أو: هي مصطلحات أحدثها أهل الكلام. ب- ومعنى كونها مجملة: أنها تحتمل حقاً وباطلاً. أو يقال: لأنها ألفاظ مشتركة بين معان صحيحة، ومعان باطلة. أو يقال لخفاء المراد منها؛ بحيث لا يدرك معنى اللفظ إلا بعد الاستفصال والاستفسار. ج- ومراد أهل التعطيل من إطلاقها: التوصل إلى نفي الصفات عن الله تعالى بحجة تنزيهه عن النقائص. د- والذي دعاهم إلا ذلك: عجزهم عن مقارعة أهل السنة بالحجة؛ فلجؤوا إلى هذه الطريقة؛ ليخفوا عوارهم، وزيفهم. هـ- وهذه الألفاظ لم ترد لا في الكتاب، ولا في السنة؛ بل هي من إطلاقات أهل الكلام. ووطريقة أهل السنة في التعامل مع هذه الكلمات: أنهم يتوقفون في هذه الألفاظ؛ لأنه لم يرد نفيها ولا إثباتها في الكتاب والسنة؛ فلا يثبتونها، ولا ينفونها. أما المعنى الذي تحت هذه الألفاظ فإنهم يستفصلون عنه، فإن كان معنى باطلاً ينزه الله عنه ردوه، وإن كان معنى حقاً لا يمتنع على الله قبلوه، واستعملوا اللفظ الشرعي المناسب للمقام. وأشهر الألفاظ المجملة وروداً في كتب العقائد ما يلي: 1 - الجهة. 2 - الحد. 3 - الأعراض. 4 - الأبعاض أو الأعضاء والأركان والجوارح. 5 - حلول الحوادث بالله تعالى. 6 - التسلسل. رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 219

المطلب الأول: كلمة (الجهة)

المطلب الأول: كلمة (الجهة) هذه اللفظة من الكلمات المجملة التي يطلقها أهل التعطيل، فما معناها في اللغة؟ وما مرادهم من إطلاقها؟ وما التحقيق في تلك اللفظة؟ وهي هي ثابتة لله، أو منفية عنه؟ أ- معنى الجهة في اللغة: تطلق الجهة على الوضع الذي تتوجه إليه، وتقصده، وتطلق على الطريق، وعلى كل شيء استقبلته، وأخذت فيه (¬1). ب- ومراد أهل التعطيل من إطلاق لفظ الجهة: نفي صفة العلو عن الله عز وجل. ج- والتحقيق في هذه اللفظة: أن يقال: إن إطلاق لفظ الجهة في حق الله سبحانه وتعالى أمر مبتدع لم يرد في الكتاب ولا السنة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة. وبناء على هذا لا يصح إطلاق الجهة على الله عز وجل لا نفياً ولا إثباتاً، بل لابد من التفصيل؛ لأن هذا المعنى يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً. فإن أريد بها جهة سفل فإنها منتفية عن الله، وممتنعة عليه أيضاً؛ فإن الله أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، كيف وقد وسع كرسيه السموات والأرض؟ وإن أريد بالجهة أنه في جميع الجهات، وأنه حال في خلقه، وأنه بذاته في كل مكان فإن ذلك ممتنع على الله، منتف في حقه. وإن أريد نفي الجهة عن الله كما يقول أهل التعطيل؛ حيث يقولون: إن الله ليس في جهة، أي ليس في مكان، فهو لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل، ولا منفصل، ولا فوق، ولا تحت فإن ذلك أيضاً ممتنع على الله منتف في حقه؛ إذ إن ذلك وصف له بالعدم المحض. وإن أريد بالجهة أنه في جهة علو تليق بجلاله، وعظمته من غير إحاطة به، ومن غير أن يكون محتاجاً لأحد من خلقه فإن ذلك حق ثابت له، ومعنى صحيح دلت عليه النصوص، والعقول، والفطر السليمة. ومعنى كونه في السماء، أي في جهة العلو، أو أن (في) بمعنى على، أي على السماء، كما قال تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] أي على جذوع النخل. وبهذا التفصيل يتبين الحق من الباطل في هذا الإطلاق. أما بالنسبة للفظ فكما سبق لا يثبت ولا ينفي، بل يجب أن يستعمل بدلاً عنه اللفظ الشرعي، وهو العلو، والفوقية (¬2). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 221 ¬

(¬1) انظر: ((لسان العرب)) (13/ 555 - 560). (¬2) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص:221)، و ((التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية)) (ص: 166 - 171). و ((فتح رب البرية)) (ص: 33 - 35).

المطلب الثاني: كلمة (الحد)

المطلب الثاني: كلمة (الحد) وهذا أيضاً من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل التعطيل. فما معنى الحد في اللغة؟ وماذا يريد أهل التعطيل من إطلاقه؟ وما شبهتهم في ذلك؟ وما جواب أهل السنة؟ أ- معنى الحد في اللغة: يطلق على الفصل، والمنع، والحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. يقال: حددت كذا، جعلت له حداً يميزه. وحد الدار ما تتميز به عن غيرها، وحد الشيء: الوصف المحيط بمعناه، المميز له عن غيره (¬1). ب- وأهل التعطيل يريدون من إطلاق لفظ (الحد) نفي استواء الله على عرشه. ج- وشبهتهم في ذلك: أنهم يقولون: لو أثبتنا استواء الله على عرشه للزم أن يكون محدوداً؛ لأن المستوى على الشيء يكون محدوداً؛ فالإنسان مثلاً إذا استوى على البعير صار محدوداً بمنطقة معينة، محصوراً بها، وعلى محدود - أيضاً -. وبناء على ذلك فهم ينفون استواء الله على عرشه, ويرون أنهم ينزهون الله عز وجل عن الحد أو الحدود. د- جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن لفظ (الحد) لم يرد في الكتاب، ولا في السنة. وليس لنا أن نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نفياً، ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون. هذا بالنسبة للفظ. أما بالنسبة للمعنى فإننا نستفصل –كعادتنا- ونقول: ماذا تريدون بالحد؟ إن أردتم بالحد أن الله –عز وجل- محدود، أي متميز عن خلقه، منفصل عنهم، مباين لهم فهذا حق ليس فيه شيء من النقص، وهو ثابت لله بهذا المعنى. وإن أردتم بكونه محدوداً أن العرش محيط به، وأنتم تريدون نفي ذلك عنه بنفي استوائه عليه – فهذا باطل وليس بلازم صحيح؛ فإن الله –تعالى- مستو على عرشه، وإن كان –عز وجل- أكبر من العرش ومن غير العرش. ولا يلزم من كونه مستوياً على العرش أن يكون العرش محيطاً به؛ لأن الله -عز وجل- أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه (¬2). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 221 ¬

(¬1) انظر: ((معجم مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 108)، و ((المصباح المنير)) للفيومي (ص: 68). (¬2) انظر ((شرح عقيدة الطحاوية)) (ص: 219)، و ((شرح العقيدة الواسطية)) للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله (1/ 376 و 379 - 380).

المطلب الثالث: كلمة (الأعراض)

المطلب الثالث: كلمة (الأعراض) هذا اللفظ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل الكلام ومن أقوالهم في ذلك: (نحن ننزه الله تعالى من الأعراض والأغراض، والأبعاض، والحدود، والجهات). ويقولون: (سبحان من تنزه عن الأعراض, والأغراض, والأبعاض). أ- تعريف الأعراض في اللغة: الأعراض جمع عرض، والعرض هو ما لا ثبات له. أو هو: ما ليس بلازم للشيء. أو هو: ما لا يمتنع انفكاكه عن الشيء (¬1). ومن الأمثلة على ذلك: الفرح بالنسبة للإنسان فهو عرض؛ لأنه لا ثبات له، بل هو عارض يعرض ويزول. وكذلك الغضب، والرضا. ب- العرض في اصطلاح المتكلمين: قال الفيومي: (العرض عند المتكلمين ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا في محل يقوم به) (¬2). وقال الراغب الأصفهاني: (والعرض ما لا يكون له ثبات، ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون والطعم) (¬3). ج- مراد المتكلمين من قولهم: (إن الله منزه عن الأعراض): مرادهم من ذلك نفي الصفات عن الله تعالى, لأن الأعراض عندهم هي الصفات. د- شبهتهم في ذلك: يقولون: لأن الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام، والأجسام متماثلة؛ فإثبات الصفات يعني أن الله جسم، والله منزه عن ذلك. وبناء عليه نقول بنفي الصفات؛ لأنه يترتب على إثباتها التجسيم، وهو وصف الله بأنه جسم، والتجسيم تمثيل، وهذا كفر وضلال، فهذه هي شبهة المتكلمين. هـ- الرد على أهل الكلام في هذه المسألة: الرد عليهم من وجوه: 1 - أن لفظ (الأعراض) لم ترد في الكتاب, ولا في السنة, لا نفياً ولا إثباتاً، ولم ترد كذلك عن سلف الأمة. وطريقة أهل السنة المعهودة في مثل هذه الألفاظ التوقف في اللفظ، فلا نثبت الأعراض، ولا ننفيها. أما معناها فيستفصل عن مرادهم في ذلك ويقال لهم: إن أردتم بالأعراض ما يقتضي نقصاً في حق الله تعالى كالحزن، والندم، والمرض، والخوف، فإن المعنى صحيح، والله منزه عن ذلك؛ لأنه نقص، لا لأنها أعراض. وإن أردتم نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات كالغضب، والفرح، والرضا، ونحوها بحجة أنها أعراض – فإن ذلك باطل مردود، ولا يلزم من إثباتها أي لازم. 2 - أن الصفات الربانية ليست كلها أعراض، بل إن بعضها أعراض كالفرح، والغضب، وبعضها ليست أعراضاً، كبعض الصفات الذاتية كاليد، والوجه، والقدم، والساق؛ فهذه ليست أعراضاً، بل لازمة للذات لا تنفك عنها. 3 - أن قولكم: (إن الأعراض لا تقوم إلا بجسم) قول باطل؛ فالأعراض قد تقوم بغير الجسم كما يقال: ليل طويل، فقولنا: طويل، وصف لـ: ليل، والليل ليس بجسم، ومثل ذلك: حر شديد، ومرض مؤلم، وبرد قارس. 4 - أن القول بتماثل الأجسام قول باطل؛ فالأجسام غير متماثلة لا بالذوات ولا بالصفات، ولا بالحدوث؛ ففي الحجم تختلف الذرة عن الجمل، وفي الوزن يختلف جسم القيراط عن جسم القنطار، وفي الملمس يختلف الخشن عن الناعم، واللين عن القاسي، وهكذا. 5 - أن لفظ الجسم من إحداث المتكلمين، وهذا اللفظ كقاعدة الألفاظ المجملة؛ فإن كان إثبات الصفات يلزم منه أن يكون جسماً في مفهومك فليس ذلك يضيرنا. لكن إن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به فهذا حق لأننا نؤمن بأن لله ذاتاً موصوفة بالصفات اللائقة بها. فإن أردت بالجسم هذا المعنى فيصح. وإن أردت بالجسم الشيء المكون من أعضاء، ولحم ودم, المفتقر بعضه إلى بعض وما أشبه ذلك فباطل غير صحيح؛ لأنه يلزم أن يكون الله حادثاً أو محدثاً. وهذا أمر مستحيل، على أننا لا نوافق على إثبات الجسم، ولا نفيه؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً. رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 225 ¬

(¬1) انظر ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 153 - 154). (¬2) ((المصباح المنير)) للفيومي (ص: 209). (¬3) ((معجم مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 342).

المطلب الرابع: كلمة (الأبعاض)

المطلب الرابع: كلمة (الأبعاض) الأبعاض، ويقال: الأعضاء، أو الأركان، أو الجوارح: وهذه أيضاً من الكلمات المجملة التي تطلق وتحتمل حقاً وباطلاً؛ فإليك نبذة في معانيها، ومقصود أهل التعطيل من إطلاقها وجواب أهل السنة على تلك الدعوى. أ- معاني هذه الكلمات: معاني هذه الكلمات متقاربة من بعض. - فالأبعاض: جمع لكلمة بعض، يقال: بعض الشيء أي جزؤه، وبعضت كذا أي جعلته أبعاضاً (¬1). - والأركان: جمع ركن، وركن الشيء قوامه، وجانبه القوي الذي يتم به، ويسكن إليه. - والأجزاء: جمع جزء، والجزء ما يتركب الشيء عنه وعن غيره. وجزء الشيء ما يتقوم به جملته كأجزاء السفينة، وأجزاء البيت. - والجوارح: مفردها الجارحة، وتسمى الصائدة من الكلاب, والفهود, والطيور جارحة؛ إما لأنها تجرح، وإما لأنها تكسب. وسميت الأعضاء الكاسبة جوارح تشبيهاً بها لأحد هذين (¬2). - ويشبه هذه الألفاظ لفظ: الأعضاء، والأدوات، ونحوها. ب- مقصود أهل التعطيل من إطلاقها: مقصودهم نفي بعض الصفات الذاتية الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد، والوجه، والساق، والقدم والعين (¬3). ج- ما الذي دعاهم إلى نفيها؟ الذي دعاهم إلى نفي تلك الصفات هو اعتقادهم أنها بالنسبة للمخلوق أبعاض، وأعضاء، وأركان، وأجزاء، وجوارح وأدوات ونحو ذلك؛ فيرون –بزعمهم- أن إثبات تلك الصفات لله يقتضي التمثيل، والتجسيم؛ فوجب عندهم نفيها قراراً من ذلك. وقد لجؤوا إلى تلك الألفاظ المجملة؛ لأجل أن يروج كلامهم، ويلقى القبول. د- جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذه الصفات وإن كانت تعد في حق المخلوق أبعاضاً، أو أعضاء، وجوارح ونحو ذلك لكنها تعد في حق الله صفات أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلا نخوض فيها بآرائنا وأهوائنا، بل نؤمن بها ونمرها كما جاءت ونفوض كنهها وحقيقتها إلى الله عز وجل لعدم معرفتنا لحقيقة الذات؛ لأن حقيقة معرفة الصفة متوقفة على معرفة حقيقة الذات كما لا يخفى، وهذه الصفات – أعني اليد، والساق ونحوها وكثير من صفات الله – قد تشترك مع صفات خلقه في اللفظ، وفي المعنى العام المطلق قبل أن تضاف. وبمجرد إضافتها تختص صفات الخالق بالخالق، وصفات المخلوق بالمخلوق؛ فصفات الخالق تليق بجلاله, وعظمته, وربوبيته، وقيومته. وصفات المخلوق تليق بحدوثه، وضعفه، ومخلوقيته (¬4). وبناء على ذلك يقال لمن يطلق تلك الألفاظ المجملة السالفة: إن أردت أن تنفي عن الله عز وجل أن يكون جسماً، وجثة، وأعضاء، ونحو ذلك – فكلامك صحيح، ونفيك في محله. وإن أردت بذلك نفي الصفات الثابتة له، والتي ظننت أن إثباتها يقتضي التجسيم، ونحو ذلك من اللوازم الباطلة – فإن قولك باطل، ونفيك في غير محله. هذا بالنسبة للمعنى. أما بالنسبة للفظ فيجب ألا تعدل عن الألفاظ الشرعية في النفي أو الإثبات؛ لسلامتها من الاحتمالات الفاسدة. يقول شارح الطحاوية رحمه الله: (ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان؛ لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد، الصمد، لا يتجزأ سبحانه وتعالى, والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية تعالى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآَنَ عِضِينَ [الحجر: 91]. والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع؛ وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة. وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فكذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً، ولا إثباتاً؛ لئلا يثبت معنى فاسد، وأن ينفى معنى صحيح. وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل) (¬5). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 228 ¬

(¬1) انظر ((معجم مفردات ألفاظ القرآن)) (ص: 50، 88، 90، 208) و ((التعريفات)) (ص: 78، 117). (¬2) انظر ((معجم مفردات ألفاظ القرآن)) (ص: 50، 88، 90، 208) و ((التعريفات)) (ص: 78، 117). (¬3) انظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 219). (¬4) انظر: ((الصفات الإلهية)) (ص: 208 - 209). (¬5) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 220، 221).

المطلب الخامس: كلمة (الأغراض)

المطلب الخامس: كلمة (الأغراض) هذه الكلمة من إطلاقات المتكلمين، وإليك بعض التفصيل في هذا اللفظ. أ- الأغراض في اللغة: جمع غرض، والغرض هو الهدف الذي يرمي فيه، أو هو الهدف الذي ينصب، فيرمى فيه. والغرض يطلق في اللغة أيضاً على الحاجة، والبغية، والقصد (¬1). ب- الغرض في اصطلاح علماء الكلام: قيل هو ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل (¬2). وقال الجلال الدواني رحمه الله: (الغرض هو الأمر الباعث للفاعل على الفعل، وهو المحرك الأول، وبه يصير الفاعل فاعلاً) (¬3). وبذلك نرى توافق المعنى اللغوي والاصطلاحي للغرض، وأنه غاية الفاعل من فعله، وهو الباعث له على فعله (¬4). ج- مراد أهل الكلام بهذه اللفظة: يريدون إبطال الحكمة في أفعال الله عز وجل وشرعه. د- حجتهم في ذلك: يقول المتكلمون – وعلى وجه الخصوص الأشاعرة – إننا ننزه الله عن الأغراض, فلا يكون له غرض فيما شرعه أو خلقه؛ فأبطلوا الحكمة من ذلك، وقرروا أن الله لم يشرع إلا لمجرد مشيئته فحسب؛ فإذا شاء تحريم شيء حرمه، أو شاء إيجابه أوجبه. وقالوا: لو قررنا أن له حكمة فيما شرعه لوقعنا في محذورين: الأول: أنه إذا كان لله غرض فإنه محتاج إلى ذلك الغرض؛ ليعود عليه من ذلك منفعة، والله منزه عن ذلك. والثاني: أننا إذا عللنا الأحكام أي أثبتنا الحكمة والعلة لزم أن نوجب على الله ما تقتضيه الحكمة؛ لأن الحكم يدور مع علته، فنقع فيما وقع فيه المعتزلة من إيجاب الصلاح والأصلح على الله؛ لأن الغرض عند المعتزلة بمعنى الغاية التي فعل لها، وهم يوجبون أن يكون فعله معللاً بالأغراض (¬5). هـ- الرد عليهم: 1 - أن هذا اللفظ – الأغراض أو الغرض – لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، ولا أطلقه أحد من علماء الإسلام وأتباعهم؛ لأن هذه الكلمة قد توهم النقص، ونفيها قد يفهم منه نفي الحكمة؛ فلابد إذاً من التفصيل، والأولى أن يعبر بلفظ: الحكمة، والرحمة، والإرادة، ونحو ذلك مما ورد به النص. 2 - أن الغرض الذي ينزه الله عنه ما كان لدفع ضرر، أو جلب مصلحة له، فالله سبحانه لم يخلق، ولم يشرع لأن مصلحة الخلق والأمر تعود إليه، وإنما ذلك لمصلحة الخلق. ولا ريب أن ذلك كمال محض، قال تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا [آل عمران: 176]. وقال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزُّمر: 7]. وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني, ولن تبلغوا ضري فتضروني)). وهذا أمر مستقر في الفطر. 3 - أن إيجاب حصول الأشياء على الله متى وجدت الحكمة حق صحيح، لكنه مخالف لما يراه المعتزلة من جهة أن الله عز وجل هو الذي أوجب هذا على نفسه، ولم يوجبه عليه أحد، كما قال عز وجل: كتب ربكم على نفسه الرحمة [الأنعام: 54]. وكما قال: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ [الرُّوم: 47]. وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: ((أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به)) (¬6) الحديث. فهذا حق أوجبه الله على نفسه، ولله أن يوجب على نفسه ما يشاء. ثم إن مقياس الصلاح والأصلح ليس راجعاً إلى عقول البشر ومقاييسهم, بل إن ذلك راجع إلى ما تقتضيه حكمة الله تعالى, فقد تكون على خلاف ما يراه الخلق باديء الرأي في عقولهم القاصرة؛ فانقطاع المطر – على سبيل المثال- قد يبدو لكثير من الناس أنه ليس الأصلح، بينما قد يكون هو الأصلح لكنه مراد لغيره لقوله تعالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الرُّوم: 41]. وكذلك استدراج الكفار بالنعم، وابتلاء المسلمين بالمصائب, كل ذلك يحمل في طياته ضروباً من الحكم التي لا تحيط عقول البشر إلا بأقل القليل منها. بل إن خلق إبليس، وتقدير المعاصي، وتقدير الآلام يتضمن حكماً تبهر العقول وتبين عن عظيم حكمة أحكم الحاكمين (¬7). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 232 ¬

(¬1) انظر ((لسان العرب)) (7/ 196). (¬2) انظر ((شرح مطالع الأنصار على طوالع الأنوار)) لشمس الدين بن محمود الأصفهاني (ص: 917). (¬3) ((شرح العقائد العضدية)) للجلال الدواني (2/ 204). (¬4) انظر: ((الحكمة والتعليل في أفعال الله)) د. محمد المدخلي (ص: 26 - 47). (¬5) انظر ((آراء المعتزلة الأصولية)) دراسة وتقويماً د. علي الضويحي (ص: 106 - 115). (¬6) رواه البخاري (2856)، ومسلم (30). (¬7) انظر تفصيل ذلك في ((كتاب الإيمان بالقضاء والقدر)) للكاتب، (ص: 145 - 176).

المطلب السادس: حلول الحوادث بالله تعالى

المطلب السادس: حلول الحوادث بالله تعالى هذا اللفظ من إطلاقات أهل الكلام، وإليك بعض التفصيل في معناه، ومقصود أهل الكلام منه، والرد على ذلك. أ- معنى كلمة (حلول): الحلول هو عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر، كحلول الماء في الكوز (¬1). ب- معنى كلمة (الحوادث): الحوادث جمع حادث، وهو الشيء المخلوق المسبوق بالعدم، ويسمى حدوثاً زمانياً. وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير، ويسمى حدوثاً ذاتياً. والحدوث الذاتي: هو كون الشيء مفتقراً في وجوده إلى الغير. والحدوث الزماني: هو كون الشيء مسبوقاً بالعدم سبقاً زمانياً (¬2). ج- معنى (حلول الحوادث بالله تعالى) أي قيامها بالله، ووجودها فيه تعالى. د- مقصود أهل التعطيل من هذا الإطلاق: مقصودهم نفي اتصاف الله بالصفات الاختيارية الفعلية، وهي التي يفعلها متى شاء، كيف شاء، مثل الإتيان لفصل القضاء، والضحك، والعجب، والفرح؛ فينفون جميع الصفات الاختيارية. هـ- حجتهم في ذلك: وحجتهم في ذلك أن قيام تلك الصفات بالله يعني قيام الحوادث أي الأشياء المخلوقة الموجودة بالله. وإذا قامت به أصبح هو حادثاً بعد أن لم يكن، كما يعني ذلك أن تكون المخلوقات حالة فيه، وهذا ممتنع، فهذه هي حجتهم. وجواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذا الإطلاق لم يرد في كتاب ولا سنة، لا نفيا ولا إثباتاً، كما أنه ليس معروفاً عند سلف الأمة. أما المعنى فيستفصل عنه؛ فإن أريد بنفي حلول الحوادث بالله أن لا يحل بذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل فهذا النفي صحيح؛ فالله عز وجل ليس محلاً لمخلوقاته, وليست موجودة فيه، ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل. وإن أريد بالحوادث: أفعاله الاختيارية التي يفعلها متى شاء كيف شاء كالنزول، والاستواء، والرضا، والغضب، والمجيء لفصل القضاء ونحو ذلك فهذا النفي باطل مردود. بل يقال له: إن تلك الصفات ثابتة، وإن مثبتها –في الحقيقة- مثبت ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 235 ¬

(¬1) انظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 97). (¬2) انظر: ((التعريفات)) (ص: 85 - 86).

المطلب السابع: كلمة (التسلسل)

المطلب السابع: كلمة (التسلسل) التسلسل: وهو أحد الألفاظ المجملة التي يطلقها المتكلمون. ولأجل أن يتضح مفهوم هذه اللفظة، ومدلولها، ووجه الصواب والخطأ في إطلاقها إليك هذا العرض الموجز. أ- تعريف التسلسل: قال الجرجاني: (التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية) (¬1). ب- سبب تسميته بذلك: سمي بذلك أخذاً من السلسلة؛ فهي قابلة لزيادة الحلق إلى ما لا نهاية؛ فالمناسبة بينهما عدم التناهي بين طرفيهما؛ ففي السلسلة مبدؤها ومنتهاها، وأما التسلسل فطرفاه الزمن الماضي والمستقبل. ج- مراد أهل الكلام من إطلاق هذه اللفظة: مرادهم يختلف باختلاف سياق الكلام، وباختلاف المتكلمين؛ فقد يكون مرادهم نفي قدم اتصاف الله ببعض صفاته، وقد يكون مرادهم نفي دوام أفعال الله ومفعولاته، وقد يكون مرادهم نفي أبدية الجنة والنار، وقد يكون غير ذلك. د- هل وردت هذه اللفظة في الكتاب، أو السنة، أو أطلقها أحد من أئمة السلف؟ الجواب: لا. هـ- طريقة أهل السنة في التعامل مع هذا اللفظ: طريقتهم كطريقتهم في سائر الألفاظ المجملة، حيث إنهم يتوقفون في لفظ (التسلسل) فلا يثبتونه، ولا ينفونه، لأنه لفظ مبتدع مجمل يحتمل حقاً وباطلاً، وصواباً وخطأ. هذا بالنسبة للفظ. أما بالنسبة للمعنى فإنهم يستفصلون، فإن أريد به حق قبلوه، وإن أريد به باطل ردوه. ووبناء على ذلك فإنه ينظر في هذا اللفظ، وتطبق عليه هذه القاعدة: فيقال لمن أطلقوا هذا اللفظ: 1 - إذا أردتم بالتسلسل: دوام أفعال الرب - أزلاً وأبداً – فذلك معنى صحيح دل عليه العقل والشرع؛ فإثباته واجب، ونفيه ممتنع، قال الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 107]. والفعال هو من يفعل على الدوام، ولو خلا من الفعل في أحد الزمانين لم يكن فعالاً، فوجب دوام الفعل أزلاً وأبداً. ثم إن المتصف بالفعل أكمل ممن لا يتصف به، ولو خلا الرب منه لخلا من كمال يجب له، وهذا ممتنع. ولأن الفعل لازم من لوازم الحياة، وكل حي فهو فعال، والله تعالى حي، فهو فعال وحياته لا تنفك عنه أبداً وأزلاً. ولأن الفرق بين الحي والميت الفعل، والله حي؛ فلابد أن يكون فاعلاً، وخلوه من الفعل في أحد الزمانين: الماضي والمستقبل ممتنع؛ فوجب دوام فعله أزلاً وأبداً. فخلاصة هذه المسألة أنه إذا أريد بالتسلسل دوام أفعال الرب فذلك معنى صحيح واجب في حق الله، ونفيه ممتنع. 3 - وإذا أريد بالتسلسل: أنه تعالى كان معطلاً عن الفعل ثم فعل، أو أنه اتصف بصفة من الصفات بعد أن لم يكن متصفاً بها، أو أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن – فذلك معنى باطل لا يجوز. فالله عز وجل لم يزل متصفاً بصفات الكمال صفات الذات، وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله اتصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص؛ فلا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده. قال الإمام الطحاوي رحمه الله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه, لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته. وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً). مثال ذلك صفة الكلام؛ فالله عز وجل لم يزل متكلماً إذا شاء. ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، ولم يكن معطلاً عنها في وقت، بل هو متصف بها أزلاً وأبداً. وكذلك صفة الخلق، فلم تحدث له هذه الصفة بعد أن كان معطلاً عنها. 4 - وإذا كان المقصود بالتسلسل التسلسل في مفعولات الله عز وجل وأنه ما زال ولا يزال يخلق خلقاً بعد خلق إلى ما لا نهاية – فذلك معنى صحيح، وتسلسل ممكن، وهو جائز في الشرع والعقل. ¬

(¬1) ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 57).

قال الله تعالى: أَفَعَيِينَا بِالخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15]. ثم إنه عز وجل ما زال يخلق خلقاً، ويرتب الثاني على الأول وهكذا؛ فما زال الإنسان والحيوان منذ خلقه الله يترتب خلقه على خلق أبيه وأمه. 5 - وإن أريد بالتسلسل: التسلسل بالمؤثرين، أي بأن يؤثر الشيء بالشيء إلى ما لا نهاية، وأن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية – فذلك تسلسل ممتنع شرعاً وعقلاً؛ لاستحالة وقوعه؛ فالله عز وجل خالق كل شيء، وإليه المنتهى؛ فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء. والقول بالتسلسل في المؤثرين يؤدي إلى خلو المحدث والمخلوق من محدث وخالق، وينتهي بإنكار الخالق جل وعلا. خلاصة القول في مسألة التسلسل عموماً: - أن التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية، وأنه سمي بذلك أخذاً من السلسلة. - وأن التسلسل من الألفاظ المجملة التي لابد فيها من الاستفصال كما مر. - وأنه إن أريد بالتسلسل: دوام أفعال الرب ومفعولاته، وأنه متصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً فذلك حق صحيح، يدل عليه الشرع والعقل. - وأنه إن أريد بالتسلسل: أنه عز وجل كان معطلاً عن أفعاله، وصفاته، ثم فعل، واتصف فحصل له الكمال بعد أن لم يكن متصفاً به، أو أريد بالتسلسل: التسلسل في المؤثرين فذلك معنى باطل مردود بالشرع والعقل (¬1). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 238 ¬

(¬1) انظر تفصيل الحديث عن التسلسل في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 130 - 135)، و ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد شرح النونية)) للشيخ أحمد بن عيسى (1/ 370)، و ((القواعد الكلية للأسماء والصفات عند السلف)) د. إبراهيم البريكان (ص: 208 - 214).

المبحث السادس: خصائص إيمان الصحابة في الصفات الإلهية

المبحث السادس: خصائص إيمان الصحابة في الصفات الإلهية لقد نزل الكتاب العزيز وجاء النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام بالصورة الصحيحة الكاملة عن الإله الحق سبحانه وجاءت النصوص القرآنية والنبوية بأحسن ما يمكن أن تأتي به واضحة لا لبس ولا غموض فيها، وفي ذلك يقول المولى: جل جلاله: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الزمر:55]، وإن من غاية الحسن في هذا الكتاب والسنة المطهرة ما وصف به الرب سبحانه من صفات الكمال والجلال التي تعهد الله بحفظها فكانت هذه الصفات الربانية تامة كاملة, وقد اختص الله بها خير خلقه وصفوته من البشرية جمعاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذين نزل عليهم الوحي غضًّا طريًّا، فعاصروا أحداثه وأسباب نزوله، ففهموا مراد ربهم سبحانه ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم, فكان ذلك الجيل المبارك خير من سمع, وخير من آمن, وخير من فهم، وخير من بلغ لمن بعده تمام التبليغ، فلا عجب أن تتطلع الأعناق إلى مستواهم، أو تنسب إليهم، وتتلمس منهجهم الحق في كل مسائل الاعتقاد ... وقد وصف القرآن الكريم عميق إيمانهم، وتأثرهم بالوحي المنزل على رسولهم صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه وتعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23] وقال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أصحابه أمنة لهذه الأمة بما يحملون من سلامة المعتقد الحق، والاستقامة الصادقة على أمر الله تعالى: فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء! قال: فجلسنا. فخرج علينا. فقال: ما زلتم ههنا؟ قلنا: يا رسول الله, صلينا معك المغرب. ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال: أحسنتم أو أصبتم قال: فرفع رأسه إلى السماء. وكان كثيراً مما يرفع رأسه إلى السماء. فقال: النجوم أمنة للسماء. فإذا ذهبن النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي. فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون. وأصحابي أمنة لأمتي. فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) (¬1) ¬

(¬1) [2449])) رواه مسلم (2531).

قال الإمام النووي: (قال العلماء معنى الحديث: أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية, فإذا انكدرت النجوم وتناثرت يوم القيامة، وهنت السماء فانفطرت, وانشقت, وذهبت, وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون)) أي: من الفتن والحروب, وارتداد من ارتد من الأعراب, واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحاً, وقد وقع كل ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأصحابي أمنة لأمتي؛ فإذا ذهب أصحابي، أتى أمتي ما يوعدون)) معناه: ظهور البدع، والحوادث في الدين، والفتن فيه, وطلوع قرن الشيطان, وظهور الروم) (¬1). وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أمنة للأمة في صفاء عقيدتها وجميع تصوراتها، حيث عاش من عاش منهم، ونشروا العلم، وبلغوا للتابعين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مسائل العقيدة والشريعة, وساد عصرهم الوفاق العقدي بين الأمة، وفي أواخر عصرهم برزت المرجئة والجهمية، وغيرها وكان علماء السلف يعتدون في إبطال البدع بما تلقوه عنهم من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوالهم في تفسير كتاب الله، ومن قبل هذا، وكله من نصوص الكتاب والسنة، فكانوا رضوان الله عليهم أمنة للأمة من المعطلة، والنفاة, والمشبهة, ومن جميع أهل البدع، فهم المنارة التي يهتدى بها في الظلمات. وقد كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وغيره من الصحابة الكرام ينبهون الناس إلى ضرورة اتباع منهج الصحابة رضوان الله عليهم حيث يقول: (من كان منكم متأسياً، فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً, قوماً اختارهم الله لصحبه نبيه صلى الله عليه وسلم, وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) (¬2). وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه - ت:35هـ - يدخل المسجد فيقف على الحلق فيقول: (يا معشر القراء، اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلال بعيداً) (¬3). وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلساً إلا ويحذر من الابتداع في الدين، فيقول: (الله حكم قسط هلك المرتابون، إن وراءكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن، والمنافق، والرجل, والمرأة, والصغير, والكبير، والعبد, والحر، فيوشك قائل أن يقول للناس: ألا تتبعوني، وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، ويقول المنافق كلمة الحق) (¬4). وقد بلغ من صفات عقيدتهم, وسلامة سلوكهم أنهم كانوا يقارنون الأحوال التي عاشوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحوال عصرهم المتأخر؛ حيث يقول أنس رضي الله عنه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات) قال أبو عبدالله: (يعني بذلك المهلكات) (¬5). ¬

(¬1) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/ 83). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/ 63). (¬3) رواه البخاري (7282). (¬4) رواه أبو داود (4611)، والحاكم (4/ 507). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه,. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)): مشهور، وصحح إسناده موقوفاً الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬5) رواه البخاري (6492).

لقد كان العهد الذي عاشوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل الكمال كله في مسائل العقيدة والشريعة، فلما ظهرت الفتن والأحداث العظيمة وأطلت البدع برأسها في أواخر حياتهم كانوا هم المرجع الذي رجع إليه علماء السلف في رد البدع، وأقوال أربابها المخالفة لمنهجهم الحق، ويمكننا إعطاء هذه الصورة الموجزة عن طبيعة البيان القرآني والنبوي في عرض الصفات الإلهية التي آمن بها الصحابة الكرام واعتقدوها الاعتقاد الحق؛ وهو المعتقد الحق الذي اعتقده التابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين, وهو المنهج الذي هيمن على جمهور الأمة بالرغم من كثرة فرق الابتداع التي طرحت بدعها المخالفة لهذا المنهج طرحاً معادياً لمعتقدهم وما أثر عنهم. - شمولية النصوص القرآنية لمسائل الأسماء والصفات: لقد حفل القرآن الكريم بذكر أسماء الله وصفاته وكمالاته إلى حد يفوق الحصر؛ فلا تكاد تخلو الآلاف من الآيات القرآنية من ذكر هذه الصفات والكمالات في أوائلها أوأثنائها، أو أواخرها، إما متناثرة في تلك الآيات، وإما بجمع بعضها لهذه الآيات وتلك، وبأساليب متنوعة، واحتفال القرآن بذكر صفات الله وكمالاته على هذه النحو حقيقة لا يخطئها من يقرأ القرآن ويتدبر آياته؛ بحيث لا يحتاج هذا الأمر إلى ذكر نماذج لهذه الحقيقة القرآنية لأنها تنتظم معظم آيات القرآن الكريم ولا يقتصر ذكر القرآن للصفات الإلهية على الآيات التي يكون موضوعها الحديث عن ذات الله وصفاته, بل كثيراً ما تختم بهذه الصفات الآيات التي يكون موضوعها الدعوة إلى عبادة الله تعالى وبيان هذه العبادات وآثارها الفردية والاجتماعية. أو الدعوة إلى الأخلاق الإسلامية الكريمة، والحض عليها، وبيان نتائجها, وأثارها, وكذلك الآيات التي تتناول نظام المجتمع في مختلف جوانبه السياسية، والاقتصادية, والاجتماعية, والتشريعية، فلا تكاد تخلو أغلب آيات القرآن الكريم التي ترافق عرض هذه الموضوعات من التذكير بصفات الله تعالى التي ينبني عليها ضرورة التمسك بهذه التوجيهات الإلهية والتحذير من مخالفتها، هذا بالإضافة إلى الآيات التي تتحدث عن اليوم الآخر بكل ما فيه من البعث، والحشر, والعرض، والجزاء, والجنة, والنار ترغيباً في ثواب الله ورضاه، وتحذيراً من غضبه، وعقابه, فعلى أساس الكثير من الصفات الإلهية التي تذكر في هذه الآيات يقوم الترغيب والترهيب وإثبات كل ما يتناوله اليوم الآخر من معتقدات. - إن هذا العرض الموسع للصفات الإلهية في الكتاب العزيز جعل الإيمان بها، وفهم المراد الإلهي منها مسألة بدهية، لا تحتاج إلى خوض فيها، أو شرح وزيادة بيان، وقد أوقف القرآن الكريم والسنة النبوية هذا العرض عند حدود معينة؛ حيث فيها إثبات للصفات بمعانيها المعروفة لغة, ولم يتعد ذلك إلى الكشف عن الكيفية, فالتزم الصحابة رضوان الله عليهم، بالمنهج القرآني والنبوي ولم يقعوا في النفي والتشبيه كما وقع غيرهم ممن لم يلتزم بهذا المنهج الرباني فاعتقدوا – رضوان الله عليهم- المعتقد الحق في الصفات الإلهية, وورث هذا المنهج الحق منهم التابعون وتابعوهم بإحسان.

- يلاحظ في العرض القرآني، والنبوي أن الإثبات جاء بصورة واسعة النطاق، وأن النفي جاء في مسائل محدودة لتنزيه الرب – سبحانه – عن النقائص التي نسبها إليه أهل الأديان السابقة والمشركون, فالإثبات مفصل, والنفي مجمل، وقد وضع القرآن الكريم الأساس المتين للصحابة رضوان الله عليهم، بتحذيرهم من حماقات الأمم السابقة، فقال سبحانه وتعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:106 - 107] وهذا المعتقد أي الإثبات المفصل للصفات الإلهية هو الذي اعتقده الصحابة والتابعون وتابعوهم بخلاف المبتدعة الذين امتدت ألسنتهم الآثمة إلى الصفات الإلهية بالتعطيل, والتأويل, والتشبيه، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته هذا التوحيد والقران مملوء منه، ولم يقل لهم كلمة واحدة تتضمن نفي الصفات, ولا قال ذلك أحد من الصحابة, والتابعين, وأئمة الدين, مع العلم الضروري بأنهم كانوا أعلم بمعاني القرآن منا، وإن ادعى مدع تقدمه في الفلسفة عليهم، فلا يمكنه أن يدعي تقدمه في معرفة ما أريد به القرآن عليهم، وهم الذين تعلموا من الرسول صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه، وهم الذين أدوا ذلك إلى من بعدهم قال أبو عبدالرحمن السلمي- ت:74هـ -: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن، عثمان بن عفان, وعبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم, والعمل) (¬1). ¬

(¬1) ابن تيمية ((نقض تأسيس الجهمية)) (1/ 220).

- فالإثبات المفصل هو ما قررناه من هيمنة الصفات الإلهية على معظم آيات الكتاب العزيز، والنفي المجمل يبين محدوديته هذا العرض الذي اقتبسناه من القرآن الكريم والسنة المطهرة، فقد عرض القرآن الكريم للتصورات الباطلة لليهود, والنصارى, والمشركين عن الله تعالى فقال سبحانه وتعالى عن بعض حماقات اليهود: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة:64]، وزعمت اليهود أن لله ولداً - سبحانه وتعالى عن قولهم- فقال سبحانه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ [التوبة:30]، وزعموا – لعنهم الله – أن الله فقير وهم أغنياء، قال تعالى: لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ [آل عمران:181] وقال تعالى رداً على مزاعم اليهود الذين قالوا: إنه استراح يوم السبت - سبحانه - عن ذلك: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [ق:38] , وقال تعالى رداً على شبه النصارى وأكاذيبهم: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:72]، وقال سبحانه رداً على هذه المزاعم الباطلة: مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [مريم:35] وقال تعالى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام:101]، وأبطل القرآن تصورات المشركين عن الإله الحق، فقال سبحانه: وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ [النحل:57] , وقال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ [الصافات:149] وقال تعالى: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور:39].

وقال تعالى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنْ الأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 150 - 182] وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58] وقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] وقال تعالى: اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] وقال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1 - 4] والسنة المطهرة اتبعت القرآن الكريم في الإثبات المفصل والنفي المجمل، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصرة من خلقه)) (¬1). وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله لا يخفى عليكم, إن الله ليس بأعور, وأشار بيده إلى عينه وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية)) (¬2) ¬

(¬1) رواه مسلم (179) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (7407).

- وقد آمن الصحابة رضوان الله عليهم، من خلال هذا العرض المفصل الواسع بأن آيات الصفات هي من المحكم وليست من المتشابه كما افترى المبتدعة فيما بعد، وهذا الإحكام جاء من خلال سهولة معانيها وإن السلف تعرضوا لتفسيرها التفسير الذي يثبت الصفة، ولا يتعرض لبيان الكيفية، يقول شيخ الإسلام بعد أن يعرض قول الرازي حول سورة الإخلاص يقول الرازي: (هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات, ولأنه تعالى جعلها جواباً عن سؤال السائل عند الحاجة وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات، وإذا ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلاً (¬1) قلت-شيخ الإسلام- كون هذه السورة من المحكمات، وكون كل مذهب يخالفها باطل هو حق لا ريب فيه، بل هذه السورة تعدل ثلث القرآن، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، وهي صفة الرحمن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، وعليها اعتمد الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض، والإمام أحمد، وغيرهم من أئمة الإسلام ... لكن سائر الآيات المذكورة فيها أسماء الله وصفاته؛ مثل آية الكرسي، وأول الحديد, وآخر الحشر ونحو ذلك هي كذلك- كل ذلك من الآيات المحكمات لكن هذه السورة ذكر فيها ما لم يذكر في غيرها من اسمه الأحد الصمد، ومثل نفي الأصول والفروع، والنظراء جميعاً، وإلا فاسمه الرحمن أنزله الله لما أنكر المشركون هذا الاسم, فأثبته الله لنفسه رداً عليهم، وهذا أبلغ في كونه محكماً من هذه السورة إذ الرد على المنكر أبلغ في إثبات نقيض قوله من جواب السائل الذي لم يرد عليه بنفي ولا إثبات) ((¬2) ويقول شيخ الإسلام أيضاً إن آيات الصفات من المحكم وليست من المتشابه: (إن الصحابة رضي الله عنهم، فسروا للتابعين القرآن كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أُوقفُه عند كل آية منه وأسأله عنها؛ ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وكان ابن مسعود يقول: (لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته) (¬3) وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقلوا عنه من التفسير ما لم يحصه إلا الله، والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها) (¬4). أما آيات الصفات فقد تعرض السلف لتفسير معناها المفهوم لغة، ووقفوا عند المعنى اللغوي ولم يتعدوه إلى الخوض في الكنه، أو القول بالنفي والتعطيل, فآيات الصفات إذاً هي من المحكم الذي فهم الصحابة معناه. ومن الملاحظ على بعض آيات الصفات أنها عرضت بصورة مميزة, وذلك من خلال وقائع وأحداث عاصرها الصحابة رضوان الله عليهم، فكانت تلك التعقيبات التي تربط الحديث بالصفات الإلهية مصدر إيمان، ويقين، وفهم كامل لمراد الله عز وجل. ¬

(¬1) [2458] انتهى هنا كلام الرازي (¬2) ابن تيمية ((نقض تأسيس الجهمية)) (1/ 261). (¬3) رواه مسلم (2463). (¬4) ابن تيمية ((القاعدة المراكشية)) (ص: 31 - 32)

وسوف نعرض لجملة من هذه الأحاديث التي عرضت فيها الصفات الإلهية وكان للصحابة منها مواقف وتعقيبات تنم عن تمام الفهم، واليقين الكامل بها، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284] , قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بركوا على الركب. فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق. الصلاة, والصيام, والجهاد, والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية. ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم. فأنزل الله في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى. وأنزل الله عز وجل: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، قال: نعم، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، قال: نعم، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، قال: نعم، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286] قال: نعم.)) (¬1) لقد كان هذا الفهم منبعه التأثر بصفة من أعظم صفاته سبحانه وهي العلم، علمه بما يبدون، وما يكتمون, فخافوا من ذلك أشد الخوف, وهذا يبين عمق الفهم للمعاني وملاحظتها بما يخصهم في دينهم, وما يرضي ربهم, فلما علم سبحانه، منهم هذا الإيمان الصادق زادهم إيماناً ويقيناً به, فقد روى مسلم عن ابن عباس قال: ((لما نزلت هذه الآية: لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]. قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: سمعنا وسلمنا، قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم .. )) (¬2). وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه – يشير إلى رباعيته -، اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله)) (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم (125). (¬2) رواه مسلم (126). (¬3) رواه البخاري (4073)، ومسلم (1793).

وروى البخاري ذلك الخبر أيضاً على لسان ابن عباس – رضي الله عنهما- أنه قال: ((اشتد غضب الله على من قتله النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬1) فأي فهم يكون من هؤلاء الصحابة – رضوان الله عليهم- في هذه الساعات العصيبة من المفهوم اللغوي للعبارة، ولكنه غضب يليق بجلاله وكماله، فلم يخطر على بالهم تشبيه ذلك بغضب المخلوقين، أو خطر على بالهم أن يؤولوه، أو يعطلوه، رضوان الله عليهم. ويوجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى معنى صفة السمع، وأن الله سبحانه سميع قريب، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر: فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائباً، تدعون سميعاً قريباً)) (¬2) وفي رواية مسلم قال: ((إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) (¬3). ومن تمام فهم الصحابة للصفات الإلهية أن عائشة رضي الله عنها قالت: ((الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1])) (¬4) فكان هذا التعجب نابعاً من وصف الرب سبحانه بأعظم صفات الكمال، وهذا هو التفريق بين الصفات الإلهية وصفات المخلوقين على لسان هذه الصحابية الجليلة التي تمثل هذا الجمع الكبير الذي يؤمن بالصفات الإلهية هذا الإيمان الحق، وكانوا رضوان الله عليهم يحبون صفات ربهم، ويتقربون إليه بهذا الحب، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع هذا فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله – عز وجل- يحبه)) (¬5)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] قال: وسماني؟ قال: نعم, فبكى)) (¬6). وروى البخاري عن أنس قال: ((جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك, قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئًا لكتم هذه، فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (4074). (¬2) رواه البخاري (6384). (¬3) رواه مسلم (2704). (¬4) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم بعد حديث (7385)، ورواه موصولاً النسائي (6/ 168)، وابن ماجه (188)، وأحمد (6/ 46) (24241). قال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163)، وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 339)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬5) رواه البخاري (7375)، ومسلم (813). (¬6) رواه البخاري (4959)، ومسلم (799). (¬7) رواه البخاري (7420).

ومما يبين عمق الفهم، وسرعة التفاعل مع الصفات التي أثرت في إيمان وحياة الصحابة رضوان الله عليهم، ما رواه البخاري ومسلم في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، والله لا أنفق على مسطح شيئاً بعد ما قاله لعائشة، فأنزل الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22] فقال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه)) (¬1). وهكذا لو بحثنا عن مواقف الصحابة لوجدناها قد ألمت إلماماً كبيراً في الصفات ومعانيها, وظهرت آثارها على حياتهم وجميع تصرفاتهم, ولعل الوقائع العظيمة من الغزوات التي غزاها الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والآيات التي نزلت بشأنها والتي تنتهي تعقيباتها بالصفات الإلهية, هي من هذا الجانب الذي نرى أنها هيمنت عليه, فكانوا بأعلى درجات الفهم والإيمان واليقين, وعندما تجلى هذا الجانب في تصوراتهم بهذه الضخامة والشمول استغنوا عن السؤال والبحث والتنقير عنه، ومع ضخامة هذا العرض وشموليته في القرآن والسنة فقد غشيت أبصار المبتدعة عنه تماماً, وقاموا بالبحث والتنقير على غير الهدى الرباني, وفتحوا أبواب الشرور على الأمة في أخص مسائل الألوهية, وهي مسائل الصفات التي حسمت مادة الاعتقاد بها على الصورة التي وقف عندها الصحابة, والتابعون, وتابعوهم الذين يمتدح طريقتهم الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله فيقول: (قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافد قد كفوا، وإنهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، ولقد تكلموا منه بما يكفي, ووصفوا منه ما يشفي, فما دونه مقصر, وما فوقهم مجسر, لقد قصر عنهم قوم فجفوا, وطمح آخرون عنهم فغلوا, وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم) (¬2). وكانوا – رضوان الله عليهم- يكرهون التعمق والتكلف؛ فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنا عند عمر، فقال: نهينا عن التكلف)) (¬3) فإذا كان عمر رضي الله عنه يروي النهي عن التكلف فمن باب أولى أن ينتهوا عن الخوض في الصفات بما لا يحل, وإنما وقفوا عند الحد الذي وقف عنده الكتاب والسنة بعيداً عن القول بالوصف والكيفية، أو النفي والتعطيل. ¬

(¬1) رواه البخاري (2661)، ومسلم (2770). (¬2) رواه عبدالله بن أحمد في ((زوائد الزهد)) (ص: 296)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 338، 339). (¬3) رواه البخاري (7293).

ويوضح ابن الوزير كيف أن الصحابة فهموا الصفات الإلهية من خلال تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لهم حيث يقول: (التسليم لقول الله تعالى ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، وتابعيهم الناقلين إلينا شريعته عليه السلام، وأن لا نتهم منهم أحداً لثبوت عدالتهم في سائر لوازم الشريعة، فإنهم نقلوها عن معدن النبوة، وعنصر الرسالة, ولنعلم أن البيان لا يجوز تأخيره عند الحاجة, وقد بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ما أرسله الله تعالى به حتى قال فلان: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فقال الصحابي: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين, أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار, أو أن نستنجي برجيع أو بعظم) (¬1). وحتى قال عليه السلام في خطبة الوداع: ((إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ذو القعدة, وذو الحجة، ومحرم، ورجب - مضر- الذي بين جمادي وشعبان)) (¬2) هذا فيما لا يضر جهله كيف في أمر التوحيد, فلو علم أن الحاجة داعية إلى تأويل صفات الله، وأنه يلزم الخلق كيفية معرفتها لما وسعه إلا البيان, وفي عدم ذلك دليل على كذب مدعيه, فلا يرفع أحد طرفه إلى كيفية معرفة صفات الله تعالى من قبل عقله إلا غضه الدهش والحيرة, فانقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسير، فهذا ما يجب على المسلمين أن يؤمنوا به جملة, وأن يحيطوا به تفصيلاً) (¬3) ¬

(¬1) رواه مسلم (262). من حديث سلمان رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (3197)، ومسلم (1679). من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (¬3) ((العواصم والقواصم)) (3/ 370).

- ومن خصائص إيمان الصحبة رضوان الله عليهم، بجانب فهمهم الواضح لها أنهم لم يتنازعوا بأي منها، وقد تنازعوا في آيات الأحكام, ولم يؤثر وجود أي نزاع بينهم في الصفات الإلهية, وهذا راجع إلى كمال فهمهم لها، يقول ابن القيم رحمه الله: (وقد تنازع الصحابة في تأويل قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237] , هل هو الأب, أو الزوج, وتنازعوا في تأويل قوله تعالى: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء [النساء:43] هل هو الجماع, أو اللمس باليد, والقبلة ونحوها، وتنازعوا في تأويل قوله تعالى: وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ هل هو المسافر يصلي بالتيمم مع الجنابة, أوالمجتاز بمواضع الصلاة، كالمساجد وهو جنب, وتنازعوا في تأويل ذوي القربى المستحقين الخمس هل هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو قرابة الإمام, وتنازعوا في تأويل قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] , هل يدخل فيه قراءة الصلاة الواجبة أم لا, وتنازعوا في تأويل قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] هل يتناول اللفظ الحال, أو هل للحمل فقط, وتنازعوا في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] هل يدخل فيه ما مات في البحر أم لا, وتنازعوا في تأويل الكلالة, وفي تأويل قوله تعالى: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ [النساء:11]، وأمثال ذلك, ولم يتنازعوا في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها, مع فهم معانيها وإثبات حقائقها, وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بياناً, وأن العناية ببيانها أهم لأنها من تمام تحقيق الشهادتين, وإثباتها من لوازم التوحيد, فبينها الله ورسوله بياناً شافياً لا يقع فيه لبس ولا إشكال يوقع الراسخين في العلم في منازعة ولا اشتباه, ومن شرح الله لها صدره, ونور لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهر من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها, ولهذا فإن آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس, وأما آيات الأسماء والصفات فيشترك في فهمها الخاص والعام، أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه، والكيفية, ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وأمثالها من آيات الصفات, وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة، ولم يشكل عليه أول الحديد، وآخر الحشر, وأول سورة طه، ونحوها من آيات الصفات، وأيضاً فإن بعض آيات الأحكام مجملة عرف بيانها بالسنة كقوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196] , فهذا مجمل في قدر الصيام والإطعام, فبينته السنة بأنه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين, أو ذبح شاة، وكذلك، قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] مجمل في مقدار الطواف فبينته السنة بأنه سبع, ونظائره كثيرة كآية السرقة، وآية الزكاة, وآية الحج، وليس في آيات الصفات، وأحاديثها مجمل يحتاج إلى بيان من خارج بل بيانها فيها, وإن جاءت السنة بزيادة في البيان, والتفصيل؛ فلم تكن آيات الصفات مجملة محتملة لا يفهم المراد منها إلا بالسنة بخلاف آيات الأحكام) (¬1). العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - بتصرف - ص: 81 - 98 ¬

(¬1) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 208 - 212).

المبحث السابع: الرد على الأفكار الخاطئة حول عقيدة الصحابة والتابعين في الصفات

تمهيد: من الأمور الهامة التي تستوقف الباحث أن أول من أظهر الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المنتسبين لهذه الأمة هم المنافقون الذين ظهرت من خلالهم فرق الابتداع والمبتدعة, وأولهم ذو الخويصرة أول الخوارج؛ الذي خرج من ضئضئه حرقوص بن زهير، وذي الثدية، وجمهور الخوارج الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه, ثم على علي رضي الله عنه, وقالوا بتكفيرهم، وتكفير الصحابة, ثم عبدالله بن سبأ وأتباعه السبئية الذين اتخذوا شعار التشيع؛ حيث قالت الخوارج بتكفير عثمان, وعلي, وطلحة, والزبير, وعائشة ومن عاش في زمانهم من الصحابة فاستدركت عليهم الشيعة، فتناولت أبا بكر، وعمر, وجمهور الصحابة, ولتغطية سؤتها في كراهيتهم تولت أربعة منهم فقط بجوار علي رضي الله عنه. ثم عندما برز قرن المرجئة المبتدعة خاضوا في الأحداث التي وقعت بين الصحابة رضوان الله عليهم، مخالفين لجمهور الأمة، وقالوا بالتوقف فيهم، ثم عندما ظهرت المعتزلة على يد واصل بن عطاء، وقرينه في الضلالة عمرو بن عبيد قالوا: بتفسيق الصحابة عليهم رضوان الله، وصار مثل هؤلاء الحيارى المتهوكون يطلقون ألسنتهم العلية للطعن على خير خلق الله عز وجل, حتى أن عمرو بن عبيد كان يقول عن عبدالله بن عمر إنه حشوي (¬1)، ثم تعمقت خطة أعداء الأمة ببروز الجعدية، والجهمية, وغلاة الشيعة, والقرامطة, وفلاسفة المعتزلة الذين توجهوا للعقائد التي اعتقدها الصحابة بصفاء وكمال تام, فقاموا بالإنكار والطعن وإلصاق الأباطيل بهم، والزعم بأنهم كانوا لا يفهمون معاني الصفات, فقام هؤلاء المبتدعة بالتأويل والتعطيل، والنفي والتشبيه لإثارة الشكوك والبلبلة في صفوف الأمة, حتى قيض الله لهم من رد هجمتهم الظالمة التي كانت تهدف إلى تجريد معاني الألوهية من نفوس المسلمين, والعمل على سيادة منهجها الظالم عندما استخدمت المأمون, والمعتصم, والواثق, في امتحان علماء الأمة طمعاً منهم في زعزعة قداسة القرآن من نفوس المسلمين, وإعادتهم إلى الجاهلية, ولكن الله عز وجل أعز دينه بصمود علماء السلف وعلى رأسهم إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله وجزاه الله خيراً، - فعاد الخزي والعار على المعتزلة ومن شايعهم من فرق الضلال. ومن هنا، فإن أغلب الأفكار الخاطئة التي أثيرت قديماً وحديثاً عن عقيدة الصحابة رضوان الله عليهم، فهي تنبع من هذه المستنقعات العفنة من المعتزلة, والشيعة, والخوارج, والمرجئة, والمشبهة, والقدرية, الذين انبرى لمناصرتهم فئة من الكتّاب المعاصرين تحت مسميات براقة، وكأن المغيرين تداعوا من جديد عندما شاهدوا الصحوة الإسلامية تنمو وتتلمس طريق السلف في المعتقد والسلوك, فقاموا بإشاعة أباطيل الفرق الضالة في قوالب جديدة, وأصبح الشباب المسلم في حيرة واضطراب, ولكن الله عز وجل منجز وعده وناصر دينه, بإذنه تعالى: وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21] وقد سبق أن تعرضت لعقيدة الصحابة في الصفات, وأنهم كانوا أعظم الناس فهماً, وسوف نعرض فيما يلي لجملة من الشبه التي أثارها أعداء الصحابة لإبطالها، وبيان زيفها، وأهداف القائلين بها، وذلك أن هؤلاء المبتدعة عندما ألجأتهم بدعهم المنحرفة لمثل هذه المقالات أرادوا تسويقها بين الناس, فقاموا بإلصاقها بالصحابة، وحاشاهم رضوان الله عليهم، أن يميلوا عن الطريق القويم الذي اختطه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: 191 ¬

(¬1) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (2/ 520).

المطلب الأول: شبه القائلين بأن الصحابة والتابعين كانوا يؤولون الصفات والرد عليها

المطلب الأول: شبه القائلين بأن الصحابة والتابعين كانوا يؤولون الصفات والرد عليها التأويل بالمعنى المبتدع أول من استخدمه كسلاح لتعطيل النصوص هم فرق الابتداع الذين أخذوه بدورهم عن اليهود حيث ذكر القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران:7] , أن جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك الم فإن كنت صادقاً في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة، لأن الألف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون فنزل: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران:7] (¬1) ثم جاء عبدالله بن سبأ واتبع منهج من سبقه وبنى بدعته الهدامة على تأويل آي القرآن، حيث قال: (لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمداً يرجع، وقد قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [القصص:58] فمحمد أحق بالرجوع من عيسى)، قال: فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة ... ) (¬2) وتتابعت حلقات المبتدعة، فوجدت في هذا المنهج سلاحاً يخدم أغراضها الخبيثة للي أعناق النصوص لتأييد باطلها, فكانت تلك الانحرافات التي جاء بها الشيعة مبنية على التأويل الباطل للنصوص, وعندما ظهرت المرجئة استخدمت نفس هذا المنهج وكذلك القدرية, والمعتزلة, والخوارج, والجهمية, فأصبح التأويل الباطل مأوى لكل من يريد الخروج على عقيدة الأمة وشريعتها, فهم لم يكتفوا بالتأويل في مسائل العقيدة, وإنما امتدت أيديهم الآثمة لتأويل جميع مسائل الشريعة بقصد تعطيلها وتوهينها في نفوس الناس. - والتأويل في عرف السلف هو التفسير؛ حيث يقول الإمام الطبري: (إن الصحابة رضوان الله عليهم – كانوا يفهمون معاني القرآن, وتأويله، وتفسيره بما يوافق الطريقة النبوية في الإثبات، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن (¬3) وعنه قال: وله الذي لا إله غيره، ما نزلت آية في كتاب الله، إلا أعلم فيما نزلت, وأين نزلت, ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته) (¬4). فالتأويل في لفظ السلف كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (له معنيان: أحدهما تفسير الكلام، وبيان معناه سواء وافق ظاهره، أو خالفه, فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقارباً، أو مترادفاً وهذا والله أعلم هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله ومحمد بن جرير الطبري عندما يقول في تفسيره، القول في تأويل قوله كذا وكذا, واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك ومراده التفسير، والمعنى الثاني في لفظ السلف هو نفس المراد بالكلام فإن الكلام إن كان طلباً كان تأويله نفس المطلوب وإن كان خبراً كان تأويله نفس الشيء المخبر به) (¬5). ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (4/ 15). (¬2) ((تاريخ الأمم والملوك)) للطبري (2/ 647)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 77). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (1/ 44). (¬4) ((تفسير الطبري)) (1/ 35 - 36) بتصرف. (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 288 - 289).

ويقول في موضع آخر: (إن لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه, وإن كان موافقاً لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر, ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه وإن كان موافقاً له, وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين؛ كمجاهد وغيره، ويراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لدليل يقترن بذلك, وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعنى إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذه المعنى، بل يريدون بالتأويل المعنى الأول والثاني) (¬1). - أما التأويل الباطل الذي قالت به فرق الابتداع فهو (صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه، فهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف، وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه, فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل) (¬2). ويقول ابن القيم – رحمه الله –: (وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل صرف اللفظ عن ظاهره وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول، والفقه، ولهذا يقولون: التأويل على خلاف الأصل، والتأويل يحتاج إلى دليل وهذا التأويل هو الذي صنف في تسويغه وإبطاله من الجانبين, فصنف جماعة في تأويل آيات الصفات وأخبارها كأبي بكر بن فورك- ت 406هـ -، وابن مهدي الطبري -380هـ - وغيرهما, وعارضهم آخرون فصنفوا في إبطال تلك التأويلات كالقاضي أبي يعلي- ت 4548 - ، والشيخ موفق الدين بن قدامة- ت620 - ، وهو الذي حكى عن غير واحد إجماع السلف على عدم القول به) (¬3). - وإذا كانت فرق الابتداع على مختلف مشاربها لم تنسب القول بالتأويل فيما أعلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه الكرام فإن ببعض المعاصرين تجرأوا بدافع التعصب إلى مذاهبهم فنسبوا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, وصحابته الكرام, حيث يقول ابن خليفة عليوي: (سنجعل قدوتنا في التأويل رسول الله وصحابته الكرام, والتابعين ومن سار على هديهم من أئمة الإسلام الأعلام إلى يوم الدين!! ويقال هنا: هل الرسول صلى الله عليه وسلم أول الاستواء على العرش أم لا، وإذا كان عليه الصلاة والسلام، قد أول أعسر كلمة يمكن أن يستعصي فهمها على الأمة فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى أمته باقتفاء أثره بتأويل كل ما يوهم ظاهره التجسيم!! والسؤال هنا هل يوجد دليل على ما قلته: نعم، ها هو الدليل – جاء في كتاب العلو للذهبي – حديث سمعناه من أحمد بن هبة الله عن أبي رزين العقيلي، قال: قلت يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض، قال: ((كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء ثم خلق العرش، ثم استولى عليه)) (¬4). فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوَّل قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] بقوله: ثم استولى عليه، وبذا يكون المؤولون قد اقتفوا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم بصرف كل لفظ عن ظاهره يفهم منه التجسيم إلى لفظ آخر يفني عنه ذلك، وسواء أكان الحديث صحيحاً أم ضعيفاً فلا أقل من أن يحمل على التفسير، وحينئذ لا يخرج عن التأويل) (¬5). ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 14). (¬2) ((الصفدية)) لابن تيمية (1/ 291). (¬3) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 179). (¬4) رواه الذهبي في (العلو) (26). وقال: رواه الترمذي وابن ماجه، وإسناده حسن. (¬5) ((هذه عقيدة السلف والخلف)) (ص:87) لابن خليفة عليوي.

ثم ينسب القول بالتأويل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فيقول: (فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام، قد فسر الاستواء بالاستيلاء؛ فهذا هو التأويل بعينه، وقد علمت أن السلف الصالح وعلى رأسهم حبر هذه الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قد أول كثيراً من الصفات، وهو أحق بالتأويل من كافة الأمة، لاختصاصه به بفضل دعاء الرسول له بالتأويل بقوله: ((اللهم علمه الحكمة)) (¬1)، ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) (¬2) وبذا يعلم أن التأويل ليس مذموماً، إذ لو كان كذلك لم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس به، ومن أجل هذا رأت الأمة اقتفاء أثر السلف الصالح في التأويل في كل لفظ يوهم ظاهره التجسيم) (¬3) أما حسن السقاف – محقق كتاب دفع شبه التشبيه، لابن الجوزي- فيقول: (أوّل ابن عباس قوله – تعالى - يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42]، فقال: يكشف عن شدة، فأول الساق بالشدة ذكر ذلك الحافظ بن حجر في فتح الباري 13/ 428، والحافظ بن جرير الطبري في تفسيره، حيث قال في صدر كلامه على هذه الآية: قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر شديد قلت: - أي السقاف -: ومنه يتضح أن التأويل كان عند الصحبة والتابعين وهم سلفنا الصالح) (¬4) - وللرد على هذه الأباطيل نقول أولاً: مما يؤسف له أن المتأخرين قد بلغت بهم الجرأة على قول ما لم يقله أسلافهم الأوائل، فإن الأوائل كانوا يقرون في أنفسهم أن التأويل هم الذين قالوا به, ولم ينسبوه فيما أعلم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام، وذلك بسبب تقاصر أفهامهم عن مستوى الصحابة والتابعين في اليقين والفهم, ولعدم سعة صدورهم وعقولهم لتقبل الوحي الرباني بنصوصه الواضحة السهلة الميسرة. ولكن المتأخرين عندما شاهدوا الصحوة الإسلامية تتلمس طريق السلف وتأخذ بمعتقدهم الحق والسهل طارت عقولهم، فخافوا على هذا البناء الهش الذي أقامه المتكلمون أن ينهار، فقامت بطرح هذه الدعاوى الباطلة المزيفة. ثانياً: ومما يبين أن القوم فقدوا صوابهم أن عليوي قد زور الحديث، وزاد فيه من عنده؛ ليوافق مذهبه الباطل في التأويل فإن الحديث هذا هو لفظه: قال أبو رزين العقيلي قلت: ((يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: كان في عماء, ما تحته هواء, وما فوقه هواء, ثم خلق عرشه على الماء)) (¬5) وفي رواية للإمام أحمد ((ثم خلق العرش ثم استوى عليه – تبارك وتعالى)). فلا يوجد في الحديث ما زعمه زوراً وبهتاناً عن أكذوبة الاستيلاء. ¬

(¬1) رواه البخاري (3756). (¬2) رواه البخاري (143) دون لفظ: ((وعلمه التأويل))، وأحمد (1/ 266) (2397)، وابن حبان (15/ 531) (7055)، والحاكم (3/ 615). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (8/ 300): منهم من أرسله والمتصل هو الصحيح، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 29): متفق عليه دون قوله: ((وعلمه التأويل))، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 279): لأحمد طريقان رجالهما رجال الصحيح. (¬3) ((هذه عقيدة السلف والخلف)) (ص:80) لابن خليفة عليوي. (¬4) ((دفع التشبيه بأكف التنزيه)) (ص: 11) لابن الجوزي. (¬5) رواه الترمذي (3109)، وابن ماجه (182)، وأحمد (4/ 11) (16233)، وابن حبان (14/ 8) (6141). قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الذهبي في (العلو) (26): رواه الترمذي وابن ماجه، وإسناده حسن.

ثالثاً: زعم عليوي أن هذا الحديث في كتاب العلو للذهبي – رحمه الله- وقد بحثت عن الحديث في المطبوعة التي حققها فضيلة الشيخ الألباني، فلم أجد هذا الحديث فضلاً عن الزيادة التي أضافها من عنده ولا حول ولا قوة إلا بالله. رابعاً: زعم عليوي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس بأن يعلمه التأويل، ونحن نرى أن التأويل هو التفسير وليس التأويل الذي ذهب إليه المبتدعة، مع أن روايتي البخاري ومسلم ليس فيهما أي إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بأن يعلمه التأويل, فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ((دخل الخلاء, فوضعت له وضوءاً, وقال من وضع هذا؟ فأخبر, فقال: اللهم, فقهه في الدين)) (¬1). خامساً: أما ما ذكره السقاف من تأويل ابن عباس للساق، فهذا ليس من التأويل المبتدع الذي قالت به فرق الابتداع, فإن هذه الآية قد اختلف السلف في تفسيرها, وليس هناك بينهم أي خلاف بإثبات الصفة نفسها حيث يبطل شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الزعم بهذه الشهادة العظيمة فيقول: (إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما ورد في الحديث ووقفت من ذلك ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مئة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات، أو أحاديث الصفات, بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف, بل إن عنهم في تقرير ذلك وتثبيته وبيان ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله, وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير, وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42] , فروى ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة: أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة, وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدُّوها من الصفات, للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين, ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها المعروف) (¬2). وقال القاضي أبو يعلى: (ودليل آخر على إبطال التأويل أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغاً، لكانوا أسبق إليه لما فيه من إزالة التشبيه، ورفع الشبه، بل قد روي عنهم ما دل على إبطاله) (¬3). وقال المقريزي رحمه الله مفصلاً مذهب الصحابة والتابعين في الصفات: (إنه لم يرد قط من طريق صحيح، ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم، وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات, نعم، ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات، أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم, والقدرة, والعظمة، وساقوا الكلام واحداً، وهكذا أثبتوا، رضي الله عنهم ما أطلقه الله عز وجل، على نفسه الكريمة من الوجه واليد، ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه, ونزهوا من غير تعطيل, ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم شيء من الطرق الكلامية, ولا مسائل الفلسفة, فقضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا) (¬4). وهكذا تسقط دعوى المبطلين الذين راموا تسويق بضاعتهم المزجاة، عن طريق نسبة مبتدعاتهم إلى خير الله بعد الأنبياء والرسل، فلم يكن لهم حاجة رضوان الله عليهم إلى التأويل أو غيره، فهم الذين نزل القرآن وهم أحياء يسمعونه من رسول الله غضًّا طريًّا، وعاصروا أحداثه التي قيلت فيها آيات القرآن كلها، وصفات ربهم سبحانه كانوا لتوقيرها, والإيمان بها, والتعبد بها أعظم, وأجل، ولو أشكل عليهم شيء مما قاله المبلطون؛ لسألوا ولأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت أعظم مهماته تعريفهم بربهم المعبود بوحدانيته، وأسمائه, وصفاته. العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: 193 ¬

(¬1) رواه البخاري (143)، ومسلم (2477). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 394) (¬3) أبو يعلى ((إبطال التأويلات لأخبار الصفات)) (ص:71) ت محمد النجدي ط1، الكويت (¬4) ((المواعظ والاعتبار)) للمقريزي (2/ 356).

المطلب الثاني: شبهة القائلين بأن الصحابة والتابعين كانوا يفوضون معاني الصفات والرد عليها

المطلب الثاني: شبهة القائلين بأن الصحابة والتابعين كانوا يفوضون معاني الصفات والرد عليها وممن زعم هذه الشبهة الشهرستاني؛ حيث يقول: (اعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى، صفات أزلية من العلم، والقدر, الحياة, والإرادة, والسمع, والبصر, والكلام, والجلال, والإكرام, والجود, والإنعام, والعزة, والعظمة, ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل, بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً, وكذلك يثبتون صفات خبرية، مثل اليدين، والوجه، ولا يؤولون ذلك، إلا أنهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية، ولما كان المعتزلة ينفون الصفات, والسلف يثبتونها سمي السلف صفاتية, والمعتزلة معطلة, فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات، واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها، وما ورد به الخبر، فافترقوا فرقتين: فمنهم من أوله على وجه يحتمل ذلك اللفظ, ومنهم من توقف في التأويل، وقال عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يشبه شيئاً من المخلوقات, ولا يشبهه منها شيء, وقطعنا بذلك، إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيها؛ مثل قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ومثل قوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، ومثل قوله: وَجَاء رَبُّكَ [الفجر:22]، إلى غير ذلك, ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له، وليس كمثله شيء، وذلك قد أثبتناه يقيناً, ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قله السلف، فقالوا لا بد من إجرائها على ظاهرها، فوقعوا في التشبيه الصرف؛ وذلك على خلاف ما اعتقده السلف) (¬1). وقال السيوطي: (وجمهور أهل السنة، منهم السلف، وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى, ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها) (¬2). ويقول حسن السقاف: (وبقيت مسألة، ولا شك أن السلف كانوا يفوضون الكيف والمعنى، وهو المراد بالتفويض عند إطلاقه بلا شك) (¬3). هذه بعض أقوال من نسبوا التفويض إلى السلف، رضوان الله عليهم، حيث يلمح من عبارة الشهرستاني أن السلف تطور مذهبهم من الإثبات إلى القول بالتأويل أو التفويض، وهذا زعم باطل لا أساس له فإن السلف، وأولهم الصحابة رضوان الله عليهم مذهبهم الإثبات ما حادوا عنه إلى قول من الأقوال المبتدعة، وكذلك فعل السيوطي عندما أغفل مذهب السلف المثبت لمعاني الصفات مع عدم تعرضهم للكيفية. ويذكر شيخ الإسلام سبب نشوء هذه الشبهة فيقول عن المفوضة: (هم طائفة من المنتسبين إلى السنة، وأتباع السلف، تعارض عندهم المعقول والمنقول، فأعرضوا عنها جميعاً بقلوبهم وعقولهم، بعد أن هالهم ما عليه أصحاب التأويل من تحريف للنصوص، وجناية على الدين، فقالوا في أسماء الله وصفاته، وما جاء في ذكر الجنة والنار, والوعد والوعيد إنها نصوص متشابهة لا يعلم معناها إلا الله تعالى وهم طائفتان من حيث إثبات ظواهر النصوص ونفيها، الأولى تقول: المراد بهذه النصوص خلاف مدلولها الظاهر، ولا يعرف أحد من الأنبياء, ولا الملائكة, ولا الصحابة, ولا أحد من الأمة، ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة. الثانية تقول: بل تجري على ظاهرها، وتحمل عليه، ومع هذا، فلا يعلم تأويلها إلا الله تعالى فتناقضوا؛ حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وقالوا، مع هذا بأنها تحمل على ظاهرها. ¬

(¬1) الشهرستاني ((الملل والنحل)) (ص: 92 - 93) ت عبدالعزيز الوكيل، دار الفكر. (¬2) السيوطي ((الإتقان في علوم القرآن)) (2/ 6) 1973، لبنان. (¬3) ابن الجوزي ((دفع شبه التشبيه)) (ص:21) مقدمة المحقق.

وهم أيضاً طائفتان؛ من حيث علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاني النصوص الأولى تقول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم معاني النصوص المتشابهة، لكنه لم يبين للناس المراد منها، ولا أوضحه إيضاحاً يقطع النزاع، وهذا هو المشهور عنهم، والثانية تقول: وهم الأكابر منهم، أن معاني هذه النصوص المتشابهة لا يعلمها إلا الله، لا الرسول، ولا جبريل، ولا أحد من الصحابة، والتابعين, وعلماء الأمة، وعند الطائفتين أن هذه النصوص إنما أنزلت للابتلاء، والمقصود منها تحصيل الثواب بتلاوتها، وقراءتها، من غير فقه، ولا فهم) (¬1). وقد اشتبه على بعض المعاصرين قول بعض السلف (أمرّوها كما جاءت) فظنوا أن هذا القول موافق لمذهب القائلين بالتفويض (¬2) ويبطل شيخ الإسلام هذه الدعوى، فيقول: (والمقصود هنا التنبيه، على أصول المقالات الفاسدة التي أوجبت الضلالة في باب العلم، والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأن من جعل الرسول غير عالم بمعاني القرآن الذي أنزل إليه، ولا جبريل جعله غير عالم بالسمعيات، ولم يجعل القرآن هدى، ولا بياناً للناس, وهم مخطئون فيما نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, وإلى السلف من الجهل كما أخطأ في ذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة، وسائر أصناف الملاحدة) (¬3). ثم ذكر قول الأوزاعي: (كنا والتابعون متوافرون، نقول إن الله تعالى ذكره، فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته) (¬4) ونسب للأوزاعي, ومكحول, والزهري، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد قولهم عن الأخبار التي جاءت في الصفات, فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيف (¬5)، فقولهم رضي الله عنهم: (أمروها كما جاءت) رداً على المعطلة، وقولهم: بلا كيف رداً على الممثلة، وكان مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: (قال عمر بن عبدالعزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها, من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور, ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً) (¬6). ¬

(¬1) ابن تيمية ((مجموع الفتاوى)) (16/ 442). (¬2) انظر ابن الجوزي ((دفع شبه التشبيه)) (22)، لكلام المحقق. (¬3) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (5/ 38). (¬4) رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/ 304) (865). قال الذهبي في ((تذكرة الحفاظ)) (ص: 182): إسناده صحيح. (¬5) ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (2/ 377)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) لللالكائي (3/ 582)، و ((التمهيد)) (4/ 149) (¬6) رواه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 357)، والآجري في ((الشريعة)) (ص:46).

وعندما سئل مالك بن أنس، عن الاستواء أثبت المعنى، وترك القول بالكيفية، فقد جاءه رجل، فقال: يا أبا عبدالله, الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] , كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، ثم أمر به أن يخرج (¬1)، فقول مالك وربيعة موافق لقول الباقين أمرّوها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم، وأيضاً فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية, إذا أثبت الصفات، وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية، لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير المراد, أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة, وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت, ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول (¬2). وقال أبو الفضل إسحاق بن أحمد بن غانم العلثي (ت634هـ) في رسالة إلى عبد الرحمن بن الجوزي ينكر عليه أشياء، ومن جملتها التأويل، وزعمه أن جماعة من السلف فوضوا معنى الصفات، قال: (ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى كأنها صدرت لا من صدر سكن فيه احتشام العلي العظيم، ولا أملاها قلب مليء بالهيبة والتعظيم، وزعمت أن طائفة من أهل السنة الأخيار تلقوها، وما فهموا وحاشاهم من ذلك بل كفوا عن الثرثرة، والتشدق، ولا عجزاً بحمد الله عن الجدال والخصام, ولا جهلاً بطرق الكلام, وإنما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علم ودراية لا عن جهل وعماية) (¬3). ويرى شيخ الإسلام أن القول بالتفويض يفضي إلى (القدح في الرب جلا وعلا وفي القرآن الكريم، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بأن يكن الله تعالى أنزل كلاماً لا يفهم, وأمر بتدبر ما لا يتدبر, وبعقل ما لا يعقل, وأن يكون القرآن الذي هو النور المبين والذكر الحكيم سبب لأنواع الاختلافات، والضلالات، بل يكون بينهم، وكأنه بغير لغتهم، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ البلاغ المبين، ولا بين للناس ما نزل إليهم، وبهذا يكون قد فسدت الرسالة، وبطلت الحجة، وهو الذي لم يتجرأ عليه صناديد الكفر) (¬4). وهكذا تبدو لنا خطورة القول بالتفويض الذي رده علماء السلف، وجعلوه بدعة تقابل بدعة التأويل، وأن القول به هو إزراء بمقام النبوة، ومقام الصحابة، وسلف الأمة جمعاء؛ فهموا مراد ربهم، وعبدوه العبادة الحقة، وآمنوا بأسمائه، وصفاته كما جاءت في الكتاب والسنة، وهم فوق جميع أهل العقول، والأفهام لا يدانيهم في هذه المكانة أحد على الإطلاق كما قال الإمام الشافعي، رحمه الله، (إنهم فوقنا في كل عقل, وعلم، وفضل، وسبب ينال به علم, أو يدرك به صواب، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) (¬5). العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: 200 ¬

(¬1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 398)، وابن قدامة في ((إثبات صفة العلو)) (ص: 28). (¬2) ابن تيمية ((مجموع الفتاوى)) (5/ 38 - 41) بتصرف، وانظر د. رضا نعسان، ((علاقة الإثبات والتفويض بصفات رب العالمين)) (ص: 69) ط3، مكة المكرمة. (¬3) ((الذيل على طبقات الحنابلة)) لابن رجب الحنبلي (2/ 207) نقلا عن الأستاذ عثمان علي حسن، ((منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة)) (2/ 587) ط1، 1412هـ مكتبة الرشد، الرياض. (¬4) ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (1/ 204). (¬5) ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (5/ 73)

المطلب الثالث: إبطال شبهة القائلين بأن الصحابة والتابعين قد شغلهم الجهاد عن فهم آيات الصفات ومسائل العقيدة

المطلب الثالث: إبطال شبهة القائلين بأن الصحابة والتابعين قد شغلهم الجهاد عن فهم آيات الصفات ومسائل العقيدة والذين قالوا بهذه الشبهة أهل الابتداع، قديماً، والمستشرقين وتلاميذهم حديثاً؛ وابن عربي، وابن سينا وأبو حامد الغزالي فقال: (ثم إن هؤلاء مع هذا لما لم يجدوا الصحابة والتابعين تكلموا بمثل كلامهم، بل ولا نقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم صار منهم من يقول: كانوا مشغولين بالجهاد عن هذا الباب, وأنهم هم حققوا ما لم يحققه الصحابة, ويقولون أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلمهم هذه؛ لئلا يشتغلوا به عن الجهاد, وأهل السيف قد يظن من يظن منهم أن لهم من الجهاد وقتال الأعداء ما لم يكن مثله للصحابة, وأن الصحابة كانوا مشغولين بالعلم، والعبادة عن مثل جهادهم) (¬1). أما المستشرقون فيمثلهم كتاب دائرة المعارف الإسلامية، حيث يزعم أحدهم أن الصحابة والتابعين عندما انتهوا من الفتوحات قاموا بتفهم القرآن، حيث يقول: (ولما استقر المسلمون بعد الفتوحات, ودخل من دخل في الإسلام من أرباب الديانات المختلفة, عكف المسلمون من جهة على فهم القرآن، والتعمق في الفهم، وأثار بعض هؤلاء الذين التحقوا بالإسلام دون أن يتبطنوه من جهة أخرى كثيراً من عقائدهم الدينية، وصاروا يتجادلون حولها، ويجادلون المسلمين فيها، في هذا المرحلة نجد الآيات المتشابهات في القرآن يتسعرضها المفكرون ويحللونها, ويحاول كل أحد أن يخضعها لما يرى, إما بأخذها على ظواهرها، وإما بتأويلها تنزيهاً لله تعالى، عما يوهم التشبيه في الذات أو الصفات وإما بالإيمان بها كما جاءت دون تعرض لها بتفسير أو تأويل, وكان نتيجة هذه المواقف من تلك الآيات ظهور فرقة المشبهة والمجسمة, وفرقة المعتزلة النافية للصفات مبالغة في التنزيه, والصفاتية، وهم جمهور السلف الذين بين بين) (¬2) ويردد أحمد أمين نفس فكرة المستشرقين فيقول: (إن المسلمين لما فرغوا من الفتح واستقر بهم الأمر، واتسع لهم الرزق، أخذ عقلهم يتفلسف في الدين، فيثير خلافات دينية، ويجتهد في بحثها، والتوفيق بين مظاهرها, ويكاد يكون هذا مظهراً عاماً في كل ما نعرفه من أديان, فهي أول أمرها عقيدة ساذجة، قوية لا تأبه الخلاف ولا تلتفت إلى بحث) (¬3) وهذه المزاعم في غاية البطلان وذلك لأن الصحابة قد اكتملت معالم عقيدتهم وشريعتهم قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم, ولقد كانت الأحداث التي عاشوها رضوا ن الله عليهم، والآيات التي خوطبوا بها ابتداء والتي تتحدث عن كل مسائل العقيدة هي الزاد الحقيقي الذي فهموا فيه أمور عقيدتهم، والتي عرضت بوضوح وشمول كبير أغناهم عن البحث, والتنقير, والابتداع, أو السؤال, فانطلقوا بهذا التصور الكامل عن الإله الحق، ووعده الحق لهم بالجزاء الحسن بالجنة، وأنه رضي الله عنهم، ورضوا عنه، انطلقوا يفتحون الدنيا شرقاً وغرباً، وقد امتلأت قلوبهم حباً وعقولهم معرفة وفهماً لكل معاني الصفات ويمثل هذا الكمال في الفهم والمعرفة ما رواه البخاري عن طارق بن شهاب قال: (قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا، لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت, وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت: يوم عرفة، وإنا والله بعرفة، قال سفيان، وأشك كان يوم الجمعة أم لا الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]). فقد أكمل الله دينه، وفهمته العصبة المؤمنة تمام الفهم، وأعرض عمر رضي الله عنه عن مزاعم اليهود، بأخذهم يوم نزول الآيات أعياداً، وأخبرهم عن علمه بزمان نزولها ومكان نزولها، فكانت تفيد تمام هذا الدين، وأعظم ما فيه مسائل العقيدة، ومن أخصها توحيد الإله الحق بأسمائه، وصفاته والإيمان الحق، وعدم تعريضها للجدال والخصومة، ولم يكن الصحابة ولا التابعين سلفاً لمن زاغت عقيدته فمال إلى التأويل, والتعطيل, أو مال إلى التشبيه, فإن الصحابة والتابعين ما كانوا يعدلون بالقرآن والسنة أي فكر بشري أبداً، وإنما الذين تفلسفوا هم قنائص زنادقة البلاد المفتوحة, الذين دخلوا في جدال معهم؛ كالجعد والجهم، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء وغيرهم الذين سقطوا في حمأة البدعة الممقوتة، وفتحوا باب الشرور على الأمة. العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: 205 ¬

(¬1) ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 221) ط 1420هـ، دار الكتب العلمية بيروت. (¬2) ((دائرة المعارف الإسلامية)) (5/ 531). دار المعرفة – بيروت. (¬3) أحمد أمين ((ضحى الإسلام)) (3/ 2)، دار الكتاب العربي – بيروت.

المطلب الرابع: إبطال التعليل الباطل لسكوت الصحابة، وعدم سؤالهم عن الصفات الإلهية

المطلب الرابع: إبطال التعليل الباطل لسكوت الصحابة، وعدم سؤالهم عن الصفات الإلهية ومن المزاعم الباطلة التي قيلت حول عقيدة الصحابة سكوتهم، وعدم خوضهم في الصفات وعدم سؤالهم عنها، وهذا الزعم في غاية الفساد والبطلان وذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم، إنما سكتوا عن الخوض في الصفات ولم يسألوا عنها؛ لأنهم وجدوا أن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم قد كفتهم مؤنة التكلف والسؤال فقد أحاطت الآيات والأحاديث بكل ما يخص الإله الحق من أسمائه وصفاته، وكل مسائل العقيدة فقد وردت بشتى الأشكال والصور التي يطول حصرها كما ذكرنا من قبل. ويقرر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الشبهة ويرد عليها فيقول: (وصار كثير منهم يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أصول الدين, ومنهم من هاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن، يقول: الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك، ومن عظم الصحابة والتابعين مع تعظيم أقوال هؤلاء يبقى حائراً كيف لم يتكلم أولئك الأفاضل في هذه الأمور التي هي أفضل العلوم ومن هو مؤمن بالرسول معظم له يستشكل كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس أحوج منهم إلى غيرهم) (¬1). ويرد شيخ الإسلام فيقول: (فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته واعتقاده، والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بياناً شافياً قاطعاً للعذر، إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين، وبينه للناس، وهو من أعظم ما أقام الله الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه، وكتاب الله الذي نقل الصحابة، ثم التابعون عن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظه ومعانيه، والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلوها أيضاً عن الرسول مشتملة من ذلك على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب) (¬2). ومما يؤكد أن الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا في غنى عن السؤال, وإنما سكتوا عن فهم وعلم، ما سبق، وذكرنا من هيمنة مسائل الصفات على الكتاب والسنة، واستيعابها من قبلهم بأعلى درجات الاستيعاب، ولو احتاجوا إلى السؤال لسألوا كما سألوا عن رؤية الله عز وجل، وكسؤال أبي رزين العقيلي أين كان ربنا؟ وقول ذلك الصحابي: أيضحك ربنا؟ وسؤالهم عن القدر، وعن مسائل الآخرة من الحساب، والجنة والنار، فلم يكن هناك حجر على السؤال عن مسائل الاعتقاد، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (كل من فيه أدنى محبة للعلم أو أدنى محبة للعبادة لا بد أن يخطر بقلبه هذا الباب، ويقصد فيه الحق، ومعرفة الخطأ من الصواب فلا يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون عنه, ولا يشتاقون إلى معرفته, ولا تطلب قلوبهم الحق فيه، وهم ليلاً ونهاراً، يتوجهون بقلوبهم إليه سبحانه، ويدعونه تضرعاً وخفية، ورغباً ورهباً، والقلوب مجبولة مفطورة على طلب العلم ومعرفة الحق فيه، وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى كثير من الأمور، ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول المراد وهم قادرون على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم, وسؤال بعضهم بعضاً، وقد سألوا عما دون ذلك, سألوه: أنرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم، وسأله أبو رزين: أيضحك الرب؟ فقال: نعم، فقال، لن نعدم من رب يضحك خيراً) (¬3). وغاية القول أن سكوت الصحابة وعدم سؤالهم عن حقائق الصفات وكيفيتها كان لوجود هذا الفهم، والإيمان وعدم تعرض عقولهم لشبهات الشك والحيرة، ولوفرة النصوص القرآنية، والنبوية التي أفاضت في البيان فلم تبقى لأنفسهم مجالاً للتساؤل فكان هذا البيان وهذا الوضوح وسلامة الاعتقاد من أعظم أسباب استقرار عصر الصحابة والتابعين وبعدهم عن الجدال والبدع العقدية فانصرفوا إلى خدمة دينهم، فانطلقوا يفتحون الأمصار شرقاً وغرباً، ويزكون أنفسهم بقراءة كتابه وتتبع سنة نبيه، واجتهدوا بالعبادات، والطاعات النافعة بخلاف من تقاصرت أفهامهم، وضعف إيمانهم، ويقينهم فراموا ابتداع تصور جديد عن الإله الحق فوقعوا في الفتن التي كانت سبباً في حيرتهم وشكهم, وكان من خيارهم الذين امتن الله عليهم بالهداية قبل موتهم أن ندموا أشد الندم على مخالفة منهج الصحابة والتابعين. العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: 207 ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) لأحمد بن عبدالحليم ابن تيمية (1/ 24). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) لأحمد بن عبدالحليم ابن تيمية (1/ 27) (¬3) ((القادة المراكشية)) (ص: 47 – 48)

المطلب الخامس: إبطال الزعم أن الصحابة والتابعين أقاموا العقيدة على أسس غير دقيقة باعتمادهم على أخبار الآحاد

المطلب الخامس: إبطال الزعم أن الصحابة والتابعين أقاموا العقيدة على أسس غير دقيقة باعتمادهم على أخبار الآحاد وقد ابتدع هذا القول فرق الابتداع على مختلف مشاربها، وأولهم المعتزلة؛ الذين حكموا عقولهم بالنصوص الشرعية، بزعم أن العقائد لا تثبت عندهم إلا إذا بلغ الخبر حد التواتر، وهذا الشرط الذي وضعوه كان دافعه المنهج المبتدع الذي اختطوه في رد معظم العقائد التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى. يقول الشيخ عمر الأشقر: (والناظر في كلام سلفنا الصالح يعلم أنهم كانوا يثبتون العقائد بنصوص القرآن والحديث، لا يفرقون بين المتواتر والآحاد، ولا يفرقون في الاحتجاج بين العقائد والأحكام، ولم يعرف أحد خالف في هذا من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ولا من الأئمة المرضيين؛ أمثال الأئمة الأربعة، وكان السلف الصالح وما يزال أتباعهم ينكرون أشد الإنكار على الذين يرغبون إلى ترك الأحاديث والنصوص، والاحتكام إلى العقل، ويسفهون من قال بذلك. ونبتت نابتة ترفض الاحتجاج والأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد, وعندما سئل هؤلاء عن مستندهم وجدناهم يستدلون بحجة الخوارج والمعتزلة، الذين رفضوا أحاديث الآحاد في العقائد والأحكام، فنراهم يقولون: الأحاديث الآحاد لا تفيد اليقين, والعقائد لا تبنى إلا على اليقين) (¬1) وعلماء أهل السنة مجمعون على الأخذ بخبر الآحاد في العقائد قال الإمام الشافعي: (فقال لي قائل: احدد لي أقل ما تقوم به الحجة على أهل العلم؛ حتى يثبت عليهم خبر الخاصة؟ فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من انتهى به إلى دونه) (¬2). ثم يفصل قوله هذا، فيقول (¬3): (فإن قال قائل: أذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر، أو دلالة فيه، أو إجماع فقلت له: أخبرنا سفيان بن عبدالملك بن عمير عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها، وأداها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين, ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) (¬4) فلما ندب رسول الله إلى سماع مقالته، وحفظها، وأدائها إمرءاً يؤديها، والامرؤ واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال, وحرام يجتنب, وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا) (¬5). ¬

(¬1) ((أصل الاعتقاد)) د. عمر الأشقر (11 - 12) ط3 الدار السلفية، الكويت. (¬2) ((الرسالة)) (ص:369) ت أحمد شاكر – بدون تاريخ. (¬3) ((الرسالة)) (ص:369) ت أحمد شاكر – بدون تاريخ (¬4) رواه الترمذي (2657)، وأحمد (1/ 436) (4157)، وابن حبان (1/ 268) (66)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 274) (1738)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 386). وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال أبو نعيم: صحيح ثابت، وصححه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 364). (¬5) ((الرسالة)) (ص:401 - 403).

وقال ابن الأثير: (فإن الصحيح من المذاهب والذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأئمة من الصحابة، والتابعين، والفقهاء والمتكلمين: أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلاً، ولا يجب التعبد عقلاً، وأن لا تنحصر، وإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله، وقضاته، وأمراءه وسعاته إلى الأطراف، وهم آحاد, وبإجماع الأمة على أن العامي مأمور باتباع المفتي وتصديقه، مع أنه ربما يخبر عن ظنه، فالذي يخبر عن السماع الذي لا شك فيه أولى بالتصديق) (¬1). ويقول ابن القيم رحمه الله: (وأما المقام الثامن: وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث، وإثبات صفات الرب تعالى بها؛ فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول؛ فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث، وتلقاها بعضهم من بعض بالقبول، ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم، ومن سمعها منهم، تلقاها بالقبول والتصديق لهم، ومن لم يسمعها منهم تلقها عن التابعين كذلك وكذلك تابع التابعين مع التابعين, هذا أمر يعلمه ضرورة أهل الحديث كما يعلمون عدالة الصحابة وصدقهم، وأمانتهم، ونقلهم ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، والغسل من الجنابة وأعداد الصلوات وأوقاتهم، ونقل الأذان والتشهد، والجمعة والعيدين، فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أحاديث الصفات، فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها، جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرناه, وحينئذ فلا وثوق لنا بشيء نقل لنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم البتة، وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل، على أن كثيراً من القادحين في دين الإسلام قد طردوه، وقالوا، لا وثوق لنا بشيء من ذلك البتة) (¬2). وقد أتى ابن القيم رحمه الله بواحد وعشرين دليلاً على صحة خبر الآحاد، وقال إن مقصود المبتدعة هو رد الأخبار في مسائل العقيدة حسب أصولهم الفاسدة, مع أنهم يحتجون بأخبار الآحاد؛ لتأييد بدعتهم، فيقول: (وأما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال، فلا بد من نقله بطريق التواتر؛ لوقوع العلم به حتى أخبر عنه القدرية، والمعتزلة وكان مقصدهم منه رد الأخبار, وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت, ولن يقفوا على مقصودهم من هذا القول, ولو أنصف أهل الفرق في الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم، فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد – ترى أصحاب القدر يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (¬3). وبقوله عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين)) (¬4). وترى أهل الإرجاء يستدلون بقوله: ((من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة)) (¬5) ¬

(¬1) ابن الأثير ((جامع الأصول في أحاديث الرسول)) (1/ 125 – 126) ت عبدالقادر الأرناؤوط ط 2 1403 دار الفكر – بيروت. (¬2) ابن القيم ((مختصر الصواعق المرسلة)) اختصار محمد الموصلي (2/ 524) ط1405 دار الندوة - بيروت (¬3) رواه البخاري (1319)، ومسلم (6926). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (2865) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (27).

وذكر احتجاج الشيعة، والخوارج ثم قال: إلى غير ذلك من الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق، ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث، ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد, وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله، ومسائل القدر، والرؤية وأصول الإيمان, والشفاعة، والحوض, وإخراج الموحدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة, وفي الترغيب, والترهيب، والوعد, والوعيد) (¬1). وقد ترتب على عدم احتجاج هؤلاء المبتدعة بخبر الآحاد أن أنكروا جملة من عقائد الإسلام التي آمن بها الصحابة والتابعون، وجمهور الأمة من بعدهم، حيث يقول الشيخ الألباني: (أنكروا جملة من العقائد؛ منها: 1 - نبوة آدم – عليه السلام، وغيره من الأنبياء الذين لم يذكروا في القرآن. 2 - أفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، على غيره من الأنبياء. 3 - شفاعته صلى الله عليه وسلم العظمى في المحشر. 4 - شفاعته لأهل الكبائر من أمته. 5 - معجزاته صلى الله عليه وسلم كلها ما عدا القرآن، ومنها معجزة انشقاق القمر فإنها مع ذكرها في القرآن تأولها بما ينافي الأحاديث الصحيحة المصرحة بانشقاق القمر معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 6 - صفاته البدنية, وبعض شمائله الخلقية. 7 - الأحاديث التي تتحدث عن بدء الخلق, وصفة الملائكة, والجن, والجنة, والنار, وأنهما مخلوقتان, وأن الحجر الأسود من الجنة. 8 - خصوصياته مثل دخول الجنة، ورؤية أهلها، وما أعد للمتقين, وإسلام قرينه من الجن، وغير ذلك. 9 - القطع بأن العشرة المبشرين بالجنة من أهل الجنة. 10 - الإيمان بعذاب القبر. 11 - الإيمان بسؤال منكر ونكير في القبر. 12 - الإيمان بضغطة القبر. 13 - الإيمان بالميزان ذي الكفتين يوم القيامة. 14 - الإيمان بالصراط. 15 - الإيمان بالحوض. 16 - دخول سبعين ألفاً من أمته الجنة بغير حساب. 17 - الإيمان بكل ما صح في الحديث عن صفة القيامة، والحشر, والنشر. 18 - الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره. 19 - الإيمان بالقلم الذي كتب كل شيء. 20 - الإيمان بالعرش والكرسي حقيقة لا مجازاً. 21 - الإيمان بأن القرآن كتاب الله حقيقة لا مجازاً. 22 - الإيمان بأن أهل الكبائر لا يخلدون في النار (¬2) وغيرها. حتى عدد 30 معتقداً يفضي عدم الأخذ بأحاديث الآحاد إلى إنكارها وعدم الاعتقاد بها. وهكذا تبدو خطورة هذا الانحراف الذي قالت به فرق الابتداع التي ردت عقائد الإسلام, التي آمن بها الصحابة الكرام الذين تلقوها عن الصادق المصدوق، وكانت لهم بشرى من الله نالوا بها الرضوان والثواب العظيم، وكانت وما زالت الأمة على هذه المعتقدات لم تهزها في نفوسهم زوابع أهل الفتنة على مر الأزمان والحمد لله رب العالمين. العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها لعطاء الله بخيت المعايطة - ص: 191 - 214 ¬

(¬1) ابن القيم ((مختصر الصواعق)) (2/ 505). (¬2) الألباني: ((وجوب الأخذ بخبر الآحاد)) (ص: 36).

المبحث الثامن: وظيفة العقل في باب الصفات

تمهيد: العلاقة بين العقل والشرع من تمام تكريم الإسلام للعقل إعماله فيما خلق له، وهيئ من أجله، وحجبه عن التهوك والخوض فيما لا سبيل له ولا قدرة عليه. وباب الصفات يتضمن علوماً ضرورية، وعلوماً نظرية، وعلوماً غيبية، فالعلوم الضرورية يتفق عليها جميع العقلاء. والعلوم النظرية يتفاوت الناس في إدراكها بحسب ما أتوا من قدرات ذهنية وتدبر ونظر, وأما العلوم الغيبية فتعلق العقل بها من جهتين: أولاً: العلم بها: وهذا لا يستقل به العقل، ولا يهتدي إليه من حيث هو إلا أن يهدى إليه بخبر الصادق، فيعلمه حينئذ علماً معنوياً عاماً مبنياً على الاشتراك الذهني مع ما يوافقه في عالم الشهادة. ثانيا: إدراك تفاصيلها وكيفياتها: وهذا لا سبيل إليه مطلقاً، إذ أنه قاصر قصوراً ذاتياً عن بلوغ دركه والإحاطة بعلمه. ومع كون العقل لا يستقل بالعلم بباب الصفات على سبيل التفصيل، فضلاً عن إدراك كيفية جميع الصفات، فإنه لا يحيل ذلك ولا يمنعه كما يمنع المستحيلات العقلية، مثل اجتماع النقيضين في محل واحد، أو ارتفاعهما عنه معاً، بل يقف من هذه النصوص الغيبية الخبرية موقف التسليم إذا صح النقل وسلمت الرواية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه) (¬1)، وقال أيضاً: (فإن الرسول لا يجوز عليه أن يخالف شيئاً من الحق، ولا يخبر بما تحيله العقول وتنفيه. لكن يخبر بما تعجز العقول عن معرفته فيخبر بمحارات العقول، لا بمحالات العقول. ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته في السنة، التي رواها عبدوس بن مالك العطار، قال: (ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول)، هذا قوله وقول سائر أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا تدركه كل الناس بعقولهم، ولو أدركوه بعقولهم لاستغنوا عن الرسول) (¬2). والعقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات لا يمكن أن يخالف النقل الصحيح السالم من العلل والقوادح في سنده ومتنه. وسر ذلك أن كلاً منهما من الله، فالعقل خلقه والنقل خبره وأمره، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54]. فكيف يختلفان! قال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. ولهذا فإن العلاقة بين العقل والشرع لها حالان لا ثالث لهما: - فإما أن يؤيد العقل الشرع ويصدقه ويدل عليه. - وإما أن يسلم له، ويجوز ما جاء به. ولا يمكن أن يكون الثالث: وهو أن يعارضه ويخالفه. وهذه الموافقة بين العقل الصريح والنقل الصحيح تقع من الطرفين، بحيث يصدق أحدهما الآخر، أو لا يعارضه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( .. كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، وإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، ولكن كثيراً من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده كان عارفاً بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول .. وكذلك (العقليات الصريحة) إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحاً لم تكن إلا حقاً، لا تناقض شيئاً مما قاله الرسول) (¬3). ولما كان (النقل الصحيح) معصوماً محفوظاً، وكان العقل عرضة للزلل والانحراف، كان للنقل على العقل وصاية وحماية. فلا قياس في مقابلة النص، وإذا قدر ظهور تعارض بين العقل والنقل الصحيح، فالنقل ثابت والعقل متهم. فالنقل يحوط العقل ويسوسه ويوجهه الوجهة الصحيحة، ويحفظه من الزيغ. كما أن النقل الصحيح ينير الطريق للعقل، ويوفر عليه الجهد، كما مثل شيخ الإسلام ابن تيمية فيما تقدم أثر النقل على العقل بقوله: (إن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار. وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها) (¬4). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 473 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 339). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 297). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 80 - 81). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 339).

المطلب الأول: من وظائف العقل في باب الصفات فهم معانيها

المطلب الأول: من وظائف العقل في باب الصفات فهم معانيها فإن الله سبحانه وتعالى خاطب عباده بلسان عربي مبين، وجعل كتابه تبياناً لكل شيء وشفاء لما في الصدور. ولم يستثن نوعاً من الآيات يمتنع فهمها ومعرفة معناها. قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: 193 - 195]. وقال أيضاً: وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف: 12]. وقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7]. ولا يمكن أن تتحقق النذارة المذكورة إلا بفهم معناه وتعقله. ولهذا قال: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3]. فالتلازم بين كونه عربياً وتعقله واضح. فالألفاظ إنما هي أوعية للمعاني. كما أن عربية القرآن سبب لحصول التقوى الناشئة من الفهم. قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113]. وعربية القرآن سبب لحصول العلم الذي هو ثمرة الفهم للمعنى. قال تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3]. وقد قطع الله حجة الذين قد يتعللون بعدم فهمه بجعله عربياً مفهوم المعنى لدى المخاطبين فقال: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء [فصلت: 44]. فالعقل مدعو لفهم خطاب الشارع دون استثناء، ومن ادعى استثناء نص معين, أو نوع معين من النصوص طولب بالدليل، ولا دليل. ومن أمثلة فهم معاني ما أخبر الله عن نفسه من الأسماء والصفات، قول الإمام الأصبهاني أبي القاسم إسماعيل بن محمد في شرح أسماء الله الحسنى: (ومن أسماء الله تعالى: الحليم: حليم عمن عصاه لأنه لو أراد أخذه في وقته أخذه، فهو يحلم عنه ويؤخره إلى أجله، وهذا الاسم وإن كان مشتركاً يوصف به المخلوق، فحلم المخلوقين حلم لم يكن في الصغر ثم كان في الكبر، وقد يتغير بالمرض, والغضب, والأسباب الحادثة، ويفنى حلمه بفنائه، وحلم الله عز وجل لم يزل ولم يزول. والمخلوق يحلم عن شيء ولا يحلم عن غيره، ويحلم عمن لا يقدر عليه، والله تعالى حليم مع القدرة) (¬1). فهذا مثال للمنهج الشرعي في فهم نصوص الصفات تضمن إثبات المعنى المشترك للفظ الصفة المعهود بالأذهان، ثم فرق بين ما ينبغي للخالق وما ينبغي للمخلوق، وأن لله تعالى المثل الأعلى. وهكذا صنع في بقية الأسماء والصفات. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحدة، إنه وتر يحب الوتر، من أحصاها دخل الجنة)) (¬2). قال أبو إسحاق الزجاج رحمه الله في ذكر معنى الإحصاء: (ويجوز أن يكون معناه: من عقلها، وتدبر معانيها، من الحصاة التي هي العقل) (¬3). وأنشد في هذا المعنى قول الشاعر: وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل @ مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 476 ¬

(¬1) ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 130). (¬2) رواه البخاري (2736)، ومسلم (2677). (¬3) ((تفسير أسماء الله الحسنى)) (ص: 22).

إن العقل يدرك ما يجب لله سبحانه وتعالى ويمتنع عليه على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل؛ فمثلاً: العقل يدرك بأن الرب لابد أن يكون كامل الصفات، ولكن هذا لا يعني أن العقل يثبت كل صفة بعينها أو ينفيها لكن يثبت أو ينفي على سبيل العموم الرب لابد أن يكون كامل الصفات سالماً من النقص فمثلاً: يدرك بأنه لا بد أن يكون الرب سميعاً بصيراً؛ قال إبراهيم لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مريم: 42] ولابد أن يكون خالقاً؛ لأن الله قال: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ [النحل: 17] وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً [النحل: 20] يدرك هذا ويدرك بأن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون حادثاً بعد العدم؛ لأنه نقص، ولقوله تعالى محتجاً على هؤلاء الذين يعبدون الأصنام: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: 20]؛ إذاً يمتنع أن يكون الخالق حادثاً بالفعل والعقل أيضاً يدرك بأن كل صفة نقص فهي ممتنع على الله؛ لأن الرب لابد أن يكون كاملاً فيدرك بأن الله عز وجل مسلوب عن العجز؛ لأنه صفة نقص إذا كان الرب عاجزاً وعصي وأراد أن يعاقب الذي عصاه وهو عاجز؛ فلا يمكن! إذاً؛ العقل يدرك بأن العجز لا يمكن أن يوصف الله به، والعمى كذلك والصمم كذلك والجهل كذلك وهكذا على سبيل العموم ندرك ذلك، لكن على سبيل التفصيل لا يمكن أن ندركه فنتوقف فيه على السمع شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 81

المطلب الثاني: التفكر والتدبر لآثارها ومقتضياتها

المطلب الثاني: التفكر والتدبر لآثارها ومقتضياتها وهذه وظيفة زائدة على مجرد العلم بالمعنى الأصلي. وقد أمر الله تعالى بتدبر كتابه مطلقاً دون أن يستثنى نوعاً ما من النصوص لا يشملها التدبر، فقال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]. ونعى الله على المعرضين عن تدبره فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] وهذا شامل لنصوص الصفات وغيرها. ومن التدبر الذي يتعلق بصفات الباري تدبر آثار هذه الأوصاف الشريفة ومقتضياتها، كما قال تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم: 50]. وهذه الوظيفة ميدان فسيح، ومجال واسع ترتاده عقول المؤمنين فلا تحيط به، ولا تبلغ منتهاه. فكل المخلوقات والأعراض والأحداث شواهد حية لآثار أسمائه وصفاته، ومظاهر ناطقة بعظمته ورحمته. وانطلاق القوى العقلية في هذا المجال تنظر وتتفكر من أعظم أسباب زيادة الإيمان وامتلاء القلب بمحبة الله وتعظيمه. وقد صنف العلماء المصنفات في التأمل العقلي في مخلوقات الله تعالى، والاستدلال بذلك على الإيمان به وعبادته (¬1). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 479 ¬

(¬1) انظر على سبيل المثال: ((مفتاح دار السعادة)) و ((شفاء العليل)) لابن القيم, وانظر: تفسير ((ظلال القرآن)) للآيات الكونية لسيد قطب, وانظر: كتاب ((التوحيد)) و ((الإيمان)) لعبدالمجيد الزنداني.

المطلب الثالث: استعمال الأقيسة العقلية الصحيحة اللائقة بالله تعالى

المطلب الثالث: استعمال الأقيسة العقلية الصحيحة اللائقة بالله تعالى لما كان (العقل) أحد مصادر المعرفة بما أودع الله فيه من قوة الاستدلال والنظر والمقايسة، جرى استعماله في إثبات العقائد لتأييد دلالة الشرع. وقد تضمن الكتاب والسنة جملة من (المقاييس العقلية) التي هي بمثابة مقدمات منطقية للوصول إلى النتائج التي جاء بها الشرع. ويعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأمثال المضروبة في القرآن (أقيسة عقلية) (¬1)، وبذلك يجمع بين الحسنيين باتفاق الدلالتين، دلالة العقل ودلالة الشرع. قال: (وإذا كان الشيء موجوداً في الشرع، فذلك يحصل بأن يكون في القرآن الدلالة على الطرق العقلية، والتنبيه عليها والبيان لها والإرشاد إليها. والقرآن ملآن من ذلك، فتكون شرعية بمعنى أن الشرع هدى إليها، عقلية بمعنى أنه يعرف صحتها بالعقل، فقد جمعت وصفي الكمال). وقد قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17]، وقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25]، وقد فسر السلف (الميزان) بالعدل. والعدل يقتضي التسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات. ومن المقاييس العقلية الصحيحة المتعلقة بباب الصفات ما يلي: 1 - إثبات الكمال لله ونفي النقص عنه: وهذه قضية يستقل العقل بالحكم بها موافقاً بذلك دلالة الشرع والفطرة. وخلاصتها أن كل (موجود) في خارج الذهن لا بد أن يكون متصفاً بصفة. وهذه الصفة إما أن تكون صفة كمال أو صفة نقص. وصفة النقص ممتنعة في حق الإله المعبود، واللائق به الكمال. ومن جهة أخرى فإن المشاهدة والحس تدل على ثبوت صفات كمالية للمخلوق. والله خالق المخلوق وصفاته، فواهب الكمال أولى بالكمال. تلك المقدمات، وهذه النتيجة، محل اتفاق بين جميع أرباب الملل والنحل، وجمهور أهل الفلسفة والكلام، لكنهم يختلفون في تحقيق مناطها في أفراد الصفات مع الإجماع على أن الرب المعبود مستحق للكمال، منزه عن النقص (¬2). ويفصل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الجملة العقلية بقوله: (فإذا قيل: (الوجود) إما واجب وإما ممكن، والممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين، فهو مثل أن يقال: الموجود إما (قديم) وإما حادث؛ والحادث لابد له من قديم، فيلزم ثبوت القديم على التقديرين. والموجود إما (غني) وإما (فقير)، والفقير لا بد له من الغني، فلزم وجود الغني على التقديرين. والموجود إما (قيوم بنفسه) وإما (غير قيوم)، وغير القيوم لابد له من القيوم، فلزم ثبوت القيوم على التقديرين. والموجود إما (مخلوق) وإما (غير مخلوق)، والمخلوق لابد له من خالق غير مخلوق، فلزم ثبوت الخالق غير المخلوق على التقديرين، ونظائر ذلك متعددة) (¬3). ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 88). (¬2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 68 - 88). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 76).

فهذا المقياس العقلي يعرض على الصفات فيثبت لله صفات الكمال، وينفي عنه صفات النقص، وهو مدرك مقرر ببداهة العقول. ثم ينتقل شيخ الإسلام إلى بسط الوجه الثاني في استحقاق الله للكمال، وانتفاء النقص عنه فيقول: (ثم يقول: هذا الواجب القديم الخالق، إما أن يكون ثبوت الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود ممكناً له، وإما أن لا يكون. والثاني: ممتنع؛ لأن هذا ممكن للموجود المحدث الفقير الممكن، فلأن يمكن للواجب الغني القديم بطريق الأولى والأحرى؛ فإن كلاهما موجود. والكلام في الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه. فإذا كان الكمال الممكن الوجود ممكناً للمفضول، فلأن يمكن للفاضل بطريق الأولى، لأن ما كان ممكناً لما هو في وجوده ناقص، فلأن يمكن لما هو في وجوده أكمل منه بطريق الأولى. لاسيما وذلك أفضل من كل وجه، فيمتنع اختصاص المفضول من كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه. بل ما قد ثبت من ذلك للمفضول فالفاضل أحق به؛ فلأن يثبت للفاضل بطريق الأولى. ولأن ذلك الكمال إنما استفاده المخلوق من الخالق، والذي جعل غيره كاملاً هو أحق بالكمال منه؛ فالذي جعل غيره قادراً أولى بالقدرة. والذي علم غيره أولى بالعلم، والذي أحيا غيره أولى بالحياة. والفلاسفة توافق على هذا، ويقولون: كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة، والعلة أولى به) (¬1). وهذه حجة عقلية قرآنية. قال تعالى منبهاً على هذا المعنى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17]. ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [النحل: 75]. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل: 76]. وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا [الفرقان: 3]. فهذه الآيات، وأمثالها كثير في القرآن، ميزان عقلي أثبت الله به ألوهيته لاتصافه بالكمال وبطلان ألوهية ما سواه لاتصافها بصفات النقص, والعيب, والعجز. وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على طائفة من المتكلمين زعموا أن ثبوت الكمال لله وانتفاء النقص عنه لا يعلم بالعقل، وإنما يعلم بالسمع والإجماع، وبين خطاهم ومخالفتهم لسائر الطوائف (¬2). فهذا المقياس العقلي وظيفة يمارسها العقل باستقلال للحكم على الصفات العقلية. فصفة (العلو) مثلاً تثبت بالعقل – كما تثبت بغيره – فالعقل يحكم أن العلو صفة كمال، كما أن نقيضه (السفل) صفة نقص، فيثبت الأولى وينفي الثانية. قياس الأولى: ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 76 - 77). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 73).

وهذا مقياس عقلي يلي المقياس السابق في الرتبة. فإذا دل العقل على إثبات جنس الكمال لله تعالى وآحاده وأفراده، فإن قياس الأولى يقضي بأن ما ثبت من الكمالات ثبوتاً عاماً للخالق والمخلوق فإن لله تعالى أكمله وأعظمه ليس له فيه مكافئ ولا نظير، كما قال تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60]، وقال تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [27: الروم]. فلما كانت الألفاظ الدالة على الصفات تحمل معاني مشتركة باعتبار أصل المعنى، كان لابد من القياس. والقياس الصحيح هنا هو قياس الأولى، وهو طريقة السلف التي وافقوا بها القرآن. قال شارح الطحاوية: (ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها .. ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ، مثل أن يعلم أن كل كمال للممكن أو للمحدث، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو ما كان كمالا للوجود غير مستلزم للعدم بوجه، فالواجب القديم أولى به. وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، وهو أحق به منه. وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى) (¬1). ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مدى هذه الأولوية في قياس الأولى، ومقدار ذلك التفاضل المندرج تحت ذلك المعنى العام المشترك فيقول: (وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعاً للقرآن، فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتاً لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق. بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا ينحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم من كل ما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره. فكان قياس الأولى يفيده أمراً يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر) (¬2). نفي الصفة إثبات لنقيضها: قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات، وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع, ولا يبصر, ولا يتكلم فقد عبد رباً ناقصاً, معيباً, مؤوفاً) (¬3). ومن أمثلة احتجاج السلف بهذه الطريقة العقلية قول الإمام الدارمي في رده على المريسي: (وكيف استجزت أن تسمي أهل السنة وأهل المعرفة بصفات الله المقدسة: مشبهة، إذا وصفوا الله بما وصف به نفسه في كلامه بالأشياء التي أسماؤها موجودة في صفات بني آدم بلا تكييف. ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) ص (122). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (9/ 145). (¬3) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 240).

وأنت قد شبهت إلهك في يديه, وسمعه, وبصره بأعمى وأقطع، وتوهمت في معبودك ما توهمت في الأعمى والأقطع، فمعبودك في دعواك مخدًّج منقوص؛ أعمى لا بصر له؛ وأبكم لا كلام له، وأصم لا سمع له، ومقعد لا حراك به؛ وليس هذه بصفة إله المصلين. أفأنت أوحش مذهباً في تشبيهك إلهك بهؤلاء العميان والمقطوعين؛ أم هؤلاء الذين تسميهم مشبهة إذ وصفوه بم وصف به نفسه بلا تشبيه؟ فلولا أنها كلمة هي محنة الجهمية التي بها ينبزون المؤمنين ما سميت مشبهاً غيرك؛ لسماجة ما شبهت ومثلت) (¬1). وقد حاول نفاة الصفات التخلص من هذا الإلزام العقلي بالزعم بأن ذلك متحقق إذا كان المحل قابلاً للاتصاف بالصفتين المتقابلتين وما لا فلا. وأجاب شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع عدة من كتبه على هذه الشبهة، ومن ذلك قوله: (ومن قال: إنه ليس بحي ولا سميع, ولا بصير, ولا متكلم لزمه أن يكون ميتاً أصم أعمى أبكم. فإن قال: العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، وما لا يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير، قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت, والصم, والعمى, والخرس, والعجمة. وأيضاً فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حياً، كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي. وأيضاً: فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممن يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها. فالجماد الذي لا يوصف بالبصر, ولا العمى, ولا الكلام والخرس أعظم نقصاً من الحي الأعمى الأخرس) (¬2). فقد فر هؤلاء النفاة من تشبيهه بالحيوانات – بزعمهم – فوقعوا في تشبيهه بالجمادات. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 480 ¬

(¬1) ((رد الإمام الدارمي على بشر المريسي)) (ص: 42). (¬2) ((التدمرية)) (ص: 61 - 62).

المطلب الرابع: إبطال الأقيسة العقلية الخاطئة

المطلب الرابع: إبطال الأقيسة العقلية الخاطئة العقل الصريح المستضيء بنور الشرع الصحيح ميزان توزن به الدعاوى والمقدمات. وكما أن العقل يقعد القواعد السليمة والمقدمات الصحيحة فإنه يمارس وظيفة أخرى، وهي فحص المقدمات المزعومة وبيان زيفها، وبالتالي بطلان ما بني عليها من نتائج وعقائد. وتظهر أهمية هذه الوظيفة العقلية الهامة إذا تبينا حجم الأقيسة العقلية الباطلة التي توارثتها أجيال الفلاسفة والمتكلمين مسلِّمين بها، مذعنين لما أدت إليه من نتائج حتى ولو خالفت الشرع مخالفة صريحة. فالفرق بين الأقيسة العقلية الصحيحة والأقيسة العقلية الخاطئة، أن الأولى منضبطة بضوابط الشرع المعصوم موافقة للفطر السليمة، والأخرى اجتهادات بشرية منحرفة لا ضابط لها تتأثر بمؤثرات شتى. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (بل المقدمة التي تدعي طائفة من النظار صحتها، تقول الأخرى هي باطلة، وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها من العقليات التي اتفقت عليها فطر العقلاء سليمي الفطرة، التي لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليماً من غيره، لا من موجب فطرته، فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية، لا ترجع إلى العقل الصريح، وهو يدعي أنها عقلية فطرية. ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب، تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى الفطرة) (¬1). ولم يزل السلف الصالح رحمهم الله يرفضون نتاج الفلسفة اليونانية الفاسد، ويحذرون منه ويكشفون عواره، مع التزامهم بالمنهج الإيماني في عرض العقيدة. ومن أمثلة تفطن السلف لمسالكهم الباطلة قول الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية نفاة الصفات: ( .. وقلنا هو شيء فقالوا: هو شيء لا كالأشياء، فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء. فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً بشيء، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون من العلانية) (¬2) لكن السلف الأولون لم يطيلوا النفس في نقض شبهاتهم, وتفنيد حججهم لما في ذلك من نشرها وإذاعتها في حال كان الغالب على الناس السنة والاتباع, والسلامة من هذه اللوثات. ولما عمت البلوى بكتب أهل الكلام، وصاروا هم المتنفذين، وأصحاب الرياسات، ونشروا مذاهبهم، قيض الله في العصور المتأخرة – القرنين السابع والثامن الهجريين – شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فانتدب لهتك أستارهم, وبيان عوارهم للأمة بعلم نقي، ومعتقد سلفي، وذهن ثاقب، وعقل راجح، فحمل عليهم سلاحهم الذي كانوا يستطيلون به على أهل السنة والاتباع، وهو (العقل)، وبين أن أهل السنة أسعد بهذا الدليل من غيرهم, وأولى الناس به. وسنضرب بعض الأمثلة لإبطال العقل الصريح لبعض المقاييس العقلية الخاطئة في باب الصفات. 1 - إثبات الصفات إثبات لتعدد الآلهة: ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/ 278 - 279). (¬2) ((الرد على الجهمية والزنادقة)) ص (29).

وهذا عمدة نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة، حيث زعموا أن إثبات صفات (قديمة) يقتضي استحقاق تلك الصفات للقدم الذي لله، ومن ثم مساواته في الإلهية، فمنعوا إثبات الصفات بناء عليها، وأبقوا له مجرد ألفاظ الأسماء كأعلام محضة, خالية من المعاني المتمايزة، بل هي من قبيل المترادفات. قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: ( .. إنه تعالى لو كان يستحق هذه الصفات لمعان قديمة، وقد ثبت أن القديم إنما يخالف مخالفه بكونه قديماً، وثبت أن الصفة التي تقع بها المخالفة عند الافتراق بها تقع المماثلة عند الاتفاق، وذلك يوجب أن تكون هذه المعاني مثلاً لله تعالى .. ) (¬1). وهذه حجة داحضة، ولازم مزعوم، فإن الصفات المضافة إلى الله عز وجل ليست أعياناً منفصلة قائمة بذاتها حتى تكون قديمة قدم الخالق - على حد تعبير المتكلمين بالقدم – وإنما هي أوصاف له – سبحانه – قائمة به. قال شارح الطحاوية: (ولهذا كان أئمة السنة – رحمهم الله تعالى – لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره. لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذ كان لفظ (الغير) فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل: فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها، منفصلة عن الصفات الزائدة عليها، فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات الزائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة، فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها .. ) (¬2). ومما يبطل هذا المسلك اضطرارهم إلى إثبات صفات لا بد لهم من إثباتها كالوجود والحياة والقدرة، وهذا تناقض يستلزم البطلان. 2 - الصفات لا تقوم إلا بالأجسام، والأجسام متماثلة، فإثبات الصفات مستلزم للتجسيم: وهاتان المقدمتان باطلتان. فالصفات تقوم بالأجسام وغير الأجسام. فيقال مثلاً: الليل طويل, والنهار قصير, والعكس, وهما ليسا جسمين. كما أن المدعي يثبت أوصافاً من العلم والحياة والقدرة لله عز وجل مع نفيه (الجسمية) عنه. كما أن دعوى تماثل الأجسام دعوى باطلة ببداهة العقول. فإن بين الأجسام من التغاير في الصفات ما هو معلوم بالضرورة، كبراً وكثافة، وصلابة، وأضدادها وغيرها. ¬

(¬1) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 195). (¬2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) ص (129).

ثم لابد من تحرير المراد بالجسم, فإنه في حق الله تعالى من الألفاظ البدعية التي لم ترد بنفي ولا إثبات، فلا يصح إطلاقه نفياً ولا إثباتاً في حق الله تعالى، لأن صفاته – سبحانه – توقيفية. وأما في المعنى فله عدة استعمالات. فقد يراد به البدن والجسم الكثيف – كما في اللغة – وقد يراد به المركب من الجواهر المفردة, أو المركب من المادة والصورة، وهذه كلها منفية عن الله تعالى، فضلاً عن كونها غير متماثلة خلاف ما زعموا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل, سواء فسروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه, أو بالموجود, أو بالمركب من الهيولي والصورة ونحو ذلك. فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة، فهذا يبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجواهر المفردة، وعلى أنها متماثلة، وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك) (¬1)، إذ أن هذه المرادات مركبات يفتقر بعضها إلى بعض فهي مخلوقات. وقد يريد النافي بالجسم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار، ويتكلم, ويسمع, ويبصر, ويقوم به صفات تليق به من الوجه, واليدين, والعينين وغيرها من الصفات الثابتة لله. فنفيه لهذا المعنى باطل مردود عليه إذ هو التعطيل بعينه، فلا ننفي عنه هذه الأوصاف لتواطئهم على تسمية المتصف بها جسماً. 3 - إثبات الصفات يستلزم الحدوث، والله منزه عن الحوادث: وهذه شبهة عقلية أراد النفاة أن يتوصلوا بها إلى نفي الصفات الفعلية الاختيارية المتعلقة بمشيئته – سبحانه -، ويجعلون هذه الدعوى من أخص خصائص الباري – جل وعلا -. قال الجويني: (مما يخالف الجوهر فيه حكم الإله قبول الأعراض, وصحة الاتصاف بالحوادث، والرب سبحانه وتعالى يتقدس عن قبول الحوادث) (¬2). ومن هذه المقدمة ينطلق المتكلمون من معتزلة وأشاعرة إلى نفي الاستواء, والمجيء, والفرح, والسخط, والرضا, والغضب, والنزول .. الخ من صفات الفعل. قال شارح الطحاوية رحمه الله: (وحلول الحوادث بالرب تعالى المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة. وفيه إجمال: فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح. وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية، من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول, والاستواء, والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته، فهذا نفي باطل. وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية, وصفات الفعل، وهو غير لازم له. وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه) (¬3). ¬

(¬1) ((التدمرية)) (ص: 121 - 122). (¬2) ((الإرشاد)) (ص: 62). (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 128 - 129).

ثم بعد هذا الاستفصال يمتنع التلازم المزعوم من أن حدوث الصفة حدوث للموصوف، بل نقول إن تعلق بعض الصفات الفعلية بمشيئته وحكمته دليل كمال عقلاً وشرعاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض مناقشته لهذه الشبهة: ( .. إذا قدر ذات تفعل شيئاً بعد شيء وهي قادرة على الفعل بنفسها، وذات لا يمكنها أن تفعل بنفسها شيئاً، بل هي كالجماد الذي لا يمكنه أن يتحرك كانت الأولى أكمل من الثانية. فعدم هذه الأفعال نقص بالضرورة، وأما وجودها بحسب الإمكان فهو الكمال. ويقال: لا نسلم أن عدم هذه مطلقاً نقص ولا كمال، ولا وجودها مطلقاً نقص ولا كمال؛ بل وجودها في الوقت الذي اقتضت مشيئته وقدرته وحكمته، هو الكمال، ووجودها بدون ذلك نقص، وعدمها مع اقتضاء الحكمة عدمها كمال، ووجودها حيث اقتضت الحكمة وجودها هو الكمال) (¬1). وقبل أن نختم هذا المبحث نشير إلى سمة بارزة في المنهج العقلي الصحيح، ألا وهي الاطراد، والتسوية بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، بل هي حقيقة العدل والميزان الذي ينبغي أن يدل عليه العقل. وبالمقابل فإن المناهج العقلية الباطلة يعتريها التناقض والاضطراب وعدم طرد القاعدة على جميع أجزائها. وفيما يلي مثال بديع يصور هذه السمة في المنهجين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإذا كان المخاطب ممن يقر بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات. قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته. بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به. قيل لك: وكذلك له محبة تليق به, وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به. وإن قال: الغضب غليان القلب لطلب الانتقام، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أودفع مضرة. فإن قلت هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق .. فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة. والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، أو ضد ذلك ... يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات. فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة, كدلالة التخصيص على المشيئة. وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم. فما أعظم المنة بهذا العقل حين يستنير بنور الإيمان، ويهتدي بهداه، ويعتصم بدلالته، ويحفظ حدوده، فيعمل فيما خلق له، متفكراً متدبراً، فيكون صاحبه من (أولي الألباب). وما أعظم البلية بذلك العقل حين يسرح بلا قيد ولا شرط, فيضرب في التيه بغر هدى، ويتخبط في الظلمات، تتناوشه وساوس شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً, فيكون صاحبه من (الضالين) (¬2). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد عبدالرحمن القاضي -ص487 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 107 - 108). (¬2) ((التدمرية باختصار)) (31 - 34).

المبحث التاسع: تفاضل صفات الله ودلالة ذلك

المطلب الأول: من أدلة تفاضل صفات الله معنى تفاضل صفات الله كون بعض الصفات أفضل من بعض لوجه من وجوه الفضل، ومن أدلة تفاضل الصفات: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبي)) (¬1) . وفي رواية: ((سبقت غضبي)) (¬2). قال ابن تيمية رحمه الله: (وصف رحمته بأنها تغلب وتسبق غضبه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك. وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)) (¬4)، فكان يستعيذ من صفة السخط بصفة الرضا، ومن عقوبة الله بمعافاته، وبه سبحانه منه، قال ابن تيمية رحمه الله: (ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه) (¬5). وأما قوله: ((أعوذ بك منك))، فمعناه والله أعلم، الاستعاذة بكل صفة مرغوب فيها من صفات الله من كل صفة مرهوب منها من صفات الله، فيكون دليلاً جامعاً يدل على تفاضل صفات الله المستعاذ بها والمستعاذ منها جميعها، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما استعاذته به منه فلابد أن يكون باعتبار جهتين: يستعيذ به باعتبار تلك الجهة، ومنه باعتبار تلك الجهة، ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ منه إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه، والجهة الواحدة لا تكون مطلوبة مهروباً منها، لكن باعتبار جهتين تصح) (¬6). والجهتان متعلقتان بصفاته ولا ريب، وشبه رحمه الله قوله: ((أعوذ بك منك)) بقوله في حديث البراء في الدعاء عند النوم: ((لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك)) (¬7). وقال رحمه الله: (ومعلوم أن جهة كونه منجياً غير جهة كونه منجياً منه، وكذلك جهة كونه ملتجأ إليه غير كونه ملتجأ منه، سواء قيل إن ذلك يتعلق بمفعولاته, أو أفعاله القائمة به, أو صفاته, أو بذاته باعتبارين) (¬8). ثم إن كل دليل على تفاضل أسماء الله دليل على تفاضل صفاته لأن أسماء الله أسماء وأوصاف. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 78 ¬

(¬1) رواه البخاري (3194) واللفظ له، ومسلم (2751). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (7422) واللفظ له، ومسلم (2751). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((جواب أهل العلم والإيمان)) (89). (¬4) رواه مسلم (486). (¬5) ((جواب أهل العلم والإيمان)) (90). (¬6) ((جواب أهل العلم والإيمان)) (90). (¬7) رواه البخاري (247)، ومسلم (2710). من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. (¬8) ((جواب أهل العلم والإيمان)) (91).

المطلب الثاني: تفاضل الصفة الواحدة

المطلب الثاني: تفاضل الصفة الواحدة التفاضل في صفات الله قد يقع في الصفة الواحدة، فتكون الصفة الواحدة متفاضلة، ومن أدلة ذلك: تفاضل صفة الحب والبغض، قال صلى الله عليه وسلم: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)) (¬1). و (أحب) و (أبغض) صيغة تفضيل، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق يهريق دمه)) (¬3). وكذا تفاضل صفة اليد كما في حديث: ((يمين الله ملآى. لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض. وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض)) (¬4). قال ابن تيمية: (فبين صلى الله عليه وسلم أن الفضل بيده اليمنى والعدل بيده الأخرى، ومعلوم أنه مع أن كلتا يديه يمين فالفضل أعلى من العدل، وهو سبحانه كل رحمة منه فضل, وكل نقمة منه عدل، ورحمته أفضل من نقمته) قال: (ولهذا كان المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن (¬5) ولم يكونوا عن يده الأخرى وجعلهم عن يمين الرحمن تفضيل لهم، كما فضل في القرآن أهل اليمين وأهل الميمنة على أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة، وإن كانوا إنما عذبهم بعدله، وكذلك الأحاديث والآثار جاءت بأن أهل قبضة اليمين أهل السعادة, وأهل القبضة الأخرى هم أهل الشقاوة) (¬6). ومن تفاضل الصفة الواحدة من صفات الله، تفاضل صفة الكلام، والدلائل عليه كثيرة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: أن القرآن كلام الله وقد فضله على سائر كتبه التي سبقته وهي كلها كلامه سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48]. واختص الله القرآن من بين سائر كلامه بخصائص، فاختصه بأن تكفل سبحانه بحفظه بأن تحدى الخلق أن يأتوا بمثله, أو بمثل عشر سور منه, أو بمثل سورة منه، وغير ذلك من خصائصه، وتخصيص القرآن بأحكام وفضائل توجب تشريفه وتفضيله، على غيره مما أنزل الله على رسله، وقد قال سبحانه: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الزمر: 55]، وقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23]. ثم القرآن نفسه متفاضل، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفضيل بعض آياته وسوره على غيرها، فمن ذلك: حديث أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر, أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر)) (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (671). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (2457)، ومسلم (2668). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه البخاري (6882). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (4684)، ومسلم (993). من حديث أبي هريرة رضي الله عنها. (¬5) الحديث رواه مسلم (1827). من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬6) ((جواب أهل العلم والإيمان)) (92). (¬7) رواه مسلم (810).

فهذه آية من كلام الله وهي آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، ووردت أحاديث فيها تخصيص بعض الآيات من كتاب الله بفضائل، كما ثبت في الآيتين من آخر البقرة أن من قرأهما في ليلة كفتاه (¬1)، وكذا ثبت في بعض السور، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران)) (¬2). فهذا في تفضيل هاتين السورتين من كلام الله، وفي حديث ابن عباس قال: ((بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل إلى الأرض. لم ينزل قط إلا اليوم. فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك. فاتحة الكتاب, وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)) (¬4). وقال: ((والذي نفسي بيده لتعدل ثلث القرآن)) (¬5) ووردت أحاديث عديدة يطول حصرها فيها ما ذكر من تخصيص بعض الآيات والسور بفضائل، وجميعها يدل على أن كلام الله يتفاضل، قال الغزالي: (لعلك تقول: قد توجه قصدك في هذه التنبيهات إلى تفضيل بعض القرآن على بعض, والكل قول الله تعالى فكيف يفارق بعضها بعضاً؟ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟ فاعلم: أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الجوارة، المستغرقة بالتقليد، فقلد صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقد دلت الأخبار على شرف بعض الآيات وعلى تضعيف الأجر في بعض السور المنزلة (¬6)) ونقل السيوطي عن العز بن عبد السلام قوله: (كلام الله في الله أفضل من كلامه في غيره، فـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أفضل من تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ (¬7). فهذا من وجوه تفاضل صفة الكلام ومن وجوهها أيضاً ما قاله ابن تيمية: (فإذا كان المخبر به أكمل وأفضل كان الخبر به أفضل وإذا كان المأمور به أفضل كان الأمر به أفضل (¬8)) وقد قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51]. قال ابن تيمية: (معلوم أن تكليمه من وراء حجاب أفضل من تكليمه بالإيحاء وبإرسال رسول، ولهذا كان من فضائل موسى عليه السلام أن الله كلمه تكليماً وقال: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144]. ولقد قال تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106]. قال ابن تيمية: (أخبر أنه يأت بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من الله لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارة أو خير منها أخرى فدل ذلك على أن الآيات تتماثل تارة وتتفاضل أخرى) (¬9) .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي - ص80 ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (4008)، ومسلم (808). من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (805). من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (806). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (812). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (5013). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬6) ((جواهر القرآن)) (ص: 62). (¬7) ((الإتقان)) (2/ 199). (¬8) ((جواب أهل العلم والإيمان)) (ص: 61). (¬9) ((جواب أهل العلم والإيمان)) (ص: 61).

المطلب الثالث: دلالة تفاضل صفات الله

المطلب الثالث: دلالة تفاضل صفات الله تفاضل صفات الله عز وجل يدل على تعددها، لأن التفاضل لا يعقل إلا مع التعدد، إذ لا يكون إلا بين شيئين فصاعداً ....... وهذا يدل إلى أن صفات الله ليست هي عين ذاته، وإنما هي متعلقة بذاته سبحانه وتعالى، لأن الذات واحدة غير متعددة، ولكنها متصفة بصفات متعددة, واتصاف الذات بالصفات دليل كمالها، لأن الذات المجردة التي لا تتعلق بها صفة ناقصة. وثبوت تعدد صفات الله يدل على ثبوتها لله عز وجل، فلا يسع المؤمن إلا إثباتها متعددة، لكل منها معنى يغاير معنى الآخر، ولذلك كان ورود إثبات صفات الله في نصوص الشرع إنما يكون على وجه التفصيل، أما النفي فيكون مجملاً، ففي النصوص ذكر أسماء وصفات الله مفصلة، وفيها نفي ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل إجمالاً، وهذا بخلاف طريقة أهل الضلال والباطل الذين يفصلون في النفي، فينفون عنه صفاته على وجه التفصيل، ولا يثبتون له إلا وجوداً مطلقاً لا تتعلق به صفة (¬1). وإثبات تفاضل الصفات هو من لوازم إثبات الصفات، فمن أثبت الصفات لزمه إثبات تفاضلها، لأن إثبات التفاضل بين الشيئين، فرع من إثبات كل واحد منهما بمعناه وما تضمنه من كمال، فينظر في أيهما أفضل وأكمل، أما إذا كان الشيئان منفيين، فلا تفاضل بينهما، لأنه لا وجود لهما أصلاً، فلا كمال ولا فضيلة هناك أصلاً حتى يمكن النظر في التفاضل، ولذلك فإنه يمتنع التفاضل بين صفات الله بناء على مذهب المعطلة الباطل من الجهمية والمعتزلة ونحوهم. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي - بتصرف – ص: 85 ¬

(¬1) ((انظر الرسالة التدمرية)) (ص 8 – 11 و 74 , 75).

الفصل الرابع: آثار الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى

تمهيد قال الإمام ابن القيم: (والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاؤها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها – أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها – وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي تقع على القلب والجوارح: (1) فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة تثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً. (2) علمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح. ومعرفة غناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. (3) وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباتها، وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها. فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العلم وآثارها ومقتضاها؛ لأنه لا يتزين من عباده بطاعتهم، ولا تشينه معصيتهم. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)) ذكر هذا عقب قوله: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)) (¬1). فتضمن ذلك أن يفعله تعالى بهم في غفران زلاتهم وإجابة دعواتهم، وتفريج كرباتهم ليس لجلب منفعة منهم ولا لدفع مضرة يتوقعها منهم؛ كما هو عادة المخلوق الذي ينفع غيره ليكافئه بنفع مثله، أو ليدفع عنه ضرراً، فالرب تعالى لم يحسن إلى عباده ليكافئوه، ولا ليدفعوا عنه ضرراً، فقال: ((لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني))، إني لست إذا هديت مستهديكم، وأطعمت مستطعمكم، وكسوت مستكسيكم وأرويت مستسقيكم، وكفيت مستكفيكم وغفرت لمستغفركم، بالذي أطلب منكم أن تنفعوني أو تدفعوا عني ضرراً، فإنكم لن تبلغوا ذلك وأنا الغني الحميد، كيف والخلق عاجزون عما يقدرون عليه، من الأفعال إلا بإقداره وتيسيره وخلقه، فكيف بما لا يقدرون عليه، فكيف يبلغون نفع الغني الصمد الذي يمتنع في حقه أن يستجلب من غيره نفعاً، أو يستدفع منه ضرراً، بل ذلك مستحيل في حقه؟! ¬

(¬1) رواه مسلم (2577). من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

ثم ذكر بعد هذا قوله: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)) (¬1)؛ فيبين سبحانه أن ما أمرهم به من الطاعات وما نهاهم عنه من السيئات لا يتضمن استجلاب نفعهم، ولا استدفاع ضررهم كأمر السيد عبده، والوالد ولده، والإمام رعيته بما ينفع الآمر والمأمور، ونهيهم عما يضر الناهي والمنهي، فبين تعالى أنه المنزه عن لحوق نفعهم وضرهم به في إحسانه إليهم بما يفعله بهم وبما يأمرهم به، ولهذا لما ذكر الأصلين بعد هذا، وأن تقواهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه شيئاً، ولا ينقصه، وأن نسبة ما يسألونه كلهم إياه؛ فيعطيهم إلى ما عنده كلا نسبة، فتضمن ذلك أنه لم يأمرهم ولم يحسن إليهم بإجابة الدعوات، وغفر الزلات، وتفريج الكربات لاستجلاب منفعة، ولا لاستدفاع مضرة، وأنهم لو أطاعوه كلهم لم يزيدوا في ملكه شيئاً، ولو عصوه كلهم لم ينقصوا من ملكه شيئاً، وأنه الغني الحميد. ومن كان هكذا فإنه لا يتزيد بطاعة عباده وأمرهم ونهيهم ما يقتضيه ملكه التام وحمده وحكمته، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يستوجب من عباده شكر نعمه التي لا تحصى، بحسب قواهم وطاقتهم، لا بحسب ما ينبغي له، فإنه أعظم وأجل من أن يقدر خلقه عليه، ولكنه سبحانه يرضى من عباده بما تسمح به طبائعهم وقواهم، فلا شيء أحسن في العقول والفطر من شكر المنعم، ولا أنفع للعبد منه) (¬2). ويضرب الإمام ابن القيم مثالاً على الآثار المترتبة على عبودية الله تعالى باسمي الأول والآخر قائلاً: (فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد عن مطالعة الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك، إنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه الإعداد، ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله، وجوده، لم تكن بوسائل أخرى. فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقراً خاصاً وعبودية خاصة، وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضاً عدم ركونه ووقوفه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق ألا يزول ولا ينقطع بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يغنى به، كذا نظر العارف إليه بسبق الأولية، حيث كان قبل الأسباب كلها، وكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، كل شيء هالك إلا وجهه، فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة وإليه تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو الحق وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده، فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ) (¬3). وللتعبد بهذين الاسمين (الأول والآخر) يرى الإمام ابن القيم أن لهما رتبتين: ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 510 - 513). (¬3) ((طريق الهجرتين)) (ص: 19، 20).

الرتبة الأولى: أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب من الدنو دون كل شيء فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه. والرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل كل اسم بمقتضاه؛ فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء وسبقه بفضله وإحسانه، الأسباب كلها بما يقتضيه ذلك من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره، فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه (¬1). وعن سر العبودية وغايتها وحكمتها قال: (إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلها. بل هو الإله الحق، وكل إله سواه فباطل، بل أبطل الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود) (¬2). ويذكر الإمام ابن القيم (أن أعرف الناس بأسماء الله وصفاته أشدهم حباً له، فكل اسم من أسمائه وصفاته تستعدي محبة خاصة، فإن أسماءه كلها حسنى وهي مشتقة من صفاته، وأفعاله دالة عليها، فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل ما أمر إذ ليس في أفعاله عبث، وليس في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل، والفضل، والرحمة، وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه، ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره فضلاً عن أن يوفاه حقه، فأعرف خلقه به وأحبهم له صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬3) ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها (¬4) وبالنظر والتأمل في أجزاء هذا الفصل يتضح لنا عدة أمور أوردها الإمام ابن القيم وهي لا تخرج عما ذهب إليه أئمة أهل السنة والجماعة، بل هي أصل فيما ذهبوا إليه من أنه لا بد في الأسماء الحسنى من أركان ثلاثة: وهي الإيمان بالاسم، وبما دل عليه من المعنى، وبما تعلق به من الآثار. وهذه الأمور جاءت على النحو التالي: أولاً: أن الأسماء والصفات مقتضية لآثارها من العبودية اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها تعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها. ثانياً: أن مذهب السلف الصالح قائم على الإيمان بأسماء الله وصفاته، وبما دلت عليه من المعاني، وبما تعلقت به من الآثار والأحكام (¬5). ثالثاً: أن الوجود خلقاً وأمراً يتعلق بأسماء الله وصفاته، وإن كان العلم بما فيه بعض آثارها ومقتضياتها؛ إذا عرفت هذا فمن أسمائه الغفار والتواب والعفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ولا بد من جناية تغفر، وتوبة تقبل، وجرائم يعفى عنها (¬6). ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين)) (ص: 24، 25). (¬2) ((مدارج السالكين)) (1/ 110). (¬3) رواه مسلم (486). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) ((مدارج السالكين)) (1/ 110). (¬5) ((مفتاح دار السعادة)) (3/ 510)، وانظر: ((الكواشف الجلية)) للسلمان (ص: 425)، ((طريق الوصول إلى العلم المأمول)) لابن سعدي (ص: 349). (¬6) ((مدارج السالكين)) (1/ 417 - 419).

رابعاً: (أن ظهور أحكامها وآثارها لا بد منه إذ هو من مقتضى الكمال المقدس والملك التام، وإذا أعطيت اسم الملك حقه – ولن تستطيع – علمت أن الخلق والأمر والثواب والعقاب، والعطاء والحرمان أمر لازم لصفة الملك، وأن صفة الملك تقتضي ذلك ولا بد، وأن تعطيل هذه الصفة أمر ممتنع. فالملك الحق مقتضي إرسال الرسل وإنزال الكتب وأمر العباد ونهيهم وثوابهم وعقابهم) (¬1). خامساً: أن لكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها. من عرفها أثمرت له أنواعاً من العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه (¬2). سادساً: من مقتضيات العبودية لله بأسمائه الحسنى التجرد عن مطالعة الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان والإنعام عليه من غير وسيلة من العبد. سابعاً: أن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وأعظم الناس سعادة أعظمهم عبودية لله. ومما تجدر الإشارة إليه ... أن معرفة هذه الآثار على التفصيل لا تجب على كل أحد بل كل بحسبه، فيجب على العالم ما لا يجب على غيره، ولا يعني هذا أيضاً أن تعرف كل آثار أسماء الله تبارك وتعالى لأن هذا محال على البشر معرفته، وليس في مقدورهم الإحاطة به علماً، لأنه قد منع من ذلك فقال عز وجل: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110]. منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي الغامدي– ص: 166 ¬

(¬1) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 50). (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 510) وما بعدها، وانظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 122).

المبحث الأول: الآثار الإيمانية العامة للأسماء والصفات

المبحث الأول: الآثار الإيمانية العامة للأسماء والصفات إن للتعبد بالأسماء والصفات آثارا كثيرة على قلب العبد وعمله، قال العز بن عبد السلام: (اعلم أن معرفة الذات والصفات مثمرة لجميع الخيرات العاجلة والآجلة، ومعرفة كل صفة من الصفات تثمر حالا علية، وأقوالا سنية، وأفعالا رضية، ومراتب دنيوية، ودرجات أخروية، فمثل معرفة الذات والصفات كشجرة طيبة أصلها – وهو معرفة الذات – ثابت بالحجة والبرهان، وفرعها – وهو معرفة الصفات – في السماء مجدا وشرفا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ من الأحوال والأقوال والأعمال بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 25] وهو خالقها إذ لا يحصل شيء من ثمارها إلا بإذنه وتوفيقه، منبت هذه الشجرة القلب الذي إن صلح بالمعرفة والأحوال صلح الجسد كله) (¬1). وهذه إشارة موجزة إلى بعض تلك الآثار؛ إذ تقصي تلك الآثار أمر في غاية العسر، ويجزئ منها ما يبلغ القصد: أولاً: محبة الله. من تأمل أسماء الله وصفاته وتعلق قلبه بها طرحه ذلك على باب المحبة، وفتح له من المعارف والعلوم أمورا لا يعبر عنها (¬2)، وإن من عرف الله أورثه ذلك المحبة له سبحانه وتعالى، قال ابن الجوزي: (فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة لعل ذلك يورث المحبة ... ذلك الغنى الأكبر، ووافقراه) (¬3). ومراده أن من عرف الله أحبه، ومن أحب الله أحبه الله، وذلك والله هو الفوز العظيم والجنة والنعيم، والمحبة هي المنزلة التي (فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبوب وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، والتي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه) (¬4). حب الله هو الفطرة: وحب الله هو فطرة القلب التي فطر عليها، قال ابن تيمية: (والقلب إنما خلق لأجل حب الله تعالى، وهذه الفطرة التي فطر الله عليها عباده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء))، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرأوا إن شئتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] أخرجه البخاري ومسلم (¬5)، فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفا بالله محبا له عابدا له وحده) (¬6). ¬

(¬1) ((شجرة المعارف والأحوال)) (ص: 14 - 15). (¬2) انظر: ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 286). (¬3) ((صيد الخاطر)) (ص: 70). (¬4) ((مدارج السالكين)) (3/ 6 - 7). (¬5) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 134 - 135).

ومن سلك طريق التأمل في الأسماء والصفات ولاحظ نعم الله عليه كيف لا يكون حب الله تعالى أعظم شيء لديه، قال أبو سليمان الواسطي: (ذكر النعم يورث المحبة) (¬1)، وقال ابن القيم: (فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدها نقصاً وأبعدها من كل خير، فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها قلوب عباده، فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه وتعالى، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعه سبحانه وتعالى، وهو الذي لا يحد كماله ولا يوصف جلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه وإذا كان الكمال محبوباً لذاته ونفسه وجب أن يكون الله هو المحبوب لذاته وصفاته؛ إذ لا شيء أكمل منه، وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته وأفعاله دالة عليها، فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل ما أمر؛ إذ ليس في أفعاله عبث ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة، وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه، وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل، فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع (¬2) سرور القلب بمحبة الله: وإذا شمر العبد إلى تلك المنزلة ورام الوصول إليها وعرف الله بأسمائه وصفاته التفت القلب إلى الله وخلى عن كل ما عداه فـ (لم يكن شيء أحب إليه منه، ولم تبق له رغبة فيما سواه إلا فيما يقربه إليه ويعينه على سفره إليه) (¬3). قال يحيى بن أبي كثير: (نظرنا فلم نجد شيئاً يتلذذ به المتلذذون أفضل من حب الله تعالى وطلب مرضاته). فكأن لسان الحال يقول: كل محبوب سوى الله سرف ... وهموم وغموم وأسف كل محبوب فمنه خلف ... ما خلا الرحمن ما منه خلف (¬4) وقال ابن تيمية: (وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله) (¬5). محبة الله باعث التوحيد والطاعة: ولذا كانت محبة الله مقتضية لعدم التشريك بينه وبين غيره فهي باعث التوحيد، ألا ترى أن القلب له وجه واحد: مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4]، فإذا مال إلى جهة لم يمل إلى غيرها، وليس لأحد قلبان يوحد بأحدهما ويشرك بالآخر (¬6). قال صديق حسن: (محبة الله إذا استغرق بها القلب واستولت عليه لم تبعث الجوارح إلا إلى مراضي الرب، وصارت النفس حينئذ مطمئنة بإرادة مولاها عن ماردها وهواها، يا هذا اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه)، وقال: (من امتلأ قلبه من محبة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادة النفس والهوى) (¬7). فإلى من ابتلي بهواه حتى ألم به من جوانبه وأعياه هذا هو الدواء لكل داء والبلسم للشفاء، تأمل في أسماء الخالق العظيم وصفاته لتتلمس محبته وما يقربك إليه. ¬

(¬1) ((المحبة لله سبحانه)) لإبراهيم بن الجنيد (ص: 24). (¬2) ((طريق الهجرتين)) (ص: 520 - 521). (¬3) ((روضة المحبين)) (ص: 406). (¬4) ((المحبة لله سبحانه)) لإبراهيم بن الجنيد (ص: 44، 101). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 32). (¬6) لاحظ ((روضة المحبين)) (ص: 295). (¬7) ((الدين الخالص)) (1/ 167).

وإذا أردت كمال العبودية فاعلم أنه تابع لكمال المحبة، وذلك تابع لكمال المحبوب في نفسه، ولما أن كان الله تعالى له الكمال المطلق من كل وجه بحيث لا يعتريه توهم النقص فإن القلوب السليمة والفطر المستقيمة والعقول الحكيمة لا تلتفت إلا إليه ولا تريد أحداً سواه ولا تقبل بحبها إلا إليه سبحانه، وحينذاك فلا تقبل إلا لما تقتضيه تلك المحبة من عبوديته وطاعته وأتباع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبد له والإنابة إليه. قال ابن القيم: (وهذا الباعث أكمل بواعث العبودية وأقواها حتى لو فرض تجرده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب استفرغ الوسع واستخلص القلب للمعبود الحق) (¬1). وإياك أن يخلو قلبك من الحب لله تعالى أو أن تملئه من محبة غيره فإن الله تعالى يغار على قلب عبده أن يكون معرضاً عن حب، فالله تعالى خلقك لنفسه واختارك من بين خلقه، ولتعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً سلط على قلبه إذا أعرض عنه واشتغل بحب غيره أنواع العذاب حتى يرجع قلبه إليه وإذا اشتغلت جوارحه بغير طاعته ابتلاها بأنواع البلاء (¬2). وبعد هذا اللهج بقولك: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقرب على حبك (¬3)، فقد كان هذا من دعاء سيد المحبين صلى الله عليه وسلم، فأكثر منه لعل الله تعالى أن يفتح لك الباب، فإن من أكثر الطرق ولج بإذن الله تعالى. ثانياً: الذل والتعظيم. من تحقق بمعاني الأسماء والصفات شهد قلبه عظمة الله تعالى فأفاض على قلبه الذل والانكسار بين يدي العزيز الجبار. سجود القلب: ولا شك أن تمام العبودية لا يتم إلا بتمام الذل والانقياد لله، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلا وافتقارا وخضوعا بحيث يحصل للقلب انكسار خاص لا يشبهه شيء فهو يرى حينئذ أنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من خالقه وربه ومولاه، وحينئذ يستكثر القليل من الخير على نفسه كأنه لا يستحقه، ويستكثر قليل معاصيه لعظمة الله تعالى في قلبه، وذلك هو سجود القلب، سئل بعض العارفين أيسجد القلب؟ قال: نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء. ومن سجد هذه السجدة سجدت معه جميع جوارحه، وعنا الوجه للحي القيوم، ووضع خده على عتبة العبودية التي يقول عنها ابن تيمية: (من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية) ... وإذا تأمل العبد ذلك ألا يدعوه إلى تعظيم الخالق العظيم، فلا يستصغر في حقه معصية قط مهما صغرت، ولا يستعظم في حقه طاعة قط مهما عظمت. قال القرافي في سر تحريم العجب: (إنه سوء أدب على الله تعالى، فإن العبد لا ينبغي له أن يستعظم ما يتقرب به إلى سيده، بل يستصغره بالنسبة إلى عظمة سيده لا سيما عظمة الله تعالى، ولذلك قال الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزُّمر: 67] أي ما عظموه حق تعظيمه) (¬4). فانظر وفقك الله كيف يثمر التأمل في الأسماء والصفات والتعبد بها من معرفة عظمة الله تعالى، وما يثمره ذلك من الأدب مع الله والذل بين يديه واحتقار كل عمل يتقرب به إليه إذ هو قليل في حق عظمته تعالى، وما يثمره ذلك من الخوف منه والبعد عن معاصيه؛ إذ كل عظيم يخشى من مخالفة أمره والوقوع في نهيه فكيف بأعظم عظيم جل وعلا. ثالثاً: الخشية والهيبة. ¬

(¬1) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 88 - 89). (¬2) انظر: ((روضة المحبين)) (ص: 310). (¬3) رواه الترمذي (3235)، وأحمد (5/ 243) (22162)، والطبراني (20/ 109) (216)، والحاكم (1/ 702، رقم 1913). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (4/ 73): صحيح. (¬4) ((الفروق)) (4/ 227).

قال ابن القيم: (كلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له وخشيته إياه، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [فاطر: 28] أي العلماء به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية)) (¬1)) (¬2). وفي قول تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ يقول البحر ابن عباس في معنى الآية: (إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني) (¬3). وقال ابن كثير: (إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر) (¬4). وكيف لا يخشع القلب ويهاب إذا امتلأ بالحب والتعظيم والمعرفة بالخالق العظيم، فإن من عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله وحده (¬5). رابعاً: اليقين والسكينة والطمأنينة. من عبد الله بأسمائه وصفاته وتحقق من معرفة خالقه جل وعلا، وعظمه حق تعظيمه فإنه ولا شك يصل إلى درجة اليقين. قال ابن القيم: (فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده) (¬6). وباليقين مع الصبر تنال الإمامة في الدين، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]. وتلك المنزلة العالية الرفيعة هي روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وغم وامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضى به وشكرا له وتوكلا عليه وإنابة إليه، قال أبو بكر الدقاق: (اليقين ملاك القلب وبه كمال الإيمان، وباليقين عرف الله، وبالعقل عقل عن الله). وإذا تيقن القلب نزلت السكينة، وهي الطمأنينة والسكون الذي ينزل في القلب عند اشتداد المخاوف والبلاء، فيزداد ذلك القلب إيماناً وثباتا، ويكسو الجوارح خشوعا ووقارا، ويضفي على اللسان حكمة وصوابا (¬7). خامساً: الرضا. والرضا من ثمرات المعرفة بالله، فمن عرف الله بعدله وحكمه وحكمته ولطفه أثمر ذلك في قلبه الرضا بحكم الله وقدره في شرعه وكونه فلا يتعرض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدره، بل تراه: (قد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي، أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة، فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة صارت مرارة الأقدار حلاوة كما قال القائل: عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب (¬8) ¬

(¬1) رواه البخاري (6101)، ومسلم (2356). بلفظ: ((إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) ((روضة المحبين)) (ص: 406). (¬3) ((زاد المسير)) (6/ 486). (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 561). (¬5) لاحظ ((روضة المحبين)) (ص: 406). (¬6) ((مدارج السالكين)) (2/ 419 - 420) وانظر لليقين منه (1/ 413 وما بعدها). (¬7) انظر: ((مدارج السالكين)) (32/ 525 - 527). (¬8) ((صيد الخاطر)) (ص: 69).

وقد كان من سؤال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((أسألك الرضا بعد القضا)) (¬1). وإنما يرضى المؤمن العارف بأسماء الله وصفاته بحكم الله وقضائه؛ لأنه يعلم أن تدبير الله له خير من تدبيره لنفسه، وأنه تعالى أعلم بمصلحته من نفسه، وأرحم به من نفسه، وأبر به من نفسه، ولذا تراه يرضى ويسلم، بل إنه يرى أن هذه الأحكام القدرية الكونية أو الشرعية إنما هي رحمة وحكمة، وحينئذ لا تراه يعترض على شيء منها، بل لسان حاله: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، وذلك والله محض الإيمان. سادساً: التوكل. إن من أجل ما يثمره التعبد بالأسماء والصفات أن يعتمد القلب على الله ويخلص في تفويض أمره إليه، وذلك حقيقة التوكل على الله. والتوكل من أعظم العبادات تعلقا بالأسماء والصفات، ذلك أن مبناه على أصلين عظيمين. الأول: علم القلب، وهو يقينه بعلم الله وكفايته وكمال قيامه بشأن خلقه، فهو القيوم سبحانه الذي كفى عباده شئونهم، فبه يقومون وله يصمدون. والثاني: عمل القلب، وهو سكونه إلى العظيم الفعال لما يريد وطمأنينته إليه وتفويض أمره إليه ورضاه وتسليمه بتصرفه وفعله؛ إذ كل شيء يمضي ويكون فبحكمه وحكمته وقدره وعلمه، لا ينفذ شيء في الأرض ولا في السماء عن قدرته، فله الحكم كله، وإليه يرجع الأمر كله (¬2). ومتى ما أخلص القلب ذلك لله علما وعملا كان من سابقي المتوكلين وصادقي المفوضين والمستسلمين، وإنه والله لغاية الأنس والعز أن يعتمد الإنسان في جميع أمره وشأنه على الله تعالى. ولما أن كان هذان الأمران إنما ينبنيان على العلم بهذا الباب العظيم باب الأسماء والصفات قال بعض العلماء مفسرا التوكل بأنه المعرفة بالله، وإنما أراد أنه بحسب معرفة العبد بالله تعالى وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا وتعبده بها وعلمه بقدرة الله وكفايته وتمام علمه وقيوميته وصدور الأمور عن مشيئته يصح له التوكل ويتم له ويتحقق، قال ابن القيم: (كلما كان بالله أعرف كان توكله عليه أقوى)، ولذا قال ابن تيمية: (لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات) (¬3). سابعاً: الدعاء. إن من تأمل شيئا من أسماء الله وصفاته فإنها بلا شك ستقوده إلى أن يتضرع إلى الله بالدعاء ويبتهل إليه بالرجاء، فمن تأمل قرب الله تعالى من عبده المؤمن، وأن الله تعالى هو القريب المجيب والبر الرحيم والمحسن الكريم فإن ذلك سيفتح له باب الرجاء وإحسان الظن بالله وسيدفعه إلى الاجتهاد في الدعاء والتقرب إلى الله به. بل إن من تأمل وتعبد بالأسماء والصفات لا يقتصر على مجرد الدعاء، بل سيفيض عليه ذلك الأمر حضور القلب وجمعيته بكليته على الله تعالى فيرفع يديه ملحا على الله بالدعاء والسؤال والطلب والرجاء. ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 191) (21710)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 34)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (426)، والحاكم (1/ 697)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 314). من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح عند ابن خزيمة - كما أشار إلى ذلك في المقدمة – وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في (تخريج كتاب السنة لابن أبي عاصم). (¬2) انظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 426). (¬3) ((مدارج السالكين)) (2/ 123) وانظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 423).

وإنما كان الدعاء من أجل ثمرات العلم بالأسماء والصفات، وكان هو سلاح المؤمن، وميدان العارف، ونجوى المحب، وسلم الطالب، وقرة عين المشتاق، وملجأ المظلوم لما فيه من المعاني الإلهية العظيمة، ولذا قال ابن عقيل مبينا شيئا من هذه المعاني: (قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معان: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى. الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى. الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى. الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى. الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى. السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى) (¬1). ثامناً: الإخلاص. إن إدراك معاني الأسماء والصفات على التحقيق يحمل العبد على إفراد الله بالقصد والابتعاد عن صرف شيء من العبادة لغيره تعالى، ولذا كان من أعظم ما يخلص العبد من دنس الرياء ملاحظة أسماء الله وصفاته، فمن لاحظ من أسماء الله الغني دفعه ذلك إلى الإخلاص لغنى الله تعالى عن عمله وفقره هو إلى الله عز وجل قال الله تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) (¬2). ومن تأمل اسم الله العليم فإنه يعلم أن ما أخفاه عن أعين الناس من ملاحظة الخلق لا يخفى على الله لعلمه التام بكل شيء، ومن تأمل اسم الله الحفيظ حمله ذلك على ترك الرياء؛ لأن كل ما يفعله العبد محفوظ عليه سيوافى به يوم القيامة. وإذا صنع ذلك كان عمله كله لله، فحبه لله، وبغضه لله، وقوله لله، ولحظه لله، وعطاؤه لله، ومنعه لله، فلا يريد من الناس جزاء أو شكورا، ولسان حاله: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 9] وإن تقصير العبد في إخلاصه ووقوعه في الرياء أو قصد غير الله إنما هو بسبب جهله بأسماء الله وصفاته، ولذا قال ابن رجب: (ما تظاهر المرائي إلى الخلق بعمله إلا بجهله بعظمة الخالق) (¬3). ذلك أن من امتلأ قلبه بعظمة الله فإنه يستصغر كل من سواه ... ولم يتعلق بغير الله، والله تعالى له الأمر كله، فلا يكون في الكون شيء إلا بأمره وعلمه. تاسعاً: التلذذ بالعبادة. إن من أعظم المنح الربانية منحة التلذذ بالعبادة، فإذا قام العبد بالعبادة وجد لها من اللذة كما يجد المتذوق طعم الحلاوة في فمه ووجد في قلبه من الأنس والانشراح والسعادة ما لا يجده في وقت آخر، وحينئذ تكون العبادة راحة نفسه وطرب قلبه فيكون لسان حاله أرحنا بالعبادة يا بلال، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة: ((قم يا بلال فأرحنا بالصلاة)) (¬4)، فتكون الصلاة لما فيها من القرب لله والمناجاة له والتلذذ بكلامه والتذلل له والتعبد بأسمائه قرة العين وسلوة الفؤاد، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (¬5). ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 678). (¬2) رواه مسلم (2985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((تحقيق كلمة الإخلاص)) (ضمن مجموعة رسائل له، ت: العزازي: 53). (¬4) رواه أبو داود (4986). من حديث صهر لمحمد بن الحنفية. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (14/ 167): كلام صحيح معقول، وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (1/ 63): إسناده على شرط البخاري. (¬5) رواه أحمد (3/ 128) (12315)، والنسائي (7/ 61)، وأبو يعلى (6/ 237) (3530)، والحاكم (2/ 174)، والبيهقي (7/ 78) (13232). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال البيهقي: له متابعة، ورواه جماعة من الضعفاء عن ثابت، وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 177): إسناده قوي.

قال ابن تيمية: (فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده والإيمان به وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب، وقال آخر: لتمر على القلب أوقات يرقص فيها طربا، وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أرحنا بالصلاة يا بلال))، ولا يقول أرحنا منها كما يقوله من تثقل عليه الصلاة كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ [البقرة: 45]، والخشوع: الخضوع لله تعالى والسكون والطمأنينة إليه بالقلب والجوارح) (¬1). خفة العبادة بسبب لذتها: وبتحصيل هذه اللذة يخف ثقل العبادة على القلب، بل قد تزول تلك المشقة فتكون العبادة بردا وسلاما على القلب، قال الشاطبي: (والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل لوازع هو أشد من المشقة أو حاد يسهل به الصعب، أو لما له في العمل من المحبة ولما حصل له فيه من اللذة حتى خف عليه ما ثقل على غيره، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره كما جاء في الحديث: ((أرحنا بها يا بلال)) (¬2). تأمل الأسماء والصفات طريق للذة العبادة: وإذا تبين ذلك فإن من أعظم ما يحصل به لذة العبادة هو تأمل الأسماء والصفات وتعبد الله بها ومراعاتها في كل عبادة يأتي بها العبد أو يتركها. فإذا تصدق العبد بالقليل مستشعرا أن الله شكور لا يضيع عمله، بل يبارك له فيه ولو كان قليلا كان ذلك مدخلا على قلبه الفرح والسرور بربه ووجد في قلبه حلاوة عظيمة لعمله. ومن صلى لله تعالى متذكرا حينما قام لله صافا قدميه قيومية الله تعالى وأن الله قائم بذاته وعباده لا يقومون إلا به سبحانه وتعالى، ثم إذا كبر ورفع يديه استشعر أن الله أكبر من كل شيء، وشاهد كبرياء الله وعظمته وجلاله، ثم إذا قرأ دعاء الاستفتاح استشعر ما فيه من تنزيه الرب عن كل نقص، وإذا استعاذ وبسمل التجأ بقلبه إلى الركن الركين وتبرأ من كل حول واعتصم بالله من عدوه واستعان به لا بغيره، ثم إذا قرأ الفاتحة استشعر ما فيها من استحقاق الله لكل المحامد وألوهيته وربوبيته ورحمته بخلقه وملكه لكل شيء، واستحضر أنه يناجي ربه وأن ربه يجيبه على مناجاته كما في الصحيح: ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)) (¬3). ثم تذكر عظمة الله وعلوه، وتذكر خضوعه وتذلله بين يدي ربه بركوعه وسجوده وانكساره، وتأمل ذلك وهو يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، إذا صنع ذلك في صلاته كيف لا يصلي صلاة مودع، وكيف لا يتلذذ بصلاته وعبادته (¬4) ... وما سبق هو جنس من العبادة، وكل عبادة يقدم عليها العبد مستشعرا هذه المعاني، وقد امتلأ قلبه بالحب للخالق العظيم فإنه ولا بد يحصل لذتها والأنس بها، وفي الحديث: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) (¬5). التعبد بالأسماء والصفات لمحات علمية إيمانية لوليد بن فهد الودعان - بتصرف – ص: 64 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 31) وهي رسالة يتحدث فيها عن نعم الله عليه وهو في السجن. (¬2) ((الموافقات)) (2/ 240) وحديث عن أضرب الناس في تأثرهم من خوضهم في العمل الشاق، وانظر ((كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة)) (مع مجموعة رسائل لابن رجب ت: عاجل العزازي، ص: 108). (¬3) رواه مسلم (395). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) انظر كتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص: 171) وما بعدها. (¬5) رواه البخاري (16)، ومسلم (43). من حديث أنس رضي الله عنه.

المبحث الثاني: الآثار الإيمانية لبعض أسماء الله وما تضمنته من صفات

أولا: الآثار الإيمانية لاسم الله الرحمن وإن من تأمل هذا الاسم الكريم أثمر ذلك في قلبه أمورا عظيمة، ومنها: أولا: الحب: فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها وكيف لا يحب الإنسان من أفاض عليه رحمته وعطفه ومنته وفضله ومن هو أرحم به من أمه، جاء في الصحيح أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذ وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار))، قالوا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) (¬1). ثانيا: الرجاء وحسن الظن بالله: قال العز بن عبد السلام: (من عرف سعة رحمة الله كان حاله الرجاء) (¬2)، وفي الصحيح: ((قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي)) (¬3). وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل: ((قال أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى، عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب أعمل ما شئت فقد غفرت لك)) (¬4). وفي الحديث: ((أسرف رجل على نفسه –وفي رواية لم يعمل حسنة قط- فلما حضره الموت أوصى بنيه، فقال إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه به أحدا، قال ففعلوا ذلك به فقال للأرض أدى ما أخذت فإذا هو قائم، فقال له ما حملك على ما صنعت، فقال خشيتك يا رب أو قال مخافتك، فغفر له بذلك)) (¬5). وقد دخل حماد بن سلمة على الثوري، فقال سفيان: أترى أن الله يغفر لمثلي، فقال حماد: والله لو خيرت بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبوي لاخترت محاسبة الله؛ وذلك لأن الله أرحم بي من أبوي. ومما يزيد العبد تعلقا بربه وإحسان الظن به أن الله تعالى يشكر عمل عبده مع قلته، بل ويغفر لصاحبه بسببه، وفي الحديث: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغر له))، قالوا يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجرا، فقال: ((في كل كبد رطبة أجر)) (¬6)، وفي لفظ ((أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها)) (¬7). وفيه: ((كان على الطريق غصن شجرة يؤذي الناس فأماطها رجل فأدخل الجنة)) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (5999)، ومسلم (2754). من حديث عمر رضي الله عنه. (¬2) ((مختصر الفوائد في أحكام المقاصد)) (ص: 203 - 204) وانظر ((شجرة المعارف والأحوال)) (ص: 83). (¬3) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (7507)، ومسلم (2758). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (3482)، ومسلم (2756). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (2363)، ومسلم (2244). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) رواه ابن ماجه (2984)، وأحمد (2/ 495) (10436). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

وفيه: ((كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه)) (¬1). وإن من حسن الظن بالله أن ترى البلاء رحمة ونعمة فكم من محنة محصت الذنوب ونبهت من الغفلة وذكرت بالنعمة، وكم من محنة أصبحت منحة أعادت إلى الله وأنقذت من شرك الشيطان: إذا سر بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر وما منهما إلا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر فإذا أصابك البلاء فهو رحمة، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الطاعون رحمة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فخبرها صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد)) (¬2). ولو لم يكن في البلاء إلا تكفير الذنوب لكفى في كونه رحمة وفضلا، وفي الحديث: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) (¬3)، وفيه: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها)) (¬4)، وفي الترمذي: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) (¬5). وقد يرى العبد الأمر شرا وهو خير له كما رأى موسى فعل الخضر شرا فكان خيرا. ثالثا: الحياء: إن التأمل في إحسان الله ورحمته يورث العبد حياء منه سبحانه وتعالى، فيستحي العبد المؤمن من خالقه أن يعصيه، ثم إن وقع في الذنب جهلا منه استحيا من الله بعد وقوعه في الذنب، ولذا كان الأنبياء يعتذرون عن الشفاعة للناس بذنوبهم خوفا وخجلا، وإن هذا لأمر قل من ينتبه له، بل قد يظن كثير من الناس أن التوبة والعفو قد غمر ذنوبه فلا يلتفت إلى الحياء بعد ذلك. كان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة والصوم حتى يصفر جسده فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ما لي لا أجزع، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحييا منه. و ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس)) (¬6). رابعاً: رحمة الخلق: ومن استشعر رحمة الله تعالى وشاهد ذلك بقلب صادق أفاض على قلبه رحمة الخلق، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق، وسماه ربه رحيما فقال تعالى: بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]. ¬

(¬1) رواه البخاري (2078)، ومسلم (1562). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (5734). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه البخاري (5641، 5642)، ومسلم (2573). من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (5640)، ومسلم (2572). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) رواه الترمذي (2399)، وأحمد (2/ 450) (9810)، وابن حبان (7/ 176) (2913)، والحاكم (4/ 350). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (833) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬6) رواه أبو داود (4017)، والترمذي (2769)، وابن ماجه (1920)، وأحمد (5/ 3) (20046)، والحاكم (4/ 199). من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في ((هداية الساري)) (20).

وقد أبصر الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يرحم لا يرحم)) (¬1). ولما قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أتقبلون صبيانكم، فقالوا نعم، فقالوا لكن والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأملك إن كان الله نزع منك الرحمة)) (¬2). وتتبين آثار رحمته صلى الله عليه وسلم حينما رأى ابنه إبراهيم وهو في سكرات الموت، قال أنس لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون)) (¬3) وفي رواية البخاري: ((فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله فقال: يا ابن عوف إنها رحمة)) (¬4). وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الرحمة، بل وجعلها سببا لرحمة الله تعالى، وجعل من نزعت منه الرحمة شقيا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) (¬5)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقي)) (¬6)، وكان ابن لبعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فأرسلت إليه أن يأتيها فأرسل: ((إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل إلى أجل مسمى فلتصبر ولتحتسب))، فأرسلت إليه فأقسمت عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة ومعاذ بن جبل وسعد بن عبادة، فلما دخل ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تقعقع في صدره فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد بن عبادة أتبكي! فقال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (¬7)، وفي الترمذي: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) (¬8). قال الطيبي: (أتي بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البر والفاجر والناطق والبهم والوحوش والطير) (¬9). رحمة تغيب عن كثير من الأذهان: ¬

(¬1) رواه البخاري (5997)، ومسلم (2318). (¬2) رواه البخاري (5998)، ومسلم (2317). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه البخاري (1303)، ومسلم (2315). (¬4) رواه البخاري (1303). (¬5) رواه البخاري (7376)، ومسلم (2319). من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه. (¬6) رواه أبو داود (4942)، والترمذي (1923)، وأحمد (2/ 301) (7988)، وابن حبان (2/ 213) (466)، والحاكم (4/ 277). من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه الترمذي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. (¬7) رواه البخاري (1284)، ومسلم (923). من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. (¬8) رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (2/ 160) (6494)، والحاكم (4/ 175). من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه العراقي في ((الأربعون العشارية)) (ص: 125). (¬9) ((تحفة الأحوذي)) (6/ 51).

ومن الرحمة التي تغيب عن كثير من الأذهان رحمة عموم الخلق مسلمهم وكافرهم، قال ابن تيمية في أهل البدع: (ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر –والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم ورفقت عليهم، وأتوا ذكاء وما أتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف: 26] (¬1). وقال ابن القيم: وانظر بعين الحكم وارحمهم بها ... إذ لا ترد مشيئة الديان وانظر بعين الأمر واحملهم على ... أحكامه فهما إذا نظران واجعل لقلبك مقلتين كلاهما ... من خشية الرحمن باكيتان لو شاء ربك كنت أيضا مثلهم ... فالقلب بين أصابع الرحمن تنبيهان: وختاما للتأمل في هذا الاسم الكريم لا بد من التنبيه على أمرين: أولهما: أن رحمة الله الخاصة إنما تحصل بطاعة الله واتباع مرضاته فالله عز وجل يقول: إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56]. وليس لمن عصى الله أن يتعلق باسمه الرحمن ليستمر في العصيان فالله تعالى يقول: نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [الحجر: 49 - 50]، وقد حج عمر بن عبد العزيز مع سليمان بن عبد الملك فأصابهم برق ورعد كادت تنخلع له قلوبهم، فقال سليمان: هل رأيت مثل هذه الليلة أو سمعت بها، قال: يا أمير المؤمنين هذا صوت رحمة الله فكيف لو سمعت صوت عذاب الله (¬2). وفي الحديث: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)) (¬3). ثانيهما: أن ما ذكر من آثار وتأملات في هذا الاسم الكريم إنما هي قطرة من بحر وزهرة من بستان، فلو سودت الدفاتر والأوراق كلها ما أدركت جميع ما في هذا الاسم من الأسرار والمعاني، وهكذا كل اسم من أسماء الله تعالى، وإنما هي فتوحات يفتح الله بها لكل عبد بحسبه، ولو اجتمعت فتوحات الخلق جميعا لما أدركوا جميع ما في كل اسم من أسماء الله تعالى. التعبد بالأسماء والصفات لمحات علمية إيمانية لوليد بن فهد الودعان – ص: 95 ¬

(¬1) ((الفتوى الحموية)) (ص: 553) وانظر كلاما جميل عن ذلك في ((مدارج السالكين)) (1/ 459). (¬2) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (45/ 153). (¬3) رواه مسلم (2755). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ثانيا: الآثار الإيمانية لاسم الله الجميل

ثانيا: الآثار الإيمانية لاسم الله الجميل إن التعبد باسمه الجميل يقتضي محبته والتأله له، وأن يبذل العبد له خالص المحبة وصفو الوداد، بحيث يسيح القلب في رياض معرفته, وميادين جماله، ويبتهج بما يحصل له من آثار جماله وكماله، فإن الله ذو الجلال والإكرام (¬1) ... عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال)) (¬2). فائدة مهمة: يشرع الدعاء للغير بالجمال، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. عن عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بإناء فيه ماء وفيه شعرة، فرفعتها فناولته، فنظر إلي (رسول الله) صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اللهم جمله)). قال: فرأيته وهو ابن ثلاث وتسعين، وما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء. (¬3) وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح وجهه، ودعا له بالجمال (¬4). نسأل الله جل وعلا أن يجمل قلوبنا وألسنتنا وأعمالنا. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 114 أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالجمال فإنه يحرص على معرفة ربه تعالى بهذا الجمال الذي بهر القلوب والعقول فكان كل جمال في الوجود من آثار صنعته، فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال؟ قال الإمام ابن القيم: من أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه بالجمال وهي معرفة خواص الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله، وجماله سبحانه ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ولو فرضت الخلق كلهم على أجملهم صورة وكلهم على تلك الصورة، ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس، ويكفي في جماله: (أنه لو كشف عن وجهه لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه)، ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعته فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال، ويكفي في جماله أنه له العزة جميعاً، والقوة جميعاً، والجود كله والإحسان كله، والعلم كله، والفضل كله، والنور كله، وجهه أشرقت له الظلمات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الطائف: ((أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة)) (¬5). ولقد ضل في مفهوم الجمال أقوام قال عنهم الإمام ابن القيم: ولكن ضل في هذا الموضوع فريقان: فريق قالوا كل ما خلقه جميل، فهو يحب كل ما خلقه، ونحن نحب جميع ما خلقه فلا ينبغي منه شيئا، قالوا: ومن رأى الكائنات منه رآها كلها جميلة وأنشد منشدهم: وإذا رأيت الكائنات بعينهم ... فجميع ما يحوي الوجود مليح ¬

(¬1) ((المجموعة الكاملة)) (3/ 228). (¬2) رواه مسلم (91). (¬3) رواه أحمد (5/ 340) (22932)، وابن حبان (16/ 132) (7172)، والحاكم (4/ 155)، والطبراني (17/ 28) (13735). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 381): رواه أحمد والطبراني إلا أنه قال: ستون سنة، وإسناده حسن، وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (5/ 256). (¬4) رواه أحمد (5/ 341) (22941)، وأبو يعلى (12/ 240) (6847)، وابن حبان (16/ 131) (7171). وصححه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1932)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1002). (¬5) رواه ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (7/ 269)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (49/ 152). من حديث عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما. قال ابن عدي: لم نسمع أن أحدا حدث بهذا الحديث غير أبي صالح الراسبي، وضعفه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (2933).

واحتجوا بقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] وقوله: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] وقوله: مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ [الملك: 3]، والعارف عندهم هو الذي يصرح بإطلاق الجمال، ولا يرى في الوجود قبيحاً، وهؤلاء قد عدمت الغيرة لله من قلوبهم، والبغض في الله، والمعاداة فيه، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيله وإقامة حدوده، ويرى جمال الصور من الذكور والإناث من الجمال الذي يحبه الله فيتعبدون بفسقهم فيها، وإن كان اتحادياً قال: هي مظهر من مظاهر الحق، ويسميها المظاهر الجميلة. وقابلهم الفريق الثاني فقالوا: قد ذم الله سبحانه جمال الصور، وتمام القامة والخلقة، فقال عن المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون: 4] وقال: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [مريم: 74] أي أموالاً ومناظر. قال الحسن: هو الصور. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (¬1). قالوا: ومعلوم أنه لم ينف نظر الإدراك، وإنما نفى نظر المحبة. قالوا: وقد حرم علينا لباس الحرير والذهب وآنية الذهب والفضة، وذلك من أعظم جمال الدنيا، وقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: 131] وفي الحديث: ((البذاذة من الإيمان)) (¬2). وقد ذم الله المسرفين، والسرف كما يكون في الطعام والشراب يكون في اللباس. وفصل النزاع أن يقال: الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم. فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود. وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه، فإن ذلك محموداً إذا تضمن إعلاء لكلمة الله، ونصر دينه، وغيظ عدوه، والمذموم منه ما كان للدنيا والرئاسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه. فإن كثيراً من النفوس ليس لها هم في سوى ذلك، وأما ما لا يحمد ولا يذم فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين. والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين: فأوله معرفة، وآخره سلوك، فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله في شيء، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق وقلبه بالإخلاص والمحبة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه، وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ في الشعور المكروهة والختان وتقليم الأظافر، فيعرفه بصفات الجمال ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة، فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه، فجمع الحديث قاعدتين: المعرفة والسلوك (¬3). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي الغامدي -بتصرف – ص: 467 ¬

(¬1) رواه مسلم (4651). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه أبو داود (4161)، وابن ماجه (3340)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 227). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 381): صحيح، وصحح إسناده السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (281). (¬3) ((الفوائد)) (ص: 323 - 327).

ثالثا: الآثار الإيمانية لاسم الله الرقيب

ثالثا: الآثار الإيمانية لاسم الله الرقيب من تعبد الله باسمه الرقيب أورثه ذلك المقام المستولي على جميع المقامات، وهو مقام المراقبة لله في حركاته وسكناته، لأن من علم أنه رقيب على حركات قلبه, وحركات جوارحه وألفاظه السرية والجهرية، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة، وكل نفس وكل طرفة عين، واستدام هذا العلم، فإنه لابد أن يثمر له هذا المقام الجليل، وهذا سر عظيم من أسرار المعرفة بالله. انظروا إلى ثمراته وفوائده العظيمة، وإصلاحه للشؤون الباطنة والظاهرة (¬1). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 128 1 - يجب على كل مكلف أن يعلم الله جل شأنه هو القريب على عباده، الذي يراقب حركاتهم وسكناتهم، وأقوالهم وأفعالهم بل ما يجول قلوبهم وخواطرهم، لا يخرج أحد من خلقه عن ذلك قال سبحانه وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235]. وقال رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7]. قال القرطبي: ورقيب بمعنى راقب، فهو من صفات ذاته، راجعة إلى العلم والسمع والبصر، فإن الله تعالى رقيب على الأشياء بعلمه المقدس عن مباشرة النسيان. ورقيب للمبصرات ببصره الذي لا تأخذه سنه ولا نوم. ورقيب للمسموعات بسمعه المدرك لكل حركة وكلام. فهو سبحانه رقيب عليها بهذه الصفات،، تحت رقبته الكليات والجزئيات، وجميع الخفيات في الأرضين والسماوات، ولا خفي عنده بل جميع الموجودات كلها على نمط واحد في أنها تحت رقبته التي هي من صفته اهـ (¬2). فمن كان لذلك ملاحظاً غير غافل عنه، راقب تصرفاته، ومعاملاته وعباداته، وسائر حياته، وفي ذلك صلاح دنياه وآخرته، بل بلوغه أعلى درجات الإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فأجابه: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬3). قال ابن القيم: (المراقبة) دوام علم العبد، وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه. فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين. قال: (والمراقبة) هي التعبد باسمه (الرقيب)، الحفيظ، العليم، السميع، البصير. فمن عقل هذه الأسماء، وتعبد بمقتضاها، حصلت له المراقبة والله أعلم (¬4). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 378 ¬

(¬1) ((فتح الرحيم الملك العلام)) (ص: 52). (¬2) ((الكتاب الأسنى)) (401 - 402). (¬3) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((مدارج السالكين)) (2/ 65 - 66) باختصار.

رابعا: الآثار الإيمانية لاسم الله المحسن

رابعا: الآثار الإيمانية لاسم الله المحسن إن الله يحب من خلقه التعبد بمعاني أسمائه وصفاته، فهو جميل يحب الجمال، محسن يحب الإحسان، ولذا كتب الإحسان على كل شيء. عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله محسن يحب الإحسان، فإذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قلتم فأحسنوا)) (¬1). وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين أنه قال: ((إن الله محسن يحب الإحسان، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة؛ وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، ثم ليرح ذبيحته)) (¬2). فإذا كان العبد مأموراً بالإحسان إلى من استحق القتل من الآدميين، وبإحسان ذبحة ما يراد ذبحه من الحيوان، فكيف بغير هذه الحالة؟ (¬3) عن كليب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن)) (¬4). قال ابن القيم رحمه الله: والله لا يرضى بكثرة فعلنا ... لكن بأحسنه مع الإيمان فالعارفون مرادهم إحسانه ... والجاهلون عموا عن الإحسان (¬5) والإحسان هو غاية الوجود الإنساني. قال جل جلاله: الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ [الملك: 2]. وقال تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30]. وقال سبحانه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7]، (ولم يقل: أكثر عملاً، فإذا عرف العبد أنه خلق لأجل أن يختبر في إحسان العمل، كان حريصاً على الحالة التي ينجح بها في هذا الاختبار؛ لأن اختبار رب العالمين يوم القيامة، من لم ينجح فيه جر إلى النار، فعدم النجاح فيه مهلكة، وقد أراد جبريل عليه السلام أن ينبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عظم هذه المسألة وشدة تأكدها، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور: يا محمد – صلوات الله وسلامه عليه – أخبرني عن الإحسان؟ أي: وهو الذي خلق الخلق من أجل الاختبار فيه، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طرقه الوحيدة هي هذا الواعظ الأكبر, والزاجر الأعظم، الذي هو طريق المراقبة والعلم فقال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬6).) (¬7). والإحسان نوعان: إحسان في عبادة الله وهو: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬8). فهذان مقامان: أحدهما: مقام المراقبة، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه واطلاعه عليه؛ فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله، فيراقبه في حركاته, وسكناته, وسره وعلانيته، فهذا مقام المراقبين المخلصين، وهو أدنى مقام الإحسان. والثاني: أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة، فيصير كأنه يرى الله ويشاهده، وهذا نهاية مقام الإحسان، وهو مقام العارفين. ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 40) (5735). قال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (4/ 1984): [فيه] محمد بن بلال قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. (¬2) رواه الطبراني (7/ 275) (7121). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1824). (¬3) ((بهجة قلوب الأبرار)) (ص: 119). (¬4) رواه الطبراني (19/ 199) (16118)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 335). وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1891، و8037). (¬5) ((الكافية الشافية)) (ص: 70). (¬6) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). (¬7) ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (5/ 200). (¬8) رواه البخاري (50)، ومسلم (9).

فمن وصل إلى هذا المقام، فقد وصل إلى نهاية الإحسان، وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان، فعرف ربه وأنس به في خلوته، وتنعم بذكره, ومناجاته, ودعائه (¬1). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس من أهل البدو، فقالوا: يا رسول الله! قدم علينا أناس من قرابتنا، فزعموا أنه لا ينفع عمل دون الهجرة والجهاد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حيثما كنتم، فأحسنوا عبادة الله، وأبشروا بالجنة)) (¬2). والإحسان إلى المخلوقين (هو بذل المعروف القولي والفعلي والمالي إلى الخلق. فأعظم الإحسان تعليم الجاهلين، وإرشاد الضالين، والنصيحة لجميع العالمين. ومن الإحسان: إعانة المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإزالة ضرر المضطرين، ومساعدة ذوي الحوائج على حوائجهم، وبذل الجاه والشفاعة للناس في الأمور التي تنفعهم. ومن الإحسان المالي: جميع الصدقات المالية، سواء كانت على المحتاجين، أو على المشاريع الدينية العام نفعها. ومن الإحسان: الهدايا والهبات للأغنياء والفقراء، خصوصاً للأقارب والجيران، ومن لهم حق على الإنسان من صاحب ومعامل وغيرهم. ومن أعظم أنواع الإحسان: العفو عن المخطئين المسيئين، والإغضاء عن زلاتهم، والعفو عن هفواتهم) (¬3). ومن كانت طريقته الإحسان، أحسن الله جزاءه. قال تعالى: هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن: 60]، وهذا استفهام بمعنى التقرير؛ أي: هل جزاء من أحسن في عبادة الله وإلى عباد الله إلا أن يحسن الله جزاءه. وقال تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]؛ فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم. وقال تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195] ومحبة الله هي أعلى (¬4) ما تمناه المؤمنون، وأفضل ما سأله السائلون، وسببها من العبد أن يكون من المحسنين في عبادته وإلى عباده، فينال من محبة الله ورحمته بحسب ما قام به من الإحسان (¬5). ومحبته – تبارك وتعالى – لعبده المؤمن شيء فوق إنعامه، وإحسانه، وعطائه، وإثابته، فإن هذا أثر المحبة وموجبها، أما هي فأعظم من ذلك وأشرف. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 148 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (1/ 211 - 213)، لابن رجب الحنبلي رحمه الله. (¬2) رواه البيهقي (9/ 17) (17553). (¬3) ((فتح الرحيم الملك العلام)) (ص: 112 - 113). (¬4) ((فتح الرحيم الملك العلام)) (ص: 111 - 112). (¬5) ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 59).

خامسا: الآثار الإيمانية لاسم الله الفتاح

خامسا: الآثار الإيمانية لاسم الله الفتاح 1 - إن الفتح والنصر لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى، فهو يفتح على من يشاء ويخذل من يشاء. وقد نسب الله الفتوح لنفسه لينبه عباده على طلب النصر والفتح منه لا من غيره، وأن يعملوا بطاعته, وينالوا مرضاته ليفتح عليهم وينصرهم على أعدائهم. قال تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1] وهو خطاب لرسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وقال جل ثناؤه: فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة: 52]، وقال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصَّف: 13]. ومن ذلك: ما هيأ الله تعالى للمسلمين من أسباب النصر، والعز والمنعة يوم خيبر. عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غداً رجلاً، يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)) (¬1). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنكم منصورون، ومصيبون، ومفتوح لكم ... )) (¬2). 2 - وقد يفتح الله سبحانه أنواع النعم والخيرات على الناس استدراجاً لهم، إذا تركوا ما أمروا به، ووقعوا فيما نهوا عنه، كما قال سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44]. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا، على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج)) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] (¬3). 3 - ومما يفتحه الله على من يشاء من عباده من الحكمة والعلم والفقه في الدين، وذلك بحسب التقوى والإخلاص والصدق، ولذا نجد أن فهم السلف أعمق وعلمهم أوسع بمراحل ممن جاء بعدهم. قال تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة:282]، وقال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ [الزُّمر: 22]. فالرب تعالى هو الفتاح العليم الذي يفتح لعباده الطائعين خزائن جوده وكرمه، ويفتح على أعدائه ضد ذلك، وذلك بفضله وعدله. 4 - مفاتيح كل شيء بيد الفتاح جل وعلا، فعلى المؤمن أن يطلب من الله أن يفتح عليه أبواب رحمته. ¬

(¬1) رواه البخاري (2943)، ومسلم (2406). (¬2) رواه الترمذي (2257)، وأحمد (1/ 436) (4156)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 511) (9828)، وابن حبان (11/ 129) (4804)، والبيهقي (3/ 180) (5827). قال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (6/ 96)، وقال الألباني: صحيح. (¬3) رواه أحمد (4/ 145) (17349)، والطبري في تفسيره (11/ 361). قال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 773): في إسناد أحمد: رشدين بن سعد وهو ضعيف. وإسناد الطبري لا بأس بهما، فهما يشدان من رواية رشدين ويكونان شاهدين له، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (413): إسناده قوي.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم)) (¬1). وفي ختام الكلام على اسم الله الفتاح، نوصي المسلم بأن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، يفتح عليه بأكثر مما فتح به على عباده. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه)) (¬2). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 157 1 - الله سبحانه هو الحاكم بين عباده في الدنيا والآخرة بالقسط والعدل، يفتح بينهم في الدنيا بالحق بما أرسل من الرسل، وأنزل من الكتب. يقول القرطبي رحمه الله في هذا الاسم: ويتضمن من الصفات كل ما لا يتم الحكم إلا به، فيدل صريحاً على إقامة الخلق وحفظهم في الجملة، لئلا يستأصل المقتدرون المستضعفين في الحال. ويدل على الجزاء العدل على أعمال الجوارح والقلوب في المثال، ويتضمن ذلك أحكاماً وأحوالاً لا تنضبط بالحد، ولا تحصى بالعد. وهذا الاسم يختص بالفصل والقضاء بين العباد بالقسط والعدل، وقد حكم الله بين عباده في الدنيا بما أنزل من كتابه، وبين من سنة رسوله، وكل حاكم إما أن يحكم بحكم الله تعالى أو بغيره، فإن حكم بحكم الله فأجره على الله، والحاكم في الحقيقة هو الله تعالى، وإن حكم بغير حكم الله فليس بحاكم إنما هو ظالم وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] (¬3). 2) ذكرنا أن الله سبحانه يحكم بين عباده في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويفتح بينهم بالحق والعدل، وقد توجهت الرسل إلى الله الفتاح سبحانه أن يفتح بينهم وبين أقوامهم المعاندين فيما حصل بينهم من الخصومة والجدال. قال نوح عليه الصلاة والسلام قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 117 - 118]. وقال شعيب عليه الصلاة والسلام رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ [الأعراف: 89]. وقال وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم: 15]. وقد استجاب الله سبحانه لرسله ولدعائهم ففتح بينهم وبين أقوامهم بالحق، فنجي الرسل وأتباعهم وأهلك المعاندين المعرضين عن الإيمان بآيات الله وهذا من الحكم بينهم في الحياة الدنيا. 3) وكذا يوم القيامة فإن الله سبحانه هو الفتاح الذي يحكم بين عباده فيما كانوا يختلفون فيه في الدنيا. ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (634)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 27) (9918) وابن حبان (5/ 399) (2050)، والحاكم (1/ 325)، والبيهقي (2/ 442) (4119). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري (1/ 123): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 275): حسن لشواهده. (¬2) رواه ابن ماجه (195)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 455). وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) ((الكتاب الأسنى)).

قال سبحانه قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ [سبأ: 26] ففي ذلك اليوم يقضي الله سبحانه ويفصل بين العباد، فيتبين الضال من المهتدي، وهو سبحانه لا يحتاج إلى شهود ليفتح بين خلقه، لأنه لا تخفى عليه خافية وما كان غائبا عما حدث في الدنيا فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف: 7]، وقال وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61]. وقد سمى الله يوم القيامة بيوم الفتح في قوله سبحانه قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [السجدة: 29]. 4) إن الله سبحانه متفرد بعلم مفاتح الغيب التي ذكرها في قوله تعالى وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59]. وقد عددها في قوله سبحانه إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]. قال القرطبي: مفاتح جمع مفتح هذه اللغة الفصيحة ويقال مفتاح، ويجمع مفاتيح، ويجمع مفاتيح، المفتح عبارة عن كل ما يحل غلقاً، محسوساً كان كالقفل على البيت، أو معقولاً كالنظر، ثم قال: وهو الآية استعارة على التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان. ولذلك قال بعضهم: هو مأخوذ من قول الناس افتح علي كذا، أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به، فالله تعالى عنده علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ومن شاء حجبه عنها حجبه، ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسوله بدليل قوله تعالى وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران: 179] وقوله عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن: 26 - 27] (¬1). وقال في (الأسنى): والفتح في اللغة حل ما استغلق من المحسوسات والمعقولات، والله سبحانه هو (الفتاح) لذلك، فيفتح ما تغلق على العباد من أسبابهم، فيغني فقيراً، ويفرج عن مكروب، ويسهل مطلباً وكل ذلك يسمى فتحاً، لأن الفقير المتغلق عليه باب رزقه فيفتح بالغنى، وكذلك المتحاكمان إلى الحاكم، يتغلق عليهما وجه الحكم فيفتحه الحاكم عليهما، ولذلك سمي الحاكم فتاحاً لأنه يحل ما استغلق من الخصوم، تقول: افتح بيننا، أي احكم، ومنه قول شعيب: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ [الأعراف: 89] أي: احكم، وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ أي الحاكمين (¬2). 5) أن الفتح والنصر من الله سبحانه فهو يفتح على من يشاء ويخذل من يشاء، وقد نسب الله الفتوح لنفسه، لينبه عباده على طلب النصر والفتح منه لا من غيره، وأن يعملوا بطاعته وينالوا مرضاته، ليفتح عليهم وينصرهم على أعدائهم. قال تعالى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1]، وهو خطاب لرسوله الأمين صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) (7/ 1 - 2). (¬2) ((الكتاب الأسنى)).

وقال جل ثناؤه فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة: 52]، وقال وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصَّف: 13]. 6) أن الله بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض. قال سبحانه. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشُّورى: 12]، فما يفتحه من الخير للناس لا يملك أحد أن يغلقه عنهم، وما يغلقه فلا يملك أحد أن يفتحه عليهم كما قال جل وعلا مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [فاطر: 2]. فلو فتح الله المطر على الناس فمن ذا الذي يحبسه عنهم، حتى لو أدى المطر إلى إغراقهم وإهلاكهم مثلما حدث لقوم نوح عليه الصلاة والسلام، فقد وصلت المياه إلى رؤوس الجبال، فما استطاعوا أن يردوها عن أنفسهم، ولو حبس عن عباده القطر والنبات سنين طويلة لما استطاعوا أيضا أن يفتحوا ما أغلقه الله سبحانه وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107]. 7) وقد يفتح الله سبحانه أنواع النعم والخيرات على الناس استدراجاً لهم، إذا تركوا ما أمروا به، ووقعوا فيما نهوا عنه كما قال سبحانه فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44]. 8) ومما يفتحه الله على من يشاء من عباده الحكمة والعلم والفقه في الدين، ويكون ذلك بحسب التقوى والإخلاص والصدق، ولذا تجد أن فهم السلف أعمق وعلمهم أوسع ممن جاء بعدهم وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة: 282]. وقال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزُّمر: 22]. قال القرطبي: وهذا الفتح والشرح ليس له حد، وقد أخذ كل مؤمن منه بحظ، ففاز الأنبياء بالقسم الأعلى، ثم من بعدهم الأولياء، ثم العلماء، ثم عوام المؤمنين، ولم يخيب الله منه سوى الكافرين. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم باعدني من الشيطان)) (¬1). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 194 ¬

(¬1) رواه مسلم (713). من حديث أبي حميد أو أبو أسيد الساعدي رضي الله عنه.

سادسا: الآثار الإيمانية لاسم الله الشاكر والشكور

سادسا: الآثار الإيمانية لاسم الله الشاكر والشكور أولاً: إن العبد من حين استقر في الرحم إلى وقته، يتقلب في نعم الله ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً، ويقظة ومناماً، سراً وعلانية (¬1)، في كل الآنات، وفي جميع اللحظات. وتواتر إحسان الله إليه على مدى الأنفاس. قال ابن القيم رحمه الله: يكفيك رب لم تزل في فضله ... متقلباً في السر والإعلان (¬2) جل وعلا لا تنفد عطاياه، ولا تنقطع آلاؤه، ولا تنتهي نعماؤه، قال جل جلاله: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20]. والنعم الظاهرة بعضها وقع، وبعضها منتظر وقوعه. والنعم الباطنة بعضها نعلمه، وبعضها نحاول أن نعلمه، وبعضها لا نعلمه أبداً. فلو اجتهد العبد في إحصاء أنواع النعم لما قدر، كما قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] (أي وإن تتعرضوا لتعداد النعم التي أنعم الله تعالى بها عليكم إجمالاً، فضلاً عن التفصيل، لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال. ومن المعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه, أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط، ولا أمكنه أصلاً، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه؟! فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنويعها واختلاف أجناسها؟! (¬3) وإن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص، لنغص النعم على الإنسان, وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل، فهو سبحانه يدبر هذا الإنسان على الوجه الملائم له، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك، فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه, أو يقدر على إحصائها, أو يتمكن من شكر أدناها؟ وأي شكر يقابل هذا الإنعام؟ فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه، هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها أصلاً، والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار؛ كما قال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء: 42]، فهو سبحانه منعم عليهم بكلاءتهم وحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، لا حافظ لهم غيره. هذا مع غناه التام عنهم وفقرهم التام إليه من كل وجه (¬4). ولو عمل العبد من الصالحات أعمال الثقلين، فإن نعم الله عليه أكثر، وأدنى نعمة من نعم الله تستغرق جميع أعماله. ما ثم إلا العجز عن شكر ربنا ... كما ينبغي سبحانه متفضلا (¬5) فينبغي على العبد أن يكون عبداً شكوراً, يشكر الله على وافر نعمه، وجميل إحسانه، ويبالغ في الشكر، (على النعم الدنيوية، كصحة الجسم وعافيته، وحصول الرزق وغير ذلك. ويشكره ويثني عليه، بالنعم الدينية، كالتوفيق للإخلاص، والتقوى، بل نعم الدين، هي النعم على الحقيقة) (¬6). فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور (¬7). فعلى العبد أن يكثر من الشكر، بالقلب واللسان، والعمل بالجوارح. لعله يشكر الله على بعض مننه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وإحسانه التام، وخيره المدرار، وعطائه العظيم، وإكرامه الجليل. ¬

(¬1) ((الروح)) (ص: 298). (¬2) ((الكافية الشافية)) (ص: 287). (¬3) ((فتح البيان)) (7/ 119 - 120). (¬4) ((طريق الهجرتين)) (ص: 570). (¬5) ((مجالس في تفسير قوله تعالى: لقد من الله على المؤمنين (ص: 468). (¬6) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 1023). (¬7) انظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 1311).

فالشكر بالقلب: الاعتراف بالنعم الباطنة والظاهرة للمنعم، وأنها منه وبفضله. وأنها وصلت إليه من غير ثمن بذله فيها, ولا وسيلة منه توسل بها إليه, ولا استحقاق منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد (¬1)، قال جل وعلا: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: 53]. أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فهي منه سبحانه، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية (¬2). فما (طاب العيش إلا بمنته، وكل نعمة منه في الدنيا والآخرة، فهي منه يمن بها على من أنعم عليه) (¬3). فأشرف الناس منزلة: أعرفهم بهذه المنة، وأعظمهم إقراراً بها، وذكراً لها، وشكراً عليها، ومحبة لله لأجلها، فهل يتقلب أحد قط إلا في منته؟ وقد جاء في الحديث ما يبين عظمة تذكر النعمة والاعتراف بها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ومن قالها من النهار موقناً بها، فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة)) (¬4). ويكرر صلى الله عليه وسلم الاعتراف بالنعمة في أدبار الصلوات في قوله: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون)) (¬5). فلله النعمة الظاهرة والباطنة، وله الفضل في كل شيء, وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة: 105]. فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنه وإحسانه طرفة عين، لا في الدنيا ولا في الآخرة (¬6). فهو المان بهدايته للإيمان، وتيسيره للأعمال، وإحسانه بالجزاء، كل ذلك مجرد منته وفضله بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ [الحجرات: 17] (¬7). فإيجادهم نعمة منه، وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه، وإعطاؤهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه، وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه، وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه، وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته ومعرفته على قلوبهم نعمة منه، وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه، وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه، وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعاشهم نعمة منه. وذكر نعمه على سبيل التفصيل لا سبيل إليه، ولا قدرة للبشر عليه (¬8). والشكر باللسان: الثناء بالنعم، وذكرها، وتعدادها، وإظهارها. قال سبحانه وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحى: 11]. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر: ((من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير؛ ومن لم يشكر الناس، لم يشكر الله. التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر)) (¬9). ¬

(¬1) ((الفوائد)) (ص: 167). (¬2) ((فتح البيان)) (7/ 257). (¬3) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 33). (¬4) رواه البخاري (6306). من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (594). من حديث عبدالله بن الزبير رضي الله عنه. (¬6) ((شفاء العليل)) (1/ 153). (¬7) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 515). (¬8) ((شفاء العليل)) (1/ 345). (¬9) رواه أحمد (4/ 278) (18472)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 516)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 103): إسناده لا بأس به، وحسنه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 332)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 220): رجاله ثقات.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) (¬1). وعن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ((ألك مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: قد آتاني الله من الإبل, والغنم, والخيل, والرقيق. قال: فإذا آتاك الله مالاً، فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته)) (¬2). فإذا أنعم الله عليك بمال فليكن عليك أثر هذا المال في لباسك، في بيتك، في مركوبك، في صدقاتك، في نفقاتك؛ لير أثر نعمة الله عليك في هذا المال. وإذا أنعم الله عليك بعلم فلير عليك أثر هذا العلم من تعليمه ونشره بين الناس، والدعوة إلى الله، وغير ذلك (¬3). والشكر بالجوارح: أن لا يستعان بالنعم إلا على طاعة الله، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه. قال سبحانه وتعالى: اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ: 13]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه ويقول: ((أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟!)) (¬4). فسمى الأعمال شكراً، وأخبر أن شكره قيامه بها ومحافظته عليها (¬5). العجب ممن يعلم أن كل ما به من النعم من الله، ثم لا يستحي من الاستعانة بها على ارتكاب ما نهاه! ولقد أحسن القائل: أنالك رزقه لتقوم فيه ... بطاعته وتشكر بعض حقه فلم تشكر لنعمته ولكن ... قويت على معاصيه برزقه ومن كثرت عليه النعم فليقيدها بالشكر، وإلا ذهبت. إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم وحافظ عليها بشكر الإله ... فشكر الإله يزيل النقم ولو لم يكن من فضل الشكر إلا أن النعم به موصولة، والمزيد لها مرتبط به؛ لكان كافياً، فهو حافظ للموجود من النعم، جالب للمفقود منها بالمزيد. قال سبحانه وتعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7]، نعمة إلى نعمة تفضلاً من الكريم المنان. فلن ينقطع المزيد من الله تعالى، حتى ينقطع الشكر من العبد. (فمن شكر الله على ما رزقه وسع الله عليه في الرزق، ومن شكر الله على ما أقدره عليه من طاعته، زاده من طاعته، ومن شكره على ما أنعم من الصحة، زاده الله صحة إلى غير ذلك) (¬6). فبالشكر تثبت النعم ولا تزول، ويبلغ الشاكر من المزيد فوق المأمول. فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر. وإذا وفقك الله للشكر، فهذه نعمة تحتاج إلى شكر جديد؛ فإن شكرت، فإنها نعمة تحتاج إلى شكر ثان، وهلم جرا. فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم. وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر، كما قيل: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمر ولهذا نقول: سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. والرب سبحانه وتعالى يعطي مع استغنائه عن العبد، والعبد يشكر مع افتقاره إلى الرب. فهل يكافئ شكر المحتاج الفقير عطاء الغني الكريم؟! ¬

(¬1) رواه الترمذي (2819). وقال: حسن، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 518): إسناده جيد إلى عمرو حديثه حسن، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 271): له شاهد. (¬2) رواه أبو داود (4063)، والنسائي (8/ 181)، والطبراني (19/ 280) (16285). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/ 118): رجاله رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 746) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬3) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 524). (¬4) رواه البخاري (4837). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) ((طريق الهجرتين)) (ص: 621). (¬6) ((فتح البيان)) (7/ 88 - 89).

ولكن الله تعالى رضي منا بشهود المنة ورؤية التقصير في القيام بشكره، كما في حديث سيد الاستغفار: ((أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي)) (¬1). والمعنى: أقر لك، وألتزم بنعمتك علي، وأقر وألتزم بذنبي، فمنك النعمة والإحسان والفضل، ومني الذنب والإساءة. فالعبد دائماً بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى الشكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائماً، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه، ولا يزال محتاجاً إلى التوبة والاستغفار. والشاكرون هم الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً. قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] (¬2) الذين يقرون بنعمة ربهم، ويخضعون لله، ويحبونه، ويصرفونها في طاعة مولاهم ورضاه (¬3). وقال سبحانه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [البقرة: 243]؛ فضله وإنعامه، ولا يعرفون حق إحسانه (فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم، مشتغلون باللهو واللعب، قد رضوا لأنفسهم بأسافل الأمر، وسفاسف الأخلاق) (¬4). فأكثرهم لم يشكروا الله تعالى على ما أولاهم من النعم، ودفع عنهم من النقم (¬5). ثانياً: ومما ينبغي أن يعلم بأن (منفعة الشكر ترجع إلى العبد دنياً وآخرة، لا إلى الله، والعبد هو الذي ينتفع بشكره، لأن نفع ذلك وثوابه راجع إليه وفائدته حاصلة له، إذ به تستبقى النعمة، وبسببه يستجلب المزيد لها من الله سبحانه، كما قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل: 40]، وقال تعالى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان: 12]، غني عن أعماله، (غني عن شكره غير محتاج إليه، حميد مستحق للحمد من خلقه، لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها، ولا يحصر عددها، وإن لم يحمده أحد من خلقه، فإن كل موجود ناطق بحمده بلسان الحال) (¬6). فشكر العبد إحسان منه إلى نفسه دنيا وأخرى، فإنه إنما هو محسن إلى نفسه بالشكر، لا أنه مكافئ به لنعم الرب، فالرب تعالى لا يستطيع أحد أن يكافئ نعمه أبداً، ولا أقلها، ولا أدنى نعمة من نعمه، فإنه تعالى هو المنعم المتفضل، الخالق للشكر والشاكر وما يشكر عليه، فلا يستطيع أحد أن يحصي ثناء عليه، فإنه هو المحسن إلى عبده بنعمه، وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها. ومن تمام نعمته سبحانه، وعظيم بره وكرمه وجوده، محبته له على هذا الشكر، ورضاه منه به، وثناؤه عليه به، ومنفعته وفائدته مختصة بالعبد، لا تعود منفعته على الله، وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه، ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة، ويرضى عنك، ثم يعيد إليك منفعة شكرك، ويجعله سبباً لتوالي نعمه واتصالها إليك، والزيادة على ذلك منها (¬7). وتأمل قوله تعالى: مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147]. كيف تجد في ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده بغير جرم، كما يأبى إضاعة سعيهم باطلاً، فالشكور لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء (¬8). ¬

(¬1) جزء من حديث الاستغفار؛ رواه البخاري (6306). من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. (¬2) ((المجموعة الكاملة)) (5/ 428)، للعلامة السعدي رحمه الله. (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 1041). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 1310). (¬5) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 946). (¬6) ((فتح القدير)) (4/ 338). (¬7) ((تهذيب مدارج السالكين)) (ص: 615 - 616). (¬8) ((عدة الصابرين)) (ص: 336).

ثالثاً: على العبد أن يشكر من أجرى الله سبحانه النعمة على يده، قال الله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ [لقمان: 14]، فأمر بشكره ثم بشكر الوالدين إذ كانا سبب وجوده في الدنيا، وسهرا وتعبا في تربيته وتغذيته، فيحسن إليهم بالقول الكريم، والخطاب اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما، وإجلالهما، والقيام بمؤونتهما، واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه، بالقول والفعل. فمن عقهما أو أساء إليهما فما شكرهما على صنيعهما، بل جحد أفضالهما عليه، ومن لم يشكرهما فإنه لم يشكر الله الذي أجرى تلك النعم على أيديهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يشكر الله، من لا يشكر الناس)) (¬1). أي: من كان من طبعه كفران نعمة الناس، وترك الشكر لمعروفهم فلن يكون شاكراً لله، ولا يوفق لذلك، ومن عجز عن القليل عجز عن الكثير من باب أولى، وقد قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل: 18]، فكيف يؤدي العاجز شكر هذه النعم التي لا تحصى؟! إذا لم يؤد القليل (¬2). فلابد من مكافأة المحسن وشكره على صنيعه. عن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي رضي الله عنه. أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف منه – حين غزا حنيناً – ثلاثين أو أربعين ألفاً، فلما قدم قضاها إياه؛ ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لك في أهلك ومالك؛ إنما جزاء السلف الوفاء والحمد)) (¬3). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه)) (¬4). قوله: ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)) بأن أعطاك شيئا من المال، أو أكرمك، أو أعانك على شيء تحتاج إليه، هذا معروف؛ لأنه غير واجب عليه، وإنما بذله معروفاً وإحساناً. قوله: (فكافئوه) بأن تصنع إليه معروفاً مثل معروفه، من باب المكافئة، فالمؤمن يكون كريماً يكافئ على المعروف ولا يجحده ولا ينكره، بل يكافئ عليه، والله تعالى يقول: هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن: 60]؛ فإذا لم تجد شيئاً تكافئه به عن معروفه، فعليك بالدعاء له (فادعوا له)، فادعوا الله له بالخير على معروفه وإحسانه إليك (¬5). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4811)، وأحمد (2/ 295) (7926)، وابن حبان (8/ 198) (3407)، وأبو نعيم فى ((حلية الأولياء)) (7/ 165)، والبيهقي (6/ 182) (11812). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (117)، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 330): إسناده صحيح، وقال السفاريني الحنبلي في ((شرح كتاب الشهاب)) (147): له طرق يقوي بعضها بعضا. (¬2) ((شرح صحيح الأدب المفرد)) (1/ 255). (¬3) رواه ابن ماجه (1983)، وأحمد (4/ 36) (16457)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 1119). وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬4) رواه أبو داود (1672)، والنسائي (5/ 82)، وأحمد (2/ 68) (5365)، وابن حبان (8/ 199) (3408)، والحاكم (1/ 572). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه النووي في ((المجموع)) (6/ 245)، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (إسناده صحيح). (¬5) ((تسهيل الإلمام بفقه الأحاديث من بلوغ المرام)) (6/ 198).

عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء)) (¬1). وهذا لا يعني أن ينسى العبد المعطي الأول، (لأن النعم كلها لله تعالى، وكما قال تعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: 53]، وقال تعالى: كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ [الإسراء: 20]؛ فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة، فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها، وساقها إلى من يشاء من عباده؛ فالمعطي هو الذي أعطاه، وحرك قلبه لعطاء غيره، فهو الأول والآخر) (¬2). فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح الناس من لومه وذمه إياهم، وتجرد التوحيد في قلبه، فقوي إيمانه وانشرح صدره، وتنور قلبه، ومن توكل على الله فهو حسبه (¬3). رابعاً: ينبغي على العبد (أن يتدبر نعم الله عليه، ويستبصر فيها، ويقيسها بحال عدمها. فإنه إذا وازن بين حالة وجودها، وبين حالة عدمها، تنبه عقله لموضع المنة. بخلاف من جرى مع العوائد، ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمراً، ولا يزال. وعمي قلبه عن الثناء على الله، بنعمه، ورؤية افتقاره إليه في كل وقت. فإن هذا لا يحدث له فكرة شكر) (¬4). وإن خصلة تكون لها كل هذه القيمة، وتكون فيها كل هذه الفائدة، لحقيق أن يتمسك بها من غير إغفال بحال. (اللهم إنا نشكرك على كل نعمة أنعمت بها علينا مما لا يعلمه إلا أنت، ومما علمناه، شكراً لا يحيط به حصر ولا يحصره عد، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان) (¬5). فائدة مهمة: يشرع سجود الشكر عند النعم المتجددة، (شكراً لله عليها، وخضوعاً له، وذلاً، في مقابلة فرحة النعم, وانبساط النفس لها، وذلك من أكبر أدوائها، فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الأشرين، فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين، وكان في سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره) (¬6). عن أبي بكرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا جاءه أمر سرور، أو بشر به، خر ساجداً شاكراً لله. (¬7) الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 178 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2035)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 53) (10008)، وابن حبان (8/ 202) (3413). قال الترمذي: حسن جيد غريب، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 222) كما قال ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 92). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 93). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 872). (¬5) ((فتح البيان)) (7/ 120). (¬6) ((إعلام الموقعين)) (2/ 449). (¬7) رواه أبو داود (2774). وسكت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

سابعا: الآثار الإيمانية لاسم الله الحفيظ

سابعا: الآثار الإيمانية لاسم الله الحفيظ إن التعبد باسم الله الحفيظ يقتضي من العبد أن يحفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه، إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك، فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه، قال: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق: 32 - 33]؛ وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها. ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله: الصلاة، وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238] ومدح المحافظين عليها بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج: 34]. وكذلك الطهارة، فإنها مفتاح الصلاة. عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) (¬1). فإن العبد تنتقض طهارته ولا يعلم بذلك إلا الله، فالمحافظة على الوضوء للصلاة، دليل على ثبوت الإيمان في القلب. ومما يؤمر بحفظه الأيمان، قال الله: وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89]، فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيراً، ويهمل كثير منهم ما يجب بها، فلا يحفظه، ولا يلتزمه. فمن حفظ أيمانه، دل على دخول الإيمان في قلبه. وقد ورد التشديد العظيم في الحلف الكاذب، ولا يصدر كثرة الحلف بالله إلا من الجهل بالله، وقلة هيبته في الصدور. ومما يلزم المؤمن حفظه: رأسه وبطنه. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا من الله حق الحياء قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله؛ قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى؛ ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء)) (¬2). وحفظ الرأس وما وعى: يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظ البطن وما حوى: يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على محرم. قال الله: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235]، وقد جمع الله ذلك كله في قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]. ويدخل في حفظ البطن وما حوى: حفظه من إدخال الحرام إليه، من المأكولات والمشروبات. ومما يجب حفظه من المنهيات: حفظ اللسان والفرج. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ ما بين فقميه وفرجه، دخل الجنة)) (¬3). وقد أمر الله بحفظ الفروج خاصة، ومدح الحافظين لها، فقال: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30]، وقال: فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35]. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 214 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (226)، وأحمد (5/ 276) (22432)، والطبراني (2/ 101) (1444). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 47): هذا الحديث رجاله ثقات، أثبات إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان، فإنه لم يسمع منه بلا خلاف. لكن له طريق أخرى متصلة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 181) كما قال ذلك في المقدمة، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 143): له سند جيد. (¬2) رواه الترمذي (2458). وقال: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه أحمد (4/ 398) (19577)، وأبو يعلى (13/ 206) (7275)، والحاكم (4/ 399)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 269). وقال: رواته ثقات، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 301): رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بنحوه ورجال الطبراني وأبي يعلى ثقات وفي رجال أحمد راو ولم يسم وبقية رجاله ثقات والظاهر أن الرواي الذي سقط عنه أحمد هو سليمان بن يسار، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع الصغير)) (6202).

ثامنا: الآثار الإيمانية لاسم الله الكافي

ثامنا: الآثار الإيمانية لاسم الله الكافي إذا علم العبد أن الله هو الكافي عباده رزقاً ومعاشاً وقوتاً، وحفظاً وكلاءة، ونصراً وعزاً، اكتفى بمعونته عمن سواه. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومن استكفى كفاه الله عز وجل)) (¬1). فمن وقع في شدة وضائقة، فليطلب من الله الكفاية؛ فإن الله يكفيه. فإن الغلام المؤمن لما أبى أن يرجع عن دينه، دفعه الملك إلى نفر من أصحابه – أي جماعة من الناس – وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، جبل معروف عندهم شاهق رفيع؛ وقال لهم: إذا بلغوا ذروته فاطرحوه يعني على الأرض، ليقع من رأس الجبل فيموت، بعد أن تعرضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن رجع وإلا فاطرحوه. فلما بلغوا قمة الجبل فطلبوا منه أن يرجع عن دينه أبى، لأن الإيمان قد وقر في قلبه ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح؛ فلما هموا أن يطرحوه قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) دعوة مضطر مؤمن: (اللهم اكفنيهم بما شئت) أي: بالذي تشاء ولم يعين، فرجف الله بهم الجبل فسقطوا وهلكوا. وجاء الغلام إلى الملك فقال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم الله، ثم دفعه إلى جماعة آخرين وأمرهم أن يركبوا البحر في قرقور –أي سفينة-؛ فإذا بلغوا لجة البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن لم يفعل رموه في البحر. فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه –وهو الإيمان بالله- فقال: لا! فقال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه الله (¬2) (¬3). ومن كان عليه دين، فليتضرع إلى الله تعالى ليكفيه همَّ الدين. عن علي رضي الله عنه: أن مكاتباً جاءه، فقال: إني قد عجزت عن كتابتي؛ فأعني، قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثل جبل صير ديناً؛ أداه الله عنك؟! قال: ((قل: اللهم! اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك)) (¬4). فنسأل الله تعالى، وهو خير مسؤول، أن يكفينا وإياكم هم الدنيا والآخرة، فإنه الكافي لكل مهم، وبيده الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 220 ¬

(¬1) رواه النسائي (5/ 98)، وأحمد (3/ 9) (11075). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): حسن صحيح. (¬2) رواه مسلم (3005). (¬3) ((شرح رياض الصالحين)) (1/ 122 - 123). (¬4) رواه الترمذي (3563)، وأحمد (1/ 153) (1318)، والحاكم (1/ 721). قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 15) كما قال ذلك في المقدمة.

تاسعا: الآثار الإيمانية لاسم الله الحيي

تاسعا: الآثار الإيمانية لاسم الله الحيي اعلم – بارك الله فيك – بأن أعظم الحياء ينبغي أن يكون من الله تعالى، الذي نتقلب في نعمه وإحسانه الليل والنهار، ولا نستغني عنه طرفة عين، ونحن تحت سمعه وبصره، لا يغيب عنه من حالنا وقولنا وفعلنا شيء. فهو الذي خلقنا وهو الذي رزقنا، فنطعم من خيره، ونتنفس من جوه، ونعيش على أرضه، ونستظل بسمائه، وآلاؤه غمرتنا من المهد إلى اللحد وإلى ما بعد ذلك من خلود طويل في الجنة إن شاء الله تعالى. فكيف لا نستحي منه؟ وكيف نقابل كل هذه النعم بالإساءة؟! ويتولد الحياء من (المعرفة بعظمة الله وجلاله وقدرته، لأنه إذا ثبت تعظيم الله في قلب العبد، أورثه الحياء من الله والهيبة له، فغلب على قلبه ذكر إطلاع الله العظيم إلى ما في قلبه وجوارحه، وذكر المقام غدا بين يديه، وسؤاله إياه عن جميع أعمال قلبه وجوارحه، وذكر دوام إحسانه إليه، وقلة الشكر منه لربه، فإذا غلب ذكر هذه الأمور على قلبه، هاج منه الحياء من الله، فاستحيى من الله أن يطلع على قلبه، وهو معتقد لشيء مما يكره، أو على جارحة من جوارحه، يتحرك بما يكره، فطهر قلبه من كل معصية، ومنع جوارحه من جميع معاصيه) (¬1). فمن استحيى من ربه حق الحياء، حفظ القلب وما وعى، والرأس وما وحوى. وعرف ما خلق له من عبادة ربه، فآثر ما يبقى على ما يفنى (¬2). عن سعيد بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: ((أوصيك أن تستحي الله عز وجل، كما تستحي رجلاً صالحاً من قومك)) (¬3). فقل لنفسك: لو كان رجل من صالحي قومي يراني، أو يسمع كلامي، لاستحيت منه، فكيف لا أستحي من ربي تبارك وتعالى، ثم لا آمن تعجيل عقوبته وكشف ستره؟! فإن من علم أن الله يراه حيث كان، وأنه مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته، أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر. قال القحطاني رحمه الله: وإذا خلوت بريبة في ظلمة ... والنفس داعية إلى الطغيان فاستحي من نظر الإله وقل لها ... إن الذي خلق الظلام يراني (¬4) وكان ابن السماك ينشد: يا مدمن الذنب أما تستحي ... والله في الخلوة ثانيكا عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك)) قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: ((إن استطعت أن لا يرينها أحد، فلا يرينها)) قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: ((الله أحق أن يستحيى منه من الناس)) (¬5). فقد (أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل: أن يستر عورته، وإن كان خالياً لا يراه أحد، أدباً مع الله، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدة الحياء منه، ومعرفة وقاره) (¬6). فإن أصل أعمال القلوب الحياء، فمن (اتصف بالحياء من الله، فقد انصبغ قلبه بمعرفة الله وحبه، وخوفه ورجائه، والتحبب إليه مهما أمكن) (¬7). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 246 ¬

(¬1) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 826). (¬2) ((المجموعة الكاملة)) (6/ 45)، للعلامة السعدي رحمه الله. (¬3) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 145)، وأحمد في ((الزهد)) (ص: 46). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع الصغير)) (2541). (¬4) ((نونية القحطاني)) (ص: 90). (¬5) رواه أبو داود (4016)، والترمذي (2794)، وابن ماجه (1572)، وأحمد (5/ 3) (20046)، والحاكم (4/ 199). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه الترمذي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن القطان في ((أحكام النظر)) (94). (¬6) ((تهذيب المدارج)) (ص: 711). (¬7) ((المجموعة الكاملة)) (5/ 67)، للعلامة السعدي رحمه الله.

عاشرا: الآثار الإيمانية لاسم الله الهادي

عاشرا: الآثار الإيمانية لاسم الله الهادي الهداية إلى الصراط المستقيم أجل مطلوب وأعظم مسؤول، ونيله أشرف المواهب. وهي أكبر نعمة ينعم بها الهادي سبحانه على من يشاء من عباده، وأجل مننه الواصلة إلينا. فعلى العبد أن يسأل الله تعالى الهداية إلى الصراط المستقيم. ولهذا فإن العبد في اليوم والليلة، يسأل الله الهداية إلى الصراط المستقيم، كما في سورة الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]، ويشهد من (اهدنا) عشر مراتب، إذا اجتمعت حصلت له الهداية. المرتبة الأولى: هداية العلم والبيان. فيجعله عالماً بالحق مدركاً له. الثانية: أن يقدره عليه. وإلا فهو غير قادر بنفسه. الثالثة: أن يجعله مريداً له. الرابعة: أن يجعله فاعلاً له. الخامسة: أن يثبته على ذلك، ويستمر به إلى الوفاة. السادسة: أن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له (¬1). ومعلوم أن وساوس العبد وخواطره، وشهوات الغي في قلبه، كل منها مانع من وصول أثر الهداية إليه، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تاماً، فحاجته إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه، وهي أعظم حاجة للعبد (¬2). السابعة: أن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة، أخص من الأولى. فإن الأولى هداية إلى الطريق إجمالاً، وهذه هداية فيها وفي منازلها تفصيلاً (¬3). فإن العبد قد يهتدي إلى طريق قصده، تتميز له الطرق عن غيرها، ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها، ولأوقات المسير من غيره، وزاد المسير، وآفات الطرق (¬4). الثامنة: أن يشهده المقصود في الطريق، وينبهه عليه. فيكون مطالعاً له في سيره، وملتفتاً إليه. التاسعة: أن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية، فوق كل ضرورة. في ظاهره وباطنه، في جميع ما يأتيه ويذره. ويدخل في هذا أن يهدي غيره ويعلمه، فيصير هادياً مهدياً، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)) (¬5). يعني نهدي غيرنا ونهتدي في أنفسنا، وهذه أفضل الدرجات أن يكون العبد هادياً مهدياً. قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة: 24] (¬6). العاشرة: أن يشهده طريق المنحرفين عن الهداية. وهما: طريق أهل الغضب، الذين عدلوا عن أتباع الحق قصداً وعناداً؛ وطريق أهل الضلال، الذين عدلوا عنها جهلاً وضلالاً. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الهداية، ويحث أصحابه على سؤال الله الهداية. وليتأمل القارئ اللبيب، الأحاديث التالية: 1 - عن أبي ذر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم – فيما روى عن الله تبارك وتعالى – أنه قال: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم)) (¬7). أي: اطلبوا مني الهداية، أوفقكم إلى سلوك طريقها. ¬

(¬1) ((تهذيب المدارج)) (ص: 1051). (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 306). (¬3) ((تهذيب المدارج)) (ص: 1051). (¬4) ((شفاء العليل)) (ص: 268). (¬5) رواه النسائي (3/ 54)، وأحمد (4/ 264) (18351)، والحاكم (1/ 705). من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/ 333): رجاله إسناده ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬6) ((شرح حديث عمار بن ياسر)) (ص: 49). (¬7) رواه مسلم (2577).

2 - عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: ((اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)) (¬1). فقوله: (اهدني) سؤال للهداية المطلقة، التي لا يتخلف عنها الاهتداء. وقوله: (فيمن هديت) فيه فوائد: أحدها: أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهتدين، وزمرتهم ورفقتهم. الثانية: توسل إليه بإحسانه وإنعامه، أي إنك قد هديت من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً، فأحسن إلي كما أحسنت إليهم، كما يقول الرجل للملك: اجعلني من جملة من أغنيته وأعطيته وأحسنت إليه. الثالثة: أن ما حصل لأولئك من الهدى، لم يكن منهم ولا بأنفسهم، وإنما كان منك، فأنت الذي هديتهم (¬2). 3 - عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم)) (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: هذا من أبلغ التعليم والنصح، حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته، كونه مسافراً، وقد ضل عن الطريق، ولا يدري أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق، عالم بها، فسأله أن يدله على الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة، تمثيلاً لها بالطريق المحسوس للمسافر؛ وحاجة المسافر إلى الله سبحانه، إلى أن يهديه تلك الطريق، أعظم من حاجة المسافر إلى بلد، إلى من يدله على الطريق الموصل إليها. وكذلك السداد – وهو إصابة القصد قولاً وعملاً – فمثله مثل رامي السهم إذا وقع سهمه وأصاب، وإذا لم يقع باطلاً؛ فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله، بمنزلة المصيب في رميه (¬4). 4 - عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) (¬5). 5 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة؛ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (¬6). ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء العظيم القدر، من أوصاف الله وربوبيته ما يناسب المطلوب، فإن فطر السماوات والأرض توسل إلى الله بهذا الوصف في الهداية للفطرة التي ابتدأ الخلق عليها، فذكر كونه فاطر السماوات والأرض، والمطلوب تعليم الحق، والتوفيق له، فذكر علمه سبحانه بالغيب والشهادة، وأن من هو بكل شيء عليم جدير أن يطلب منه عبده أن يعلمه، ويرشده ويهديه؛ وهو بمنزلة التوسل إلى الغني بغناه وسعة كرمه أن يعطي عبده شيئاً من ماله، والتوسل إلى الغفور بسعة مغفرته أن يغفر لعبده، وبعفوه أن يعفو عنه، وبرحمته أن يرحمه، ونظائر ذلك. وذكر ربوبيته تعالى لجبريل وميكائيل وإسرافيل؛ وهذا – والله أعلم – لأن المطلوب هدى يحيا به القلب؛ وهؤلاء الثلاثة الأملاك، قد جعل الله تعالى على أيديهم أسباب حياة العباد: أما جبريل: فهو صاحب الوحي الذي يوحيه الله إلى الأنبياء، وهو سبب للحياة الدنيا والآخرة. وأما ميكائيل: فهو الموكل بالقطر، الذي به سبب حياة كل شيء. وأما إسرافيل: فهو الذي ينفخ في الصور، فيحيي الله الموتى بنفخته؛ فإذا هم قيام لرب العالمين (¬7). فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير عظيم في حصول المطلوب. والله المستعان (¬8). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 264 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي (3/ 248)، وابن حبان (3/ 225) (945). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (2/ 285): روي من طرق ثابتة، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (3/ 496). (¬2) ((شفاء العليل)) (ص: 338). (¬3) رواه مسلم (2725). (¬4) ((إغاثة اللهفان)) (ص: 65). (¬5) رواه مسلم (2721). (¬6) رواه مسلم (770). (¬7) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 306 - 307). (¬8) ((شرح الطحاوية)) (1/ 248).

حادي عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله السلام

حادي عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله السلام 1 - الدعاء بالسلامة: إن الله تعالى هو السلام ويحب السلام، ويعطي السلام لمن طلبه منه بصدق وإخلاص. أ- عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربنا وربك الله)) (¬1). قوله: (أهله) أي: أطلعه علينا، وأرنا إياه، والمعنى: اجعل رؤيتنا له مقترناً بالأمن والإيمان. قوله: (بالأمن) أي: مقترناً بالأمن من الآفات والمصائب. قوله: (والإيمان) أي: وبثبات الإيمان فيه. قوله: (والسلامة) أي: السلامة عن آفات الدنيا والدين (¬2). ب- وعلى (العبد أن يطلب السلامة يوم القيامة يوم يبعث الله الأحياء، عند معاينته هول المطلع، إذا قدم على الله وحيداً مجرداً عن كل مؤنس، إلا ما قدمه من صالح عمله، وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم، ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها، واستعمل بعمل أهلها؛ وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله، فإن عطبه لا يستدرك، وعثرته لا تقال، وسقمه لا يداوى، وفقره لا يسد. فأي موطن أحق بطلب السلامة من هذا الموطن، فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه، ولطفه وجوده وإحسانه (¬3). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم)) (¬4). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 264 ¬

(¬1) رواه الطبراني (12/ 356) (13330). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 142): فيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات. (¬2) ((العلم الهيب)) (ص: 421). (¬3) ((بدائع الفوائد)) (2/ 654). (¬4) رواه البخاري (806)، ومسلم (182).

ثاني عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الشافي

ثاني عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الشافي أولاً: أن الله تعالى هو الشافي، ولا شافي إلا هو، ولا شفاء إلا شفاؤه، ولا يرفع المرض إلا هو. وفي الحديث: ((اللهم رب الناس، أذهب الباس، واشفه وأنت الشافي؛ لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) (¬1). وقوله: (لا شفاء إلا شفاؤك) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شفاء إلا شفاء الله، فشفاء الله لا شفاء غيره، وشفاء المخلوقين ليس إلا سبباً، والشافي هو الله، فليس الطبيب وليس الدواء هما اللذان يشفيان، بل الطبيب سبب، والدواء سبب، وإنما الشافي هو الله. ولهذا يمرض رجلان بمرض واحد، ويداويان بدواء واحد، وعلى صفة واحدة، فيموت هذا، ويشفى ذاك، لأن الأمر كله بيد الله فهو الشافي، وما يصنع من أدوية أو رقى فهو سبب, ونحن مأمورون بذلك السبب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فتداووا، ولا تتداووا بحرام)) (¬2). وقوله: (شفاء لا يغادر سقماً) يعني: شفاء كاملاً لا يبقي سقماً، أي: لا يبقي مرضاً (¬3). ففي هذه الرقية توسل إلى الله بكمال ربوبيته، وكمال رحمته بالشفاء، وأنه وحده الشافي، وأنه لا شفاء إلا شفاؤه، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده وإحسانه وربوبيته (¬4). ثانياً: أن الله تعالى لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء، وله أسباب. عن جابر رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لكل داء دواء، فإن أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله تعالى)) (¬5). وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا؛ فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: ((تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء، إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم)) (¬6). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 340 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3883) , وابن ماجه (3530) , وأحمد (1/ 381) (3615) , والطبراني (10/ 213) , والحاكم (4/ 463). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 219): إسناده حسن, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2972): إسناده صحيح. (¬2) رواه الطبراني (24/ 254) (649). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 89): رجاله ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1762). (¬3) ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 65 - 66). (¬4) ((زاد المعاد)) (4/ 188). (¬5) رواه مسلم (2204). (¬6) رواه أبو داود (3855) واللفظ له، والترمذي (2038)، وابن ماجه (2789)، وأحمد (4/ 278) (18477)، وابن حبان (13/ 426) (6061)، والحاكم (1/ 209). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (5/ 107).

ثالث عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الحميد

ثالث عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الحميد إذا علم العبد أن الحمد على الإطلاق إنما هو لله، وأنه يستحق جميع المحامد بأسرها، كان حرياً به أن يشتغل بالثناء والمجد لذي العلى والمجد؛ فإنه (سبحانه وتعالى له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه ما، والإحسان كله له ومنه، فهو سبحانه وتعالى أهل وأحق بكل حمد، وبكل حب من كل جهة، فهو أهل أن يحب لذاته, ولصفاته, ولأفعاله, ولأسمائه, ولإحسانه، ولكل ما صدر منه سبحانه وتعالى) (¬1). ولا تتصور القلوب حقيقة نعمته وإحسانه، فضلاً عن أن يقوم بشكره (¬2). ولو استنفد العبد أنفاسه كلها في حمده على نعمة من نعمه، كان ما يجب له من الحمد ويستحقه فوق ذلك وأضعافه، ولا يحصي أحد البتة ثناء عليه بمحامده. (ولكن الله سبحانه لكرمه، رضي من عباده باليسير من شكره، وأداء شكره) (¬3). وفضائل الحمد كثيرة في السنة، نذكر بعضها: 1 - عن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: كنت شاعراً، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إني مدحت ربي بمحامد، قال: ((أما إن ربك يحب الحمد)) (¬4). فهو سبحانه وتعالى حميد يحب الحمد، ويحب من يحمده، وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له، ويحب من يثني عليه، وثناؤه على نفسه أعظم من ثناء العباد عليه. والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود على وجه المحب له. (وهذه اللفظة لا تصلح على هذا الوجه، ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد) (¬5). ومحاسن المحمود تعالى إما قائمة بذاته، وإما ظاهرة في مخلوقاته. النوع الأول: حمد الأسماء والصفات، وهو حمد يتضمن الثناء عليه بكماله القائم بذاته، وعلى ما له من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد، والنعوت الجليلة الجميلة. وتفصيل هذا مما لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به ولا إلى التعبير عنه، ولكن بالجملة فكل صفة عليا, واسم حسن, وثناء جميل، وكل حمد, وتسبيح, وتنزيه, وتقديس, وجلال وإكرام، فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به, ويذكر به, ويخبر عنه به فهو محامد له, وثناء, وتسبيح, وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده. فهذا تنبيه على أحد نوعي حمده، وهو حمد الأسماء والصفات. النوع الثاني: حمد النعم والآلاء، وهذا مشهود للخليقة برها وفاجرها، مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق، بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها وصرفها بعد وقوعها (¬6). ¬

(¬1) ((جلاء الأفهام)) (ص: 367). (¬2) ((جلاء الأفهام)) (ص: 462). (¬3) ((جلاء الأفهام)) (ص: 534). (¬4) رواه أحمد (3/ 435) (15624)، والطبراني (1/ 282) (822). قال الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (4/ 298): جاءت الآثار متواترة بذلك، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 98): أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 62) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬5) انظر: ((بدائع الفوائد)) (2/ 537). (¬6) ((طريق الهجرتين)) (ص: 242).

2 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... وما من شيء أحب إلى الله من الحمد)) (¬1). وحمده يتضمن أصلين: الإخبار بمحامده وصفات كماله، والمحبة له عليها. (وهو سبحانه كما يحب أن يعبد، يحب أن يحمد ويثنى عليه، ويذكر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى) (¬2). 3 - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الذكر: لا إله إلا الله وأفضل الدعاء: الحمد لله)) (¬3). قال شيخ الإسلام رحمه الله: فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض، لأن الحمد متضمن الحب والثناء. والحب أعلى أنواع الطلب؛ فالحامد طالب للمحبوب، فهو أحق أن يسمى داعياً من السائل الطالب؛ فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه (¬4). 4 - عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ)) (¬5). فإن حمده لولي النعمة نعمة أخرى هي أفضل وأنفع له، وأجدى عائدة من النعمة العاجلة، فإن أفضل النعم وأجلها على الإطلاق، نعمة معرفته تعالى وحمده وطاعته (¬6). 5 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أفضل عباد الله يوم القيامة الحمادون)) (¬7). فقد دل هذا الحديث على أن أفضل العباد يوم المعاد الذين يكثرون من حمد الله في السراء والضراء. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 91 ¬

(¬1) رواه أبو يعلى (7/ 247) (4256)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 359). وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 22): رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. (¬2) ((طريق الهجرتين)) (ص: 431). (¬3) رواه الترمذي (3383)، وابن ماجه (3080)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 208) (10/ 667)، وابن حبان (3/ 126) (846)، والحاكم (1/ 676). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 63)، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 62) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (15/ 19). (¬5) رواه ابن ماجه (3082). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 244): إسناده حسن، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬6) ((فتيا في صيغة الحمد)) (ص: 12)، لابن القيم رحمه الله. (¬7) رواه أحمد (4/ 434) (19909) موقوفاً، والطبراني (18/ 124) (14964). وصحح إسناده ابن جرير في ((مسند عمر)) (2/ 825)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 98): رواه أحمد موقوفاً وهو شبه المرفوع ورجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1571).

إن المؤمن متى ما عرف أن الله متصف بالحمد فإنه يسعى إلى حمده تعالى على كل حال بكل وسيلة ممكنة ومشروعة في السراء والضراء والشدة والرخاء والعسر واليسر وفيما يحب ويكره، فهو الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فله من الأسماء الحسنى أحسنها، ومن الصفات أكملها وأعلاها، وأن أفعاله تعالى دائرة بين الفضل والعدل، وهو أهل لكل المحامد وليس ذلك لأحد إلا الله تعالى. قال الإمام ابن القيم: وبالجملة فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به ويذكر به ويخبر عنه به فهو حمد له وثناء وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده (¬1). قال القرطبي: فيجب على كل مكلف أن يعتقد أن الحمد على الإطلاق إنما هو لله وأن الألف واللام للاستغراق لا للعهد، فهو الذي يستحق جميع المحامد بأسرها، فنحمده على كل نعمة وعلى كل حال بمحامده كلها ما علم منها وما لم يعلم ... ثم يجب عليه أن يسعى في خصال الحمد وهي التخلق بالأخلاق الحميدة والأفعال الجميلة (¬2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 396 فكلمة (الحمد لله) كلمة عظيمة جليلة القدر، كثيرة النفع، لها فضل عظيم وثواب جزيل وأجر جسيم عند الله. حيث أعطى من فضله وكرمه هذا المقدار العظيم لقائل هذا القول اليسير، الذي يمكن أن يقوله القائل في جميع الأحوال والأوقات، من غير تكلف بدن ولا مال. عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: رآني النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أحرك شفتي، فقال لي: ((بأي شيء تحرك شفتيك يا أبا أمامة؟ فقلت: أذكر الله يا رسول الله، فقال: ألا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار؟ تقول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله ملء ما خلق، الحمد لله عدد ما في السماوات والأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله على ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملء كل شيء، وتسبح الله مثلهن. تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك)) (¬3). ومن نظر بعين المعرفة في هذا، استكثر منه طمعاً بالخير العظيم, والأجر الجسيم، والعطاء الجليل، والجود الجميل. (فلله تعالى الحمد والشكر والثناء، حيث أعطى العباد من مصالحهم ومنافعهم فوق ما يطلبون، وأعلى ما يتمنون، وآتاهم من كل ما سألوه، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه) (¬4). ومن أجل نعم الله على الإطلاق، التي يستحق عليها الحمد، ما تعاقب الليل والنهار: نعمة الإسلام. فهي النعمة الحقيقية الكبيرة العظيمة على عباده، قال الله تعالى: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3]. ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 35)، وانظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 130 - 132). (¬2) ((الأسنى في شرح الأسماء الحسنى للقرطبي)) (1/ 190). (¬3) رواه ابن خزيمة (1/ 371) (754)، والطبراني (8/ 238) (7930). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2615). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 601).

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ((ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا؛ قال: آلله ما أجلسكم إلى ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني: أن الله يباهي بكم الملائكة)) (¬1). فهؤلاء كانوا قد جلسوا يحمدون الله بذكر أوصافه وآلائه، ويثنون عليه بذلك، ويذكرون حسن الإسلام، ويعترفون لله بالفضل العظيم إذ هداهم له ومن عليهم به (¬2). فمن حصل له نصيب من دين الإسلام فقد حصل له الفضل العظيم، وقد عظمت عليه نعمة الله، فما أحوجه إلى القيام بشكر هذه النعمة وسؤاله دوامها والثبات عليها إلى الممات، والموت عليها، فبذلك تتم النعمة (¬3). فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ علينا هذه النعمة، وأعطانا هذه الفضائل الجمة (¬4). الحمد لله، ثم الحمد لله تعالى، الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. يا ذا الجلال والإكرام، كما هديتنا للإسلام، أسألك أن لا تنزعه عنا، حتى تتوفانا على الإسلام (¬5). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 108 ¬

(¬1) رواه مسلم (2701). (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 291). (¬3) ((لطائف المعارق)) (ص: 169 - 170). (¬4) ((لطائف المعارف)) (ص: 180). (¬5) ((موارد الأمان)) (ص: 469).

رابع عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله القوي

رابع عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله القوي أن المؤمن عندما يعلم أن من أوصافه تعالى القوة والقدرة على كل شيء فإنه يدرك تماماً أنه لا قوة له على طاعة الله تعالى إلا بتوفيقه وقوته وعونه، وأنه لا حول له على اجتناب المعاصي ودفع الشرور عن نفسه إلا بعون من الله، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمات هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬1). قال النووي: قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك شيئاً من الأمر، ثم قال: قال أهل اللغة: (الحول) الحركة والحيلة أي: لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل معناه: لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا الله. وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكله متقارب (¬2). وكما قيل: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده (¬3) قال الإمام ابن القيم: ولو اجتمعت قوى الخلائق على شخص واحد منهم ثم أعطي كل واحد منهم مثل تلك القوة لكانت نسبتها إلى قوته سبحانه دون نسبة قوة البعوضة إلى حملة العرش، ولو كان جودهم على جود رجل واحد، وكل الخلائق على ذلك الجود لكانت نسبته إلى جوده دون نسبة قطرة إلى البحر، وكذلك علم الخلائق إذا نسب إلى علمه كان كنقرة عصفور من البحر، وكذلك سائر صفاته كحياته وسمعه وبصره وإرادته (¬4). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 392 ¬

(¬1) رواه البخاري (6610)، ومسلم (2704). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬2) ((شرح النووي على مسلم)) (17/ 26). (¬3) ((ديوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه)) (ص: 56). (¬4) ((شفاء العليل)) (ص: 228).

خامس عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الحي

خامس عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الحي أن المؤمن عندما يدرك أن الله تعالى حي بحياة وهي صفة لازمة له تعالى وله جميع معانيها الكاملة من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة، والحي من أسمائه عز وجل، فإنه يسلم وجهه له إيماناً به وتوكلاً عليه، ففيه رغبته ورهبته، ومعاذه وملاذه لأنه الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وحاديه في هذا كله قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون)) (¬1). ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم أن يلهج المؤمن به لما له من تأثير عظيم في حياة القلوب. قال الإمام ابن القيم: فذكر الله سبحانه وتعالى، ومحبته وطاعته والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه والغفلة ومعصيته: كفيل بالحياة المنغصة والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة (¬2). ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة: أن من أدمن (يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت) أورثه ذلك حياة القلب والعقل، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه- شديد الله جبها جداً وقال لي يوماً: لهذين الاسمين – وهما (الحي القيوم) – تأثير عظيم في حياة القلب. وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: (يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك استغيث) حصلت له حياة القلب ولم يمت قلبه (¬3). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 399 ¬

(¬1) رواه مسلم (2717). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) ((مدارج السالكين)) (3/ 270، 271). (¬3) ((مدارج السالكين)) (1/ 482).

سادس عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله القيوم

سادس عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله القيوم أن المؤمن متى أعطى هذا الاسم الكريم حقه من العلم والعمل بمقتضاه فقد استيقن أن الله تعالى قائم بتدبير أمور العباد وأرزاقهم وجميع أحوالهم، كما أن من أعطى هذا الاسم حقه من التعبد به لله تبارك وتعالى فقد توكل على ربه وانقطع رجاؤه من الخلق إلى الله تعالى، واستغنى عما في أيديهم إلى ما في يدي الله تبارك وتعالى لأن العباد محتاجون مفتقرون إلى خالقهم في قيامهم وقعودهم وحركاتهم وسكناتهم في دنياهم وأخراهم وفي حياتهم وبعد مماتهم. ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم (القيوم) الدعاء به والتعبد لله بمقتضاه (فمن علم عبوديات الأسماء الحسنى والدعاء بها، وسر ارتباطها بالخلق والأمر وبمطالب العبد وحاجاته: عرف ذلك وتحققه) (¬1). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 402 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 482).

سابع عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الصمد

سابع عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الصمد أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بصمديته وليس في الوجود صمد سوى الله تعالى، فإنه يصمد إليه في الحوائج كلها ويكون مفزعه وغايته فلا يقصد غيره ولا يلجأ في حوائجه إلا إليه. ومن جعله الله تعالى مقصد عباده في مهمات دينهم ودنياهم وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه، فقد أنعم عليه بحظ من معنى هذا الوصف وعليه أن يتخلق بأخلاق السيادة والسادة حتى يكون مصموداً، وبابه مقصوداً. روى هشام بن عروة عن أبيه قال: أدركت سعد بن عبادة ومناد ينادي على أطمه: من أحب شحماً ولحماً فليأت سعداً، ثم أدركت ابنه قيساً ينادي مثل ذلك (¬1) (¬2). قال الإمام ابن تيمية: والمخلوق وإن كان صمداً من بعض الوجوه فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه فإنه يقبل التفرق والتجزئة، وهو أيضاً محتاج إلى غيره فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه، فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى (¬3). قال الغزالي في المقصد: ومن جعله الله تعالى مقصد عباده في مهمات دينهم ودنياهم وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه فقد أنعم عليه بحظ من هذا الوصف (¬4). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 404 ¬

(¬1) رواه بنحوه الحاكم (3/ 284). (¬2) ((الأسنى في شرح الأسماء الحسنى)) للقرطبي (1/ 186). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) للإمام ابن تيمية (17/ 238). (¬4) ((المقصد الأسنى)) للغزالي (ص: 119).

ثامن عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الظاهر والباطن

ثامن عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله الظاهر والباطن أن المؤمن إذا تحقق علوه تعالى المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة وأنه ظاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم توجه إليه، فقد جمع قلبه على المعبود، وجعله له رباً يقصده وصمداً يصمد إليه في حوائجه، وملجأ يلجأ إليه، فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسم (الظاهر) استقامت له عبوديته وصار معقل وموئل يلجأ إليه ويهرب إليه ويفر كل وقت إليه. كما أن الله عز وجل هو الباطن المحيط بكل شيء الذي أحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، دنا من كل شيء ببطونه فلا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضاً، ولا يحجب عنه ظاهر باطناً، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب والسر عنده علانية، فهو العليم ببواطن الأمور وظواهرها يستوي عنده هذا وهذا. قال تعالى سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد: 10] فيستوي عند الله تعالى من هو متخف في قعر بيته في ظلام الليل ومن هو سائر في سربه (طريقه) في بياض النهار وضيائه (¬1). وعن عبوديته تعالى بهذين الاسمين قال الإمام ابن القيم: وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (¬2)، فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه ظاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم توجه إليه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] صار لقلبه قبلة توجه نحوها ومعبود يتوجه إليه قصده، وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إلهاً يسكن إليه ويتوجه إليه. وأما تعبده باسمه الباطن فأمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته ويكل اللسان عن وصفه، وتصطلم الإشارة إليه وتجفو العبارة عنه، فإنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول أهل الانحراف، فمن رزق هذا فهم معنى اسمه (الباطن) ووضح له التعبد به. وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد. قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: 60] وقال: وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ [البروج: 20] ولهذا يفرق سبحانه بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أنه (الظاهر) وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة، وأنه لا شيء دونه كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4] وقال تعالى وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] وقال: وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]، وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء فهو (الباطن) بذاته فليس دونه شيء بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه فهذا أقرب لإحاطة العامة (¬3). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 416 ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين)) (ص: 24). (¬2) رواه مسلم (2713). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((طريق الهجرتين)) (ص: 21 - 24).

تاسع عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله المعطي والمانع

تاسع عشر: الآثار الإيمانية لاسم الله المعطي والمانع أن المؤمن عندما يدرك أن الله تعالى متصف بالعطاء والمنع فإنه يقطع الأمل من المخلوقين، وينزل حوائجه بالمعطي المانع المتفرد بالعطاء والمنع فيطرح الأواسط طرحاً ويضرب عن الأسباب صفحاً، ويجعل الله هو الكل وكل موجود مع القدرة كالطل لا حكم له في الفعل، فلا يذم مانعاً بوجه ولا يمدح معطياً إلا من حيث ينظر إلى الله فيمدحه لمدح الله إياه إذ جرت بالخير يداه على ما أجراهما الله. كما يدرك أن التأييد والإحاطة والنصر على الأعداء إنما يكون بحسب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندها تكون العزة والكفاية والنصرة. كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والنجاة، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة والولاية، والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة (¬1). ومن مقتضى الإيمان بهذين الاسمين الكريمين: أن لا يفر أحد هذين الاسمين عن الآخر وذلك تأدباً مع الله تعالى، فإن إفراد أحدهما عن الآخر يوهم نقصاً. قال الخطابي: وفي ذكرهما معاً إنباء عن القدرة وأدل على الحكمة، كقوله تعالى: وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]، وإذا ذكرت القابض مفرداً عن الباسط كنت كأنك قد قصرت بالصفة على المنع والحرمان، وإذا وصلت أحدهما بالآخر فقد جمعت بين الصفتين منبئاً على وجه الحكمة فيهما (¬2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 422 ¬

(¬1) انظر: ((زاد المعاد)) (1/ 37) بتصرف. (¬2) ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 58). وانظر: ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 40).

عشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله القابض والباسط

عشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله القابض والباسط أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالقبض والبسط فيقبض الأرواح عن الأشباح بعد الممات، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة، ويقبض الصدقات من الأغنياء ويبسط الرزق لمن يشاء، حتى لا تبقى فاقة؛ فلا ريب أنه يتوجه بكليته إلى الله تعالى فهو المعد وهو الممد، وهو القائل سبحانه تعالى: وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]. كما أن الآثار الإيمانية لاسم الله هذين الاسمين الكريمين ما قاله الإمام ابن القيم في حالتي القبض والبسط وأثرهما في المؤمن حيث قال: القبض والبسط حالتان تعرضان لكل سالك، يتولدان من الخوف تارة فيقبضه الخوف تارة والرجاء تارة، والجمعية تارة، فتفرقته تورثه القبض، وجمعيته تورثه البسط، ويتولدان من أحكام الوارد تارة فوارد يورث قبضاً، ووارد يورث بسطاً، وقد يهجم على قلب السالك قبض لا يدري ما سببه وبسط لا يدري ما سببه، وحكم صاحب هذا القبض: أمران: الأول: التوبة والاستغفار لأن ذلك القبض نتيجة جناية، أو جفوة ولا شعر بها، والثاني: الاستسلام حتى يمضي عنه ذلك الوقت، ولا يتكلف دفعه، ولا يستقبل وقته مغالبة وقهراً، ولا يطلب طلوع الفجر في وسط الليل، وليرقد حتى يمضي عامة الليل ويحن طلوع الفجر، وانقشاع ظلمة الليل، بل يصبر حتى يهجم عليه الملك فالله يقبض ويبسط. وكذلك إذا هجم وارد البسط فليحذر كل الحذر من الحركة والاهتزاز، وليحرزه بالسكون والانكماش، فالعاقل يقف على البساط، ويحذر من الانبساط، وهذا شأن عقلاء أهل الدنيا ورؤسائهم: إذا ما ورد عليهم ما يسرهم ويبسطهم ويهيج أفراحهم، قابلوه بالسكون والثبات والاستقرار حتى كأنه لم يهجم عليهم (¬1). ومن مقتضى الإيمان بهذين الاسمين الكريمين أن لا يفرد أحدهما في الذكر عن قرينه، وذلك تأدباً مع الله تعالى وإظهاراً لتمام قدرته، قال الزجاج: الأدب في هذين الاسمين أن يذكرا معاً لأن تمام القدرة بذكرهما معاً، ألا ترى أنك إذا قلت: إلى فلان قبض أمري، وبسطه، ولا بمجموعها أنك تريد أن جميع أمرك إليه؟ وتقول: ليس إليك من أمري بسط ولا قبض، ولا حل ولا عقد، أراد ليس إليك منه شيء (¬2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 424 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (2/ 389، 390). (¬2) ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 40).

واحد وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الخافض الرافع

واحد وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الخافض الرافع أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالخفض والرفع يوقن أن الله تعالى يرفع أولياءه بالطاعة فيعلي مراتبهم وينصرهم على أعدائه ويجعل العاقبة لهم كما أنه يخفض الجبارين ويذل الفراعنة المتكبرين. فهو الذي يرفع أولياءه في الدنيا والآخرة وذلك بما وفقهم إليه من طاعته وامتثال أمره ونهيه والعمل بمقتضى شرعه واتباع ما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك كانت لهم الرفعة والسؤدد على سائر الناس، وكانوا شامة بين الأمم وهداة إلى الحق على المحجة البيضاء التي من وافقها كانت له الرفعة والعلو، ومن خالفها وزاغ عنها فليس له إلا الخفض والذل والصغار في الدنيا والآخرة، وكان مصيره مصير أولئك الكفرة الجبابرة والفراعنة المتكبرين ومصيرهم أن يحشروا يوم القيامة في صورة الذر حتى تطأهم الخلائق بأقدامها (¬1). وليس المرفوع قدراً، والمعلى شأناً وأمراً، والمستحق مجداً وفخراً من رفع الطين على الطين وتكبر على المساكين وتجبر على أشكاله بكثرة ماله، واستقامة أحواله، وإنما المشرف شأنا والمعلى رتبة ومكاناً من رفعه الله بتوفيقه، وأيده لتصديقه، وهداه إلى طريقته، صفى قلبه وخلى له وجهه وصعد إلى السماء أنينه، وصدق إلى الله شوقه وحنينه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)) (¬2). واعلم أن المخفوض حقاً من تنكبه التوفيق والنصرة وأدركه الخذلان والفترة، ويصبح في حسرة. فعلى هذا: الرفع والخفض أمارتان للجزاء، فمن فتحت لروحه أبواب السماء فرفع واستبشر ومن نكس إلى أسفل أبعد وآيس، وبحسب ذلك الأعمال بشارات ونذارات (¬3). ومن مقتضى الإيمان بهذين الاسمين كذلك أن يوصل أحدهما في الذكر بالآخر؛ لأن الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد ولذلك لم تجئ مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة (¬4). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 426 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (2/ 130) بتصرف. (¬2) رواه مسلم (2622) بدون لفظة: ((أغبر)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)) للقرطبي (1/ 398). (¬4) ((بدائع الفوائد)) (1/ 184).

اثنان وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله المعز المذل

اثنان وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله المعز المذل أن المؤمن عندما يدرك أن الله تعالى المعز المذل فإنه يجد في العزة مظهراً من مظاهر الثقة بالله تعالى ورسوخ اليقين والقوة في الدين والخلق. فعن طارق بن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة له فنزل عنها وخلع خفيه فوضعها على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك وتضعها على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك. فقال عمر: أوه لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله (¬1) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) (¬2) وقال الإمام ابن القيم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]: لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة (على) تضميناً لمعاني هذه الأفعال، فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول، فالمؤمن ذلول كما في الحديث: ((المؤمن كالجمل الذلول، والمنافق والفاسق ذليل)) (¬3)، وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق: الكذاب، والنمام، والبخيل، والجبار. وقوله: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ هو من عزة القوة والمنعة والغلبة، قال عطاء رضي الله عنه: للمؤمنين كالوالد لوده وعلى الكافرين كالسبع على فريسته، كما قال في الآية الأخرى: أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] وهذا عكس حال من قيل فيهم: كبراً علينا وجبناً عن عدوكم ... لبئست الخلتان الكبر والجبن (¬4) @ منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 431 ¬

(¬1) رواه الحاكم (1/ 130)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 35). من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين .. ولم يخرجاه، وله شاهد. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1/ 117): صحيح على شرط الشيخين. (¬2) رواه البخاري (3684). من حديث قيس بن أبي حازم رضي الله عنه. (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ((مدارج السالكين)) (2/ 340).

ثلاث وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله البر

ثلاث وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله البَرّ أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالبر والكرم والإحسان فإن ذلك يوجب له معرفة بكرم الله عليه وفضله في المغفرة وتمام الإحسان إلى الخلائق وإمهاله المسيء والعاصي، فلا يؤاخذهم فيعجلهم عن التوبة مع كمال قدرته على معاجلتهم بالعقوبة، قال الإمام ابن القيم في لطائف أسرار توبة العبد: ومنها: أن يعرف – العبد – بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له ولو شاء بره لفضحه بين خلقه فحذروه، وهذا من كمال بره، ومن أسمائه (البر) وهذا البر من سيده كان عن كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيستقل بمطالعة هذه المنة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم، فيذهل عن ذكر الخطيئة، فيبقى مع الله سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته، وشهود ذل معصيته، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه: هو المطلب الأعلى والقصد الأسنى. ومنها: شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة ولكنه الحليم الذي لا يعجل، ومنها: معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم من الاعتذار لا بالقدر، فإنه مخاصمة ومحاجة، كما تقدم، فيقبل عذره بكرمه وجوده، فيوجب له ذلك اشتغالاً بذكره وشكره. ومنها: أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله، وإلا فلو أخذك بمحض حقه كان عادلاً محموداً، وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك، فيوجب لك ذلك أيضاً شكراً له ومحبة، وإنابة إليه، وفرحاً، وابتهاجاً به، ومعرفة له باسم الغفار، ومشاهدة لهذه الصفة، وتقيداً بمقتضاها، وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة (¬1). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 435 ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 228).

أربع وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله المنان

أربع وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله المنّان أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالمن والعطاء الكثير الذي ليس وراءه استثابة فإنه يستشعر مواهب الله العظيمة، فهو الذي أعطى الحياة والعقل والمنطق وصور فأحسن الصور، وأنعم فأجزل وأسنى النعم، وأكثر العطايا والمنح فقال وقوله الحق: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل: 18]. قال الإمام ابن القيم في معرض كلامه عن الأول والآخر والظاهر والباطن: فانظر: كيف كانت هذه الأسماء الأربعة الأول والآخر والظاهر والباطن؛ جماع المعرفة وجماع العبودية له. فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته فلا يرى لغيره شيئا إلا به وبحوله وقوته .. فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول، ذهل القلب والنفس به، وصار العبد فقيراً إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول، ... (¬1). ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم أن يأخذ المؤمن بحظه ونصيبه من هذه الصفة على وجهها الحسن من العطاء والصنع الجميل والإحسان إلى الخلق، وحاديه في ذلك السلف الصالح الذين ضربوا أروع الأمثلة في العطاء والفضل. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاء بما له ولم يبق لأهله منه شيء جاء يقدمه للإسلام والمسلمين فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإن من أمن الناس علي في ماله أبو بكر)) (¬2) وقوله: ((ما أحد أمن علي من أبي بكر واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته)) (¬3). وهذا عمر الفاروق الذي أعطى الإسلام حياته كلها دمه ودموعه ليله ونهاره حتى ضرب الإسلام بأطنابه، وقال فيه القائل: وراع صاحب كسرى أو رأى عمراً ... بين الرعية عطلاً وهو راعيها وعهده بملوك الفرس أن لها ... سوراً من الجند والأحراس يحميها رآه مستغرقاً في نومه فرأى ... فيه الجلالة في أسمى معانيها وقال قولة حق أصبحت مثلاً ... وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها أمنت لما أقمت العدل بينهم ... فنمت نوم قرير العين هانيها (¬4) ولا زال يأمر وينهي بالإسلام حتى وهو مضرج بدمائه، ويحكى عنه رضي الله عنه، أن أعرابياً أتاه فقال: يا عمر الخير جزيت الجنة ... أكس بنياتي وأمهنه وكن لنا من الزمانا جنة ... أقسم بالله لتفعلنه قال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذا أبا حفص لأذهبنه. قال: إذا ذهبت يكون ماذا؟ قال: يكون عن حالي لتسألنه ... يوم يكون الأعطيات منة وموقف المسؤول بينهنه ... إما إلى نار وإما جنة فبكى عمر حتى اختضلت لحيته بالدمع ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره، فوالله لا أملك غيره (¬5). وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي حفر بئر رومة وجهز الجيوش بماله وأعطى عطاء من لا يخشى الفقر حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما على عثمان فعل بعد هذا)) (¬6). وهذا علي رضي الله عنه قام مقام إخوانه وأصحابه حتى جعلت محبته من علامة الإيمان وبغضه علامة للنفاق (¬7)، قام بالدين خير قيام حتى طعن وهو يصلي بالناس فكانت حياته مليئة بالعطاء والعلم والجهاد فرضي الله عنهم أجمعين، ولا يزال في الأمة بحمد الله من يترسم خطى هؤلاء المؤمنين –من الأئمة والعلماء والصالحين- في العطاء والتنافس والبذل والمسارعة فيه ولكل مجتهد نصيبه وكل آخذ بحظه ونصيبه من ذلك وكل ميسر لما خلق له. ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم أن لا يمن المؤمن بعلمه ولا بعمله. قال الإمام ابن القيم: (فمن جلى الله سبحانه صدأ بصيرته وكمل فطرته وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها، ومناطها ومصادرها ومواردها أصبح كالمفلس حقاً من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك ... (¬8). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي الغامدي - بتصرف – ص: 451 ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين)) (ص: 26). (¬2) رواه البخاري (3654) (¬3) رواه الطبراني (11/ 191) (11461). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 49): فيه أرطأة أبو حاتم وهو ضعيف. (¬4) ((شرح ديوان حافظ إبراهيم)) (ص: 388، 389). (¬5) ((أسنى في شرح الأسماء الحسنى)) للقرطبي (1/ 263). (¬6) رواه الترمذي (3701) , وأحمد (5/ 63) (20649)، والحاكم (3/ 110). من حديث عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬7) الحديث رواه مسلم (78) بلفظ: (قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق). (¬8) ((طريق الهجرتين)) (ص: 26).

خمس وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله المجيب

خمس وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله المجيب أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالمجيب الذي يقابل الدعاء والسؤال بالعطاء والقبول، ويبتدئ بالنوال قبل السؤال ويجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، ويغيث الملهوف إذا ناداه؛ فإنه يقوى رجاؤه بربه وتعلقه به طمعاً ورجاء. فهو الذي ابتدأ العباد بالإجابة حيث قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] فلا أعظم ولا أكرم من هذا العرض على العباد، فسبحان من انفرد بإجابة الداعين وتنفيس كرب المضطرين الذي من شأنه النوال قبل السؤال، أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم أن يكون المؤمن مجيباً أولاً لربه تعالى فيما أمره به ونهاه عنه، وفيما قربه إليه ودعاه، ثم لعباده فيما أنعم الله عليه بالاقتدار عليه، وفي كل سائل بما يسأله إن قدر عليه وفي لطف الجواب إن عجز عنه، قال الله تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى: 10]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت)) (¬1). وكان حضوره الدعوات وقبوله الهدايا غاية الإكرام والإيجاب منه (¬2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 456 ¬

(¬1) رواه البخاري (5178). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((المقصد الأسنى)) للغزالي (ص: 106) بتصرف.

ست وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الستير

ست وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الستّير يجب على المؤمن أن يتصف بالستر لينال بذلك محبة الله عز وجل لأنه تعالى حيي ستير يحب أهل الحياء والستر. قال النووي في شرح مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن ستر مسلماً ستره الله عز وجل يوم القيامة)) (¬1) قال: وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفاً بالأذى والفحشاء (¬2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 458 ¬

(¬1) رواه البخاري (2442). (¬2) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 235).

سبع وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الجواد

سبع وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الجواد أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالجود وكثرة العطاء فإنه يحرص على مواقع فضله ورحمته تعالى، فإنه أجود الأجودين وأكرم الأكرمين فهو يحب الإحسان والجود والعطاء والبر، وذلك أن الفضل كله بيده والخير كله منه. قال الإمام ابن القيم: وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه ويأخذه، أحوج ما هو إليه أعظم ما كان قدراً، فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما يأخذه ولله المثل الأعلى ... فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه، وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد ما سأله: ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة وهو الجواد لذاته، كما أنه الحي لذاته، العليم لذاته، السميع البصير لذاته فجوده العالي من لوازم ذاته، ... (¬1). والجود صفة الكرماء وشيمة النبلاء، كانت العرب تفاخر به وتطاول حتى تنافس فيه أقوام. وهو عشر مراتب جمعها الإمام ابن القيم في (مدارج السالكين) فقال: أحدها: الجود بالنفس وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر: يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود (¬2) الثانية: والجود بالرياسة. وهو ثاني مراتب الجود، ويحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها والإيثار في قضاء حاجات الملتمس. الثالثة: الجود براحته ورفاهيته، وإجمامه نفسه، فيجود بها تعباً وكداً في مصلحة غيره، ومن هذا جود الإنسان بنونه ولذته لمسامره كما قيل: متيم بالندى لو قال سائله ... هب لي جميع كرى عينيك لم ينم الرابعة: الجود بالعلم وبذله، وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال، لأن العلم أشرف من المال. الخامسة: الجود بالنفع بالجاه، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان، ونحوه وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد، كما أن التعليم وبذل العلم زكاته. السادسة: الجود ينفع البدن على اختلاف أنواه كما قال صلى الله عليه وسلم: ((يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين: صدقة، ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه: صدقة، والكلمة الطيبة: صدقة، وبكل خطوة مشيها الرجل إلى الصلاة: صدقة، ويميط الأذى عن الطريق: صدقة)) (¬3). السابعة: الجود بالعرض، كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم، كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي، أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم)) (¬4). الثامنة: الجود بالصبر والاحتمال، والإغضاء، وهذه مرتبة شريفة من مراتبه وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له وأنصر، وأملك لنفسه، وأشرف لها، ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار. ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 233، 234). (¬2) ((موسوعة الشعر العربي))، معهد البحوث العلمية بجامعة أم القرى (1/ 533)، والبيت لأبي الشيص الخزاعي. (¬3) رواه البخاري (2989)، ومسلم (1009). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه بنحوه أبو داود (4887)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 2751)، والضياء (5/ 150). من حديث أنس رضي الله عنه. قال البيهقي: الصحيح رواية من رواه مرسلاً، وقال الضياء: رجاله موثقون والصحيح أنه مرسل.

التاسعة: الجود بالخلق والبشر والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر، والاحتمال والعفو، وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه)) (¬1). العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرض له بحاله، ولا لسانه، وهذا الذي قال عبد الله بن المبارك: (إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل)، فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد: وإن لم أعطك بما تجود به على الناس، فجد عليهم بزهدك في أموالهم وما في أيديهم تفضل عليهم، وتزاحمهم في الجود، وتنفرد عنهم بالراحة، ولكل مرتبة من مراتب الجود مزيد وتأثير خاص في القلب والحال، والله سبحانه وتعالى قد ضمن المزيد للجواد، والإتلاف للإمساك، والله المستعان (¬2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 461 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4084)، وأحمد (5/ 63) (20651)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 486) (9691)، والطبراني (7/ 63) (6384)، وابن حبان (2/ 281) (522)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 252). من حديث أبي جري الجهني رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1144): حسن غريب، وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4253): لبعضه طرق عن جابر وإسناده حسن. والحديث رواه مسلم (2626) بلفظ: ((لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (¬2) ((مدارج السالكين)) (2/ 305 - 308) باختصار.

ثمان وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله القريب

ثمان وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله القريب أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالقرب من داعيه بالإجابة، ومن مطيعه بالإنابة، فإنه يحرص على أن يكون قريباً من الله بتكميله العبودية، فإنه ليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمل قرب العبد إليه خصه بمزيد فضله، فمن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً. هذا قربه تعالى من عابده، وأما قربه من داعيه فكما في الآية: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]، وقربه تعالى من عباده وداعيه قرب خاص أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه (¬1). وبهذا يتبين أن قربه تعالى من عباده نوعان: أولهما: قربه – تعالى – من قلوب المؤمنين، وقرب قلوبهم منه، وهذا أمر معروف لا يجهل فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة به تعالى وذكره وخشيته والتوكل عليه لم ينكره منهم أحد. والثاني: ما دل عليه الحديث ونحوه مثل قربه عشية عرفة، وقربه آخر الليل، كما ثبتت بذلك النصوص. وهذا القرب ينكره أكثر المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشعرية، وإنكاره منكر (¬2). وللرد على من زعم أن القرب يقصد به الحلول والاتحاد قال الإمام ابن القيم: (وأما ما ذكرتم من أن مشاهدة القرب تجعل القصد قعوداً: فكلام له خبئ، وقد أفصح عنه بعض المغرورين المخدوعين بقوله: ما بال عينك لا يقر قرارها ... إلام ظلك لا يني متنقلاً فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا وكأن صاحبه يشير إلى أنه وجود قلبه ولسانه، ووجوده أقرب إليه من إرادته ولطفه. هذا خبيء هذا الكلام، وتعالى الله عن إلحاد هذا وأمثاله وإفكهم علواً كبيراً، بل هو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه. وأما ما ذكرتم من القرب: فإن أردتم عموم قربه إلى كل لسان من نطفه، وإلى كل قلب من قصده، فهذا – لو صح – لكان قرب قدرة وعلم وإحاطة لا قرباً بالذات والوجود، فإنه سبحانه لا يمازج خلقه، ولا يخالطهم، ولا يتحد بهم مع أن هذا المنى لم يرد عن الله ورسوله، ولا عن أحد من السلف الأخيار تسميته قرباً، ولم يجئ القرب في القرآن والسنة قط إلا خاصاً كما تقدم. وإن أردتم القرب الخاص إلى اللسان والقلب: فهذا قرب المحبة، وقرب الرضى، والأنس كقرب العبد من ربه وهو ساجد، وهو نوع آخر من القرب لا مثال ولا نظير، فإن الروح والقلب يقربان من الله وهو على عرشه والروح والقلب والبدن، وهذا لا ينافي القصد والطلب، بل هو مشروط بالقصد، فيستحيل وجوده بدونه، وكلما كان الطلب والقصد أتم كان هذا القرب أقوى (¬3). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 471 ¬

(¬1) ((بدائع الفوائد)) (2/ 310). (¬2) كتاب ((التوحيد)) للغنيمان (1/ 266). (¬3) ((مدارج السالكين)) (2/ 300 - 302).

تسع وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرشيد

تسع وعشرون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرشيد أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالرشد في قوله وفعله وأمره ونهيه، فإنه يطمع في توفيقه تعالى وهدايته له، فمن هداه فهو وليه ومرشده. وفي الدعاء: (اللهم هب لي من لدنك رحمة وهيأ لي من أمري رشدا). فسبحان من أرشد الصغار من الأطفال والبهائم إلى المنافع، كالتقام الثدي ومص الضرع، والعنكبوت نسيج تلك البيوت، والنحل لصنعة ذلك الشكل، ... وقس على هذا، فكل موجود في الأرض والسماء جاء على منهج السداد، ومنه سبحانه جاء الرشاد وأعظم الرشاد، إرشاد عباده المؤمنين إلى دينه ودين ملائكته ورسله، وما حوته كتبه ذلك الدين القيم، فعليه أن يحسن معاملة مولاه بما أمره به وعن ما نهاه وهذا غاية الرشد، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يلومن إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً)) (¬1). فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الرشد في طاعة الله، والغي في معصيته، وعليه أن يرشد عباد الله ويهديهم حتى لا يألفوا أعيادهم وهي –أي الأعادي – كل ذات وصفة من الصفات التي تصدهم عن طاعة الله وعبادته وتوقعهم في حبائل العصيان وشهواته. فإذا اتصف بهذه الصفات تسمى عند الله رشيداً، ونال منه حظاً مجيداً، ولله عليه في هذه المنة والفضل كما امتن على إبراهيم فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ [الأنبياء: 51] (¬2). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي الغامدي -بتصرف– ص: 474 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1097)، والبيهقي (3/ 215) (5594). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده النووي في ((شرح صحيح مسلم)) (6/ 160). (¬2) ((الأسنى في شرح الأسماء الحسنى)) للقرطبي (1/ 474).

ثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله الصبور

ثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله الصّبور أن المؤمن عندما يدرك اتصافه تعالى بالصبر فلا يعاجل العصاة بالانتقام منهم ويمهلهم لوقت معلوم، فإن هذا كله يفتح له باب الرجاء ويحثه على الإنابة إلى الله تعالى. قال الإمام ابن القيم: وأما صبره سبحانه فمتعلق بكفر العباد وشركهم، ومسبتهم له سبحانه وأنواع معاصيهم وفجورهم فلا يزعجه ذلك كله إلى تعجيل العقوبة بل يصبر على كيده، ويمهله، ويستصلحه ويرفق به، ويحلم عنه، حتى إذا لم يبق فيه موضع للضيعة، ولا يصلح على الإمهال والرفق بالحلم ولا ينيب إلى ربه ولا يدخل عليه لا من باب الإحسان والنعم، ولا من باب البلاء والنقم أخذه أخذ عزيز مقتدر بعد غاية الإعذار إليه، وبذل النصيحة له ودعائه إليه من كل باب، وهذا كله من موجبات صفة حلمه، وهي صفة ذاتية له لا تزول (¬1). ومن مقتضى الإيمان بهذا الاسم الكريم أن يصبر العبد ويتصبر ويصابر، وقد أمر الله بذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ [آل عمران: 200] فأمر سبحانه بالصبر على ما يخصه وعلى مصابرة الأعداء والمداومة على الصبر حتى يتخذه إلفاً وصاحباً وخلاً ومؤانساً، وقد أخبر أنه يحب الصابرين وأنه معهم والصابرون جمع صابر، والصابر أعلى مقاماً من المتصبر، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: ((اتقي الله واصبري)) (¬2) الحديث، وفيه فقال ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬3). وقلما يكون الصبر عند الصدمة الأولى من المتصبر، وإنما يكون من الصابر أو الصبار أو الصبور، وهي مقامات بعضها فوق بعض (¬4). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي بن عبد الله الحمراني الغامدي – ص: 478 ¬

(¬1) ((عدة الصابرين)) (ص: 420، 421). (¬2) رواه البخاري (1252)، ومسلم (926). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (1283)، ومسلم (926). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬4) ((الأسنى في شرح الأسماء الحسنى)) للقرطبي (1/ 141).

واحد وثلاثون: الآثار الإيمانية لأسماء الله الملك – المالك - المليك

واحد وثلاثون: الآثار الإيمانية لأسماء الله الملك – المالك - المليك 1 - إن الملك الحقيقي لله وحده لا يشركه فيه أحد، وكل من ملك شيئا فإنما هو بتمليك الله له، قال صلى الله عليه وسلم ((لا مالك إلا الله)) (¬1) وفي رواية ((لا ملك إلا الله)) (¬2) (¬3). وقد يسمى بعض المخلوقين ملكا، إذا اتسع ملكه إلا أن الذي يستحق هذا الاسم هو الله جل وعز لأنه مالك الملك، وليس ذلك لأحد غيره، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير. فالمخلوقات لا تملك شيئا، وقد أنكر تعالى على المشركين الذين عبدوا هذه المخلوقات التي هي مثلهم في الضعف والعبودية لله تعالى وأنها لا تملك من السماوات والأرض شيئاً ولا مثقال ذرة ولا تنفع أحداً ولا تضره. قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73]. وقال سبحانه قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [المائدة: 76]. وقال سبحانه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22]. وقال سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13]. فالله تبارك وتعالى هو المالك لخزائن السماوات والأرض، بيده الخير، يرزق من يشاء، وهو المالك للموت والحياة والنشور، والنفع والضر وإليه يرجع الأمر كله، فهو المالك لجميع الممالك، العلوية والسفلية وجميع من فيهما مماليك لله فقراء مدبرون. وهو سبحانه كل يوم هو في شأن يتصرف في ملكوته كيف يشاء، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرَّحمن: 29] قال: ((من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويخفض آخرين)) (¬4). قال تعالى: يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي، أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك)) (¬5). ولكن من الناس من يطغى ويظن أنه المالك الحقيقي وينسى أنه مستخلف فقط فيما آتاه الله من ملك ومال وجاه وعقار، فيتكبر ويتجبر ويظلم الناس بغير حق، كما حكى الله سبحانه عن فرعون عليه لعنة الله الذي نسى نفسه وضعفها وزعم لنفسه الملك بل والألوهية، قال تعالى عنه: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الزُّخرف: 51]. وهذا كقوله تعالى: فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 23 - 24]. ¬

(¬1) رواه مسلم (2143). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2143). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((فتح القدير)) (1/ 22). (¬4) رواه ابن ماجه (168)، والبزار (10/ 39)، والطبراني في الأوسط (3/ 278) (3140). وحسن إسناده البزار، والبوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 29). (¬5) رواه أحمد (2/ 496) (10442)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 316). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 74): رجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 581).

ودعا قومه إلى هذه الضلالة الكبرى فاستجابوا له فعاقبهم جميعاً، قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ [الزخرف: 54 - 56]. وقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النَّازعات: 26]. وإهلاك الله سبحانه لفرعون وقومه عبرة لكل ظالم متكبر من ملوك الأرض، تفرعن على الناس فيما آتاه الله من ملك، وظن أنه مخلد، ونسي أن ملكه زائل وأن إقامته في ملكه مؤقتة وأن الموت مدركه لا محالة، قال تعالى منبهاً عباده إلى ذلك وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ [المائدة: 18]. 2 - وإذا كان الملك المطلق إنما هو لله وحده لا شريك له، فالطاعة المطلقة إنما هي له وحده لا شريك له، لأن من سواه من ملوك الأرض إنما هم عبيد له وتحت إمرته. فلا بد من تقديم طاعة الملك الحق على طاعة من سواه وتقديم حكمه على حكم غيره، لأن طاعته سبحانه أوجب من طاعة غيره بل لا طاعة لأحد إلا في حدود طاعته، أما في معصيته فلا سمع ولا طاعة. 3 - عدم جواز التسمية بملك الملوك: وقد ورد في ذلك الحديث المتفق عليه حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخنع اسم عند الله – وقال سفيان غير مرة: أخنع الأسماء عند الله – رجل تسمى بملك الأملاك)) (¬1) وفي رواية ((أخنى الأسماء يوم القيامة ... )) (¬2). قال سفيان: يقول غيره (أي غير أبي الزناد)) تفسيره شاهان شاه (¬3). ومعنى أخنع: أوضع اسم وأذله. قال أبو عبيد: الخانع الذليل، وخنع الرجل ذل. قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلاً. ومعنى أخنى: أي أفحش اسم من الخنا وهو الفحش في القول. وجاء في رواية مسلم: ((أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه)) (¬4). قال ابن حجر: واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد ويلتحق به ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء (¬5) ... وقال ابن القيم رحمه الله: ولما كان الملك الحق لله وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضعه عند الله، وأغضبه له اسم (شاهان شاه) أي: ملك الملوك، وسلطان السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير الله، فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يحب الباطل. وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا (قاضي القضاة) وقال: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين، الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون (¬6). 4 - الله سبحانه مالك يوم الدين وملكه: فالملك في ذلك اليوم العظيم لله وحده لا ينازعه فيه أحد من ملوك الأرض وجبابرتها، قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4]. وقال تعالى: وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام: 73]. وقال تعالى: المُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الحج: 56]. وقال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان: 26]. وقال تعالى: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ [غافر: 16]. وقد جاء ما يبين ذلك من السنة الشريفة: ¬

(¬1) رواه البخاري (6206)، ومسلم (2143). (¬2) رواه البخاري (6205). (¬3) رواه البخاري بعد حديث (6206). (¬4) رواه مسلم (2143). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((الفتح)) (10/ 590). (¬6) ((الزاد)) (2/ 340 - 341).

فعن عبد الله بن مسعود قال: ((جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أو يا أبا القاسم! إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر، تصديقاً له، ثم قرأ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزُّمر: 67])) (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض)) (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون)) (¬3). فهل يجيبه أحد من طغاة الأرض وفراعنتها، كلا بل الجميع خاشعون صامتون وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه: 108]. ومن الرحمة للخلق أن الله سبحانه هو الملك الوحيد يوم القيامة لأنه الذي يحاسب بالعدل ولا يظلم ولا يجور وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصِّلت: 46]، وقال: وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء: 47] ... وثالثها: قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ لما أثبت لنفسه الملك أردفه بأن وصف نفسه بكونه رحماناً، يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر فكونه رحماناً يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة. ورابعها: قوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس مَلِكِ النَّاسِ فذكر أولاً كونه رباً للناس ثم أردفه بكونه ملكاً للناس. وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة، فيما أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات، وارحموا هؤلاء المساكين، ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك الله تعالى اهـ (¬4). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود - بتصرف– ص: 88 ¬

(¬1) رواه البخاري (4811)، ومسلم (2786). (¬2) رواه البخاري (4812)، ومسلم (2787). (¬3) رواه البخاري (7412)، ومسلم (2788). (¬4) ((التفسير الكبير)) للرازي (1/ 239).

اثنان وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله القدوس

اثنان وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله القدوس 1) تقديس الله سبحانه وتنزيهه عن النقائص وأنه موصوف بكل كمال، وصفات الكمال هي ما وصف به نفسه سبحانه في كتابه أو ما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس معنى التنزيه هو تعطيل صفات الله ونفي معاني أسمائه الحسنى كما ظنه الجهمية والمعتزلة ومن شابههم من الفرق الضالة، وإنما هو تنزيهه عن مشابهة الخلق كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشُّورى: 11]. فتنزيه أهل السنة ليس فيه تعطيل، وإثباتهم ليس فيه تشبيه، والآية السابقة فيها تنزيه وإثبات، وكل تنزيه ونفي في الكتاب فإنما هو لثبوت كمال ضده، فمثلاً نفي الله عن نفسه الظلم بقوله وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصِّلت: 46] وذلك لثبوت كمال العدل له سبحانه وهكذا، وأما النفي المحض فلا كمال فيه وهو مذموم. وقال الحليمي: (القدوس) ومعناه الممدوح بالفضائل والمحاسن، والتقديس مضمن في صريح التسبيح، والتسبيح مضمن في صريح التقديس، لأن نفي المذام إثبات للمدائح، كقولنا: لا شريك له ولا شبيه له، إثبات أنه واحد أحد، وكقولنا: لا يعجزه شيء، إثبات أنه قادر قوي، وكقولنا: إنه لا يظلم أحداً، إثبات أنه عدل في حكمه. وإثبات المدائح له نفي للمذام عنه كقولنا: إنه عالم، نفي للجهل عنه، وكقولنا: إنه قادر، نفي للعجز عنه، إلا أن قولنا هو كذا، ظاهره التقديس، وقولنا ليس بكذا، ظاهره التسبيح، لأن التسبيح موجود في ضمن التقديس، والتقديس موجود في ضمن التسبيح. وقد جمع الله تبارك وتعالى بينهما في صورة (الإخلاص) فقال عز اسمه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ فهذا تسبيح، والأمران راجعان إلى إفراده وتوحيده ونفي الشريك والتشبيه عنه (¬1). 2) وكما أنه منزه عن النقائص في صفاته وأسمائه الحسنى، فهو أيضاً منزه عن النقص في أقواله وأفعاله. فقوله الصدق وخبره الحق، قال سبحانه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء: 87] وقال وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا [النساء: 122]. وفعله منزه عن الخطأ والنسيان وغيرها من الآفات، قال سبحانه وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [الأنعام: 115] أي صدقاً فيما قال وأخبر ووعد، وعدلاً فيما حكم وشرع من أحكام. وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ [المؤمنون: 115 - 116] أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يخلق شيئا عبثاً أو سفهاً. 3) كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر هذا الاسم في ركوعه وسجوده. فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح (¬2). وكان يسبح الله به بعد فراغه من الوتر كما جاء في حديث أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات (¬3). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 99 ¬

(¬1) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 197) وذكره ضمن الأسماء التي تتبع نفي التشبيه عن الله تعالى جده، ونقله البيهقي في ((الأسماء)) (ص: 38). (¬2) رواه مسلم (487). (¬3) رواه النسائي (3/ 244)، وأحمد (3/ 406) (15398)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 108) (8115). والحديث صحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (120)، وصححه ابن دقيق في ((الإلمام بأحاديث الأحكام)) (1/ 229) على طريقة أهل الحديث - كما اشترط في المقدمة -، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (3/ 21).

ثلاث وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله السلام

ثلاث وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله السلام 1) الله سبحانه وتعالى هو (السلام) أي السالم من كل نقص وآفة وعيب، فمعناه قريب من القدوس. وقيل إن القدوس: إشارة إلى براءته عن جميع العيوب في الماضي والحاضر، والسلام: إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل، فإن الذي يطرأ عليه شيء من العيوب تزول سلامته ولا يبقى سليماً (¬1). 2) الله سبحانه هو المسلم على عباده وأوليائه في الجنة، قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [إبراهيم: 23]. وقال سبحانه: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب: 44]. وقال سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [يس: 58]. فالله تعالى يحيي عباده في الجنة بالسلام عليهم، والجنة هي دار السلام من الموت والمرض وسائر الآفات. قال تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ [الأنعام: 127] وقال وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ [يونس: 25]. 3) والله تعالى هو المسلم على أنبيائه ورسله، لإيمانهم وإحسانهم وطاعتهم له وتحملهم في سبيله أعظم الشدائد، فيؤمنهم في الآخرة فلا يخافون ولا يفزعون. وقيل: سلم الله تعالى عليهم ليقتدي بذلك البشر فلا يذكرهم أحد بسوء (¬2). قال تعالى سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79]. وقال سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109]. وقال سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات: 120] وقال تعالى سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130]. وقال وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181]. وقال سبحانه قُلِ الحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل: 59]. قال الخطابي: أخبرني أحمد بن إبراهيم بن مالك حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري عن صدقة بن الفضل قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: أوحش ما تكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى فخصه بالسلام فقال وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 15]، كأنه أشار إلى أن الله جل وعز سلم يحيى من شر هذه المواطن الثلاثة وأمنه من خوفها. وكذا عباده المؤمنين فإن الملائكة تسلم عليهم عند قبض أرواحهم وتطمئنهم وتؤمنهم. قال تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32]. فالملائكة تبشرهم بالفوز بالجنة والنجاة من عقاب الله والنار. 4) الأمر بإفشاء الاسم وأنه سبب في دخول الجنة: ... ¬

(¬1) انظر: ((التفسير الكبير)) للرازي (29/ 293). (¬2) ((تفسير البحر المحيط)) لأبي حيان (7/ 349).

وإفشاء السلام من شعائر الإسلام العظيمة التي يتهاون فيها كثير من المسلمين وهي من أوائل ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى المدينة، فعن عبد الله بن سلام قال: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستثبته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: ((أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) (¬1). 5) لا يقال السلام على الله: جاء ذلك في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: السلام على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو السلام ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) (¬2). قال البيضاوي ما حاصله: أنه صلى الله عليه وسلم أنكر التسليم على الله وبين أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإن كل سلام ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها (¬3). وقال الخطابي: المراد أن الله هو ذو السلام فلا تقولوا السلام على الله فإن السلام منه بدأ وإليه يعود (¬4). ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقولوا: التحيات لله. قال ابن حجر: جمع تحية ومعناها السلام. وقيل: البقاء. وقيل: العظمة. وقيل: السلامة من الآفات والنقض. وقيل: الملك. وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيا إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية تخصه فلهذا جمعت، فكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركاً بين المعاني المقدم ذكرها، وكونها بمعنى السلام أنسب هنا (¬5). وجاء في حديث أنس قال: قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقرئ خديجة السلام، يعني فأخبرها. فقالت: ((إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته)) (¬6). قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها لأنها لم تقل (وعليه السلام) كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد (السلام على الله) فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فعرفت خديجة رضي الله عنها لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين لأن السلام اسم من أسماء الله تعالى. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود - بتصرف– ص: 105 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2485)، وابن ماجه (1334)، وأحمد (5/ 451) (23835)، والدارمي (1/ 405) (1460)، والحاكم (3/ 14). من حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه. قال الترمذي: صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 463): حسن صحيح. (¬2) رواه البخاري (831)، ومسلم (402). (¬3) ((الفتح)) (2/ 312). (¬4) ((الفتح)) (2/ 312). (¬5) ((الفتح)) (2/ 312)، وانظر كذلك ((النهاية لابن الأثير)) (1/ 183). (¬6) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 94)، والضياء (2/ 266). وقال: له شاهد، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (116).

أربع وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله المؤمن

أربع وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله المؤمن 1) إن الله سبحانه وتعالى هو المؤمن الموحد لنفسه، وقد أخبر عن وحدانية نفسه في قوله تعالى شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18]. فالله صدق نفسه بهذا، وتصديقه علمه بأنه صادق، وهذا التصديق إيمان. وأخبر تعالى أنه سيري خلقه علامات وحدانيته ودلائل إلهيته وعظمته، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصِّلت: 53]. 2) إنه سبحانه صدق أنبياءه بإظهار الآيات الباهرة على أيديهم التي تبين للناس أنهم صادقون في ادعائهم أنهم رسل الله ولتحملهم على الدخول في دين الله، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 49]. وقال: وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران: 50]. 3) إنه تعالى يصدق عباده ما وعدهم به من النصر في الدنيا والتمكين في الأرض ومن الثواب في الآخرة، ويصدق الكفار ما أوعدهم من العقاب والخذلان في الدنيا والآخرة، قال تعالى وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ [النور: 55]. ومن نظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين علم صدق وعد الله لعباده المخلصين. وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف: 44]. وقال وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74]. 4) إنه يأمن عذابه من لا يستحقه، ويهب الأمن لعباده المؤمنين يوم القيامة، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ. وقال تعالى أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت: 40]. وقال لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [الأنبياء: 103]. وقال مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ [النمل: 89]. 5) وأما المؤمن فقد وجب عليه أن يأمن المؤمنون شره وغوائله. فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن: قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)) (¬1) أي لا يكون الرجل مؤمناً كامل الإيمان حتى يأمن جاره بوائقه أي: شروره وغوائله. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (¬2). وعن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((ألا أخبركم بالمؤمن! من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده)) (¬3). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 105 ¬

(¬1) رواه البخاري (6016) من حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (10)، ومسلم (40). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه ابن ماجه (3193)، أحمد (6/ 21) (24004)، وابن حبان (11/ 203) (4862). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 268): إسناده صحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 271): رجاله ثقات، وصحح إسناده ابن حجر في ((مختصر البزار)) (1/ 464)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

خمس وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله المهيمن

خمس وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله المهيمن 1 - إن الله سبحانه هو الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من قول أو فعل، لا يغيب عنه من أفعالهم شيء، وله الكمال في هذا فلا يضل ولا ينسى ولا يغفل وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74]. 2 - جعل الله تعالى كلامه المنزل على خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم مهيمناً على ما قبله من الكتب، فقال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ [المائدة: 48]. قال ابن الحصار: ومعنى قوله تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ أي: عال، وعلوه على سائر كتب الله، وإن كان الكل كلام الله تعالى بأمور: أحدها: بما زاد عليها من السور، فقد جاء في حديث الصحيح أن نبينا صلى الله عليه وسلم خص بسورة الحمد وخواتيم سورة البقرة (¬1). والأمر الثاني: أن جعله الله قرآن عربياً مبيناً، وكل نبي قد بين لقومه بلسانهم – كما أخبر الله تعالى – ولكن للسان العرب مزية في البيان. والثالث: أن جعل نظمه وأسلوبه معجزاً، وإن كان الإعجاز في سائر الكتب المنزلة من عند الله سبحانه، من حيث الإخبار عن المغيبات، والإعلام بالأحكام المحكمات، وسنن الله المشروعات، وغير ذلك، وليس فيها نظم وأسلوب خارج عن المعهود. فكان أعلى منها بهذه المعاني، ولهذا المعنى الإشارة بقوله الحق: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 120 ¬

(¬1) الحديث رواه مسلم (806) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. بلفظ: (( .. أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)).

ست وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله الجبار

ست وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله الجبار 1 - إن الله تعالى هو الجبار الذي له العلو على خلقه، علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر والجبر، لا يدنو منه الخلق إلا بأمره، ولا يشفعون أو يتكلمون إلا من بعد إذنه، لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه. 2 - جبر الله تعالى خلقه على ما أراد أن يكونوا عليه من خلق، لا يمتنع عليه شيء منهم أبداً إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]. وقال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83]. وقال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ [الأعراف: 54]. وقال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ [فصِّلت: 12]. أي: استجيبا لأمري، وانفعلا لفعلي، طائعتين أو مكرهتين. 3 - والله سبحانه جبر خلقه أيضاً على ما شاء من أمر أو نهي، بمعنى أنه شرع لهم من الدين ما ارتضاه هو، كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1]. فشرع لهم من الشرائع ما شاء، وأمرهم باتباعها ونهاهم عن العدول عنها، فمن أطاع فله الجنة ومن عصى فله النار. ولم يجبر أحداً من خلقه على إيمان أو كفر، بل لهم المشيئة في ذلك كما قال سبحانه: وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29]. وقال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 7 - 10]. وهم مع ذلك لا يخرجون عن مشيئته. ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ولم يجعل لهم اختياراً كما قال سبحانه: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد: 31]، وقال: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13]. 4) الجبروت لله وحده وقد مدح الله بهذا الاسم نفسه وأما في حق الخلق فهو مذموم فما الفرق؟. الفرق أنه سبحانه قهر الجبابرة بجبروته وعلاهم بعظمته لا يجري عليه حكم حاكم فيجب عليه انقياده، ولا يتوجه عليه أمر آمر فيلزمه امتثاله، آمر غير مأمور، قاهر غير مقهور لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]. وأما الخلق فهم موصوفون بصفات النقص مقهورون مجبورون تؤذيهم البقة وتأكلهم الدودة، وتشوشهم الذبابة، أسير جوعه، وصريع شبعه ومن تكون هذه صفته كيف يليق به التكبر والتجبر؟! (¬1) ¬

(¬1) ((شرح الأسماء)) للرازي (ص: 199).

وقد أنكرت الرسل على أقوامها صفة التجبر والتكبر في الأرض بغير الحق كما قال تعالى عن هود صلى الله عليه وسلم أنه قال لقومه وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إلى أن قال إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 130 - 135]. ولكنهم عاندوا واتبعوا أمر جبابرتهم فهلكوا أجمعين. قال تعالى وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود: 59]. وقد كان التجبر سببا للطبع على قلوبهم فلم تعرف معروفاً ولم تنكر منكراً كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35]. وقد توعد الله سبحانه الجبابرة بالعذاب والنكال، توعدهم بجهنم وبئس المهاد. قال تعالى وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 15 - 17]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ... )) (¬2). 5) الأرض كلها خبزة بيد الجبار سبحانه وتعالى يوم القيامة: عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة ... )) (¬3). 6) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بين السجدتين فيقول: ((اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني)) (¬4). فكان يدعو بما دل عليه اسم الجبار جل وعلا. قال ابن الأثير: وأجبرني أي أغنني، من جبر الله مصيبته: أي رد عليه ما ذهب منه وعوضه، وأصله من جبر الكسر (¬5). وكان يعظم ربه أيضاً بهذا الاسم في الصلاة في الركوع والسجود كما جاء في حديث عوف بن مالك الأشجعي أنه كان يقول في ركوعه: ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)) (¬6)، وفي سجوده مثل ذلك. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 133 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2574)، وأحمد (2/ 336) (8411)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 190). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (16/ 184). (¬2) رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (6520)، ومسلم (2792). (¬4) رواه أحمد (1/ 371) (3514)، والطبراني (12/ 20) (12378)، والبيهقي (2/ 122) (2857). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (5/ 172). (¬5) ((النهاية)) (1/ 236). (¬6) رواه أبو داود (873)، والنسائي (2/ 191)، وأحمد (6/ 24) (24026). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه النووي في ((المجموع)) (4/ 67)، وحسنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/ 74).

سبع وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله المتكبر والكبير

سبع وثلاثون: الآثار الإيمانية لاسم الله المتكبر والكبير 1) إن الله أكبر من كل شيء، وأكبر من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته وأكبر من أن نحيط به علماً. قال تعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110]، فالله جلت عظمته أكبر من أن نعرف كيفية ذاته أو صفاته ولذلك نهينا عن التفكر في الله لأننا لن ندرك ذلك بعقولنا الصغيرة القاصرة المحدودة، فقد قال صلى الله عليه وسلم ((تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل)) (¬1). وقد وقع الفلاسفة في ذلك وحاولوا أن يدركوا كيفية وماهية ربهم بعقولهم فتاهوا وضلوا ضلالاً بعيداً ولم يجنوا سوى الحيرة والتخبط والتناقض فيما سطروه من الأقوال والمعتقدات. فمن أراد معرفة ربه وصفاته فعليه بطريق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أعلم الخلق بالله وصفاته، فعليه أنزل الكتاب العزيز الذي لا تكاد الآية منه تخلو من صفة لله سبحانه سواء كانت ذاتية أو فعلية أو اسم من أسمائه الحسنى، وعليه أيضاً أنزلت السنة الشارحة والمفصلة للكتاب، فطريقه صلى الله عليه وسلم هو الطريق الأسلم ومنهجه هو المنهج الأقوم، فمن اتبعه كان من الناجين، ولذلك بين في الحديث الصحيح أن الفرقة الناجية هي ما كان عليه هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين في المعتقد والعبادة والسلوك. 2) إن التكبر لا يليق إلا به سبحانه وتعالى، فصفة السيد التكبر والترفع وأما العبد فصفته التذلل والخشوع والخضوع. وقد توعد الله سبحانه المتكبرين بأشد العذاب يوم القيامة. قال تعالى فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ [الأحقاف: 20]. وقال أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزُّمر: 60]. واستكبارهم هذا: هو رفضهم الانقياد لله ولأمره ورفضهم عبادة ربهم كما قال تعالى إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصَّفات: 35]، فرفضوا الإذعان لكلمة التوحيد وقوله سبحانه أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الجاثية: 31] يبين أنهم رفضوا الحق الذي جاءت به الرسل وردوه ولم يقبلوه، وقوله سبحانه قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] يبين أنهم احتقروا أتباع الرسل لكونهم من ضعفة الناس وفقراءهم فلم يدخلوا في جماعتهم ولم يشاركوهم في الإيمان بما جاءت به الرسل. وكان الكبر سببا للطبع على قلوبهم فلم تعد تعرف معروفا ولا تنكر منكرا. قال تعالى كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35]. فالحاصل أن الكبر كان سببا في هلاك الأمم السابقة بل كان السبب في هلاك إبليس عليه لعنة الله وطرده من رحمة الله لأنه أبي أن يسجد لآدم صلى الله عليه وسلم واستكبر على أمر ربه سبحانه، قال تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ [البقرة: 34]. 3) ولا يكاد يخلو طاغية في الأرض من هذا المرض العضال، الذي كثرت الآيات فيه والأحاديث المحذرة منه، والآمرة بالتواضع. ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 250) (6319)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 136). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث حسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2975).

ودواؤه أن يتذكر العبد دوماً أنه لا حول له ولا قوة إلا بربه وأن الله هو الكبير المتعال على الخلق أجمعين، القادر على الانتقام من الأقوياء للضعفاء والمساكين كما جاء في قوله تعالى وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء: 34] أي والنساء اللاتي تتخوفون أن يعصين أزواجهن فذكروهن بالله فإن هي رجعت وإلا هجرها فإن أقبلت وإلا ضربها ضربا غير مبرح فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله فلا سبيل له عليها، وقوله إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب فإن الله العلي الكبير وليهن، وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن (¬1). فذكر الله الرجال بأنه هو العلي الكبير ليحذرهم من الظلم والتكبر والطغيان على المرأة الضعيفة. 4) والكبر يمنع أيضا من طلب العلم والسؤال عنه، لأن المتكبر يترفع عن الجلوس بين يدي العالم للتعلم ويرى أن في ذلك مهانة له ويؤثر البقاء على الجهل فيجمع بين الكبر والجهل، بل قد يجادل ويناقش ويخوض في المسائل بدون علم حتى لا يقال أنه لا يعلم فيصغر عند الناس، قال تعالى ذكره وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 8 - 9]. أي ومن الناس من يجادل في الله بغير علم صحيح ولا نقل صريح بل بمجرد الرأي والهوى وإذا دعي إلى الحق ثنى عطفه أي لوى رقبته مستكبراً عما يدعى إليه من الحق كقوله تعالى وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ فأخبر تعالى أن له في الدنيا الخزي وهو الإهانة والذل لأنه استكبر عن آيات الله فجوزي بنقيض قصده وله في الآخرة عذاب النار المحرقة. ونحوه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [غافر: 56]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 141 ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 491 - 492).

ثمان وثلاثون: الآثار الإيمانية لأسماء الخالق – الخلاق – البارئ – المصور

ثمان وثلاثون: الآثار الإيمانية لأسماء الخالق – الخلاق – البارئ – المصور 1) أخبر تعالى عن نفسه أنه هو الخالق وحده وما سواه مخلوق، قال تعالى قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ [الرعد: 16]. وقال سبحانه هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ [فاطر: 3]. فكل ما سوى الله مخلوق محدث، كائن بعد أن لم يكن، وكل المخلوقات سبقها العدم كما قال عز وجل هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان: 1]. وهذا قول الرسل جميعا وأتباعهم، وخالف في ذلك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدوماً أصلًا، بل لم يزل ولا يزال، ولكن الكتاب يرد ذلك ويرفضه (¬1). 2) أن الله سبحانه لم يزل خالقاً كيف شاء ومتى شاء ولا يزال، لقوله سبحانه قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 47]. وقوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص: 68]. وقوله سبحانه: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج: 15 - 16]. وليس بعد خلق الخلق استفاد اسم (الخالق)، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم (الباري)، وذلك من كماله، ولا يجوز أن يكون فاقداً لهذا الكمال، أو معطلاً عنه في وقت من الأوقات، قال تعالى أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17]. 3) إن الله تعالى ذكره خالق كل شيء. قال تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر: 62]. ومن جملة مخلوقاته أفعال العباد وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل هذا على أن العبد ليس بفاعل على الحقيقة ولا مريد ولا مختار، بل هو فاعل لفعله حقيقة، وأن إضافة الفعل إليه إضافة حق، وأنه يستوجب عليه المدح والذم والثواب والعقاب، لكن لا يدل هذا أنه واقع بغير مشيئة الله وقدرته. والدليل على أن أفعال العباد مخلوقة قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] فأفعالهم لله تعالى خلق ولهم كسب، ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله تعالى، فيكون شريكا وندا ومساويا له في نسبة الفعل إليه، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] وقد وقع في ذلك القدرية نفاة القدر، الذين جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى، ولهذا كانوا (مجوس هذه الأمة) بل أردأ من المجوس من حيث أن المجوس أثبتوا خالقين، خالقاً للخير وخالقا للشر، وأما هؤلاء فقد أشركوا جميع العباد في الخلق فقالوا هم يخلقون أفعالهم، وخالفوا بذلك الكتاب والسنة وأهل الحق (¬2). 4) خلق الله عظيم محكم فلا يستطيع مخلوق أن يخلق مثله، فضلاً عن أن يخلق أفضل منه، قال سبحانه وتعالى: هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [لقمان: 11]. وفي الآية تحدي لجميع الخلق من الجن والإنس وغيرهم. ¬

(¬1) قال ابن تيمية في ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 167): وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة أرسطو. (¬2) انظر: ((العقيدة الطحاوية)) (ص: 493 - 502)، و ((الفتح)) (13/ 491 - 495).

وقد أثبت الله عجزهم عن خلق خلق ضعيف حقير كالذباب مثلاً ولو اجتمعوا على ذلك وتعاونوا عليه، قال عز وجل يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الحج:73 - 74. 5) ولذلك حرم الله على عباده أن يصوروا الصور ذات الأرواح لما فيها من مضاهاة لخلق الله، أي تشبيه ما يصنعونه ويصورونه من الصور بما يصنعه ويصوره الله كما جاء في رواية مسلم ((الذين يشبهون بخلق الله)) (¬1). وقد وردت أحاديث كثيرة في توعد المصورين بأشد العذاب كقوله صلى الله عليه وسلم ((إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون)) (¬2)، وقوله صلى الله عليه وسلم ((إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم)) (¬3)، وهو أمر تعجيز ويستفاد منه صفة تعذيب المصور وهو أن يكلف نفخ الروح في الصورة التي صورها وهو لا يقدر على ذلك فيستمر تعذيبه. قاله الحافظ (¬4). وجاء في الحديث القدسي قوله تعالى: ((ومن أظلم مم ذهب – أي قصد – يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)) (¬5). فتحداهم الخالق سبحانه بأن يخلقوا ذرة وهي النملة الصغيرة، ثم زاد في التحدي بأن طلب منهم أن يخلقوا حبة أو شعيرة وهو من الجماد الذي لا حركة فيه نسبياً إذا ما قيس بالنسبة للنمل الذي يتحرك. وقال بعض الملحدة يوماً: أنا أخلق! فقيل له: فأرنا خلقك؟ فأخذ لحماً فشرحه، ثم جعل بينه روثاً ثم جعله في كوز وختمه ودفعه إلى من حفظه عنده ثلاثة أيام، ثم جاء به إليه فكسر الخاتم وإذا الكوز ملآن دوداً، فقال: هذا خلقي!! فقال له بعض من حضر: فكم عدده؟ فلم يدر، فقال: كم منه ذكور وكم منه إناث، وهل تقوم برزقه؟ فلم يأت بشيء، فقال له: الخالق الذي أحصى كل ما خلق عدداً، وعرف الذكر من الأنثى، ورزق ما خلق، وعلم مدة بقاءه وعلم نفاد عمره، قال الله عز وجل: اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الرُّوم: 40] وقال: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] (¬6). وقد قسم النووي – رحمه الله – المصورين إلى ثلاثة أقسام: أ- من فعل الصورة لتعبد وهو صانع الأصنام ونحوها فهذا كافر وهو أشدهم عذابا. ب- من فعل الصورة وقصد مضاهاة خلق الله تعالى واعتقد ذلك، فهذا كافر له من أشد العذاب ما للكفار ويزيد عذابه بزيادة قبح كفره. ج- من لم يقصد بالصورة العبادة ولا المضاهاة فهو فاسق صاحب ذنب كبير ولا يكفر كسائر المعاصي اهـ (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (2107). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري (5950)، ومسلم (2109). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (5951)، ومسلم (2108). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬4) ((الفتح)) (10/ 384). (¬5) رواه البخاري (7559)، ومسلم (2111). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) ((الحجة في المحجة)) (1/ 143) (¬7) ((شرح مسلم)) (14/ 91)، وانظر: ((الفتح)) (10/ 383 - 384).

6) وجود هذا الخلق العظيم المحيط بنا من كل ناحية دليل على قدرة الخالق وعلى عظمته وكماله، فالإنسان يعجز في كثير من الأحيان عن معرفة جوانب كثيرة من الأرض التي يعيش عليها، مع أنها صغيرة جداً إذا ما قيست بالنسبة لبقية الكون الفسيح المليء بملايين النجوم المضيئة والشموس والأقمار والتي يعجز عن حصرها أو عدها، وهذا كله في السماء الدنيا، التي فوقها ست سماوات طباق، بعضها فوق بعض وفوقهن جميعاً الكرسي، ومن عظمة خلق هذا الكرسي واتساعه أنه يستوعب السماوات السبع والأرض جميعاً، قال تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة: 255] والعرش أعظم من ذلك والخالق سبحانه فوق العرش، وهو جلت عظمته أكبر من كل شيء وأعظم. وبذلك تعلم أن خلق الإنسان ضعيف جداً، إذا ما قورن بالسماوات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] وقوله تعالى أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات: 27 - 29]. 7) وأخيرا يجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى ما خلق هذا الخلق العظيم لهوا ولعباً، ولا خلقه عبثا وإنما خلقه لغاية عظيمة، قال تعالى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ [المؤمنون: 115 - 116] أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا حكمة لنا فيكم، فتعالى الله أي تقدس وتنزه عن ذلك ثم ذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات (¬1). وقال عز وجل وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18]. قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق – أي بالعدل – ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لبعاً (¬2). وأبان تعالى عن هذه الغاية العظيمة بقوله وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 56 - 57]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 157 ¬

(¬1) من ((تفسير ابن كثير)) (3/ 259) ملخصاً. (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 174 - 175).

تسع وثلاثون: الآثار الإيمانية لأسماء الله الغافر – الغفور – الغفار

تسع وثلاثون: الآثار الإيمانية لأسماء الله الغافر – الغفور – الغفار 1) وصف الله سبحانه نفسه بأنه غفار وغفور للذنوب والخطايا والسيئات لصغيرها وكبيرها، وحتى الشرك إذا تاب منه الإنسان واستغفر ربه، قبل الله توبته وغفر له ذنبه، قال تعالى قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزُّمر: 53] وقال تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110]. فمهما عظمت ذنوب هذا الإنسان فإن مغفرة الله ورحمته أعظم من ذنوبه التي ارتكبها قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ [النَّجم: 32]. وقد تكفل الله سبحانه بالمغفرة لمن تاب وآمن، قال تعالى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82]. بل من فضله وجوده وكرمه أن تعهد بأن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات، قال تعالى عن التائبين فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70]. 2) ولكن لا يجوز للمسلم أن يسرف في الخطايا والمعاصي والفواحش بحجة أن الله غفور رحيم، فالمغفرة إنما تكون للتائبين الأوابين، قال تعالى إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء: 25]، وقال سبحانه إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [النمل: 11]. فاشترط تبدل الحال من عمل المعاصي والسيئات إلى عمل الصالحات والحسنات لكي تتحقق المغفرة والرحمة. وقوله تعالى إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] يبين أن المقيم على الشرك حتى الوفاة لا غفران لذنوبه لأنه لم يبدل حسناً بعد سوء، وكذا قوله تعالى عن المنافقين سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [المنافقون: 6] لأنهم لم يخلصوا دينهم لله ولم يصلحوا من أحوالهم وأما إذا حصل ذلك فإن المغفرة تحصل لهم مع المؤمنين قال تعالى إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ المُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 146] ... 3) اتصاف الله سبحانه بأنه (غفار) للذنوب والسيئات، فضل من الله ورحمة عظيمة للعباد، لأنه غني عن العالمين، لا ينتفع بالمغفرة لهم، لأنه سبحانه لا يضره كفرهم أصلاً، ولا يغفر لهم خوفاً منهم أيضاً، لأنه قوي عزيز، قد قهر كل شيء وغلبه ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وقد نبه الله عباده إلى هذا الأمر في القرآن الكريم عدة مرات، باقتران اسمه (الغفور) مع (العزيز) كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28] وقوله أَلَا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ [الزُّمر: 5] فمع عزته وقهره، إلا أنه غفور رحيم. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود- بتصرف– ص: 165

أربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله القاهر – القهار

أربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله القاهر – القهار 1) إن القهار على الحقيقة هو الله وحده سبحانه، هو قهر وغلب عباده أجمعين، حتى إن أعتى الخلق يتضاءل ويتلاشى أمام قهر الله وجبروته، فها هو الموت الذي كتبه الله على عباده لا يستطيع الخلق رده أو دفعه عن أنفسهم، ولو أوتوا من القوة والجبروت ما أوتوا، وقد ذكر الله الموت قريباً من وصفه نفسه بـ (القاهر) لذكرهم بشيء قد قهرهم به أجمعين وذلك في قوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 61 - 62]. ومما قهرهم به أيضاً: الأمراض والمصائب والنكبات التي لا يملكون ردها عن أنفسهم. وما أحسن قول من قال: القهار الذي طاحت عند صولته صولة المخلوقين، وبادت عند سطوته قوى الخلائق أجمعين، قال تعالى لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ فأين الجبابرة والأكاسرة! عند ظهور هذا الخطاب وأين الأنبياء والمرسلون، والملائكة المقربون في هذا العتاب، وأين أهل الضلال والإلحاد، والتوحيد والإرشاد، وأين آدم وذريته، وأين إبليس وشيعته، وكأنهم بادوا أو انقضوا زهقت النفوس، وتبددت الأرواح وتلفت الأجسام والأشباح، وتفرقت الأوصال، وبقي الموجود الذي لم يزل ولا يزال (¬1). 2) وأما صفة القهر في الخلق، فغالباً ما تكون مذمومة لقيامها على الظلم والطغيان، والتسلط على الضعفاء والفقراء كما قال فرعون لعنه الله قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف: 127]. وقال تعالى فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [الضُّحى: 9] أي لا تسلط عليه بالظلم وادفع إليه حقه، وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في أمره بتغليظ العقوبة على ظالمه، وقوله وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ أي لا تزجره ولا تغلظ له القول. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قال القرطبي: وهذه هي النعمة العظمى، وهي ما من الله عليه من الرسالة والنبوة والخلة والمحبة والعلم والحكمة، فأوجب عليه أن يظهر ذلك ويشيعه ويحدث به، ويعلم الجاهل غير ممتن عليه ولا متطاول ولا قاهر له. وكذلك قال معاوية بن الحكم السلمي: (فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني) الحديث خرجه مسلم (¬2). وقرئ فلا تكهر بالكاف وهي قراءة عبد الله بن مسعود، قال الكسائي: كهره وقهره بمعنى (¬3). 3) قوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 61] يستفاد منه صفة العلو لله سبحانه على عباده، سواء علو (المكانة والرتبة) أو علو (المكان والجهة) وقد تظافرت أدلة الكتاب والسنة عليه (أي الثاني) كقوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى وقوله أَأَمِنتُم مَّنْ فِي السَّمَاء. 4) أنه سبحانه هو الذي قهر الخلق جميعاً على ما أراد. 5) أن الله هو القهار المستحق للعبادة والألوهية وما سواه من الآلهة فإنما هي مخلوقات عاجزة مقهورة، لا تملك أن ترد الضر عن نفسها فكيف تقهر غيرها، وبهذا جادل نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم صاحباه في السجن فقال يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ [يوسف: 39] فبين لهم أن آلهتهم متعددة متفرقة، والعابد لها متحير أيها يرضى، وأنها مسخرة ومقهورة لله وفي قبضته، وليس لها من الألوهية إلا الاسم الذي أعطي لها زوراً وبهاتاناً دون حجة ولا برهان مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [يوسف: 40]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 171 ¬

(¬1) انظر: ((شرح الأسماء)) للرازي (ص: 222). (¬2) رواه مسلم (537). (¬3) ((الكتاب الأسنى)).

واحد وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الوهاب

واحد وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الوهاب 1) أن الوهاب هو الله وحده، بيده خزائن كل شيء، الذي له ملك السماوات والأرض ومن فيهن قال تعالى لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى: 49 - 50]. قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خالق السماوات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء. ثم قال: فجعل الناس أربعة أقسام منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد له، إنه عليم أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، قدير أي على يشاء من تفاوت الناس في ذلك (¬1). فالله سبحانه يهب ما يشاء لمن يشاء، لأنه مالك الملك وأما العباد فإنهم ملك لله سبحانه، والعبد لا يملك أن يهب شيئاً على الحقيقة. قال تعالى ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل: 75]. 2) الفرق بين هبة الخالق والمخلوق: قال الخطابي رحمه الله: فكل من وهب شيئاً من عرض الدنيا لصاحبه فهو واهب ولا يستحق أن يسمى وهاباً إلا من تصرفت مواهبه في أنواع العطايا فكثرت نوافله ودامت، والمخلوقون إنما يملكون أن يهبوا مالاً أو نوالاً في حال دون حال، ولا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم، ولا ولداً لعقيم، ولا هدى لضال، ولا عافية لذي بلاء، والله الوهاب سبحانه يملك جميع ذلك، وسع الخلق جوده، فدامت مواهبه واتصلت منه وعوائده (¬2). وأكثر الخلق إنما يهبون من أجل عوض ينالونه، كأن يهب لأجل أن يمدح بين الناس، أو يهب من أجل الثواب في الآخرة (¬3). 3) النبوة والكتاب هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده، وقد أنكر أقوام الرسل هذا الأمر فحكى الله عن قوم صالح عليه الصلاة والسلام أنهم قالوا أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر: 25]. وقال سبحانه عن كفار قريش أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [ص: 8 - 9]. يقول ابن جرير رحمة الله: يقول تعالى ذكره أم عند هؤلاء المشركين المنكرين وحي الله إلى محمد خزائن رحمة ربك يعني مفاتيح رحمة ربك يا محمد، العزيز في سلطانه، الوهاب لمن يشاء من خلقه ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة، فيمنعوك يا محمد ما من الله به عليك من الكرامة، وفضلك به من الرسالة (¬4). وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ [العنكبوت: 27]. وقال عن موسى عليه الصلاة والسلام فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ [الشعراء: 21]. وقال سبحانه وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53]. 4) الملك والسلطان هبة من الله سبحانه وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 247]. ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 121). (¬2) ((شأن الدعاء)) (ص: 53). (¬3) انظر: ((شرح الأسماء)) للرازي (ص: 224 - 225) و ((المقصد الأسنى)) (ص: 49). (¬4) ((جامع البيان)) (23/ 82).

وقال سبحانه أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء: 53 - 54] وهذا استفهام انكار أي ليس لهم نصيب من الملك بل الله وحده هو المالك للملك الذي يهب ما يشاء لمن يشاء. وقد دعا سليمان عليه الصلاة والسلام ربه قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ [ص: 35]. دعاه أن يهبه ملكاً لا يكون لأحد من بعده فاستجاب الوهاب سبحانه له فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 36 - 39]. سخر الله له الريح التي تجري بأمره حيث أراد أي تحمله حيث شاء، والشياطين التي تعمل له ما يشاء من تماثيل ومحاريب وقصور وقدور وجفان، ويغوصون في البحار يستخرجون له اللآلئ. فيا له من ملك عظيم يعجز أعظم البشر مالاً وسلطاناً أن يهب شيئاً منه، هذا عطاؤنا هذه هبة الله لمن يريد من خلقه. 5) الذرية هبة من الله أيضاً. قال جل ذكره لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى: 49 - 50] وقد مر قريباً كلام ابن كثير عليها. وقد وهب الله سبحانه بعض الأنبياء الذرية بعد كبر السن ووهن العظم. قال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [إبراهيم: 39]. وكذا زكريا صلى الله عليه وسلم وهبه الله الولد بعد ما طعن في السن وشاخ، وكانت امرأته عاقراً أيضا كما بين الله ذلك في مطلع سورة مريم، لكن ذلك لم يمنع زكريا عليه الصلاة والسلام من الطمع في هبة الله الوهاب، فدعا ربه رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: 38] فاستجاب الله دعاءه فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء: 90] أي شفى امرأته من العقم، فحملت يحيى عليه الصلاة والسلام فسبحان الكريم الوهاب. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 176

اثنان وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرزاق

اثنان وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرزاق 1) إن المتفرد بالرزق هو الله وحده لا شريك له، قال عز وجل يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 3]. وقال سبحانه قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ [سبأ: 24]. ينبه الله عباده إلى الاستدلال على توحيده وإفراده بالعبادة، أنه سبحانه هو المستقل بالخلق والرزق لا يشاركه أحد في ذلك، وإذا كان كذلك، فليفرد بالعبادة ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد، ولهذا قال تعالى بعد ذلك لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 3] أي: كيف تصرفون بعد هذا البيان عن عبادة الله وحده. وقد أنكر الله على المشركين عبادتهم للأوثان والأصنام مع أنها لا تملك لهم رزقاً ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً. قال سبحانه وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73]. فأخبر تعالى أنها لا تملك لهم رزقاً ولا تستطيع ذلك ثم قال سبحانه فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ أي لا تجعلوا له الأنداد والأشباه والأمثال إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أي: أنه يعلم ويشهد أن لا إله إلا هو المتفرد بالخلق والرزق وأنتم بجهلكم تشركون به (¬1). وكذا قوله تعالى اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الرُّوم: 40] أي لا يقدر شركاؤكم على شيء من ذلك أبدا، بل لو أمسك الله سبحانه الرزق عن الناس، فلا يملك أحد أن يفتحه عليهم من دون الله، قال تعالى مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [فاطر: 2] وقوله جل وعلا أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الملك: 21] أي: أمن هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم إن أمسك ربكم رزقه الذي يرزقكم عنكم (¬2). وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا انصرف من الصلاة ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولما معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) (¬3). 2) أن الله عز وجل متكفل برزق من في السماوات والأرض، قال سبحانه وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا [هود: 6]. وقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت: 60]. قال ابن كثير: أي لا تطيق جمعه ولا تحصيله، ولا تدخر شيئاً لغد، اللهُ يَرْزُقُهَا أي يقيض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الزرق، ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض والطير في الهواء، والحيتان في الماء (¬4). 3) قال القرطبي: والفرق بين القوت والرزق، أن القوت ما به قوام البنية مما يؤكل ويقع به الاغتذاء. والرزق كل ما يدخل تحت ملك العبد: مما يؤكل ومما لا يؤكل، وهو مراتب أعلاها ما يغذي. ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (29/ 6). (¬2) ((جامع البيان)) (29/ 6). (¬3) رواه البخاري (844)، ومسلم (593). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 420).

وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في الرزق في قوله: ((يقول ابن آدم مالي مالي!! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس)) (¬1). وفي معنى اللباس يدخل المركوب وغير ذلك مما ينتفع به الإنسان، والقوت رزق مخصوص، وهو المضمون من الرزق الذي لا يقطعه عجز، ولا يجلبه كيس، وهو الذي أراد تعالى بقوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا [هود: 6]، فلا ينقطع هذا الرزق إلا بانقطاع الحياة (¬2). 4) وكل ذلك بلا ثقل ولا كلفة ولا مشقة، قال الطحاوي رحمه الله: رازق بلا مؤنة. اهـ (¬3). بل لو سألوه جميعاً فأعطاهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً، كما جاء في قوله تعالى في الحديث القدسي ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)) (¬4). 5) أن الله سبحانه لم يختص برزقه من آمن في الحياة الدنيا، وإنما كان الرزق في الدنيا للجميع، للمؤمنين والكافرين، وهذا من عظيم لطفه سبحانه كما قال اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ [الشُّورى: 19]. وعن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم)) (¬5). ومعناه أن الله سبحانه واسع الحلم حتى مع الكافر الذي ينسب له الولد فهو يعافيه ويرزقه. 6) أن الله سبحانه متحكم في أرزاق عباده فيجعل من يشاء غنيا كثير الرزق، ويقتر على آخرين، وله في ذلك حكم بالغة. قال تعالى وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل: 71]، وقال سبحانه إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 30]. قال ابن كثير: أي خبير بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر (¬6) فمن العباد من لا يصلح حاله إلا بالغنى فإن أصابه الفقر فسد حاله ومنهم العكس إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، وقال ابن كثير في معنى قوله تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ [الشُّورى: 27]: ولو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، ثم قال تعالى وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ وهذا كقوله سبحانه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21]. 7) كثرة الرزق في الدنيا لا تدل على محبة الله تعالى، ولكن الكفار لجهلهم ظنوا ذلك، قال تعالى عنهم وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 35 - 37]. ¬

(¬1) رواه مسلم (2958). من حديث عبدالله بن الشخير رضي الله عنه. (¬2) ((الكتاب الأسنى)). (¬3) ((العقيدة الطحاوية)) (ص: 125). (¬4) رواه مسلم (2577). من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (7378). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬6) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 38).

فظن الكفار والمترفون أن كثرة الأموال والأولاد دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة، وقد رد الله هذا بقوله أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 56]. ثم قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى أي ليست كثرة الأموال والأولاد، هي التي تقرب من الله أو تبعد إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أي إنما يقرب من الله الإيمان به، وعمل البر والصالحات. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)) (¬1) وفي رواية ((ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (¬2). وبين تعالى أنهم يرضون بالحياة الدنيا وأرزاقها ويطمئنون إليها ويفرحون بها لأنهم لا يرجون بعثاً ولا حساباً، غافلين عن الآخرة وأهوالها. قال سبحانه إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يونس: 7 - 8] وقال سبحانه اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد: 26]. ولم يعملوا أن الدنيا عند الله لا تزن شيئا كما جاء في حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) (¬3). ولذلك فإن الله يعطيها لمن يحب ولمن لا يحب فليس كثرة الرزق دليل على الكرامة ولا قلته دليل على الإهانة فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ [الفجر: 15 - 16]. وقوله سبحانه في آخر آية الرعد السابقة وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ دليل على قصر عمر الدنيا وقلة خطرها بالنسبة للآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)) (¬4). 8) إن تقوى وطاعته سبب عظيم للرزق والبركة فيه. قال سبحانه عن أهل الكتاب وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [المائدة: 66]. وقال وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف: 96]. وقال جل شأنه وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلاق: 2 - 3] أي من جهة لا تخطر بباله، وقال سبحانه وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجنّ: 16]. ¬

(¬1) رواه مسلم (2564). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (4651). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه الترمذي (2320) واللفظ له، وابن ماجه (3334)، والحاكم (4/ 341). قال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه مسلم (2858). من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه.

وتأذن بالزيادة لمن شكر وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7]. 9) والعكس صحيح أيضاً فإن المعصية تنقص الرزق والبركة، لأن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، قال سبحانه ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الرُّوم: 41]. قيل: الفساد القحط وقلة النبات وذهاب البركة والفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم. وقيل: هو كساد الأسعار وقلة المعاش. 10) أعظم رزق يرزق الله به عباده هو (الجنة) التي أعدها الله لعباده الصالحين وخلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكل رزق يعد الله به عباده الصالحين في القرآن فغالباً ما يراد به الجنة كقوله تعالى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ [سبأ: 4]. وقوله وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج: 58]. وقوله سبحانه وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا [الطَّلاق: 11]. فهو أحسن الرزق وأكمله وأفضله وأكرمه، لا ينقطع ولا يزول إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ [ص: 54]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 184

ثلاث وأربعون: الآثار الإيمانية لأسماء العليم – العالم – العلام

ثلاث وأربعون: الآثار الإيمانية لأسماء العليم – العالم – العلام 1) إثبات العلم التام الكامل الشامل لله وحده، ولا يشابهه أحد من مخلوقاته في كمال علمه: وقد أثبت الله عز وجل لنفسه العلم الكامل الشامل في آيات كثيرة منها قوله تعالى إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه: 98]، وقوله وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7]، وقوله وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطَّلاق: 12]. ففي هذه الآيات إثبات علمه بكل شيء من الأشياء، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، كما قال سبحانه وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59]، وقال وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجنّ: 28]. وقد أنكر بعض الفلاسفة ومن تابعهم كابن سينا علمه تعالى بالجزيئات، فقالوا إنه يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي، وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) بقوله: وهذا مما يبين لك أن من قال من المتفلسفة إنه سبحانه يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي، فحقيقة قوله إنه لم يعلم شيئاً من الموجودات، فإنه ليس في الموجودات إلا ما هو معين جزئي، والكليات إنما تكون في العالم، لاسيما وهم يقولون: إنما علم الأشياء لأنه مبدؤها وسببها، والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، ومن المعلوم أنه مبدع للأمور المعينة المشخصة الجزئية، كالأفلاك المعينة والعقول المعينة، وأول الصادرات عنه – على أصلهم – العقل الأول، وهو معين، فهل يكون من التناقض وفساد العقل في الإلهيات أعظم من هذا؟ (¬1). وبين العلامة المحقق ابن القيم أن (الحمد لله) تتضمن الرد على منكري علمه تعالى بالجزئيات، قال: وذلك من وجوه: أحدهما: كمال حمده، وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئاً من العالم وأحواله وتفاصيله، ولا عدد الأفلاك، ولا عدد النجوم، ولا من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدعوه ممن لا يدعوه؟ الثاني: أن هذا مستحيل أن يكون إلهاً، وأن يكون رباً فلابد للإله المعبود، والرب المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله. الثالث: من إثبات رحمته، فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم. الرابع: إثبات ملكه، فإن ملكاً لا يعرف أحداً من رعيته ألبته ولا شيئاً من أحوال مملكته ألبته، ليس بملك بوجه من الوجوه. الخامس: كونه مستعاناً. السادس: كونه مسئولا أن يهدي سائله ويجيبه. السابع: كونه هادياً. الثامن: كونه منعماً. التاسع: كونه غضباناً على من خالفه. العاشر: كونه مجازياً، يدين الناس بأعمالهم يوم الدين. فنفي علمه بالجزئيات مبطل لذلك كله (¬2). وكيف لا يحيط تعالى علماً بكل شيء وهو قد خلق كل شيء أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ [الملك: 14]. فقبح الله من رمى ربه بالجهل وعدم العلم وهو يأنف أن يوصف بشيء من ذلك. 2) أن الله سبحانه لكمال علمه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، أي أنه سبحانه يعلم الأمور الماضية التي وقعت، والأمور المستقبلية التي لم تقع بعد، ويعلم الأمور التي لن تقع لو فرض أنها تقع كيف تقع، وهذا من كمال علمه بالغيب وعواقب الأمور، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]. ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 113)، وانظر: (10/ 151). (¬2) ((مدارج السالكين)) (1/ 67).

وقوله تعالى لإبليس عليه لعنة الله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] وهو خبر عن المستقبل. وقوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171 - 173]. وقوله تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحج: 70]. وقوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] أي علم الله أنكم لن تستطيعوا القيام بما أمركم به من قيام الليل، لأنه سيكون منكم مرضى وآخرون يجاهدون في سبيل الله وآخرون مسافرون في الأرض يبتغون فضل الله في المكاسب فقوموا من الليل بما يتيسر. وقوله تعالى فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 27]. وقوله سبحانه مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22] أي: ما تقع من مصيبة في الأرض من قحط أو طوفان أو صاعقة وغير ذلك، وَلا فِي أَنفُسِكُمْ أي: من الأمراض والمصائب والبلاء، إلا كان ذلك مكتوباً في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلق الخليقة، ونبرأ النسمة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء)) (¬1). 3) وقد خالف في ذلك القدرية – قبحهم الله – فقالوا إن الله لا يعلم الأمر قبل وقوعه وإنما يعلمه بعد وقوعه، وقد حدث القول بهذا في أواخر عصر الصحابة، فقد جاء عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف. قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ... (¬2). ومعنى قول القدرية أن الأمر أنف أي مستأنف لم يسبق به قدر، ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه، أي أن الله أمر العباد ونهاهم وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك، فعلمه بعد ما فعلوه (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم (2653). (¬2) رواه مسلم (8). (¬3) راجع إن شئت كتاب ((الإيمان)) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ص: 364 - 369).

4) أن الخلق لا يحيطون علماً بالخالق، أي لا يعلمون شيئا من ذاته وصفاته إلا ما أطلعهم الله سبحانه عليه، عن طريق رسله وكتبه المنزلة. قال تعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] وقال يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110]. 5) وعلى وجه أعم، أنهم لا يعلمون شيئاً من المعلومات، إلا بتعليم الله لهم، فكل علم شرعي وقدري فمرجعه إلى الله العليم الحكيم، كما قالت الملائكة سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ [البقرة: 32]. وقال عز وجل وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282] وقال وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة: 31]. وقال مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113]. وقال عن يوسف صلى الله عليه وسلم رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف: 101]. وقال عن داود صلى الله عليه وسلم وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء: 80]. وعن الخضر صلى الله عليه وسلم وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف: 65]. وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين أن أصل ومنشأ كل علم إنما هو من الله جل ثناؤه سواء كان شرعياً أو دنيوياً. 6) قلة ما بأيدينا من العلم بالنسبة لعلم الله تعالى: ومع كثرة المعلومات التي تعلمها بنو آدم وتشعبها، إلا أنها قليلة جداً بالنسبة لعلم الله تعالى الواسع، قال سبحانه وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85]. وفي قصة الخضر مع موسى عليهما الصلاة والسلام: ((فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين. قال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر ... )) (¬1). 7) الفرق بين علم الخالق وعلم المخلوق: علم الله جل ثناؤه لا يعتريه نقص أبداً، من نسيان أو جهل، أو علم ببعض أمور الخلق وجهل بغيرها. قال تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64]. وقال وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 79]. وهو سبحانه لا يشغله علم عن علم، كما لا يشغله سمع عن سمع، وأني للمخلوق مثل هذه الصفات، فهم يولدون جهلة لا يعلمون شيئا، ثم يتعلمون شيئا فشيئا، قال تعالى وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78]. فعلمهم قد سبقه الجهل، والله سبحانه كان ومازال عليماً لم يسبق علمه جهل، ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، كما تقوله المبتدعة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ¬

(¬1) رواه البخاري (4725)، ومسلم (2380). من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

واقرأ معي ما يقوله الخطابي رحمه الله عن علم الخلق. يقول: والآدميون – وإن كانوا يوصفون بالعلم – فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات، دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فيخلف علمهم الجهل، ويعقب ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالماً بالفقه غير عالم بالنحو، وعالماً بهما غير عالم بالحساب والطب ونحوهما من الأمور، وعلم الله سبحانه علم حقيقة وكمال، قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطَّلاق: 12]، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28] (¬1). 8) اختص الله نفسه سبحانه بعلوم الغيب. قال سبحانه وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] وقال قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ [النمل: 65]. وذكر منها خمسة في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]. قال الألوسي رحمه الله: وما في الإخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر، إذ لا شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه إلا الله تعالى (¬2). فعلم الغيب لا شك أنه أعظم وأوسع من أن يحصر في هذا الخمس فقط. ومن زعم أن أحداً يعلم الغيب غير الله سبحانه فقد كفر بالآيات السابقة. عن عائشة رضي الله عنها قالت: ومن زعم أنه (تعني النبي صلى الله عليه وسلم) يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ [النمل:65]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 203 ¬

(¬1) ((شأن الدعاء)) (ص: 57). (¬2) ((روح المعاني)) (7/ 171).

أربع وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله السميع

أربع وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله السميع 1) إثبات صفة السمع له سبحانه وتعالى كما وصف الله عز وجل نفسه. قال الأزهري رحمه الله: والعجب من قوم فسروا (السميع) بمعنى المسمع فراراً من وصف الله بأن له سمعاً، وقد ذكر الله الفعل في غير موضع من كتابه، فهو سميع ذو سمع، بلا تكييف ولا تشبيه بالسمع من خلقه، ولا سمعه كسمع خلقه ونحن نصف الله بما وصف به نفسه بلا تحديد ولا تكييف (¬1). وقد بوب البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد: باب (وكان الله سميعاً بصيراً). قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الرد على من قال إن معنى (سميع بصير) عليم، قال ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتاً ولا يسمعها. ولا شك أن من سمع وأبصر أدخل في صفة الكمال ممن انفرد بأحدهما دون الآخر، فصح أن كونه سميعاً بصيراً يفيد قدراً زائداً على كونه عليماً، وكونه سميعاً بصيراً يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليماً أنه يعلم بعلم ولا فرق بين إثبات كونه سميعاً بصيراً وبين كونه ذا سمع وبصر. 2) إن سمع الله تبارك وتعالى ليس كسمع أحد من خلقه، فإن الخلق وإن وصفوا بالسمع والبصر كما في قوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 2]، لكن هيهات أن يكون سمعهم وبصرهم كسمع وبصر خالقهم جل شأنه، قد نفى الرب سبحانه المشابهة عن نفسه بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] لأن سمع الله وبصره مستغرق لجميع المسموعات والمرئيات لا يعزب عن سمعه مسموع وإن دق وخلفي سراً كان أو جهراً. عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1] (¬2). وفي رواية: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء (¬3). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا علونا كبرنا. فقال: ((أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، تدعون سميعاً بصيراً قريبا ... )) (¬4). قال ابن بطال: في هذا الحديث نفي الآفة المانعة من السمع، والآفة المانعة من النظر، وإثبات كونه سميعاً بصيراً قريباً، يستلزم أن لا تصح أضداد هذه الصفات عليه (¬5). وفي بيان الفرق بين سمع الخالق والمخلوق، يقول أبو القاسم الأصبهاني: خلق الإنسان صغيراً لا يسمع، فإن سمع لا يعقل ما يسمع، فإذا عقل ميز بين المسموعات فأجاب عن الألفاظ بما يستحق، وميز الكلام المستحسن من المستقبح، ثم كان لسمعه مدى إذا جاوزه لم يسمع، ثم إن كلمه جماعة في وقت واحد عجز عن استماع كلامهم، وعن إدراك جوابهم. ¬

(¬1) ((النونية)) (2/ 215). (¬2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم بعد حديث (7385)، ورواه موصولاً النسائي (6/ 168)، وابن ماجه (188)، وأحمد (6/ 46) (24241). قال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163)، وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 339)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) رواه ابن ماجه (1691)، والحاكم (2/ 523). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/ 1264): أصله في البخاري من هذا الوجه إلا أنه لم يسمها. (¬4) رواه البخاري (4202)، ومسلم (2704). (¬5) ((الفتح)) (13/ 375).

والله عز وجل السميع لدعاء الخلق وألفاظهم عند تفرقهم واجتماعهم مع اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، يعلم ما في قلب القائل قبل أن يقول، ويعجز القائل عن التعبير عن مراده فيعلم الله فيعطيه الذي في قلبه، والمخلوق يزول عنه السمع بالموت والله تعالى لم يزل ولا يزال، يغني الخلق ويرثهم فإذا لم يبق أحد قال: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] فلا يكون من يرد! فيقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] (¬1). واشتراك المخلوق مع الخالق سبحانه في هذا الاسم لا يعني المشابهة، فإن صفات المخلوق تناسب ضعفه وعجزه وخلقه، وصفات الخالق تليق بكماله وجلاله سبحانه وتعالى. 3) وقد أنكر الله تبارك وتعالى على المشركين الذين ظنوا أن الله لا يسمع السر والنجوى. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي – أو ثقفيان وقرشي – كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم. فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله عز وجل وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت: 22] (¬2). وكذا قوله تعالى أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى [الزُّخرف: 80]. 4) ورد الاسم مقروناً بغيره من الأسماء كقوله تعالى سَمِيعٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وسَمِيعٌ قَرِيبٌ وهي تدل على الإحاطة بالمخلوقات كلها، وأن الله محيط بها، لا يفوته شيء منها ولا يخفى عليه، بل الجميع تحت سمعه وبصره وعلمه. وفي ذلك تنبيه للعاقل وتذكير، كي يراقب نفسه، وما يصدر عنها من أقوال وأفعال، لأن خالقه وربه لا يخفى عليه شيء منها، وأنه سبحانه محصيها عليه ثم يجازي بها في الآخرة إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. ومتى آمن الناس بذلك وتذكروه فإن أحوالهم تتغير من القبيح إلى الحسن ومن الشر إلى الخير. وإذا نسوا ذلك وتناسوه وغفلوا عنه ففي ذلك ما يكفي لفساد الدنيا وخرابها، والناظر في أحوال الناس يرى ذلك واضحاً جلياً. 5) الله هو (السميع) الذي يسمع المناجاة ويجيب الدعاء عند الاضطرار ويكشف السوء، ويقبل الطاعة. وقد دعا الأنبياء والصالحين ربهم سبحانه بهذا الاسم ليقبل منهم طاعتهم أو ليستجيب لدعائهم وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]. فإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام قالا رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] وهما يرفعان قواعد البيت الحرام. وامرأة عمران عندما نذرت ما في بطنها خالصاً لله، لعبادته ولخدمة بيت المقدس قالت فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [آل عمران: 35]. ودعا زكريا ربه أن يرزقه ذرية صالحة ثم قال إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [آل عمران: 37] فاستجاب الله دعاءه. ودعا يوسف عليه الصلاة والسلام ربه أن يصرف عنه كيد النسوة فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 34]. وأمر بالالتجاء إليه عند حصول وساوس شياطين الإنس والجن. قال تعالى وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200]. قال ابن كثير: سميع لجهل الجاهل عليك، والاستعاذة به من نزغه ولغير ذلك من كلام خلقه لا يخفى عليه منه شيء، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه (¬3). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 214 ¬

(¬1) ((الحجة في المحجة)) (ورقة 14ب – 15أ). (¬2) رواه البخاري (4816)، ومسلم (2775). (¬3) ((ابن كثير)) (2/ 278).

خمس وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله البصير

خمس وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله البصير 1) إثبات صفة البصر له جل شأنه، لأنه وصف نفسه بذلك وهو أعلم بنفسه. وصفة البصر من صفات الكمال كصفة السمع، فالمتصف بهما أكمل ممن لا يتصف بذلك، قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50]. وقال مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [هود: 24]. وقد أنكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم على أبيه عندما عبد ما لا يبصر ولا يسمع لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم: 42]. وقال تعالى موبخاً الكفار ومسفها عقولهم لعبادتهم الأصنام التي هي من الحجارة الجامدة التي لا تتحرك ولا تملك سمعاً ولا بصراً أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف: 195]. أي أنتم أكمل من هذه الأصنام لأنكم تسمعون وتبصرون فكيف تبعدونها وأنتم أفضل منها! قال الأصبهاني: وأما (البصير) فهذا الاسم يقع مشتركاً، فيقال: فلان بصير، ولله المثل الأعلى، والرجل قد يكون صغيراً لا يبصر ولا يميز بالبصر بين الأشياء المتشاكلة، فإذا عقل أبصر فميز بين الردئ والجيد، وبين الحسن والقبيح، يعطيه الله هذا مدة ثم يسلبه ذلك، فمنهم من يسلبه وهو حي ومنهم من يسلبه بالموت. والله بصير لم يزل ولا يزول، والخلق إذا نظر إلى ما بين يديه عمي عما خلفه وعما بعد منه، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في خفيات مظلم الأرض، وكل ما ذكر مخلوقاً به وصفه بالنكرة، فإذا وصف به ربه وصفه بالمعرفة (¬1). 2) إن الله تبارك وتعالى بصير بأحوال عباده خبير بها بصير بمن يستحق الهداية منهم ممن لا يستحقها، بصير بمن يصلح حاله بالغنى والمال، وبمن يفسد حاله بذلك وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى: 27]. وهو بصير بالعباد شهيد عليهم، الصالح منهم والطالح، المؤمن والكافر هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2]، إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 96]. بصير خبير بأعمالهم وذنوبهم وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا [الإسراء: 17] وسيجزيهم عليها أتم الجزاء. 3) ومن علم أن ربه مطلع عليه استحى أن يراه على معصية أو فيما لا يحب. ومن علم أنه يراه أحسن عمله وعبادته وأخلص فيها لربه وخشع فقد جاء في حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬2). قال النووي رحمه الله: هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه وعلى الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به. فقال صلى الله عليه وسلم: اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان، فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد بإطلاع الله سبحانه وتعالى عليه فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال للإطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمامه الخشوع والخضوع وغير ذلك اهـ (¬3). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 221 ¬

(¬1) ((الحجة بالمحجة)) (ورقة 15أ). (¬2) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((شرح مسلم)) (1/ 157 - 158).

ست وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الحكم –الحكيم

ست وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الحكم –الحكيم 1) أن الحكم لله وحده لا شريك له في حكمه، كما لا شريك له في عبادته، قال تعالى وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26] وقال فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا. وقال سبحانه إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [الأنعام: 57]. وقال جل شأنه وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70]. وقال أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62]. وقال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10]. وقال ابن الحصار: وقد تضمن هذا الاسم (يعني –الحكم-) جميع الصفات العلى والأسماء الحسنى، إذ لا يكون حكماً إلا سميعاً بصيراً عالماً خبيراً إلى غير ذلك، فهو سبحانه الحكم بين العباد في الدنيا والآخرة في الظاهر والباطن، وفيما شرع من شرعه، وحكم من حكمه وقضاياه على خلقه قولاً وفعلاً، وليس ذلك لغير الله تعالى، ولذلك قال وقوله الحق: لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70]. وقال: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]. فلم يزل حكيماً قبل أن يحكم، ولا ينبغي ذلك لغيره (¬1). قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لا نزاع فيه. اهـ (¬2). ثم بين رحمه الله أن الله سبحانه بصفاته العظيمة يستحق أن يكون له الحكم، فهل يوجد في البشر من له مثل صفات خالقه ليشارك ربه في الحكم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! فتعال معي أخي القارئ لنطلع على ما سطره في هذه المسألة في كتابه القيم (أضواء البيان)، قال رحمه الله: مسألة اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع. سبحان الله وتعالى عن ذلك. فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون، ليتبع تشريعهم. وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية. سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه. فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى: 10 – 12]. ¬

(¬1) ((الكتاب الأسنى)) (¬2) ((أضواء البيان)) (7/ 162).

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الآية، وأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ وأنه لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وأنه هو الذي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ أي يضيقه على من يشاء وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، فقوله فيها فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ كقوله في هذه فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26]. فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؟ ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88]. فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؟ سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 70 - 73]. فهل في مشرعي القوانين الوضعية، من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبينا بذلك كمال قدرته، وعظمة إنعامه على خلقه. سبحان خالق السماوات والأرض، جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته، أو ملكه. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 40]. فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم. اهـ باختصار (¬1). ¬

(¬1) راجع ((أضواء البيان)) (7/ 163 - 173).

2) الله سبحانه يحكم ما يريد، وما يشاء هو وحده لا شريك له. قال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1]. فالله سبحانه يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه. وله الحكمة البالغة في ذلك كله. وليس لأحد أن يراجع الله في حكمه، كما يراجع الناس بعضهم البعض في أحكامهم، قال تعالى وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد: 41]، فحكمه في الخلق نافذ، ليس لأحد أن يرده أو يبطله. 3) كلام الله حكيم ومحكم، وكيف لا يكون بهذه الصفة وهو كلام أحكم الحاكمين ورب العالمين. وقد وصف الله القرآن العظيم (وهو كلامه المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) بأنه حكيم ومحكم في ثمان آيات منها قوله تعالى الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]. وقوله الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان: 1 - 2]. وقوله يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1 - 2]. وقوله وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ... الآية [محمد: 20]. وحكمة الله تقتضي ذلك، تقتضي أن يكون القرآن حكيماً ومحكماً، لأنه الكتاب الذي ليس بعده كتاب، ولأنه الكتاب الذي أنزله الله ليكون تشريعاً عاماً لكل مجتمع بشري ولكل فرد من أفراده، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فالقرآن حكيم في أسلوبه الرائع الجذاب، وحكيم في هدايته ورحمته، وحكيم في إيضاحه وبيانه، وحكيم في تشريعاته وحكيم في كل أحكامه، وحكيم في أمره ونهيه، وحكيم في ترغيبه وترهيبه، وحكيم في وعده ووعيده، وحكيم في أقاصيصه وأخباره، وحكيم في أقسامه وأمثال، وحكيم في كل ما اشتمل عليه، بل هو فوق ذلك وأعظم من ذلك. والقرآن أيضاً محكم فلا حشو فيه، ولا نقص ولا عيب كما يكون في كلام البشر، الله أكبر ما أعظم هذا القرآن، لقد بلغ الغاية في البهاء والجمال والكمال (¬1). 4) والإيمان بما سبق يقتضي تحكيم كتاب الله جل شأنه بيننا، لأنه لا يوجد كتاب مثل القرآن حكيماً في كل شيء. لأن ما شرعه الله سبحانه لعباده من الأحكام والمعاملات والقصاص والحدود وتقسيم المواريث وما يتعلق بالأحوال الشخصية في القرآن الكريم هي في منتهى الحكمة، لأنها تشريع الحكيم العليم سبحانه، الذي لا يدخل حكمه خلل ولا زلل، ولأنها قضاء من لا يخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعاقبة. وقد نبه الله سبحانه عباده لهذا بقوله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50]، وقوله ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة: 10] وقوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8]. ولذا فإنك تجد آيات الأحكام كثيراً ما تشتمل خواتيمها على اسمه (الحكيم)، ومن الأمثلة على ذلك: قوله يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ إلى قوله فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا [النساء: 11]. وقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 24]. ¬

(¬1) باختصار من كتاب ((الهدى والبيان في أسماء القرآن)) للشيخ صالح بن إبراهيم البليهي (ص: 212).

وقوله في القتل الخطأ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا إلى قوله وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 92] وقوله وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء: 130]. وقوله قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم: 2]، وغيرها من الآيات. 5) وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين الناس بما أنزل إليه من الأحكام الربانية، وأن يترك ما سواها من الآراء والأهواء، قال تعالى فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ [المائدة: 48]. قال تعالى وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [المائدة: 49]. ولم يكن هذا الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وإنما هو ما أمرت به جميع الرسل من قبله، يبين هذا قوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة: 213]. وقوله إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ [المائدة: 44]. والمؤمنون يرضون بحكم الله، قال سبحانه إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور: 51]. أما من لم يرض بذلك وترك تشريع الحكيم العليم، وأخذ بآرائه وما يمليه عليه عقله من أفكار، أو اتبع أهواءه وما تشتهيه نفسه، فقد وقع في هاوية الكفر أو الظلم أو الفسق التي حكم الله بها عليه. قال سبحانه وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]. وقال وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45]. وقال وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47]. 6) الله سبحانه يؤتي حكمته من يشاء: كما قال عن نفسه جل ثناؤه يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269]. وقد تنوعت عبارات المفسرين في تأويل قوله تعالى يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فمنهم من قال هي الإصابة في القول والفعل، وقيل: هي الفقه في القرآن والفهم فيه. وقال بعضهم: هي الفهم والعقل في الدين والأتباع له. وقال آخرون: هي النبوة. وقيل هي: الخشية لله. قال ابن جرير جامعاً بين الأقوال السابقة: وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء، وأنها الإصابة بما دل على صحته، فأغنى عن تكريره في هذا الموضع. فإذا كان ذلك كذلك معناه، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك، داخلاً فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور، إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره، فهو خاشياً لله عالماً، وكانت النبوة من أقسامه لأن الأنبياء مسددون مفهمون وموفقون لإصابة الصواب في الأمور، والنبوة بعض معاني الحكمة. فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد أتاه خيراً كثيراً. اهـ (¬1). ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (3/ 60 - 61)، وانظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 322).

7) وقد جاء في الحديث ما يدل على أنه من أوتي الحكمة ينبغي أن يغبط لعظم هذه النعمة عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمه فهو يقضي بها ويعلمها)) (¬1). وقد ذكر الله في كتابه بعض الذين آتاهم الحكمة وأكثرهم من الأنبياء فامتن على محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]. وعلى آل إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54]. وعلى عيسى عليه السلام وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [المائدة: 110]. وعلى داود عليه السلام وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء [البقرة: 251]. وعلى لقمان العبد الصالح وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12]. والله سبحانه أعلم حيث يجعل حكمته. 8) خلق الله سبحانه محكم لا خلل فيه ولا قصور. قال تعالى صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88]. وقال الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ [تبارك: 3]. أي خلقهن طبقة بعد طبقة مستويات ليس فيها اختلاف ولا تنافر ولا نقص ولا عيب، ولهذا قال تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ أي انظر إلى السماء فتأملها هل ترى فيها عيباً أو نقصاً أو خللاً أو فطوراً وشقوقاً، ثم قال تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ أي مهما كررت البصر مرتين أو أكثر لرجع إليك البصر خاسئاً عن أن يرى عيباً أو خللاً، وهو حسير أي كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر ولا يرى نقصاً (¬2). قال الخطابي: ومعنى الإحكام لخلق الأشياء، إنما ينصرف إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها، إذ ليس كل الخليقة موصوفاً بوثاقة البنية، وشدة الأسر كالبقة، والنملة، وما أشبههما من ضعاف الخلق، إلا أن التدبير فيهما، والدلالة بها على كون الصانع وإثباته، ليس بدون الدلالة عليه بخلق السماوات والأرض والجبال وسائر معاظم الخليقة، وكذلك هذا في قوله جل وعز الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7]، لم تقع الإشارة به إلى الحسن الرائق في المنظر، فإن هذا المعنى معدوم في القرد والخنزير والدب، وأشكالها من الحيوان، وإنما ينصرف المعنى فيه إلى حسن التدبير في إنشاء كل شيء من خلقه على ما أحب أن ينشئه عليه وإبرازه على الهيئة التي أراد أن يهيئه عليها، كقوله تعالى وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] اهـ (¬3). 9) إن الله سبحانه خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة، وهي عبادته تبارك وتعالى حيث قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 58]. ¬

(¬1) رواه البخاري (7141)، ومسلم (816). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 396). (¬3) ((شأن الدعاء)) (ص: 73 - 74).

ولم يخلقهم عبثاً وباطلاً كما يظن الكفار والملاحدة، قال تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27]. وقال سبحانه مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى [الأحقاف: 3]. وقال عز من قائل أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون: 115]. وجعل يوم القيامة موعدا لهم، يرجعون إليه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. 10) كراهة التكني بأبي الحكم: فعن هانئ بن يزيد أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرض كلا الفريقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا. فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح)) (¬1). فتغيير النبي صلى الله عليه وسلم لكنية الصحابي دليل على كراهته التكني بهذا الاسم أو التسمي به. قال ابن الأثير: وإنما كره له ذلك لئلا يشارك الله تعالى في صفته (¬2). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 229 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4955)، والنسائي (8/ 226). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (819) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) ((النهاية)) (1/ 419).

سبع وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله اللطيف

سبع وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله اللطيف 1 - إن الله سبحانه وتعالى لا يفوته من العلم شيء وإن دق وصغر، أو خفي وكان في مكان سحيق قال سبحانه وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59]. وجاء في قوله تعالى عن لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان: 16]. فالله لا يخفى عليه شيء، ولا الخردلة وهي الحبة الصغيرة التي لا وزن لها، فإنما ولو كانت في صخرة في باطن الأرض، أو في السماوات فإن الله يستخرجها ويأت بها، لأنه اللطيف الخبير. 2 - وإذا علم العبد أن ربه متصف بدقة العلم، وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، فإنه في كل وقت وحين، بين يدي اللطيف الخبير، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [تبارك: 14]. والله سبحانه يجازي الناس على أفعالهم يوم الدين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، لا يفوته من أعمالهم شيء، فلا المحسن يضيع من إحسانه مثقال ذرة، ولا المسيء يضيع من سيئاته مثقال ذرة. قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]. وقال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8]. ثم هو بعد ذلك يزيد أجور الصالحين من فضله وكرمه ما يشاء، ويعفو ويتجاوز عن ذنوب من يشاء من عباده بلطفه وعفوه، ويعذب بالذنوب من يشاء من عباده بعدله، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً. 4 - الله لطيف بعباده، أي كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم. قال الحليمي في معنى (اللطيف): وهو الذي يريد بعباده الخير واليسر، ويقيض لهم أسباب الصلاح والبر (¬1). ومن لطفه بعباده أنه يسوق إليهم أرزاقهم، وما يحتاجونه في معاشهم. قال القرطبي في تفسير الآية السابقة يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ ... : وهذا القول من لقمان إنما قصد به إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى، وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه، لأن الخردلة يقال: إن الحس لا يدرك لها ثقلاً، إذ لا ترجح ميزاناً. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع، جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه، أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن أتباع سبيل من أناب إلي اهـ (¬2). قال الغزالي: إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستحق سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في العلم تم معنى اللطف، ولا يتصور كحال ذلك في العلم والفعل إلا لله تعالى. ¬

(¬1) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 202). (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 66).

فأما إحاطته بالدقائق والخفايا فلا يمكن تفصيل ذلك، بل الخفي مكشوف في علمه كالجلي، من غير فرق، وأما رفقه في الأفعال ولطفه فيها فلا يدخل أيضا تحت الحصر، إذ لا يعرف اللطف في الفعل، إلا من عرف تفاصيل أفعاله وعرف دقائق الرفق فيها، وبقدر اتساع المعرفة فيها تتسع المعرفة بمعنى اسم (اللطيف)، وشرح ذلك يستدعي طويلاً ثم لا يتصور أن يفي بعشر عشره، مجلدات كبيرة، وإنما يمكن التنبيه على بعض جمله. فمن لطفه: خلقه الجنين في بطن الأم في ظلمات ثلاث وحفظه فيها وتغذيته بواسطة السرة، إلى أن ينفصل، فيستقل بالتناول بالفم، ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقام الثدي وامتصاصه ولو في ظلام الليل، من غير تعليم ومشاهدة. بل فلق البيضة عن الفرخ وقد ألهمه التقاط الحب في الحال. ثم تأخير خلق السن عن أول الخلقة، إلى وقت الحاجة للاستغناء في الاغتذاء باللبن عن السن، ثم إنباته بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام، ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة للطحن، وإلى، أنياب للكسر، وإلى ثنايا حادة الأطراف للقطع، ثم استعمال اللسان الذي الغرض الأظهر منه النطق في رد الطعام إلى المطحن كالمجرفة. ولو ذكر لطفه في تيسير لقمة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها وقد تعاون على إصلاحها خلق لا يصحى عددهم، من مصلح الأرض وزارعها وساقيها وحاصدها ومنقيها وطاحنها وعاجنها وخابزها إلى غير ذلك، لكان لا يستوفي شرحه (¬1). الآثار الإيمانية لاسم الله الخبير: 1 - إن الله هو الخبير، العالم ببواطن الأمور ومخفياتها، عالم بما كان وما يكون، لا يفوته من العلم شيء وإن كان صغيراً دقيقاً، وهذا لله وحده لا يشاركه فيه أحد من خلقه. 2 - والله أخبر بنفسه، إذ لا أحد أعلم بالله من الله، قال سبحانه الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59]. أي اسأل عنه خبيراً (و-الباء- هنا مكان –عن-) (¬2) وهو الله عز وجل (¬3). 3 - إن الله خبير عليم بأعمال عباده وأقوالهم، وما يجول في صدورهم من خير أو شر. قال سبحانه وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 17]. وقال أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]. ولذلك أمرنا سبحانه وتعالى أن نتقيه ونعمل بما يحب، وأن نبتعد عن كل ما يسخطه ويغضبه. قال تعالى محرضاً على التقوى والإحسان وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 128]. وقال وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]. وحض على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المجادلة: 13]. وأمر بالإيمان به وبرسوله وبكتابه فقال فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن: 8]. ¬

(¬1) ((المقصد الأسنى)) (ص: 62 - 63). (¬2) انظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 568) و ((تفسير القرطبي)) (13/ 63) والشوكاني (4/ 84) وهو كقوله تعالى سأل سائل بعذاب واقع. (¬3) انظر: ((تفسير البغوي)) (5/ 106) والشوكاني (4/ 84).

وفي قوله تعالى وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 135]، تحذير من معصيته، وهي عدم إقامة الشهادة بالحق وعبر عنه بقوله وإن تلووا أو كتمان الشهادة مع الحاجة إليها وعبر عنه بقوله أو تعرضوا، ثم جاء التحذير وهو قوله فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا أي فإن الله خبير بما تعملون، من عدم إقامتكم الشهادة وتحريفكم لها، وإعراضكم عنها بكتمانها، ويحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به يوم الجزاء، فاتقوا ربكم في ذلك. 4 - إن الله سبحانه خبير، قد أحاط بكل شيء خبراً يخبر بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون. فقد أخبر عن خلقه للسماوات والأرض في ستة أيام، واستواءه على عرشه فقال الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59]. وأخبر عن نفسه سبحانه أنه يعلم مفاتح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا هو، فقال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]. وهذه الخمسة كلها غيبية مستقبلية. وأخبر عما سيقع في يوم القيامة من الأهوال الكونية من انشقاق السماء وانفطارها، وارتجاف الأرض وزلزالها، ونسف الجبال وسيرها وتسجير البحار وانفجارها، وغير ذلك من الأهوال المنتظرة التي لم تقع. وأخبر عن حال أهل الإيمان وما هم فيه من الاطمئنان والأمان من تلك الأهوال، ثم عن دخولهم الجنان بسلام. وأخبر عن حال أهل الكفران، وما هم فيه عند قيامهم من تخبط الشيطان، لاتخاذهم إياه ولياً – في الدنيا – من دون الرحمن، واتباعهم لخطواته وتركهم لكلام الكريم المنان. والله خبير بالطائفتين في ذلك اليوم المشهود، قال تعالى أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ [العاديات: 9 - 11]. ولا يخبر بهذه الأمور كلها إلا الله وحده العليم الخبير، كما قال سبحانه وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] أي: لا ينبئك أحد مثلي لأني عالم بالأشياء (¬1). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 252 ¬

(¬1) ((تفسير البغوي)) (5/ 300)، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 551).

ثمان وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الحليم

ثمان وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله الحليم 1 - إثبات صفة (الحلم) لله عز وجل، وهو الصفح عن العصاة من العباد، وتأجيل عقوبتهم رجاء توبتهم عن معاصيهم. 2 - وحلم الله سبحانه عن عباده، وتركه المعالجة لهم بالعقوبة، من صفات كماله سبحانه وتعالى، وتأجيل عقوبتهم رجاء توبتهم عن معاصيهم. 2 - وحلم الله سبحانه عن عباده، وتركه المعاجلة لهم بالعقوبة، من صفات كماله سبحانه وتعالى. فحلمه ليس لعجزه عنهم، وإنما هو صفح وعفو عنهم، أو إمهال لهم مع القدرة، فإن الله لا يعجزه شيء. قال سبحانه أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 44]. وحلمه أيضاً ليس عن عدم علمه بما يعمل عباده من أعمال، بل هو العليم الحليم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. قال سبحانه وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا [الأحزاب: 51]. وحلمه عن خلقه ليس لحاجته إليهم، إذ هو سبحانه يحلم عنهم ويصفح ويغفر مع استغنائه عنهم، قال سبحانه اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 235]. 3 - حلم الله عظيم، ويتجلى في صبره سبحانه على خلقه، والصبر داخل تحت الحلم، إذ كل حليم صابر، وقد جاء في السنة وصف الله عز وجل بالصبر، كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس أحد – أو ليس شيء – أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولداً وإنه ليعافيهم ويرزقهم)) (¬1). قال الحليمي في معنى (الحليم): الذي لا يحبس أنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكن يرزق العاصي كما يرزق المطيع، ويبقيه وهو منهمك في معاصيه، كما يبقي البر التقي، وقد يقيه الآفات والبلايا وهو غافل لا يذكره، فضلاً عن أن يدعوه، كما يقيها الناسك الذي يسأله، وربما شغلته العبادة عن المسألة (¬2). وقد أخبر تعالى عن تأخيره لعقاب من أذنب من عباده في الدنيا، وأنه لو كان يؤاخذهم بذنوبهم أولاً بأول، لما بقي على ظهر الأرض أحد. قال سبحانه وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النمل: 61]. وقال وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً [الكهف: 58]. قال ابن جرير: ولو يؤاخذ الله عصاة بني آدم بمعاصيهم (ما ترك عليها) يعني: الأرض من دابة تدب عليها (ولكن يؤخرهم) يقول: ولكن بحلمه يؤخر هؤلاء الظلمة، فلا يعاجلهم بالعقوبة، (إلى أجل مسمى) يقول: إلى وقتهم الذي وقت لهم، (فإذا جاء أجلهم) يقول: فإذا جاء الوقت الذي وقت لهلاكهم لا يستأخرون عن الهلاك ساعة فيمهلون ولا يستقدمون قبله حتى يستوفوا آجالهم اهـ (¬3). فتأخير العذاب عنهم إنما هو رحمة بهم. ولكن الناس يغترون بالإمهال، فلا تستشعر قلوبهم رحمة الله وحكمته، حتى يأخذهم سبحانه بعدله وقوته، عندما يأتي أجلهم الذي ضرب لهم. ومن العجب! أن يريد الله للناس الرحمة والإمهال، ويرفض الجهال منهم والأجلاف تلك الرحمة وذلك الإمهال، حين يسألون الله أن يعجل لهم العذاب والنقمة! ¬

(¬1) رواه البخاري (6099)، ومسلم (2804). (¬2) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 200 - 201)، وانظر: ((الأسماء للبيهقي)) (ص: 72 - 73). (¬3) ((تفسير الطبري)) (17/ 230).

قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس: 11]. وقال وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ [ص: 16]. وقال عن كفار مكة وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32]. وأمثال ذلك مما وقع من المسرفين السفهاء. تنبيه: تأخير العذاب عن الكفار إنما هو في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون. قال الأقليشي: أما تأخير العقوبة في الدنيا عن الكفرة والفجرة من أهل العصيان، فمشاهد بالعيان، لأنا نراهم يكفرون ويعصون، وهم معافون في نعم الله يتقلبون. وأما رفع العقوبة في الأخرى، فلا يكون مرفوعاً إلا عن بعض من استوجبها من عصاة الموحدين. وأما الكفار فلا مدخل لهم في هذا القسم، ولا لهم في الآخرة حظ من هذا الاسم، وهذا معروف بقواطع الآثار، ومجمع عليه عند أولى الاستبصار اهـ (¬1). 4 - يجوز إطلاق صفة الحلم على الخلق، فقد وصف الله عز وجل أنبياءه بذلك، قال عز من قائل إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 9]. وقال إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [هود: 75]. وقال حكاية عن قوم شعيب عليه السلام إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] وقال فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 59] يعني بذلك إسحاق عليه السلام. والحلم من الخصال العظيمة التي يريد الله من عباده أن يتخلقوا بها، وهي خصلة يحبها الله ورسوله كما مر آنفا في حديث أشج عبد القيس. قال القرطبي رحمه الله: فمن الواجب على من عرف أن ربه حليم على من عصاه، أن يحلم هو على من خالف أمره، فذاك به أولى حتى يكون حليماً فينال من هذا الوصف بمقدار ما يكسر سورة غضبه ويرفع الانتقام عن من أساء إليه، بل يتعود الصفح حتى يعود الحلم له سجية. وكما تحب أن يحلم عنك مالك، فاحلم أنت عمن تملك لأنك متعبد بالحلم مثاب عليه قال الله تعالى وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]، وقال وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 43] اهـ (¬2). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 258 ¬

(¬1) ((الكتاب الأسنى)) (¬2) ((الكتاب الأسنى))

تسع وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله العظيم

تسع وأربعون: الآثار الإيمانية لاسم الله العظيم 1 - إن الله سبحانه، هو العظيم المطلق، فهو عظيم في ذاته، عظيم في أسمائه كلها، عظيم في صفاته كلها، فهو عظيم في سمعه وبصره، عظيم في قدرته وقوته، عظيم في علمه ... ، فلا يجوز قصر عظمته في شيء دون شيء، لأن ذلك تحكم لم يأذن به الله. قال ابن القيم رحمه الله في نونيته مقرراً ذلك: وهو العظيم بكل معنى يوجب التـ ... ـعظيم لا يحصيه من إنسان (¬1) فمن عظمته في علمه وقدرته أنه لا يشق عليه أن يحفظ السماوات السبع والأرضين السبع، ومن فيهما كما قال وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255]. 2 - الفرق بين عظمة الخالق والمخلوق: أن المخلوق قد يكون عظيماً في حال دون حال، وفي زمان دون زمان، فقد يكون عظيماً في شبابه، ولا يكون كذلك عند شيبه، وقد يكون ملكاً أو غنياً معظماً في قومه، فيذهب ملكه وغناه أو يفارق قومه وتذهب عظمته معها، لكن الله سبحانه هو العظيم أبدا. قال الحليمي في (العظيم): ومعناه الذي لا يمكن الامتناع عليه بالإطلاق، لأن عظيم القوم إنما يكون مالك أمورهم، الذي لا يقدرون على مقاومته ومخالفة أموره، إلا أنه وإن كان كذلك، فقد يلحقه العجز بآفات تدخل عليه فيما بيده فتوهنه وتضعفه، حتى يستطاع مقاومته، بل قهره وإبطاله، والله جل ثناؤه قادر لا يعجزه شيء، ولا يمكن أن يعصى كرهاً، أو يخالف أمره قهراً. فهو العظيم إذاً حقاً وصدقا، وكان الاسم لمن دونه مجازاً اهـ (¬2). 3 - على المسلم أن يعظم الله حق تعظيمه، ويقدره حق قدره، وإن كان هذا لا يستقصى، إلا أن على المسلم أن يبذل قصارى ما يملك لكي يصل إليه. وتعظيم الله سبحانه وتعالى أولاً، إنما هو بوصفه بما يليق به من الأوصاف والنعوت التي وصف بها نفسه، والإيمان بها وإثباتها له، دون تشبيهها بخلقه، ولا تعطيلها عما تضمنته من معاني عظيمة. فمن شبه ومثل، أو عطل وأول، فما عظم الله حق تعظيمه. ومن تعظيمه جل علا، الإكثار من ذكره في كل وقت وحين، والبدء باسمه في جميع الأمور، وحمده والثناء عليه بما هو أهل له، وتهليله وتكبيره. ومن تعظيم الله سبحانه، أن يطاع رسوله صلى الله عليه وسلم وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ [النساء: 64]، فمن أطاع الرسول فقد أطاع المرسل مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [النساء: 80]، ومن عصاه فقد عصى الله. ومن تعظيم الله سبحانه أن يعظم رسوله ويوقر، قال تعالى لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] (¬3). وأن لا يقدم على كلامه أحد مهما كانت مكانته قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات: 1]. ومن تعظيم الله سبحانه أن يصدق كتابه، لأنه كلامه، وأن يحكم في الأرض لأنه شرعه الذي ارتضاه للناس أجمعين. فمن لم يفعل فما عظم الله حق تعظيمه، بل التحق بأشباهه من اليهود الذين اتخذوا كتاب الله وراءهم ظهرياً واتبعوا شياطين الإنس والجن. ومن تعظيم الله سبحانه، أن تعظم شعائر دينه كالصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة وغيرها. قال تعالى: وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32]. ¬

(¬1) ((النونية بشرح أحمد بن إبراهيم بن عيسى)) (2/ 214). (¬2) ((المنهاج)) (1/ 195). (¬3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 362 - 363).

ومن تعظيم الله سبحانه أن تجتنب نواهيه ومحارمه التي حرمها في كتابه، أو حرمها رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ [الحج: 30] ومن أعظم ما حرمه الله الشرك بأنواعه. ومقابل هذا أن يعمل المسلم بأوامره التي أمر بها، والتي من أعظمها توحيده وإفراده بالعبادة. وحده لا شريك له. 4 - ليس أضل من ذلك الإنسان الذي أبى أن يعبد الله وحده، وأصر على أن يشرك به مالا يملك له رزقاً، ولا يملك له نفعاً ولا ضراً، من أوثان وأحجار وأشجار، أو قبور وأضرحة، قد صار أصحابها عظاماً نخرة، فكيف تقضي لهم حاجة؟ أو تشفي لهم مريضاً؟ أو ترد لهم غائباً؟ لكنه العمى والضلال البعيد، وهم في الآخرة في العذاب الشديد خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة: 30 - 33]، فلما لم يعظمه حق التعظيم، عذب العذاب العظيم. وهذا في المشركين الذين أقروا بخالقهم وخالق السموات والأرض، وأنه منزل المطر ومحي الأرض بعد موتها، فما بالك بأولئك الشيوعيين الأنجاس، الذين أبت نفوسهم العفنة أن تقر بخالقها ورازقها ومدبر أمرها، والذين يسمون أنفسهم بـ (اليساريين) وما أصدق هذه التسمية عليهم، فهم أهل اليسار حقاً في الآخرة وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة: 41 - 44]. 4 - أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسبح بهذا الاسم في الركوع فقال: (( ... ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)) (¬1). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 266 ¬

(¬1) رواه مسلم (479). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

خمسون: الآثار الإيمانية لأسماء الله العلي – الأعلى – المتعال

خمسون: الآثار الإيمانية لأسماء الله العلي – الأعلى – المتعال 1 - إثبات العلو المطلق لله رب العالمين بكل معانيه، دون أن نعطل أو نؤول شيئاً، ونثبت شيئاً لأن ذلك تحكم لم يأذن الله به. أولاً: تضمنت هذه الأسماء إثبات علو ذات ربنا سبحانه، وأنه عال على كل شيء، وفوق كل شيء، ولا شيء فوقه، بل هو فوق العرش كما أخبر عن نفسه، وهو أعلم بنفسه. وهذا اعتقاد سلف الأمة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من علماء الحديث والتفسير والفقه والأصول والسيرة والتاريخ والعربية والأدب وغيرهم (¬1). وسنحاول باختصار ذكر ما يدل على علو ذاته سبحانه وتعالى من آيات الكتاب، والأحاديث الشريفة. فعن آيات الكتاب: 1 - قوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]. وقد ذكر الاستواء في ست آيات أخر في سورة يونس: 3، الرعد: 2، طه: 5، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4. 2 - بين تعالى في آيات كثيرة أن (الروح) وهو جبريل عليه السلام والملائكة منه تتنزل، وإليه تعرج وتصعد. منها قوله تعالى: مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 3 - 4]. وقوله عن ليلة القدر تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4]. ومعلوم أن التنزل لا يكون إلا من العلو. 3 - وأخبر تعالى أنه ينزل ملائكته بالوحي والكتاب على ما يشاء من عباده، قال سبحانه يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ [النحل: 2]. وقال وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء: 192 - 194]. 4 - أن الأعمال الصالحة والكلام الطيب إليه يصعدان، قال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]. قال الدارمي: فإلى من ترفع الأعمال، والله بزعمكم الكاذب مع العامل بنفسه في بيته ومسجده ومنقلبه ومثواه؟!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً اهـ (¬2). 5 - قوله تعالى مخاطباً المسيح عليه السلام إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [آل عمران: 55]. وقوله سبحانه وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء: 157 - 158]. 6 - أخبر تعالى عن تنزيله لآيات الكتاب في آيات كثيرة منها: قوله تعالى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران: 3 - 4]. قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [الكهف: 1]. وقوله حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت: 1 - 2]. وقوله سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور: 1]. وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]. ¬

(¬1) انظر النقول الكثيرة التي نقلها الذهبي رحمه الله في ((العلو)) وابن القيم رحمه الله في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) عن علماء الأمة في هذه المسألة. (¬2) ((الرد على الجهمية)) (ص: 53).

قال أبو سعيد الدارمي رحمه الله: فظاهر القرآن وباطنه يدل على ما وصفنا من ذلك، نستغني فيه بالتنزيل عن التفسير، ويعرفه العامة والخاصة، فليس منه لمتأول تأول، إلا لمكذب به في نفسه مستتر بالتأويل. ويلكم!! إجماع من الصحابة والتابعين وجميع الأمة، من تفسير القرآن والفرائض والحدود والأحكام: نزلت آية كذا في كذا، ونزلت آية كذا في كذا، ونزلت سورة كذا في مكان كذا، ولا نسمع أحداً يقول: طلعت من تحت الأرض، ولا جاءت من أمام ولا من خلف ولكن كله: نزلت من فوق. وما يصنع بالتنزيل من هو بنفسه في كل مكان؟ إنما يكون شبه مناولة لا تنزيلاً من فوق السماء مع جبريل، إذ يقول سبحانه وتعالى قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102]، والرب بزعمكم الكاذب في البيت معه وجبريل يأتيه من خارج، هذا واضح، ولكنكم تغالطون. فمن لم يقصد بإيمانه وعبادته إلى الله الذي استوى على العرش فوق سمواته، وبان من خلقه، فإنما يعبد غير الله ولا يدري أين الله اهـ (¬1). 7 - قول الله تعالى عن فرعون وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر: 36 - 37]، دليل على أن فرعون كان يريد الإطلاع إلى الله تعالى في السماء، وذلك أن موسى وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانوا يدعونهم إلى الله بذلك. وأما الأحاديث التي تدل على (العلو) فهي كثيرة منها: 1 - حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: وكان لي جارية ترعى غنماً لي قبل (أحد والجوانية) فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، قالت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال ((ائتني بها)) فأتيته بها فقال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله. قال: ((اعتقها فإنها مؤمنة)) (¬2). قال أبو سعيد الدارمي: ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن، ولو كان عبداً فأعتق لم يجز في رقبة مؤمنه، إذ لا يعلم أن الله في السماء اهـ (¬3). 2 - الأحاديث الكثيرة في معراج النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج، وقد تواترت (¬4) وأجمع عليها سلف الأمة وأئمتها. 3 - حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل ... )) (¬5). 4 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم – وهو أعلم بهم – كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون)) (¬6). 5 - حديث أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)) (¬7). 6 - حديث أبي سعيد الخدري: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذهبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال فقسمها .. وفيه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟ ... )) (¬8). 6 - حديث أنس أن زينب كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات) (¬9). وفي رواية (وكانت تقول: عن إن الله أنكحني في السماء) (¬10). وغيرها من الأحاديث. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 308 ¬

(¬1) ((الرد على الجهمية)) (ص: 55). (¬2) رواه مسلم (537). من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. (¬3) ((الرد على الجهمية)) (ص: 39). (¬4) ذكر ذلك ابن القيم في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 29). (¬5) رواه مسلم (179). (¬6) رواه البخاري (555)، ومسلم (632). (¬7) رواه مسلم (1436). (¬8) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064). (¬9) رواه البخاري (7420). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬10) رواه البخاري (7421). من حديث أنس رضي الله عنه.

واحد وخمسون: الآثار الإيمانية لأسماء الله الحفيظ

واحد وخمسون: الآثار الإيمانية لأسماء الله الحفيظ 1 - إن الحافظ لهذه السماوات السبع والأرض وما فيهما هو الله وحده لا شريك له. فهو سبحانه يحفظ السماوات أن تقع على الأرض كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 32]، أي: كالسقف على البيت، قاله الفراء (¬1)، وهو كقوله وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [الحج: 65]. وقال بعض المفسرين في قوله (محفوظا) أي من الشياطين، كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ [الحجر: 16 - 18]. قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره وحفظنا السماء الدنيا من كل شيطان لعين، قد رجمه الله ولعنه، إلا من استرق السمع يقول لكن قد يسترق من الشياطين السمع مما يحدث في السماء بعضها، فيتبعه شهاب من النار مبين، يبين أثره فيه إما بإخباله وإفساده، أو بإحراقه اهـ (¬2). وقيل: محفوظاً من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد بحيلة. وقيل: محفوظاً فلا يحتاج إلى عماد (¬3). والله يحفظ ذلك كله بلا مشقة ولا كلفة، ودون أدنى تعب أو نصب، كما قال سبحانه وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الحجر: 9]. فبقى كذلك – كما قال سبحانه – هذه القرون الطويلة محفوظاً بحفظ الله تعالى له، فهو من آيات الله الظاهرة للعيان، الدالة على صدق وعد الله جل شأنه. ولقد أتى على المسلمين أيام فتن سوداء، انتشر فيها أهل البدع والأهواء، وأدخلوا على هذا الدين أنواع المحدثات، وافتروا على رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أنواع المفتريات، ولكنهم عجزوا جميعاً عن أن يحدثوا في هذا القرآن شيئاً، أو أن يغيروا فيه حرفاً واحداً، فبقي كما هو، وبقيت نصوصه كما أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم. وكذا أماكن العبادة، فإن المحفوظ منها هو ما حفظه الله سبحانه وتعالى وهو خير حافظاً. قال ابن تيمية رحمه الله عن آيات الله العظيمة: وكذلك الكعبة، فإنها بيت من حجارة بواد غير ذي زرع، ليس عندها أحد يحفظها من عدو، ولا عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها، فليس عندها رغبة ولا رهبة، ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة، فكل من يأتيها يأتيها خاضعا ذليلاً متواضعاً في غاية التواضع، وجعل فيها من الرغبة ما يأتيها الناس من أقطار الأرض محبة وشوقاً من غير باعث دنيوي، وهي على هذه الحال من ألوف من السنين، وهذا مما لا يعرف في العالم لبنية غيرها، والملوك يبنون القصور العظيمة فتبقى مدة، ثم تهدم لا يرغب أحد في بنائها ولا يرهبون من خرابها. ¬

(¬1) ((معاني القرآن)) (2/ 201)، وكذا في ((تفسير ابن كثير)) (3/ 177) فقد قال: وقوله وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً أي: على الأرض وهي كالقبة عليها. (¬2) ((جامع البيان)) (14/ 11). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) (11/ 285).

وكذلك ما بني للعبادات قد تتغير حاله على طول الزمان، وقد يستولي العدو عليه كما استولى على بيت المقدس، والكعبة لها خاصة ليست لغيرها، وهذا مما حير الفلاسفة ونحوهم، فإنهم يظنون أن المؤثر في هذا العالم هو حركات الفلك، وأن ما بنى وبقي فقد بني بطالع سعيد، فحاروا في طالع الكعبة إذ لم يجدوا في الأشكال الفلكية ما يوجب مثل هذه السعادة والفرح والعظمة والدوام والقهر والغلبة، وكذلك ما فعل الله بأصحاب الفيل لما قصدوا تخريبها قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول [الفيل: 1 - 5]. قصدها جيش عظيم ومعهم الفيل، فهرب أهلها منهم فبرك الفيل وامتنع من المسير إلى جهتها، وإذا وجهوه إلى غير جهتها توجه، ثم جاءهم من البحر طير أبابيل أي جماعات في تفرقة فوجاً بعد فوج رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم، فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم، فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم اهـ (¬1). 3 - والله سبحانه وحده هو الذي يحفظ الإنسان من الشرور والآفات والمهالك، ويحفظه من عقابه وعذابه وسخطه، إن هو حفظ حدود الله واجتنب محارمه، فبتقوى الله وخوفه يحفظ الإنسان، وبقدر ذلك يكون الحفظ والكلاءة، قال تعالى فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ [النساء: 34]، فالآية تدل على ذلك، فلأنهن صالحات حافظات لمغيب أزواجهن – من عرض ومال وولد – حفظهن الله سبحانه، وأعانهن وسددهن على ذلك. فبحفظهن الله – أي أمره ودينه – حفظهن الله. وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: ((يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك ... )) (¬2). قال ابن رجب رحمه الله: يعني احفظ حدود الله، وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهى عنه، فدخل في ذلك فعل الواجبات جميعاً وترك المحرمات جميعاً اهـ (¬3). وقد مدح الله سبحانه عباده الذين يحفظون حقوقه وحدوده فقال في معرض بيانه لصفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 113]. وقال هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق: 32 - 33]. 4 - ومن أعظم ما يجب على المسلم حفظه من حقوق الله هو التوحيد، أن يعبده ولا يشرك به شيئا، كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديكن قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم)) (¬4). ¬

(¬1) ((النبوات)) (ص: 160 - 161). (¬2) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669)، والحاكم (3/ 624). قال الترمذي: صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا. (¬3) ((نور الاقتباس)) (ص: 34). (¬4) رواه البخاري (5967)، ومسلم (30).

فهذا هو الحق العظيم الذي أمر الله سبحانه عباده أن يحفظوه ويراعوه، وهو الذي من أجل حفظه، أرسل الرسل وأنزل الكتب. فمن حفظه في الدنيا، حفظه الله تعالى من عذابه يوم القيامة، وسلمه وأمنه منه، وكان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة ويجيره من النار. وإن عذب بسبب ذنوبه، فإنه أيضاً محفوظ بتوحيده من الخلود في نار جهنم، مع الكفار الذين ضيعوا هذا الحق العظيم. 5 - ومن أعظم ما أمر الله بحفظه من الواجبات: الصلاة، قال تعالى حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238]. وقال وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون: 9]. فمن حافظ على الصلوات وحفظ أركانها، حفظه الله من نقمته وعذابه وكانت له نجاة يوم القيامة. قال ابن القيم رحمه الله: والصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مطردة للأدواء، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن. وبالجملة: فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلى رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية إلا كان حظ المصلي منهما أقل، وعاقبته أسلم. وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولاسيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً، فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة، ولا استجلبت مصالحها بمثل الصلاة. وسر ذلك: إن الصلاة صلة بالله عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل، والعافية، والصحة، والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرات، كلها محضرة لديه، ومسارعة إليه اهـ (¬1). ومما جاء في أن الصلاة تحفظ صاحبها قوله صلى الله عليه وسلم: ((عن الله عز وجل أنه قال: يا ابن آدم! اركع لي من أول النهار أربع ركعات أكفك آخره)) (¬2) وقيل: إن الصلاة تحفظ صاحبها الحفظ الذي نبه عليه في قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت: 45] (¬3) وأما من ضيع الصلاة فقد توعده الله سبحانه بالهلاك والشر العظيم. قال سبحانه فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59]. ومما أمر الله بحفظه السمع والبصر والفؤاد، قال سبحانه وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]. فاحفظ سمعك، فلا تسمع إلا ما يرضيه، واحفظ بصرك فلا تنظر إلا إلى ما يرضيه، واحفظ قلبك وعقلك من أن يتعلقا بما يغضبه ويسخطه، وينشغلا بغيره. 7 - ومما أمر سبحانه وتعالى بحفظه الفروج، قال سبحانه قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30] ومدح المؤمنين بذلك فقال وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون: 5 - 6]. وقال صلى الله عليه وسلم ((من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة)) (¬4). ¬

(¬1) ((الطب النبوي)) (ص: 332). (¬2) رواه الترمذي (475). وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) ((المفردات)) للراغب (ص: 124). (¬4) رواه البخاري (6474). من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

8 - ومما أمر الله بحفظه الإيمان، فقال وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ [المائدة: 89]. لأن حفظ اليمين يدل على إيمان المرء وورعه، فكثير من الناس يتساهل في الحلف والقسم، وقد تلزمه الكفارة وهو لا يدري، أو يعجز عنها، فيقع في الإثم لتضييعه وعدم حفظه لأيمانه واستقصاء هذا يطول. وبالجملة فالمؤمن مأمور بحفظ دينه أجمع، فلا يترك منه شيئاً لتعارضه مع هواه ومصلحته، بل هو مطيع لربه على أي حال، وفي كل زمان ومكان. وكلما كان وفاءه بحفظ حدود الله وشرائعه أعظم، كان حفظ الله له كذلك، قال تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40]. وقال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152]. وقال إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد: 7]. قال ابن رجب رحمه الله: وحفظ الله سبحانه له يتضمن نوعين: أحدهما حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وماله. وفي حديث ابن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)) (¬1). قال: ودعا رجل لبعض السلف بأن يحفظه الله، فقال له: يا أخي لا تسأل عن حفظه ولكن قل يحفظ الإيمان. يعني أن المهم هو الدعاء بحفظ الدين، فإن الحفظ الدنيوي قد يشترك فيه البر والفاجر، فالله تعالى يحفظ على المؤمن دينه، ويحول بينه وبين ما يفسده عليه بأسباب قد لا يشعر العبد ببعضها وقد يكون يكرهه. وهذا كما حفظ يوسف عليه السلام – قال كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24]. فمن أخلص لله خلصه من السوء والفحشاء وعصمه منهما من حيث لا يشعر، وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة. قال: وفي الجملة فمن حفظ حدود الله وراعى حقوقه، تولى الله حفظه في أمور دينه ودنياه، وفي دنياه وآخرته. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه ولي المؤمنين، وأنه يتولى الصالحين، وذلك يتضمن أنه يتولى مصالحهم في الدنيا والآخرة، ولا يكلهم إلى غيره قال تعالى اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257]. وقال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11]، وقال وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]، وقال أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] اهـ (¬2). 9 - الله سبحانه يحفظ أعمال عباده فلا يضيع شيء منها ولا يخفى عليه، صغيراً كان أو كبيراً، ويوافيهم بها يوم الحساب إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا ينسى الله منه شيئاً وإن نساه الناس، قال تعالى أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6]، وقال وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ: 29]. وقد وكل الله بذلك حفظة كراماً من الملائكة. قال تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12]. ¬

(¬1) رواه أبو داود (5074)، والنسائي (8/ 282)، وابن ماجه (3135)، وأحمد (2/ 25) (4785)، والحاكم (1/ 698). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (897) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬2) من ((نور الاقتباس)) باختصار.

وقال إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [الطارق: 4]، وغيرها. ولا يسقط من هذه الصحف شيئاً ولو صغر، قال تعالى وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]. وقال وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53 - 54]. وهذا الأمر ليس من مهام الرسل ولا أتباع الرسل، بل هو لله وحده كما قال سبحانه في ذلك قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104]. وقال عن شعيب عليه السلام في خطابه لقومه بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ [هود: 86]. وقال تعالى وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء: 80] وغيرها. 10 - يجوز إطلاق هذا الاسم على الخلق، فقد جاء ذلك في قوله تعالى هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق: 22]. وقال يوسف عليه الصلاة والسلام اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 324

اثنان وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله المقيت

اثنان وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله المقيت 1 - إن الله هو (المقيت) أي القدير على كل شيء، وسيأتي بسط الكلام على ذلك في (القدير) إن شاء الله تعالى. 2 - إن الله سبحانه وتعالى هو المعطى لأقوات الخلق صغيرهم وكبيرهم، قويهم وضعيفهم، غنيهم وفقيرهم، قال تعالى وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود: 6]. وقد قدر الله ذلك كله عند خلقه للأرض، قال تعالى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ [فصلت: 10]. قال ابن كثير: وقدر فيها أقواتها، وهو ما يحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس (¬1). وقال القرطبي: معنى قدر فيها أقواتها أي أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد على بلد (¬2). 3 - قال القرطبي في الأسنى: وقد يقوت الأرواح إدامة المشاهدة ولذيذ المؤانسة، قال الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [يونس: 9] (¬3). وإلى هذا أحد أوجه قوله عليه الصلاة والسلام: ((إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) (¬4). وأنشدوا: فقوت الروح أرواح المعاني ... وليس بأن طعمت وأن شربتا فلكل مخلوق قوت، فالأبدان قوتها المأكول والمشروب، والأرواح قوتها العلوم، وقوت الملائكة التسبيح، وبالجملة فالله سبحانه هو المقيت لعباده، الحافظ لهم، والشاهد لأحوالهم، والمطلع عليهم، وقد تضمن هذا الاسم جميع الصفات. فيجب على كل مكلف أن يعلم أن لا قائم بمصالح العباد إلا الله سبحانه، وأنه الذي يقوتهم ويرزقهم. وأفضل رزق يرزقه الله العقل، فمن رزقه العقل أكرمه، ومن حرمه ذلك فقد أهانه اهـ (¬5). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 341 ¬

(¬1) ((التفسير)) (4/ 93). (¬2) ((التفسير)) (15/ 342 - 343). (¬3) قال في ((التفسير)) (8/ 312): يهديهم ربهم بإيمانهم أي يزيدهم هداية كقوله والذين اهتدوا زادهم هدى. (¬4) رواه البخاري (7299)، ومسلم (1103). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((الكتاب الأسنى))

ثلاث وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الحسيب

ثلاث وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الحسيب 1 - إن الله سبحانه وتعالى هو الكافي لعباده، الذي لا غنى لهم عنه أبداً، بل لا يتصور لهم وجود بدونه، فهو خالقهم وبارئهم ورازقهم وكافيهم في الدنيا والآخرة، لا يشاركه في ذلك أحد أبداً، وإن ظن الناس أن غير الله يكفيهم فهو ظن باطل، وخطأ محض، بل كل شيء بخلقه وتقديره وأمره. قال في المقصد: هو الكافي، وهو الذي من كان له كان حسبه، والله تعالى حسيب كل أحد وكافيه، وهذا وصف لا يتصور حقيقته لغيره، فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي، لوجوده ولدوام وجوده ولكمال وجوده. وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا الله تعالى، فإنه وحده كاف لكل شيء، لا لبعض الأشياء، أي هو وحده كاف يتحصل به وجود الأشياء ويدوم به وجودها ويكمل به وجودها. ولا تظنن أنك إذا احتجت إلى طعام وشراب وأرض وسماء وشمس وغير ذلك، فقد احتجت إلى غيره ولم يكن هو حسبك، فإنه هو الذي كفاك بخلق الطعام والشراب والأرض والسماء، فهو حسبك. ولا تظنن أن الطفل الذي يحتاج إلى أمه، ترضعه وتتعهده، فليس الله حسيبه وكافيه، بل الله كفاه إذ خلق أمه، وخلق اللبن في ثديها وخلق له الهداية إلى التقامه، وخلق الشفقة والمودة في قلب الأم حتى مكنته من الالتقام، ودعته إليه وحملته عليه. فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب، والله وحده المتفرد بخلقها لأجله، ولو قيل لك أن الأم وحدها كافية للطفل وهي حسبه لصدقت به، ولم تقل إنها لا تكفيه لأنه يحتاج إلى اللبن فمن أين تكفيه الأم إذا لم يكن لبن؟ ولكنك تقول: نعم، يحتاج إلى اللبن، ولكن اللبن أيضاً من الأم، فليس محتاجاً إلى غير الأم، فاعلم أن اللبن ليس من الأم، بل هو والأم من الله، ومن فضله وجوده. فهو وحده حسب كل أحد، وليس في الوجود شيء وحده هو حسب شيء سواه، بل الأشياء يتعلق بعضها ببعض وكلها تتعلق بقدرة الله تعالى اهـ (¬1). فالله وحده حسب كل أحد، لا يشاركه في ذلك أحد، وهذا هو المعنى الصحيح لقول تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64]، وهو المعنى الذي اختاره أكثر العلماء والذي تؤيده الأدلة الكثيرة. قال ابن القيم رحمه الله بعد ذكره للآية السابقة: أي الله وحده كافيك، وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إلى أحد. قال: وهنا تقديران، أحدهما: أن تكون الواو عاطفة لـ (من) على الكاف المجرورة، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة والثاني أن تكون الواو واو (مع)، وتكون (من) في محل نصب عطفاً على الموضع، (فإن حسبك) في معنى (كافيك)، أي: الله يكفيك ويكفي من اتبعك، كما تقول العرب: حسبك وزيداً درهم، قال الشاعر: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند وهذا أصح التقديرين: وفيها تقدير ثالث: أن تكون (من) في موضع رفع بالابتداء، أي: ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبهم الله. ¬

(¬1) ((المقصد الأسنى)) (ص: 72).

وفيها تقدير رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن تكون (من) في موضع رفع عطفاً على اسم الله، ويكون المعنى: حسبك الله وأتباعك، وهذا وإن قاله بعض الناس (¬1) فهو خطأ محض، لا يجوز حمل الآية عليه، فإن (الحسب) و (الكفاية) لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62]. ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173]. ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، فإذا كان هذا قولهم، ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟ وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل. ونظير هذا قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59]. فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله، كما قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 59]. وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال تعالى: إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59] ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الانشراح: 7 - 8]. فالغربة، والتوكل، والإنابة، والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى، والسجود لله وحده، والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى. ونظير هذا قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] فالحسب: هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية؟! والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ها هنا اهـ (¬2). وبقدر ما يلتزم العبد بطاعة الله ورسوله، تكون الولاية والكفاية، ولذلك يتابع ابن القيم كلامه قائلاً: والمقصود أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة. اهـ. 3 - والله سبحانه وتعالى (الحاسب) الذي أحصى كل شيء، لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. قال تبارك وتعالى: وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28]. وقال إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم: 93 - 94]. وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو (¬3). ¬

(¬1) ذكره الفراء في ((معاني القرآن)) (1/ 417) وقال: وهو أحب الوجين إلي اهـ ونقله القرطبي (8/ 43). عن الحسن والنحاس. (¬2) ((زاد المعاد)) (1/ 35 - 37). (¬3) رواه مسلم (2653).

وتصديق ذلك من كتاب الله قوله سبحانه وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12]، والإمام هو أم الكتاب (¬1). وقوله مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22]. وقوله وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ: 29]. 4 - وأعمالك أيها الإنسان كلها محسوبة محصية، لا يضيع منها شيء، ولا يزاد عليك شيء، فتجزى بها يوم القيامة ولا تظلم. قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]. وقال سبحانه: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6]. وقد أمر الله سبحانه الحفظة بذلك، أن يدونوا كل صغيرة وكبيرة. قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]. وهذا الحفظ والإحصاء الدقيق، والحساب الذي لا يفوته شيء، هو الذي يبهت أهل الأجرام، الذين لا يبالون بأعمالهم صلحت أو فسدت، يعملون السيئات بلا حساب ويظنون أنهم متروكون سدى، لا حساب ولا عذاب، قال تعالى عنهم وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]. لذلك كان لزاماً علينا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وأن نزن أعمالنا قبل توزن (¬2). قال الأقليشي: فأرباب القلوب، المحسون بأوجاع الذنوب العالمون يقيناً بمحاسبة علام الغيوب، وإحصاء حسابه لجميع العيوب، أقاموا في الدنيا موازين القسط على أنفسهم وأحصوا عليها بالحساب المحرر كلما برز عنها وصدر ثم حاسبوها محاسبة الشريك النحرير القائم بماله شريكه الذي انفصل عن شركته بعداوة وقعت بينه وبينه، فانظر هل يسمح له بترك حبة، أو يسقيه من مائه عند ظمأه عبه، فلذلك انتثرت ذنوب هؤلاء من الصحائف كما ينتثر ورق الشجر اليابس بالريح العاصف. فإذا قدموا قضاء الموقف، برزت لهم تلك الصحائف منيرة وقد استنارت فيها المعاني والأحرف، لأنها ممحضة مخلصة بدقيق المحاسبة وشديد المطالبة فكان حسابهم عرضاً لا مناقشة اهـ (¬3). 5 - وحساب الخلق لا مشقة فيه على الخالق الحاسب، بل هو يسير عليه. قال تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62]. قال ابن جرير: ثم ردت الملائكة الذين توفوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم إلى الله سيدهم الحق، (ألا له الحكم) يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه، (وهو أسرع الحاسبين) يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم أيها الناس، وأحصاها وعرف مقاديرها ومبالغها. لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين اهـ (¬4). فكما أن خلقهم وبعثهم لا مشقة فيه كما قال سبحانه مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28]. فكذلك حسابهم لا مشقة فيه ولا تأخير، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]. فسبحان الله العظيم، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 349 ¬

(¬1) انظر ((تفسير ابن جرير)) (22/ 100) وغيره. (¬2) روي عن عمر رضي الله عنه: ((أنه قال في خطبته حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه أهون لحسابكم وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا)) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (ص: 306)، وابن أبى شيبة (7/ 96)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 52). (¬3) ((الكتاب الأسنى)) (209 - 210) (¬4) ((جامع البيان)) (7/ 140).

أربع وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الواسع

أربع وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الواسع 1 - الله سبحانه وتعالى واسع في علمه، واسع في حكمته، فلو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمته، وآياته وعلمه وشرعه وقدره، لنفد ماء البحر قبل أن تنفد ما عند الله من علم وحكمة وآيات، ولو مددنا البحر بمثل ما فيه، كما قال تعالى قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109]. وقال سبحانه وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: 27]. أي لو أن أشجار الأرض كانت أقلاما، والبحار مداداً، وسبعة بحار مثلها مداداً، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات في الله، لنفدت البحار وتكسرت الأقلام، ولم تنفد كلمات الله جل شأنه. وقد نظم ذلك ابن القيم بقوله: كلماته جلت عن الإحصاء والتعداد بل عن حصر ذي الحسبان لو أن أشجار البلاد جميعها الأقلام تكتبها بكل بنان والبحر تلقى فيه سبعة أبحر ... لكتابة الكلمات كل زمان نفدت ولم تنفد بها كلماته ... ليس الكلام من الإله بفان (¬1) 2 - تقدم قول الحليمي رحمه الله أن (الواسع) معناه الكثير مقدوراته ومعلوماته. فقد جاء اسمه (الواسع) مقترناً بـ (العليم) في سبع آيات من كتاب الله، فالله سبحانه واسع العطاء، كثير الأفضال على خلقه، والخلق كلهم يتقلبون في رحمته وجوده وفضله، يعطى من يشاء ويمنع، ويخفض من يشاء ويرفع، بعلمه الذي وسع كل شيء وحكمته. وقد ذكر الله اعتراض بنو إسرائيل على نبيهم حين قال لهم: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ [البقرة: 247]. أي كيف يكون له الملك وليس من سبط النبوة ولا الملك (¬2)، ونحن أحق بالملك منه، ثم هو ليس من الأغنياء أصحاب الأموال والسعة في الرزق ليفضل علينا، فرد عليهم نبيهم عليه الصلاة والسلام بقوله قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ أي: أن الله سبحانه قد زاده بسطة وسعة في العلم والجسم، وهما خير من الملك والمال، ثم ذكرهم بأنه مختار من قبل الله سبحانه وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. قال ابن جرير: يعني تعالى بذلك: إن الملك لله وبيده دون غيره، (يؤتيه) قول: يؤتى ذلك من يشاء فيضعه عنده ويخصه به ويمنحه من أحب من خلقه، يقول فلا تستنكروا يا معشر الملأ من بني إسرائيل أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم، وإن لم يكن من أهل بيت المملكة، فإن الملك ليس بميراث عن الآباء والأسلاف، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه، فلا تتخيروا على الله. وأما قوله (والله واسع عليم) فإنه يعني بذلك: والله واسع بفضله فينعم به على من أحب، ويريد به من يشاء، عليم بمن هو أهل لملكه الذي يؤتيه، وفضله الذي يعطيه، فيعطيه ذلك لعلمه به، وبأنه لما أعطاه أهل، إما للإصلاح به، وإما لأن ينتفع هو به اهـ (¬3). 3 - تقدم قول القرطبي في الواسع أنه الذي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم. ومصداق ذلك من كتاب الله قوله سبحانه يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]. ¬

(¬1) ((النونية)) (2/ 217). (¬2) لأنه من سبط بنيامين بن يعقوب ((ابن جرير)) (2/ 378). (¬3) ((جامع البيان)) (2/ 381).

وقوله: لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 233]. وقوله: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286]. وقوله: يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28]. وقوله: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ... )) (¬1). فكل ما كلفنا الله سبحانه به من العبادات والشرائع هو مما تطيقه النفوس على وجه العموم، ثم خفف الله عن المريض والمسافر، والمسن والفقير، والمرأة والصغير، وغيرهم من أصحاب الأعذار، كل ذلك تخفيفاً وتوسعة على عباده، ورفعاً للضيق والحرج عنهم. واضرب على ذلك مثالاً مناسباً لما نسمعه هذه الأيام من اتجاه الغرب لإباحة الطلاق بعد أن حرموه على أنفسهم وضيقوا ما وسع الله عليهم. قال الله تعالى في كتابه العزيز عن الزوجين وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء: 130]. قال ابن جرير: يغنى الله الزوج والمرأة المطلقة من سعة فضله، أما هذه فبزوج هو أصلح لها من المطلق الأول، أو برزق واسع وعصمة، وأما هذا فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلقة أو عفة، وكان الله واسعاً يعني: وكان الله واسعاً لهما في رزقه إياهما وغيرهما من خلقه، حكيماً فيما قضى بينه وبينها من الفرقة والطلاق، وسائر المعاني التي عرفناها من الحكم بينهما في هذه الآيات وغيرها، وفي ذلك من أحكامه وتدبيره وقضاياه في خلقه اهـ (¬2). 4 - أن الله واسع المغفرة، ومن سعة مغفرته أنه يغفر لكل من تاب وأناب مهما بلغت ذنوبه وخطاياه، قال عز من قائل قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]. وقال حمله العرش عن ربهم تبارك وتعالى رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر: 7]. النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 386 ¬

(¬1) رواه البخاري (39)، ومسلم (2816). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((جامع البيان)) (5/ 204)، وبنحوه ابن كثير (1/ 564).

خمس وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرب

خمس وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الرب 1 - أن الله سبحانه هو الرب على الحقيقة، فلا رب على الحقيقة سواه وهو رب الأرباب ومالك الملك، وملك الملوك سبحانه وتعالى. قال القرطبي: فالله سبحانه رب الأرباب، ومعبود العباد، يملك الممالك والملوك، وجميع العباد، وهو خالق ذلك ورازقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مخلوق فمملك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيء دون شيء. وصفة الله مخالفة لهذا المعنى، فهذا الفرق بين صفات الخالق والمخلوقين. فأما قول فرعون –لعنة الله- إذ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24]، فإنه أراد أن يستبد بالربوبية العالية على قومه، ويكون رب الأرباب فينازع الله في ربوبيته وملكه الأعلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات: 25]. وقد قيل إن الرب مشتق من التربية فالله سبحانه مدبر لخلقه ومربيهم ومصلحهم وجابرهم والقائم بأمورهم، قيوم الدنيا والآخرة، كل شيء خلقه، وكل مذكور سواه عبده وهو ربه، لا يصلح إلا بتدبيره ولا يقوم إلا بأمره، ولا يربه سواه، ومنه قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ [النساء: 23]، فسمى ولد الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها. فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم ومصلحهم وجابرهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب المالك والسيد يكون صفة ذات اهـ (¬1). ويبين الحليمي أن الله سبحانه يرعى العباد ويربيهم في أحوالهم وأطوارهم المختلفة فيقول: (الرب) وهو المبلغ كل ما أبدع حد كماله الذي قدره له، وهو يسل النطفة من الصلب ويجعلها علقة، والعلقة مضغة، ثم يجعل المضغة عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم يخلق في البدن الروح ويخرجه خلقاً آخر وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينميه وينشئه حتى يجعله رجلاً، ويكون في بدء أمره شاباً ثم يجعله كهلاً ثم شيخاً. وهكذا كل شيء خلقه فهو القائم عليه به، والمبلغ إياه الحد الذي وصفه وجعله نهاية ومقداراً له (¬2). 2 - فمن عرف ذلك لم يطلب غير الله تعالى له رباً وإلهاً، بل رضى به سبحانه وتعالى ربا، ومن كانت هذه صفته ذاق طعم الإيمان وحلاوته، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً)) (¬3). قال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه، لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشته قلبه، لأن من رضي أمراً سهل عليه، فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له، والله أعلم (¬4). 3 - وقد تكلم العلامة ابن القيم عن ارتباط اسم (الرب) باسم (الله) كلاماً جيداً حيث يقول: وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة. وهي (الله، والرب، والرحمن) كيف نشأ عنها الخلق، والأمر، والثواب، والعقاب؟ وكيف جمعت الخلق وفرقتهم؟ فلها الجمع، ولها الفرق. فاسم (الرب) له الجمع الجامع لجميع المخلوقات. فهو رب كل شيء وخالقه، والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره. فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترقوا بصفة الإلهية، فألهه وحده السعداء، وأقروا له طوعاً بأن الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي العبادة والتوكل، والرجاء والخوف، والحب والإنابة والإخبات والخشية، والتذلل والخضوع إلا له. ¬

(¬1) ((الكتاب الأسنى)). (¬2) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 205) وقد ذكره في الأسماء التي تتبع إثبات التدبير له دون ما سواه، وكذا البيهقي في ((الأسماء)) (ص: 94). (¬3) رواه مسلم (34). من حديث العباس رضي الله عنه. (¬4) ((شرح مسلم للنووي)) (2/ 2).

وهنا افترق الناس، وصاروا فريقين: فريقا مشركين في السعير، وفريقاً موحدين في الجنة. فالإلهية هي التي فرقتهم، كما أن الربوبية هي التي جمعتهم. فالدين والشرع، والأمر والنهي – مظهره، وقيامه-: من صفة الإلهية. والخلق والإيجاد والتدبير والفعل: من صفة الربوبية. الجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار: من صفة الملك. وهو ملك يوم الدين. فأمرهم بإلهيته، وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله. وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى. وأما الرحمة: فهي التعلق، والسبب الذي بين الله وبين عباده. فالتأليه منهم له، والربوبية منه لهم. والرحمة سبب وأصل بينه وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه. وبها هداهم. وبها أسكنهم دار ثوابه. وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم. فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة. واقترن ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته. فـ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مطابق لقوله رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها. فوسع كل شيء برحمته وربوبيته، مع أن في كونه رباً للعالمين ما يدل على علوه على خلقه، وكونه فوق كل شيء، كما يأتي بيانه إن شاء الله اهـ (¬1). 4 - قال القرطبي رحمه الله: فيجب على كل مكلف أن يعلم أن لا رب له على الحقيقة إلا الله وحده، وأن يحسن تربية من جعلت تربيته إليه، فيقوم بأمره ومصالحه كما قام الحق فيرقيه شيئاً شيئاً وطوراً طوراً، ويحفظه ما استطاع جهده، كما حفظه الله. قال ابن عباس وقد سئل عن الرباني فقال: هو الذي يعلم الناس بصغار الأمر قبل كباره. فالعالم الرباني هو الذي يحقق علم الربوبية وربي الناس بالعلم على مقدار ما يحتملوه، فبذل لخواصهم جوهره ومكنونه، وبذل لعوامهم ما ينالون به فضل الله ويدركونه اهـ (¬2). 5 - وقد دعا الأنبياء والصالحون الله سبحانه وتعالى بهذا الاسم وتضرعوا به إليه. فدعا آدم عليه السلام وحواء به كما في قوله تعالى: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]. ونوح عليه السلام في دعائه رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح: 28]. وإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]. وموسى عليه الصلاة والسلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف: 151]. وعيسى عليه الصلاة والسلام اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء [المائدة: 114]. والرسول صلى الله عليه وسلم وأمته في قوله آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285]. وغير ذلك في كتاب الله كثير لا يحصى. 6 - وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم العبد أن يقول لسيده (ربي) فقال: ((لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي)) (¬3). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 34 - 35). (¬2) ((الكتاب الأسنى)). (¬3) رواه البخاري (2552)، ومسلم (2248). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الحافظ ابن حجر: وفيه نهي العبد أن يقول لسيده ربي، وكذلك نهي غيره فلا يقول له أحد ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده إسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه. والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن الرب هو المالك القائم بالشيء، فلا توجد حقيقة ذلك إلا لله تعالى. قال الخطابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله، وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة، كقوله: رب الدار ورب الثوب. قال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله. وتعقبه الحافظ بقوله: والذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ [يوسف: 42]، وقوله ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ [يوسف: 50]، وقوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة ((أن تلد الأمة ربتها)) (¬1) فدل على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد في ذلك فلبيان الجواز. وقيل هو مخصوص بغير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد ما في القرآن، أو المراد النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة اهـ (¬2). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 394 ¬

(¬1) رواه مسلم (8). من حديث عمر رضي الله عنه. (¬2) ((الفتح)) (5/ 179).

ست وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الودود

ست وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله الودود 1 - قال القرطبي: فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله سبحانه هو (الودود) على الإطلاق، المحب لخلقه، والمثنى عليهم والمحسن إليهم اهـ (¬1). فالله سبحانه وتعالى يحب من أطاعه ويبغض من عصاه. يحب التوابين والمتطهرين والصابرين والمتوكلين والمقسطين والمؤمنين والمتقين والمحسنين، وجميع الطائعين. ويبغض ويكره المعتدين والمفسدين والمسرفين والخائنين والمستكبرين والفاسقين والظالمين والكافرين، ولا يحب كل مختال فخور، ولا كل خوان كفور، وهذا كله في كتابه العزيز. فيجب على العبد أن يتبع ما يحبه الله ويرضاه، ويتجنب ما يبغضه ولا يحبه. يقول القرطبي في تتمه كلامه السابق: ثم يجب عليه أن يتودد على ربه بامتثال أمره ونهيه، كما تودد إليه بإدرار نعمه وفضله، ويحبه كما أحبه. ومن حب العبد لله رضاه بما قضاه وقدره، وحب القرآن والقيام به، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم وحب سنته والقيام بها والدعاء إليها، قال الله العظيم قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31]، فمن اتبع رسوله فيما جاء به، وصدق في أتباعه، فذلك الذي أحب الله وأحبه الله. واعلم أن مثال محبة الله تعالى بترك المناهي، أكثر من مثالها بسواها من أعمال الطاعات، فالأعمال الصالحة قد يعملها البر والفاجر، والانتهاء عن المعاصي لا تكون إلا بالكمال (و) إلا من مصدق. قلت (القرطبي) وعلى هذا الحذو – والله أعلم – يترتب حب الله تعالى للعبد وحب الناس له، وعليه يخرج الحديث الذي خرجه مالك والبخاري ومسلم وغيرهم واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)) (¬2) (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوباً. فإذا كنا إذا أحببنا شيئاً لله كان الله هو المحبوب في الحقيقة، وحبنا لذلك بطريق التبع، وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله، فالله تعالى يحب الذين يحبونه، فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود، وأن يكون غاية كل حب (¬4). 2 - أن المستحق أن يحب لذاته هو الله سبحانه، وتعالى، وكل محبة يجب أن تكون لله وفي الله، فإذا أحب العبد أحب الله وإذا أبغض أبغض لله، وإذا أعطى أعطى لله، وإذا منع منع لله، وإذا والى والى في الله وإذا عادى عادى في الله، وهكذا كل أعماله يجب أن تكون فيما يحبه الله ويرضاه. وكذا فإنه لا يجوز للعبد أن يبغض من أحبه الله تعالى من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، ولا يحب من أبغضه الله من الفساق والعاصين والمكذبين والمحاربين لله بأموالهم وأنفسهم، مهما كانت قرابتهم له. ¬

(¬1) ((الكتاب الأسنى)). (¬2) رواه البخاري (3209)، ومسلم (2637). (¬3) ((الكتاب الأسنى)). (¬4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/ 15).

فعن الأول يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ((إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)) (¬1). فالحديث يدل على أن معاداة أولياء الله إنما هي في الحقيقة معاداة الله، ومن ذا الذي يطيق أن يعادي الله تعالى شأنه أو يحاربه، ويدل أيضاً على أن الفرائض من أحب ما يتقرب به إلى الله تعالى، ويليها النوافل. وأما عن الثاني وهي أن لا يحب من عصى الله، يقول تعالى لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22]. قال ابن تيمية رحمه الله: وليس ما يستحق أن يكون هو المحبوب لذاته، المراد لذاته، المطلوب لذاته، المعبود لذاته: إلا الله. كما أنه ليس ما هو بنفسه مبدع خالق إلا الله، فكما أنه لا رب غيره، فلا إله إلا هو، فليس في المخلوقات ما يستقل بإبداع شيء حتى يكون ربا له، ولكن ثم أسباب متعاونة ولها فاعل هو سببها. وكذلك ليس في المخلوقات ما هو مستحق لأن يكون المستقل بأن يكون هو المعبود المقصود المراد بجميع الأعمال، بل إذا استحق أن يحب ويراد، فإنما يراد لغيره، وله ما شاركه في أن يحب معه، وكلاهما يحب أن يحب الله، لا يحب واحد منهما لذاته، إذ ليست ذاته هي التي يحصل بها كمال النفوس وصلاحها وانتفاعها، إذا كانت هي الغاية المطلوبة. والله فطر عباده على ذلك، وهو أعظم من كونه فطرهم على حب الأغذية التي تصلحهم، فإذا تناولوا غيرها أفسدتهم، فإن ذلك، وإن كان كذلك، ففي الممكن أن يجعل في غير ذلك ما يغذيهم. وأما كون الفطرة يمكن أن تصلح على عبادة غير الله، فهذا ممتنع لذاته كما يمتنع لذاته أن يكون للعالم مبدع غير الله. قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)) (¬2). وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء (كلهم) فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)) (¬3). والفطر تعرف هذا أعظم مما تعرف ما يلائمها من الطعام والشراب، لكن قد يحصل للفطرة نوع فساد، فيفسد إدراكها، كما يفسد إدراكها إذا وجدت الحلو مرا، وهذا هو أعرف المعروف الذي أمر الله الرسل أن تأمر به، والشرك أنكر المنكر الذي أمرهم بالنهي عنه، والشرك لا يغفره الله، فإنه فساد لا يقبل الصلاح. ولهذا وجب التفريق بين الحب مع الله، والحب لله، فالأول شرك، والثاني إيمان. قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة: 165]، فليس لأحد أن يحب شيئاً مع الله. ¬

(¬1) رواه البخاري (6502). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (1385)، ومسلم (2658). (¬3) رواه مسلم (2865).

وأما الحب لله فقال تعالى: أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 24]. وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار)) (¬1) اهـ (¬2). 3 - حب الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم يقوى بقوة العلم الشرعي، وكلما كان المسلم عالماً بدين الله وأحكامه وشرائعه، عاملاً به، كان حبه أقوى من غيره من الجاهلين، وإن كانت محبة الله سبحانه توجد في الفطر، ولكنها تقوى بالعلم وتخبو وتضعف بالشهوات والشبهات. قال ابن تيمية رحمه الله: وكذلك حب الله ورسوله حاصل لكل مؤمن، ويظهر ذلك بما إذا خير المؤمن بين أهله وبين الله ورسوله، فإنه يختار الله ورسوله. والمؤمنون متفاضلون في هذه المحبة، ولكن المنافقون – الذين أظهروا الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم – ليسوا من هؤلاء، وما من مؤمن إلا وهو إذا ذكر له رؤية الله اشتاق إلى ذلك شوقاً لا يكاد يشتاقه إلى شيء. وقد قال الحسن البصري: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا (¬3). والحب لله يقوى بسبب قوة المعرفة وسلامة الفطرة، ونقصها من نقص المعرفة ومن خبث الفطرة بالأهواء الفاسدة. ولا ريب أن النفوس تحب اللذة بالأكل والشرب والنكاح، وقد تشتغل النفوس بأدنى المحبوبين عن أعلاهما، لقوة حاجته العاجلة إليه، كالجائع الشديد الجوع، فإن ألمه بالجوع قد يشغله عن لذة مناجاته لله في الصلاة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا يصلين أحدكم بحضرة طعام، ولا هو يدافع الأخبثين)) (¬4). وإن كانت الصلاة قرة عين العارفين، والإنسان إنما يشتاق إلى ما يشعر به من المحبوبات، فأما ما لم يشعر به فهو لا يشتاق إليه، وإن كان لو شعر به لكان شوقه إليه أشد من شوقه إلى غيره اهـ (¬5). النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 404 ¬

(¬1) رواه البخاري (43)، ومسلم (43). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/ 374 - 376). (¬3) رواه عبد الله في ((السنة)) (1/ 263) (2/ 471)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 253). (¬4) رواه مسلم (560). من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (6/ 72 - 73).

سبع وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله المجيد

سبع وخمسون: الآثار الإيمانية لاسم الله المجيد 1 - قال الأزهري: الله تعالى هو (المجيد) تمجد بفعاله، ومجده خلقه لعظمته (¬1). فالله سبحانه له المجد العلي العظيم، بفعاله العظيمة وصفاته العلية وبأسمائه الحسنى، فلا مجد إلا مجده، ولا عظمة إلا عظمته، وكل مجد لغيره إنما هو منه عطاء وتفضل. وفي اقتران (الحميد) مع (المجيد) بيان أنه محمود على مجده وعظمته وكمال صفاته، فليس كل ذي شرف محمود، وكذلك ليس كل محمود يكون ذو شرف. قال الحليمي: (المجيد) ومعناه: المنيع المحمود، لأن العرب لا تقول لكل محمود مجيداً، ولا لكل منيع مجيداً. أو قد يكون الواحد منيعاً غير محمود، كالمتآمر الخليع الجائر، أو اللص المتحصن ببعض القلاع. وقد يكون محموداً غير منيع، كأمير السوقة والصابرين من أهل القبلة. فلما لم يقل لكل واحد منهما مجيد، علمنا أن (المجيد) من جمع بينهما فكان منيعاً لا يرام، وكان في منعته حسن الخصال جميل الفعال، والباري – جل ثناؤه – يجل عن أن يرام وأن يوصل إليه، وهو مع ذلك فحسن مجمل لا يستطيع العبد أن يحصي نعمته، ولو استنفذ فيه مدته، فاستحق اسم المجيد وما هو أعلى منه اهـ (¬2). 2 - إن الله سبحانه عطاؤه واسع، وفضله سابغ، قد شمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، مجد بذلك نفسه في قوله عز وجل وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34]. 3 - مجد الله تعالى نفسه في كتابه العزيز في آيات كثيرة بل القرآن مليء بتمجيد الله وتعظيمه، وكذا حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعظم آيات القرآن وسوره هي التي احتوت على ذلك، كآية الكرسي في البقرة، وسورة الفاتحة والإخلاص. ومن أعظم من يعظم به العبد ربه ويمجده هو تلاوة كتابه، في آناء الليل وأطراف النهار، فإنه لا أحد يحصى الثناء عليه والتمجيد له، هو كما أثنى على نفسه. ففي الحديث القدسي ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي ... )) (¬3). ثم ذكره وتسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله، وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار والدعاء بخيري الدنيا والآخرة. وهذه الحال هي حال أهل الذكر، من لا يشقى بهم الجليس، من الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال فيقول: هل رأوني؟ قال فيقولون: لا والله ما رأوك، قال فيقول: كيف لو رأوني؟ قال يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً ... ، حتى قال تعالى: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال يقول: ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم)) (¬4). 4 - سمى الله تبارك وتعالى كتابه بـ (المجيد) في آيتين من كتابه: في قوله تعالى ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1]. وقوله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ [البروج: 21 - 22]. ¬

(¬1) ((اللسان)) (5/ 4138). (¬2) ((المنهاج)) (1/ 197) ذكره في الأسماء التي تتبع نفي التشبيه عن الله تعالى جده، وكذا البيهقي في ((الأسماء)) (ص: 57). (¬3) رواه مسلم (395). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6408)، ومسلم (2689).

قال قتادة: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ يقول: قرآن كريم (¬1). فالقرآن مجيد أي شريف كريم عظيم، ولا غرابة في ذلك فإنه كلام الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ومن مجد القرآن وشرفه أنه لا يمكن للجن والأنس أن يأتوا بمثله، بل بسورة منه، قال تعالى قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88]. وهذا يتجلى لنا في جوانب عديدة: منها، أنه لا يمكن للجن والإنس أن يأتوا بمثل ما فيه من التشريعات من أمر ونهي، وحلال وحرام، وما فيه من العبادات الدينية والمعاملات الدنيوية، فهذا من أعظم إعجازه. ومنها أن بلاغته وفصاحته، وروعته وبهاؤه، وحسن تراكيبه وأسلوبه، وأخذه بالنفوس كله مما لا يضاهي. ومنها كثرة فوائده التي لا تنقضي، ولا يشبع منها العلماء على مر الدهور والعصور. ومن شرفه ورفعته، أن الله سبحانه حفظه وصانه من كيد الكفار والمنافقين، ومن الحاقدين على هذا الدين، حفظه من أن يبدلوه أو أن يحرفوه، أو أن يزيدوا فيه أو ينقصوه، قال سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. ومن عظمة هذا الكتاب ومجده، أن الله يرفع به من عمل به واتخذه دينا ومنهاجاً، ويخفض به ويذل من تركه وراء ظهره، ورأى أن العمل به رجعية وتخلف وجمود. ففي صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزي، قال: ومن ابن أبزي؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلف عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) (¬2). فقد رفع الله تعالى هذا المولى لحفظه لكتابه وعلمه به مع انحطاط نسبه وشرفه على غيره من أهل مكة أهل الشرف والنسب. وهكذا الجد والرفعة في الدرجات في الآخرة، فإنما هي لمن أخذ بهذا الكتاب، وعمل به، والذل والمهانة والدركات لمن تركه وأعرض عنه النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى لمحمد بن حمد الحمود– ص: 415 ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (24/ 347). (¬2) رواه مسلم (817).

المبحث الثالث: الآثار الإيمانية لبعض صفات الله عز وجل

تمهيد أن العلم بصفات الله عَزَّ وجَلَّ، والإيمان بها، على ما يليق به سبحانه، وتدبرها: يورث ثمرات عظيمة وفوائد جليلة، تجعل صاحبها يذوق حلاوة الإيمان، وقد حُرِمها قوم كثيرون من المعطِّلة والمؤوِّلة والمشبهة، وإليك بعضاً منها: 1 - فمن ثمرات الإيمان بصفات الله عَزَّ وجَلَّ: أن العبد يسعى إلى الاتصاف والتحلِّي بها على ما يليق به؛ لأنه من المعلوم عند أرباب العقول أن المحب يحب أن يتصف بصفات محبوبه؛ كما أن المحبوب يحب أن يتحلَّى مُحِبُّهُ بصفاته؛ فهذا يدعو العبد المحب لأن يتصف بصفات محبوبه ومعبوده كلٌّ على ما يليق به، فالله كريم يحب الكرماء، رحيم يحب الرحماء، رفيق يحب الرفق، فإذا علم العبد ذلك؛ سعى إلى التحلي بصفات الكرم والرحمة والرفق، وهكذا في سائر الصفات التي يحب الله تعالى أن يتحلَّى بها العبد على ما يليق بذات العبد. 2 - ومنها: أن العبد إذا آمن بصفة (الحب والمحبة) لله تعالى وأنه سبحانه (رحيم ودود) استأنس لهذا الرب، وتقرَّب إليه بما يزيد حبه ووده له، ((ولا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه)) وسعى إلى أن يكون ممن يقول الله فيهم: ((يا جبريل إني أُحبُّ فلاناً فأحبَّه، فيُحبُّه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحبُّ فلاناً فأحبوه، فيُحبُّه أهلُ السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)) ومن آثار الإيمان بهذه الصفة العظيمة أن من أراد أن يكون محبوباً عند الله اتبع نبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وحبُّ الله للعبد مرتبطٌ بحبِ العبدِ لله، وإذا غُرِست شجرةُ المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، أثمرت أنواعَ الثمار، وآتت أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربها. 3 - ومنها: أنه إذا آمن العبد بصفات (العلم، والإحاطة، والمعية)؛ أورثه ذلك الخوف من الله عَزَّ وجَلَّ المطَّلع عليه الرقيب الشهيد، فإذا آمن بصفة (السمع)؛ علم أن الله يسمعه؛ فلا يقول إلا خيراً، فإذا آمن بصفات (البصر، والرؤية، والنظر، والعين)؛ علم أن الله يراه؛ فلا يفعل إلا خيراً؛ فما بالك بعبد يعلم أن الله يسمعه، ويراه، ويعلم ما هو قائله وعامله، أليس حريٌّ بهذا العبد أن لا يجده الله حيث نهاه، ولا يفتقده حيث أمره؟! فإذا علم هذا العبد وآمن أن الله (يحبُّ، ويرضى)؛ عمل ما يحبُّه معبوده ومحبوبه وما يرضيه، فإذا آمن أن من صفاته (الغضب، والكره، والسخط، والمقت، والأسف، واللعن)؛ عمل بما لا يُغْضب مولاه ولا يكرهه حتى لا يسخط عليه ويمقته ثم يلعنه ويطرده من رحمته، فإذا آمن بصفات (الفرح، والبشبشة، والضحك)؛ أنس لهذا الرب الذي يفرح لعباده ويتبشبش لهم ويضحك لهم؛ ما عدمنا خيراً من ربًّ يضحك. 4 - ومنها: أنه إذا علم العبد وآمن بصفات الله من (الرحمة، والرأفة، والتَّوْب، واللطف، والعفو، والمغفرة، والستر، وإجابة الدعاء)؛ فإنه كلما وقع في ذنب؛ دعا الله أن يرحمه ويغفر له ويتوب عليه، وطمع فيما عند الله من سترٍ ولطفٍ بعباده المؤمنين، فأكسبه هذا رجعة وأوبة إلى الله كلما أذنب، ولا يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، كيف ييأس من يؤمن بصفات (الصبر، والحلم)؟! كيف ييأس من رحمة الله من علم أن الله يتصف بصفة (الكرم، والجود، والعطاء)؟!. 5 - ومنها: أن العبد الذي يعلم أن الله متصف بصفات (القهر، والغلبة، والسلطان، والقدرة، والهيمنة، والجبروت)؛ يعلم أن الله لا يعجزه شيء؛ فهو قادر على أن يخسف به الأرض، وأن يعذبه في الدنيا قبل الآخرة؛ فهو القاهر فوق عباده، وهو الغالب من غالبه، وهو المهيمن على عباده، ذو الملكوت والجبروت والسلطان القديم؛ فسبحان ربي العظيم.

6 - ومن ثمرات الإيمان بصفات الله عَزَّ وجَلَّ أن يظل العبد دائم السؤال لربه، فإن أذنب؛ سأله بصفات (الرحمة، والتَّوب، والعفو، والمغفرة) أن يرحمه ويتوب عليه ويعفو عنه ويغفر له، وإن خشي على نفسه من عدو متجهم جبار؛ سأل الله بصفات (القوة، والغلبة، والسلطان، والقهر، والجبروت)؛ رافعاً يديه إلى السماء، قائلاً: يا رب! يا ذا القوة والسلطان والقهر والجبروت! اكفنيه. فإن آمن أن الله (كفيل، حفيظ، حسيب، وكيل)؛ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وتوكل على (الواحد، الأحد، الصمد)، وعلم أن الله ذو (العزة، والشدة، والمحال، والقوة، والمنعة) مانعه من أعدائه، ولن يصلوا إليه بإذنه تعالى، فإذا أصيب بفقر؛ دعا الله بصفات (الغنى، والكرم، والجود، والعطاء)، فإذا أصيب بمرض؛ دعاه لأنه هو (الطبيب، الشافي، الكافي)، فإن مُنع الذُرِّيَّة؛ سأل الله أن يرزقه ويهبه الذرية الصالحة؛ لأنه هو (الرَّزَّاق، الوهَّاب) وهكذا فإنَّ من ثمرات العلم بصفات الله والإيمان بها دعاءه بها. 7 - ومنها: أن العبد إذا تدبر صفات الله من (العظمة، والجلال، والقوة، والجبروت، والهيمنة)؛ استصغر نفسه، وعلم حقارتها، وإذا علم أن الله مختص بصفة (الكبرياء)؛ لم يتكبَّر على أحد، ولم ينازع الله فيما خصَّ نفسه من الصفات، وإذا علم أن الله متصف بصفة (الغنى، والملك، والعطاء)؛ استشعر افتقاره إلى مولاه الغني، مالك الملك، الذي يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. 8 - ومنها: أنه إذا علم أن الله يتصف بصفة (القوة، والعزة، والغلبة)، وآمن بها؛ علم أنه إنما يكتسب قوته من قوة الله، وعزته من عزة الله؛ فلا يذل ولا يخنع لكافر، وعلم أنه إن كان مع الله؛ كان الله معه، ولا غالب لأمر الله. 9 - ومن ثمرات الإيمان بصفات الله: أن لا ينازع العبدُ اللهَ في صفة (الحكم، والألوهية، والتشريع، والتحليل، والتحريم)؛ فلا يحكم إلا بما أنزل الله، ولا يتحاكم إلا إلى ما أنزل الله. فلا يحرِّم ما أحلَّ الله، ولا يحل ما حرَّم الله. 10 - ومنها: أن صفات (الكيد، والمكر، والاستهزاء، والخداع) إذا آمن بها العبد على ما يليق بذات الله وجلاله وعظمته؛ علم أن لا أحد يستطيع أن يكيد لله أو يمكر به، وهو خير الماكرين سبحانه، كما أنه لا أحد من خلقه قادر على أن يستهزئ به أو يخدعه، لأن الله سيستهزئ به ويخادعه ومن أثر استهزاء الله بالعبد أن يغضب عليه ويمقته ويعذبه، فكان الإيمان بهذه الصفات وقاية للعبد من الوقوع في مقت الله وغضبه. 11 - ومنها: أن العبد يحرص على ألاَّ ينسى ربه ويترك ذكره، فإن الله متصف بصفة (النسيان، والترك)؛ فالله قادرٌ على أن ينساه – أي: يتركه،) نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ (، فتجده دائم التذكر لأوامره ونواهيه. 12 - ومنها أن العبد الذي يعلم أن الله متصف بصفة (السلام، والمؤمن، والصِّدق)؛ فإنه يشعر بالطمأنينة والهدوء النفسي؛ فالله هو السلام، ويحب السلام، فينشر السلام بين المؤمنين، وهو المؤمن الذي أمِنَ الخلقُ من ظلمه، وإذا اعتقد العبد أن الله متصف بصفة (الصَّدق)، وأنه وعده إن هو عمل صالحاً جنات تجري من تحتها الأنهار؛ علم أن الله صادق في وعده، لن يخلفه، فيدفعه هذا لمزيدٍ من الطاعة، طاعة عبدٍ عاملٍ يثقُ في سيِّده وأجيرٍ في مستأجره أنَّه موفيه حقَّه وزيادة.

13 - ومنها: أن صفات الله الخبرية كـ (الوجه، واليدين، والأصابع، والأنامل، والقدمين، والساق، وغيرها) تكون كالاختبار الصعب للعباد، فمن آمن بها وصدق بها على وجه يليق بذات الله عَزَّ وجَلَّ بلا تمثيل ولا تحريف ولا تكييف، وقال: كلُّ من عند ربنا، ولا فرق بين إثبات صفة العلم والحياة والقدرة وبين هذه الصفات، مَن هذا إيمانه ومعتقده؛ فقد فاز فوزاً عظيماً، ومن قدَّم عقله السقيم على النقل الصحيح، وأوَّل هذه الصفات، وجعلها من المجاز، وحرَّف فيها، وعطَّلها؛ فقد خسر خسراناً مبيناً، إذ فرَّق بين صفة وصفة، وكذَّب الله فيما وصف به نفسه، وكذَّب رسوله صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن من ثمرة الإيمان بهذه الصفات إلا أن تُدخل صاحبها في زمرة المؤمنين الموحِّدين؛ لكفى بها ثمرة، ولو لم يكن من ثمراتها إلا أنها تميِّز المؤمن الحق الموحِّد المصدِّق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبين ذاك الذي تجرَّأ عليهما، وحرَّف نصوصهما، واستدرك عليهما؛ لكفى، فكيف إذا علمت أن هناك ثمراتٍ أخرى عظيمةً للإيمان بهذه الصفات الخبرية؛ منها أنك إذا آمنت أن لله وجهاً يليق بجلاله وعظمته، وأن النظر إليه من أعظم ما ينعم الله على عبده يوم القيامة، وقد وعد به عباده الصالحين؛ سألت الله النظر إلى وجهه الكريم، فأعطاكه، وأنك إذا آمنت أن لله يداً ملأى لا يغيضها نفقة، وأن الخير بين يديه سبحانه؛ سألته مما بين يديه، وإذا علمت أن قلبك بين إصبعين من أصابع الرحمن؛ سألت الله أن يثبت قلبك على دينه000 وهكذا. 14 - ومن ثمرات الإيمان بصفات الله عَزَّ وجَلَّ: تَنْزِيه الله وتقديسه عن النقائص، ووصفه بصفات الكمال، فمن علم أن من صفاته (القُدُّوس، السُّبُّوح)؛ نَزَّه الله من كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وعلم أن الله) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ( 15 - ومنها: أن من علم أن من صفات الله (الحياة، والبقاء)؛ علم أنه يعبد إلهاً لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، فأورثه ذلك محبة وتعظيماً وإجلالاً لهذا الرب الذي هذه صفته. 16 - ومن ثمرات الإيمان بصفة (العلو، والفوقية، والاستواء على العرش، والنُّزُول، والقُرب، والدُّنُو)؛ أن العبد يعلم أن الله منزه عن الحلول بالمخلوقات، وأنه فوق كل شيء، مطَّلع على كل شيء، بائن عن خلقه، مستو على عرشه، وهو قريب من عبده بعلمه، فإذا احتاج العبد إلى ربه؛ وجده قريباً منه، فيدعوه، فيستجيب دعاءه، وينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الآخر من الليل كما يليق به سبحانه، فيقول: من يدعوني فأستجب له، فيورث ذلك حرصاً عند العبد بتفقد هذه الأوقات التي يخلو فيها مع ربه القريب منه، فهو سبحانه قريب في علوه، بعيد في دنوه. 17 - ومنها أن الإيمان بصفة (الكلام) وأن القرآن كلام الله يجعل العبد يستشعر وهو يقرأ القرآن أنه يقرأ كلام الله، فإذا قرأ: يا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؛ أحسَّ أن الله يكلمه ويتحدث إليه، فيطير قلبه وجلاً، وأنه إذا آمن بهذه الصفة، وقرأ في الحديث الصحيح أن الله سيكلمه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان؛ استحى أن يعصي الله في الدنيا، وأعد لذلك الحساب والسؤال جواباً. وهكذا؛ فما من صفة لله تعالى؛ إلا وللإيمان بها ثمرات عظيمة، وآثار كبيرة مترتبة على ذلك الإيمان؛ فما أعظم نعم الله على أهل السنة والجماعة الذين آمنوا بكل ذلك على الوجه الذي يليق بالله تعالى!. صفات الله الواردة في الكتاب والسنة لعلوي بن عبد القادر السقاف – ص 30

أولا: الآثار الإيمانية لصفة الفرح

أولا: الآثار الإيمانية لصفة الفرح 1 - كمال رحمته جل وعلا ورأفته بعباده؛ حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة، هارب من الله، ثم وقف ورجع إلى الله، يفرح الله به هذا الفرح العظيم. (وهذا أمر عظيم إلى الغاية، فإذا كانت التوبة بهذه المنزلة، كيف لا يكون صاحبها معظماً عند الله؟!) (¬1). ويفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كلما فعلنا ذنباً؛ تبنا إلى الله. فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له؛ لا شك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة (¬2). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي – ص: 205 ¬

(¬1) ((شرح حديث أبي بكر)) (ص: 53)، لشيخ الإسلام رحمه الله. (¬2) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 405).

ثانيا: الآثار الإيمانية لصفة المعية

ثانيا: الآثار الإيمانية لصفة المعية إذا عرف العبد أن الله معه؛ فلا شك أنه يراقب الله، يعرف أن الله مطلع عليه، وأنه لا تخفى عليه منه خافية. فإذا آمن بأن الله معه، أي عالم به ومطلع عليه ورقيب على أعماله؛ (فإن ذلك يحمله على مراقبة الله، وعلى خوفه، وعدم الخروج عن طاعته، وعدم ارتكاب شيء من معاصيه. تقول له نفسه وقلبه: كيف تتجرأ على مخالفته وهو مراقب لك ولأعمالك؟ ويحمله هذا على إصلاح الأعمال وعدم إفسادها، وعلى الإكثار من الحسنات والبعد عن السيئات، هذه فائدة الإيمان بالمعية) (¬1) العامة. عن عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده فإنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه ... وزكى عبد نفسه)) فقال رجل: وما تزكية المرء نفسه يا رسول الله؟ قال: ((يعلم أن الله معه حيث ما كان)) (¬2). فحصلت التزكية بالإيمان بهذه المعية، وأي تزكية أعظم منها! وأما المعية الخاصة، فإن الإنسان إذا عرف أن هذا العمل يحظى أهله بمعية الله، حرص على أن يكون من أهله، فيحرص على أن يكون من أهل التقوى والإحسان والصبر والإيمان، ويكثر من الذكر والدعاء. (وأي فضيلة تداني فضيلة من كان الله معه! وأي مزية توازي مزية من هو من أهل هذه الطبقة الشريفة، والمنزلة السامية؟!) (¬3). فمتى حظي العبد بمعية الله (هانت عليه المشاق، وانقلبت المخاوف في حقه أماناً، فبالله يهون كل صعب، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد، وبالله تزول الهموم والغموم والأحزان؛ فلا هم مع الله، ولا غم ولا حزن) (¬4). وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأي شيء يفرح (¬5). وإذا كان الله معك، فمن تخاف؟ وإذا كان عليك، فمن ترجو؟ (¬6) واعلم بأن معية الله (من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده، ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال، هما السبب الذي تنال به، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال، عليم بتلك الأفعال، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة، ويشكرها، ويعرف قدرها، ويحب المنعم عليه، فتصلح عنده هذه النعمة، ويصلح بها كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: 53]، فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه، فليقرأ على نفسه: أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (¬7). لمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون (¬8). الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي– ص: 84 ¬

(¬1) ((التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية)) (1/ 242). (¬2) رواه أبو داود (1582) مختصرا والبيهقي (4/ 96) والطبراني في المعجم الصغير (555) قال الألباني في ((صحيح أبي داود)) (1580): صحيح. (¬3) ((الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني)) (3/ 1360). (¬4) ((الداء والدواء)) (ص: 288). (¬5) ((طريق الهجرتين)) (ص: 280). (¬6) ((الدرر السنية)) (2/ 168). (¬7) ((زاد المعاد)) (3/ 17). (¬8) ((طريق الهجرتين)) (ص: 507).

ثالثا: الآثار الإيمانية لصفة الضحك

ثالثا: الآثار الإيمانية لصفة الضحك 1 - إن المؤمن يقابل صفة الضحك بالقبول، والرضى والتسليم، فيستنير بها قلبه، ويتسع لها صدره، ويمتلئ بها سروراً ومحبة، ويعلم أنها تعريف من تعريفات الله تعالى، تعرف بها إليه على لسان رسوله، فأنزلها من قلبه منزلة الغذاء، أعظم ما كان إليه فاقة، ومنزلة الشفاء، أشد ما كان إليه حاجة؛ فاشتد بها فرحه، وعظم بها غناه، وقويت بها معرفته، واطمأنت إليها نفسه، وسكن إليها قلبه (¬1). 2 - إننا إذا علمنا أن الله عز وجل يضحك؛ فإننا نرجو منه كل خير. ولهذا قال أبو رزين العقيلي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أويضحك ربنا؟ قال: ((نعم)). قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً (¬2). إذا علمنا ذلك؛ انفتح لنا الأمل في كل خير. وتفاءلنا أعظم تفاؤل، واستبشرنا خيراً. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي– ص: 312 ¬

(¬1) انظر: ((الكافية الشافية)) (ص: 32 - 33). (¬2) رواه ابن ماجه (181) وقال الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (1/ 78): صحيح.

رابعا: الآثار الإيمانية لصفة وجه الله تعالى

رابعا: الآثار الإيمانية لصفة وجه الله تعالى أ- قصد وجه الله بصالح الأعمال: قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف: 28] أي: يقصدون وجه الله بالرضا، أي رضا وجهه سبحانه، وقال سبحانه: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان: 9]. وقال تعالى: وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل: 19 - 21]. فجعل غاية أعمال الأبرار والمقربين والمحبين إرادة وجهه (¬1). أي: يقصدون بأعمالهم وجه الله، بدخولهم الجنة ورؤيته فيها. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له)) فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له)) ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه)) (¬2). وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)) (¬3). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من جرعة أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله)) (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) (¬5) -يعني: ريحها-. وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) (¬6). وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... إنك لن تخلف، فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله تعالى، إلا ازددت به خيراً، ودرجة ورفعة)) (¬7). وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أسندت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري فقال: ((من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة)) (¬8). ومتى أنفق العبد ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله، وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله، وقصده ابتغاء وجه الله. ¬

(¬1) ((تهذيب المدارج)) (ص: 819). (¬2) رواه النسائي (3140) وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 40): إسناده جيد وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 81): إسناده جيد. (¬3) رواه البخاري (450) ومسلم (533). (¬4) رواه ابن ماجه (4329) والإمام أحمد13/ 286 قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 386) رواته محتج بهم في الصحيح، وقال الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (3396): صحيح. (¬5) رواه أبو داود (3664) وابن ماجه (252) وسكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح]. وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 165): رجاله رجال الصحيحين. (¬6) رواه البخاري (4501) ومسلم (33). (¬7) رواه البخاري (4409) ومسلم (1628). (¬8) رواه الإمام أحمد 5/ 391 وابن أبي شيبة كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6125/ 1) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (651) قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 108) إسناده لا بأس به. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 327): رجاله موثقون.

فلهذا ينبغي للعبد، أن يقصد وجه الله تعالى، ويخلص العمل لله، في كل وقت، وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص، فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت، واقترن بها، ما يمكن من العمل (¬1). ب- الاستعاذة بوجهه سبحانه: عن جابر رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ [الأنعام: 65] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك)). قال: أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: ((أعوذ بوجهك)). قال: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام: 65]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا أهون أو هذا أيسر)) (¬2). عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)) قال: ((فإذا قلت ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)) (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: فتأمل كيف فرق في الاستعاذة بين استعاذته بالذات وبين استعاذته بالوجه الكريم، وهذا صريح في إبطال قول من قال: إنه الذات نفسها (¬4). ج- إجابة من سألك بوجه الله: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ملعون من سأل بوجه الله، ومعلون من سئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هجرا)) (¬5). قوله: (هجرا) الهجر: الكلام الباطل (¬6). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من استعاذ بالله؛ فأعيذوه، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه)) (¬7). قال العلامة الألباني رحمه الله: ووجوب الإعطاء إنما هو إذا كان المسؤول قادراً على الإعطاء، ولا يلحقه ضرر به أو بأهله، وإلا فلا يجب عليه، والله أعلم (¬8). ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 254). (¬2) رواه البخاري (4628). (¬3) رواه أبو داود (466) وسكت عنه [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح] وقال النووي في ((الأذكار)) (46): حسن. وقال الألباني في ((صحيح أبي داود)) (466): صحيح. (¬4) ((مختصر الصواعق)) (3/ 1010). (¬5) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (22/ 377) من حديث أبي عبيد مولى رفاعة بن رافع قال ابن منده في ((الرد على الجهمية)) (98) لا يثبت من جهة الرواة. وقال ابن عبد البر في الاستغناء (2/ 1304): أبو عبيد ليست له صحبة [وفيه] أبو معقل قال أبو زرعة: لا يسمى. (¬6) ((المجموع)) (5/ 310)، للإمام النووي رحمه الله. (¬7) رواه أبو داود (5108) والإمام أحمد1/ 249 سكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح] وقال الألباني في ((صحيح أبي داود)) (5108): حسن صحيح. (¬8) ((السلسلة الصحيحة)) (1/ 513).

فلو سألك سائل فقال: أسألك بوجه الله أن تعطيني كذا وكذا، أعطه، إلا إذا سألك شيئاً محرماً، فلا تعطه، مثلاً أن يسألك يقول لك: أسألك بوجه الله أن تخبرني ماذا تصنع مع أهلك مثلا، هذا لا يجوز أن تخبره، بل وجهه وانصحه وقل: هذا تدخل فيما لا يعنيك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) (¬1). وكذلك لو سأل محرماً ولو سألك بوجه الله لا تعطه، لو قال: أسألك بوجه الله أن تعطيني كذا وكذا ليشتري به دخاناً، فلا تعطه، لأنه سألك ليستعين به على شيء محرم، فالمهم أن من سألك بوجه الله فأعطه ما لم يكن على شيء محرم. وكذلك ما لم يكن عليك ضرر، فإن كان عليك ضرر فلا تعطه (¬2)، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) (¬3). د- الطمع في رؤية وجه الله: عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... وأسألك لذة النظر إلى وجهك)) (¬4). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) (¬5). ومن أعظم نعيم الجنة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه. وهل فوق نعيم قرة العين برؤية الله، الذي لا شيء أجل منه، ولا أكمل ولا أجمل، قرة عين البتة؟! وهذا –والله- هو العلم الذي شمر إليه المحبون، واللواء الذي أمه العارفون، وهو روح مسمى (الجنة) وحياتها، وبه طابت الجنة، وعليه قامت. الأسماء الحسنى والصفات العلى لعبد الهادي بن حسن وهبي– ص: 330 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3967). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5911). (¬2) انظر: ((شرح رياض الصالحين)) (4/ 365)، للعلامة ابن عثيمين رحمه الله. (¬3) رواه ابن ماجه (1909)، وأحمد (5/ 326) (22830)، والبيهقي (6/ 156) (12224). من حديث عبادة بن الصامت. قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (3/ 48): هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع. والحديث صححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). والحديث مشهور روي من طرق عن عبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة رضي الله عنهم جميعاً. (¬4) رواه النسائي (1305) وأشار ابن خزيمة في مقدمة كتاب التوحيد (1/ 29) أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1304). (¬5) رواه البخاري (4878)، ومسلم (180).

الفصل الخامس: مسالك المبتدعة في باب الأسماء والصفات والرد عليها

تمهيد: شغل مبحث (الأسماء والصفات) حيزاً كبيراً من التراث العقدي لأهل القبلة، وتعددت مدارسه، وتشعبت اتجاهاته. ولم يكن الأمر كذلك في صدر الإسلام إبان عهد النبوة، وعهد الخلفاء الراشدين، ولكن الاحتكاك بثقافات الأمم المغلوبة والمجاورة، وحركة الترجمة التي نشطت في عهد الخليفة العباسي المأمون، والاختلافات السياسية، وغيرها من الأسباب أفرزت توجهات عقدية متباينة، لحقت أخص جوانب العقيدة الإسلامية، إلا وهو الإيمان بأسماء الله وصفاته ... قال المقريزي – رحمه الله - في كلامه على افتراق الناس في نصوص الصفات: (فصار للمسلمين في ذلك خمسة أقوال: أحدها: اعتقاد ما يفهم مثله من اللغة. وثانيها: السكوت عنها مطلقاً، وثالثها: السكوت عنها بعد نفي إرادة الظاهر، ورابعها: حملها على المجاز، وخامسها: حملها على الاشتراك). وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم الواسطي الشافعي: (وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك: من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها، أو الوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة: قسمان يقولان: تجري على ظواهرها، وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها، وقسمان: يسكتون. أما الأولون فقسمان: أحدهما: من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين. فهؤلاء (المشبهة)، ومذهبهم باطل، أنكره السلف، وإليهم يتوجه الرد بالحق. الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير، والرب والإله، والموجود والذات ونحو ذلك؛ على ظاهرها اللائق بجلال الله؛ فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث، أو عرض قائم به. فالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضا، والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض؛ والوجه، واليد، والعين، في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرة، وكلاماً ومشيئة وإن لم يكن ذلك عرضاً؛ يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً، يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين. وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها – أعني الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية؛ بل صفاته إما سلبية, وإما إضافية, وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات (وهي الصفات السبعة, أو الثمانية, أو الخمسة عشر) أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث، على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين – فهؤلاء قسمان: قسم يتأولونها ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه .. إلى غير ذلك من تأويلات المتكلمين. وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه. وأما القسمان الواقفان: فقوم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن، وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات. فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها). ومن خلال المقارنة بين هذه النصوص نجد تطابقاً في تحديد الاتجاهات وإن كان الأخير منها أتم في القسمة، حيث فصل ما أجمله غيره. والذي يترشح منها ما يلي:

1 - اتجاه (التمثيل): وهو ما عناه المقريزي بقوله: (ما يفهم مثله من اللغة)، وصرح به شيخ الإسلام بقوله: (من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء: المشبهة). 2 - اتجاه (النفي والتعطيل والتحريف): وهو القسم الرابع عند المقريزي، أي (حملها على المجاز)، وما أشار إليه الواسطي بقوله: (تأويل الصفات وتحريفها) وهو القسم الثالث عند شيخ الإسلام الذين (يتأولونها ويعينون المراد) ممن ينفون نصوص الصفات عن ظاهرها نفياً كلياً أو جزئياً. 3 - اتجاه التوقف والسكوت: وهو القسم الثاني عند المقريزي: (السكوت عنها مطلقاً)، وما عبر عنه الواسطي بقوله: (أو الوقوف فيها). وهو الذي جعله شيخ الإسلام قسمين ووصفه مرة بالتوقف ومرة بالسكوت. 4 - اتجاه التفويض: وهو القسم الثالث عند المقريزي حيث قال: (السكوت عنها بعد نفي إرادة الظاهر) ووصفه الواسطي (بالإمرار)، وأوضحه شيخ الإسلام بقوله: (وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه). 5 - اتجاه الإثبات: ولعله ما أراده المقريزي في القسم الخامس من (حملها على الاشتراك)، ونص عليه الواسطي بقوله: (إثباتها بلا تأويل, ولا تشبيه, ولا تمثيل)، وأوضحه جلياً شيخ الإسلام بقوله: (من يجريها على ظاهرها اللائق بالله، كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير، والرب والإله، والموجود والذات ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بجلال الله .. الخ)، مما يفسر كلام المقريزي في معنى الاشتراك في المعنى الكلي دون الكنه والحقيقة. هذا مجمل الاتجاهات السائدة لدى أهل القبلة حيال نصوص الصفات .. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي - بتصرف -74

المبحث الأول: التمثيل

المطلب الأول: تعريف التمثيل التمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق، لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلا، لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا فإن قرنت بمماثل، صار تمثيلاً، مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم، لأني ذكرت شيئاً مماثلا لشيء وعرفت هذا القلم بذكر مماثله شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 102

المطلب الثاني: عقيدة أهل السنة هي إثبات الصفات دون مماثلة

المطلب الثاني: عقيدة أهل السنة هي إثبات الصفات دون مماثلة أهل السنة يتبرءون من تمثيل الله عز وجل بخلقه، لا في ذاته ولا في صفاته وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبداً شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 102

المطلب الثالث: الأدلة على انتفاء التمثيل في باب الصفات

المطلب الثالث: الأدلة على انتفاء التمثيل في باب الصفات • 1 - : الأدلة السمعية. • 2 - : الأدلة العقلية. • 3 - الأدلة الفطرية.

1 - : الأدلة السمعية

1 - : الأدلة السمعية تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب - فمن الخبر قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء [الشورى: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل. وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر، لأنه استفهام بمعنى النفي. وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية. وأما الطلب، فقال الله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22] أي: نظراء مماثلين وقال فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَال [النحل: 74]. فمن مثل الله بخلقه، فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: من شبه الله بخلقه، فقد كفر، لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب.

2 - : الأدلة العقلية

2 - : الأدلة العقلية من وجوه: أولاً: أن نقول لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافياً، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان. ثانياً: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل. وأنزل الله قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1]، تقول عائشة: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة، وإنه ليخفى علي بعض حديثها) (¬1)، والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا. ثالثاً: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُه [الزمر: 67]، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فإذا كان مبايناً للخلق في ذاته، فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضاً مبايناً للخلق في صفاته عز وجل، ولا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق رابعاً: نقول: إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، يختلف الناس في صفاتهم: هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس؟ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أو لي يداً كيد الذرة، أو لي يداً كيد الهر، فعندنا الآن إنسان وجمل وذرة وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول: إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق مع فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزاً فقط بل هو واجب؛ فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم مختصرا (7385)، والنسائي (6/ 168)، وابن ماجه (188)، وأحمد (6/ 46) (24241). وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163) والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. وقال ابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (1/ 280): إسناده ثابت.

3 - الأدلة الفطرية

3 - الأدلة الفطرية ربما نقول أيضا هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة؛ ما ذهب يدعو الخالق فتبين الآن أن التمثيل منتفٍ سمعاً وعقلاً وفطرة شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 103

المطلب الرابع: شبهات والرد عليها

المطلب الرابع: شبهات والرد عليها فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بأحاديث تشتبه علينا؛ هل هي تمثيل أو غير تمثيل؟ ونحن نضعها بين أيديكم: 1 - قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) (¬1)؛ فقال: (كما) والكاف للتشبيه، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله؛ فأجيبوا عن هذا الحديث؟ نقول نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين: الجواب الأول مجمل والثاني مفصل فالأول المجمل: أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبداً؛ لأن الكل حق، والحق لا يتعارض والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]؛ فإن وقع ما يوهم التعارض في فهمك؛ فاعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك؛ فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة؛ فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت؛ لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية؛ بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق؛ كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم؛ لأن هذه الطريق طريق الراسخين في العلم؛ قال الله تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران:7]، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكماً وأما الجواب المفصل؛ فإنا نجيب عن كل نص بعينه فنقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته))؛ ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية؛ (سترون كما ترون)؛ الكاف في (كما ترون) داخلة على مصدر مؤول؛ لأن (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله: "لا" تضامون في رؤيته" أو: " لا تضارون في رؤيته" فزال الإشكال الآن 2 - قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الله خلق آدم على صورته)) (¬2) والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات؛ فالصورة مطابقة للصورة، والقائل: " إن الله خلق آدم على صورته": الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فإن يسر الله لك الجمع؛ فاجمع، وإن لم يتيسر؛ فقل: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له؛ بهذا تسلم أمام الله عز وجل ¬

(¬1) رواه البخاري (554)، ومسلم (633). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6227) بدون (إن)، ومسلم (2612). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً؛ لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ؛ فأقول: هذا نفي للمماثلة، وهذا إثبات للصورة؛ فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته؛ فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع وأما الجواب المفصل؛ فنقول: إن الذي قال ((إن الله خلق آدم على صورته)) رسول الذي قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: الآية11] والرسول لا يمكن أن ينطق بما يكذب المرسل والذي قال ((خلق آدم على صورته)): هو الذي قال ((إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر)) (¬1) فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمال واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟! فإن قلت بالأول؛ فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه؛ فقوله:" على صورته"؛ مثل قوله عز وجل في آدم: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: من الآية29]، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف؛ كما نقول: عباد الله؛ يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصديق والنبي لكننا لو قلنا: محمد عبد الله؛ هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة فقوله: ((خلق آدم على صورته))؛ يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها؛ كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [الأعراف: الآية11]، والمصور آدم إذاً؛ فآدم عل صورة الله؛ يعني: أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]؛ فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف؛ كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك؛ لا تضرب الوجه؛ فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك؛ فتعيبه معنىً؛ فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً؛ لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير؟ نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله؛ لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه؛ فهو من المخلوقات؛ فحينئذ يزول الإشكال ولكن إذا قال قائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية وإمكاناً في العقل؛ فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها؟ ¬

(¬1) رواه البخاري (3246)، ومسلم (2834). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قلنا: إن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان؛ فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة؛ كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة؛ من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل نسمع كثيراً من الكتب التي نقرأها يقولون: تشبيه؛ يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل؛ فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟ نقول بالتمثيل أولى أولاً: لأن القرآن عبر به: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة: الآية22] وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن؛ فهو أولى من غيره؛ لأننا لا نجد أفصح من القرآن ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل وهكذا في كل مكان؛ فإن موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب ثانياً: أن التشبيه عند بعد الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة؛ فإذا قلنا: من غير تشبيه وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات؛ صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً فلهذا كان العدول عنه أولى ثالثاً: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح؛ لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً؛ لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما مثلاً: الوجود؛ يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك نوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين؛ وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن وكذلك السمع؛ فيه اشتراك؛ الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن أصل وجود السمع مشترك فإذا قلنا: من غير تشبيه ونفينا مطلق التشبيه؛ صار في هذا إشكال وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه 3 - وفي قوله: َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11] رد صريح على الممثلة الذين يثبتون أن الله سبحانه وتعالى له مثيل وحجة هؤلاء يقولون: إن القرآن عربي، هذا كان عربياً؛ فقد خاطبنا الله تعالى بما نفهم، ولا يمكن أن يخاطبنا بما لا نفهم، وقد خاطبنا الله تعالى، فقال: إن له وجهاً وإن له عيناً، وإن له يدين وما أشبه ذلك ونحن لا نعقل بمقتضى اللغة العربية من هذه الأشياء إلا مثل ما نشاهد، وعلى هذا؛ فيجب أن يكون مدلول هذه الكلمات مماثلاً لمدلولها بالنسبة للمخلوقات: يد ويد، وعين وعين، ووجه ووجه وهكذا؛ فنحن إنما قلنا بذلك لأن لدينا دليلاً لا شك أن هذه الحجة واهية يوهيها ما سبق من باين أن الله ليس له مثيل ونقول: إن الله خاطبنا بما خاطبنا به من صفاته، لكننا نعلم علم اليقين أن الصفة بحسب الموصوف ودليل هذا في الشاهد؛ فإنه يقال للجمل يد وللذرة يد، ولا أحد يفهم من اليد التي أضفناها إلى الجمل أنها مثل اليد التي أضفناها إلى الذرة! هذا وهو في المخلوقات؛ فكيف إذا كان ذلك من أوصاف الخالق؟! فإن التباين يكون أظهر وأجلى وعلى هذا؛ فيكون قول هؤلاء الممثلة مردوداً بالعقل كما أنه مردود بالسمع قال الله تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى السمع والبصر؛ لبيان كماله، ونقص الأصنام التي تُعبد من دونه؛ فالأصنام التي تعبد من دون الله تعالى لا يسمعون، ولو سمعوا؛ ما استجابوا، ولا يبصرون؛ كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20 - 21]؛ فهم ليس لهم سمع ولا عقل ولا بصر ولو فرض أن لهم ذلك؛ ما استجابوا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5] فأهل السنة والجماعة يؤمنون بانتفاء المماثلة عن الله؛ لأنها عيب ويثبتون له السمع والبصر؛ لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 105

المطلب الخامس: معنى قول أهل السنة: (من غير تكييف ولا تمثيل)

المطلب الخامس: معنى قول أهل السنة: (من غير تكييف ولا تمثيل) هذه العبارة فيها تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المشبهة. (فالتكييف) هو: جعل الشيء على حقيقة معينة من غير أن يقيدها بمماثل (¬1). مثال ذلك: قول الهشامية عن الله: (طوله كعرضه) (¬2). أو قولهم: (طوله طول سبعة أشبار بشبر نفسه). وعلى هذا التعريف يكون هناك فرق بين التكييف والتمثيل. فالتكييف: ليس فيه تقيد بمماثل. وأما التمثيل: فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين. ولعل الصواب أن التكييف أعم من التمثيل. فكل تمثيل تكييف؛ لأن من مثل صفات الخالق بصفات المخلوقين فقد كيف تلك الصفة أي جعل لها حقيقة معينة مشاهدة. وليس كل تكييف تمثيلاً؛ لأن من التكييف ما ليس فيه تمثيل صفات المخلوقين، كقولهم: طوله كعرضه. ومعنى قول أهل السنة: (من غير تكييف) أي من غير كيف يعقله البشر، وليس المراد من قولهم: (من غير تكييف) أنهم ينفون الكيف مطلقاً؛ فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف؛ إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه (¬3). فمن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفاته عز وجل؛ لأنه تعالى أخبرنا عن الصفات ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تعمقنا في أمر الكيفية قفواً لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به. وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) قاعدة ساروا عليها في هذا الباب. (ولا تمثيل): المثيل لغة: هو الند والنظير. والتمثيل: هو الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات المخلوقين. وهو قول الممثل: له يد كيدي, وسمع كسمعي، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. والتمثيل والتشبيه هنا بمعنى واحد، وإن كان هناك فرق بينهما في أصل اللغة (¬4). فالمماثلة: هي مساواة الشيء لغيره من كل وجه. والمشابهة: هي مساواة الشيء لغيره في أكثر الوجوه. ولكن التعبير هنا بنفي (التمثيل) أولى لموافقة لفظ القرآن. في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورى: 11]. وقوله تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ [النحل: 74]. وقد وقع في التمثيل والتكييف (المشبهة) الذين بالغوا في إثبات الصفات إلى درجة تشبيه الخالق بالمخلوق. وقد وقع في التمثيل كل من: 1 - الكرامية: أتباع محمد بن كرام السجستاني. وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة، وأصولها ستة هي: 1 - العابدية. 2 - النونية. 3 - الزرينية. 4 - الإسحاقية. 5 - الواحدية. 6 - الهيصمية. 2 - الهشامية الرافضية الإمامية. وهم أصحاب: هشام بن الحكم الرافضي. وأحياناً تنسب إلى: هشام بن سالم الجواليقي، وكلاهما من الإمامية المشبهة، والجدير بالذكر أن الرافضة الإمامية كان ينتشر فيهم التشبيه وهذا في أوائلهم (¬5). وأما الرافضة الإمامية في الوقت الراهن فعلى عقيدة المعتزلة في مسائل الصفات، وكذلك (الزيدية) من الشيعة. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 64 ¬

(¬1) ((القواعد المثلى)) (ص: 27). (¬2) ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 31). (¬3) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 21). (¬4) ((القواعد المثلى)) (ص: 27). (¬5) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 65).

المطلب السادس: الفرق بين التمثيل والتكييف

المطلب السادس: الفرق بين التمثيل والتكييف الفرق بينهما من وجهين: الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل؛ فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذكر الصفة غير مقيدة بمماثل؛ مثل أن تقول: كيفية يد فلان كذا وكذا وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك كما في قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُن [الطلاق: 12]؛ أي: في العدد بل يؤمنون بأن الله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] أي: يقر أهل السنة والجماعة بذلك إقراراً وتصديقاً بأن الله ليس كمثله شيء؛ كما قال عن نفسه: َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11]؛ فهنا نفى المماثلة، ثم أثبت السمع والبصر فنفى العيب، ثم أثبت الكمال؛ لأن نفي العيب قبل إثبات الكمال أحسن، ولهذا يقال التخلية قبل التحلية فنفي العيوب يبدأ به أولاً ثم يذكر إثبات الكمال وكلمة (شيء) نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، ليس شيء مثله أبداً عز وجل أي مخلوق وإن عظم؛ فليس مماثلاً لله عز وجل؛ لأن مماثلة الناقص نقص، بل إن طلب المفاضلة بين الناقص والكامل تجعله ناقصاً؛ كما قيل: ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا فهنا لو قلنا: إن لله مثيلاً؛ لزم من ذلك تنقص الله عز وجل؛ فلهذا نقول: نفى الله عن نفسه مماثلة المخلوقين؛ لأن مماثلة المخلوقين نقص وعيب؛ لأن المخلوق ناقص وتمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصا، بل ذكر المفاضلة بينهما يجعله ناقصاً؛ إلا إذا كان في مقام التحدي؛ كما في قوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 59]، وقوله: قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ [البقرة: 140] شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 112

المبحث الثاني: التعطيل

المسألة الأولى: تعريف التعطيل لغةً التعطيل لغة مأخوذ من مادة (عطل): قال ابن فارس: (عطل) العين والطاء واللام أصل صحيح واحد يدل على خلو وفراغ؛ تقول عطلت الدار، ودار معطلة. ومتى تركت الإبل بلا راع فقد عطلت، وكذلك البئر إذا لم تورد ولم يستق منها. قال الله تبارك وتعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ [الحج: 45] وقال تعالى: وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ [التَّكوير: 4]، وكل شيء خلا من حافظ فقد عطل، من ذلك تعطيل الثغور وما أشبهها، ومن هذا الباب العَطَل وهو العُطُول، يقال امرأة عاطل، إذا كانت لا حلي لها، والجمع عواطل، وقوس عُطُلٌ: لا وتر عليها، وخيل أعطال: لا قلائد لها (¬1). وقال الخليل بن أحمد: (امرأة عاطل بغير هاء: لا حلي عليها وقوس عُطُل: لا وتر عليها، والأعطال من الخيل التي لا أرسان عليها، وإذا ترك الثغر بلا حام يحميه فقد عطل، والمواشي إذا أهملت بلا راع فقد عطلت، وكذلك الرعية إذا لم يكن لها وال يسوسها فهم معطلون، وقد عطلوا: أي أهملوا، وبئر معطلة لا يستقى منها ولا ينتفع بمائها، وتعطيل الحدود ألا تقام على من وجبت عليه، وعطلت الغلات والمزارع إذا لم تعمر ولم تحرث، وسمعت العرب تقول فلان ذو عطلة إذا لم تكن له صنعة يمارسها، ودلو عَطِلّة إذا تَقَطع وذَمُها فتعطلت من الاستقاء بها) (¬2). وقال ابن سيده: (التعطيل: التَّفريغ، وعطّل الدار: أخلاها، وكل ما ترك ضياعاً مُعَطَّلٌ ومُعْطَل) (¬3). فمن خلال هذه النقول عن بعض كبار أئمة اللغة يتضح لك أن مدار كلمة التعطيل في اللغة على الخلو والفراغ والترك، وهذا ما فسر به بعض السلف قوله تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ. قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: (التي تركت) (¬4). وقال قتادة: (أعطلها أهلها، وتركوها) (¬5). وكذا قوله تعالى: وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ قال أبي بن كعب: (إذا أهملها أهلها) (¬6)، وقال مجاهد: (سيبت وتركت) (¬7). وهذه المعاني اللغوية للتعطيل هي المستعملة في الاصطلاح. مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 16 ¬

(¬1) ((معجم مقاييس اللغة)) (4/ 351). (¬2) ((تهذيب اللغة)) (2/ 165). (¬3) ((المحكم)) (1/ 338، 339). (¬4) ((تفسير الطبري)) (17/ 180). (¬5) ((تفسير الطبري)) (17/ 180). (¬6) ((تفسير الطبري)) (30/ 66). (¬7) ((تفسير الطبري)) (30/ 66).

المسألة الثانية: تعريف التعطيل شرعا

المسألة الثانية: تعريف التعطيل شرعاً يختلف تعريف التعطيل باختلاف صوره فهناك: 1 - التعطيل المحض أو الكلي: وهو إنكار الخالق, وإنكار كلامه ودينه، وإنكار عبادته وشرائعه. قال ابن القيم: (وأهل التعطيل المحض عطلوا الشرائع, وعطلوا المصنوع عن الصانع, وعطلوا الصانع عن صفات كماله، وعطلوا العالم عن الحق الذي خلق له وبه، فعطلوه عن مبدئه ومعاده وعن فاعله وغايته) (¬1). وأهل هذا التعطيل هم الملاحدة الدهرية الطبائعية الذين ينكرون ما سوى هذا الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه، وهو وجود الأفلاك وما فيها (¬2)، وقالوا: (إن العالم دائم لم يزل ولا يزال، ولا يتغير ولا يضمحل، وإن الأشياء ليس لها أول البتة) (¬3). 2 - أما تعطيل الأسماء والصفات: فهو نفي الصفات الإلهية عن الله وإنكار قيامها بذاته أو إنكار بعضها (¬4). أو: نفي الأسماء والصفات أو بعضها. فتوحيد الأسماء والصفات له ضدان هما: 1 - التعطيل. 2 - التمثيل. فمن نفى صفات الرب عز وجل وعطلها؛ فقد كذب تعطيله توحيده، ومن شبهه بخلقه ومثله بهم؛ فقد كذب تشبيهه وتمثيله توحيده (¬5). والتعطيل في هذا الباب على قسمين: القسم الأول: التعطيل المحض التام أو الكلي، وهو الذي عليه الجهمية والفلاسفة من إنكار جميع الأسماء والصفات. والقسم الثاني: التعطيل الجزئي، وهو نوعان: النوع الأول: إثبات الأسماء ونفي الصفات وهو الذي عليه المعتزلة ومن وافقهم. النوع الثاني: نفي بعض الصفات دون بعض وهو الذي عليه الكلابية والأشاعرة والماتريدية. والتعطيل هنا في هذا الباب يدخل فيه تعطيل الباري سبحانه وتعالى عن أسمائه وصفاته. ويدخل فيه أيضاً تعطيل نصوص الأسماء والصفات الذي هو إنكار حقائقها وما دلت عليه وما تضمنته من المعاني. 3 - تعطيل النبوات: وهو إنكار النبوات، كما هو حال البراهمة القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع ولكنهم ينكرون النبوات أصلاً. فالخلاف مع الخارجين عن الملة على ثلاثة أضرب: 1 - الخلاف مع المنكرين للصانع والقائلين بقدم العالم. 2 - وخلاف مع القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع المنكرين للنبوات أصلاً كالبراهمة. 3 - خلاف مع القائلين ببعض النبوات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم (¬6). قال ابن حزم: (ذهبت البراهمة وهم قبيلة بالهند فيهم أشراف الهند وهم يقولون بالتوحيد على نحو قولنا إلا أنهم أنكروا النبوات) (¬7). مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 17 ¬

(¬1) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 268). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 168). (¬3) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 256). (¬4) ((الكواشف الجلية عن معاني الواسطية)) (ص: 87). (¬5) ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص: 36). (¬6) ((نقض تأسيس الجهمية)) (1/ 140). (¬7) ((الفصل)) (1/ 69).

المطلب الثاني: عقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التعطيل

المطلب الثاني: عقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التعطيل فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً فإن قلت: ما الفرق بين التعطيل والتحريف؟ قلنا: التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول، فمثلاً: إذا قال قائل: معنى قوله تعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان [المائدة: 64]، أي بل قوتاه هذا محرف للدليل، ومعطل للمراد الصحيح، لأن المراد اليد الحقيقية، فقد عطل المعنى المراد، وأثبت معنى غير المراد وإذا قال: بل يداه مبسوطتان، لا أدري! أفوض الأمر إلى الله، لا أثبت اليد الحقيقية، ولا اليد المحرف إليها اللفظ نقول: هذا معطل، وليس بمحرف، لأنه لم يغير معنى اللفظ، ولم يفسره بغير مراده، لكن عطل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل أهل السنة والجماعة يتبرءون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: بَلْ يَدَاهُ، أي: يداه الحقيقيتان مَبْسُوطَتَان، وهما غير القوة والنعمة فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 91

المطلب الثالث: أنواع التعطيل في توحيد الله

المطلب الثالث: أنواع التعطيل في توحيد الله ينقسم التعطيل في باب التوحيد إلى ثلاثة أقسام هي: 1 - التعطيل في جانب الربوبية. 2 - التعطيل في جانب الألوهية. 3 - التعطيل في جانب الأسماء والصفات. فالتوحيد كما هو معلوم ضده الشرك، والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل, وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته ولكنه عطل حق التوحيد، وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل (¬1). أما القسم الأول: فهو تعطيل جانب الربوبية: والمقصود به: إنكار وجود الخالق سبحانه وتعالى، ومن صور هذا القسم وأمثلته: 1 - شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وإنه لم يكن معدوماً أصلاً بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس (¬2). 2 - شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ومخلوق، ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه (¬3). 3 - شرك فرعون إذ قال: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ [الشعراء: 23] وقال تعالى مخبراً عنه أنه قال لهامان: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر: 37]. القسم الثاني: التعطيل في جانب الألوهية: قال ابن القيم في تعريفه هو: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومن صوره: ما يفعله بعض غلاة المتصوفة من إسقاط العبادات عنهم وعن أتباعهم، وزعمهم أن الكمال في فناء العبد عن حظوظه – أي الفناء في توحيد الربوبية – حيث يعلنون أن العارف الذي يشهد هذا المقام (لا يستحسن حسنة, ولا يستقبح سيئة) ويجعلون هذا غاية العرفان (¬4). القسم الثالث: التعطيل في جانب الأسماء والصفات: وهو: نفي أسماء الله وصفاته أو بعضها. ومن صوره: ما يعتقده غلاة الجهمية والقرامطة الذين لم يثبتوا لله أسماً ولا صفة، فعطلوا أسماء الرب تعالى, وأوصافه, وأفعاله، بل جعلوا المخلوق أكمل منه إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها (¬5). مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 21 ¬

(¬1) ((الجواب الكافي)) (ص: 153). (¬2) ((الجواب الكافي)) (ص: 153). (¬3) ((الجواب الكافي)) (ص: 153). (¬4) ((التصوف وابن تيمية)) للدكتور مصطفى حلمي (ص: 390). (¬5) ((الجواب الكافي)) (ص: 153).

المطلب الرابع: درجات التعطيل في أسماء الله وصفاته

المسألة الأولى: درجات التعطيل في باب الأسماء والصفات عموماً من سبر أقوال أهل التعطيل يجدها من حيث العموم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: نفي جميع الأسماء والصفات وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان (¬1)، والفلاسفة، سواء كانوا أصحاب فلسفة محضة كالفارابي (¬2)، أو فلسفة باطنية إسماعيلية قرمطية كابن سينا (¬3)، أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والتحقيق أن التجهم المحض وهو نفي الأسماء والصفات، كما يحكي عن جهم والغالية من الملاحدة ونحوهم من نفي أسماء الله الحسنى، كفر بين مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول) (¬4). القسم الثاني: نفي الصفات دون الأسماء وهذا قول المعتزلة، ووافقهم عليه ابن حزم الظاهري (¬5)، والزيدية، والرافضة الإمامية، والإباضية. فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه. يقول ابن المرتضى المعتزلي: (فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم محدثاً, قديماً, قادراً, عالماً, حياً, لا لمعان ... ) (¬6). القسم الثالث: إثبات الأسماء وبعض الصفات ونفي البعض الآخر وهذا قول الكلابية, والأشاعرة, والماتريدية. فالكلابية وقدماء الأشاعرة: يثبتون الأسماء والصفات ما عدا صفات الأفعال الاختيارية (¬7) (أي التي تتعلق بمشيئته واختياره) , فهم إما يؤولونها أو يثبتونها على اعتبار أنها أزلية, وذلك خوفاً منهم على حد زعمهم من حلول الحوادث بذات الله (¬8) , أو يجعلونها من صفات الفعل المنفصلة عن الله التي لا تقوم به (¬9). وأما الأشاعرة المتأخرون ومعهم الماتريدية فهم يثبتون الأسماء وسبعاً من الصفات هي: (الحياة، العلم، القدرة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي (التكوين) (¬10)، وينفون باقي الصفات, ويؤولون النصوص الواردة فيها, ويحرفون معانيها. مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 21 المعطلة أربع طوائف الطائفة الأولى: الأشاعرة ومن تبعهم قالوا: نثبت له الأسماء حقيقة، ونثبت له صفات معينة دل عليها العقل وننكر الباقي، نثبت له سبع صفات فقط والباقي ننكره تحريفاً لا تكذيباً، لأنهم لو أنكروه تكذيباً، كفروا، لكن ينكرونه تحريفاً وهو ما يدعون أنه "تأويل" الصفات السبع هي مجموعة في قوله: له الحياة والكلامُ والبصر ... سمع إرادةُ وعلم واقتدر فهذه الصفات نثبتها لأن العقل دل عليها وبقية الصفات ما دل عليها العقل، فنثبت ما دل عليه العقل، وننكر ما لم يدل عليه العقل وهؤلاء هم الأشاعرة، آمنوا بالبعض، وأنكروا البعض الطائفة الثانية: المعتزلة ومن تبعهم ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 135، 5/ 355، 13/ 131)، ((درء تعارف العقل والنقل)) (3/ 367). (¬2) ((منهاج السنة)) (2/ 523، 524). (¬3) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 76). (¬4) ((النبوات)) (ص: 198). (¬5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 249، 250). (¬6) كتاب ((باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل)) (ص: 6). وانظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 151) و ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 164، 165)، ((مجموع الفتاوى)) (5/ 355). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 131). (¬8) ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (2/ 506). (¬9) ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) (2/ 544). (¬10) انظر: ((تحفة المريد)) (ص: 63)، و ((إشارات المرام)) (ص: 107 - 114)، و ((كتاب الماتريدية دراسة وتقويم)) (ص: 239)، و ((كتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات)) (2/ 430)، و ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله)) (ص: 401).

قالوا: يثبت له الأسماء دون الصفات، وهؤلاء هم المعتزلة أثبتوا أسماء الله، قالوا: إن الله سميع بصير قدير عليم حكيم لكن قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة الطائفة الثالثة: غلاة الجهمية والقرامطة والباطنية ومن تبعهم قالوا: لا يجوز أبداً أن نصف الله لا بوجود ولا بعدم، لأنه إن وصف بالوجود، أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم، أشبه المعدومات، وعليه يجب نفي الوجود والعدم عنه، وما ذهبوا إليه، فهو تشبيه للخالق بالممتنعات والمستحيلات، لأن تقابل العدم والوجود تقابل نقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فانظر كيف فروا من شيء فوقعوا في أشر منه! الطائفة الرابعة: غلاة الغلاة من الفلاسفة والقرامطة والباطنية قالوا: نصفه بالنفي ولا نصفه بالإثبات، يعني: أنهم يجوِّزون أن تسلب عن الله سبحانه وتعالى الصفات لكن لا تثبت، يعني: لا نقول: هو حي، وإنما نقول ليس بميت ولا نقول عليم، بل نقول: ليس بجاهل وهكذا قالوا: لو أثبت له شيئاً شبهته بالموجودات، لأنه على زعمهم كل الأشياء الموجودة متشابهة، فأنت لا تثبت له شيئاً، وأما النفي، فهو عدم، مع أن الموجود في الكتاب والسنة في صفات الله من الإثبات أكثر من النفي بكثير قيل لهم: إن الله قال عن نفسه: (سميع بصير) قالوا: هذا من باب الإضافات، بمعنى: نُسب إليه السمع لا لأنه متصف به، ولكن لأن له مخلوقا يسمع، فهو من باب الإضافات، فـ (سميع)، يعني: ليس له سمع، لكن له مسموع وجاءت طائفة ثانية، قالوا: هذه الأوصاف لمخلوقاته، وليست له، أما هو، فلا يثبت له صفة فهذه أقسام التعطيل في الأسماء والصفات شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 31

المسألة الثانية: درجات التعطيل في باب الأسماء الحسنى

المسألة الثانية: درجات التعطيل في باب الأسماء الحسنى القول الأول: من يقول إن الله لا يسمى بشيء وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان، والغالية من الملاحدة كالقرامطة الباطنية والفلاسفة. وهؤلاء المعطلة لهم في تعطيلهم لأسماء الله أربعة مسالك هي: المسلك الأول: الاقتصار على نفي الإثبات فقالوا: لا يسمى بإثبات. المسلك الثاني: أنه لا يسمى بإثبات ولا نفي. المسلك الثالث: السكوت عن الأمرين الإثبات والنفي. المسلك الرابع: تصويب جميع الأقوال بالرغم من تناقضها. فهذا الصنف من المعطلة اتفقوا على إنكار الأسماء جميعها، ولكن تنوعت مسالكهم في الإنكار. 1 - فأصحاب المسلك الأول: اقتصروا على قولهم: بأنه ليس له اسم كالحي والعليم ونحو ذلك. وشبهتهم في ذلك: أ- أنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء لزم أن يكون متصفاً بمعنى الاسم كالحياة والعلم. فإن صدق المشتق – أي الاسم كالعليم – مستلزم لصدق المشتق منه – أي الصفة كالعلم – وذلك محال عندهم. ب- ولأنه إذا سمي بهذه الأسماء فهي مما يسمى به غيره؛ والله منزه عن مشابهة الغير (¬1). فهؤلاء المعطلة المحضة – نفاة الأسماء – يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبهاً؛ فيقولون: (إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين, وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير، وإذا قلنا رؤوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرؤوف الرحيم، بل قالوا إذا قلنا موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود) (¬2). وهذا المسلك ينسب لجهم بن صفوان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جهم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئاً لا حياً ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز) (¬3) هو قول الباطنية من الفلاسفة والقرامطة, فهم يقولون لا نسميه حياً, ولا عالماً, ولا قادراً, ولا متكلماً, إلا مجازاً بمعنى السلب والإضافة: أي هو ليس بجاهل ولا عاجز (¬4). وهذا كذلك قول ابن سينا وأمثاله (¬5). 2 - وأما أصحاب المسلك الثاني: فقد زادوا في الغلو فقالوا: (لا يسمى بإثبات ولا نفي، ولا يقال موجود ولا لا موجود, ولا حي ولا لا حي؛ لأن في الإثبات تشبيهاً بالموجودات، وفي النفي تشبيهاً له بالمعدومات. وكل ذلك تشبيه. وهذا المسلك ينسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية والمتفلسفة (¬6). 3 - وأما أصحاب المسلك الثالث فيقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم. ومن الناس من يحكي هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله, ومعرفته, وحبه, وذكره, وعبادته, ودعائه (¬7). وأصحاب هذا المسلك: هم المتجاهلة اللاأدرية. وأصحاب المسلك الثاني: هم المتجاهلة الواقفة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي. وأصحاب المسلك الأول: هم المكذبة النفاة. ¬

(¬1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (6/ 35، 3/ 100)، و ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 367)، وكتاب ((الصفدية)) (1/ 88 - 89، 96 - 97). (¬2) ((منهاج السنة)) (2/ 523، 534). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 311). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 355). (¬5) ((الصفدية)) (1/ 299 - 300). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 35، 3/ 100)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 76 - 80). (¬7) كتاب ((الصفدية)) (6/ 96 - 98)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 84).

والملاحظ أن كل فريق من هؤلاء يهدم ما بناه ما قبله, فلما اقتصر أصحاب المسلك الأول على النفي وامتنعوا عن الإثبات بحجة أن في الإثبات تشبيهاً له بالموجودات جاء أصحاب المسلك الثاني فزادوا في الغلو, وزعموا أن في النفي كذلك تشبيهاً له بالجمادات, فمنعوا النفي أيضاً, ثم جاء أصحاب المسلك الثالث فاتهموا أصحاب المسلك الثاني بأنهم شبهوه بالممتنعات, لأن قولهم يقوم على نفي النقيضين وهذا ممتنع. 4 - وهناك مسلك رابع: وهو مسلك أصحاب وحدة الوجود الذين يعطون أسماءه سبحانه لكل شيء في الوجود، إذ كان وجود الأشياء عندهم هو عين وجوده ما ثمت فرق إلا بالإطلاق والتقييد (¬1). وهذا منتهى قول طوائف المعطلة (¬2) وغاية ما عندهم في الإثبات قولهم هو: (وجود مطلق) أي: وجود خيالي في الذهن، أو وجود مقيد بالأمور السلبية (¬3). القول الثاني: أن الله يسمى باسمين فقط هما: (الخالق) و (القادر): وهذا القول منسوب للجهم بن صفوان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان الجهم وأمثاله يقولون: إن الله ليس بشيء، وروى عنه أنه قال: لا يسمى باسم يسمى به الخلق، فلم يسمه إلا (بالخالق) و (القادر) لأنه كان جبرياً يرى أن العبد لا قدرة له) (¬4). وقال رحمه الله: (ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمى الله بشيء، ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمى بها الخلق: كالحي، والعالم, والسميع، والبصير، بل يسميه قادراً خالفاً، لأن العبد عنده ليس بقادر، إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية) (¬5). القول الثالث: إثبات الأسماء مجردة عن الصفات وهذا قول المعتزلة ووافقهم ابن حزم الظاهري. وتبع المعتزلة على ذلك الزيدية، والرافضة الإمامية، وبعض الخوارج. فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه. يقول ابن المرتضى المعتزلي: (فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم محدثاً قديماً، قادراً، عالماً، حياً لا لمعان) (¬6). وابن حزم وافق المعتزلة في ذلك فهو يرى: (أن الأسماء الحسنى كالحي، والعليم، والقدير، بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم، ولا قدرة، وقال: لا فرق بين الحي وبين العليم في المعنى أصلاً) (¬7). والمعتزلة لهم في نفيهم لتضمن الأسماء للصفات مسلكان: المسلك الأول: من جعل الأسماء كالأعلام المحضة المترادفة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قائم به. فهم بذلك ينظرون إلى هذه الأسماء على أنها أعلام محضة لا تدل على صفة. و (المحضة) الخاصة الخالية من الدلالة على شيء آخر، فهم يقولون: إن العليم والخبير والسميع ونحو ذلك أعلام لله ليست دالة على أوصاف، وهي بالنسبة إلى دلالتها على ذات واحدة هي مترادفة وذلك مثل تسميتك ذاتاً واحدة (يزيد, وعمرو, ومحمد, وعلي) فهذه الأسماء مترادفة, وهي أعلام خالصة لا تدل على صفة لهذه الذات المسماة بها (¬8). ¬

(¬1) ((شرح القصيدة النونية)) للهراس (2/ 126). (¬2) ((الصفدية)) (1/ 98، 99). (¬3) ((الصفدية)) (1/ 116، 117). (¬4) ((منهاج السنة)) (2/ 526 - 527)، ((الأنساب)) للسمعاني (2/ 133). (¬5) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 187)، ((مجموع الفتاوى)) (8/ 460). (¬6) كتاب ((ذكر المعتزلة)) (ص: 6)، ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 151)، ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 164 - 165). (¬7) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 76)، ((الفصل)) (2/ 161)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 249 - 250). (¬8) ((التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية)) (1/ 46).

والمسلك الثاني: من يقول منهم إن كل علم منها مستقل، فالله يسمى عليماً وقديراً، وليست هذه الأسماء مترادفة، ولكن ليس معنى ذلك أن هناك حياة أو قدرة (¬1)؛ ولذلك يقولون عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر. القول الرابع: إثبات الأسماء الحسنى مع إثبات معاني البعض وتحريف معاني البعض الآخر. وهذا قول الكلابية, والأشاعرة, والماتريدية. فهؤلاء وإن كانوا يوافقون أهل السنة والجماعة في إثبات ألفاظ الأسماء الحسنى لكنهم يخالفونهم في إثبات بعض معاني تلك الأسماء. فمن المعلوم أن كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة. وللكلابية والأشاعرة والماتريدية قول في الصفات يخالف قول أهل السنة والجماعة. فالكلابية وقدماء الأشاعرة ينفون صفات الأفعال الاختيارية, وبالتالي لا يثبتون الصفات التي تضمنتها الأسماء إذا كانت من هذا القبيل كالخالق والرزاق ونحوها، ... وأما المتأخرون من الأشاعرة ومعهم الماتريدية، فإنهم لا يثبتون من الصفات سوى سبع صفات هي: (العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي (التكوين). فالاسم عندهم إن دل على ما أثبتوه من الصفات؛ أثبتوا ما دل عليه من المعنى، وإن كان دالاً على خلاف ما أثبتوه صرفوه عن حقيقته وحرفوا معناه. ومعلوم أنه لم يرد في باب الأسماء من تلك الصفات التي ذكروها إلا خمسة فقط وهي: (العليم) , و (القدير) , و (الحي) , و (السميع) , و (البصير) , فهذه الخمسة يثبتون معانيها وإن كان هناك من يرجع صفتي (السمع) و (البصر) إلى (العلم) , ولكن جمهورهم على خلاف ذلك (¬2). وأما بقية الأسماء التي لا تتفق مع ما أثبتوه من الصفات، فإنهم لا يثبتون ما دلت عليه من المعاني، بل يحرفونها كتحريفهم لمعنى (الرحمة) في اسمه (الرحمن) إلى إرادة الثواب أو إرادة (الإنعام) , و (الود) في (الودود) بـ (إرادة إيصال الخير) (¬3). مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي - بتصرف– ص: 26 ¬

(¬1) ((التحفة المهدية)) (1/ 46). (¬2) ((لباب العقول)) للمكلاني (ص: 213 - 214)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 445)، ((المسايرة)) لابن الهمام (ص: 67)، ((الماتريدية دراسة وتقويم)) (ص: 264)، ((الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات)) (2/ 413)، ((منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في التوحيد)) (ص: 409). (¬3) ((شرح الأسماء الحسنى)) للرازي (ص: 287).

المسألة الثالثة: درجات التعطيل في باب صفات الله تعالى

المسألة الثالثة: درجات التعطيل في باب صفات الله تعالى القول الأول: نفاة جميع الصفات وهذا قول الغلاة من المعطلة، ومنهم الجهمية أتباع جهم, والفلاسفة سواء كانوا أهل فلسفة محضة كالفارابي, أو فلسفة باطنية رافضية إسماعيلية كابن سينا وإخوان الصفا, أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين. وهذا القول بنفي الصفات هو قول المعتزلة ومن تبعهم كالزيدية, والرافضة الإمامية, والخوارج الإباضية, وكذلك هو قول النجارية, والضرارية. فهؤلاء جميعاً لا يثبتون الصفات لله تعالى، وقد تنوعت أساليب تعطيلهم وطرق إنكارهم لها، ويمكن تصنيفهم إلى صنفين: 1 - غلاة المعطلة. 2 - المعتزلة ومن وافقهم. 1 - فغلاة المعطلة يمنعون الإثبات بأي حال من الأحوال ولهم في النفي درجات: الدرجة الأولى: درجة المكذبة النفاة وهي التي عليها الجهمية وطائفة من الفلاسفة (¬1) , وهو كذلك قول ابن سينا وأمثاله (¬2). فهم يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل, ولا يثبتون له إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل, وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان (¬3) , فهؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات, وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات (¬4). الدرجة الثانية: المتجاهلة الواقفة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي، وهذه الدرجة تنسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية المتفلسفة (¬5). فهؤلاء هم غلاة الغلاة (¬6) لأنهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات, فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات؛ إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات (¬7). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم, ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير، ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد، قالوا لأن في الإثبات تشبيهاً بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفى عنه هذه الصفات) (¬8). الدرجة الثالثة: المتجاهلة اللأدرية الذين يقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول: ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم. ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله, ومعرفته, وحبه, وذكره, وعبادته, ودعائه (¬9). الدرجة الرابعة: أهل وحدة الوجود ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 7 - 8). (¬2) ((الصفدية)) (1/ 299، 300). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 7)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 51 - 52). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 8). (¬5) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 76). (¬6) ((مجمع الفتاوى)) (3/ 100). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 7 - 8). (¬8) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 76). (¬9) ((الصفدية)) (1/ 96، 98).

الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام، وفي ذلك يقول ابن عربي: ألا كل قول في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه يعم به أسماع كل مكون ... فمنه إليه بدؤه وختامه (¬1) فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النَّازعات: 24] ومَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وبين القول الذي يسمعه موسى إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14]. بل يقولون: (إنه الناطق في كل شيء؛ فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون يصرحون بأن أقوالهم هي قوله) (¬2). وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض والعفيف التلمساني. وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوي الآخر ويفتقر إليه، وفي هذا يقول ابن عربي: فيعبدني وأعبده ... ويحمدني وأحمده (¬3) ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت (¬4) فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم, والكفر, والفواحش, والكذب, والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد, والكمال، فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم أيضاً وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضين (¬5). وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام؛ فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال, وليس له اسم, ولا صفة, ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له. ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء, وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين: (عين ما ترى ذات لا ترى ... وذات لا ترى عين ما ترى) وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود (¬6). وفي هذا يقول ابن عربي: فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً ... وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً ض ... وكنت إماماً في المعارف سيداً فمن قال بالإشفاع كان مشركاً ... ومن قال بالإفراد كان موحداً فإياك والتشبيه إن كنت ثانياً ... وإياك والتنزيه إن كنت مفرداً فما أنت هو بل أنت هو وتراه ... في عين الأمور مسرحاً ومقيداً) (¬7) @ مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 33 ¬

(¬1) ((الفتوحات المكية)) (4/ 141) ط: دار صادر، بيروت. (¬2) ((بغية المرتاد)) (ص: 349). (¬3) ((فصوص الحكم)) (1/ 83). (¬4) ((بغية المرتاد)) (ص: 397، 398). (¬5) ((بغية المرتاد)) (ص: 408). (¬6) ((بغية المرتاد)) (ص: 473). (¬7) ((بغية المرتاد)) (ص: 527).

المطلب الخامس: جمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل

المطلب الخامس: جمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل أما تمثيل المعطلة: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات. فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم. وتعطيل المعطلة: في نفيهم لما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات اللائقة به سبحانه. وبذلك جمعوا بين التعطيل والتمثيل: مثلوا أولاً، وعطلوا آخرا. وامتاز أهل التعطيل عن أهل التمثيل بنفيهم المعاني الصحيحة للصفات. مثال لجمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل: نصوص الاستواء: كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. فإن المعطل يقول: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش, أو أصغر, أو مساوياً، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام. فهذا المعطل لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم الذي جاء به المعطل تابع لهذا المفهوم. وكان الواجب عليه أن يثبت لله استواء يليق بجلاله ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي هي من لوازم المخلوقات، ويجب نفيها في حق الله. فأهل التعطيل وقعوا في أربعة محاذير: الأول: كونهم مثلوا ما فهموه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنوا أن مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني: أنهم عطلوا النصوص عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله. الثالث: أنهم بنفي تلك الصفات صاروا معطلين لما يستحقه الرب من صفات الكمال. الرابع: أنهم وصفوا الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الأموات والجمادات والمعدومات (¬1). معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 66 ¬

(¬1) ((الرسالة التدمرية)) (ص: 79 - 80).

المطلب السادس: خطورة مقالة التعطيل

المطلب السادس: خطورة مقالة التعطيل ظهرت مقالة التعطيل التي هي مقالة (الجهمية) في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المسألة: (هذه مسألة كبيرة عظيمة القدر اضطرب فيها خلائق من الأولين والآخرين, من أوائل المائة الثانية من الهجرة النبوية، فأما المائة الأولى فلم يكن بين المسلمين اضطراب في هذا. وإنما نشأ ذلك في أوائل المائة الثانية؛ لما ظهر (الجعد بن درهم) وصاحبه (الجهم بن صفوان) ومن تبعهما من المعتزلة وغيرهم على إنكار الصفات) (¬2). وقد جاءت هذه المقالة من حيث الترتيب بعد مقالات الخوارج، والشيعة, والقدرية, والمعتزلة, والمرجئة، فقد كانت تلك المقالات أسبق في الظهور منها. لكن مقالة التعطيل تعد أغلظ تلك البدع، والسبب في ذلك: أولاً: أن أصحاب هذه المقالة كانوا أول من عارض الوحي بالرأي, ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي رضي الله عنه، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص, ويستدلون بها على قولهم، ولا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: (مضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النور – أي نور الوحي – لم تطفئه عواصف الأهواء، ولم تلتبس به ظلم الآراء، وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم، وأن لا يخرجوا عن طريقهم، فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأئمة، ومع هذا لم يفارقوه بالكلية، بل كانوا للنصوص معظمين، وبها مستدلين، ولها على العقول والآراء مقدمين، ولم يدع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها, والاستبداد بما ظهر لهم منها، دون من قبلهم، ورأوا أنهم إن اقتفوا أثرهم كانوا مقلدين لهم. فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر، ورموهم بالعظائم، وتبرؤا منهم، وحذروا من سبيلهم أشد التحذير, وكانوا لا يرون السلام عليهم, ولا مجالستهم، وكلامهم فيهم معروف في كتب السنة، وهو أكثر من أن يذكر هاهنا. فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي) (¬4). ثانياً: أن بدعة هؤلاء كانت في أعظم مسائل الإيمان، ألا وهي الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، بل أعظم مسائل الدين، وهذا ما لم يسبقهم إليه أحد من أهل المقالات إلا القدرية؛ روى عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن أبي المعتمر سليمان ابن طرخان التيمي قال: (ليس قوم أشد نقضاً للإسلام من الجهمية والقدرية، وأما الجهمية فقد بارزوا الله تعالى؛ وأما القدرية فقد قالوا في الله عز وجل) (¬5). ودخل رأس من رؤوس الزنادقة يقال له (شمعلة) على المهدي فقال: دلني على أصحابك. فقال: أصحابي أكثر من ذلك. فقال: دلني عليهم. فقال: صنفان ممن ينتحل القبلة: الجهمية والقدرية. الجهمي إذا غلا قال: ليس ثم شيء وأشار إلى السماء. والقدري إذا غلا قال: هما اثنان، خالق خير, وخالق شر؛ فضرب عنقه وصلبه (¬6). وقال عبد الله بن المبارك: (ليس تعبد الجهمية شيئاً) (¬7). وقد مضى عصر الصحابة وعقيدة الإيمان بأسماء الله وصفاته محفوظة مصونة؛ إلى أن ابتدع الجعد مقالته في أواخر عصر التابعين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام – أعني أن الله ليس على العرش حقيقة، وأن معنى استوى استولى ونحو ذلك – هو الجعد بن درهم) (¬8). مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 33 ¬

(¬1) ((منهاج السنة)) (1/ 309)، ((مجموع الفتاوى)) (13/ 177). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 33). (¬3) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 244). (¬4) ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1069 - 1070). (¬5) ((السنة)) لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 104، 105) رقم (8). (¬6) كتاب ((خلق أفعال العباد)) (ص: 11)، ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد)) (1/ 48). (¬7) ((السنة)) لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 109) رقم (17). (¬8) ((الفتوى الحموية)) (ص: 47).

المبحث الثالث: التحريف

المطلب الأول: تعريف التحريف قال في الصحاح: (حرف كل شيء: طرفه وشفيره وحده .. وتحريف الكلام عن مواضعه: تغييره). وقال في (المفردات): (وتحريف الشيء إمالته، كتحريف القلم، وتحريف الكلام: أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عز وجل: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [المائدة: 13]. ومِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة: 41]. وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75]. فالتحريف في أصل الوضع يعني التغيير والإمالة. والتحريف في النصوص تغييرها لفظاً أو معنى والميل بها عن وجهها وحقيقتها. والتحريف أعم من التعطيل، إذ هو تعطيل وزيادة. فالمحرف نفى المعنى الصحيح للنص أولاً، ثم استبدله بمعنى آخر ثانياً، فصار كل محرف معطلاً ولا عكس. ولذا جعل أهل السنة والجماعة التحريف قسيماً للتعطيل في جانب النفي, كما جعلوا التكييف قسيماً للتمثيل في جانب الإثبات، (فيصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل) (¬1). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 115 ¬

(¬1) انظر: ((أقاويل الثقات)) لمرعي الكرمي (ص: 64).

المطلب الثاني: أنوع التحريف

المطلب الثاني: أنوع التحريف التحريف نوعان النوع الأول: تحريف اللفظ: وتعريفه: هو العدول باللفظ عن جهته إلى غيرها، وله أربع صور: 1 - الزيادة في اللفظ. 2 - النقصان في اللفظ. 3 - تغيير حركة إعرابية. 4 - تغيير حركة غير إعرابية. ومن أمثلة تحريف اللفظ: المثال الأول: تحريف إعراب قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] من الرفع إلى النصب، وقال: وَكَلَّمَ الله أي موسى كلم الله، ولم يكلمه الله، ولما حرفها بعض الجهمية هذا التحريف قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنع بقوله: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] فبهت المحرف. مثال آخر: إن بعض المعطلة سأل بعض أئمة العربية: هل يمكن أن يقرأ العرش بالرفع في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] وقصد بهذا التحريف أن يكون الاستواء صفة للمخلوق لا للخالق (¬1). النوع الثاني: تحريف المعنى: وتعريفه: هو صرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى غيره مع بقاء صورة اللفظ (¬2). أو نقول: تعريفه: هو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر بقدر ما مشترك بينهما. وهذا النوع هو الذي جال فيه أهل الكلام من المعطلة وصالوا, وتوسعوا وسموه تأويلاً، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يعهد به استعمال في اللغة (¬3). ومن أمثلة تحريف المعنى: كقول المعطلة في معنى استوى: استولى في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. وفي معنى اليد في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] النعمة والقدرة. وفي معنى المجيء في قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] وجاء أمر ربك. وقد ذكر الله التحريف وذمه حيث ذكره، وهو مأخوذ في الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيه، وهم شيوخ المحرفين وسلفهم، فإنهم حرفوا كثيراً من ألفاظ التوراة, وما غلبوا عن تحريف لفظه حرفوا معناه؛ ولهذا وصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأمم. وقد درج على آثارهم الرافضة؛ فهم أشبه بهم من القذة بالقذة، وكذلك الجهمية؛ فإنهم سلكوا في تحريف النصوص مسالك إخوانهم في اليهود (¬4). وأصحاب تحريف الألفاظ شر من أصحاب تحريف المعنى من وجه. وأصحاب تحريف المعنى شر من أصحاب تحريف اللفظ من وجه. فأصحاب تحريف اللفظ عدلوا باللفظ والمعنى جميعاً عما هما عليه, فأفسدوا اللفظ والمعنى، بينما أصحاب تحريف المعنى أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله فكانوا خيراً من أولئك من هذا الوجه. فأصحاب تحريف اللفظ لما أرادوا المعنى الباطل حرفوا له لفظاً يصلح له لئلا يتنافر اللفظ والمعنى، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ المحرف فهم منه المعنى المحرف، فإنهم رأوا أن العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته مع بقاء اللفظ على حاله مما لا سبيل إليه، فبدأوا بتحريف اللفظ ليستقيم لهم حكمهم على المعنى الذي قصدوا (¬5). وأما كون أصحاب تحريف المعنى شراً من أصحاب تحريف اللفظ من وجه؛ فلأن تحريف المعنى هو الأكثر استعمالاً عند أصحاب التحريف؛ ولأنه أسهل رواجاً وسوقاً عند الجهلة والعوام من الناس، فيفتتن به من ليس لديه زاد من العلم الصحيح المعتمد على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة. معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات لمحمد بن خليفة التميمي– ص: 59 ¬

(¬1) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 218). (¬2) ((الصواعق المنزلة)) (1/ 201). (¬3) ((مختصر الصواعق)) (2/ 147). (¬4) ((الصواعق المرسلة)) (1/ 215 - 216). (¬5) ((مختصر الصواعق)) (2/ 147، 148).

المطلب الثالث: الفرق بين التحريف والتأويل

المطلب الثالث: الفرق بين التحريف والتأويل لما كان الإيمان بخبر الله ورسوله أصل هذا الدين، لم يسع أحداً من أهل البدع المنتسبين إلى الملة رد ألفاظ النصوص الثابتة المتواترة من كتاب وسنة مما يخالف أصل بدعتهم، لكنهم سلكوا مسلكاً آخر وهو رد معانيها الثابتة الصحيحة التي فهمها سلف هذه الأمة عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واستبدالها بمعان محدثة ابتكروها لتوافق بدعتهم. وهذه حقيقة التحريف. إلا أنهم تلطيفاً لبشاعة مسلكهم هذا سموه بغير اسمه، وزعموا أنه (تأويل) لا (تحريف)، حتى شاع هذا المصطلح وذاع في المتأخرين، وعد من طريقة أهل السنة والجماعة، ووصف ب (العلم) و (الحكمة) حتى قيل: (طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم). لكن التواضع على الخطأ لا يقلب الباطل حقاً، ولا يغير حقائق الأشياء لا سيما ما كان صادراً عن معصوم. قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: (الأقوال نوعان: - أقوال ثابتة عن الأنبياء فهي معصومة؛ يجب أن يكون معناها حقاً، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، والبحث عنها إنما هو عما أرادته الأنبياء، فمن كان مقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى، ومن قصد أن يجعل ما قالوه تبعاً له؛ فإن وافقه قبله وإلا رده وتكلف له من التحريف ما يسميه تأويلاً، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيراً من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء، فهو محرف للكلم عن مواضعه، لا طالب لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم. - النوع الثاني: ما ليس منقولاً عن الأنبياء، فمن سواهم، ليس معصوماً، فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده، ومعرفة صلاحه من فساده). (¬1). وعليه، فلا يسلم لهم تسمية (تحريفهم) (تأويلاً) بإطلاق. وسبب ذلك (أن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان: أحدهما: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمود أم مذموم، وحق أو باطل؟ الثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير: (واختلف علماء التأويل) (¬2). الثالث: من معاني التأويل: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53]، فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة, والحساب, والجزاء, والجنة, والنار، ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته: وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [يوسف: 100]. فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا) (¬3). فلما كان لفظ (التأويل) تتنازعه هذه المعاني، وإنما أراد مدعوه المعنى الأول منها فقط، كما أن ذلك المعنى قد يكون صحيحاً وقد يكون فاسداً بحسب صحة الدليل الصارف أو فساده لم يجز أن يسمى صنيعهم ذلك تأويلاً، وقد قام على شبهة فاسدة، فإطلاق القول يوقع في الوهم. ولهذا فإن السلف – رحمهم الله – لم يمنعوا التأويل مطلقاً، وإنما منعوا التحريف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان ذلك: ( .. كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم – من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه – تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله. وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق لفظ (التأويل) كما تقدم من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به؛ فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذاك لا يعلمه إلا هو. . وأما التأويل المذموم والباطل: فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله، بغير دليل يوجب ذلك) (¬4). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 116 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 191). (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) (1/ 237)، و ((تفسير الماوردي)) (1/ 101) بلفظ: ((اختلف أهل التأويل))، و ((تفسير القرطبي)) (1/ 278)، و ((تفسير ابن عادل)) (ص: 127). (¬3) ((التدمرية)) (89 - 97) , وانظر الصواعق المرسلة 1/ 175 - 180 (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 66 - 67).

المطلب الرابع: أهل التحريف أصل شبهتهم والرد عليهم

المطلب الرابع: أهل التحريف أصل شبهتهم والرد عليهم يتذرع بالتحريف كل معطل تجبهه صراحة النصوص في الإثبات، سواء كان من أهل التعطيل الكلي كالجهمية والمعتزلة، أو كان من أهل التعطيل الجزئي كالمتكلمين من الأشاعرة, والماتريدية, والكلابية، وغيرهم من نظار المثبتة. وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله إلى اتفاق منابع التأويل، وأن ما يتأوله أصحاب التعطيل الجزئي إنما تلقفوه عمن سبقهم من أصحاب التعطيل المحض، فقال: (وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه: (تأسيس التقديس)، ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني، وأبي الحسن البصري، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي حامد الغزالي وغيرهم – هي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً. ولهم كلام حسن في أشياء) (¬1). ومن هذا النص يتبين أن من وقع في التأويل المذموم على ضربين: 1 - من اتخذه منهجاً ثابتاً، وقاعدة مطردة يعامل بها النصوص، كبشر المريسي، والنفاة نفياً مطلقاً. 2 - من اضطرب قوله في ذلك ولم يسر على قاعدة مطردة، بل وقع له تأويل، ورد تأويل، وهو حال كثير من (الصفاتية) من الأشاعرة وغيرهم. ولكنهم يتفقون – كل فيما رده - في تبرير تأويلاتهم بعلة عليلة تحمل علامات بطلانها في ثناياها (فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني، ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها. ومقصوده امتحانهم، وتكليفهم، وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله، ومقتضاه، ويعرف الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة، والجهمية، والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك). والجواب عن هذه الشبهة من وجوه كثيرة أبرزها: 1 - أن هذا المسلك قائم على أن أسماء الله وصفاته مجاز لا حقيقة، (ولو كانت أسماء الله وصفاته مجازاً يصح نفيها عند الإطلاق لكان يجوز أن الله ليس بحي، ولا عليم، ولا قدير، ولا سميع، ولا بصير، ولا يحبهم، ولا يحبونه، ولا استوى على العرش، ونحو ذلك. ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله تعالى من الأسماء الحسنى والصفات. بل هذا جحد للخالق وتمثيل له بالمعدومات. وهم مقرون أن علامة المجاز صحة نفيه عند الإطلاق. 2 - أن المعاني التي ادعاها أهل التأويل المذموم معان مجازية باعترافهم وليست هي المعاني التي دلت عليها ظواهر الألفاظ، (فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها: إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء: أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلابد أن يكون ذلك المعنى المجازي ما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له وإن لم يكن له أصل في اللغة. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 23).

الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز. الثالث: أنه لابد من أن يسلم ذلك الدليل – الصارف – عن معارض؛ وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مراده امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصا قاطعا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح. الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلابد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أولم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد، والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه – سبحانه وتعالى – جعل القرآن نوراً وهدى وبياناً للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات، ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علماً، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره، إلا وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره؛ إما أن يكون عقلياً ظاهراً، مثل قوله: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23].، فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102]. يعلم المستمع أن الخالق لا يدخل في هذا العموم. أو سمعياً ظاهراً، مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعض الظواهر. ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعياً أو عقلياً؛ لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مرات كثيرة؛ وخاطب به الخلق كلهم وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه، ويتفكروا فيه، ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب أن لا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئاً من ظاهره، كان هذا تدليساً وتلبيساً، وكان نقيض البيان وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان. فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد؟! أم كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟!) (¬1). 3 - أن مسلكهم هذا في تحريف نصوص الصفات، يوقعهم في التناقض والاضطراب والتفريق بين المتماثلات، وذلك أن هؤلاء المتكلمين مقرون بنصوص الغيب الأخرى من الإيمان باليوم الآخر وأنها حق على حقيقتها، بخلاف الملاحدة الباطنية الذين طردوا القول في الأمرين؛ نصوص الصفات ونصوص المعاد، وأنهما مجاز وتخييل لا تراد حقيقته، وإنما قصد به انتفاع العامة بحملهم على الطاعة والسلوك القويم خوفاً من تخييلات لا حقيقة لها. فصاروا هدفاً لهؤلاء الملاحدة من جهة النفي, ولأهل السنة من جهة الإثبات بسبب اضطراب طريقتهم وتناقضها. ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)) (6/ 360 - 362). وانظر: ((الوظائف الواجبة عل المتأول الذي لا يقبل منه تأويله إلا بها - في الصواعق المرسلة)) (1/ 288 - 295).

قال شيخ الإسلام رحمه الله في تصوير حال هؤلاء المحرفين: (أنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة وهم - في الحقيقة – لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا؛ لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في النصوص – نصوص المعاد – نظير ما ادعوه في نصوص الصفات، فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة. وأهل السنة يقولون لهم: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات. ونصوص الصفات في الكتب الإلهية: أكثر وأعظم من نصوص المعاد. ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول، وناظروه عليه؛ بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئاً منها أحد من العرب. فعلم إن إقرار العقول بالصفات، أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟!) (¬1). وكما أن هذا التناقض لازم لكل محرف سواء كان تحريفه كلياً أو جزئياً، فإن أصحاب التحريف الجزئي من المتكلمين كالكلابية والأشاعرة يلزمهم لازم أخص وهو أن: (القول في بعض الصفات كالقول في بعض. فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات. قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به) (¬2). وحسبك بالتناقض والاضطراب دليلاً على فساد المنهج (¬3). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 119 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 33). (¬2) ((التدمرية, ابن تيمية)) (31 - 32). (¬3) يراجع في إبطال مذهب أهل التأويل كتاب: ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) فقد توسع مؤلفه رحمه الله في سرد أوجه بطلانه بما لم يجتمع في غيره.

المبحث الرابع: التفويض في نصوص الصفات

المبحث الرابع: التفويض في نصوص الصفات • المطلب الأول: أركان التفويض. • المطلب الثاني: أنواع التفويض. • المطلب الثالث: دعوى أن التفويض هو الطريق الأسلم. • المطلب الرابع: شبهات المفوضة.

المطلب الأول: أركان التفويض

المطلب الأول: أركان التفويض التفويض ينبني على ركنين: الأول: اعتقاد أن ظواهر نصوص الصفات السمعية يقتضي التشبيه، حيث لا يعقل لها معنى معلوم إلا ما هو معهود في الأذهان من صفات المخلوقين. وبالتالي فإنه يتعين نفيه ومنعه. وهذه مقدمة مشتركة بين مذهب التفويض والتأويل. الثاني: أن المعاني المرادة من هذه النصوص مجهولة للخلق، لا سبيل للعلم بها، بل هي مما استأثر الله بعلمه، ولا يمكن تعيين المراد بها لعدم ورود النص التوقيفي بذلك. وهنا يفترق مذهب التفويض مع مذهب التأويل الذي يجوز الاجتهاد في تعيين معان مجازية للصفات السمعية. فصارت نتيجة مذهب التفويض هي الجهل المطبق بمعاني النصوص، ولذا سماهم أهل السنة (أهل التجهيل)، فقال ابن القيم في أقسام الناس في نصوص الوحي: (والصنف الثالث: أصحاب التجهيل: الذين قالوا: نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها. ولكن نقرأها ألفاظاً لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله. وهي عندنا بمنزلة كهيعص [مريم: 1] حم عسق [الشورى: 1 - 2] المص [الأعراف: 1]. فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلاً ولا تشبيهاً، ولم نعرف معناه. وننكر على من تأوله، ونكل علمه إلى الله) (¬1)، وسماهم مرة: (اللاأدرية) (الذين يقولون: لا ندري معاني هذه الألفاظ، ولا ما أريد منها، ولا ما دلت عليه، وهؤلاء ينسبون طريقتهم إلى السلف) (¬2). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي - ص 155 ¬

(¬1) ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) (2/ 422). (¬2) ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) (3/ 920).

المطلب الثاني: أنواع التفويض

المطلب الثاني: أنواع التفويض نبه شيخ الإسلام رحمه الله إلى لونين من التفويض فقال: (وهؤلاء أهل التضليل والتجهيل الذين حقيقة قولهم: إن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء. ثم هؤلاء منهم من يقول: المراد بها خلاف مدلولها الظاهر والمفهوم. ولا يعرف أحد من الأنبياء, والملائكة, والصحابة, والعلماء ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة. ومنهم من يقول: بل تجري على ظاهرها، وتحمل على ظاهرها، ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله. فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وقالوا – مع هذا – إنها تحمل على ظاهرها. وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى في كتاب (ذم التأويل)) (¬1). وكلا اللونين تفويض للعلم بالمعنى، والفرق بينهما أن الأولين يعتقدون بأن ظواهر النصوص مقتضية للتشبيه، فيبادرون بنفيها، ويحيلون على معنى مجهول لا يعلمه إلا الله. والآخرين يعتقدون بأن الظواهر لا تقتضي التشبيه، ويحكمون بوجوب إجرائها على ظواهرها، لكن دون أن يبينوا المعنى الواجب فهمه من تلك الظواهر، بل يحيلون إلى معنى مجهول لا يعلمه إلا الله. وهذا وجه تناقضهم. ويفسر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقوع هذين الاتجاهين من التفويض لبعض الأفاضل فيقول في ذكر أنواع النفاة: (ونوع ثالث: سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض. وهذا حال أبي بكر بن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وأمثالهم. ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل، كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار. وتارة يفوضون معانيها، ويقولون: تجري على ظواهرها، كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك. وتارة يختلف اجتهادهم، فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله) (¬2) ... نسبة التفويض إلى السلف: من الأخطاء الفاحشة في تاريخ العقيدة الإسلامية نسبة القول بالتفويض إلى مذهب السلف الصالح، وتوارث هذه الفكرة الخاطئة جيلاً بعد جيل، إلى وقتنا الحاضر حتى صارت لدى كثير من الناس من المسلمات التي لا يتطرق إليها الجدل والمقدمات التي ترتب عليها النتائج. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 156 ¬

(¬1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 15 - 16). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 34 - 35).

المطلب الثالث: دعوى أن التفويض هو الطريق الأسلم

المطلب الثالث: دعوى أن التفويض هو الطريق الأسلم درج المفوضة والمتكلمة من الأشاعرة على وصف مذهب التفويض بـ (السلامة) مبررين بذلك – حسب فهمهم الخاطئ – اختيار السلف لهذا السبيل لكونهم أقرب إلى الورع والاحتياط في الدين. وانساق كثير من الناس وراء هذا التبرير الذي يظهر منه – بادئ الرأي – إجلال السلف، وإضفاء مسحة الورع عليهم بتعظيمهم لجانب الرب، وعدم الخوض في هذه المزالق. وصار بعض من ينتحل السلف ومذهبهم يلوح بهذه اللافتة (السلامة) للترويج لمذهب التجهيل. ولما كانت (السلامة) كلمة مقابلة لكلمة (الهلاك) أو حتى كلمة (المخاطرة) فقد استمالت النفوس والقلوب طلباً للحذر من الوقيعة في مقام دحض مزلة. فاجتمع في دعوى التفويض المزعومة أمران حبيبان إلى النفوس: - نسبته إلى السلف ... - تضمنه للسلامة المنافية للخطر والهلكة. ولذلك قيل: (مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم). وقد تتابع المتأخرون على ترديد هذه المقالة بلفظها أو مضمونها ... - قول بدر الدين بن جماعة: ت 727هـ: (وقد رجح قوم من الأكابر الأعلام قول السلف لأنه أسلم، وقوم منهم قول أهل التأويل للحاجة إليه) (¬1). - وقال سعد الدين التفتازاني (ت793هـ) بعد ذكر نصوص الصفات: (إنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظواهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله – تعالى -، مع اعتقاد حقيقتها، جرياً على الطريق الأسلم الموافق للوقف على (إلا الله) في قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، أو تأول تأويلات مناسبة موافقة لما دلت عليه الأدلة العقلية على ما ذكر في كتب التفسير، وشروح الحديث سلوكاً للطريق الأحكم, الموافق للعطف في (إلا الله، والراسخون في العلم)) (¬2). - قول أحمد الدردير (ت 1201هـ: (وأجاب أئمتنا، سلفهم، بأن الله تعالى منزه عن صفات الحوادث، مع تفويض معاني هذه النصوص إليه تعالى إيثاراً للطريق الأسلم: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، وخلفهم، بتعيين محامل صحيحة إبطالاً لمذهب الضالين، وإرشاداً للقاصدين .. نظراً إلى الطريق الأحكم، وذهاباً إلى أن الوقف في الآية: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. ومن ثم قيل: إن طريق السلف أسلم، وطريق الخلف أعلم) (¬3). ومثل هذا في كتب المتأخرين كثير. وسبب ذلك كما يبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة، التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى – وهي التي يسمونها طريقة السلف – وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف – وهي التي يسمونها طريقة الخلف – فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع .. الخ) (¬4). نقض شبهتهم: بعد هذا العرض والاستذكار لدعوى المفوضة، والمسوغين للتفويض بأن التفويض أسلم، ننقض هذه الدعوى بما يلي: أولاً: أن هذه (السلامة) المزعومة سلامة في مقابلة (العلم) و (الحكمة). فنصيب السلف: (السلامة) دون (العلم) و (الحكمة)، ونصيب الخلف (العلم) و (الحكمة) دون (السلامة)، وتلك قسمة ضيزى، وتحكم بلا دليل. فهذه الأمور الثلاثة متلازمة، لا يتصور انفكاكها. فإقرارهم بأن السلف لا يتميزون بالعلم والحكمة لعدم تعيينهم المراد من النصوص يتسلزم نفي السلامة عن طريقتهم. والأمر خلاف ذلك، بل على النقيض تماماً. ¬

(¬1) ((إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل)) (ص: 93). (¬2) ((شرح المقاصد)) (4/ 50). (¬3) ((شرح الخريدة البهية)) (ص: 42 - 43). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 9 - 10).

قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين في بيان بطلان هذا الزعم: ( .. إن كون طريقة السلف أسلم من لوازم كونها أعلم وأحكم، إذ لا سلامة إلا بالعلم والحكمة. العلم بأسباب السلامة، والحكمة في سلوك تلك الأسباب، وبهذا يتبين أن طريق السلف (أسلم, وأعلم, وأحكم) (¬1). والسلامة التي يمكن إثباتها في مذهب أهل التفويض هي السلامة من التحريف الذي تقوله المتكلمون على الله بغير علم، بصرف معاني النصوص إلى استعمالات مجازية. ولا ريب أن هذا لون من السلامة، لكن قابله الوقوع في هلكة التجهيل، بتفريغ تلك النصوص من أي معنى يفهمه السامع، فكانوا كما قيل: المستجير بعمرو حال كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار ثانياً: أن هذه (السلامة) المدعاة، المبنية على الجهل، لن تصل بأصحابها إلى شاطئ الأمان، وبر الطمأنينة إلا من ابتلي بالإعراض والصدود ولم يشتغل قلبه بمعالي الأمور. أما النفوس الزكية، والقلوب الحية فلا يمكن أن تحال على مجهولات, وطلاسم, ومعميات ثم تركن إليها. (لأنه لا يمكن لأي قلب فيه حياة ووعي وطلب للعلم ونهمة في العبادة إلا أن يكون أكبر همه هو البحث في الإيمان بالله تعالى، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وتحقيق ذلك علماً واعتقاداً) (¬2). وبالتالي يظل معتنق التفويض يعيش في حيرة, واضطراب, وتناقض، وحسبه بذلك بعداً عن السلامة المزعومة. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي -بتصرف – ص 439 ¬

(¬1) ((فتح رب البرية بتلخيص الحموية)) (ص: 19). (¬2) ((تلخيص الحموية)) (ص: 8).

المطلب الرابع: شبهات المفوضة

المسألة الأولى: المراد بالمحكم والمتشابه اختلفت عبارات المفسرين في تعريف المحكم والمتشابه من الآيات، حتى قال الإمام الخطابي رحمه الله عن آية آل عمران: (هذه الآية مشكلة جداً وأقاويل المتأولين فيها مختلفة) (¬1). ونكتفي بعرض ما أورده إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله مختصراً عند ذكر هذه الآية: (فأما المحكمات فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه، من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن هن أم الكتاب، يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين, والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم، وإنما سماهن أم الكتاب لأنهن معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه. وأما قوله (متشابهات) فإن معناه متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة: 25]، يعني في المنظر، مختلفاً في المطعم. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، وما المحكم من آي الكتاب؟ وما المتشابه منه؟ - فقال بعضهم: المحكمات من آي القرآن: المعمول بهن وهن الناسخات، أو المثبتات الأحكام. والمتشابهات من آية: المتروك العمل بهن، المنسوخات. - وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه، والمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضاً في المعاني, وإن اختلفت ألفاظه. - وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منه: ما احتمل من التأويل أوجهاً. - وقال آخرون: معنى المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقصص الأنبياء ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله بيان ذلك لمحمد وأمته. والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، فقصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني. وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحد .. ) (¬2). فهذه خمسة أقوال مأثورة عن السلف في بيان المحكم والمتشابه. فصار الكلام في الإحكام والتشابه يدور حول خمسة متعلقات: 1 - النسخ. 2 - الحلال والحرام. 3 - احتمال المعاني. 4 - القصص والأخبار. 5 - حقائق المعاني الغيبية. وقبل أن نبين وجه الإحكام والتشابه في هذه الأمور، نتعرف على معنى (الإحكام)، و (التشابه) من حيث هما، ومن حيث استعمالهما في القرآن الكريم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( .. إن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه. وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه. فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه. قال تعالى: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: 1]، فأخبر أنه أحكم آياته كلها. وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23]، فأخبر أنه كله متشابه. ¬

(¬1) ((أعلام الحديث)) (3/ 1824). (¬2) ((جامع البيان عن تأويل آي القرآن)) (3/ 170 - 175).

والحكم هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة فصل بين المشتبهات علماً وعملاً، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار. وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حكمت السفيه، وأحكمته إذا أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها إذا جعلت لها حكمة، وهو ما أحاط الحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه. فإحكام الكلام: إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره. والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1]. وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]، وهو الاختلاف المذكور في قوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 8 - 9] فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضاً. وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام، بل هو مصدق له. فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضه، لا يناقض بعضه بعضاً. بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص. فالتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله، وليس كذلك. والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما. ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية. بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض. ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه) (¬1). فتبين من هذا العرض أن (الإحكام) و (التشابه) المتعلقان بالقرآن أربعة أنواع: 1 - الإحكام العام: بمعنى الإتقان في أخباره وأحكامه. 2 - التشابه العام: وهو تماثله وتناسبه وتصديق بعضه بعضاً. 3 - التشابه الخاص: وهو مشابهة الشيء لغيره من وجه، ومخالفته له من وجه آخر. 4 - الإحكام الخاص: الفصل بين الشيئين المشتبهين من وجه، المختلفين من وجه آخر. فالأول والثاني متفقان، والثالث والرابع متضادان. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 298 ¬

(¬1) ((التدمرية)) (ص: 102 - 106) باختصار.

والمحكم الذي اتضح معناه وتبين، والمتشابه هو الذي يخفى معناه، فلا يعلمه الناس، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه، وأما إذا ذكر المحكم مفرداً دون المتشابه، فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل: لا كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه، قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [الأنعام: 115]، وقد ذكر الله الإحكام في القرآن دون المتشابه، وذلك مثل قوله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1]، وقال تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود: 1] وإذا ذكر المتشابه دون المحكم صار المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في جودته وكماله، ويصدق بعضه بعضاً ولا يتناقض، قال تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23]، والتشابه نوعان: تشابه نسبي، وتشابه مطلق والفرق بينهما: أن المطلق يخفى على كل أحد، والنسبي يخفى على أحد دون أحد، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] فعلى الوقوف على (إلا الله) يكون المراد بالمتشابه المطلق، وعلى الوصل (إلا الله والراسخون في العلم) يكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وللسلف في ذلك قولان: القول الأول: الوقف على (إلا الله)، وعليه أكثر السلف، وعلى هذا، فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار، قال الله تعالى في نعيم الجنة: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17]، أي: لا تعلم حقائق ذلك، ولذلك قال ابن عباس: (ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء) (¬1) والقول الثاني: الوصل، فيقرأ: إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، وعلى هذا، فالمراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وهذا يعلمه الراسخون في العلم ويكون عند غيرهم متشابهاً، ولهذا يروى عن ابن عباس أنه قال: (أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله) ولم يقل هذا مدحاً لنفسه أو ثناء عليها، ولكن ليعلم الناس أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعرف معناه، فالقرآن معانيه بينة، لكن بعض القرآن يشتبه على ناس دون آخرين حتى العلماء الراسخون في العلم يختلفون في معنى القرآن، وهذا يدل على أنه خفي على بعضهم، والصواب بلا شك مع أحدهم إذا كان اختلافهم اختلاف تضاد لا تنوع، أما إذا كانت الآية تحتمل المعنيين جميعاً بلا منافاة ولا مرجح لأحدهما، فإنها تحمل عليهما جميعاً وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه، فيكون من المتشابه المطلق، ويحملون آيات الصفات على ذلك، وهذا من الخطأ العظيم، إذ ليس من المعقول أن يقول الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29]، ثم تستثني الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعاً وأكثر من آيات الإحكام، ولو قلنا بهذا القول، لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعاً يكون خفياً، ويكون معنى قوله تعالى: لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، أي: آيات الإحكام فقط، وهذا غير معقول، بل جميع القرآن يفهم معناه، إذا لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخرها لا تفهم معنى القرآن، وعلى رأيهم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرؤون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية أ، ب، ت والصواب أنه ليس في القرآن شيء متشابه على جميع الناس من حيث المعنى، ولكن الخطأ في الفهم فقد يقصر الفهم عن إدراك المعنى أو يفهمه على معنى خطأ، وأما بالنسبة للحقائق، فما أخبر الله به من أمر الغيب، فمتشابه على جميع الناس القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 2/ 368 ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (1/ 392)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 66)، وأبو نعيم في ((صفة الجنة)) (119)، وابن حزم في ((الفصل)) (2/ 86)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (4/ 77)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (322). قال ابن حزم: هذا سند غاية في الصحة. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 408): رواه البيهقي موقوفاً بإسناد جيد. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (5410): صحيح.

المسألة الثانية: أقوال السلف في المحكم والمتشابه

المسألة الثانية: أقوال السلف في المحكم والمتشابه بيان أقوال السلف المأثورة كما حكاها ابن جرير الطبري رحمه الله بعد تحرير المراد بـ (المحكم) و (المتشابه). أولاً – تعلقهما بالنسخ: المنسوخ أمران: (أ) إلقاء الشيطان المشار إليه في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج: 52]. (ب) النص الشرعي المتقدم، المرفوع حكمه بنص شرعي متأخر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( .. ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين: المحكم هو الناسخ، والمتشابه المنسوخ. أرادوا والله أعلم قوله: فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، والنسخ هنا: رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرعه الله، وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد وهو أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة، ومقابل المنسوخ أخرى، والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام، وتقييد المطلق. فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين، ويدخل في المجمل، فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد، وكذلك ما رفع حكمه، فإن في ذلك جميعه نسخاً لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن. ولهذا كانوا يقولون: هل عرفت الناسخ من المنسوخ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم. وعلى هذا فيصح أن يقال: المحكم والمنسوخ، كما يقال: المحكم والمتشابه) (¬1). فهذا وجه النسخ بالإحكام والتشابه، فالنسخ لما يلقي الشيطان هو (الإحكام العام) الذي بمعنى الإتقان، المقتضي لنفي ما ليس منه عنه. والنسخ بتخصيص, أو تقييد, أو تفصيل لعام, أو مطلق, أو مجمل هو (الإحكام الخاص) المقتضي للفصل بين الشيئين المشتبهين من وجه، المختلفين من وجه آخر. ثانياً – تعلقهما بالحلال والحرام، وبالأخبار والقصص والأمثال: الإحكام متعلق بالأمر والنهي، لأنه فعل أو ترك ليس إلا. والتشابه متعلق بالأخبار, والوعد, والوعيد, والقصص, لأنه اعتقاد يتصور فيه الزيغ والانحراف. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولهذا في الآثار: (العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه)، لأن المقصود في الخبر الإيمان، وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه، بخلاف الأمر والنهي، ولهذا قال بعض العلماء: المتشابه: الأمثال, والوعد والوعيد, والمحكم الأمر والنهي، فإنه متميز غير مشتبه بغيره، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع، وأمور نتركها لا بد أن نتصورها) (¬2). وعبارة ابن جرير رحمه الله في حكاية القول الرابع تدل على هذا المعنى، فإنه قال: (المحكم: ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصله بيان ذلك لمحمد وأمته) (¬3)، فهذا الفصل الذي بينه الله لمحمد وأمته هو (الإحكام الخاص) المزيل لـ (التشابه الخاص) الواقع في قصص الأمم ورسلهم. ثم قال: (والمتشابه: هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، فقصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني) (¬4)، وذكر أثراً طويلاً عن ابن زيد رحمه الله قال في آخره: (من يرد الله به البلاء والضلالة يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا، وما شأن هذا لا يكون هكذا؟) (¬5). ¬

(¬1) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 5). (¬2) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 13). (¬3) ((جامع البيان)) (3/ 174). (¬4) ((جامع البيان)) (3/ 174). (¬5) ((جامع البيان)) (3/ 174).

فهذا هو (التشابه الخاص) الذي يعتري بعض الناس فيتبعونه. ثالثاً – تعلقهما باحتمال النص للمعاني: فالمحكم ما كان نصاً فاصلاً في معناه، لا يحتمل غيره، والمتشابه ما تجاذبته التأويلات المختلفة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات: الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات: الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا فتكون محتملة للمعنيين) (¬1) فهذه الاحتمالات للمعاني المتنافرة هي الموجبة للتشابه الخاص. وتمييز الحقيقة من غيرها هو الإحكام الخاص. رابعاً – تعلقهما بحقائق المعاني الغيبية: وهذا بيت القصيد ... فقد قال أصحاب هذا القول - فيما حكاه الطبري رحمه الله -: (المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره. والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه) (¬2)، وهذا تمييز دقيق، وتفريق واضح بين الإحكام والتشابه في الأمور الغيبية. فتعلق الإحكام بها يكون من جهة التفسير بالمعنى اللغوي من حيث أصل الوضع. والتشابه يتعلق بها من حيث الحقائق والكيفيات التي هي عليها في نفس الأمر. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته, وقدره, وصفته إلا الله، فإن الله يقول: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]، ويقول: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) (¬3). وقال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) (¬4)، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمراً, ولبناً, وماء, وحريرا, ً وفضة وغير ذلك، ونحن نعلم قطعاً أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه كما في قوله: وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة: 25] على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله. فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق، كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه. فنحن نعلمها إذ خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه) (¬5). ¬

(¬1) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 7). (¬2) ((جامع البيان)) (3/ 174). (¬3) رواه البخاري (3244)، ومسلم (2824). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه الطبري في تفسيره (1/ 392)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 66)، وأبو نعيم في ((صفة الجنة)) (119)، وابن حزم في ((الفصل)) (2/ 86)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (4/ 77)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (322). قال ابن حزم: هذا سند غاية في الصحة. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 408): رواه البيهقي موقوفاً بإسناد جيد. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (5410): صحيح. (¬5) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) ص (10 - 11).

وبهذا البيان الجلي يتبين متعلق الإحكام ومتعلق التشابه في نصوص الصفات أيضاً. فإن الإحكام فيها راجع إلى معرفة معانيها، وفهم مرادها، وثمرة ذلك التدبر والتفكر المحقق للعبودية الخالصة للرب سبحانه اعتقاداً وعملاً. والتشابه فيها راجع إلى استحالة إدراك كيفياتها وهيئاتها على ما هي عليه في الواقع. ولهذا جمع الله بين الأمرين في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. فالسمع من حيث القدر المشترك في الأذهان: إدراك الأصوات، والبصر: إدراك المرئيات. لكنهما في حق الباري سبحانه وتعالى على صفة لا تبلغها الأوهام ولا تدركها العقول. فالإحكام تناول هاتين الصفتين من حيث التفسير والمعنى العام، والتشابه تناولهما من حيث الكيفية والكنه. وبذلك يتبين خطأ المقدمة الأولى التي بنى عليها أهل التفويض مذهبهم؛ من أن المتشابه لا يوقف على معناه بلغة العرب، وأن آيات الصفات من ذلك المتشابه (¬1). وقد عقب ابن جرير رحمه الله بعد ذكر الأقوال في معنى المحكم والمتشابه بقوله: (وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم فإنما أنزله عليه بياناً له ولأمته وهدى للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليهم، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه حاجة, ثم لا يكون بهم إلى علم تأويله سبيل. فإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فيه لخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى، وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة، وذلك كقول الله عز وجل: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158]، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك هي طلوع الشمس من مغربها، فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعد بالسنين والشهور والأيام، فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسراً، والذي لا حاجة لهم إلى علمه منه وهو العلم بمقدار المدة التي بين نزول هذه الآية، ووقت حدوث تلك الآية فإن ذلك لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته (¬2) من قبل قوله: الم، المص، الر، المر، ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله. فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم، لأنه لن يخلو من أن يكون محكماً بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيان مبينه، أو يكون محكماً وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، فالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينَّا) (¬3). وقد تضمن هذا النقل الطويل حقائق هامة: 1 - جميع ما أنزل الله تعالى بيان للأمة وهدى للعالمين – دون استثناء -. 2 - امتناع تضمنه ما لا حاجة للأمة إليه. ¬

(¬1) ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/ 13)، و ((مناهل العرفان)) للزرقاني (2/ 205). (¬2) ((جامع البيان)) (1/ 92 - 93). (¬3) ((جامع البيان)) (3/ 175).

3 - امتناع تضمنه ما للأمة به حاجة، ثم لا يتمكنون من علمه. 4 - إمكان تضمنه لما للأمة به حاجة وإن كان لها غنى عن بعض معانيه. 5 - المتشابه الذي استأثر الله به هو الأمور الغيبية كالعلم بالمقدار, والوقت, والكيف ونحوه. 6 - المحكم نوعان: ما له معنى واحد، سماعه بيانه. وما يحتمل عدة معان لكن تعيين المعنى المراد متحقق ببيان الله أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم. 7 - امتناع جهل علماء الأمة ببيان الله وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت هذه الحقائق القضاء المبرم على أصل مذهب التفويض ولوازمه، والحمد لله. ومن الجدير بالذكر، أن شيخ المفسرين، الطبري رحمه الله لم يشر من قريب ولا من بعيد، مع كثرة سياقاته للآثار، أن أحداً قال: إن من المتشابه أسماء الله وصفاته. وغاية ما في الأمر أن المتشابه هو ما يتعلق بأمور الآخرة, وفناء الدنيا ليس غير، وأن اتباع المتشابه هو محاولة اليهود معرفة مدته صلى الله عليه وسلم، ومدة أمته، وفناء الدنيا .. الخ من الحروف المقطعة (¬1). أما أمر صفات الله تعالى فلم يكن وارداً لديه أصلاً، وإنما أقحمت في المتشابه لدى المتأخرين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فصل – وأما إدخال أسماء الله وصفاته، أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم. فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولون ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم، فالكلام على هذا من وجهين: الأول: من قال: إن هذا من المتشابه، وأنه لا يفهم معناه، فنقول: أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: (تمر كما جاءت). ونهوا عن تأويلات الجهمية، وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية منها، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك. الوجه الثاني: أنه إذا قيل: هذه من المتشابه، أو كان فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها، فيقال: الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه, وإما الكتاب كله، ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه، كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة، وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنا) و (نحن) ونحو ذلك، ويؤيده أيضاً أنه قد ثبت في القرآن متشابهاً وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب كما أن ذلك في مسائل المعاد أولى. فإن نفي التشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي التشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا) (¬2). فأبطل الشيخ – رحمه الله – إدخال أسماء الله وصفاته في المتشابه، أو اعتقاد أنه هو المتشابه بأمرين: الأول: براءة السلف قاطبة من هذا الاعتقاد، بل الثابت المنقول عنهم هو إثبات المعاني. ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (3/ 180). (¬2) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 25 - 26, 36 - 37).

الثاني: أن التشابه الذي يطلقه بعض السلف على بعض ما يستدل به الجهمية إنما هو تشابه المعاني الذي لا يختص بباب الصفات, والعلم بالمعنى المراد ممكن بل متحقق، والمنفي العلم بتأويله لا العلم بمعناه. والخلاصة أن إطلاق القول بأن معاني أسماء الله وصفاته من المتشابه، أو هي المتشابه، باطل، لم يصدر عن أحد من السلف. لكن قد يقع تشابه نسبي إضافي خاص لبعض الناس في هذا الباب فيزول بالإحكام الخاص الذي يعلمه الراسخون في العلم. أما حقائق هذه المعاني وكيفياتها، فلا ريب أنه مما استأثر الله بعلمه، وحجب إدراك كنهه عن خلقه، فلا سبيل لأحد إلى العلم به. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 302 (ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه) قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم ـ وصححه ـ عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا) (¬1) قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] الآية قال: طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ [آل عمران:7] قال: منهن قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] إلى ثلاث آيات، ومنهن: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء:23] إلى آخر الآيات (¬2) وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم: (المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات) (¬3) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية هن أم الكتاب فقال أبو فاختة: هن فواتح السور منها يستخرج القرآن: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:2] منها استخرجت البقرة والم اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [آل عمران:1 - 2] منها استخرجت آل عمران وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض، والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود وعماد الدين (¬4) وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه وأخر متشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق (¬5) وأخرج ابن أبي حاتم مقاتل بن حيان إنما قال: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ لأنه ليس من أهل دين لا يرضى بهن: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ يعني فيما بلغنا الم والمص والمر (¬6) ¬

(¬1) رواه الحاكم (1/ 739)، (2/ 317). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والحديث حسنه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (587). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (6/ 174)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 592). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (6/ 175). (¬4) رواه الطبري في تفسيره (6/ 183)، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 593). (¬5) رواه الطبري في تفسيره (6/ 177). (¬6) رواه ابن أبي حاتم (2/ 593 - 594).

قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان قوله: ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] روى ابن جرير عن قتادة: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ذكر لنا ((أن نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله دعنا نقاتلهم فقال: لا اكتبوا كما يريدون: إني محمد بن عبد الله فلما كتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه وكان أهل الجاهلية يكتبون: باسمك اللهم فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم قال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون)) (¬1) وروى أيضاً عن مجاهد قال: ((قوله: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30] قال: هذا ما كاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً في الحديبية، كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: لا تكتب الرحمن، لا ندري ما الرحمن؟ لا نكتب إلا باسمك اللهم قال تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ الآية)) (¬2) وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجداً: يا رحمن يا رحيم فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى فأنزل الله: قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110] الآية)) (¬3) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص406 ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (16/ 445). والحديث أصله في الصحيحين رواه البخاري (2731، 2732) من حديث المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم رضي الله عنهما، ورواه مسلم مختصراً (1784) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه الطبري في تفسيره (16/ 446). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (17/ 580).

المسألة الثالثة: التأويل والظاهر

المسألة الثالثة: التأويل والظاهر • أولاً: معاني التأويل. • ثانياً: بيان موضع الوقف في آية آل عمران.

أولا: معاني التأويل

أولاً: معاني التأويل قال في الصحاح في مادة (أول): (التأويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء, وقد أولته وتأولته تأولاً بمعنى. ومنه قول الأعشى: على أنها كانت تأول حبها ... تأول ربعي السقاب فأصحبا قال أبو عبيدة: يعني تأول حبها، أي تفسيره ومرجعه، أي أنه كان صغيراً في قلبه فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديماً كهذا السقب الصغير، لم يزل يشب حتى صار كبيراً مثل أمه، وصار له ابن يصحبه .. ). وقال الراغب في مفردات القرآن: (أول: التأويل من الأول أي الرجوع إلى الأصل. ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً، ففي العلم نحو: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وفي الفعل كقول الشاعر: [وللنوى قبل يوم البين تأويل] وقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: 53] أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه، وقوله تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، قيل أحسن معنى وترجمة، وقيل أحسن ثواباً في الآخرة. .) (¬1). وكذا قال إمام المفسرين الطبري رحمه الله -: (وأما معنى التأويل في كلام العرب: فإنه التفسير, والمرجع, والمصير) (¬2). وهذان المعنيان للتأويل: بمعنى تفسير الكلام وبيانه، أو ما يؤول إليه الأمر ويرجع ويصير، هما المعنيان المستعملان في لغة العرب، والثاني في لغة القرآن خاصة، حتى استحدث له المتأخرون معنى اصطلاحياً بحتاً لا يستند على استعمال أصلي، فأوجب ذلك خلطاً وتشويشاً وسوء فهم لمقاصد النصوص. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن لفظ التأويل، قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان: أحدها: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به؛ وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمود أو مذموم، وحق أو باطل؟ والثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير: واختلف علماء التأويل. ومجاهد, إمام المفسرين - قال الثوري: (إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به) (¬3). وعلى تفسيره يعتمد الشافعي, وأحمد بن حنبل, والبخاري وغيرهم - فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به: معرفة تفسيره. الثالث: من معاني التأويل، هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53]. فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد: هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة والحساب, والجزاء, والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ [يوسف: 100]، فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا. ¬

(¬1) ((مفردات القرآن)) (ص: 31). (¬2) ((جامع البيان)) (3/ 184). (¬3) ((جامع البيان عن تأويل آي القرآن)) (1/ 40).

فالتأويل الثاني: هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه، أو تعرف علته أو دليله. وهذا التأويل الثالث: هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن)) (¬1) تعني قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 3]. وقول سفيان بن عيينة: (السنة هي تأويل الأمر والنهي)، فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر، والكلام: خبر وأمر. ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء (¬2) , لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونفس ما نهى عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع (أبقراط) و (سيبويه) ونحوهما من مقاصدهم ما لا يعلم بمجرد اللغة. ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر). وقد تضمن هذا السياق تقرير الحقائق التالية: 1 - بيان معاني التأويل المستعملة وهي: (أ) صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح لدليل يقترن به، وهو اصطلاح المتأخرين. (ب) التفسير، وهو اصطلاح المفسرين. (ج) الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وهو عين ما يوجد في الخارج، وهو المعنى المراد في النصوص الشرعية. 2 - تأويل كل كلام بحسبه: (أ) تأويل الخبر: عين المخبر به إذا وقع. (ب) تأويل الأمر، نفس الفعل المأمور به. 3 - التأويل المتعلق بالأمر والنهي لا بد من معرفته وإدراك حقيقته لأنه مناط التكليف، بخلاف تأويل الخبر فلا سبيل إلى إدراك حقيقته إلا بوقوعه وتحققه. وبعد هذا التأصيل يصل شيخ الإسلام رحمه الله إلى علاقة التأويل بصفات الرب - تعالى -، فيتابع قائلاً: (وإذا عرف ذلك، فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بمالها من حقائق الصفات. وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفسه ما يكون من الوعد والوعيد) (¬3). فإذا كان التأويل - بمعنى الحقيقة - متعلقاً بذات الباري جل وعلا، فلا سبيل لأحد إلى العلم به سواه سبحانه. وإذا كان التأويل متعلقاً بأمر مستقبلي كالوعد والوعيد، فالعلم به حاصل بتحقق وقوعه لمن شاء الله أن يعلمه. أما التأويل - بمعنى التفسير وفهم المعنى ومقصود الخطاب - فهو ممكن في كل ما أخبر الله به مما يتعلق بذاته المقدسة أو الأمور الغيبية أو غير ذلك. قال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً حدود هذا الإمكان: ( .. ولهذا ما يجيء في الحديث: نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنَّة لحماً, ولبناً, وعسلاً, وماء وخمراً ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته. والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، ومع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد) (¬4). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي - ص 313 ¬

(¬1) رواه البخاري (817)، ومسلم (484). (¬2) ((غريب الحديث)) (2/ 117 - 118). (¬3) ((الرسالة التدمرية)) (ص: 96). (¬4) ((الرسالة التدمرية)) (ص: 96 - 97).

ثانيا: بيان موضع الوقف في آية آل عمران

ثانياً: بيان موضع الوقف في آية آل عمران للسلف في موضع الوقف في هذه الآية مذهبان: الأول: مذهب الجمهور (¬1) وهو الوقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ. الثاني مذهب كثير من السلف وهو الوقف عند قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. قال الطبري رحمه الله: (واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل الراسخون معطوف على اسم الله، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أو هو مستأنف ذكرهم بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بالمتشابه، وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟ فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفرداً بعلمه. وأما الراسخون في العلم فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأن جميع ذلك من عند الله) (¬2)، ثم ساق بأسانيده هذا القول عن عائشة، وابن عباس، رضي الله عنهم، وعروة، وأبي نهيك الأسدي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك رحمهم الله- (¬3)، ثم قال: (وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (¬4). ثم ساق الروايات عمن ذكر ذلك وهم: ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد، والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير رحمهم الله (¬5). فهذان قولان محفوظان عن السلف، ظاهرهما التعارض، فالأول يقضي باختصاص الرب سبحانه بعلم التأويل، والثاني يفيد اشتراك الراسخين في العلم بعلم التأويل. ولا ريب أن لكل قراءة محملاً صحيحاً لا يعارض المحمل الآخر. وسر هذا الاختلاف راجع إلى تحديد المراد بـ (بالتأويل). فمن أراد به الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، التي هي عين الموجود في الخارج، أخذ بقراءة الوقف على (إلا الله) , حيث إن إدراك الكيفيات وكنه المغيبات من خصائص علمه سبحانه. ومن قصد بالتأويل (التفسير) وبيان معنى الكلام، ودلالته اللغوية، أثبت للراسخين في العلم علماً بذلك التأويل ووصل الآية. وبذلك يزول الإشكال، ويتوافق الكلام. ومن لم يميز بين المعنيين، ويحمل كل قراءة على المعنى المناسب لها، وقع في الاشتباه واللبس، وخلط بين الحق والباطل، وفسر (التأويل) بمعنى غير صحيح أدى به إلى تلفيق مذهب أصاب فيه من وجه, وأخطأ من وجه آخر. وقابل هذين المعنيين الصحيحين معنيان باطلان: الأول: مذهب أهل التحريف (التأويل المذموم)، فقد تضمن مذهبهم حقاً وباطلاً. فأما الحق فجزمهم بأن النصوص دالة على معان مقصودة مطلوبة، وأن من العيب والعجز والقبح اعتقاد أن الله يخاطب عباده بكلام غير مفهوم وغير مقدور على فهمه أصلاً. وأما الباطل فاعتقادهم أن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف ذلك الظاهر. فوقعوا في التحريف. وصاروا يحتجون بمذهب مجاهد وغيره من السلف الذين أرادوا بالتأويل: التفسير، وينتسبون إليهم، ويتذرعون بقراءة (الوصل) لإثبات باطلهم. الثاني: مذهب أهل التفويض (التجهيل)، وقد تضمن مذهبهم حقاً وباطلاً. فأما الحق فنكيرهم على أهل التحريف الذين يقولون على الله بغير علم، ويبتكرون المعاني المجازية بغير دليل ولا برهان. وأما الباطل فلتعميمهم نفي التأويل على المعنى اللغوي كما هو على الحقيقة. وصاروا يحتجون بمذهب جمهور السلف الذين أرادوا بالتأويل: الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، أو التي عليها الشيء في الخارج، وينتسبون إليهم، ويتذرعون بقراءة (الوقف) لإثبات باطلهم. ¬

(¬1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (5/ 35, 17/ 358). (¬2) ((جامع البيان)) (3/ 182). (¬3) انظر ((جامع البيان)) (3/ 182 - 183). (¬4) ((جامع البيان)) (3/ 183). (¬5) ((جامع البيان)) (3/ 183).

قال شيخ الإسلام رحمه الله موازناً بين الفريقين: (والغالب على كلا الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة: 78]، وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [المائدة: 13]. ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم: أن مدعي التأويل أخطأوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه، فإن الأولين لعلمهم بالقرآن والسنن وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف، وكلام العرب علموا يقينا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن، فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب، ما بين قرامطة وباطنية، يتأولون الأخبار والأوامر، وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء، وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر، وفي آيات القدر ويتأولون آيات الصفات، وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر. وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان تغلب عليهم السنة فقد يتأولون أيضاً مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه. والذين ادعوا العلم بالتأويل، مثل طائفة من السلف وأهل السنة وأكثر أهل الكلام والبدع رأوا أيضاً أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن، ورأوا عجزاً وعيباً وقبيحاً أن يخاطب الله عباده بكلام يقرأونه ويتلونه وهم لا يفهمونه، وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل، لكن أخطأوا في معنى التأويل الذي نفاه الله، وفي التأويل الذي أثبتوه، وتسلق بذلك مبتدعهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه. وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل، وصار الآخرون أكثر كلاماً وجدالاً، ولكن بفرية على الله، وقول عليه ما لا يعلمونه، وإلحاد في أسمائه وآياته فهذا هذا. ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل) (¬1). وهذا النص تحليل دقيق لهذين المذهبين وغوص عميق على سر ضلالهما، وتقويم منصف لما تضمنه كل مذهب من حق وباطل. وشيخ الإسلام رحمه الله يصحح القولين الأولين في معنى التأويل في مواضع كثيرة من كتبه، كقوله في توجيه كلام الإمام أحمد في رده على الجهمية: (إنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه .. ) (¬2)، ثم ذكرها, وفسرها, وبين معناها، فقال رحمه الله: (قد يجاب بجوابين: أحدهما: أن يكون في الآية قراءاتان: قراءة من يقف على قوله: إِلاَّ اللهُ، وقراءة من يقف عند قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وكلتا القراءتين حق. ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله. ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله. ومثل هذا يقع في القرآن .. )، ثم ذكر أمثلة. ¬

(¬1) ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) (ص: 17 - 19). (¬2) انظر ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 20).

وذكر الوجه الثاني: إلى أن قال (¬1): (والمقصود هنا: أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاماً لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقول من المتأخرين. وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا: تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان: يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر. وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال: الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيراً من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره. وهذا مما يجب القطع به، وليس معناه قاطع على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم أنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد - مع جلالة قدره -، والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله (¬2)) (¬3). ولما كان ابن قتيبة – رحمه الله – يرى تبعاً للمذكورين آنفاً أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل – بمعنى التفسير – نابذه المفوضة وخطؤوه, مستدلين بالنصوص المنقولة عن بعض السلف الذين يرون أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل – بمعنى الحقيقة والكيفية -. وقد نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله نصراً مؤزراً فقال في الثناء عليه: (وابن قتيبة هو من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة. قال فيه صاحب (كتاب التحديث بمناقب أهل الحديث): وهو أحد أعلام الأئمة، والعلماء والفضلاء، أجودهم تصنيفاً، وأحسنهم ترصيفاً، له زهاء ثلاثمائة مصنف، وكان يميل إلى مذهب أحمد وإسحاق. وكان معاصراً لإبراهيم الحربي، ومحمد بن نصر المروزي، وكان أهل المغرب يعظمونه، ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة. ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا خير فيه، قلت: ويقال: هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة. فإنه خطيب السنة كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة) (¬4). ومن أشهر من رد على ابن قتيبة رحمه الله - في إثبات علم الراسخين بمعاني المتشابه إمام اللغة: أبو بكر بن الأنباري رحمه الله وقد ذب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية وبين تناقض اللغويين المانعين لإثبات العلم بالمتشابه، وقال عن ابن الأنباري: (وليس هو أعلم بمعاني القرآن والحديث، وأتبع للسنة من ابن قتيبة، ولا أفقه في ذلك. وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة؛ لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة) (¬5). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي -319 وقد يبقى إشكالان في الآية وهما: الأول: إعراب الآية يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ على قراءة الوصل. الثاني: احتمال الآية الواحدة لمعنيين متباينين. أما الإشكال الأول: وهو إعراب الآية فإن قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم يقولون أو أنها معطوفة بمحذوف كما في قوله: وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ [التوبة: 92] أي وقلت (¬6). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 381). (¬2) رواه ابن جرير, ((جامع البيان)) (3/ 183). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 390). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 391 - 392). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 411). (¬6) انظر: ((شرح الرضي على الكافية)) لابن الحاجب (1/ 326).

أما الإشكال الثاني: فيرتفع ببيان أن لهذا نظائر في القرآن بحسب اختلاف القراءة بالنفي أو الإثبات فيختلف المعنى تبعاً لذلك، وكل قراءة لها معنى صحيح (¬1). فمن ذلك قول الله تعالى: وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46] ففي لتزول قراءتان: الأولى: بفتح اللام الأولى ورفع الثانية (لَتزولُ)، والقراءة الثانية بكسر اللام الأولى ونصب الثانية (لِتزولَ) (¬2). فعلى القراءة الأولى تكون (إِنْ) مخففة من الثقيلة، والهاء مقدرة، أي: وإنه كان مكرهم، واللام في (لَتَزُولُ) لام الابتداء، فالمعنى: إن مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فهذا مثل ضرب لبيان أنهم يريدون إزالة هذا الدين، ولكن بين الله في كتابه أنهم لا يستطيعون ذلك. وعلى القراءة الثانية تكون (إِنْ) نافية، واللام – لام الجحود – مؤكدة لهذا النفي، والجملة على هذا تكون حالاً من الضمير في (مكروا) أي والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال (¬3). فاتضح من هذا أن كلا القراءتين لها معنى وهو صحيح بحسبها. فلهذا يقال: إنه لا يستغرب إذا وجد ذلك في آية آل عمران، فالوقف صحيح باعتبار، وكذلك الوصل – والله أعلم -. وعلى قراءة الوقف لا يجوز أن يدعى أن نصوص الصفات لا يمكن تفسيرها وفهم معانيها، وذلك للآتي: 1 - إن السلف تواتر عنهم تفسير كل القرآن بما في ذلك آيات الصفات، كما قال مجاهد: (عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث مرات أوقفه عند كل آية) (¬4). 2 - ولأنه قد تبين على قراءة الوقف أن التأويل المراد به: الحقائق العينية للمخبر عنه – فلا يمكن العلم بالكيفية – جمعاً بينها وبين قراءة الوصل الدالة على معرفة المعنى فقط دون الكيفية، وقد أثر الأمران عن ابن عباس رضي الله عنهما ومتى ما أمكن الجمع فالمصير إليه أولى من الترجيح. 3 - إنه قد جاء الأمر يتدبر القرآن كله وفهم معانيه، وهذا شمل نصوص الصفات قطعاً. 4 - وأنه لو سلم أن في القرآن ما لا يمكن معرفة معناه، فلا يسلم ذلك في نصوص الصفات إذ يلزم من القول بذلك تعطيل الخالق سبحانه وتعالى من صفاته (¬5). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 2/ 463 ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/ 382 - 383). (¬2) الأولى قرأ بها الكسائي، والثانية قرأ بها الباقون، انظر: ((إتحاف فضلاء البشر)) (2/ 171). (¬3) انظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/ 58)، و ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 166). (¬4) رواه الطبري في تفسيره (1/ 90). (¬5) انظر: ((معرفة المحكم والمتشابه وأثرها في التفسير)) (ص: 102). رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية، للباحث: حامد عبد الله العلي.

المبحث الخامس: التوقف

المطلب الأول: حقيقة التوقف يلجأ بعض الناس بسبب القصور في العلم أو البصيرة أو بسبب الورع إلى (التوقف) في الأمور المشتبهات عليه، ويعرفون باسم (الواقفة) و (الواقفية). وهو مسلك معروف في الأصول والفروع، ولهذا يطلق هذا اللقب على فرق عدة اختارت التوقف بين أمرين متعارضين لم يسعفها فيه الجمع ولا الترجيح. ولئن ساغ هذا المسلك في بعض المسائل الفرعية بعد استفراغ الجهد في البحث وتحري الصواب، فإنه غير سائغ في أمر الاعتقاد الذي بينه الله غاية البيان، لما ينطوي عليه من الشك, والتردد, وعدم الجزم المنافي لليقين، الذي هو عمدة الاعتقاد. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 133

المطلب الثاني: أنواع التوقف

المطلب الثاني: أنواع التوقف جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، التوقف على ضربين: (فقوم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات) (¬1). والفرق بين القولين أن توقف الطائفة الأولى قائم على الحكم بجواز الأمرين: الإثبات، والنفي لكن دون ميل إلى أحدهما. وتوقف الطائفة الثانية قائم على عدم الحكم بشيء أبداً. فتوقف الأولى من جهة الإيجاب وتوقف الثانية من جهة السلب. وكلاهما توقف. ولعل ممن يندرج في القول الأول: (قول الواقفة، الذين يجوزون إثبات صفات زائدة، لكن يقولون: لم يقم عندنا دليل على نفي ذلك ولا إثباته. وهذه طريقة محققي من لم يثبت الصفات الخبرية، وهذا اختيار الرازي والآمدي وغيرهما) (¬2). كما يدخل في النوع الثاني ما حكاه شيخ الإسلام عن بعض الملاحدة: (نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل) (¬3). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي- بتصرف – ص 134 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 117). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/ 383). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 106).

المطلب الثالث: أصل شبهتهم والرد عليها

المطلب الثالث: أصل شبهتهم والرد عليها مدار شبهة الواقفة – سواء ممن يجوزون النفي أو الإثبات، أو من يسكتون عنهما معاً – راجع إلى اعتقادهم أن ليس في النصوص ما يقطع بأحد الأمرين، ومن ثم ساغ لهم أن يرتضوا الشك والحيرة في هذا الأمر الجلل، بل ربما استحسنوا ذلك وطلبوه، بل قد نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (زدني فيك تحيراً)، وهو كذب باتفاق أهل العلم بحديثه صلى الله عليه وسلم (¬1). الرد عليهم: ليس المراد في هذا المقام بيان صحة مذهب الإثبات وبطلان مذهب النفي، بل المقصود بيان فساد مذهب (التوقف) بنوعيه. ويمكن إجمال الرد عليهم في الأمور التالية: 1 - أن مسلك (التوقف) مخالف لما أنزل الله القرآن من أجله، وهو التدبر والذكرى، كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ص: 29]. ومن جوز الأمرين، أو أعرض، لم يشتغل بأجل مقاصد القرآن. 2 - أن هذا المسلك مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان من اعتقاد الإثبات مع التنزيه، ولم يحفظ عن أحد من السلف التوقف في هذه المسألة. 3 - (إن كان الذي يحب الله منا أن لا نثبت ولا ننفي، بل نبقى في الجهل البسيط، وفي ظلمات بعضها فوق بعض، لا نعرف الحق من الباطل، ولا الهدى من الضلال، ولا الصدق من الكذب؛ بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكين للحيارى مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء: 143]، لا مصدقين ولا مكذبين: لزم من ذلك أن يكون الله يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم العلم بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الصفات التامات، وعدم العلم بالحق من الباطل، ويحب منا الحيرة والشك. ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل، ولا الشك، ولا الحيرة، ولا الضلال، وإنما يحب الدين والعلم واليقين. وقد ذم الحيرة بقوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنعام: 72]. وقد أمرنا الله تعالى أن نقول: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6 - 7]. وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (¬2). فهو صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد قال الله تعالى له: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]) (¬3). فـ (الوقوف في ذلك جهل وعي، مع أن الرب – سبحانه – وصف لنا نفسه بهذه الصفات؛ لنعرفه بها، فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياه. فما وصف لنا نفسه إلا لنثبت ما وصف به نفسه، ولا نقف في ذلك) (¬4). وبهذا يتبين فساد مسلك (الواقفة) وأنه مبني على الجهل, والشك, والحيرة، وأنهم أبعد الناس عن (اليقين) و (الجزم) الذي هو الأصل في الاعتقادات. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص 135 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 179). (¬2) رواه مسلم (770). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 178 - 179). (¬4) ((النصيحة في صفات الرب جل وعلا)) (21 - 22).

الباب الرابع: الشرك - أقسامه ووسائله

المطلب الأول: تعريف الشرك لغةً جاء في (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس: (مادة الشرك المكونة من حرف الشين والراء والكاف أصلان: أحدهما: يدل على مقارنة وخلاف انفراد. والآخر: يدل على امتداد واستقامة) (¬1). أما الأول: فهو الشرك، بالتخفيف أي بإسكان الراء، أغلب في الاستعمال، يكون مصدرا واسما، تقول: شاركته في الأمر وشركته فيه أشركه شركاً، بكسر الأول وسكون الثاني، ويأتي: شركة، بفتح الأول وكسر الثاني فيها. ويقال: أشركته: أي جعلته شريكاً (¬2). فهذه اشتقاقات لفظ الشرك في اللغة على الأصل الأول. ويطلق حينئذ على المعاني الآتية: 1 - المحافظة، والمصاحبة، والمشاركة. قال ابن منظور: (الشَّركة والشَّرِكة سواء؛ مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر والشريك: المشارك، والشرك كالشريك، والجمع أشراك وشركاء) (¬3). قال ابن فارس: (الشركة هو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، ويقال: شاركت فلاناً في الشيء، إذا صرت شريكه، وأشركت فلاناً، إذا جعلته شريكاً لك)، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 32]،. .......... قال الراغب: (الشركة والمشاركة: خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعداً عيناً كان ذلك الشيء أو معنى، كمشاركة الإنسان والفرس في الحيوانية) (¬4). 2 - ويطلق أيضاً على النصيب والحظ والحصة. قال الأزهري: (يقال: شريك وأشراك، كما قالوا: يتيم وأيتام، ونصير وأنصار، والأشراك أيضاً جمع الشرك وهو النصيب، كما قال: قسم وأقسام) (¬5)، وقد ذكر هذا المعنى كل من الزبيدي (¬6) وابن منظور (¬7)، ومنه الحديث: ((من أعتق شركاً له في عبد)) (¬8) أي حصة ونصيباً (¬9). 3 - ويطلق أيضاً على التسوية: قال ابن منظور: (يقال: طريق مشترك: أي يستوي فيه الناس، واسم مشترك: تستوي فيه معاني كثيرة) (¬10). 4 - ويطلق على الكفر أيضاً، قال الزبيدي: (والشرك أيضاً: الكفر) (¬11). وأما الأصل الثاني: وهو الذي يدل على الامتداد والاستقامة، فأيضاً يطلق على معان: 1 - الشِرَاك ككتاب، سير النعل على ظهر القدم، يقال: أشركت نعلي وشركتها تشريكاً: إذا جعلت لها الشراك (¬12). ¬

(¬1) ((معجم مقاييس اللغة)) (3/ 265)، مادة (شرك). (¬2) انظر ما ذكره الجوهري ((الصحاح)) (4/ 1593 - 1594)، مادة (شرك) والفيومي المقري: ((المصباح المنير)) (1/ 474 - 475). (¬3) ((لسان العرب)) (7/ 99)، وما بعدها، مادة (شرك)، وانظر ما ذكره الزبيدي في ((تاج العروس)) (7/ 148)، والأزهري في ((تهذيب اللغة)) (10/ 17)، والجوهري (4/ 1593 - 1594)، مادة (شرك). (¬4) انظر قول الراغب في ((المفردات)) (ص: 259). (¬5) ((تهذيب اللغة)) (10/ 17) مادة (شرك). (¬6) الزبيدي في ((تاج العروس)) (7/ 148) مادة (شرك). (¬7) ابن منظور في ((لسان العرب)) (7/ 99، 100) مادة (شرك). (¬8) رواه البخاري (2522)، ومسلم (1501). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬9) انظر ما ذكره ابن منظور في ((لسان العرب)) (7/ 99). (¬10) انظر ما ذكره ابن منظور في ((لسان العرب)) (7/ 99، 100)، وانظر ما ذكره الزمخشري في ((أساس البلاغة)) (1/ 489). (¬11) انظر ما ذكره الزبيدي في ((تاج العروس)) (7/ 148) مادة: (شرك). (¬12) انظر ما ذكره الأزهري في ((تهذيب اللغة)) (10/ 18)، والزبيدي في ((تاج العروس)) (7/ 149،) والفيومي في ((المصباح المنير)) (1/ 474)، وابن منظور في ((لسان العرب)) (7/ 99)، والجوهري في ((الصحاح)) (4/ 1593، 1594) في مادة (شرك).

2 - الشرك - بفتحتين - حبالة الصائد، الواحدة منها: شَرَكة، ومنه قيل: ((وأعوذ بك من الشيطان وشركه)) (¬1) بفتح الراء. 3 - الشركة - بسكون الراء -: بمعنى معظم الطريق ووسطه ... جمعها: شرك - بفتحتين - (¬2). فهذه هي المعاني لكلمة الشرك، والكلمات ذات المادة الواحدة غالبا يكون فيما بينها ترابط في المعنى، فإذا تأملنا مدلولات المادة السابقة نجد الترابط واضحاً بينها، فالمشرك يجعل غير الله مشاركاً له في حقه، فله نصيب مما هو مستحق لله تعالى، فهو سوى بين الله وبين من أشركه في حق الله، بمعنى أنه جعل مَن تألهه من دون الله مقصوداً بشيء من العبادة، ولا يلزم أن يساوي بين الرب جل وعلا، وبين من أشركه معه في القصد والتعبد من كل وجه، بل يكفي أن يكون في وجه من الوجوه. وهو - أي الشرك - حبائل الشيطان؛ به يصيد أهله، وهو شبكة إبليس، أدخل أهله فيها، والذي يوجد فيه هذا الشرك لا يعتبر مسلماً. وقد جاء في كتاب الشيخ مبارك الميلي (الشرك ومظاهره) ذكر مثل هذا الترابط؛ بأن مرجع مادة الشرك إلى الخلط والضم، فإذا كان بمعنى الحصة من الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أو آخرين، كما في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ [الأحقاف: 4]، فالشريك مخالط لشريكه، وحصته منضمة لنصيب الآخر. وإذا كان بمعنى الحبالة، فإنه ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد. وإذا كان بمعنى معظم الطريق، فإن أرجل السائرين تختلط آثارها هنالك وينضم بعضها إلى بعض. وإذا كان بمعنى سير النعل، فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما. وإذا كان بمعنى الكفر فهو التغطية، والتغطية نوع من الخلط. ثم إن اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، ولا يمنع زيادة قسط للآخر، فموسى – عليه السلام – سأل ربه إشراك أخيه في الرسالة، وقد أجيب سؤاله، لقوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36]، ومعلوم أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى، ولهذا تقول: فلان شريك لفلان في دار أو بضاعة، ولو لم يكن له إلا معشار العشر، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات: تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما، وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركائي في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض، فهذا تقرير معنى الشرك في اللغة (¬3). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا – 1/ 113 ¬

(¬1) رواه أبو داود (5067)، والترمذي (3392)، وأحمد (1/ 9) (51)، والدارمي (2/ 378) (2689)، وابن حبان (3/ 242) (962)، والحاكم (1/ 694)، والضياء (1/ 113) (30). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الضياء: إسناده صحيح. (¬2) ((لسان العرب)) (10/ 448). (¬3) انظر ما ذكره مبارك محمد الميلي في: ((رسالة في الشرك ومظاهره)) (ص: 61، 62).

المطلب الثاني: معنى الشرك اصطلاحا

المطلب الثاني: معنى الشرك اصطلاحاً لقد اختلفت عبارات العلماء في بيان معنى الشرك في الدين، وإن كانت هذه العبارات تكمل بعضها الأخرى، وفيما يلي بيان لبعض أقوالهم. أ- بعض العلماء بدأ بالتقسيم قبل التعريف، ثم عرفه من خلال التعريف بأقسامه، منهم الراغب في (المفردات) (¬1)، والذهبي في كتاب (الكبائر) - المنسوب إليه (¬2) -، والإمام ابن القيم في (مدارج السالكين) (¬3). ب- ومنهم من عرف الشرك في ثنايا كلامه – وإن كان التعريف لم يكن مقصوداً بذاته في ذلك الكلام – ولهم في ذلك عبارات مختلفة، منها: 1 - يقول الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: هو (تشبيه للمخلوق بالخالق – تعالى وتقدس – في خصائص الإلهية، من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده) (¬4). 2 - وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: (هو صرف نوع من العبادة إلى غير الله، أو: هو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها) (¬5). 3 - وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: (هو أن يجعل لله نداً يدعوه كما يدعو الله، أو يخافه، أو يرجوه، أو يحبه كحب الله، أو يصرف له نوعاً من أنواع العبادة) (¬6). 4 - وقال أيضا: (حقيقة الشرك بالله: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظم كما يعظم الله، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية) (¬7). قلت: هذا التعريف شامل لجميع مدلولات الشرك. 5 - وقيل: (هو كل ما ناقض التوحيد أو قدح فيه، مما ورد في الكتاب والسنة تسميته شركا) (¬8). 6 - وقيل: هو (أن يثبت لغير الله – سبحانه وتعالى – شيئاً من صفاته المختصة به؛ كالتصرف في العالم بالإرادة الذي يعبر عنه بكن فيكون، أو العلم الذي هو من غير اكتساب بالحواس ... أو الإيجاد لشفاء المريض واللعنة لشخص والسخط عليه حتى يقدر عليه الرزق أو يمرض أو يشفى لذلك السخط، أو الرحمة لشخص حتى يبسط له الرزق أو يصح بدنه ويسعد ... ) (¬9). 7 - وقيل: (الشرك هو أن يعتقد المرء في غير الله صفة من صفات الله؛ كأن يقول: إن فلانا يعلم كل شيء، أو يعتقد أن فلانا يفعل ما يشاء، أو يدعي أن فلانا بيده خيري وشري، أو يصرف لغير الله من التعظيم ما لا يليق إلا بالله - تعالى -، كأن يسجد للشخص أو يطلب منه حاجة أو يعتقد التصرف في غير الله) (¬10). ¬

(¬1) انظر ((المفردات)) له (ص: 259). (¬2) الذهبي: ((الكبائر)) (ص: 8). (¬3) انظر ما ذكره ابن القيم في ((مدارج السالكين)) (1/ 339). (¬4) سليمان بن عبد الله آل الشيخ ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 91). (¬5) الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ((مؤلفات الشيخ: قسم العقيدة)) (ص: 281)، والدكتور صالح عبد الله العبود في ((عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) (ص: 423). (¬6) عبد الرحمن السعدي: ((القول السديد في مقاصد التوحيد)) (ص: 24). (¬7) عبد الرحمن السعدي: ((تفسير كلام المنان)) (2/ 499). (¬8) أبوبكر الجزائري: ((عقيدة المؤمن)) (ص: 105). (¬9) ولي الله الدهلوي: ((الفوز الكبير في أصول التفسير)) (ص: 3). (¬10) محمد إسماعيل بن عبد الغني بن عبد الرحمن العمري: ((تقوية الإيمان)) (22، 23)، و ((رسالة التوحيد)) (ص: 32، 33).

8 - وقال الشيخ محمد إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي - رحمه الله -: (إن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدا بالله، ويساوي بينهما بلا فرق، بل إن حقيقة الشرك: أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله - تعالى - بذاته العلية وجعلها شعاراً للعبودية، لأحد من الناس؛ كالسجود لأحد، والذبح باسمه والنذر له، والاستعانة به في الشدة والاعتقاد أنه ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح به الإنسان مشركاً) (¬1). قلت: هذا التعريف فيه تصور كامل لحقيقة الشرك، ولكنه غير منضبط. 9 - وقيل: هو (إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية، وفي العبادة) (¬2). قلت: هذا التعريف فيه تصور كامل لحقيقة الشرك، ولكنه غير منضبط. 10 - وقال الشوكاني: (إن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه) (¬3). 11 - وقيل: (الشرك: إسناد الأمر المختص بواحد إلى من ليس معه أمره) (¬4). قلت: هذا التعريف غير مانع، فإنه ليس كل إسناد مختص بواحد إلى من ليس معه أمره يعد شركاً، بل ربما يكون ظلماً أو فسقاً. فهذه – كما ترى – أقوال العلماء في تصور حقيقة الشرك، بعض منها جامع وليس بمانع، وبعضها ناقص، وبعضها كمثابة التمثيل على بعض ما وقع فيه الناس من أفراد الشرك في العبادة أو في الاعتقاد، وليس المراد: أنهم ما كانوا عارفين بالشرك، ولكن لما كان من دأبهم ذكر النماذج دون إرادة الاستقصاء، ذكروا بعض الجوانب من الشرك، والجوانب الأخرى أشاروا إليها من خلال مصنفاتهم، ومؤلفاتهم، ومن فاته شيء منها ذكره الآخرون منهم، كما هو واضح في كتابتهم ومناظرتهم مع الذين وقعوا في الشرك في زمانهم. والذي يظهر من هذه الأقوال: أن الشرك حقيقته في اتخاذ الند مع الله، سواء كان هذا الند في الربوبية أو الألوهية. وبهذا يتفق قول العلماء المحققين في حقيقة الشرك مع قول أصحاب المعاجم بأن أصل الشرك اتخاذ الأنداد مع الله. فأصل الشرك – كما علمنا من البيان السابق – ما هو إلا اتخاذ الند مع الله، وهذا ما سيتضح لنا أكثر عند بيان حقيقة الشرك في نصوص القرآن والسنة. إذا نظرنا إلى حقيقة الشرك في القرآن نرى: أن الله – عز وجل – بينها في كتابه بياناً شافياً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض. فقال تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22]. معنى الآية: النهي عن اتخاذ الأنداد مع الله بأي وجه من الوجوه، وقد نقل عن السلف في تفسير الآية مثل هذا القول، فمثلاً: 1 - قال ابن عباس: (الأنداد: الأشباه) (¬5)، والند: الشبه، يقال: فلان ند فلان، ونديده: أي مثله وشبهه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئت: ((أجعلتني لله ندا)) (¬6) ، ¬

(¬1) محمد إسماعيل بن عبد الغني بن عبد الرحيم العمري: ((تقوية الإيمان)) (22، 23)، و ((رسالة التوحيد)) (ص: 32، 33). (¬2) ابن عاشور: الطاهر: ((التحرير والتنوير)) (7/ 333). (¬3) الشوكاني: ((الدر النضيد)) (ص: 34) ط مكتبة الصحابة الإسلامية. (¬4) المناوي: ((التوقيف على مهمات التعريف)) (ص: 428). (¬5) انظر هذا القول فيما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (1/ 126، 127). (¬6) رواه أحمد (1/ 214) (1839) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 290) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) , قال ابن القيم في ((مدارج السالكين)) (1/ 602): صحيح. وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200): إسناده صحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 253): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (ص: 601).

وكل شيء كان نظيراً لشيء وشبيها فهو له ند (¬1). 2 - قال ابن مسعود: (الأنداد: الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله) (¬2)، كما قال جل ثناؤه: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: 31]. وقال الطبري: قال عدي بن حاتم: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك. فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ. قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟. قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم)) (¬3). ففي هذا القول أيضاً: إثبات كون الشرك هو اتخاذ الند، فإن من أثبت حق التشريع والتحليل والتحريم لغيره – سبحانه – فقد أثبت له الند. 3 - قال عكرمة: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً (أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، لولا كلبنا صاح في الدار، ونحو ذلك (¬4)، فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له ندا وعدلا في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكاً ونداً من خلقي، فإنكم تعلمون: أن كل نعمة عليكم مني (¬5)). 4 - قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له) (¬6). فمعنى الأنداد على هذا المعنى هي الآلهة، والآلهة عند الكفار بمعنى الشفعاء لهم عند الله، وقد سماهم الله – عز وجل – شركاء، فقال – في الرد على اتخاذهم آلهة -: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء. 5 - قال مجاهد: (الأنداد: العدلاء) (¬7). والعدلاء هنا أيضاً بمعنى الشركاء لله في عبادته، قال الله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] أي يشركون (¬8)، ويقال: من مساواة الشيء بالشيء: عدلت هذا بهذا، إذا ساويته به عدلاً. قال الطبري: (يجعلون شريكاً في عبادتهم إياه، فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان، وليس منها شيء شاركه في خلق شيء من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم عليهم، بل هو المنفرد بذلك كله وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره) (¬9). 6 - قال الطبري: (الأنداد جمع ند، والند: العدل، والمثل). ¬

(¬1) انظر ما نقله ((الطبري في تفسيره)) (1/ 127). (¬2) الطبري: ((جامع البيان)) (1/ 127). (¬3) رواه الترمذي (3095) والطبري في ((تفسيره)) (14/ 210)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (ص: 1784) والطبراني في ((المعجم الكبير)) (17/ 92) (218) والبيهقي (10/ 116)، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4108): فيه غطيف ضعفه الدارقطني. وقال ابن عثيمين في ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (10/ 736): إسناده ضعيف. وحسنه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (7/ 67) والألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3293). (¬4) رواه الطبري في تفسيره (1/ 369). (¬5) الطبري: ((جامع البيان)) (1/ 127). (¬6) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (1/ 127). (¬7) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (1/ 127). (¬8) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (7/ 92، 93). (¬9) ((تفسير الطبري)) (11/ 252).

والمقصود: أن اتخاذ الشبيه والكفؤ لله يسمى شركاً بالله، ولهذا أخبر سبحانه وتعالى أنه لم يكن له كفؤ ولا شبيه ولا نظير، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، قال تعالى: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]. قال أبو العالية في معنى الآية: (لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء) (¬1)، أي كيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه، تعالى وتقدس وتنزه (¬2)، وهو الواحد الأحد، لا نظير له ولا وزير ولا نديد، ولا شبيه ولا عديل (¬3). هكذا بين الله في كتابه حقيقة الشرك بالله بيانا واضحا، وهو: اتخاذ الند مع الله، وكل ما ذكر في معاني الند من الكفؤ، والشبيه، والمثل، والعدل، والآلهة، كلها معاني متقاربة تدل على معنى الشرك بالله، والتي تدل صراحة أن الشرك في الحقيقة: اتخاذ الند بمعنى الشبيه لله عز وجل كما سيأتي. كما أن هذا المعنى هو المستفاد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي فيها بيان حقيقة الشرك، والدليل عليه: 1 - ما روى الشيخان عن ابن مسعود قال: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك)) (¬4) ... الحديث. 2 - ما رواه مسلم أيضاً عنه: قال: قال رجل: ((يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله ندا وهو خلقك)) (¬5) .... الحديث – وفي آخره – فأنزل الله عز وجل تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]. 3 - وروى الشيخان عن أبي بكرة قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: - ثلاثاً- الإشراك بالله ... )) (¬6) الحديث. ففي هذا الحديث ذكر أكبر الكبائر بأنه الشرك، فهو بمثابة التفسير للند المذكور في الحديثين السابقين. وبهذا يحصل لنا حقيقة الشرك بلسان الرسول - عليه الصلاة والسلام -، حيث فسر اتخاذ الند بالشرك، بأن الشرك أكبر المعاصي وأكبر الكبائر، وهو أن تجعل لله ندا ومثلا وشبيهاً وعديلاً في العبادة وكفؤا في الطاعة، فمن جعل لله ندا وشبيها فقد أشرك. وأيضاً اتضح لنا من خلال ما ذكرنا: أن الشرك إنما هو اتخاذ الند والشبيه لله من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية، فمن صرف شيئاً من هذه الخصائص لغيره فهو مشرك، فأصل الشرك وحقيقته إنما هو في التشبيه والتشبه. قال ابن القيم: (حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به، ... ). (¬7) فالمشرك مشبه للمخلوق في خصائص الإلهية. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا – 1/ 117 ¬

(¬1) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (12/ 224). (¬2) انظر ما ذكره ((ابن كثير في تفسيره)) (4/ 570). (¬3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 527). (¬4) رواه البخاري (4477)، ومسلم (86). (¬5) رواه مسلم (86). (¬6) رواه البخاري (5976)، ومسلم (87). (¬7) ابن القيم: ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) (ص: 326).

المبحث الثاني: هل الأصل في الإنسان التوحيد أم الشرك؟

المبحث الثاني: هل الأصل في الإنسان التوحيد أم الشرك؟ هذا السؤال يتطلب جوابه أن نرجع إلى أصل الإنسان، فالذين يقولون: إن أصل الإنسان أنهم خلقوا من نفس واحدة، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1] قالوا: إنهم خلقوا من آدم، وعليه اتفاق جميع الأديان السماوية، وعليه اتفقت كلمة أصحاب الملل -اليهود والنصارى والمسلمون - إلا من شذ منهم واتبع الملاحدة في أقوالهم، وآرائهم، فجميع أصحاب الأديان السماوية يقولون إن الأصل في الإنسان هو التوحيد، والشرك طارئ عليهم. ويستدل عليه من وجوه: أولاً: أن الإنسان الأول هو آدم عليه السلام كان نبياً يعبد الله وحده لا شريك له، وعلم أبناءه التوحيد؛ حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي هو؟ قال: ((نعم، نبي مكلم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه روحه ... )) (¬1) ثم وقع بنو آدم في الشرك بعده بأزمان – وهذا يقر ويقول به كل من يؤمن بأن الله هو الخالق، وكل من يؤمن بالأديان السماوية الثلاث؛ الإسلامية والنصرانية واليهودية، إلا من تابع قول الملحدين منهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله- (ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لا تباعهم النبوة ... فإن آدم أمرهم بما أمره الله به، حيث قال له: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:38 - 39]، فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزل) ثانياً: بين الله سبحانه أن البشرية كانت في أول أمرها على التوحيد، ثم طرأ عليها الشرك وتعدد الآلهة، لقوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة: 213] ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 265) (22342)، والطبراني (8/ 217) (7887). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 164): مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/ 359): فيه علي بن يزيد وهو الألهاني ضعيف، ومعان بن رفاعة لين الحديث.

وجمهور المفسرين يقولون بأن الناس كانوا أمة واحدة على الهدى والتوحيد، فظهر فيهم الشرك عن طريق تعظيم الموتى، فبعث الله إليهم رسله ليردوهم إلى التوحيد. قال الطبري: (وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة، وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة في عهد آدم إلى عهد نوح - عليهما السلام - كما روى عكرمة عن ابن عباس (¬1)، وكما قاله قتادة) ويؤيده ما جاء في قراءة أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ... ) كما يؤيده قوله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ [يونس: 19]) (¬2) وهو الذي رجحه ابن كثير معللاً بقوله: (لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام – فبعث الله إليهم نوحاً-عليه السلام – فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)، ويقول: (ثم أخبر الله تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام) (¬3) ثالثاً: أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الفطرة التي فطرت عليها البشرية كلها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30] وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172] فهاتان الآيتان تبينان أن العباد كلهم مفطورون على التوحيد وأنه الأصل في بني آدم، وقد فسر مجاهد الفطرة بأنها الإسلام. ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 275) ورواه الحاكم (2/ 480). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن تيمية: ((تلبيس الجهمية)) (3/ 65): ثابت. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح. (¬2) ((تفسير الطبري)) (4/ 278 - 280). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 356 - 357).

رابعاً: بيّن الله في كتابه: أن التوحيد هو أصل دعوة الرسل وإليه دعوا أقوامهم، قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [الشورى: 13] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] وكل رسول افتتح دعوته لأمته بالدعوة إلى عبادة الله، فقال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص كما كان أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام، حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء أنفسهم لم ينزل الله بها كتاباً ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة، قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين، وقوم على مذاهب أخرى، فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه ... وجاءت الرسل بعده تترى، إلى أن عم الأرض دين الصابئة والمشركين كما كانت النماردة والفراعنة، فبعث الله تعالى إليهم إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية إبراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام ... فجعل الأنبياء والمرسلين من أهل بيته .. وبعث بعده أنبياء من بني إسرائيل ... ثم بعث الله المسيح بن مريم ... ) (¬1) وقد قال قتادة: (ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح- عليهما السلام- عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحاً وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) (¬2). سادسًا: ما رواه عياض بن حمار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)) (¬3) سابعاً: ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلي عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30])) (¬4) ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 603 - 606). (¬2) ((تفسير الطبري)) (4/ 276)، وانظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/ 620،621). وحديث ((أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)) رواه البخاري (4476)، ومسلم (193). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (2865) بلفظ: ((وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديث: (فالصواب أنها فطرة الإسلام وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172]، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة ... وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)) (¬1) بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ) (¬2) وقال ابن القيم: (فجمع عليه الصلاة والسلام بين الأمرين، تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لابد أن يغيرهما، فغير فطرة الله بالكفر وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها، وغير الصورة بالجدع والبتك، فغير الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة) (¬3) ويقول كذلك: (فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه، فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة) (¬4). ومن هذا يتبين لنا أن الشرك لم يكن أصلاً في بني آدم، بل كان آدم ومن جاء بعده من ذريته على التوحيد إلى أن وقع الشرك. فإن هذه الأدلة تنص على أن بني آدم عبدوا الله فترة من الزمن، وهي عشرة قرون كما يذكره ابن عباس - رضي الله عنهما- (¬5) ثم انحرف من انحرف عن هذا المنهج القويم، فبعث الله إليهم الرسل ليردوهم إلى التوحيد. وهناك رواية أخرى تبين لنا كيف بدأ وقوع بني آدم في الشرك، فقد أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في معنى قول الله عز وجل: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 23] قال: ((هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت)) (¬6) فهذا كان مبدأ وقوع بني آدم في الشرك وانحرافهم عن توحيد الله عز وجل. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا 1/ 181 ¬

(¬1) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 245). (¬3) ((إغاثة اللهفان)) (1/ 107). (¬4) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 158). (¬5) رواه الحاكم (2/ 480). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح. (¬6) رواه البخاري (4920).

المبحث الثالث: أصل الشرك وأسبابه

المبحث الثالث: أصل الشرك وأسبابه أوائل المشركين كما قال شيخ الإسلام: (صنفان: قوم نوح وقوم إبراهيم، فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر) (¬1). وكلا الفريقين عابد للجن فإنها التي تأمرهم به وتسوله لهم وترضى منهم الشرك ولذلك يقول الله جل وعلا: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ: 40 - 41]. وقد كانت الأصنام في زمن نوح عليه السلام صوراً لصالحين ماتوا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت) (¬2) اهـ. ويشير ابن عباس رضي الله عنهما إلى الآية: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 23]. وقد كان الناس قبل ذلك فيما بين آدم عليه السلام ونوح مدة عشرة قرون كانوا كلهم على الإسلام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) (¬3). وأما الشرك في زمن إبراهيم عليه السلام فقد كان بعبادة الكواكب، ولذلك ناظرهم في أن تلك الكواكب لا تستحق أن تعبد لأنها مربوبة مخلوقة مدبرة، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 75 - 78]. ثم إن الشرك دخل العرب بنقل عمرو بن لحي الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ((رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب)) (¬4). وقد كان سافر إلى الشام للتجارة فوجد أهل الشام يعبدون الأصنام فأخذ منها إلى مكة فأدخل فيهم الشرك (¬5). وقد كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تقربهم إلى الله تعالى فاتخذوهم واسطة بينهم وبين الله، وهذا يشبه شرك القوم الذين بعث فيهم نوح عليه السلام. ¬

(¬1) ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 22). وانظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 285 - 286). (¬2) رواه البخاري (4920). (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 275) والحاكم (2/ 480). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن تيمية: ((تلبيس الجهمية)) (3/ 65): ثابت. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح. (¬4) رواه البخاري (3521). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) انظر: ((السيرة لابن هشام)) (1/ 77) و ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 634).

وأما اعتقاد تأثير بعض الأشياء بخفاء مما لا يعلم له سبب ظاهر فيبدو أن ذلك دخل عليهم من أصل الكلدانيين الذين يعتقدون تأثير الكواكب، وكان هذا هو أصل شرك أولئك - قوم إبراهيم عليه السلام-. وقد كانت الشياطين تزين لهم عبادة تلك الكواكب، ولبست عليهم بأمور تدعوهم للاعتقاد فيها، وقد مثلوا لها تماثيل، فانتقل ذلك إلى العرب فوجد فيهم الاستسقاء بالأنواء، ومن مظاهر اعتقادهم تأثير بعض الأشياء بخفاء: اشتغالهم بالكهانة والطيرة. وبهذا العرض يتبين جلياً أن أصل شرك العالم هو عبادة الأشخاص ثم الكواكب. وهذا هو الشرك الذي أرسلت الرسل لإنكاره، وليس الشرك محصوراً في اعتقاد وجود رب آخر لهذا العالم مساو لله تعالى، بل هذا النوع لم يكن معروفاً في بني آدم كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله وبهذا يتضح جهل كثير من الناس في هذه الأزمان بحقيقة الشرك، ولزيادة المسألة إيضاحاً، يفرع على هذا بيان سبب الشرك، فلوقوع الشرك سببان: السبب الأول: الغلو في المخلوق: (¬1) ويكون بتنزيل المخلوق منزلة فوق منزلته فيصرف له شيء من حقوق الله، وهذا الأمر جلي وواضح يبينه أصل الشرك الذي حدث لقوم نوح وإبراهيم عليهما السلام – كما تقدم مستوفى ولهذا سد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الطريق كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما السبب الثاني: فهو إساءة الظن برب العالمين: وهذا السبب مترتب على السبب السابق، فإنه بعد غلو الشخص في المخلوق وحصول الجهل بالدين يتخذه وسيطاً يقربه إلى الله فيعطفه عليه في قضاء حاجاته، فيكون قد أساء الظن بإفضال ربه وإنعامه وإحسانه إليه. وهذا يحدث وإن اعتقد أن الله يسمع ويرى ويملك كل شيء. قال الله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] وكان ظن المشركين والمنافقين أن الله لن يحقق وعده بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه (¬2) كما قال الله تعالى: بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح: 12] وهذا الوصف وصف لله بالنقص، فكذلك من يعتقد أن الله لا يستجيب له إلا بوساطة يكون قد وصف الله بالنقص. وقال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في رده على قومه: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 87 - 85] فقوله: فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ حكي فيه وجهان (¬3): الأول: ما ظنكم بربكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وهذا للتهديد. والوجه الثاني: هو: أي شيء تظنون برب العالمين أنه هو حتى عبدتم غيره؟ وهذا الأسلوب معني به تعظيم الله وتوبيخ المشركين. ولا مانع أن يكون الوجهان مرادين. وعلى الوجه الثاني يظهر جلياً أن من أسباب الشرك إساءة الظن برب العالمين. وقال ابن القيم في سياق بيانه لأنواع الظن السيئ برب العالمين: (ومن ظن أن له ولداً أو شريكاً، أو أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ويتوسلون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه فيدعونهم ويحبونهم كحبه ويخافونهم ويرجونهم فقط ظن به أقبح الظن وأسوأه) (¬4) اهـ منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 95 ¬

(¬1) انظر: ((إغاثة اللهفان)) (2/ 322). (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) (22/ 205). (¬3) انظر: ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 401). و ((التسهيل لعلوم التنزيل)) لابن جزي (3/ 173). (¬4) ((زاد المعاد)) (3/ 233).

المبحث الرابع: أول شرك وقع في بني آدم

المبحث الرابع: أول شرك وقع في بني آدم إن مما لا خلاف فيه أن أول شرك وقع في العباد هو شرك الشيطان. قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 29]: قال ابن جريج: (من يقل من الملائكة إني إله من دونه، فلم يقله إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه الآية في إبليس). وقال قتادة: (إنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس، لما قال ما قال لعنه الله، وجعله رجيما) (¬1). وقال الضحاك في قوله تعالى: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ: (يعني من الملائكة إني إله من دونه، قال: ولم يقل أحد من الملائكة إلا إبليس، دعا إلى عبادة نفسه وشرع الكفر) (¬2). فهذا أول شرك وقع على الإطلاق – فيما أعلم -، ولكن متى وقع أول شرك في بني آدم؟ اختلفوا فيه على أقوال: القول الأول: إن أول شرك في بني آدم كان من قابيل، وقد حكى الإمام الطبري في تاريخه رواية تدل عليه؛ وهي (ذكر أن قابيل لما قتل هابيل، وهرب من أبيه آدم إلى اليمن، أتاه إبليس فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار؛ لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضاً ناراً تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها) (¬3). فهذا القول نرى الإمام الطبري نقله بدون سند، بل صدره بقوله: (ذكر) بصيغة التمريض، مما يدل على ضعفه عنده، وهو في نفسه ضعيف، كما سيأتي بيان ما يخالفه من القول الصحيح. القول الثاني: إن بداية الشرك كان في زمن يرد بن مهلائل، وهو أبو إدريس عليه السلام، وقد حكاه أيضاً ابن جرير في تاريخه، فقال: (حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد قال: أخبرني هشام، قال: أخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: في زمان يرد عملت الأصنام، ورجع من رجع عن الإسلام) (¬4). ففي هذا السند نرى هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وهما ضعيفان بل متهمان، ولا يقبل منهما، خصوصاً أن هذه الرواية خالفت الرواية الصحيحة – كما سيأتي -، ثم إن الكلبي هنا يروي التفسير عن أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح لم ير ابن عباس، ولا سمع منه شيئاً، ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فما رواه الكلبي لا يحل ذكره في الكتاب، فكيف الاحتجاج به؟ (¬5). والمقصود: أن هذه الرواية لا تصلح للاحتجاج. القول الثالث: إن أول شرك وقع في بني آدم إنما هو من قبل أبناء قابيل. وتدل عليه رواية ابن الكلبي في كتاب الأصنام، قال فيها: أخبرني أبي قال: (أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه الصلاة والسلام لما مات، جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند). ثم روى عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (وكان بنو شيث يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل! إن لبني شيث دواراً يدورون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء. فنحت لهم صنماً، فكان أول من عملها) (¬6). ¬

(¬1) نقله الطبري في ((جامع البيان)) (9/ 17 - 13)، وفي ((تاريخ الأمم والملوك)) (1/ 83)، والسند صحيح. (¬2) السيوطي في ((الدر المنثور)) (4/ 317)، وعزاه لابن أبي حاتم. (¬3) الطبري: ((تاريخ الأمم والملوك)) (1/ 165)، وانظر ما ذكره ابن الأثير في ((الكامل)) (1/ 32). (¬4) الطبري: ((تاريخ الرسل والملوك)) (1/ 170)، وانظر ما ذكر ابن الأثير في ((الكامل)) (1/ 34)، والسهيلي في ((الروض الأنف)) (1/ 14). (¬5) انظر ما ذكره أبو حاتم ابن حبان في ((المجروحين)) (2/ 253). (¬6) ابن الكلبي: في ((الأصنام)) (ص: 50، 51)، وعنه ابن القيم في ((الإغاثة)) (2/ 622).

فهذه الرواية أيضاً من قبل هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وهو عن أبي صالح عن ابن عباس. وقد تطرقت لهذا السند بالنقد فيما قبل، فلا أعيده هاهنا، وإنما المقصود بيان كونه قولاً ضعيفاً للغاية. القول الرابع: إن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح. ويستدل لهذا القول بما يلي: 1 - قوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 22]، والدليل على أن هؤلاء المذكورين كانوا في قوم نوح؛ الروايات الحديثية التي وردت في تفسير الآية. من أشهرها: ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت) (¬1). وما أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: (كانوا قوما صالحين – يغوث ويعوق ... – بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم) (¬2). 2 - قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213]. ويتضح وجه الاستدلال من الآية لمن اطلع على تفسيرها، وقد سبق معنا بيانه فيما قبل. 3 - ويدل عليه أيضاً: ما رواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ... ) (¬3). 4 - وقد قال قتادة: (ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح – عليهما السلام – عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحاً، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض). 5 - وعن عكرمة قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) (¬4). فهذه أقوال صحيحة عن سلف هذه الأمة في بيان بداية الشرك في بني آدم، وهي ترجح هذا القول الرابع؛ بأن بداية الشرك كان في قوم نوح، وقبل هذا كانوا على الإسلام. ومن غرائب ما في هذا الباب نسبة وجود الشرك في آدم – عليه السلام – استدلالاً بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 189، 190]. ¬

(¬1) رواه البخاري (4920). (¬2) ((جامع البيان في تفسير القرآن)) (12/ 29/62)، وانظر ما نقله السيوطي في ((الدر المنثور)) (6/ 269)، عن محمد بن كعب القرظي. (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 275) والحاكم (2/ 480) بنحوه. وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن تيمية: ((تلبيس الجهمية)) (3/ 65): ثابت. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح. (¬4) رواه الطبري في ((تفسيره)) (4/ 275) والحاكم (2/ 480) بنحوه. وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن تيمية: ((تلبيس الجهمية)) (3/ 65): ثابت. وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 854): صحيح.

فإنه جاء في تفسير هذه الآيات آثار عن بعض السلف توهم وجود الشرك في زمن آدم عليه السلام، وهي ما يلي: أولاً: ما روى الإمام أحمد بسنده عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما ولدت حواء طاف بها إبليس – وكان لا يعيش لها ولد -، فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره)) (¬1) هذا هو الحديث المرفوع الوحيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن كثير: (وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد به ولم يرفعه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعاً، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعاً، وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض عن عمر بن إبراهيم مرفوعاً؛ قلت – القائل هو الحافظ ابن كثير -: وشاذ هو هلال وشاذ لقبه) (¬2). ثانيا: الآثار عن الصحابة: أ- روي عن ابن عباس روايات بنحو ما ذكر: 1 - من طريق محمد بن إسحاق بن يسار عن داود بن الحصين عن عكرمة عنه (¬3)، وهذا السند غير مقبول عند المحدثين، فإن كل ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة فهو منكر، بل ضعفه بعضهم (¬4). 2 - من طريق عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عنه، ففي هذا السند خصيف، وهو ضعيف (¬5)، وشريك أيضاً مختلط (¬6)، فلا اعتبار بهذه الرواية. 3 - ما رواه ابن جرير الطبري، قال: حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس (¬7) (بنحوه). فهذه هي السلسلة العوفية المعروفة بالضعف من رواة التفسير عن ابن عباس (¬8). 4 - ما رواه الطبري من طريق القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثنا حجاج عن ابن جرير قال: قال ابن عباس. وذكر نحوه (¬9). فهذا أثر منقطع، وضعيف؛ فإن حجاج بن أرطأة ضعيف، وابن جريج لم يدرك ابن عباس. ب- وفي الباب رواية عن أبي بن كعب نحوه، وقد رواه ابن عباس عنه (¬10). ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 11) (20129)، ورواه الترمذي (3077)، والحاكم (2/ 594). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. (¬2) ابن كثير: ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 274). (¬3) ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/99). (¬4) انظر ما ذكره الخزرجي في ((الخلاصة)) (ص: 109). (¬5) انظر ما ذكره ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (2/ 87)، برقم (2026). (¬6) انظر ما قاله الخزرجي في ((خلاصته)) (ص: 165) في ترجمة شريك القاضي. (¬7) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (6/ 9/99). (¬8) انظر في تحقيق حال الرواة لهذا الأثر: ((لسان الميزان)) لابن حجر (5/ 174، 3/ 18، 19)، و ((تهذيب التهذيب له)) (2/ 294)، و ((التاريخ الكبير)) للبخاري (1/ 299، و4/ 1/908)، وابن سعد في ((الطبقات)) (1/ 212، 213). (¬9) انظر ما ذكره ((ابن جرير في التفسير)) (6/ 9/99). (¬10) انظر ما ذكره ((ابن كثير في التفسير)) (2/ 275)، والسيوطي في ((الدر)) (3/ 151)، وعزياه لابن أبي حاتم.

قال ابن كثير: (وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس من أصحابه؛ كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة. ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي، وغير واحد من السلف، وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة. وكأنه – والله أعلم – أصله مأخوذ من أهل الكتاب؛ فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم) (¬1) ... وهذه الآثار يظهر عليها – والله أعلم – أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدم تصديق أهل الكتاب وفي عدم تكذيبهم أيضاً، ثم إن أخبارهم على ثلاثة أقسام؛ فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضاً، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في الحديث (¬2). وهذا الأثر – المروي عن ابن عباس – ننظر إليه بهذه الاعتبارات الثلاثة، فهل يدل عليه من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء؟. في الحقيقة: أن هذا فرع عن صحة الحديث الذي رواه سمرة بن جندب – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ضعفه. أعني الحديث: ((لما ولدت حواء طاف بها إبليس ... )) (¬3) إلخ. فالمحدثون في هذا الحديث فريقان: فريق: أخذوا الحديث بالتصحيح، ثم بدؤوا يؤولون في معنى الحديث كي لا يؤدي إلى نسبة الشرك إلى آدم. وفريق آخر يضعفون الحديث، ويفسرون الآية بما يوافق طبيعة اللغة العربية، وبما روي من آثار في ذلك. فأما الذين قالوا بصحة الحديث أجابوا بأجوبة، منها: أ- أن النفس الواحدة وزوجها آدم وحواء، والشرك الواقع منهما ليس شركاً في العبادة، وإنما هو شرك في التسمية، حيث سميا ولدهما (عبد الحارث) والحارث هو اسم إبليس، وآدم وحواء لم يعتقدا بتسمية ولدهما عبد الحارث أن الحارث ربهما (¬4)، وقد ذكر هذا القول بعض المفسرين، كابن جرير الذين صوبه (¬5)، ورجحه على غيره، وروى في تأييده آثاراً عن السلف. فروى عن ابن عباس أنه قال: (أشركه في طاعته في غير عبادة، ولم يشرك بالله، ولكن أطاعه) (¬6). وعن قتادة قال: (وكان شركاً في طاعته، ولم يكن شركاً في عبادته) (¬7). وعن سعيد بن جبير قال: (قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أن آدم أشرك، ولكن حواء لما أثقلت أتاها إبليس فقال لها: من أين يخرج هذا؟ من أنفك, أو من عينك, أو من فيك؟ فقنطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سوياً ... أتطيعيني؟ قالت: نعم، قال: فسميه عبد الحارث، ففعلت ... فإنما كان شركه في الاسم) (¬8). ¬

(¬1) ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 275). (¬2) ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 275). (¬3) رواه أحمد (5/ 11) (20129)، ورواه الترمذي (3077)، والحاكم (2/ 594). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. (¬4) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/101). (¬5) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/101). (¬6) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/99). (¬7) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/99). (¬8) انظر هذا القول عند ((ابن جرير في تفسيره)) (6/ 9/99).

وعن السدي قال: ( ... فذلك حين يقول الله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا يعني في التسمية) (¬1). وأيضاً يدل عليه قراءة من قرأ: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء بمعنى الشركة يعني بالاسم (¬2)، وحتى يتفادى أصحاب هذا القول الاعتراض عليهم بأن قوله تعالى: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يفيد أن الذين أتوا بالشرك جماعة؛ إذ لو كان آدم وحواء لقال: فتعالى الله عما يشركان. فقد ذهبوا إلى أن في الآيتين قصتين: قصة آدم وحواء، والخبر قد انقضى عند قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا. وقصة مشركي العرب، والخبر عنها في قوله: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، والمعنى فتعالى الله عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان (¬3)، واستأنسوا في ذلك بما روي من آثار، منها: ما روي عن السدي في قوله تعالى: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، يقول: هذه فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب (¬4). ويروى عنه أيضاً أنه قال: (هذا من الموصول والمفصول، قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا في شأن آدم وحواء، ثم قال الله تبارك وتعالى: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ قال: عما يشرك المشركون، ولم يعنهما) (¬5). وقد رواه ابن أبي حاتم أيضاً في تفسيره (¬6). وأجابوا عما يقال: إن آدم وحواء إنما سميا ابنهما عبد الحارث والحارث واحد، وقوله شُرَكَاء جماعة، فكيف وصفهما جل ثناؤه بأنهما جعلا له شركاء، وإنما أشركا واحداً؟ قالوا في الجواب عن هذا السؤال: إن العرب تخرج الخبر الواحد مخرج الخبر عن الجماعة إذا لم تقصد واحداً بعينه ولم تسمه، كقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ [آل عمران:173] وإنما كان القائل واحداً، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الجماعة؛ إذ لم يقصد قصده، وذلك مستفيض في كلام العرب وأشعارها (¬7). وممن استحسن هذا القول ودافع عنه، ورأى صحة الحديث الألوسي الذي قال: (لا يعد هذا شركاً في الحقيقة؛ لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية، لكن أطلق عليها الشرك تغليظاً) (¬8). كما يفهم من سياق كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أنه يرجح هذا التفسير؛ حيث أتى به في تفسير قوله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، مستدلاً به على منع التعبيد لغير الله (¬9). ¬

(¬1) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/99). (¬2) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/101). (¬3) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/101). (¬4) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/101). (¬5) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (6/ 9/102). (¬6) عزاه السيوطي في ((الدر المنثور)) (3/ 152) إلى ابن أبي حاتم. (¬7) انظر ما ذكره ((الطبري في تفسيره)) (6/ 9/101). (¬8) الآلوسي: ((روح المعاني)) (3/ 185). (¬9) انظر ما كتبه الشيخ في كتاب ((التوحيد له مع فتح المجيد)) (2/ 614).

كما أن الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – يرى رجحان هذا التفسير في تيسير العزيز الحميد؛ حيث قال: (وإذا تأملت سياق الكلام من أوله إلى آخره مع ما فسره به السلف، تبين قطعاً أن ذلك في آدم وحواء عليهما السلام، فإن فيه غير موضع يدل على ذلك، والعجب ممن يكذب بهذه القصة، وقوله تعالى: عَمَّا يُشْرِكُونَ هذا – والله أعلم – عائد إلى المشركين من القدرية، فاستطرد من ذكر الشخص إلى الجنس، وله نظائر في القرآن) (¬1). وقال أيضاً: (قوله: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته: أي لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث، لا أنهما عبداه، فهو دليل على الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة) (¬2) .... وأما الذين قالوا بتضعيف الحديث فهم كثر – وهو الصحيح إن شاء الله كما سيأتي -، قالوا: إن الحديث ضعيف، فبعض منهم ضعفه رواية، وبعضهم ضعفه دراية. أما الذين ضعفوه من جهة الرواية فهم الجهابذة من المحدثين، منهم الحافظ ابن عدي؛ حيث إنه أعله بتفرد عمر بن إبراهيم، وقال: (وحديثه عن قتادة مضطرب) (¬3). وأما الحافظ ابن كثير فقال: إن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه: أحدها: أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً، فالله أعلم. الثاني: أنه قد روي من قول سمرة نفسه، ليس مرفوعاً، كما قال ابن جرير ... الثالث: أن الحسن –نفسه- فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعاً لما عدل عنه إلى الذي أورده ابن جرير بسنده عن الحسن جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا، قال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم. وبسنده عن الحسن قال: عني به ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده. وبسنده عن الحسن قال: هم اليهود والنصارى؛ رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا. ثم قال ابن كثير: هذه أسانيد صحيحة عن الحسن –رضي الله عنه- أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث محفوظاً عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره، ولاسيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل كعب، ووهب بن منبه، وغيرهما (¬4). وزاد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – علة أخرى؛ وهي الآتي ذكرها في الوجه الرابع. الرابع: أن الحسن في سماعه من سمرة خلاف مشهور، ثم هو مدلس، ولم يصرح بسماعه عن سمرة، وقال الذهبي في ترجمته في الميزان: (كان الحسن كثير التدليس، فإذا قال في حديث: (عن فلان) ضعف احتجاجه) (¬5). ولكن يفهم من صنيع الحافظ العلائي أن رواياته عن سمرة تحمل على السماع، وقد ذكر لذلك شاهداً (¬6)، فلم يبق من العلل إلا ما ذكره ابن كثير. ¬

(¬1) سليمان بن عبد الله آل الشيخ: ((تيسير العزيز الحميد)) (565، 566). (¬2) سليمان بن عبد الله آل الشيخ: ((تيسير العزيز الحميد)) (565، 566). (¬3) ابن عدي في ((الكامل)) (3/ 1701). (¬4) انظر ما ذكره ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 275). (¬5) انظر قول الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (1/ 527)، برقم (1968)، وجاء في المطبوع: ضعف لحاجة، وهو خطأ، والصواب ما ذكر الشيخ الألباني – رحمه الله – (ضعف احتجاجه)، وانظر قول الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1/ 517). (¬6) انظر ما ذكره العلائي في ((جامع التحصيل)) (165، 166) بتحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. ابن حزم: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 11).

أما من حيث الدراية: فأيضاً لا يصح؛ فإنه لم يثبت لدينا أن إبليس كان اسمه حارث، ثم ليس لدينا ما يدل على أن آدم كان يموت له الأولاد في حياته غير هابيل، ثم إن هذا خلاف مقتضى إرساله إلى الأرض من الله جل وعلا، فإنه أرسل لعمران الأرض، فلو مات له الأولاد لا يحصل هذا المقصود ألبتة، فهذا مما يضعف الحديث دراية، ولهذا قال ابن حزم – رحمه الله-: (وهذا الذي نسبوه إلى آدم – عليه السلام – من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة مكذوبة، من تأليف من لا دين له ولا حياء، لم يصح سندها قط، وإنما نزلت في المشركين على ظاهرها) (¬1). وقال ابن القيم: (فالنفس الواحدة وزوجها آدم وحواء، واللذان جعلا له شركاء فيما آتاهما المشركون من أولادهما، ولا يلتفت إلى غير ذلك مما قيل: إن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولد ..... ) (¬2). من وجوه ضعف هذا القول ما يلي: 1 - أن آدم – عليه السلام – كان أعرف بإبليس وعداوته الشديدة له، وأن اسم إبليس هو الحارث – لو صح – فكيف مع هذا يسمي ولده عبد الحارث؟ 2 - جمع الشركاء في قوله تعالى: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا يدل على أن المتخذ شريكاً لله جماعة، في حين أن المتخذ شريكاً لله على هذا القول واحد وهو إبليس، فالتعبير بالجمع يدل على ضعف هذا القول. 3 - أنه لم يجر لإبليس في الآية ذكر، فلو كان هو المتسبب في التسمية – التي أطلق عليها شرك – على حد هذا القول – لجرى له ذكر، فالمقام مقام التحذير من الانخداع بوسوسة إبليس يقتضي ذكر اسم إبليس؛ لئلا ينخدع أحد بعده. 4 - أنه تعالى قال بعده: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر. 5 - لو كان المراد إبليس لقال: (أيشركون من لا يخلق شيئاً)، ولم يقل: مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً؛ لأن العاقل إنما يذكر بصيغة (من) لا بصيغة (ما) (¬3). وأما تفسير الآية على القول بتضعيف هذه الرواية فكما يلي: 1 - أن الآيتين في حق آدم وحواء، ويدفع الإشكال في قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا بأن الكلام على حذف مضاف، والتقدير: (جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما)، والتثنية على أن ولده قسمان: ذكر وأنثى؛ أي صنفين ونوعين، فزال الإشكال عن (جعلا) و (آتاهما). وفي قوله تعالى: فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بلفظ الجمع باعتبار الأولاد (¬4). 2 - أن الخطاب لجميع الناس، والضمير في (جعلا) و (آتاهما) يعود على النفس وزوجها، لا إلى آدم وحواء (¬5)، وعلى هذا: النفس، غير ما ذكروه في تأويله، وهذا أقرب وأبعد من التأويل المتكلف. 3 - أن الخطاب في (خلقكم) لقريش، وهم آل قصي، فإنهم خلقوا من نفس قصي، وكان له زوج من جنسه عربية قرشية، وطلبا من الله أن يعطيهما الولد، فأعطاهما أربعة بنين فسماهم بـ عبد مناف، عبد شمس، عبد العزى، عبد الدار (¬6). ¬

(¬1) ابن حزم: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 11). (¬2) ابن القيم: ((روضة المحبين)) (ص: 296). (¬3) انظر هذه الأوجه عند ((الفخر الرازي في تفسيره)) (8/ 15/60، 61). (¬4) ذكره الزمخشري في ((الكشاف)) (2/ 109)، وابن القيم في ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 263 - 264). (¬5) ذكره ((الرازي في تفسيره)) (8/ 15/60 - 62). (¬6) انظر ما ذكره النيسابوري: ((تفسير رغائب الفرقان وغرائب القرآن)) (6/ 9/94) بهامش تفسير الطبري.

4 - أن المراد بالنفس الواحدة آدم، وزوجها المجعول منها حواء، والذي طلبه آدم وحواء من الله صالحاً هو النسل السوي بصنفيه الذكور والإناث، ولكن أولاده جعلوا لله شركاء من الأصنام والأوثان فيما أتاهم، فتعالى الله عن إشراك المشركين من هذا النسل. فقوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوة، وعقلاً، فكثروا صفة للولد وهو الجنس، فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل: (فلما أتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان (له شركاء) بعضهم أصناماً، وبعضهم ناراً، وبعضهم شمساً، وبعضهم غير ذلك (¬1). والمقصود: أنه لم يثبت أن آدم عليه السلام وقع في الشرك، بل الصحيح الثابت ما سبق أن ذكرناه أن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح. قال شيخ الإسلام: (إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام، وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص، كما كان عليه أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان، بدعة من تلقاء أنفسهم، لم ينزل الله بها كتاباً ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة, والفلسفة الحائدة؛ قوم منهم زعموا: أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية, والدرجات الفلكية, والأرواح العلوية. وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين. وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين. وقوم على مذاهب آخر. وأكثرهم لرؤسائهم مقلدون، وعن سبيل الهدى ناكبون، فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وإن زعموا أنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء) (¬2). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 176 ¬

(¬1) انظر ما ذكره الخطيب الشربيني: ((السراج المنير في الإعانة على معرفة كلام ربنا الخبير)) (1/ 449). (¬2) ابن تيمية: ((مجموع الفتاوى له)) (28/ 603 - 604).

المبحث الخامس: وقوع بعض هذه الأمة في الشرك

المبحث الخامس: وقوع بعض هذه الأمة في الشرك لقد صدق الرسول الأمين الحريص على حفظ إيمان المؤمنين حينما قال: ((الشرك أخفى في أمتي من دبيب الذر على الصفا ... )) (¬1). لقد خفى بعض أنواع الشرك على كثير من العلماء حيث وقعوا فيه، قال صاحب الدين الخالص: (ومن أنواع الشرك أشياء ما عرفها الصحابة إلا بعد سنين، فمن أنت حتى تعرفه بغير تعلم. وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ [الزُّمر: 65]، فإذا كان هذا في حق سيد الرسل وخاتمهم، فما ظنك بغيره من الناس؟ ... وقال إبراهيم ... : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، فإذا كان أبو الأنبياء يخاف على نفسه وعلى بنيه الأنبياء فما ترجوه في غيره وغيرهم من آحاد الناس الذين ليسوا بأنبياء؟ ... وحيث إن الشرك أخفى من دبيب النمل ابتلي به بعض من لم يتفطن له، وأفصح به في مقالاته، على جهل منه ... ) (¬2). حتى بعض العلماء مبتلون في الوقوع في بعض أنواع الشرك؛ لخفائها وعدم تصور حقيقة الشرك التي بعث الرسل لأجلها، ولعل بعضهم كان لديهم حسن نية في بعض أقوالهم وأعمالهم التي شابهت الشرك، ولكن كما قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: (وكم من مريد للخير لن يصيبه) (¬3). ثم إن هؤلاء القوم الذين سأذكرهم فيما يلي: لا أقول إنهم مشركون، فإن الحكم على العموم سهل وميسر في كثير من القضايا دون الحكم بالتعيين، فإنه ربما يوجد المقتضي للحكم على أحد بالشرك أو الكفر، ولكن يمنع من الحكم عليه فوات شرط من الشروط أو انتفاء مانع من الموانع، فمثلاً إذا كان لدى أي مسلم شبهة في كون بعض أنواع من التصرفات شركاً فإنه تزال عنه الشبهة أولاً، وتقام عليه الحجة ثانياً، وقبل هذا لا يحكم عليه بالشرك أو الكفر أبداً. قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين: أحد علماء نجد الأعلام: (والذي نقوله في ذلك: إن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ ... الدعوة إليه، فالذي يحكم عليه إذا كان معروفاً بفعل الشرك ويدين به، ومات على ذلك فظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه. وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى، فإن كانت قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله، وأما من لا نعلم حاله في حال حياته، ولا ندري ما مات عليه، فإنا لا نحكم بكفره، وأمره إلى الله) (¬4). وقال الإمام المجدد – الشيخ محمد بن عبد الوهاب -: (القصة تفيد أن المسلم – بل العالم – قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري عنها، فتفيد لزوم التعلم والتحرز، ... وتفيد أيضاً: أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كذب هو لا يدري، فنبه على ذلك فتاب من ساعته، أنه لا يكفر ... ) (¬5). ¬

(¬1) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (2/ 319). وأشار المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 87) إلى أن -إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما. (¬2) ((الدين الخالص)) (1/ 138 - 141)، مختصراً. (¬3) رواه الدارمي (1/ 79) (204). وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (5/ 11): إسناده صحيح. (¬4) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 835). (¬5) ابن عبد الوهاب: ((كشف الشبهات)) (ص: 45، 46).

وفي موضع آخر: ( ... وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر, والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم ... ) (¬1). وقال الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عن بعض من يعمل الشرك أنه لا يكفر: (لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته بلسانه، وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة ... ) (¬2). فالصحيح في تكفير المعين ونسبته إلى الشرك: أنه لا ينسب إليه الشرك إلا بعد إزالة الشبهة الموجودة عنده، وبعد إقامة الحجة عليه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الجهمية (الذين وقعوا في شرك التعطيل): (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال) (¬3)، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم. فكل من وقع في هذه الأمة من أنواع من الشرك بالله جل شأنه لا نحكم عليهم بأنهم مشركون إلا إذا ثبت لنا أنه قد أقيمت عليهم الحجة، وأزيلت عنهم الشبهة، فليس كل من وجد عنده شرك يوصف بالمشرك – إلا إذا كان الشيء مما يعلم من الدين بالضرورة-، كما هو ظاهر من نصوص الأئمة. وإذا نظرنا إلى أغلب الفرق التي وقعت في الشرك نرى أنها كانت لديهم شبهة فيما قالوه وارتكبوه، فهذا الذي يمنعنا عن الحكم عليهم بأنهم مشركون بالتعيين، ولكن ليس المراد منه أن من ليس عنده شبهة، أو كانت شبهته في الأمور التي تعد من المعلوم بالدين بالضرورة، وقد أقيمت عليه الحجة؛ أنا لا نقول له بأنه مشرك كالباطنية والنصيرية والغلاة من الروافض مثلاً، فقد ثبت عن الأئمة أنهم كفروهم بالتعيين. ثم إنا وإن لم نصف أحداً بالتعيين بأنه من المشركين فإنه لا ضير أن نذكر من وجد عنده نوع من أنواع الشرك؛ تنبيهاً للعامة ونصحاً للأمة، فمن هذا المنطلق سأذكر بعض من تورط في بعض أنواع الشرك سواء كان بقصد أو بغير قصد. فمثلاً: إن الشرك في ذات الله وصفاته وأفعاله بالتعطيل قد وقع فيه كثير من العلماء البارزين من الجهمية والمعتزلة، كما وقع فيه جملة من العلماء المشهورين من الأشاعرة والماتريدية، وجملة من العلماء الذين قالوا بالقدر أو الجبر، وهذا وقع فيه جملة من المتصوفة الذين قالوا بوحدة الوجود مثلاً. وأما الشرك في ذات الباري وأسمائه وصفاته وأفعاله بالأنداد فقد وقع فيه كثير من الشيعة وكثير من أهل السنة الغالين بالتشبيه، سواء كان هذا التشبيه في ذاته, أو في صفاته, أو في أفعاله، وذلك بإثبات بعض صفات الباري المختصة به سبحانه لبعض العباد، كما فعل الروافض في علي وأئمتهم، وكما فعل بعض أصحاب الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض من يحسنون بهم الظن بأنهم من الأولياء الكمل ولهم من الخصائص كذا وكذا، حتى بلغوا بهم إلى حد إثبات الأنداد لله عز وجل، ... وأما الشرك في العبادة فحدث عنه ولا حرج، فكم ممن ينسب إلى العلم المعروفين في هذه الأمة أشركوا بالله جل وعلا – ومازالوا يشركون – في هذا الباب؛ كدعاء غير الله، والاستغاثة بغيره فيما لا يستغاث فيه إلا به، والاستعانة بغير الله في الأمور التي تختص فيها الاستعانة به سبحانه، والنذر والذبح، وأنواع من العبادات لغير الله، بحجة التوسل بهؤلاء الأشخاص والأموات إلى الله جل شأنه. فلما فشى الشرك في هذه الأمة إلى هذه الدرجة قام العلماء الذين قد نور الله قلوبهم بمعرفة التوحيد ومعرفة حقيقة الشرك بمقتضى البشارة النبوية: ((لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي وعد الله)) (¬4)، وهم أصحاب الحديث والأثر من هذه الأمة. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– بتصرف 1/ 671 ¬

(¬1) ((مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب: فتاوى ومسائل)) (9/ 11). (¬2) نقلا عن ((الهداية السنية)) لسليمان بن سحمان (46/ 47). (¬3) ابن تيمية: ((الرد على البكري)) (ص: 46). (¬4) رواه مسلم (1920). من حديث ثوبان رضي الله عنه.

المبحث السادس: متى وكيف كانت بداية الشرك في هذه الأمة

المبحث السادس: متى وكيف كانت بداية الشرك في هذه الأمة إن الله عز وجل أنعم على هذه الأمة حيث بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الثقلين عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة: 19]، وقد ((مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) (¬1)، والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب مبدل أو منسوخ، ودين دارس بعضه مجهول، وبعضه متروك، وإما أمي: من عربي وعجمي. فمنهم من بحث عن الحنيفية واعتصم بها، ولكن أغلبهم كانوا مقبلين على عبادة ما استحسنوه، وظنوا أنه ينفعهم؛ من جن, أو وثن, أو قبر، أو تمثال أو غير ذلك؛ والناس في جاهلية جهلاء: من مقالات يظنونها علماً وهي الجهل، وأعمال يحسبونها صلاحاً، وهي فساد، وعبادات يحسبونها من عند الله، وهي من ما زينت لهم الشياطين وتهواها نفوسهم، ووجدوا عليها آباءهم. فهدى الله الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، وفتح الله بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، بعد أن جاهدهم وجالدهم باللين والحكمة، وقارعهم بالسنان والحجة لمن كابر وعاند، وكان من أمره صلى الله عليه وسلم مع قريش ما كان، حتى هاجر إلى المدينة، وكان نصر الله حليفه، فاستقام أمره، وظهر دينه، فجاء نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وجمعهم الله على دين الإسلام؛ دين التوحيد، والملة الإبراهيمية الحنيفية بعد تشتت تام, وعداوة كاملة، وانهيار خلقي, وانحلال ديني, وفساد عقدي. فألف بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمة الله إخواناً، وكسرت الأوثان والأصنام، وزالت عبادتها على أصنافها، فطمست التماثيل, وسويت القبور المشرفة، وأزيلت المعبودات من دون الله من قبر, وشجر, وحجر, ونصب, وصنم, ووثن، وأبطلت. وتحررت العقول من دناءة تفكيرها، ووضاعة تصورها، فارتقت إلى التوحيد بعد أن كانت في حمأة الشرك، وأصبحت قلوبهم متجهة إلى الله وحده لا شريك معه غيره؛ لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فأتم الله أمره, وأكمل دينه، وأعلا كلمته، حتى صار الدين كله لله. فلما تمت نعمة الله عليه وعلى أمته وظهر ما جاء به من الحق، ووضحت الطريقة توفاه الله جل وعلا إليه، والإسلام في تقدم وشوكة تامة وغلبة كاملة، ليظهر على الدين كله. وكان الصحابة – رضي الله عنهم وأرضاهم – يأخذون سلوكهم وأعمالهم وعقائدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحياته هي الإسلام غضاً طرياً، وقد نزل القرآن الكريم بلغتهم ففهموا ما أراد الله منهم، وما احتاج إلى بيان بينه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته، فكان الناس أمة واحدة ودينهم قائم في خلافة أبي بكر وعمر، فلما استشهد باب الفتنة عمر رضي الله عنه، وانكشف الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبراً، وتفرقت الكلمة، وتمت وقعة الجمل ثم وقعة صفين، فظهرت الخوارج وكُفِّر سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب. وكان السبب في ذلك أنه كان هناك دولتان عظيمتان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهما: فارس، والروم، وقد كسر الله شوكتهم، وأزال ملكهم بأيدي الصحابة، وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، فلما سيطر حكم الإسلام على أكثر البلاد في آسيا، وإفريقيا، وغيرهما، دخل تحت حكمه أمم كثيرة رغبة ورهبة، وكان لها أديان مختلفة، من يهودية ونصرانية، ومجوسية ووثنية، وغير ذلك. وقد كان لكثير من هذه الأمم سلطان كبير مثل المجوس، والرومان، فسلبهم المسلمون ذلك، وكان عند هؤلاء من الكبر والاستعلاء ما يجعلهم يأنفون من كونهم تحت سلطان المسلمين، ولا سيما وقد كانوا يرون العرب من أحقر الأمم، وأقلها شأناً. ¬

(¬1) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.

كما أن اليهود واجهوا الإسلام ورسوله من أول أمره بالعداء، وحاولوا القضاء عليه بأنواع جهدهم وكيدهم إلى الدسائس، والمؤامرات، والاغتيالات لرجاله العظام، ودخل في الإسلام ظاهراً من هؤلاء من قصد إفساده، وتمزيق وحدة أهله، ولابد أن يكون عن دراسة، وإعمال فكر وتخطيط، وربما يكون هناك جمعيات متعاونة، من المجوس والنصارى، والهنود، وغيرهم، وقد تكون لكل طائفة مؤسسات تعمل لإفساد عقائد المسلمين، لتيقنهم أنه لا يمكن هزيمة المسلمين إلا بإفساد عقيدتهم. فبدأت آثار تلك المؤامرات تظهر، شيئاً فشيئاً، فقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بأيد مجوسية، وربما بمؤامرة مجوسية يهودية، ثم قتل الخليفة الذي بعده، بأيد مشبوهة، من غوغاء، بدفعهم بعض دهاة اليهود والمجوس (¬1). قال الإمام ابن حزم: (الأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانوا على سعة الملك، وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى أنهم يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم، على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة، في أوقات شتى، ... فرأوا أن كيده على الحيلة أنجح. فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشناع ظلم علي –رضي الله عنه-، ثم سلكوا بهم مسالك شتى، حتى أخرجوهم عن الإسلام، فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلاً ينتظر يدعى المهدي، عنده حقيقة الدين، إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين من هؤلاء الكفار، وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعى له النبوة، وقوم سلكوا بهم ... القول بالحلول، وسقوط الشرائع. وآخرون تلاعبوا بهم، وأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة ... وقد سلك هذا المسلك أيضاً عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي، فإنه –لعنه الله- أظهر الإسلام ليكيد أهله، فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان – رضي الله عنه- ... ومن هذه الأصول الملعونة، حدثت الإسماعيلية، والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة، قائلتان بالمجوسية المحضة، ثم مذهب مزدك الموبذ، ... فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوهم عن الإسلام كيف شاؤوا، إذ هذا هو غرضهم فقط) (¬2). فأول فرقة ظهوراً هي الشيعة، وكانت الخوارج أيضاً في نفس الوقت ظهرت كفرقة مستقلة، وإن كان لكل منهما وجود قبل هذا ولكن بصفة متفرقة، فهاتين الفرقتين لهما السبق في تفريق جمع هذه الأمة. قال الشهرستاني: (ومن الفريقين ابتدأت البدع والضلالة ... وانقسمت الاختلافات بعده إلى قسمين: أحدهما: الاختلاف في الإمامة. والثاني: الاختلاف في الأصول ... والاختلاف في الإمامة على وجهين: أحدهما: القول بأن الإمامة بالاتفاق والاختيار، والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين ... ¬

(¬1) راجع لما تقدم ما ذكره كل من الإمام ابن حزم في ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (2/ 115، 116). والشهرستاني في ((الملل والنحلل)) (10/ 15 - 22). والذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 236). والمقريزي في ((الخطط)) (2/ 331 - 343، 3/ 309 - 343). وشيخنا عبد الله محمد الغنيمان في ((شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري)) (1/ 3 - 19). و ((مقدمة الدكتور علي بن محمد بن ناصر فقيهي في تحقيقه لكتاب الإيمان لابن مندة)) (1/ 4 - 7). (¬2) ابن حزم الأندلسي في ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (2/ 115 - 116)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 584، 285)، والديلمي في ((قواعد آل محمد)) ((بيان عقيدة الباطنية وبطلانها)) (ص: 19).

وأما الاختلاف في الأصول فحدثت في آخر أيام الصحابة بدعة معبد الجهني, وغيلان الدمشقي، ... في القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشر إلى القدر ... ) (¬1)، فتبرأ ابن عمر (¬2) وابن عباس (¬3) وغيرهما ممن يقول بهذه المقالة. ثم حدثت بدعة الإرجاء، ثم حدثت بدعة الجهم بن صفوان ببلاد المشرق, فعظمت الفتنة به، فإنه نفى أن يكون لله صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكاً أثرت في الملة الإسلامية آثاراً قبيحة تولد منها بلاء كبير. وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال على يد واصل بن عطاء، كمسلك فكري، بنت هذه الفرقة مذهبها على الجدل، واستعانت في ذلك بما وجدته من منطق اليونان وفلسفتها لتعزيز آرائها، وغيروا كثيراً من مفاهيم العقيدة، وأصلوا لبدعتهم أصولاً توافق عقولهم وأهواءهم. ثم تطورت هذه المذاهب السياسية والفكرية وتشعبت حتى خرجت بعض هذه الفرق عن دائرة الإسلام، كما هو معلوم. بداية الانحراف الشركي في هذه الأمة في الربوبية بالتعطيل: بعد استعراض أقوال العلماء في كيفية انحراف عقيدة هذه الأمة يحسن بنا أن نتعرف على بداية الانحراف الشركي في الربوبية بالتعطيل: سواء كان في أسماء الله أو صفاته أو أفعاله. ولعل أول شرك منظم في هذه الأمة في هذا الجانب – على ما نص عليه العلماء – هو شرك القدرية (¬4) الذين أنكروا القدر، فأشركوا في الربوبية بتعطيل صفات الله عز وجل وأفعاله. فإن إنكار القدر يتضمن إنكار كثير من الصفات والأفعال، كما أنهم أثبتوا خالقين. ولهذا قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: (هذا أول شرك في هذه الأمة) (¬5). وقال ابن عمر –رضي الله عنهما- فيهم: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر) (¬6). وأول من عرف بذلك رجل مجوسي يقال له: سيسويه، من الأساورة، وإن كان قد اشتهر أن أول من قال به معبد الجهني (¬7). ثم ظهر شرك التعطيل في أسماء الله وصفاته، بأنه ليس لله أسماؤه الحسنى، وأنه لا يوصف بشيء مما وصف به نفسه, أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يحب أحداً من عباده، ولا يتكلم وليس له يد ولا وجه، وكان أول من عرف بذلك رجل يقال له: الجعد بن درهم. ¬

(¬1) الشهرستاني: ((الملل والنحل)) (1/ 17 - 22). (¬2) رواه مسلم (8). (¬3) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (ص: 79)، وفي ((الأوائل)) (ص: 59)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 238)، واللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (ص: 1116). (¬4) انظر ما ذكره ابن أبي العز في ((شرح الطحاوية)) (1/ 322). (¬5) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (1/ 330): قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 207): [روي] من طريقين وفي إحداهما رجل لم يسم وسماه في الأخرى العلاء بن الحجاج ضعفه الأزدي. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 21): إسناده ضعيف [وروي من طريق آخر إسناده حسن على الأقل]. وضعفه الألباني في ((شرح الطحاوية)) (250). (¬6) رواه مسلم (8). (¬7) انظر ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع فتاواه)) (7/ 384)، وما ذكره المقريزي في ((الخطط)) (3/ 360).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أصل هذه المقالة – مقالة التعطيل للأسماء والصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين، فأول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة ... في الإسلام: هو الجعد بن درهم، فأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها، فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم) (¬1). فهذه سلسلة يهودية لها سوابق في محاربة الإسلام. روى البخاري في خلق أفعال العباد، بسنده، قال: قال خالد بن عبد الله القسري في يوم أضحى: (ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد ابن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله علواً كبيراً عما يقول ابن درهم)، ثم نزل فذبحه. قال أبو عبد الله: قال قتيبة: إن جهماً كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم) (¬2). فتبين من هذا أن الإلحاد أو شرك التعطيل في الربوبية بتعطيل الأسماء والصفات والأفعال ما هو إلا مؤامرة يهودية سيقت بغية إفساد العقيدة الصحيحة النقية للإسلام، كما بينا أن هذا الرفض أول من عرف من دعاته يهودي ماكر حاقد وهو ابن سبأ. والمقصود: بيان كون الشرك الذي يتعلق بذات الرب سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله بالتعطيل أول ما حدث في تاريخ الإسلام من قبل هؤلاء القدرية في زمن صغار الصحابة، ومن قبل هؤلاء الجهمية بعدما ذهب أئمة التابعين – رضوان الله عليهم أجمعين (¬3) -. وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال على يد واصل بن عطاء؛ فأنكر صفات الله عز وجل متأثراً بالجهمية، فهؤلاء المعتزلة نفوا أن يكون الله عز وجل خالقاً لأفعال العباد، وأثبتوا صفة الخلق لأفعال العباد، وأثبتوا صفة الخلق لأفعال العباد للعباد الضعفاء، وحرفوا الآيات القرآنية الدالة على الصفات وخلق الله لأفعال العباد، وجعلوا الأحاديث الصحيحة التي تدل على خلق الله سبحانه لأفعال العباد ظنية غير موجبة للعمل، تلبية لدعوة هواهم في إثبات آرائهم الفاسدة، وجمعوا بهذه الأعمال الشنيعة بين شرك تعطيل الصفات مع شرك تعطيل الأفعال، فما عبدوا إلا المعدوم، وما أشبهوا إلا المجوس. وتأثر بهم ابن كلاب، فهذب مذهب الاعتزال وحاول تقريبه إلى مذهب أهل السنة في الصفات، ولكن لم يتخلص منهم، ثم ظهر في الساحة الإمام الأشعري، وكان أخذ عن الجبائي المعتزلي في أول الأمر، ولكنه سرعان ما رجع إلى مذهب ابن كلاب، فألف ودافع عنه، فهؤلاء الأشاعرة المنسوبة إلى الإمام الأشعري كلهم من أتباع ابن كلاب في الحقيقة، وهم من المتأثرين بالمعتزلة في الصفات حيث لم يتخلصوا من شرك التعطيل. ومن الذين تأثروا بمذهب المعتزلة والجهمية في زمن الأشعري: أبو منصور الماتريدي، حيث إنه أخذ مذهب الاعتزال وأراد أن يتخلص منه، ولكن فاته الحظ الأوفر من مذهب السلف في الصفات، فلم يسلم من شرك التعطيل في صفات الله جل وعلا من جميع الوجوه، وهؤلاء الماتريدية المنسوبون إليه إلى يومنا هذا كلهم واقعون في شرك تعطيل بعض صفات الله جل شأنه شاؤوا أم أبوا. ¬

(¬1) ابن تيمية: ((مجموع فتاواه)) (14/ 20)، وانظر ما نقله عنه ابن عبد الهادي في ((العقود الدرية)) (ص: 85). (¬2) البخاري: في ((خلق أفعال العباد)) (ص: 29، 30)، ورواه عثمان بن سعيد الدارمي في ((الرد على الجهمية)) (ص: 25). (¬3) راجع ما قاله شيخ الإسلام في ((مجموع فتاواه)) (4/ 347 - 357)، وفي كتابه ((تفسير آيات أشكلت على كثير من الناس .. )) (2/ 774، 775).

والمقصود: أن هؤلاء الأشاعرة والماتريدية إنما تأثروا ببدعة الجهمية في إنكار الصفات وتأويلها وتعطيلها، وبهذا وقعوا في شرك التعطيل من غير أن يشعروا، ورائدهم في ذلك: جهم بن صفوان الذي ابتدع هذه البدعة في زمان أئمة التابعين وأتباعهم. وفي نفس الوقت حدث في الساحة شرك التشبيه بالله جل شأنه، فسموا مشبهة، وهم صنفان: صنف شبهوا ذات الباري بذات غيره، وصنف آخر شبهوا صفاته بصفات غيره، وكل صنف من هذين الصنفين مفترقون على أصناف شتى (¬1). فأما الذين شبهوا ذات الباري بذات غيره، فسيأتي ذكرهم في شرك الأنداد، وأما الذين يشبهون صفاته بصفات المخلوقين فهم الذين وقعوا في شرك التعطيل – تعطيل الصفات – إذ إن كل مشبه معطل، فهؤلاء المشبهة كثيرون، ولعل من أوائلهم: (هشام بن الحكم الرافضي الذي شبه معبوده بالإنسان، وزعم لأجل ذلك أنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وأنه جسم ذو حد ونهاية) (¬2). وتبعه (هشام بن سالم الجواليقي الذي زعم أن معبوده على صورة الإنسان، وأن نصفه الأعلى مجوف، ونصفه الأسفل مصمت، وأن له شعرة سوداء وقلباً ينبع منه الحكمة) (¬3). تعالى الله عن هذه المقولات القبيحة علواً كبيراً. وتبعهما الغالية من الرافضة في التشبيه (¬4). كما تأثر بهما جماعة من المعتزلة، وجماعة من المنتسبين إلى أهل السنة. وبعد ظهور شرك تعطيل الصفات بزمن يسير ظهر في الساحة شرك وحدة الوجود، وهو شرك تعطيل معاملة الله سبحانه عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، قال ابن القيم: (ومن هذا شرك أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خلق وما خلق، ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه) (¬5). ولعل أول من قال بهذه المقالة الشنيعة في هذه الأمة هو الحلاج. وتبعه كل من ابن الفارض، وابن عربي، وابن سبعين وغيرهم، والمتصوفة الطرقية عموماً. فالحلاج هو القائل الأول بوحدة الوجود، وأما القائلون بالحلول والاتحاد فقد حاز السبق فيه أيضا ابن سبأ وأتباعه، فقد وجد هذان الشيئان في الغالية من الرافضة قديماً، وقد ذكر الأشعري والبغدادي والشهرستاني من ذلك شيئاً كثيراً (¬6). والمقصود: بيان أن هؤلاء أشركوا بالله جل وعلا بتعطيل حقيقة التوحيد، فمنهم من ادعى الألوهية لنفسه، ومنهم من ادعى الحلول، ومنهم من ادعى الاتحاد، كما أن فريقاً آخر منهم ادعى الوحدة، وهم أكفر وأشد تشريكاً بالله من اليهود والنصارى، فاليهود – مثلاً – قالوا بحلول الرب في ذات عزرا، وقالت النصارى بحلوله في ذات المسيح، ولكن هؤلاء قالوا بحلوله سبحانه في كل شيء حتى في أخبث الحيوانات وأنتن الأماكن والبقاعات. فهذا استعراض مجمل لخط الانحراف العقدي الشركي في هذه الأمة في الربوبية التي تتضمن الشرك في الألوهية أيضاً – كما هو معلوم – بالتعطيل. بداية ظهور شرك الربوبية بالأنداد في هذه الأمة: ¬

(¬1) انظر ما ذكره الأشعري في ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 106 - 109 و1/ 281 - 290)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 65 - 71 و 225 - 23)، والشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 92 - 99). (¬2) البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 227). (¬3) البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 227). (¬4) انظر ما ذكره الأشعري في ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 106 - 109)، وما ذكره البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 65 - 70)، وما ذكره الشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 44 - 56، 1/ 92 - 98). (¬5) ابن القيم: ((الجواب الكافي)) (ص: 311). (¬6) انظر ما ذكره ((الأشعري في مقالاته)) (1/ 66 - 88)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 13، 230، 269)، والشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 145 - 177).

لعل أول شرك في هذا الجانب هو شرك عبد الله بن سبأ (¬1) اليهودي حيث أشرك بالله جل شأنه في الربوبية بالأنداد في الذات. حيث غلا في علي – رضي الله عنه – حتى زعم أنه إله (¬2)، كما أنه هو الرائد في الإشراك بالله في الربوبية بالأنداد في الصفات والأفعال؛ حيث زعم: أن علياً له الحياة الدائمة المطلقة، وله العلم المحيط بكل شيء، وله القدرة الكاملة الشاملة على كل شيء، وأنه هو الذي يقوم بمحاسبة الناس يوم القيامة، ويأتي بالأمطار، وسينتقم من أعدائه (¬3)، وغير هذه الاعتقادات الباطلة التي فيها شرك في الربوبية بالأنداد في الصفات والأفعال. وبهذا نستطيع أن نقول: إن بداية ظهور شرك الربوبية بالأنداد في الذات إنما كان من عبد الله بن سبأ اليهودي، وتبعه أغلب الروافض الغلاة (¬4)، والإسماعيلية، والعبيدية، والقرامطة، والنصيرية، والدروز، وغيرهم. وأما الشرك في الربوبية بالأنداد في الصفات والأفعال فقد كان السبق فيه أيضاً لابن سبأ اليهودي، وقد سبق بيانه، ويشترك كل من أشرك بالله في الربوبية بالأنداد في الذات في الشرك بالله بالأنداد في الصفات والأفعال؛ لأن كل من أثبت إلهاً من دون الله أعطى له من صفات الربوبية وأفعاله ما شاء وما أراد (¬5). ووقع في هذا النوع من الشرك كثير ممن لا يشرك بالله في ربوبيته في الأنداد في الذات، كالإمامية من الشيعة، والغلاة من المتصوفة في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض مشايخ التصوف وأساطينهم. أما الرافضة فأصل البلاء عندهم في شرك الأنداد في الصفات والأفعال هو اتباعهم لابن سبأ اليهودي الزنديق الذي أراد أن يغير الدين الإسلامي الحنيف إلى دين اليهود والنصارى، فأحدثوا لهم أقوالاً من هذا النمط. وسيأتي تفصيل هذه المقولات فيما بعد إن شاء الله. وأما الباطنية فهؤلاء تآمروا على هدم الدين من أساسه، فادعوا الند والشريك بالسابق، وله قرين، سموه بالتالي وهو الذي خلق السموات والأرضين وما فيهن. أما السبب في انتشار شرك الأنداد بين المتصوفة فهو: أنه قد ظهر أناس من المسلمين بمظهر التقشف، وكان أخطر هؤلاء الأعداء على الدهماء وأبعدهم غوراً في الإغواء: أناس ظهروا بأزياء الصالحين؛ بعيون دامعة كحيلة، ولحى مسرحة طويلة، وعمائم كالأبراج، وأكمام كالأخراج، يحملون سبحات طويلة كبيرة الحبات، يتظاهرون بمظهر الدعوة إلى سنة سيد السادات, مع انطوائهم على مخاز ورثوها عن الأديان الباطلة, والنحل الآفلة، وكان من مكرهم الماكر أن خلطوا الكذب المباشر بالتزيد في تفسير مأثور، أو في فهم حديث صحيح، أو تأويله على مقتضى هواهم، أو الاستدلال بحديث مكذوب سواء كان قصداً أو بغير قصد. ¬

(¬1) انظر ما ذكره البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) -حيث صدر بذكره في الخارجين من الإسلام- (ص: 233). (¬2) انظر البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 233)، وانظر أيضاً ما ذكره المقدسي في ((البدء والتاريخ)) (5/ 125 - 129)، وابن حجر في ((لسان الميزان)) (3/ 289 - 290)، والذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 426). (¬3) انظر ما ذكره ((الأشعري في مقالاته)) (1/ 86 - 88)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 21 - 233)، وما ذكره الشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 177). (¬4) انظر ما ذكره البغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 23 - 24، و225 - 230، و233 - 266)، والأشعري في ((المقالات)) (1/ 66 - 88)، الشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 151، 176 - 191). (¬5) راجع ما ذكره الأشعري في ((المقالات)) (1/ 66 - 88)، والشهرستاني في ((الملل والنحل)) (1/ 151، 176 - 191)، والبغدادي في ((الفرق بين الفرق)) (ص: 23 - 24، 225 - 230)، وابن منظور في ((تهذيب تاريخ دمشق)) (7/ 430).

فهؤلاء غلوا في أنفسهم بادعاء أشياء واهية من التصرفات في الكون، والعلم بما في المكنون، والقدرة على تقليب الشيء الموزون، ثم لما هلك هؤلاء جاء أتباعهم فادعوا فيهم أكثر مما ادعوا لأنفسهم من ذكر الكرامات، طلباً لتقديس الشخصيات، اتباعاً لسنن الأمم السابقة في هذه المجالات، ونبين بعض هذه الأنواع من الشركيات بشيء من البسط والتفصيل فيما يأتي من العبارات. بداية ظهور الشرك في الألوهية والعبادة: لعل أصل حدوث الشرك في الألوهية والعبادة كان من قبل الشيعة على اختلاف فرقها، وطوائفها، ونحلها، فإن التشيع هو ملجأ كل من يريد أن يحارب الإسلام والمسلمين، فما الباطنية بجميع شعبها – والإسماعيلية والقرامطة، والنصيرية, والعبيدية, والدرزية – إلا من فرقها، ومعروف: أن هؤلاء الباطنية كانوا مشركين بالله جل وعلا في ذاته وصفاته وأفعاله، ومشركين بالله جل وعلا في عبادته ومعاملته أيضاً، فهؤلاء جمعوا خبائث الأمم السابقة، وقالوا بالمجوسية المحضة، وجاهروا بترك الإسلام جملة، وهؤلاء كما كانوا يثبتون الشرك في الربوبية في الذات، ويثبتون الشرك في الربوبية في الصفات والأفعال، هكذا كانوا يعبدون القبور وأهلها، ويبنون عليها المساجد، والقباب، فأحيوا بذلك سنة اليهود والنصارى، فظهرت في هذه الأمة فرقة قبورية وثنية مشركة في صورة هؤلاء الروافض، الذين عمروا المشاهد وعطلوا المساجد (¬1). فالإسماعيلية منهم – مثلاً – بثوا معتقداتهم بين الناس سراً، فاستحسن الجهال هذا الأمر لخفته وطرح التكاليف الشرعية، فأخذت تظهر الاعتناء بالقبور وتشييد المزارات والمشاهد، وتحري الدعاء عندها (¬2)، حتى نقلهم الشيطان إلى اتخاذهم شفعاء، ثم نقلهم إلى دعاء الأموات، ودعاء صاحب القبر، ثم نقلهم إلى الاعتقاد بأن لهم تصرفاً في الكون، تدرج هذا في قرنين ونحوها. قال أحد المعاصرين: (إن أقدم من وقفت عليه يرجع المسلمين إلى دين الجاهلية في الاعتقاد بالأرواح والقبور هم الإسماعيليون، وبخاصة إخوان الصفا، تلك الجماعة السرية الخفية التي بنت عقائدها ورسائلها الخمسين بسرية تامة حتى لا يكاد يعرف لها كاتب، ولا مصنف وإن ظن ظناً. ثم تبعهم على تقديس المقبورين من أهل البيت: الموسويون الملقبون بالاثني عشرية) (¬3). وصنفوا التصانيف في الحج إلى المشاهد, وفي كيفية الزيارات والأدعية عند القبور، يسندونها بطرق باطلة كاذبة، إلى أئمة أهل البيت –رضي الله عنهم-، وقد طالعت كتاب (الزيارات الكاملة) لابن قولويه فرأيت فيه من هذا شيئاً كثيراً. ومن طالع تراث الإسماعيليين، وحركة إخوان الصفا وجد ما قلته ماثلاً أمامه، فإن فتنة الناس بالقبور, واتخاذ أهلها شفعاء ووسطاء لم تعرف قبلهم، ولما غلب الجهل قبل ظهور الدولة الفاطمية عرفت هذه الأمور طائفة من الناس، فلما ظهرت هذه الدولة العبيدية شيدت المشاهد ونشرت ما كان سراً من عقائدها. جاء في الرسالة الثانية والأربعين من رسائل إخوان الصفا ما يبين هذا، ويبرهن له، فقد قال مؤلفو الرسائل: ¬

(¬1) انظر ما ذكره البركوي: في ((زيارة القبور)) (ص: 20). (¬2) انظر ما كتبه الجوير: ((الإسماعيلية المعاصرة)) (ص: 135). (¬3) صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: ((هذه مفاهيمنا)) (ص: 99، 100).

(وذلك أن القوم الذين بعث إليهم النبي –عليه الصلاة والسلام والتحيات والرضوان- كانوا يتدينون بعبادة الأصنام، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى بالتعظيم لها والسجود والاستسلام والخبورات، وكانوا يعتقدون أن ذلك يكون قربة لهم إلى الله زلفى، والأصنام هي أجسام خرس، لا نطق لها ولا تمييز، ولا حساً ولا صورة ولا حركة، فأرشدهم الله، ودلهم على ما هو أهدى وأقوم وأولى مما كانوا فيه، وذلك أن الأنبياء – عليهم السلام – وإن كانوا بشراً فهم أحياء ناطقون مميزون علماء، مشاكلون للملائكة بنفوسهم الزكية، يعرفون الله حق معرفته، والتقرب إلى الله بهم أولى وأهدى وأحق من التوسل بالأصنام الخرس التي لا تسمع، ولا تبصر، ولا تغني عنك شيئاً، ... ثم اعلم يا أخي: أن من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله, وبأئمتهم, وأوصيائهم، أو بأولياء الله وعبادة الصالحين، أو بملائكة الله المقربين، والتعظيم لهم, ومساجدهم ومشاهدهم، والاقتداء بهم, وبأفعالهم، والعمل بوصاياهم وسننهم على ذلك بحسب ما يمكنهم ويتأتى لهم, ويتحقق في نفوسهم, ويؤدي إليه اجتهادهم. فإن من يعرف الله حق معرفته فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله، وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته: فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه، ومن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء, والصلاة, والصيام, والاستغفار, وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيل المصورة على أشكالهم، لتذكر آياتهم، وتعرف أحوالهم، من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلباً للقربة إلى الله وزلفى لديه. ثم اعلم أن حال من يعبد شيئاً من الأشياء ويتقرب إلى الله تعالى بأحد فهو أصلح حالاً ممن لا يدين شيئاً ولا يتقرب إلى الله ألبتة ... ) (¬1). وهذه الجماعة الباطنية كانت نشاطاتها في أول القرن الثالث، ولم تعرف رسائلها التي قعدت لمذهبها، وبثت ذلك أوساط الناس إلا في القرن الرابع الهجري، بسرية تامة، فدخلت الأفكار في الطغام، وأنكرها العلماء الأعلام، وكفروا أصحابها. كما قال ابن عقيل في القرن الخامس حيث انتشرت المذاهب بتأييد الدولة العبيدية، قال: (لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السرج وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشرج اقتداء بمن عبد اللات والعزى ... ) (¬2). فعلمنا بهذا الحديث الطويل أن الشرك في القبور في هذه الأمة إنما هو من معتقدات الباطنية في هذه الأمة، ولم يكن هذا فاشياً قبل ظهورهم. هذا من ناحية ... ومن ناحية أخرى: أنه عربت كتب الفلاسفة اليونانية القبورية الوثنية، وعكف عليها كثير ممن تفلسفوا في الإسلام، أمثال الفارابي الكافر، وابن سينا الحنفي القرمطي، ونصير الكفر والشرك الطوسي. وغيرهم ممن لعبوا بالإسلام كما لعب بولس بالنصرانية. فتأثروا بآرائهم الفلسفية، ومنها العقائد القبورية، فصاروا دعاة القبورية الوثنية بتفلسفهم. ¬

(¬1) ((رسائل إخوان الصفا)) (4/ 19 - 21). (¬2) نقلاً عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- في ((مفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد)): (ضمن عقيدة الموحدين) (ص: 64). وكما نقله عنه المعصوبي في كتابه ((حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد)) (ص: 44)، وهو عند الإمام ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 695).

وسايرهم كثير من المتكلمين من الماتريدية الحنفية، والأشعرية الكلابية، بسبب العكوف على كتبهم الفلسفية، فتأثروا بعقائدهم القبورية، حتى صاروا دعاة إلى القبورية الدهمية في آن واحد – كما سيأتي بيانه فيما بعد -. فهذه نبذة من تاريخ حدوث الشرك في العبادة والألوهية في هذه الأمة، والتي تؤكد: أن الشرك بالعبادة ما كان موجوداً في القرنين الأول والثاني، وإنما حدث بعد هذا عندما ذهب أصحاب القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (قد جاءت خلافة بني العباس. وظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق ما كان كثير منها كذباً، وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هناك مشهداً، وكان ينتابه أمراء عظماء، حتى أنكر عليهم الأئمة، وحتى إن المتوكل لما تقدموا له بأشياء يقال إنه بالغ في إنكار ذلك وزاد على الواجب. دع خلافة بني العباس في أوائلها، وفي حال استقامتها، فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون المشاهد، سواء منها ما كان صدقاً أو كذباً كما حدث فيما بعد؛ لأن الإسلام كان حينئذ ما يزال في قوته وعنفوانه، ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، .. بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك. وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب. ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر ... ) (¬1). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 647 ¬

(¬1) ابن تيمية في ((الفتاوى)) (27/ 465 - 466).

المبحث السابع: شبهة من قال بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة وردها

المبحث السابع: شبهة من قال بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة وردها هناك نصوص يتشبث بها القائلون بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة، ويزعمون دلالتها على خلاف ما ذهبنا إليه مما دلت عليه الأدلة، ويؤكده الواقع من أن الشرك يقع في هذه الأمة. ومن أشهر هذه النصوص التي يستدلون بها ما يلي: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ... )) (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما خاف علينا الشرك فكيف يقع الشرك في هذه الأمة؟ (¬2). ويجاب عن هذه الشبهة بما أجاب به الحافظ ابن حجر في (الفتح)، حيث قال في شرح الحديث: أ- (أي على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا الله تعالى منها) (¬3). ب- أو يقال: إنه في الصحابة خاصة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم)). قال الحافظ في (الفتح): (فيه إنذار بما سيقع فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم ... وأن الصحابة لا يشركون بعده، فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا) (¬4). ج- أو يقال: (لعل النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم ويوحى إليه بأن طوائف من الأمة سوف يضلون ويشركون) (¬5). ومن هذه الشبه أيضاً: 2 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)) (¬6). وجه الاستدلال: (إن هذه البلاد بفضل الله طاهرة من كل رجس سالمة من كل شرك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬7). ويجاب عن هذه الشبهة: بأن هذا الفهم الذي ذكره هذا المفتون لم يفهمه المحدثون ولا السابقون الأولون، بل المعنى الذي فهموا منه هو النهي عن التمكين لدينين أن يجتمعا في جزيرة العرب، وليس المقصود به نفيه، ولا نفي وجوده عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يمكن حمله على النفي وقد كان هناك أديان – لا دينان فقط – عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وحتى في صدر الخلافة الراشدة في جزيرة العرب. ¬

(¬1) رواه البخاري (1344)، ومسلم (2296). من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. (¬2) انظر ما قاله سليمان بن عبد الوهاب في ((الصواعق الإلهية)) (ص: 44 - 45). (¬3) الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (3/ 211). (¬4) الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (6/ 614). (¬5) عبد الله بن علي القصيمي: ((الصراع بين الإسلام والوثنية)) (2/ 118). (¬6) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 892) (1584)، والبيهقي (9/ 208) (18531) من حديث ابن شهاب مرسلا. قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (12/ 13): مرسل يتصل من وجوه كثيرة. وقد رواه إسحاق بن راهويه كما في ((نصب الراية)) (3/ 454) والبزار (7786) من حديث أبي هريرة. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 124): فيه صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف وقد وثق. ورواه ابن إسحاق كما في ((سيرة ابن هشام)) (6/ 88) والإمام أحمد (6/ 274) من حديث عائشة بنحوه، وصححه الدارقطني كما ((نصب الراية)) (3/ 451) قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 328): رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. وحسن إسناده الألباني في ((التعليقات الرضية)) (3/ 493) وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1650). (¬7) محمد بن علوي المالكي: ((مفاهيم يجب أن تصحح)): (ز).

ثانيا: لو حملنا الحديث المنسوب إلى النبي بهذا اللفظ على النفي لكنا قد كذبنا الواقع؛ فإن جزيرة العرب في تحديدهم (جنوباً وشمالاً: من عدن إلى ديار بكر، وشرقاً وغرباً: من العراق إلى مصر، فتدخل فيها اليمن، والحجاز، ونجد، والعراق، والشام، ومصر) (¬1)، فإن قلنا بحمل الحديث على النفي فإننا قد فتحنا لغير المسلمين بابا للضحك على عقولنا في رد الأحاديث، بدلالة كذب الواقع له، فإن في هذه الديار المذكورة كم من الأديان، وكم من الكنائس أيضاً، وهي مازالت معمورة من أول الإسلام حتى عصرنا الحاضر. ثالثاً: أن ما ذكره هذا الضال من الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ، وما ورد أيضاً بلفظ: ((لا يبقين دينان بأرض العرب)) (¬2)، وما رواه الإمام أحمد في (المسند) بلفظ: ((لا يترك بجزيرة العرب دينان)) (¬3)، كل هذه الأحاديث إنما جاءت في سياق رواية وصية النبي صلى الله عليه وسلم وآخر عهده في حياته، وهي تدل صراحة على أن المراد بالحديث إنما هو النهي لا النفي كما فهمه هذا المفتون. رابعاً: أن جميع من روى هذا الحديث من أصحاب الحديث كلهم ذكروه بعبارات تدل على أن المراد هو النهي، لا النفي، فمن هذه الروايات ما يلي: 1 - عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ... )) (¬4). 2 - عن عمر قال: (لئن عشت - إن شاء الله - لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) (¬5). وهناك روايات صريحة تدل على أن هذا إنما هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، منها: 1 - عن ابن عباس: في حديث طويل قال صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) (¬6). وبعد هذه الروايات الواضحة لا يقول بحمل الحديث على النفي إلا الغبي الجاهل الذي ليس له أي مشاركة في هذا العلم الشريف. والله أعلم. ومما اشتبه عليهم أيضاً: 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرتكم - جزيرة العرب)) (¬7) هكذا ذكره بعضهم، وقال آخر (¬8): ¬

(¬1) ابن جرجيس في ((صلح الإخوان)) (ص: 144)، وانظر ما قال سليمان بن عبد الوهاب في ((الصواعق الإلهية)) (ص: 44 - 47). (¬2) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 592) (1583) والبيهقي (6/ 135) مرسلا عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه. قال البيهقي: مرسل. وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (1/ 165): مقطوع يتصل من وجوه حسان. وقال ابن الملقن ((شرح البخاري)) (17/ 137): أسانيده منقطعة. (¬3) ((مسند أحمد)) (6/ 274) (26395)، ورواه ابن إسحاق كما في ((سيرة ابن هشام)) (6/ 88) والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2/ 12) (1066). من حديث عائشة، وصححه الدارقطني كما في ((نصب الراية)) (3/ 451)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 328): رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. وحسن إسناده الألباني في ((التعليقات الرضية)) (3/ 493) وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1650). (¬4) رواه مسلم (1767). (¬5) رواه والترمذي (1606، 1607) وأحمد (1/ 32) (215) وابن حبان (9/ 69) (3753)، والحاكم (4/ 305) (7721). وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال الألباني في ((صحيح الترمذي)) (1606): صحيح. ورواه مسلم (1767) وأبو داود (3030)، بدون لفظة: ((لئن عشت)). (¬6) رواه البخاري (3053)، ومسلم (1637). (¬7) رواه الترمذي (3087)، وابن ماجه (2497)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (2/ 444) (4100). من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬8) سليمان بن عبد الوهاب: ((الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)) (ص: 41).

قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود –رضي الله عنه-: ((إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، ولكن رضي منهم بما دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات)) (¬2). وجه الدلالة: (أن الرسول أخبر أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، وفي حديث ابن مسعود: أيس الشيطان أن تعبد الأصنام بأرض العرب، وهذا بخلاف مذهبكم؛ فإن البصرة ومن حولها والعراق من دون دجلة الموضع فيه قبر علي وقبر الحسين –رضي الله عنهما- كذلك اليمن كلها والحجاز كل ذلك من أرض العرب، ومذهبكم أن هذه المواضع كلها عبد الشيطان فيها، وعبدت الأصنام، وكلهم كفار، وهذه الأحاديث ترد مذهبكم) (¬3). ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي: أولاً: أن الرواية الأولى لم أجدها في كتب الحديث بهذا اللفظ، وأقرب ما وجدت مما يوافق هذه الرواية ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أيها الناس! إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا آخر الزمان، وقد رضي منكم بمحقرات الأعمال، فاحذروه على دينكم)) (¬4) الحديث. والحديث ضعيف، فلا احتجاج فيه. أما الرواية الثانية: فهي ثابتة، ولكن هل الأحاديث الصحيحة تتناقض مع بعض؟ كلا، بل لابد أن يكون لكل واحد منها محمل غير ما للآخر، فالحديث الذي نحن بصدده يخالف ظاهراً – لدى البعض- الأحاديث الثابتة الصحيحة التي فيها خوف الرسول صلى الله عليه وسلم, وتحذيره من وقوع ألوان من الشرك في هذه الأمة، والعلماء قد ذكروا لهذا الحديث عدة احتمالات، فمما قالوا فيه: 1 - إن الشيطان أيس بنفسه –ولم ييأس- لما رأى عز الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإقبال القبائل على الدخول في هذا الدين الذي أكرمهم الله به، فلما رأى ذلك يئس من أن يرجعوا إلى دين الشيطان، وأن يعبدوا الشيطان أي: يتخذوه مطاعاً. وهذا كما أخبر الله عن الذين كفروا في قوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ [المائدة: 3]، فهم يئسوا أن يراجع المسلمون مع عليه المشركون من الدين القائم على اتخاذ الأنداد مع الله، وصرف العبودية إلى أشياء مع الله أو دونه. فكما أن المشركين لما رأوا تمسك المسلمين بدينهم يئسوا من مراجعتهم، هكذا الشيطان يئس لما رأى عز المسلمين ودخولهم في الدين في أكثر نواحي جزيرة العرب. والشيطان – لعنه الله- لا يعلم الغيب، ولا يعلم أنه ستحين فرص يصد الناس بها عن الإسلام والتوحيد، وكانت أول أموره في صرف الناس لعبادته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أطاعه أقوام وقبائل فارتدت عن الإسلام إما بمنع الزكاة، أو باتباع مدعي النبوة، فنشط وكانت له جولة وصولة، ثم كبته الله. ¬

(¬1) رواه مسلم (2812) من حديث جابر رضي الله عنه. (¬2) رواه الحاكم (2/ 32)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 51) (7471). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (2221). (¬3) سليمان بن عبد الوهاب: ((الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)) (ص: 45). (¬4) رواه البزار وابن أبي شيبة كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (3/ 64) وعبد بن حميد في ((مسنده)) (1/ 270) (858). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 269): فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (3/ 64): فيه موسى بن عُبيدة الربذي، وهو ضعيف.

والمقصود: أن الشيطان ييأس إذا رأى التمسك بالتوحيد والإقرار به والتزامه، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حريص على أن يصد الناس عن هذا، ولذا تمكن من هذا في فترات مختلفة، فعبده القرامطة عبادة طاعة وهم في الجزيرة، وأفسدوا ما أفسدوا، وعبده من بعدهم مما يعرفه أولو البصيرة (¬1) (¬2). فالقول بأن الشرك منتف عن هذه الأمة مخالف للواقع، كما أنه مخالف للفهم الصحيح لنصوص الشرع. 2 - أو يقال: إن نبينا صلى الله عليه وسلم فصل ما بين الشرك والتوحيد وبينه أتم بيان، وترك الدين على بيضاء ليلها كنهارها، وهذه البيضاء هي مضمون لا إله إلا الله، وهي إفراد الله بالعبادة، وخلع الأنداد، والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة من الشرك وأهله، كما فسرها أهل العلم رحمهم الله، فإذا علم هذا يقيناً فمحال أن يكون الشرك بصورته التي نهى الله عنها موجوداً في بلاد كثيرة، ويحكم عليها بالشرك ويوجد في الجزيرة بصورته ولا يحكم عليها بالشرك. وهذا من التلاعب والهوى الصارخ (¬3). 3 - وقال ابن رجب في شرح الحديث: إنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر الأكبر (¬4). وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسيره قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ حيث قال: (قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني يئسوا أن تراجعوا دينكم) (¬5). 4 - ولا يبعد أن يقال: (مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن الشيطان ... )) أن الشيطان لا يطمع أن يعبده المؤمنون في جزيرة العرب، وهم المصدَقون بما جاء به الرسول من عند ربه المذعنون له، والممتثلون لأوامره، ولا شك أن من كان على هذه الصفة فهو على بصيرة ونور من ربه، فلا يطمع الشيطان أن يعبده ... ووجود مثل هذا في جزيرة العرب لا ينافي الحديث الصحيح كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل راجح، وإطلاق لفظ المصلين على المؤمنين كثير في كلام العارفين. 5 - ويحتمل أن يراد بالمصلين أناس معلومون بناء على أن تكون (أل) للعهد وأن يراد بهم الكاملون فيها ... وهم خير القرون، يؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث-: ((ولكن في التحريش بينهم)). يقول الطيي: لعل المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر بما يكون بعده من التحريش الواقع بين صحبه رضوان الله عليهم أجمعين، أي أيس أن يعبد فيها، ولكن يطمع في التحريش ... والدليل متى طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال) (¬6). ¬

(¬1) انظر ما ذكره الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ في: ((هذه مفاهيمنا)) (ص: 197 - 198). (¬2) انظر ما ذكره أبو بطين، عبد الرحمن: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 482 - 487). (¬3) انظر ما ذكره الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ في كتابه: ((هذه مفاهيمنا)) (ص: 198 - 199). (¬4) انظر ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 482 - 487). (¬5) ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 12). (¬6) محمد شكري الآلوسي: ((فتح المنان تتمة منها التأسيس)) (ص: 497 - 499) باختصار.

6 - أو يقال: كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع الشرك وحدوثه في هذه الأمة، ووقع، وحصل هذا الإخبار بما هو مشاهد عياناً، ولا ينكره إلا من أعمى الله بصره وطمس بصيرته. هكذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أناساً معلومين بأن الشيطان لا يسلط عليهم، وهم الذين قال عنهم الرسول عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق، منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) (¬1). 7 - أو يقال: إن الحديث يقول: إن الشيطان أيس أن يعبد. وظاهر لفظه: أن أيس من أن يعبد هو نفسه، لا من أن يعبد غيره من المخلوقات كالأنبياء والملائكة والصالحين والأشجار والأحجار، والقبور. فإن الشيطان إن أطيع في عبادة بعض المخلوقات، وقد تضاف إليه هذه العبادة ولكنها إضافة غير حقيقية، والعلاقة في الإضافة كونه هو الآمر بها، وحقيقة عبادة الشيطان نفسه: أن توجه إليه العبادة كفاحاً مباشرة. 8 - أو يقال: المراد أن الشيطان قد أيس من أن يعبد أو تعبد الأصنام في بلاد العرب في كل وقت وزمان، فهذا لن يكون إن شاء الله، وقد يشهد لهذا لفظة (أبداً) المذكور في الرواية الأخرى (¬2). وعلى كل حال: لا يمكن أن يدعى أنه لن يعبد غير الله في بلاد العرب في وقت من الأوقات، فإن هذا باطل كاذب بالإجماع والضرورة والنصوص المتواترة. ومما يستدل به القبوريون في هذا الباب: 4 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة، أو يأتي أمر الله تعالى .... )) (¬3) وجه الاستدلال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمر هذه الأمة لا يزال مستقيماً إلى آخر الدهر، ومعلوم أن هذه الأمة .. التي تكفرون بها، مازالت قديماً ظاهرة ملأت البلاد، فلو كانت هي الأصنام الكبرى، ومن فعل شيئاً من تلك الأفاعيل عابد الأوثان، لم يكن أمر هذه الأمة مستقيماً، بل منعكساً ... ) (¬4). يجاب عن هذه الشبهة: بأن هذه الشبهة ناتجة عن قصور باعه في علم الحديث. فإن الأحاديث تأتي بروايات مختلفة بعضها يفسر البعض الآخر، فالذي ذكره جاء بعدة روايات، حتى إنه جاء في صحيح البخاري في خمسة مواضع عن معاوية رضي الله عنه. وقد جاء في كتاب العلم بلفظ: ((ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) (¬5)، وفي كتاب الاعتصام بلفظ: ((ولا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)) (¬6). وجاء في كتاب المناقب بلفظ: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ... )) (¬7). كما جاء في كتاب الاعتصام بلفظ: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)) (¬8). وفي كتاب التوحيد: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ... )) (¬9). ¬

(¬1) رواه ابن حبان (6714) والطبراني في ((الأوسط)) (8397) والبيهقي (9/ 181) من حديث ثوبان. قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 142): محفوظ من غير وجه. وصححه السخاوي في ((البلدانيات)) (105) والحديث عند مسلم (1920) بنحوه. (¬2) راجع ما ذكره القصيمي في ((الصراع بين الإسلام والوثنية)) (2/ 122 - 127). (¬3) رواه البخاري (7312)، ومسلم (1037) مختصراً. (¬4) سليمان بن عبد الوهاب: ((الصواعق الإلهية)) (ص: 41). (¬5) رواه البخاري (71)، ومسلم (1037). (¬6) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (3641)، ومسلم (1037). (¬8) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (¬9) رواه البخاري (3641)، ومسلم (1037).

والحديث جاء عند مسلم بلفظ: ((لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)) (¬1). والمقصود: أن الروايات المطلقة في بعض الأحاديث تحمل على الروايات المقيدة، فإن من قواعد أصول الفقه حمل المطلق على المقيد إذا اتحد المحل والحكم (¬2)، وهنا هكذا، لهذا قال الحافظ ابن حجر عند شرح الحديث: (أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبداً) (¬3). ولا شك أن هؤلاء البعض هم المحدثون, ومتبعوا الآثار لا غيرهم من القبوريين كما نص عليه السلف. ومما يتشبث به القبوريون في هذا الباب: 5 - عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)) فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ إن ذلك تام، قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم)) (¬4). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ... حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال)) (¬5). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يبرح هذا الدين قائماً عليه عصابة المسلمين حتى تقوم الساعة)) (¬6). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك، فقال عبد الله بن عمرو: أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير، لا تترك إنساناً في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة)) (¬7). وجه الاستدلال: (في هذه الأحاديث الصحيحة أبين دلالة على بطلان مذهبكم؛ وهي أن جميع هذه الأحاديث مصرحة بأن الأصنام لا تعبد في هذه الأمة إلا بعد انخرام أنفس جميع المؤمنين آخر الدهر) (¬8). ويجاب عن هذه الشبهة من عدة أوجه: أولاً: مراد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيان وقت ظهور الشرك بصفة عامة بحيث يطغى على التوحيد, ويسيطر على حاملي لواء التوحيد ويستأصلهم، فذكر: أن هذا يحدث في أواخر أيام الدنيا، قبل انعقاد القيامة الكبرى، وبعد خروج الريح القابضة لأنفس جميع المؤمنين حتى لا تبقى هذه الطائفة المنصورة والناجية على ظهر الأرض (¬9)، والذي يدل عليه فهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو حيث إنه عقب على قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال عصابة ... الحديث)) بقوله: أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك ... إلخ. ¬

(¬1) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (¬2) انظر ما ذكره ابن قدامة في ((روضة الناظر)) (2/ 192). (¬3) ابن حجر في ((الفتح)) (1/ 164). (¬4) رواه مسلم (2907). (¬5) رواه أبو داود (2484)، وأحمد (4/ 437) (19934)، والطبراني (18/ 116) (228)، والحاكم (2/ 81). من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن جرير في ((مسند عمر)) (2/ 824): إسناده صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7294). (¬6) رواه مسلم (1922). من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه. (¬7) رواه مسلم (1924). من حديث ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬8) سليمان بن عبد الوهاب: ((الصواعق الإلهية)) (ص: 50). (¬9) انظر توجيه الحافظ ابن حجر وتطبيقه بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض: في ((الفتح)) (1/ 164، و13/ 294، و13/ 76 - 77)، وانظر ما ذكره شيخنا عبد الله محمد الغنيمان في ((شرح كتاب التوحيد للبخاري)) (2/ 235).

فهذا الحديث إنما يبين التحديد الزمني لفشو الشرك في هذه الأمة حتى لا يبقى في ظهر الأرض إلا مشرك، وليس المراد منه عدم وقوع الشرك في هذه الأمة كما ظنه بعض مدعي العلم والمعرفة، وإلا يكون هذا الفهم مخالفاً للأحاديث الصحيحة الأخرى ومخالفاً للواقع. وأما استدلاله بهذا الحديث على عدم وقوع الشرك في هذه الأمة، فليس فيه ما يدل عليه، وقد بينا المراد من الحديث، ثم إن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين كما هو معلوم لدى كل واحد من أهل العلم. ومما يتشبث به القبوريون أيضاً في إثبات شبهتهم: 6 - قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... [آل عمران: 110]. وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ... [البقرة: 143]. وجه الاستدلال: (أن الأمة ليس فيها من يعمل الكفر، وأنها أمة صالحة كلها – من أولها إلى آخرها – ليس فيها شرك) (¬1). ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي: أولاً: أنهم تركوا من الآيتين ما هو دليل عليهم، وذلك: (أن الله وصف خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفات وهي لأهل الإيمان خاصة، وليس لأهل الكفر والشرك، والنفاق والبدع والفسوق فيها نصيب، فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ، فليس المشركون والمنافقون من خير أمة ... بل هم شرار الأمة ... ) (¬2). ثانياً: (كل أهل الملل من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة من أمته أرسل إليهم وكلهم من أمة محمد، وهم أمة الدعوة ... ومن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه من هذه الملل الخمس فهو في النار، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة: 6] فأخبر تعالى أنهم في النار مع كونهم من هذه الأمة. وأما استدلاله بقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وهم المعنيون بهذه الأمة، ومن كان مثلهم من أهل الإيمان لحق بهم، وأما الكفار والمشركون والمنافقون فهم أعداء الأمة الوسط في كل زمان ومكان، ولا يمكن أحد أن يزعم أنهم من الأمة الوسط إلا مثل هذا الجاهل الذي يقول: ليس في الأمة كافر ولا مشرك ... ) (¬3). ويبين الشيخ عبد الرحمن بن حسن جانباً من البدع والشرك والضلال الذي وقع في هذه الأمة، ... (مثل المرتدين في عهد الصديق، والخوارج زمن علي بن أبي طالب، والقدرية، والجهمية الجبرية، ودولة القرامطة، الذين وصفهم شيخ الإسلام بأنهم أشد الناس كفراً، والبويهيين، والعبيديين وغيرهم) (¬4). وبالجملة: (هذا المعترض مموه بلفظ الأمة ملبس، قال تعالى في ذم هذا الصنف من الناس وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42]. ¬

(¬1) انظر ما قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن بعضهم في ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (2/ 54). (¬2) ((مجموع الرسائل والمسائل)) (2/ 54، 55) بتصرف. وانظر رد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على الاستدلال بالآيتين السابقتين كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ووَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ونحوهما، ((الدرر السنية)) (9/ 354، 356). (¬3) مجموعة ((الرسائل والمسائل)) (2/ 57، 61)، وانظر رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ((التوحيد وطروء الشرك على المسلمين في الجامع الفريد)) (ص: 343 - 345). (¬4) الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في ((مجموعة الرسائل)) (2/ 62 - 80).

وهذا من أعظم اللبس والخلط والتمويه، والأمة تطلق ويراد بها عموم أهل الدعوة، ويدخل فيها من لم يستجب لله ورسوله، وتطلق أيضاً ويراد بها: أهل الاستجابة المنقادين لما جاءت به الرسل، ومن لم يفصل ويضع النصوص (في غير) مواضعها فهو من الجاهلين الملبسين) (¬1). ويكشف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن أصل هذه الشبهة وسبب حدوثها، فقال: (أعلم أن هذ المعترض لم يتصور حقيقة الإسلام والتوحيد، بل ظن أنه مجرد قول بلا معرفة ولا اعتقاد، وإلا فالتصريح بالشهادتين في هذه الأزمان والإتيان بهما ظاهرا هو نفس التصريح بالعداوة، ولأجل عدم تصوره أنكر هذا، ورد إلحاق المشركين في هذه الأزمان بالمشركين الأولين، ومنع إعطاء النظير حكم نظيره، وإجراء الحكم مع علته، واعتقد أن من عبد الصالحين، ودعاهم وتوكل عليهم، وقرب لهم القرابين مسلم من هذه الأمة، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله) (¬2). ويظهر جهل القائل بهذا القول حين لم يفرق بين أمة الإجابة، وأمة الدعوة، وقد رد الشيخ عبد اللطيف ذلك الاشتباه، فقال: (ليس كل من وصف بأنه من الأمة يكون من أهل الإجابة والقبلة، وفي الحديث: ((ما من أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار)) (¬3) ... وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا [النساء: 42] فدلت هذه الآية على أن هؤلاء الكافرين من الأمة التي يشهد عليهم صلى الله عليه وسلم ... والأمة في مقام المدح والوعد يراد بها أهل القبلة وأهل الإجابة، وتطلق في مقام التفرق والذم ويراد بها غيرهم، فلكل مقام مقال) (¬4). ومما يتشبث به القبوريون أيضاً في هذا الباب: 7 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) (¬5). وجه الاستدلال: (دعاؤه مستجاب) (¬6)، يعني فلا يمكن أن يكون هناك شرك عند قبر الرسول. ويجاب عن هذه الشبهة: بأن دعاء الرسول مستجاب لا شك فيه، ولهذا قد أحاطه الله بأسوار وجدران (¬7)، فلا أحد يستطيع أن يسجد لقبره مباشرة كائناً من كان، وليس فيه أي دليل على أن أحداً لا يشرك بالله جل وعلا بعبادة النبي مثلاً أو بإثبات خصائص الربوبية في الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن هذا واقع، والواقع خير دليل في هذا المجال، فكم من الغالين في الرسول مثلاً يدعي فيه خصائص الربوبية، ... وأيضا مما يتشبث به القبوريون في هذا الباب: ¬

(¬1) عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: ((مصباح الظلام)) (ص: 30). (¬2) انظر قول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في ((مصباح الظلام)) (ص: 36). (¬3) رواه أحمد (2/ 350) (8594). وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (2/ 66) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬4) عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: ((مصباح الظلام)) (ص: 341). (¬5) رواه مالك (1/ 172) من حديث عطاء بن يسار, وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 150) من حديث زيد ابن أسلم, قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/ 347): روي متصلا مسنداً, وقال في ((التمهيد)) (5/ 41): مرسل غريب وهو صحيح, وقال ابن تيمية في ((حقوق آل البيت)) (58): ثابت. وصححه الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (1/ 165). ورواه أحمد (2/ 246) (7352) وأبو يعلى (6681) والحميدي (2/ 445) متصلا من حديث أبي هريرة بنحوه. وصحح إسناده الألباني في ((تحذير الساجد)) (25). (¬6) انظر ما قاله ((محمد العلوي المالكي في مفاهيمه)) (ص: ح). (¬7) ((النونية)) (2/ 196).

8 - بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أخوف ما أتخوف على أمتي، الإشراك بالله، أما إني لست أقول: يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً، ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية)) (¬1). وجه الاستدلال: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما خاف علينا الشرك الأكبر، وإنما خاف علينا الشرك الأصغر (¬2). ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي: 1 - إن الحديث ضعيف (¬3)، والحديث الضعيف لا احتجاج به عند من يعتد به من أهل العلم. 2 - ولو فرضنا صحته: يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث بيان خفاء هذا الشرك في أمته حتى يقع فيه بعض من يدعي العلم والتحقيق أيضاً، فمثلاً: عبادة الشمس والقمر والوثن من الظواهر التي لا يخفى ضلال مرتكبه، ولكن الشرك بأعمال القلوب؛ مثلاً المحبة لغير الله، والذل والخضوع لغير الله، واعتقاد أشياء مخصوصة لله جل شأنه لغير الله تعالى، هذه كلها من ضمن الأعمال لغير الله ومما تبقى خفياً، وهذا ظاهر، والحمد لله. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 671 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (4205)، وأحمد (4/ 123) (17161). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/ 323): هذا إسناد فيه مقال، عامر بن عبد الله لم أر من تكلم فيه بجرح ولا غيره، وباقي رجال الإسناد ثقات، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)) (4974). (¬2) انظر ما قاله ((محمد العلوي المالكي في مفاهيمه)) (ص: ز-ح). (¬3) انظر ما ذكره الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)) برقم: (921).

المبحث الثامن: قبح الشرك وخطره

المبحث الثامن: قبح الشرك وخطره فأما قبحه فيظهر في أن الشرك تنقص للرب تعالى بمساواة غيره له في بعض الأمور، وذلك غاية الضلال كما قال الله تعالى عن المشركين يوم القيامة عند خصومتهم مع معبوديهم: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98]، وهذا التنقص متضمن للظلم ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. فإن الذي يعبد هو الذي بيده الخلق والأمر والمتفضل بالنعم فصرف شيء من حق الله تعالى من العبودية إلى غيره ظلم عظيم. فظهر مما تقدم أن قبح الشرك يتمثل في أنه تنقص للرب تعالى وظلم وضلال مبين. وأما خطره فيتمثل في أنه يحبط الأعمال كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. ويتمثل خطره كذلك في أن صاحبه إن مات عليه فإنه لا يغفر له كما قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 4] ويتمثل خطره كذلك في أن صاحبه الذي مات عليه مخلد في نار جهنم، كما قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 92

الفصل الثاني: أقسام الشرك

تمهيد تنوعت عبارات أهل العلم في بيان أنواع الشرك، ولكنها لا تخرج عن المدلول الشرعي للشرك ... فمن عباراتهم في بيان أنواع الشرك ما يلي: أ- أن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر (¬1). ب- ويقول بعضهم: إنه على ثلاثة أقسام: أكبر، وأصغر، وخفي (¬2). ج- والبعض يقسمه حسب أجزاء التوحيد الثلاثة (¬3). د- وبعضهم يقسمه إلى نوعين: الشرك في الربوبية، والشرك في الألوهية، ويدخل الشرك في الأسماء والصفات ضمن النوع الأول (¬4). هذه الأقوال ليست متباينة، بل بعضها يوافق بعضاً، فمن قسم الشرك إلى قسمين: أكبر وأصغر، نظر إلى حقيقة الشرك وأحكامه من حيث خروجه من الإسلام وعدم خروجه. والذي قسم الشرك إلى ثلاثة أنواع: الأكبر والأصغر والخفي، فإنه لم يخالف القول السابق؛ لأنه إنما أراد إظهار أهمية الشرك الخفي، وإلا فالشرك الخفي داخل تحت النوعين السابقين، فإن الشرك الخفي بعضه من الشرك الأكبر المخرج من الملة، وبعضه من الشرك الأصغر الذي هو أكبر من المعاصي - الكبائر - ولكنها لا تخرج من الملة، وإنما أراد من أبرزها كنوع ثالث بيان خفائها على كثير من الناس وكثرة وقوعها، ... أما الذي قسمه حسب أنواع التوحيد الثلاثة, والذي قسمه إلى نوعي الشرك في الربوبية والشرك في الألوهية فليس بينهما إلا إجمال وتفصيل. فهذه الأقوال صحيحة وشاملة. وهناك أقوال أخرى للعلماء في بيان أنواع الشرك، وهي غير شاملة، منها: هـ- أن أقسام الشرك أربعة: الأول: شرك الاحتياز: وهو أن يكون غير الله مالكاً لشيء يستقل به، ولو كان في الحقارة مثقال ذرة. الثاني: شرك الشياع: أن يكون لغيره نصيب يشاركه فيه، كيفما كان هذا النصيب في المكان والمكانة. الثالث: شرك الإعانة: وهو أن يكون له ظهير ومعين من غير أن يملك معه، كما يعين أحدنا مالك متاع على حمله مثلاً. الرابع: شرك الشفاعة: وهو أن يوجد من يتقدم بين يديه يدل بجاهه؛ ليخلص أحداً بشفاعته. ويبدر ممن قال بهذا القول: أنه قسم الشرك حسب متعلقه وحسب باعث الناس على الشرك، وهذه الأنواع كلها داخلة تحت الشرك الأكبر، وهذه من أفراده، وكان قد أخذه من قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 22، 23]. ووقال بعضهم: إنه على ستة أنواع: 1 - شرك الاستقلال: وهو إثبات شريكين مستقلين، كشرك المجوس. 2 - شرك التبعيض: وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى. 3 - شرك التقريب: وهو عبادة غير الله إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية. 4 - شرك التقليد: وهو عبادة غير الله تبعاً للغير، كشرك متأخري الجاهلية. 5 - شرك الأسباب: وهو إسناد التأثير للأسباب العادية، كشرك الفلاسفة، والطبائعيين، ومن تبعهم في ذلك. 6 - شرك الأغراض: وهو العمل لغير الله (¬5). ¬

(¬1) ابن القيم: ((مدارج السالكين)) (1/ 339)، وابن سحمان: ((الدرر السنية)) (2/ 85). (¬2) انظر ما قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في ((رسالة: أنواع التوحيد وأنواع الشرك، ضمن الجامع الفريد)) (ص: 341). (¬3) سليمان بن عبد الله: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 43). (¬4) انظر ما ذكره ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 91 - 94)، و ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 390)، والمقريزي: ((تجريد التوحيد المفيد)) (ص: 8). (¬5) أبو البقاء الكفوي، ((الكليات)) (ص: 216)، وأحمد الرومي: ((مجالس الأبرار)) (ص: 150 - 152).

يلاحظ أن أقسام الشرك التي ذكرها هي مجرد صور للأعمال الشركية التي تقع في بعض المجتمعات الإسلامية لعموم الجهل، وهناك صور أخرى للشرك لم يتعرض لها، ولا يمكن حصر جميع الصور بهذه الطريقة. ز- وهناك تقسيم للإمام ابن القيم – رحمه الله – ذكره في كتابه: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، يمكن أن يوصف بأنه أكثر دقة في استقصاء أنواع الشرك؛ حيث قال: (الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه – سبحانه – لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله) (¬1). ثم بدأ الإمام في بيان التفريعات فيهما. التقسيم المختار: ولعل التقسيم الذي يجمع بين هذه التقسيمات هو أن يقال: الشرك على نوعين: أكبر، وأصغر. أما الأكبر: فهو أن يتخذ شريكاً أو نداً مع الله – تعالى – في ذاته أو في أسمائه وصفاته، أو أن يعدل بالله – تعالى – مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده (¬2). أو يقال: هو أن يجعل الإنسان لله نداً في ربوبيته, أو ألوهيته, أو أسمائه وصفاته (¬3). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 138 ¬

(¬1) ابن القيم: ((الجواب الكافي)) (ص: 309، 310). (¬2) انظر ما ذكره ابن تيمية: ((الاستقامة)) (1/ 344)، وابن القيم: ((مدارج السالكين)) (1/ 339). (¬3) انظر ما ذكره حافظ الحكمي: ((معارج القبول)) (2/ 483)، و ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 516، 517)، وانظر ما ذكره ابن تيمية: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 3، 7)، والسعدي في ((الإرشاد)) (ص: 5، 2).

المبحث الأول: الشرك الأكبر تعريفه وحكمه وأقسامه

المطلب الأول: تعريفه أما الشرك الأكبر فحقيقته هي: أن يضرع الإنسان بعبادة من العبادات إلى غير الله تعالى صلاة أو نذراً أو استغاثة به في شدة أو مكروه فيما لا يقدر عليه إلا الله ونحو ذلك، ويخرج من الملة، فمثاله في الاعتقادات: اعتقاد أن غير الله يستحق العبادة ومثاله في الأعمال: الذبح لغير الله، ومثاله في الأقوال: دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. وهذا هو الذي ورد فيه مثل قول الله تعالى: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98] وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ [البقرة: 165]. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 93

المطلب الثاني: حكمه

المطلب الثاني: حكمه من المعلوم أن هذا الشرك أعظم ما نهى الله عنه، قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء: 36]، فقرن النهي عنه بأعظم أمر أمر به وهو عبادته، التي من أجلها خلق الخلق كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. وهو أول المحرمات كما يدل عليه قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151]. فهذا الشرك الأكبر مخرج عن الملة, وصاحبه حلال الدم والمال، وفي الآخرة خالد مخلد في النار، قال تعالى: فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة: 5]. وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]. وقال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]. كما أن هذا الشرك يحبط العمل، قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. كما أنه تحرم ذبيحة مرتكبه، لقوله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121]. وصاحب هذا الشرك لا يرث ولا يورث، بل ماله لبيت المال، ولا يصلى عليه, ولا يدفن في مقابر المسلمين، وذلك أن المشرك قد ارتكب أعظم جريمة، وأفظع ظلم، قال تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48]. وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار)) (¬1)، وفي رواية عنه: ((من مات يجعل لله نداً أدخل النار ... )) (¬2). وكما جاء عن جابر – رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)) (¬3). وكما جاء عن ابن مسعود أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار ... )) (¬4) الحديث. وفي حديث أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: ((استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي)) (¬5). وفي حديث ابن عمر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، وكان ... ، فأين هو؟ قال: ((في النار))، قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله! فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حيثما مررت بقبر مشرك، فبشره بالنار)). قال: فأسلم الأعرابي بعد، وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعاً، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (4497). (¬2) رواه البخاري (6683). (¬3) رواه مسلم (93). (¬4) رواه البخاري (1238)، ومسلم (92). (¬5) رواه مسلم (976). (¬6) رواه ابن ماجه (1573). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 241): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات محمد بن إسماعيل وثقه ابن حبان والدارقطني والذهبي وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

وفي حديث سلمة بن يزيد الجعفي – رضي الله عنه – قال: انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلنا: يا رسول الله، إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتفعل وتفعل، هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال: ((لا)) (¬1). وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لايغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ [المائدة: 72] ... )) (¬2). ومثله ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم, ويطعم المساكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: ((لا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) (¬3). والأحاديث في هذا الباب كثيرة، نكتفي منها بهذا القدر. وأما الإجماع: فقد نقل غير واحد من العلماء إجماع الأمة على أن المشرك يخلد في النار. وأما أقوال السلف في ذلك: فهي كثيرة، منها: أ- قال الإمام أحمد بن حنبل: (ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم، أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها ... ) (¬4). ب- قد عقد الإمام البخاري لذلك باباً في صحيحه، فقال: (باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا الشرك) (¬5). ج- وقال العلامة ابن جرير – رحمه الله – حول قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65]: (ومعنى الكلام: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، وإلى الذين من قبلك، بمعنى وإلى الذين من قبلك من الرسل من ذلك، مثل الذي أوحي إليك منه، فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك، ومعنى قوله: ولتكونن من الهالكين بالإشراك بالله إن أشركت به شيئاً) (¬6). د- قال القرطبي: تعليقاً على حديث: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)) (¬7): إن من مات على الشرك لا يدخل الجنة, ولا يناله من الله رحمة, ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد (¬8). هـ- قال النووي: (أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي – اليهودي والنصراني -، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا بين من خالف ملة الإسلام, وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده غير ذلك) (¬9). ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 478) (15965)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11649). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 317): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: رجاله ثقات. (¬2) رواه أحمد (6/ 240) (26073)، والحاكم (4/ 619). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في ((التلخيص)): صدقة ضعفوه وابن بابنوس فيه جهالة. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (1/ 520): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3022): ضعيف. (¬3) رواه مسلم (214). (¬4) ابن أبي يعلى: ((طبقات الحنابلة)) (1/ 343). (¬5) ((الإمام البخاري في صحيحه)) (1/ 48). (¬6) ابن جرير الطبري: ((جامع البيان)) (23/ 24). (¬7) رواه مسلم (93). من حديث جابر رضي الله عنه. (¬8) نقله الشيخ عبد الرحمن بن حسن في ((فتح المجيد)) (1/ 99)، وهو في ((المفهم)) للقرطبي (1/ 290). (¬9) ((شرح مسلم للنووي)) (2/ 97).

وويقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية: (ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم ... ) (¬1). ز- قال ابن كثير: (أخبر – تعالى – أنه لا يغفر أن يشرك به، أي: لا يغفر من لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده) (¬2). ح- قال ابن القيم: (ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله –عز وجل- حرم الجنة على أهله فلا تدخل الجنة نفس مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد ... ) (¬3). ط- وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -: (أن من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار، ولو كان من أعبد الناس) (¬4). ي- وقال أحمد بن حجر آل بوطامي الشافعي – رحمه الله -: (الشرك نوعان: أكبر وأصغر، فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار) (¬5). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 160 ¬

(¬1) ابن تيمية: ((الرد على البكري)) (ص: 95). (¬2) ((ابن كثير في تفسيره)) (2/ 308). (¬3) ابن القيم: ((الوابل الصيب)) (ص: 18). (¬4) ((التوحيد)) ابن عبد الوهاب (1/ 100) مع ((فتح المجيد)). (¬5) أحمد بن حجر آل بوطامي، ((تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران)) (ص: 38، 39).

المطلب الثالث: أقسام الشرك الأكبر

المطلب الثالث: أقسام الشرك الأكبر • أولاً: تعريف الشرك في الربوبية. • ثانياً: أنواع الشرك في الربوبية والأسماء والصفات. • ثالثاً: الفرق التي أشركت بالربوبية (¬1). • رابعاً: مظاهر الشرك في الربوبية. ¬

(¬1) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، (ص: 24 - 26).

أولا: تعريف الشرك في الربوبية

أولاً: تعريف الشرك في الربوبية هو اعتقاد متصرف مع الله عز وجل في أي شيء من تدبير الكون، من إيجاد أو إعدام، أو إحياء أو إماتة، جلب خير أو دفع شر، أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته كعلم الغيب وكالعظمة والكبرياء ونحو ذلك وقال الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر: 2 - 3] الآيات، وقال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107] الآية، وقال تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38]. وقال تبارك وتعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59] الآيات، وقال تعالى: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] الآية، وقال تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة: 255] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: العظمة إزاري، الكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري)) (¬1) وهو في الصحيح (¬2). أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة لحافظ بن أحمد الحكمي- ص: 30 قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ( ... إن الرب سبحانه هو الملك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع، أو الضار أو النافع, أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته) (¬3). وقال في موضع آخر: (فأما الأول - الشرك في الربوبية - فهو إثبات فاعل مستقل غير الله، كمن يجعل الحيوان مستقلاً بإحداث فعله، ويجعل الكواكب، أو الأجسام الطبيعية، أو العقول, أو النفوس، أو الملائكة، أو غير ذلك مستقلاً بشيء من الأحداث، فهؤلاء حقيقة قولهم: تعطيل الحوادث عن الفاعل ... ) (¬4). أو بعبارة مختصرة يقال: من أشرك مع الله غيره في خصائص الربوبية أو أنكر شيئاً منها، أو شبهه بغيره، أو شبه غيره به، يعد مشركاً بالله، سواء كان في ذاته, أو أفعاله, أو أوصافه. وهذا الشرك ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفوراً (¬5). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا- 1/ 141 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4090)، وابن ماجه (3383)، وأحمد (2/ 376) (8881)، وابن حبان (2/ 35) (328). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال محمد جار الله في ((النوافح العطرة)) (222)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه مسلم (2620). من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما. (¬3) ابن تيمية: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 92). (¬4) ابن تيمية: ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 390). (¬5) انظر ما ذكره ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (ص: 309).

ثانيا: أنواع الشرك في الربوبية والأسماء والصفات

ثانياً: أنواع الشرك في الربوبية والأسماء والصفات النوع الأول: شرك التعطيل؛ وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وقال تعالى مخبراً عنه ما قال لهامان: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا. وإنما قلنا لهذا التعطيل بأنه شرك؛ لأن الشرك والتعطيل متلازمان، فكل معطل مشرك، وكل مشرك معطل (¬1)، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته، ولكنه عطل حق التوحيد. وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل، وهو على ثلاثة أقسام: 1 - تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه, ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماً أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس (¬2)، ومنه الإلحاد بإنكار الخالق للكون. 2 - تعطيل الصانع – سبحانه – عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه, وأوصافه, وأفعاله، ومن هذا الشرك من عطل أسماء الرب تعالى, وأوصافه, وأفعاله من غلاة الجهمية، والقرامطة، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه؛ إذ كمال الذات بأسمائه وصفاته. ويدخل في ذلك شرك منكري الرسالة للرسل، وشرك منكري القدر، وشرك التشريع والتحليل والتحريم من غير الله. 3 - تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه. النوع الثاني: شرك الأنداد من غير تعطيل: وهو من جعل مع الله إلهاً آخر, ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، ومن ذلك: 1 - شرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً، وأمه إلهاً. 2 - شرك المجوس (¬3): القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة. 3 - شرك القدرية (¬4): القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته، ولهذا كانوا أشباه المجوس. 4 - شرك الذي حاج إبراهيم في ربه: إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258]، فهذا جعل نفسه نداً لله تعالى، يحيى ويميت بزعمه، كما يحيى الله ويميت، فألزمه إبراهيم أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي بها الله منها، وليس هذا انتقالاً كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزاماً على طرد الدليل إن كان حقاً. 5 - شرك فرعون حينما قال: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، وقوله تعالى حكاية عن قول قومه له: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127]، كما هو في بعض القراءات (¬5). 6 - وأيضاً من هذا النوع شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أرباباً مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم. 7 - ومن هذا النوع: شرك من أسند النعمة إلى غير الله، قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً. ¬

(¬1) انظر ما ذكره ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (ص: 310). (¬2) انظر ما ذكره ابن تيمية في ((الفتاوى)) (17/ 286). (¬3) انظر: ((الملل والنحل)) (2/ 73)، و ((الفرق بين الفرق)) (ص: 276). (¬4) انظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 18 - 20)، و ((تذهيب تهذيب الكمال)) (ص: 383). (¬5) وهي قراءة ابن عباس ومجاهد، ((انظر: ما قال الطبري في التفسير)) (6/ 9/17).

8 - ومن هذا شرك عباد الشمس، وعباد النار، وغيرهم، فمن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته, والتبتل إليه, والانقطاع إليه أقبل عليه واعتنى به، ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى!! فتارة تكثر الآلهة والوسائط وتارة تقل (¬1). فيستنتج مما سبق أن هذا القسم من الشرك ينقسم قسمين: 1 - نوع في توحيد الربوبية، ويكون من وجهين: أ- بالتعطيل، وذلك: إما بالإلحاد، كقول فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23]، ويدخل فيه الشيوعية, والاشتراكية, والقومية, وغيرها من الاتجاهات الهدامة التي تجددت. وإما بتعطيل المصنوع عن صانعه: كالقول بقدم العالم. وإما بتعطيل معاملة الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد: كالقول بوحدة الوجود. وإما تعطيل الصانع عن أفعاله: كمنكري إرسال الرسل، ومنكري القدر، ومنكري البعث والنشور، وغيرها. ب- بالأنداد، وذلك: إما بدعوى التصرف في الكون من الغير كمشركي قوم إبراهيم الصابئة، والمتصوفة القائلين بالغوث, والقطب, والأوتاد، والأبدال وتصرفهم كما يدعون. وإما بإعطاء السلطة لأحد غير الله في التحليل والتحريم، كما كان في النصارى، وفي بعض حكام هذه الأمة، والقوانين الوضعية وغيرها. وإما بدعوى التأثير في الكون من النجوم والهياكل، كالصابئة من قوم إبراهيم، أو الأولياء، أو التمائم والأحجبة. 2 - نوع في توحيد الأسماء والصفات، وذلك من وجهين أيضاً: أ- بالتعطيل: وذلك بتعطيل الصانع عن كماله المقدس: كالجهمية الغلاة، والقرامطة الذين أنكروا أسماء الله عز وجل وصفاته. ب- بالأنداد: 1 - إثبات صفات الصانع للمخلوقين: وذلك؛ بالتمثيل في أسمائه أو صفاته، كالشرك في علم الباري المحيط، ويدخل في ذلك: التنجيم، والعرافة, والكهانة، وادعاء علم المغيبات لأحد غير الله، وكالشرك في قدرة الله الكاملة، وذلك بادعاء التصرف للغير في ملكوت الله، وخوف الضرر أو التماس النفع من الغير، أو بالاستغاثة من الغير، أو تسمية غيره غوثاً، أو بالسحر والتسحر وغيرها. 2 - أو بإثبات صفات المخلوق للصانع جل وعلا: كاليهود المغضوب عليهم الذين شبهوا الله بصفات المخلوقين، وهكذا النصارى في قولهم بالنبوة والأبوة وما إلى ذلك من صفات المخلوقات لله جل وعلا، ويدخل في هذا النوع كل من شبه الله بخلقه ومثله بهم من هذه الأمة. وكل هذه الأنواع السالفة الذكر يعتبر من الشرك الأكبر، وينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفوراً باتفاق العلماء (¬2). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 142 ¬

(¬1) ابن القيم: ((الجواب الكافي)) (ص: 3141)، بتصرف يسير. (¬2) على ضوء ما ذكره ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (ص: 309 - 314).

ثالثا: الفرق التي أشركت بالربوبية انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، (ص: 24 - 26).

ثالثاً: الفرق التي أشركت بالربوبية (¬1) 1 - المجوس: (الأصلية) قالوا بالأصلين: النور والظلمة، وقالوا: إن النور أزلي، والظلمة محدثة. 2 - الثنوية: (أصحاب الاثنين الأزليين): الذين يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس الذين قالوا بحدوث الظلام، لكن قالوا باختلافهما في الجوهر، والطبع، والفعل، والخبر، والمكان، والأجناس، والأبدان، والأرواح، ولم يقولوا بتماثلهما في الصفات والأفعال، كما ترى، وإن قالوا بتساويهما في القدم. 3 - المانوية: (أصحاب ماني بن فاتك): قالوا: إن العالم مصنوع من أصلين قديمين، ولكن قالوا باختلافهما في النفس، والصورة، والفعل، التدبير. 4 - النصارى: (القائلون بالتثليث): فالنصارى لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضها عن بعض، بل هم متفقون على أنه صانع واحد يقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ويقولون: واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم. أما الأقانيم فإنهم عجزوا عن تفسيرها. وقولهم هذا متناقض أيما تناقض, وتصوره كاف في رده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى, وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين, ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولاً. وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولاً، وامرأته قولاً آخر، وابنه قولاً ثالثاً) (¬2). وقال ابن القيم رحمه الله في معرض رده عليهم: (أما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمة أشد اختلافاً في معبودها منكم؛ فلو سألت الرجل، وامرأته، وابنته، وأمه، وأباه، عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر) (¬3). بل قيل فيهم: (لو توجهت إلى أي نصراني على وجه الأرض، وطلبت منه أن يصور لك حقيقة دينه، وما يعتقده في طبيعة المسيح تصويراً دقيقاً – لما استطاع ذلك) (¬4). هذا وقد بين الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) ما عندهم من التناقض، وكذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (محاضرات في النصرانية). 5 - القدرية: هم في الحقيقة مشركون في الربوبية، وهذا لازم لمذهبهم؛ لأنهم يرون أن الإنسان خالق لفعله، فهم أثبتوا لكل أحد من الناس خلق فعله. والخلق إنما هو مما اختص الله به، قال تعالى: وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصَّافَّات: 96]. وأفعال العباد لا يخرجها شيء من عموم خلقه –عز وجل- (¬5). 6 - الفلاسفة الدهرية: في قولهم في حركة الأفلاك بأنها تسعة، وأن التاسع منها وهو الأطلس يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وزعموا أن الله يحدث ما يقدره في الأرض. 7 - عبدة الأصنام من مشركي العرب وغيرهم: ممن كانوا يعتقدون أن الأصنام تضر وتنفع، فيتقربون إليها، وينذرون لها، ويتبركون بها. 8 - غلاة الصوفية: لغلوهم في الأولياء، وزعمهم أنهم يضرون، وينفعون، ويتصرفون في الأكوان، ويعلمون الغيب، ولقولهم بوحدة الوجود، وربوبية كل شيء (¬6). ¬

(¬1) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، (ص: 24 - 26). (¬2) ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) لابن تيمية (2/ 155). (¬3) ((هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)) لابن القيم، (ص: 321). (¬4) ((ما يجب أن يعرفه المسلم عن حقائق النصرانية والتبشير)) لإبراهيم الجيهان (ص: 13). (¬5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 258)، و ((الإيمان بالقضاء والقدر)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص: 173 - 174) , (¬6) انظر: ((هذه هي الصوفية)) لعبد الرحمن الوكيل، (ص: 35 - 38 و 133).

9 - الشيعة: لقولهم بأن الدنيا والآخرة للإمام، يتصرف بهما كيف يشاء، وأن تراب الحسين شفاء من كل داء، وأمان من كل خوف، ولقولهم: إن أئمتهم يعلمون الغيب، ويعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا بإذنهم. وهذا باطل، وبطلانه لا يحتاج إلى دليل، بل إن فساده يغني عن إفساده (¬1). 10 - النصيرية: لقولهم بألوهية علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وبأنه المتصرف بالكون، لوصفهم إياه بأوصاف لا يجوز أن يوصف بها أحد إلا الله –عز وجل- مع اختلاف أقوالهم في هذا؛ فبعضهم يقول: إنه يسكن في الشمس ويسمون بـ: الشمسية. وبعضهم يقولون: إنه يسكن في القمر، ويسمون بـ: القمرية. وبعضهم يقولون: إنه يسكن في السحاب، ولذا إذا رأوا السحاب قالوا: السلام عليك يا أمير النحل (¬2). 11 - الدروز: لقولهم بألوهية الحاكم بأمر الله العبيدي، وغلوهم فيه، ووصفه بأوصاف لا تليق إلا بالله وحده، كقولهم عنه: (إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) (¬3). 12 - من يعتقدون تأثير النجوم, والكواكب, والأسماء: وذلك كحال الذين يتتبعون الأبراج ويقولون – رجماً بالغيب – إذا ولد فلان في البرج الفلاني, أو الشهر الفلاني, أو اليوم الفلاني، أو كان اسمه يبدأ بحرف كذا أو كذا – فسيصيبه كذا وكذا، ويضعون عليها دعايات تقول: من شهر ميلادك تعرف حظك، أو من اسمك تعرف حظك. كل ذلك شرك في الربوبية؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله وحده لا شريك له. 13 - القانونيون: الذين يصدون ويصدفون عن شرع الله، والذين يحكمون الناس بالقوانين الوضعية، التي هي من نحاتة أفكارهم، وزبالة أذهانهم فهؤلاء محاربون لله، منازعون له في ربوبيته وحكمه وشرعه (¬4). رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد– ص: 128 ¬

(¬1) انظر: ((الخطوط العريضة)) لمحب الدين الخطيب، تحقيق: محمد مال الله (ص: 69)، وانظر ((مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة))، د. ناصر القفاري، (1/ 290)، و ((الشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير)) (ص: 66). (¬2) انظر: ((الحركات الباطنية في العالم الإسلامي))، د. محمد بن أحمد الخطيب، (ص: 341)، و ((دراسات في الفرق)) لصابر طعمية، (ص: 42)، و ((النصيرية)) د. سهير الفيل (ص: 93 - 103)، و ((الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية)) لسليمان الأذني، و ((رسالة النصيرية في كتاب رسائل في الأديان والفرق والمذاهب)) لمحمد بن إبراهيم الحمد. (¬3) انظر ((عقيدة الدروز، عرض ونقض)) د. محمد بن أحمد الخطيب (ص: 117)، وانظر ((الحركات الباطنية)) (ص: 233 - 238). (¬4) انظر ((رسالة تحكيم القوانين)) لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.

رابعا: مظاهر الشرك في الربوبية

رابعاً: مظاهر الشرك في الربوبية قال ابن القيم رحمه الله تعالى في خاتمة كتابه الإغاثة: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما ... كان في قوم نوح عليه الصلاة والسلام ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج ونهى عن الصلاة إلى القبور وسأل ربه سبحانه وتعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا وقال: ((اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬1) وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل، قال فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ولم يضرهم ذلك شيئا وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجا وقربانا ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا فمنها بيت على رأس جبل بأصبهان كانت به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس وجعله بيت نار ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء بناه بعض المشركون على اسم الزهرة فخربه عثمان رضي الله عنه ومنها بيت بناه قابوس الملك المشرك بالهند قال يحيى بن بشر إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن ووضع لهم أصناما وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند وجعل فيه صنمهم الأعظم وزعم أنه بصورة الهيولي الأكبر وفتحت هذه المدينة في أيام الحجاج واسمها الملتان إلى أن قال رحمه الله تعالى وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة وهم قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه وهذا مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى فمنهم من عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها وهي عندهم ملك الفلك يستحق التعظيم والسجود والدعاء ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهر على نوع النار وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه ثلاث مرات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعون ويستسقون به وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم وإذا غربت وإذا توسطت الفلك ولهذا يقارفها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام قلت وقد ذكر الله عز وجل عبادة الشمس عن أهل سبأ من أرض اليمن في عهد بلقيس كما حكى قول الهدهد حيث قال وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله [النمل:24] إلى آخر الآيات وهداها الله تعالى إلى الإسلام على يد نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام حيث قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ العَالَمِين [النمل:44] ¬

(¬1) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 240)، وعبدالرزاق في ((المصنف)) (1/ 406)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 150). من حديث عطاء بن يسار مرسلا. وقال ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (5/ 41): مرسل غريب وهو صحيح. وقال الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (517): صحيح.

ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى (فصل) وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي ومن شريعة عباده أنهم اتخذوا لهم صنما على شكل عجل ويجره أربعة وبيد الصنم جوهرة ويعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صور الكواكب وروحانياتها بزعمهم وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وصنم يخصه وعبادة تخصه ومتى أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب (السر المكتوم في مخاطبة النجوم) المنسوب لابن خطيب الري تعرف عبادة الأصنام وكيفية تلك العبادة وشرائطها وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام فإنهم لا تستمر لهم طريق إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه ومن هنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورها فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده.

ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشيطان فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب، وعقلاؤهم يقولون إن تلك روحانيات الأصنام وبعضهم يقول إنها الملائكة وبعضهم يقول إنها هي العقول المجردة وبعضهم يقول هي روحانيات الأجرام العلوية وكثير منهم لا يسأل عما عهد بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلها ولا يسأل عما وراء ذلك وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعبادتها في الأرض من قبل نوح عليه الصلاة والسلام كما تقدم وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المصنفة في شرائع عبادتها طبق الأرض قال إمام الحنفاء وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ [إبراهيم:35 - 36] والأمم التي أهلكها الله تعالى بأنواع الهلاك كلهم يعبدون الأصنام كما قص الله عز وجل ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ((بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)) (¬1)، وقد قال الله تعالى: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الإسراء:89] وقال الله تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ [الأنعام:116] وقال الله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] وقال الله تعالى: وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [الأعراف:102] ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها وما حل بهم من عاجل العقوبات ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور وفتنة الفجور بها والعاشق لا يثنيه عن مراده خشية عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات والضرب والحبس والنكال والفقر غير ما أعد الله له في الآخرة وفي البرزخ ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام وأشد فإن تأله القلوب لها أعظم من تألهها للصور التي يريد منها الفاحشة بكثير والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله وأنهم أعداء الله وأعداء رسله وأنهم أولياء الشيطان وعباده وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات وأن الله سبحانه برئ منهم هو وجميع رسله وملائكته وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل لهم عملا وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء وأموالهم ونساءهم وأبناءهم وأمرهم بتطهير الأرض منهم حيث وجدوا وذمهم بسائر أنواع الذم وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة فهؤلاء في شق ورسل الله في شق معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- بتصرف - ص584 ¬

(¬1) رواه البخاري (3348)، ومسلم (222). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(ومن أعمال أهل الشرك) التي لا يفعلها غيرهم ولا تليق إلا بعقولهم السخيفة، وأفئدتهم الضعيفة، وقلوبهم المطبوع عليها، وأبصارهم المغشي عليها (ما) أي الذي (لم يأذن الله) عز وجل في كتابه ولا سنة نبيه (بأن يعظما) بألف الإطلاق، وأن ومدخولها في تأويل مصدر أي لم يأذن الله بتعظيمه ذلك التعظيم الذي منحه إياه من لم يفرق بين حق الله تعالى وحقوق عباده من النبيين والأولياء وغيرهم، بل لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه ولا بين طاعته ومعصيته، فيتخذ من دون الله أنداداً وهو يرى أن ذلك الذي فعله قربة وطاعة لله وأن الله يحب ذلك ويرضاه، ويكذَّب الرسل ويدَّعي أنه من أتباعهم، ويوالي أعداء الله وهو يظنهم أولياؤه، كفعل اليهود والنصارى يجاهرون الله بالمعاصي ويكذبون كتابه ويغيرونه ويبدلونه ويحرفون الكلم عن مواضعه ويقتلون الأنبياء بغير الحق وينسبون لله سبحانه وتعالى الولد ويفعلون الأفاعيل ويقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه وسبب هذا كله – في الأمم الأولى والأخرى – هو الإعراض عن الشريعة وعدم الاهتمام لمعرفة ما احتوت عليه الكتب من البشارة والنذارة والأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد، ومعرفة ما يجب لله على عباده فعله وما يجب تركه (كمن يَلُذ ببقعة) أي يعوذ بها ويختلف إليها ويتبرك بها ولو بعبادة الله تعالى عندها، وتقدم تقييد ذلك بما لم يأذن به الله، فيخرج بهذا القيد ما أذن الله تعالى بتعظيمه كتعظيم بيته الحرام بالحج إليه وتعظيم شعائر الله من المشاعر والمواقف وغيرها، فإن ذلك تعظيم لله عز وجل الذي أمر بذلك لا لتلك البقعة ذاتها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استلم الحجر الأسود: (أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (¬1)، ¬

(¬1) رواه البخاري (1597) ومسلم (1270) ..

وكذلك التعظيم أيضاً نفسه إنَّما أردنا منع تعظيم لم يأذن الله به لا المأذون فيه، فإن الله تعالى قد أمر بتعظيم الرسل بأن يطاعوا فلا يعصوا ويحبوا ويتبعوا، وأن طاعة الرسول هي طاعة الله عز وجل ومعصيته معصية الله عز وجل، فهذا تعظيم لا يتم الإيمان إلا به إذ هو عين تعظيم الله تعالى، فإنهم إنما عُظموا لأجل عظمة المرسل سبحانه وتعالى وأُحبوا لأجله واتُّبعوا على شرعه، فعاد ذلك إلى تعظيم الله عز وجل، فلو أن أحداً عظم رسولاً من الرسل بما لم يأذن الله به ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله عز وجل وغلا فيه حتى اعتقد فيه شيئاً من الإلهية لانعكس الأمر وصار عين التنقص والاستهانة بالله وبرسله كفعل اليهود والنصارى الذي ذكر الله عز وجل عنهم من غلوهم في الأنبياء والصالحين كعيسى وعزير، فكذبوا بالكتاب وتنقصوا الرب عز وجل بنسبة الولد إليه وغير ذلك وكذبوا الرسول في قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30] فصار ذلك التعظيم في اعتقادهم هو عين التنقص والشتم، سبحان الله عما يصفون، وسلام على المرسلين (أو حجر، أو قبر ميت، أو ببعض الشجر) أو غير ذلك من العيون ونحوها ولو بعبادة الله عندها فإن ذلك ذريعة إلى عبادتها ذاتها كما فعل إبليس لعنه الله بقوم نوح حيث أشار عليهم بتصوير صالحيهم ثم بالعكوف على قبورهم وصورهم وعبادة الله عندها إلى أن أشار عليهم بعبادتها ذاتها من دون الله تعالى فعبدوها، (متخذاً لذلك المكان) من القبور والأشجار والعيون والبقاع وغيرها (عيداً) أي ينتابها ويعتاد الاختلاف إليها (كفعل عابدي الأوثان) في تعظيمهم أوثانهم واعتيادهم إليها، ولذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم العكوف على الأشجار وتعليق الأسلحة بها على جهة التعظيم (تألهاً)، كما في الترمذي عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من قبلكم)) (¬1) ولقد عمت البلوى بذلك وطمت في كل زمان ومكان حتى في هذه الأمة لاسيما زماننا هذا، ما من قبر ولا بقعة يذكر لها شيء من الفضائل ولو كذباً إلا وقد اعتادوا الاختلاف إليها والتبرك بها حتى جعلوا لها أوقاتاً معلومة يفوت عيدهم بفواتها ويرون من أعظم الخسارات أن يفوت الرجلَ ذلك العيد المعلوم وآل بهم الأمر إلى أن صنفوا في أحكام حجهم إليها كتباً سموها مناسك حج المشاهد ومن أخل بشيء منها فهو عندهم أعظم جرماً ممن أخل بشيء من مناسك الحج إلى بيت الله الحرام، وجعلوا لها طوافاً معلوماً كالطواف بالبيت الحرام, وشرعوا تقبيلها كما يقبَّل الحجر الأسود حتى قالوا إن زحمت فاستلم بمحجن أو أشر إليه، قياساً على فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر الأسود، وشرعوا لها نذوراً من المواشي والنقود، ووقفوا عليها الوقوف من العقارات والحرث وغيرها وغير ذلك من شرائعهم الشيطانية، وقواعدهم الوثنية معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- ص64 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2180)، وأحمد (5/ 218) (21950)، وابن حبان (15/ 93) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 346)، والطبراني (3/ 244) واللفظ له. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. تنبيه: بعض نسخ الترمذي فيها خيبر بدل حنين.

المسألة الثانية: الشرك في الألوهية

أولاً: تعريف الشرك في الألوهية وهو شرك في عبادة الله، وإن كان صاحبه يعتقد أنه – سبحانه – لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته, ولا في أفعاله، وهو الذي يسمى بالشرك في العبادة، وهو أكثر وأوسع انتشاراً ووقوعاً من الذي قبله، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع, ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره, ولا رب سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة أخرى، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب. وهذا حال أكثر الناس، ومعلوم أن من لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير الذي أمر به، فلا يصح، ولا يقبل منه، قال الله عز وجل- كما في الحديث القدسي: - ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريء)) (¬1). ، ويقول أصحاب هذا الشرك مخاطبين لآلهتهم وقد جمعهم الجحيم: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98]، ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والرزق والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم في الحب والتأله والخضوع لهم, والتذلل, والتعظيم (¬2). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 147 ¬

(¬1) رواه مسلم (2985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) انظره مع بعض ما تقدم في ((الجواب الكافي)) (ص: 318)، و ((مدارج السالكين)) (1/ 339).

ثانيا: أنواع الشرك في الألوهية

ثانياً: أنواع الشرك في الألوهية النوع الأول: اعتقاد شريك لله تعالى في الألوهية (¬1). فمن اعتقد أن غير الله تعالى يستحق العبادة مع الله (¬2) , أو يستحق أن يصرف له أي نوع من أنواع العبادة فهو مشرك في الألوهية. ويدخل في هذا النوع من يسمي ولده أو يتسمى باسم يدل على التعبد لغير الله تعالى (¬3)، كمن يتسمى بـ (عبد الرسول)، أو (عبد الحسين)، أو غير ذلك. فمن سمى ولده أو تسمى بشيء من هذه الأسماء التي فيها التعبد للمخلوق معتقداً أن هذا المخلوق يستحق أن يعبد فهو مشرك بالله تعالى. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 161 النوع الثاني: صرف شيء من العبادات لغير الله تعالى فالعبادات بأنواعها القلبية, والقولية, والعملية, والمالية حق لله تعالى لا يجوز أن تصرف لغيره. ... فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر. قال علامة الهند: صديق حسن خان القنوجي في تفسير قوله تعالى: أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23] قال رحمه الله: (وقد تقرر أن العبادة لا تجوز إلا لله، وأنه هو المستحق لها، فكل ما يسمى في الشرع عبادة ويصدق عليه مسماها فإن الله يستحقه، ولا استحقاق لغيره فيها، ومن أشرك فيها أحداً من دون الله فقد جاء بالشرك، وكتب اسمه في ديوان الكفر) (¬4). والشرك بصرف شيء من العبادة لغير الله له صور كثيرة، يمكن حصرها في الأمرين التاليين: الأمر الأول: الشرك في دعاء المسألة دعاء المسألة هو أن يطلب العبد من ربه جلب مرغوب, أو دفع مرهوب (¬5). ويدخل في دعاء المسألة: الاستعانة, والاستعاذة, والاستغاثة, والاستجارة. قال الخطابي رحمه الله تعالى: (ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه – عز وجل – العناية، واستمداده إياه المعونة. وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله – عز وجل – وإضافة الجود والكرم إليه) (¬6). ¬

(¬1) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 28) نقلاً عن القرطبي. (¬2) ((الإرشاد)) للسعدي: الردة (ص: 205). (¬3) ((الدين الخالص)) لصديق حسن خان (2/ 104)، ((رسالة التوحيد)) للدهلوي الهندي (ص: 17، 25)، وينظر ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (آخر 1/ 378، 379). (¬4) ((الدين الخالص)) (باب في رد الإشراك في العبادات) (2/ 52). (¬5) ((الاستغاثة)) (2/ 452)، ((تيسير العزيز الحميد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله)) (ص: 180)، و ((فتح المجيد)) (2/ 301)، ((مجموعة الرسائل)) (5/ 594). (¬6) ((شأن الدعاء)) (ص: 4).

والدعاء من أهم أنواع العبادة، فيجب صرفه لله تعالى، ولا يجوز لأحد أن يدعو غيره كائناً من كان، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدعاء هو العبادة)) (¬1)، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) (¬2).، فمن دعا غير الله فقد وقع في الشرك الأكبر – نسأل الله السلامة والعافية -. ومن أمثلة الشرك في دعاء المسألة ما يلي: ¬

(¬1) رواه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3828)، والحاكم (1/ 667). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (3/ 158): حسن لا يعرف إلا من حديث ذر. وقال النووي في ((الأذكار)) (478): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 64): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669)، والحاكم (3/ 623). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا، وصححه عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (3/ 333).

أ- أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق، سواء أكان هذا المخلوق حياً أم ميتاً، نبياً أم ولياً, أو ملكاً أم جنياً أم غيرهم، كأن يطلب منه شفاء مريضه, أو نصره على الأعداء، أو كشف كربة، أو أن يغيثه، أو أن يعيذه، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا كله شرك أكبر، مخرج من الملة بإجماع المسلمين (¬1)؛ لأنه دعا غير الله، واستغاث به، واستعاذ به، وهذا كله عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله بإجماع المسلمين، وصرفها لغيره شرك، ولأنه اعتقد في هذا المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى (¬2). ب- دعاء الميت. ج- دعاء الغائب. ¬

(¬1) ينظر ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/ 124، 194، و27/ 67 – 87، 145)، ((قاعدة في التوسل)) (ص: 58، 95)، ((قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام وعبادات أهل الشرك)) (ص: 70)، ((الاستغاثة)) (1/ 376، و2/ 619)، ((مدارج السالكين)) (منزلة التوبة) (3/ 375)، ((القول الفصل النفيس)) (ص: 95)، ((منهاج التأسيس)) (ص: 104)، ((الدر النضيد)) (ص: 28 - 29)، ((مصباح الظلام)) (ص: 188)، ((الدرر السنية)) (2/ 192 - 194)، ((تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد)) (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله، والأبواب الأربعة بعده)، ((مجموعة الرسائل)) (4/ 469)، ((السنن والمبتدعات فصل في الأدعية المحرمة)) (ص: 212 - 266)، ((القول الجلي)) (ص: 56)، ((سيف الله لصنع الله الحنفي)) (ص: 48). (¬2) ((الدر النضيد)) للشوكاني (ص: 69، 70) ((الكواكب الدرية)) للرباطي الحنفي (ص: 36 - 39)، ((الوسيلة)) لجوهر الباكستاني الحنفي (ص: 42 - 67)، ((التبيان)) للرستمي الحنفي (ص: 115 - 161) نقلاً عن كتاب ((جهود علماء الحنفية)) لشمس الدين الأفغاني (ص: 1472 - 1474)، ((منهاج التأسيس)) (ص: 187)، ((القول الفصل النفيس)) (ص: 82)، ((حجة الله البالغة)) (1/ 185)، ((صيانة الإنسان)) (ص: 373)، ((مجموعة الرسائل)) (5/ 593 - 603، 610 - 618)، ((الصواعق المرسلة الشهابية)) (ص: 132 - 137)، ((تصحيح الدعاء)) (ص: 247، 251).

فمن دعا غائباً أو دعا ميتاً وهو بعيد عن قبره، وهو يعتقد أن هذا المدعو يسمع كلامه, أو يعلم بحاله فقد وقع في الشرك الأكبر، سواء أكان هذا المدعو نبياً أو ولياً، أم عبداً صالحاً أم غيرهم، وسواء طلب من هذا المدعو ما لا يقدر عليه إلا الله أم طلب منه أن يدعو الله تعالى له، ويشفع له عنده (¬1)، فهذا كله شرك بالله تعالى مخرج من الملة؛ لما فيه من دعاء غير الله، ولما فيه من اعتقاد أن المخلوق يعلم الغيب، ولما فيه من اعتقاد إحاطة سمعه بالأصوات، وهذا كله من صفات الله تعالى التي اختص بها، فاعتقاد وجودها في غيره شرك مخرج من الملة (¬2). د- أن يجعل بينه وبين الله تعالى واسطة في الدعاء، ويعتقد أن الله تعالى لا يجيب دعاء من دعاه مباشرة، بل لابد من واسطة بين الخلق وبين الله في الدعاء، فهذه شفاعة شركية مخرجة من الملة (¬3). ¬

(¬1) وقريب من هذا من جاء إلى القبر وطلب من صاحبه أن يدعو الله له فهذا عمل محرم، وهو بدعة باتفاق السلف. ينظر: ((قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام ... )) (ص: 111 - 136)، ((مجموع الفتاوى)) (1/ 330، 351، 354 و27/ 76) ((قاعدة في المحبة)) (ص: 190 - 192)، ((رسالة زيارة القبور)) لابن تيمية (ص: 25، 49، 50)، ((تلخيص الاستغاثة)) (ص: 57)، ((الرد على الأخنائي)) (ص: 164، 165، 216)، ((صيانة الإنسان)) (ص: 360)، ((القول الجلي)) (ص: 56)، ((تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز على الفتح كتاب الاستسقاء)) (2/ 495)، ((تصحيح الدعاء)) (ص: 251). وقد نص جمع من أهل العلم على أن هذا العمل شرك أكبر. ((ينظر مدارج السالكين)) (1/ 369)، ((إغاثة اللهفان)): ((الفرق بين زيارة الموحدين ... )) (1/ 218 - 222)، ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 15)، ((الدين الخالص)) (1/ 191، 213، 226، 227، 238، 413، و2/ 57)، ((الدرر السنية)) (1/ 85، 224 و2/ 238، 239)، ((تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله وباب الشفاعة))، ((الكواكب الدرية)) للرباطي الحنفي (ص: 77 - 108)، و ((التبيان)) للرستمي الحنفي (ص: 155 - 161)، و ((الوسيلة)) لجوهر الباكستاني الحنفي (ص: 42 - 67) نقلاً عن كتاب ((جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية)) للدكتور شمس الدين الأفغاني (3/ 1472 - 1474)، ويراجع ((الرسالة الصفدية)) (2/ 187 - 291). وللتوسع في هذه المسألة ينظر ((مجموع الفتاوى)) (24/ 303، 331، 332)، ((الروح)) (المسألة الأولى)، تفسير الآية (64) من النساء في ((تفسيري القرطبي وابن كثير))، ((كتاب الدعاء)) للعروسي. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 81، 82)، ((رسالة التوحيد)) لإسماعيل الدهلوي (ص: 17، 20، 23، 31، 43)، ((مجموع فتاوى عبد الحي اللكنوي)) (1/ 264) نقلاً عن كتاب ((الدعاء)) للعروسي (ص: 274، 275، 296)، ((مصباح الظلام)) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ابن حسن (ص: 199 - 201، 254)، ((روح المعاني)) للألوسي (13/ 67، و17/ 213، و24/ 11)، ((صيانة الإنسان)) لمحمد بن بشير السهسواني الهندي (ص: 373). (¬3) ينظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/ 126 - 135، 150 - 163، و24/ 341)، ((إغاثة اللهفان)) (1/ 62)، ((رسالة التوحيد)) للدهلوي الهندي (ص: 46 - 48).

واتخاذ الوسائط والشفعاء هو أصل شرك العرب (¬1)، فهم كانوا يزعمون أن الأصنام تماثيل لقوم صالحين، فيتقربون إليهم طالبين منهم الشفاعة، كما قال تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]. الأمر الثاني: الشرك في دعاء العبادة دعاء العبادة هو: عبادة الله تعالى بأنواع العبادات القلبية، والقولية، والفعلية كالمحبة، والخوف، والرجاء والصلاة، والصيام، والذبح، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى وغيرها. وسمي هذا النوع (دعاء) باعتبار أن العابد لله بهذه العبادات طالب وسائل لله في المعنى، لأنه إنما فعل هذه العبادات رجاء لثوابه وخوفاً من عقابه، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب (¬2)، فهو داع لله تعالى بلسان حاله، لا بلسان مقاله. ومن أمثلة الشرك في هذا النوع: أ- شرك النية والإرادة والقصد: هذا الشرك إنما يصدر من المنافق النفاق الأكبر، فقد يظهر الإسلام وهو غير مقر به في باطنه، فهو قد راءى بأصل الإيمان، كما قال تعالى: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا [البقرة: 14]، وقد يرائي ببعض العبادات، كالصلاة، كما قال تعالى عن المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 142]، فهم قد جمعوا بين الشرك والنفاق. ب- الشرك في الخوف: الخوف في أصله ينقسم إلى أربعة أقسام: 1 - الخوف من الله تعالى: ويسمى (خوف السر)، وهو الخوف المقترن بالمحبة, والتعظيم, والتذلل لله تعالى، وهو خوف واجب، وأصل من أصول العبادة. 2 - الخوف الجبلي: كالخوف من عدو، والخوف من السباع المفترسة ونحو ذلك. وهذا خوف مباح؛ إذا وجدت أسبابه، قال الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص: 21]. 3 - الخوف الشركي: وهو أن يخاف من مخلوق خوفاً مقترناً بالتعظيم والخضوع والمحبة. ومن ذلك الخوف من صنم أو من ميت خوفاً مقروناً بتعظيم ومحبة، فيخاف أن يصيبه بمكروه بمشيئته وقدرته، كأن يخاف أن يصيبه بمرض, أو بآفة في ماله، أو يخاف أن يغضب عليه؛ فيسلبه نعمه فهذا من الشرك الأكبر، لأنه صرف عبادة الخوف والتعظيم لغير الله، ولما في ذلك من اعتقاد النفع والضر في غير الله تعالى، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة: 18] قال ابن عطية المالكي الأندلسي المولود سنة 481هـ في تفسيره (¬3): (يريد خشية التعظيم, والعبادة, والطاعة). ¬

(¬1) ((شرح الطحاوية)) (ص: 29)، ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 15)، بل هو أصل شرك الخلق كلهم. ينظر: ((إغاثة اللهفان)) (فصل في ما في الشرك والزنا من الخبث) (1/ 62)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 134، 135): (من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى على النصارى). (¬2) ((بدائع الفوائد)) (3/ 2 - 5)، ((تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد)) (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله)، ((مقدمة تفسير السعدي)) (ص: 14). (¬3) (2/ 148).

4 - الخوف الذي يحمل على ترك واجب أو فعل محرم، وهو خوف محرم (¬1)، كمن يخاف من إنسان حي أن يضره في ماله أو في بدنه، وهذا الخوف وهمي لا حقيقة له، وقد يكون هناك خوف فعلاً ولكنه يسير لا يجوز معه ترك الواجب أو فعل المحرم. قال الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه أو علمه)) (¬2). ج- الشرك في المحبة: المحبة في أصلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - محبة واجبة: وهي محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة ما يحبه الله تعالى من العبادات وغيرها (¬3). 2 - محبة طبيعية مباحة: كمحبة الوالد لولده، والإنسان لصديقه، ولماله ونحو ذلك. ويشترط في هذه المحبة أن لا يصحبها ذل, ولا خضوع, ولا تعظيم، فإن صحبها ذلك فهي من القسم الثالث، ويشترط أيضاً أن لا تصل إلى درجة محبته لله ومحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ساوتها أو زادت عليها فهي محبة محرمة، لقوله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]. 3 - محبة شركية، وهي أن يحب مخلوقاً محبة مقترنة بالخضوع والتعظيم، وهذه هي محبة العبودية، التي لا يجوز صرفها لغير الله، فمن صرفها لغيره فقد وقع في الشرك الأكبر (¬4)، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ [البقرة: 165]. د- الشرك في الرجاء: وهو أن يرجو من مخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله، كمن يرجو من مخلوق أن يرزقه ولداً، أو يرجو منه أن يشفيه بإرادته وقدرته، فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة (¬5). هـ- الشرك في الصلاة والسجود والركوع: ¬

(¬1) ينظر في أنواع الخوف ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 24)، وينظر باب إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ في ((تيسير العزيز الحميد))، و ((فتح المجيد))، و ((إبطال التنديد))، و ((القول السديد))، و ((القول المفيد))، و ((الإرشاد)) للفوزان (ص: 53 - 60). (¬2) رواه أحمد (3/ 44) (11421)، وأبو يعلى (2/ 419) (1212)، وابن حبان (1/ 509) (275)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 99). والحديث صحح إسناده ابن حجر على شرط مسلم في ((الأمالي المطلقة)) (163). (¬3) ينظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 274). (¬4) ((قاعدة في المحبة)) (ص: 67 - 107) ((الجواب الكافي)) (ص: 195 و263 - 275)، ((طريق الهجرتين)) (ص: 383)، ((جلاء الأفهام فصل تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد)) (ص: 93)، والباب الخامس (ص: 249)، ((تفسير ابن كثير)) (تفسير الآية 165 من سورة البقرة)، ((تجريد التوحيد)) (ص: 80، 81)، ((تيسير العزيز الحميد)) باب (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً)، ((الدرر السنية)) (2/ 291)، ((الإرشاد)) للفوزان (ص: 60، 61). وينظر ((الدين الخالص)) (1/ 69، 219). (¬5) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 24).

فمن صلى, أو سجد, أو ركع, أو انحنى لمخلوق محبة وخضوعاً له وتقرباً إليه (¬1)، فقد وقع في الشرك الأكبر بإجماع أهل العلم (¬2)، قال الله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37]، وقال سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162 - 163] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما سجد له: ((لا تفعل، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد)) (¬4)، ولأنه قد صرف شيئاً من العبادة لغير الله عز وجل. وصرف العبادة لغيره شرك بإجماع أهل العلم (¬5). والشرك في الذبح: الذبح في أصله ينقسم إلى أربعة أقسام: 1 - ذبح الحيوان المأكول اللحم تقرباً إلى الله تعالى وتعظيماً له، كالأضحية، وهدي التمتع والقران في الحج، والذبح للتصدق باللحم على الفقراء ونحو ذلك، فهذا مشروع، وهو عبادة من العبادات. 2 - ذبح الحيوان المأكول لضيف، أو من أجل وليمة عرس ونحو ذلك، فهذا مأمور به إما وجوباً وإما استحباباً. 3 - ذبح الحيوان الذي يؤكل لحمه من أجل الاتجار ببيع لحمه، أو لأكله، أو فرحاً عند سكنى بيت ونحو ذلك، فهذا الأصل أنه مباح، وقد يكون مطلوباً فعله، أو منهياً عنه حسبما يكون وسيلة إليه. ¬

(¬1) ينظر: ((زاد المعاد)): الطب: حلق الرأس (4/ 158 - 160). (¬2) حكى هذا الإجماع في السجود القاضي عياض المالكي في آخر كتاب: ((الشفاء)) (2/ 521، 528)، والحافظ ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (ص: 215)، وذكره ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي في كتابه ((الإعلام بقواطع الإسلام)) (ص: 20) نقلاً عن كتاب ((المواقف وشرحه))، وينظر ((التمهيد)) (5/ 45)، و ((الاستغاثة)) (1/ 356، و2/ 629)، و ((مجموع الفتاوى)) (27/ 92)، و ((الجواب الكافي)) (ص: 196، 199)، و ((سيف الله)) لصنع الله الحنفي (ص: 69)، و ((الدين الخالص)) (1/ 94)، و ((رسالة التوحيد)) للدهلوي (ص: 53، 54)، وينظر أيضاً رسالة ((النواقض العملية)) ففيها نقول كثيرة عن كثير من العلماء من جميع المذاهب في أن الصلاة والسجود والركوع والانحناء تقرباً إلى المخلوق شرك أكبر مخرج من الملة. وذكر البركوي الحنفي في ((إيقاظ النائمين)) (ص: 79) أن الصلاة لغير الله حرام بالاتفاق. (¬3) رواه ابن ماجه (1853)، وابن حبان (1290) والبيهقي (7/ 292). قال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/ 360): إسناده صالح وله ما يشهد له فيتقوى به. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. قال الشوكاني: (أخرج قصة معاذ المذكورة في الباب البزار بإسناد رجاله رجال الصحيح. وأخرجها أيضاً البزار والطبراني بإسناد آخر رجاله ثقات، وقصة السجود ثابتة من حديث ابن عباس عند البزار ومن حديث سارقة عند الطبراني، ومن حديث عائشة عند أحمد وابن ماجه، ومن حديث عصمة عند الطبراني وغير هؤلاء)، ((نيل الأوطار)) (6/ 234). (¬4) رواه ابن حبان في ((صحيحه)) (9/ 470) (4162)، وحسن إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (7/ 54). (¬5) ينظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله) (ص: 192).

4 - الذبح تقرباً إلى مخلوق, وتعظيماً له, وخضوعاً له، فهذه عبادة – كما سبق – ولا يجوز التقرب به إلى غير الله (¬1)، فمن ذبح تقرباً إلى مخلوق وتعظيماً له فقد وقع في الشرك الأكبر وذبيحته محرمة لا يجوز أكلها، سواء أكان هذا المخلوق من الإنس أم من الجن أم من الملائكة أم كان قبراً، أم غيره، وقد حكى نظام الدين الشافعي النيسابوري المتوفى سنة 406هـ إجماع العلماء على ذلك. قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163]، وقال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2]، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من ذبح لغير الله)). رواه مسلم (¬2). ز- الشرك في النذر, والزكاة, والصدقة: النذر هو: إلزام مكلف مختار نفسه عبادة الله تعالى غير واجبة عليه بأصل الشرع (¬3). كأن يقول: لله علي نذر أو أفعل كذا، أو لله علي أن أصلي أو أصوم كذا، أو أتصدق بكذا، أو ما أشبه ذلك. والنذر عبادة من العبادات، لا يجوز أن يصرف لغير الله تعالى، فمن نذر لمخلوق كأن يقول: لفلان علي نذر أن أصوم يوماً، أو لقبر فلان علي أن أتصدق بكذا، أو إن شفي مريضي أو جاء غائبي للشيخ فلان علي أن أتصدق بكذا، أو لقبره علي أن أتصدق بكذا، فقد أجمع أهل العلم على أن نذره محرم وباطل (¬4)، وعلى أن من فعل ذلك قد أشرك بالله تعالى الشرك الأكبر المخرج من الملة (¬5)، لأنه صرف عبادة النذر لغير الله، ولأنه يعتقد أن الميت ينفع ويضر من دون الله، وهذا كله شرك (¬6). ¬

(¬1) ينظر ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي mm المبحث الثالث فيما شرعت النية لأجله (ص: 12)، ((شرح مسلم للنووي)) (13/ 141)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم: ((قاعدة الأمور بمقاصدها)) (ص: 29)، ((حاشية ابن عابدين)): ((كتاب الذبائح)) (5/ 196، 197)، ((شرح الأصول الستة)) للشيخ ابن عثيمين (ص: 27، 28)، وينظر في ((أنواع الذبائح المباحة)) ((الفتح)): (الأطعمة)) باب حق إجابة الوليمة، و ((الروض مع حاشية)) لابن قاسم: ((النكاح)) (باب الوليمة). (¬2) [3539])) (1978). (¬3) ((التوضيح عن توحيد الخلاق)) (ص: 280)، وينظر: ((المقنع والشرح الكبير والإنصاف)) (باب النذر) (28/ 128). قال في الشرح الكبير: (فيقول: لله علي أن أفعل كذا، وإن قال: علي نذر كذا. لزمه أيضاً، لأنه صرح بلفظ النذر). وقال في ((التعريفات)) (ص: 308) في تعريفه: (إيجاب عين الفعل المباح على نفسه تعظيماً لله تعالى). وقال في ((كشاف القناع)) (6/ 273): (لا تعتبر له صيغة بحيث لا ينعقد إلا بها، بل ينعقد بكل ما أدى معناه، كالبيع). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 286، 31/ 11، 27، 35/ 354)، ((منهاج السنة)) (2/ 440)، ((كشاف القناع)) (6/ 276). وينظر ((الدر المختار)) للحصكفي الحنفي مع حاشيته لابن عابدين آخر كتاب ((الصيام)) (2/ 128)، و ((البحر الرائق)) لابن نجيم الحنفي (2/ 320) نقلاً عن الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي، ونقل حكاية هذا الإجماع أيضا جمع من علماء الحنفية، وكذلك نقل جماعة من الحنفية الإجماع على أنه لا يجوز الوفاء به. ينظر رسالة ((جهود علماء الحنفية)) (ص: 1550 - 1552). (¬5) ينظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 286)، ((التوضيح عن توحيد الخلائق)) (ص: 282)، ((الدين الخالص)) (1/ 183، 2/ 60)، ((سيف الله)) لصنع الله الحنفي (ص: 69)، ((السنن والمبتدعات)) للشقيري المصري (ص: 74 - 76). (¬6) ((حاشية ابن عابدين آخر كتاب الصيام)) (2/ 128).

ومثله إخراج زكاة المال وتقديم الهدايا والصدقات إلى قبر ميت تقرباً إليه، أو تقديمها إلى سدنة القبر تقرباً إلى الميت، أو تقديمها إلى الفقراء الذين يذهبون إلى القبر، وكان يفعل ذلك تقرباً إلى الميت، فهذه كله من الشرك الأكبر أيضاً، لما فيه من عبادة غير الله, ومن اعتقاد أن هذا الميت ينفع أو يضر من دون الله، قال الشيخ قاسم الحنفي: (ما يؤخذ من الدراهم, والشمع, والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأموات تقرباً إليهم حرام بإجماع المسلمين) (¬1)، فمن زكى أو تصدق تديناً تقرباً إلى غير الله فقد وقع في الشرك الأكبر (¬2). ح- الشرك في الصيام والحج: الصيام والحج من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله بالإجماع، فمن تعبد بها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وذلك كمن يصوم أو يحج إلى الكعبة تقرباً إلى ولي أو ميت أو غيرهما من المخلوقين، وكمن يحج إلى قبر تقرباً إلى صاحبه فهذا كله من الشرك الأكبر المخرج من الملة، سواء أفعله العبد أم اعتقد جوازه (¬3). ط- الشرك في الطواف: الطواف عبادة بدنية لا يجوز أن تصرف إلا لله تعالى، ولا يجوز أن يطاف إلا بالكعبة المشرفة، وهذا كله مجمع عليه، فمن طاف بقبر نبي, أو عبد صالح, أو بمنزل معين, أو حتى بالكعبة المشرفة تقرباً إلى غير الله تعالى، فقد وقع في الشرك الأكبر بإجماع المسلمين (¬4). وهكذا بقية العبادات كالتوكل (¬5)، والتبرك، والتعظيم، والخضوع، وقراءة القرآن، والذكر، والأذان (¬6) والتوبة والإنابة فهذه كلها عبادات لا يجوز أن تصرف لغير الله، فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر (¬7) تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين- بتصرف– ص: 162 النوع الثالث: الشرك في الحكم والطاعة ومن صور الشرك في هذا النوع: ¬

(¬1) ((البحر الرائق)) (2/ 320)، نقلاً عن الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 75). (¬3) ((منهاج السنة)) (2/ 440)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 227، 228)، ((مجموع الفتاوى)) (1/ 75، 351)، ((الصارم المنكي)) (ص: 215)، ((الدين الخالص)) (2/ 58)، ((رسالة التوحيد)) للدهلوي الفصل الرابع (ص: 57، 58). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 308)، ((الصارم المنكي)) (ص: 215)، وينظر ((الجواب الكافي)) (ص: 196، 199، 200) ((الدين الخالص)) (2/ 58، 94)، ((رسالة التوحيد)) للعلامة إسماعيل الدهلوي الهندي الفصل الرابع (ص: 55، 56). (¬5) ينظر في الشرك في هذه العبادة: ((التحفة العراقية))، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 79)، ((الفوائد)) (ص: 163، 208، 211)، ((مدارج السالكين)) (منزلة التوكل) (3/ 521، 522)، ((الجواب الكافي)) (ص: 199، 200)، ((تيسير العزيز الحميد))، ((فتح المجيد))، ((قرة عيون الموحدين))، (القول المفيد)) باب (وعلى الله فتوكلوا)، ((مجموعة التوحيد)) (1/ 285، 415، 474)، ((الإرشاد)) للفوزان (ص: 64). (¬6) ينظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 199). (¬7) ينظر في الشرك في هذه العبادات: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 71، 291، 351)، ((مدارج السالكين)) (1/ 374)، ((زاد المعاد)): الطب (حلق الرأس) (4/ 158 - 162)، ((الجواب الكافي)) (ص: 196، 197، 200)، ((تجريد التوحيد)) (ص: 31، 38، 45)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 24 - 26) ((الدرر السنية)) (2/ 318)، ((جهود علماء الحنفية)) (ص: 1575) وغيرها.

1 - أن يعتقد أحد أن حكم غير الله أفضل من حكم الله أو مثله، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، لأنه مكذب للقرآن، فهو مكذب لقوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا [المائدة: 50]، ولقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] وهذا استفهام تقريري، أي أن الله تعالى أحكم الحاكمين، فليس حكم أحد غيره أحسن من حكمه ولا مثله. 2 - أن يعتقد أحد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا شرك أكبر، لأنه اعتقد خلاف ما دلت عليه النصوص القطعية من الكتاب والسنة، وخلاف ما دل عليه الإجماع القطعي من المسلمين من تحريم الحكم بغير ما أنزل الله (¬1). 3 - أن يضع تشريعاً أو قانوناً مخالفاً لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحكم به، معتقداً جواز الحكم بهذا القانون، أو معتقداً أن هذا القانون خير من حكم الله أو مثله، ومثله من يحكم بعادات آبائه وأجداده أو عادات قبيلته – وهي ما تسمى عند بعضهم بـ: السلوم – وهو يعلم أنها مخالفة لحكم الله، معتقداً أنها أفضل من حكم الله, أو مثله, أو أنه يجوز الحكم بها، فهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة. 4 - أن يطيع من يحكم بغير شرع الله عن رضى، مقدماً لقولهم على شرع الله، ساخطاً لحكم الله، أو معتقداً جواز الحكم بغيره، أو معتقداً أن هذا الحكم أو القانون أفضل من حكم الله أو مثله. ومثل هؤلاء من يتبع أو يتحاكم إلى الأعراف القبلية – التي تسمى: السلوم – المخالفة لحكم الله تعالى، مع علمه بمخالفتها للشرع، معتقداً جواز الحكم بها، أو أنها أفضل من الشرع أو مثله، فهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة (¬2). ¬

(¬1) ينظر تفسير الآيات (60 - 65) من سورة النساء، وتفسير الآيات (44 - 50) من سورة المائدة، وتفسير الآتيتين (31، 37) من سورة التوبة في ((تفاسير ابن جرير, والقرطبي, وابن كثير, والشوكاني, وابن سعدي, والشنقيطي))، ((التمهيد)) (4/ 226)، ((مجموع الفتاوى)) (1/ 97، 98، 3/ 267، 7/ 67 - 72)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: 446)، و ((الدين الخالص)) (2/ 66، 67)، و ((تيسير العزيز الحميد))، و ((فتح المجيد))، و ((القول المفيد باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم))، و (الباب بعده)، و ((رسالة تحكيم القوانين)) للشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة السابق المطبوعة ضمن فتاويه (12/ 284 - 291)، و ((رسالة فتنة التكفير)) للألباني، وتقديم شيخنا عبد العزيز بن باز – رحمه الله- لها، وتعليق شيخنا محمد بن عثيمين عليها، و ((رسالة تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن)) (مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) (1/ 136 - 137)، ((ورسالة النواقض القولية والعملية)) (ص: 312 - 343)، و ((رسالة النواقض الاعتقادية)) الفصل الأخير (2/ 222 - 232)، و ((رسالة الحكم بغير ما أنزل الله)) للدكتور عبد الرحمن المحمود، و ((رسالة الغلو)) (ص: 289 - 300). (¬2) ينظر ((فتح المجيد)) (آخر باب من أطاع العلماء ... )، و ((الدين الخالص)) (2/ 66)، وينظر تفسير الآية (31) من التوبة في ((تفسير الشوكاني)).

والدليل على أن هذا كله شرك قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، وقوله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31]، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فقلت: إنا لسنا نعبدهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس يحرمون ما أحل الله، فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله، فتحلونه؟ قال: قلت: بلى. فقال صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم)) (¬1). فذكر في هذا الحديث أن طاعتهم في مخالفة الشرع عبادة لهم، وذكر الله تعالى في آخر الآية أن ذلك شرك، ولأن من كره شرع الله كفر، لقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 9]. 5 - من يدعو إلى عدم تحكيم شرع الله، وإلى تحكيم القوانين الوضعية محاربة للإسلام وبغضاً له، كالذين يدعون إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب في المدارس والوظائف, وإلى التعامل بالربا، وإلى منع تعدد الزوجات، وغير ذلك مما فيه دعوة إلى محاربة شرع الله، فالذي يدعو إلى ذلك مع علمه بأنه يدعو إلى المنكر وإلى محاربة شرع الله ظاهر حاله أنه لم يدع إلى ذلك إلا لما وقع في قلبه من الإعجاب بالكفار وقوانينهم واعتقاده أنها أفضل من شرع الله، ولما وقع في قلبه من كره لدين الإسلام وأحكامه، وهذا كله شرك وكفر مخرج من الملة، ومن كانت هذه حقيقة حاله فقد وقع في الشرك الأكبر، وإن كان يظهر أنه من المسلمين فهو نفاق أيضاً. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 187 ¬

(¬1) [3553])) رواه الترمذي (3095) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 116) والطبراني (17/ 92) , قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث, وحسنه ابن تيمية في ((حقيقة الإسلام والإيمان)) (111) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 861): علة الحديث هي جهالة غطيف ابن أعين, وحسنه في ((صحيح سنن الترمذي)).

المسألة الثالثة: الشرك في الأسماء والصفات

أولاً: تعريف الشرك في الأسماء والصفات وهو: أن يجعل لله تعالى مماثلاً في شيء من الأسماء أو الصفات، أو يصفه تعالى بشيء من صفات خلقه. فمن سمى غير الله باسم من أسماء الله تعالى معتقداً اتصاف هذا المخلوق بما دل عليه هذا الاسم مما اختص الله تعالى به، أو وصفه بصفة من صفات الله تعالى الخاصة به فهو مشرك في الأسماء والصفات. وكذلك من وصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين فهو مشرك في الصفات. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 154

ثانيا: من صور الشرك في الأسماء والصفات

ثانياً: من صور الشرك في الأسماء والصفات 1 - اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الله تعالى، كاشتقاق اسم (اللات) من (الإله)، و (العزى) من (العزيز) (¬1). 2 - اعتقاد بعض الرافضة وبعض الصوفية أن بعض الأحياء أو الأموات يسمعون من دعاهم في أي مكان وفي أي وقت (¬2). 3 - شرك المشبهة: وهو تشبيه الخالق بالمخلوق، كمن يقول: (يد الله كيدي) أو (سمعه كسمعي)، أو (استواؤه كاستوائي) (¬3)، وهذا كله شرك، فالله تعالى يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]. 4 - الشرك بدعوى علم الغيب، أو باعتقاد أن غير الله تعالى يعلم الغيب، فكل ما لم يطلع عليه الخلق ولم يعلموا به بأحد الحواس الخمس فهو من علم الغيب، كما قال تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إلَّا اللهُ [النمل: 65]، وقال جل شأنه: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ [يونس: 20]، وقال سبحانه وتعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59]، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضاً: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام: 50]. فمن ادعى أن أحداً من الخلق يعلم الغيب، فقد وقع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، لأن في ذلك ادعاء مشاركة الله تعالى في صفة من صفاته الخاصة به، وهي (علم الغيب). ومن أمثلة الشرك بدعوى علم الغيب: أ- اعتقاد أن الأنبياء أو أن بعض الأولياء والصالحين يعلمون الغيب: وهذا الاعتقاد يوجد عند غلاة الرافضة والصوفية، ولذلك تجدهم يستغيثون بالأنبياء والصالحين الميتين وهم بعيدون عن قبورهم، ويدعون بعض الأحياء وهم غائبون عنهم، ويعتقدون أنهم جميعاً يعلمون بحالهم, وأنهم يسمعون كلامهم، وهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة (¬4). ¬

(¬1) ((بدائع الفوائد)) (1/ 169)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 28). (¬2) ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 87)، ((معارج القبول)) (2/ 475). (¬3) ((بدائع الفوائد)) (1/ 170)، ((الروح)) (الفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه) (ص: 354)، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 28). (¬4) ((رسالة التوحيد)) للدهلوي (ص: 20، 31، 34)، وينظر ((تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد)) (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله).

ب- الكهانة: الكاهن هو الذي يدعي أنه يعلم الغيب. ومثله أو قريب منه (العراف)، و (الرمال)، ونحوهم، فكل من ادعى أنه يعرف علم ما غاب عنه دون أن يخبره به مخبر، أو زعم أنه يعرف ما سيقع قبل وقوعه فهو مشرك شركاً أكبر، وسواء ادعى أنه يعرف ذلك عن طريق (الطرق بالحصى)، أم عن طريق حروف (أبا جاد) (¬1)، أم عن طريق (الخط في الأرض)، أم عن طريق (قراءة الكف)، أم عن طريق (النظر في الفنجان)، أم غير ذلك، كل هذا من الشرك (¬2)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬3). ج- اعتقاد بعض العامة أن السحرة أو الكهان يعلمون الغيب، أو تصديقه لهم في دعواهم معرفة ما سيقع في المستقبل، فمن اعتقد ذلك أو صدقهم فيه فقد وقع في الكفر والشرك المخرج من الملة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬4). د- التنجيم: وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية. وذلك أن المنجم يدعي من خلال النظر في النجوم معرفة ما سيقع في الأرض من نصر لقوم، أو هزيمة لآخرين، أو خسارة لرجل، أو ربح لآخر، ونحو ذلك، وهذا لا شك من دعوى علم الغيب، فهو شرك بالله تعالى (¬5). ومما يفعله كثير من المشعوذين والدجاجلة أن يدعي أن لكل نجم تأثيراً معيناً على من ولد فيه، فيقول: فلان ولد في برج كذا فسيكون سعيداً، وفلان ولد في برج كذا فستكون حياته شقاء، ونحو ذلك، وهذا كله كذب، ولا يصدقه إلا جهلة الناس وسفهاؤهم، قال الشيخ ابن عثيمين: (فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة) (¬6). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 154 ¬

(¬1) ينظر: ((التيسير)) (ص: 364). (¬2) ينظر ((شرح السنة)) (12/ 181 - 184)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 223)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (35/ 170 - 197)، ((تفسير القرطبي)) (7/ 2، 3)، ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 125 - 242)، ((فتح الباري)) (10/ 216، 217)، ((شرح الطحاوية)) (ص: 759، 760)، ((الفروع)) (6/ 177، 178)، ((الروض مع حاشيته)) لابن قاسم (7/ 413)، ((الزواجر)) (2/ 109)، ((الدين الخالص)) (1/ 423 - 455، و2/ 137 - 141)، ((تيسير العزيز الحميد باب ما جاء في الكهان))، ((معارج القبول)) (ص: 559 - 574)، ((التوحيد)) للدهلوي (ص: 34، 69))، ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (1/ 164، 165)، ((عالم السحر)) للأشقر (ص: 13)، ((الإرشاد)) للفوزان (ص: 84)، ((النواقض القولية والعملية)) للدكتور عبد العزيز بن عبد اللطيف (ص: 518 - 522). (¬3) [3560])) رواه البزار (8/ 426) , والطبراني (18/ 162) , وقال البزار: روي بعضه من غير وجه [وفيه] أبو حمزة العطار لا بأس به, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 88): إسناده جيد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 103): فيه إسحاق بن الربيع العطار وثقه أبو حاتم وضعفه عمرو بن علي وبقية رجاله ثقات, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2195): صحيح بمجموع طرقه. (¬4) [3561])) رواه أبو داود (3904) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأةً حائضا أو أتى امرأةً في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (135) , وابن ماجه (639) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) (9017) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (1/ 49) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 227): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)). (¬5) ينظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (باب ما جاء في التنجيم، وباب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء). (¬6) ((القول المفيد)) (باب ما جاء في التنجيم) (2/ 5).

المبحث الثاني: الشرك الأصغر تعريفه وحكمه وأقسامه

المطلب الأول: تعريف الشرك الأصغر وأما الشرك الأصغر فهو: كل ما كان ذريعة إلى الأكبر ووسيلة للوقوع فيه، ونهى عنه الشرع وسماه شركاً (¬1)، ولا يخرج من الملة. وهو قد يكون في الأعمال، ومن ذلك يسير الرياء كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر – فسئل عنه فقال: الرياء)) (¬2)، وقد يكون في الأقوال: ومنه الحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (¬3)، وقد يصير الشرك الأصغر شركاً أكبر بحسب ما يقوم بقلب صاحبه. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 93 فقد جاء في تعريفه عبارات عدة، منها: 1 - (أنه كل وسيلة وذريعة يتطرق بها إلى الأكبر) (¬4). وينتقض هذا التعريف بأنه غير مانع؛ إذ إن هذا التعريف يصدق على الكبائر من الذنوب. 2 - (وهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك يعد من الشرك, كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة؛ كالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك) (¬5). وهذا التعريف أيضاً غير جامع ولا مانع؛ إذ إنه يصدق على كبائر الذنوب، ثم ليس كل ما يتوسل به إلى الشرك يعد من الشرك الأصغر، كالتوسل إلى الله بذوات الصالحين ونحو ذلك. 3 - (هو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه, وجاء في النصوص تسميته شركاً) (¬6). فيه ما سبق من الاعتراضات، ثم ليس كل شرك أصغر جاء في النصوص تسميته شركاً، فهناك أفراد من الشرك الأصغر لم يأت تسميتها في النصوص شركاً. 4 - (هو تسوية غير الله بالله في هيئة العمل، أو أقوال اللسان، فالشرك في هيئة العمل هو الرياء، والشرك في أقوال اللسان: هو الألفاظ التي فيها معنى التسوية بين الله وغيره، كقوله: ما شاء الله وشئت، ... وقوله: عبد الحارث ونحو ذلك) (¬7). 5 - (هو مراعاة غير الله تعالى معه في بعض الأمور) (¬8). 6 - لا يعرف، وإنما يذكر بالأمثلة (¬9). وهذا الأخير هو ما أرتضيه؛ لأن تعريف مثل هذا النوع من الشرك غير منضبط لكثرة أفراده وتنوعه. مصدر تسمية هذا النوع من الشرك بالشرك الأصغر: جاءت نصوص الشرع بتسميته شركاً أصغر، ومما يدل عليه الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة، إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) (¬10). فثبتت هذه التسمية بنص الحديث. وهكذا ثبتت هذه التسمية في لسان الصحابة، ومن ذلك ما رواه شداد بن أوس، وقال: (كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر) (¬11). الشرك في القديم والحديث لأبو بكر محمد زكريا– 1/ 160 ¬

(¬1) انظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 45)، و ((الفتوى رقم 1653 بتاريخ 22/ 8/1397هـ من فتاوى اللجنة الدائمة بمجلة البحوث الإسلامية عدد رقم 20)) – (ص: 151). (¬2) رواه الطبراني (4/ 253) (4301). من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 225): رجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن شبيب بن خالد، وهو ثقة. (¬3) رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535)، وأحمد (2/ 125) (6072)، وابن حبان (10/ 199) (4358)، والحاكم (1/ 65). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (735). (¬4) عبد العزيز المحمد السلمان، ((الكواشف الجلية)) (ص: 321). (¬5) عبد الرحمن بن ناصر السعدي: ((القول السديد في مقاصد التوحيد)) (ص: 15). (¬6) انظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 517)، وما ذكره عواد بن عبد الله المعتق: ((مجلة البحوث الإسلامية)) (37/ 204). (¬7) إبراهيم بن محمد البريكان ((المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية)) (ص: 126، 127). (¬8) الراغب الأصفهاني: ((المفردات)) (ص: 260). (¬9) كما يفهم من صنيع ابن القيم في ((مدارج السالكين)) (1/ 344). (¬10) رواه أحمد (5/ 428) (23680)، والمنذري (1/ 34). وقال: رواه أحمد بإسناد جيد، وقال الهيثمى (1/ 102): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1555). (¬11) رواه الحاكم (4/ 365) والطبراني (7/ 289) , وصححه الحاكم ووافقه الذهبي, قال ابن حجر في ((الكافي الشاف)) (178): في إسناده ابن لهيعة, وقال العجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/ 525): فيه ابن لهيعة, وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)).

المطلب الثاني: حكمه

المطلب الثاني: حكمه أنه محرم، بل هو أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، لكنه لا يخرج من ارتكبه عن ملة الإسلام (¬1). ولذا ورد التحذير منه في الكتاب والسنة. فمن الكتاب: قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]. فإن عموم الآية تشمل الشرك الأكبر والأصغر. وقوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22]. الآية في الشرك الأكبر، إلا أن بعض السلف كابن عباس – رضي الله عنهما – كانوا يحتجون بها في الأصغر؛ لأن الكل شرك (¬2). وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10]. قال مجاهد: (هم أهل الرياء (¬3). ومعلوم أن الرياء هو رأس الشرك الأصغر). ومن السنة: قوله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) (¬4)، وقوله عليه السلام: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) (¬5) الحديث. وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟)) قال: فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الشرك الخفي ... )) (¬6). الحديث. أما كونه أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، فلما قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً) (¬7) ووجه الاستدلال: أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر، وإلا لما أقدم عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- لأن يقول مثل هذا القول الذي فيه إقدام على ارتكاب الكبائر، والله أعلم. ولأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك، ففيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر (¬8). ¬

(¬1) ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 518). (¬2) سليمان بن عبد الله آل الشيخ، ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 522، 523). (¬3) ابن حجر الهيثمي: ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 31). (¬4) رواه مسلم (2985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه أحمد (5/ 428) (23680)، والطبراني (4/ 253). من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. قال العراقي في ((المغني)) (3/ 361): رجاله ثقات. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 107): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (951): وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير محمود بن لبيد؛ فإنه من رجال مسلم وحده. (¬6) رواه أحمد (3/ 30) (11270)، والحديث رواه ابن ماجه (4204) واللفظ له. قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 237): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن. (¬7) رواه الطبراني (9/ 183) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 79) وعبد الرزاق في ((المصنف)) (8/ 496) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 177) رجاله رجال الصحيح, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 58): رواته رواة الصحيح, وصححه الألباني في ((إرواء الغليل)) (2562). (¬8) انظر ما قال الشيخ سليمان بن عبد الله في ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 530).

ثم (إن هذا النوع من الشرك – الشرك الأصغر – يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجباً، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك امتثال الأمر) (¬1). ثم إنه قد يكون وسيلة تؤدي بصاحبه إلى الشرك الأكبر. أما حكم مرتكبه: فقد اتفقوا على أن مرتكب الشرك الأصغر غير خارج من الملة، وأنه لا يخلد في النار، ولكن هل يكون تحت المشيئة إن لم يتب كما هو حال أصحاب الكبائر الآخرين لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]، أو يكون تحت الوعيد بأن لا يغفر له إذا لم يتب، لأنه قد أطلق عليه بأنه أشرك؟ اختلفوا فيه على قولين: القول الأول: أنه تحت المشيئة، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله (¬2) – كما يظهر ميل الإمام ابن القيم إليه في (الجواب الكافي) (¬3). القول الثاني: أنه تحت الوعيد، وهو الذي مال إليه بعض أهل العلم (¬4). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 173 ¬

(¬1) ابن القيم ((في الجواب الكافي)) (ص: 316). (¬2) انظر تفصيل القول عنه في هذه المسألة في كتابه: ((تفسير آيات أشكلت على كثير من الناس)) (1/ 361 - 365). (¬3) انظر ما ذكره في ((الجواب الكافي)) (ص: 317)، وقد وافقه الشيخ البليهي في ((عقيدة المسلمين)) (1/ 339). (¬4) انظر ما قال ابن تيمية: ((تلخيص كتاب الاستغاثة)) (1/ 301)، تحقيق محمد بن علي عجال وما قال الشيخ عبد العزيز السلمان في ((الكواشف الجلية)) (ص: 322).

المطلب الثالث: الفروق بين نوعي الشرك الأكبر والأصغر

المطلب الثالث: الفروق بين نوعي الشرك الأكبر والأصغر هناك فروق بين الشرك الأكبر والأصغر، منها: 1 - أن الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة، وأما الأصغر فقد اختلف فيه فقيل: إنه تحت المشيئة. وقيل: إن صاحبه إذا مات فلابد أن يعذبه الله عليه، لكن لا يخلد في النار. 2 - الأكبر محبط لجميع الأعمال، وأما الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه (على القول الراجح). 3 - أن الأكبر مخرج عن الملة الإسلامية، وأما الأصغر فلا يخرج منها، ولذا فمن أحكامه: أن يعامل معاملة المسلمين؛ فيناكح، وتؤكل ذبيحته, ويرث ويورث، ويصلى عليه, ويدفن في مقابر المسلمين. 4 - أن الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلد في النار، وأما الأصغر فلا يخلد في النار وإن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر (¬1). 5 - أن الشرك الأكبر يحل الأنفس والأموال، بعكس الشرك الأصغر، فإن صاحبه مسلم مؤمن ناقص الإيمان، فاسق من حيث الحكم الديني (¬2). ويجتمعان في: استحقاق صاحبهما الوعيد، وأنهما من أكبر الكبائر من الذنوب (¬3). الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 176 ¬

(¬1) انظر ما ذكره، عبد العزيز المحمد السلمان: ((الكواشف الجلية)) (ص: 187)، و ((فتاوى اللجنة)) (1/ 518). (¬2) انظر ما ذكره البريكان: ((المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية)) (ص: 127 - 128). (¬3) انظر ما ذكره البريكان: ((المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية)) (ص: 127 - 128).

المطلب الرابع: أقسام الشرك الأصغر

تمهيد: في أقسام الشرك الأصغر إجمالاً تنوعت الأقوال في بيان أنواع الشرك الأصغر. فمنهم من قال: (هو نوعان: ظاهر، وخفي فالظاهر: يكون بعمل رياء، كالتصنع لغير الله بعمل في ظاهره أنه لله، وفي باطنه عدم الإخلاص لله به، ويكون باللفظ كالحلف بغير الله ... والخفي: ما ينتابه الإنسان في أقواله وأعماله في بعض الفترات من غير أن يعلم أنه شرك) (¬1). ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا)) (¬2). ولكن هذا القول فيه نظر، فإن ما ينتابه الإنسان من أقواله أو أعماله في بعض الفترات من غير أن يعلم أنه شرك ليس بشرك أصغر فقط، بل قد يدخل في الشرك الأكبر أيضاً. ومنهم من قال: إنه على نوعين: أ- الشرك في النيات والمقاصد؛ ويدخل فيه: 1 - الرياء. 2 - إرادة الإنسان بعمله الدنيا. ب- الشرك في الألفاظ؛ ويدخل فيه: 1 - الحلف بغير الله. 2 - قول القائل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ونحوهما. 3 - إسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل, واعتقاد تأثيره فيها، مثل أن يقول: لولا وجود فلان لحصل كذا، ولولا الكلب لدخل اللص. 4 - قول بعضهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، إن كان جرى على لسانه من غير قصد (¬3). ولعل من أحسن ما يقال في بيان أنواع الشرك الأصغر ما يلي: إن له أنواعاً كثيرة، ويمكن حصرها بما يأتي: أولاً: قولي: وهو ما كان باللسان، ويدخل فيه ما يأتي: 1 - الحلف بغير الله، على تفصيل في ذلك. 2 - قول: (ما شاء الله وشئت)، أو: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، ومالي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، أو يقول: والله وحياة فلان، أو يقول: نذر لله ولفلان، أو أنا تائب لله ولفلان، أو أرجو الله وفلاناً ونحو ذلك (¬4). ولعل الضابط في هذا أن يكون الشيء مما يختص بالله جل وعلا، فيعطف عليه غيره سبحانه لا على سبيل المشاركة وإنما بمجرد التسوية في اللفظ، وأما إن كان يعتقد المشاركة فهذا يدخل تحت الشرك الأكبر. 3 - وقوله: (قاضي القضاة). 4 - وهكذا: التعبيد لغير الله، كعبد النبي وعبد الرسول (إذا لم يقصد به حقيقة العبودية). 5 - وإسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل، مثل أن يقول: لولا وجود فلان لحصل كذا، ولولا الكلب لدخل اللص، وقول الرجل: لولا الله وفلان، ولولا تجعل فيها فلاناً، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص ... ، وأعوذ بالله وبك. 6 - قول بعضهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، (على طريق غير الحقيقة). ولعل الضابط في هذا: (الاعتماد على سبب لم يجعله الشرع سبباً) (¬5). ثانيا: فعلي: وهو ما كان بأعمال الجوارح، ويدخل فيه ما يلي: 1 - التطير، (إذا لم يعتقد القدرة في المتطير به). 2 - إتيان الكهان وتصديقهم، (إذا لم يعتقد وجود علم الغيب لديهم). 3 - والاستعانة على كشف السارق ونحوه بالعرافين، (إذا لم يصاحبه اعتقاد علمهم الغيب). 4 - تصديق المنجمين والرمالين وغيرهم من المشعوذين، (إذا لم يصاحبه اعتقاد علمهم الغيب). ¬

(¬1) حسن العواجي: ((شرح نواقض التوحيد)) (ص: 24، 25). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (1/ 369)، وابن أبي حاتم (1/ 62)، والحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (4/ 147). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3730). (¬3) عواد بن عبد الله المعتق: ((مجلة البحوث الإسلامية)) عدد 37 (ص: 207 - 243) باختصار. (¬4) انظر ما ذكره ابن القيم: ((الجواب الكافي)) (ص: 324). (¬5) انظر ما قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (2/ 93).

5 - ولبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، (إذا لم يعتقد تأثيرها بذاتها). ثالثاً: قلبي: ويدخل فيه ما يلي: 1 - الرياء، (إذا كان يسيراً)، ولا يخلو من: أ- أن يكون الرياء بالأعمال: كمن يصلي فيطيل القيام, ويطيل الركوع والسجود, ويظهر الخشوع عند رؤية الناس له، ويصوم فيظهر للناس أنه صائم، فيقول مثلاً مخاطباً غيره: اليوم يوم الاثنين والخميس ألا تعلم؟ ألست بصائم؟ أو يقول له: أدعوك اليوم لتفطر معي، وكذلك في الحج والجهاد فيذهب إليهما ومقصده المراءاة بهما، وكالمراءاة بالصدقة ونحوها. ب- أو يكون الرياء من جهة القول: كالرياء بالوعظ والتذكير, وحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك، إذا فعل ذلك يقصد الرياء، ومن ذلك أيضاً: تحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس ويتغافل عنه في منزله. ج- أو يكون الرياء من جهة الزي: كإبقاء أثر السجود على جبهته، ولبس الغليظ من الثياب وخشنها مع تشميرها كثيراً ليقال: عابد زاهد، أو ارتداء نوع معين من الزي ترتديه طائفة يعدهم الناس علماء ليقال: عالم. د- أو يكون الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يتكلف أن يستزير عالماً أو عابداً ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً، ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الخير يترددون عليه، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ ليقال: لقي فلان شيوخاً كثيرين واستفاد منهم, فيباهي بذلك. هـ- أو يكون الرياء لأهل الدنيا: كمن يتبختر ويختال في مشيته، وتحريك يديه وتقريب خطاه، أو يأخذ بطرف ثوبه، أو يصعر خده، أو يلف عباءته، أو يحرك سيارته حركة خاصة. وأو يكون الرياء من جهة البدن: كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناس أنه جاد في العبادة كثير الخوف والحزن، أو يرائي بتشعيث الشعر ليظهر أنه مستغرق في هم الدين لا يتفرغ لتسريح شعره، أو يرائي بحلق الشارب واستئصال الشعر ليظهر بذلك تتبع زي العباد والنساك، أو يرائي بخفض الصوت, وإغارة العينين, وذبول الشفتين ليدلك على أنه مواظب للصوم. هذه مجامع ما يرائي به المراؤون – غالباً – يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد (¬1). 2 - إرادة الإنسان بعمله الدنيا: المراد به: أن يعمل الإنسان أعمالاً صالحة يريد بها الدنيا، إما لقصد المال أو الجاه، كالذي يجاهد أو يتعلم ليأخذ مالاً، أو ليحتل منصباً، أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة، لكن نيته الحصول على مصالح دنيوية لا طلب مرضاة الله. والفرق بينه وبين الرياء: أن المرائي إنما يعمل لأجل المدح والثناء، والمريد بعمله الدنيا يعمل لدنيا يصيبها كالمال أو المنصب (¬2). فهذه أنواع الشرك الأصغر قد تكون هذه الأنواع في خصائص الربوبية، وقد يكون في خصائص الألوهية، كما أن كل قسم من أنواع الشرك الأصغر يحتمل أن ينقلب إلى شرك أكبر، وذلك من وجهين: 1 - إذا صحبه اعتقاد قلبي، وهو تعظيم غير الله كتعظيمه. كالحلف بغير الله معظماً له كتعظيم الله. 2 - أو كان في أصل الإيمان، أو كثر حتى يغلب على العبد؛ كالمراءاة بأصل الإيمان، أو يغلب الرياء على أعماله، أو يغلب عليها إرادة الدنيا بحيث لا يريد بها وجه الله. فهذه أنواع الشرك الأصغر على الإجمال. الشرك في القديم والحديث لأبي بكر محمد زكريا– 1/ 168 ¬

(¬1) انظر ما ذكره ابن قدامة في ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 215 - 217)، وعمر سليمان الأشقر في ((مقاصد المكلفين)) (ص: 442 - 443). (¬2) سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 273) بتصرف.

المسألة الأولى: ذكر أمثلة من الشرك الأصغر في العبادات القلبية

المثال الأول: الرياء الرياء في اللغة مشتق من الرؤية، وهي: النظر، يقال: راءيته، مراءاة، ورياء، إذا أريته على خلاف ما أنا عليه. وفي الاصطلاح: أن يظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يحسنه عندهم، أو يظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم (¬1). فمن أراد وجه الله والرياء معاً فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلاً سوى مدح الناس فهذا صاحبه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة. والرياء له صور عديدة، منها: 1 - الرياء بالعمل، كمراءاة المصلي بطول الركوع والسجود. 2 - المراءاة بالقول، كسرد الأدلة إظهاراً لغزارة العلم، ليقال: عالم. 3 - المراءاة بالهيئة والزيِّ، كإبقاء أثر السجود على الجبهة رياء. وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعظم عقوبة فاعله، وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه، منها حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله – عز وجل – لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم جزاء؟)) (¬2) وحديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الآخر، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس! إياكم وشرك السرائر)) قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟. قال: ((يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر)) (¬3). وحديث أبي هريرة في خبر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وهم رجل قاتل في الجهاد حتى قتل، ليقال: جريء، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ليقال: عالم وقارئ، ورجل تصدق ليقال: جواد (¬4). رواه مسلم. ولهذا ينبغي للمسلم البعد عن الرياء والحذر من الوقوع فيه، وهناك أمور تعين على البعد عنه، أهمها: 1 - تقوية الإيمان في القلب، ليعظم رجاء العبد لربه، ويعرض عمن سواه، ولأن قوة الإيمان في القلب من أعظم الأسباب التي يعصم الله بها العبد من وساوس الشيطان، ومن الانقياد لشهوات النفس. 2 - التزود من العلم الشرعي، وبالأخص علم العقيدة الإسلامية، ليكون ذلك حرزاً له بإذن الله من فتن الشبهات، وليعرف عظمة ربه جل وعلا، وضعف المخلوقين وفقرهم، فيحمله ذلك كله على مقت الرياء واحتقاره والبعد عنه، وليعرف أيضاً مداخل الشيطان ووساوسه، فيحذرها. ¬

(¬1) وينظر: ((الرعاية)) (ص: 209)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (ص: 160)، ((الإحياء)) (3/ 314)، ((تفسير القرطبي)) للآية 36 من سورة النساء (5/ 181)، وتفسيره للآية 142 من سورة النساء (5/ 422)، وتفسيره للآية الأخيرة من سورة الكهف (11/ 71)، ((منهاج القاصدين)) (ص: 275)، ((الفروق)) (الفرق 122)، ((فتح الباري)) الرقاق، باب الرياء (11/ 336)، ((الزواجر)) (الكبيرة الثانية 1/ 43)، ((الموافقات)) (2/ 217 - 221، 222)، ((سبل السلام)) (4/ 356). (¬2) رواه أحمد (5/ 428) (23680)، والطبراني (4/ 253). من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 52): إسناده جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 107): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (ص440): إسناده حسن. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (951): إسناده جيد. (¬3) رواه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/ 67). والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/ 291) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 227) والحديث حسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)). (¬4) رواه مسلم (1905).

3 - الإكثار من الالتجاء إلى الله تعالى ودعائه أن يعيذه من شر نفسه, ومن شرور الشيطان ووساوسه، وأن يرزقه الإخلاص فيما يأتي وما يذر، والإكثار من الأذكار الشرعية التي هي حصن من شرور النفس والشيطان. 4 - تذكر العقوبات الأخروية العظيمة التي تحصل للمرائي، ومن أعظمها أنه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة. 5 - التفكر في حقارة المرائي وأنه من السفهاء والسفلة؛ لأنه يضيع ثواب عمله الذي هو سبب لفوزه بالجنة, ونجاته من عذاب القبر, وشدة القيامة, وعذاب النار من أجل مدح الناس والحصول على منزلة عند المخلوقين، فهو يبحث عن رضا المخلوق بمعصية الخالق، ولهذا لما سئل الإمام مالك – رحمه الله – من السفلة؟ قال: (من أكل بدينه) (¬1). 6 - الحرص على كل ما هو سبب في عدم الوقوع في الرياء، وذلك بالحرص على إخفاء العبادات المستحبة، وبمدافعة الرياء عندما يخطر بالقلب، وبالبعد عن مجالسة المداحين وأهل الرياء، ونحو ذلك (¬2). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 365 ¬

(¬1) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 357) (6933). (¬2) ينظر ((الرعاية)) (ص: 233 - 242)، ((الإحياء)) (3/ 321 - 334)، ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 283 - 285)، ((الزواجر)) (الكبيرة الثانية 1/ 49 - 50)، ((مقاصد المكلفين)) للأشقر (ص: 465 - 473)، ((نور الإخلاص)) لسعيد بن علي القحطاني (ص: 2 - 30)، ((الإخلاص)) لحسين العوايشة (ص: 41 - 56)، ((الإخلاص والشرك الأصغر)) للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف (ص: 10 - 12)، ((الشرك الأصغر)) لعبد الله السليم (ص: 95 - 99).

المثال الثاني: إرادة الإنسان بعبادته الدنيا

المثال الثاني: إرادة الإنسان بعبادته الدنيا المراد بهذا النوع: أن يعمل الإنسان العبادة المحضة ليحصل على مصلحة دنيوية مباشرة. وإرادة الإنسان بعمله الدنيا ينقسم من حيث الأصل إلى أقسام كثيرة، أهمها: 1 - أن لا يريد بالعبادة إلا الدنيا وحدها، كمن يحج ليأخذ المال، وكمن يغزو من أجل الغنيمة وحدها، وكمن يطلب العلم الشرعي من أجل الشهادة والوظيفة ولا يريد بذلك كله وجه الله البتة، فلم يخطر بباله احتساب الأجر عند الله تعالى، وهذا القسم محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وهو من الشرك الأصغر، ويبطل العمل الذي يصاحبه. ومن الأدلة على تحريم هذا القسم وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه: أ- قوله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود: 15، 16]. ب- حديث عمر رضي الله عنه مرفوعاً: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). رواه البخاري ومسلم (¬1). ج- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة)) (¬2) يعني ريحها. 2 - أن يريد بالعبادة وجه الله والدنيا معاً، كمن يحج لوجه الله وللتجارة، وكمن يقاتل ابتغاء وجه الله وللدنيا، وكمن يصوم لوجه الله وللعلاج، وكمن يتوضأ للصلاة وللتبرد، وكمن يطلب العلم لوجه الله وللوظيفة، فهذا الأقرب أنه مباح؛ لأن الوعيد إنما ورد في حق من طلب بالعبادة الدنيا وحدها، ولأن الله رتب على كثير من العبادات منافع دنيوية عاجلة، كما في قوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، وكما في قوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 12]، والنصوص في هذا المعنى كثيرة، فهذه النصوص تدل على جواز إرادة وجه الله وهذه المنافع الدنيوية معاً بالعبادة؛ لأن هذه المنافع الدنيوية ذكرت على سبيل الترغيب في هذه العبادات. وهذا القسم لا يبطل العمل الذي يصاحبه، ولكن أجر هذه العبادة ينقص منه بقدر ما خالط نيته الصالحة من إرادة الدنيا. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 375 ¬

(¬1) رواه البخاري (1)، ومسلم (1907). (¬2) رواه أبو داود (3664)، وابن ماجه (206)، وأحمد (2/ 338) (8438)، والحاكم (1/ 160). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح سنده ثقات على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (1/ 23).

المثال الثالث: الاعتماد على الأسباب

المثال الثالث: الاعتماد على الأسباب السبب لغة: الحبل، ويطلق على (كل شيء يتوصل به إلى غيره) استعير من الحبل الذي يتوصل به إلى الماء (¬1). وفي الاصطلاح هو: الأمور التي يفعلها الإنسان ليحصل له ما يريده من مطلوب، أو يندفع عنه ما يخشاه من مرهوب في الدنيا أو في الآخرة. فمن الأسباب في أمور الدنيا: البيع والشراء أو العمل في وظيفة ليحصل على المال، ومنها: أن يستشفع بذي جاه عند السلطان ليسلم من عقوبة دنيوية، أو ليدفع عنه ظلماً، أو لتحصل له منفعة دنيوية كوظيفة أو مال أو غيرهما، ومنها: أن يذهب إلى طبيب ليعالجه من مرض، ونحو ذلك. ومن الأسباب في أمور الآخرة: فعل العبادات رجاء ثواب الله تعالى والنجاة من عذابه (¬2)، ومنها: أن يطلب من غيره أن يدعو الله له بالفوز بالجنة والنجاة من النار، ونحو ذلك. والذي ينبغي للمسلم في هذا الباب هو أن يستعمل الأسباب المشروعة التي ثبت نفعها بالشرع أو بالتجربة الصحيحة، مع توكله على الله تعالى، واعتقاد أن هذا الأمر إنما هو مجرد سبب، وأنه لا أثر له إلا بمشيئة الله تعالى، إن شاء نفع بهذا السبب، وإن شاء أبطل أثره. أما إن اعتمد الإنسان على السبب فقد وقع في الشرك، لكن إن اعتمد عليه اعتماداً كلياً، مع اعتقاد أنه ينفعه من دون الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وإن اعتمد على السبب مع اعتقاده أن الله هو النافع الضار فقد وقع في الشرك الأصغر، فالمؤمن مأمور بفعل السبب مع التوكل على مسبب الأسباب جل وعلا. وعليه فإن ترك الأسباب واعتقاد أن الشرع أمر بتركها، وأنها لا نفع فيها كذب على الشرع، ومخالفة لما أمر الله به وأجمع عليه العلم، ومخالفة لمقتضى العقل، ولهذا قال بعض أهل العلم: ((الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد, والعقل, والشرع)) (¬3). ومن الشرك في الأسباب: أن يجعل ما ليس بسبب سبباً، فإن اعتقد أن هذا الشيء يستقل بالتأثير بدون مشيئة الله فهو شرك أكبر، كحال عباد الأصنام وعباد القبور الذين يعتقدون أنها تنفع وتضر استقلالاً، وإن اعتقد أن الله جعله سبباً، مع أن الله لم يجعله سبباً فهو شرك أصغر؛ لأنه شارك الله تعالى من الحكم لهذا الشيء بالسببية مع أن الله لم يجعله سببا (¬4). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 381 ¬

(¬1) ينظر: ((لسان العرب))، و ((التعريفات))، و ((الكليات)) (مادة: سبب). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 175 - 176). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 169)، وينظر آخر ((مدارج السالكين)) (3/ 521)، و ((شرح الطحاوية: الدعاء)) (ص: 679). (¬4) ((القول السديد)) باب من الشرك لبس الحلقة (ص: 45 - 46)، ((القول المفيد)) باب الرقى (1/ 183)، ((مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين)) (1/ 102 - 104)، ((الشرك الأصغر)) (ص: 135 - 147).

المثال الرابع: التطير

المثال الرابع: التطير تعريف التطير: في اللغة: مصدر تطير، وأصله مأخوذ من الطير، لأن العرب يتشاءمون أو يتفاءلون بالطيور على الطريقة المعروفة عندهم بزجر الطير، ثم ينظر: هل يذهب يميناً أو شمالاً أو ما أشبه ذلك، فإن ذهب إلى الجهة التي فيها التيامن، أقدم، أو فيها التشاؤم، أحجم. أما في الاصطلاح، فهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وهذا من الأمور النادرة، لأن الغالب أن اللغة أوسع من الاصطلاح، لأن الاصطلاح يدخل على الألفاظ قيوداً تخصصها، مثل الصلاة لغة: الدعاء، وفي الاصطلاح أخص من الدعاء، وكذلك الزكاة وغيرها. وإن شئت، فقل: التطير: هو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو معلوم. بمرئي مثل: لو رأى طيراً فتشاءم لكونه موحشاً. أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحداً يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب، فيتشاءم. أو معلوم، كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض السنوات، فهذه لا ترى ولا تسمع. واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين: الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله. الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل هو وهم وتخييل، فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحصل له، وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد، لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4]، وقال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123]. فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق، والمتطير لا يخلو من حالين: الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل، وهذا من أعظم التطير والتشاؤم. الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به، وهذا أهون. وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله ـ عز وجل ـ، ولا تسيء الظن بالله ـ عز وجل ـ. وقول الله تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 131]. وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين: [الآية الأولى قوله تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ.] هذه الآية نزلت في قوم موسى كما حكى الله عنهم في قوله: وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ [الأعراف: 131]، قال الله تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ ومعنى: يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ: أنه إذا جاءهم البلاء والجدب والقحط قالوا: هذا من موسى وأصحابه، فأبطل الله هذه العقيدة بقوله: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ. قوله: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ. ألا: أداة استفتاح تفيد التنبيه والتوكيد، وإنما: أداة حصر. وقوله: طائر مبتدأ، وعند الله خبر، والمعنى: أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى وقومه، ولكنه من الله، فهو الذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء ـ والعياذ بالله ـ يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع. قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. فهم في جهل، فلا يعلمون أن هناك إلهاً مدبراً، وأن ما أصابهم من الله وليس من موسى وقومه. وقوله: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ [يس: 19]. الآية الثانية قوله تعالى: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ. أي: قال الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ. .. الآيات [يس: 13].

فقالوا ذلك رداً على قول أهل القرية: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ [يس: 18]، أي: تشاءمنا بكم، وإننا لا نرى أنكم تدلوننا على الخير، بل على الشر وما فيه هلاكنا، فأجابهم الرسل بقولهم: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ، أي: مصاحب لكم، فما يحصل لكم، فإنه منكم ومن أعمالكم، فأنتم السبب في ذلك. ولا منافاة بين هذه الآية والتي ذكرها المؤلف قبلها، لأن الأولى تدل على أن المقدر لهذا الشيء هو الله، والثانية تبين سببه، وهو أنه منهم، فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم، لأن أعمالهم تستلزمه، كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]. ويستفاد من الآيتين المذكورتين في الباب: أن التطير كان معروفاً من قبل العرب وفي غير العرب، لأن الأولى في فرعون وقومه، والثانية في أصحاب القرية. وقوله: أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ. ينبغي أن تقف على قوله: ذُكِّرْتُم، لأنها جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف تقديره: أإن ذكرتم تطيرتم، وعلى هذا، فلا تصلها بما بعدها. وقوله: بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ، بَلْ هنا للإضراب الإبطالي، أي: ما أصابكم ليس منهم، بل هو من إسرافكم. وقوله: مُّسْرِفُونَ. أي: متجاوزون للحد الذي يجب أن تكونوا عليه. عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر)). أخرجاه (¬1)، وزاد مسلم: ((ولا نوء)) (¬2)، ((ولا غول)) (¬3). قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى". "لا" نافية للجنس، ونفي الجنس أعم من نفي الواحد والاثنين والثلاثة، لأنه نفي للجنس كله، فنفى الرسول صلى الله عليه وسلم العدوى كلها. والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون أيضاً في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر صلى الله عليه وسلم أن جليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة (¬4). فقوله: "لا عدوى" يشمل الحسية والمعنوية، وإن كانت في الحسية أظهر. قوله: "ولا طيرة". اسم مصدر تطير، لأن المصدر منه تطيُّر، مثل الخيرة اسم مصدر اختار، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا [الأحزاب: 36]، أي: الاختيار، أي يختاروا خلاف ما قضى الله ورسوله من الأمر. واسم المصدر يوافق المصدر في المعنى، ولذلك تقول كلمته كلاماً بمعنى كلمته تكليماً، وسلمت عليه سلاماً بمعنى سلمت عليه تسليماً. لكن لما كان يخالف المصدر في البناء سموه اسم مصدر، والطيرة تقدم أنها هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم. قوله: (ولا هامة). الهامة، بتخفيف الميم فسرت بتفسيرين: ¬

(¬1) [3609])) رواه البخاري (5757) , ومسلم (2220) (102). (¬2) [3610])) رواه مسلم (2220) (106) , (¬3) [3611])) رواه مسلم (2222) من حديث جابر رضي الله عنه. (¬4) [3612])) رواه البخاري (5534) ومسلم (2628) من حديث أبي موسى رضي الله عنه, ونصه: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة).

الأول: أنها طير معروف يشبه البومة، أو هي البومة، تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل، صارت عظامه هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه. التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت، قال: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله، وهذا كله ـ بلا شك ـ عقيدة باطلة. قوله: (ولا صفر). قيل: إنه شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به ولا سيما في النكاح. وقيل: إنه داء في البطن يصيب الإبل وينتقل من بعير إلى آخر، وعلى هذا، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام. وقيل: إنه نهي عن النسيئة، وكانوا في الجاهلية ينسئون، فإذا أرادوا القتال في شهر المحرم استحلوه، وأخروا الحرمة إلى شهر صفر، وهذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله تعالى: فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ [التوبة: 37]، وهذا القول ضعيف، ويضعفه أن الحديث في سياق التطير، وليس في سياق التغيير، والأقرب أن صفر يعني الشهر، وأن المراد نفي كونه مشؤوماً، أي: لا شؤم فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر. وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفياً للوجود، لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير، فالمؤثر هو الله، فما كان منها سبباً معلوماً، فهو سبب صحيح، وما كان منها سبباً موهوماً، فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه إن كان صحيحاً، ولكونه سبباً إن كان باطلاً. فقوله: (لا عدوى): العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يورد ممرض على مصح)) (¬1)، أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة، لئلا تنتقل العدوى. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) (¬2). والجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه، حتى قيل: إنه الطاعون، فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمراً حتمياً، بحيث تكون علة فاعلة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب بنفسها، فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سبباً للبلاء، لقوله تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة [البقرة: 195]، ولا يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى، لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى. ¬

(¬1) [3613])) رواه مسلم (2221) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) [3614])) رواه البخاري تعليقا (5707) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وأحمد (2/ 443) (9720) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 218) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 142) , والحديث صححه البيهقي في ((السنن الصغرى)) (3/ 65) , وقال البخاري في ((التاريخ الكبير)) (1/ 139): [روي] مرسلا وهو أصح, وصححه البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 264) , والسيوطي في ((تدريب الراوي)) (2/ 207) , وأحمد شاكر في ((الباعث الحثيث)) (2/ 482) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (783): إسناده صحيح.

فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ((لا عدوى. قال رجل: يا رسول الله الإبل تكون صحيحة مثل الظباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول؟)) (¬1) , يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله ـ عز وجل ـ، فكذلك إذا انتقل بالعدوى فقد انتقل بأمر الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فجرب الأول ليس سببه معلوماً، إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب معلوم، لكن لو شاء الله تعالى لم يجرب، ولهذا أحياناً تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون ... وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادعى بعضهم النسخ، فمنهم من قال: إن الناسخ قوله: (لا عدوى)، والمنسوخ قوله: (فر من المجذوم)، و (ولا يورد ممرض على مصح)، وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ، لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه، لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما، لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضاً الواقع يشهد أنه لا نسخ. وقوله: (ولا صفر). فيه ثلاثة أقوال سبقت، وبيان الراجح منها. والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله ـ عز وجل ـ، فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل، فهو ليس شهر خير ولا شهر شر. أما شهر رمضان، قولنا: إنه شهر خير، فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم، بناء على أنه من الأشهر الحرم. ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيراً إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور. فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أما هذه الأشياء، لأن الإنسان لا يخلو من حالين: إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو ما أشبه ذلك، فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك. وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً، وأن يكون معتمداً على الله ـ عز وجل ـ. وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب، فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام. فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقاً، فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سبباً بل نفاها، فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا. قوله: (لا نوء). واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدور بمدار السنة. وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف، فلا مطر. ¬

(¬1) [3615])) رواه البخاري (5717) , ومسلم (2220) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء، ويتفاءلون بها، فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أمطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك أن هذا غاية الجهل. ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟ ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيراً ما يكون في زمنها الأمطار. فالنوء لا تأثير له، فقولنا: طلع هذا النجم، كقولنا: طلعت الشمس، فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير، وهو يدل على دخول الفصول فقط. وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سبباً حقيقياً، ولكن لا يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يقال: هذا من رحمة الله، هذا من فضله ونعمه، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور: 43]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الروم: 48]. فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان عن تعلقه بربه. فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه ـ سبحانه وتعالى ـ. نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سبباً لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها، فتنبه. قوله: (ولا غول). جمع غَولة أو غُولة، ونحن نسميها باللغة العامية: (الهولة)، لأنها تهول الإنسان. والعرب كانوا إذا سافروا أو ذهبوا يميناً وشمالاً تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي أرادوا، وهذا لاشك أنه يضعف التوكل على الله، والشيطان حريص على إدخال القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة: 10]. وهذا الذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو تأثيرها، وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقاً بها، أما إن كان معتمدا على الله غير مبال بها، فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصده. ولهما عن أنسٍ، قال: قال رسول الله ((لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل)). قالوا: وما الفأل؟ قال: ((الكلمة الطيبة)) (¬1). قوله في حديث أنس: ((لا عدوى، ولا طيرة)). تقدم الكلام على ذلك. قوله: (ويعجبني الفأل). أي: يسرني، والفأل بينه بقوله: (الكلمة الطيبة). فـ (الكلمة الطيبة) تعجبه صلى الله عليه وسلم، لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط، والمضي قدماً لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان، لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقداماً وإقبالاً. وظاهر الحديث: الكلمة الطيبة في كل شيء، لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سبباً لخيرات كثيرة، حتى إنها تدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة. ¬

(¬1) [3616])) رواه البخاري (5756) , ومسلم (2224) ,

وهذا الحديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه بين محذورين ومرغوب، فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذكر المرهوب ينبغي أن يذكر معه ما يكون مرغوباً، ولهذا كان القرآن مثاني إذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكافرين، وإذا ذكر العقوبة ذكر المثوبة، وهكذا. قوله: (عن عقبة بن عامر). صوابه عن عروة بن عامر، كما ذكره في (التيسير)، وقد اختلف في نسبه وصحبته. قوله: (ذكرت الطيرة عند رسول الله). وهذا الذكر إما ذكر شأنها، أو ذكر أن الناس يفعلونها، والمراد: تحدث الناس بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي داود ـ بسند صحيح ـ عن عقبة بن عامر، قل: ذكرت الطيَرَة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)) (¬1). قوله: "أحسنها الفأل". سبق أن الفأل ليس من الطيرة، لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام، فإنه يزيد الإنسان نشاطاً وإقداماً فيما توجه إليه، فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا، فبينهما فرق لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطير به، وضعف توكله على الله، ورجوعه عما هم به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتاً ونشاطاً، فالشبه بينهما هو التأثير في كل منهما. قوله: "ولا ترد مسلماً". يفهم منه أن من ردته الطيرة عن حاجته فليس بمسلم. قوله: (فإذا رأى أحدكم ما يكره). فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريد، ولا يقدم عليه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم دواء لذلك وقال: ((فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات .... )) إلخ. قوله: ((اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت)). وهذا هو حقيقة التوكل، وقوله: "اللهم". يعني: يا الله، ولهذا بنيت على الضم، لأن المنادى علم، بل هو أعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق، والميم عوض عن يا المحذوفة، وصارت في آخر الكلمة تبركاً بالابتداء باسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وصارت ميماً، لأنها تدل على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله. قوله: ((لا يأتي بالحسنات إلا أنت)). أي: لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب، لأن خالق هذه الأسباب هو الله، فإذا وجدت هذه الحسنات بأسباب خلقها الله، صار الموجد هو الله. والمراد بالحسنات: ما يستحسن المرء وقوعه، ويحسن في عينه. ويشمل ذلك الحسنات الشرعية، كالصلاة والزكاة وغيرها، لأنها تسر المؤمن، ويشمل الحسنات الدنيوية، كالمال والولد ونحوها، قال تعالى: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ [التوبة: 50]، وقال تعالى في آية أخرى: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا [آل عمران: 120]. وقوله: (إلا أنت). فاعل يأتي، لأن الاستثناء هنا مفرغ. ¬

(¬1) [3617])) رواه أبو داود (3919) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , وعبد الرزاق في ((المصنف)) (10/ 406) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 291) , والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/ 373): مرسل, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (199).

قوله: ((ولا يدفع السيئات إلا أنت)). السيئات: ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالاً أو مآلاً، ولا يدفعها إلا الله، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى المشركون إذا ركبوا في الفلك، وشاهدوا الغرق، دعوا الله مخلصين له الدين. ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب، فمثلاً لو رأى رجلاً غريقاً، فأنقذه فإنما أنقذه بمشيئة الله، ولو شاء الله لم ينقذه، فالسبب من الله. فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وبمقتضى هذه العقيدة، فإنه يجب أن لا يسأل المسلم الحسنات ولا يسأل دفع السيئات إلا من الله، ولهذا كان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسألون الله الحسنات ويسألون دفع السيئات، قال تعالى عن زكريا: رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: 38]، وقال تعالى عن أيوب: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83]، وهكذا يجب أن يكون المؤمن أيضاً. قوله: "ولا حول ولا قوة إلا بك". في معناها وجهان: الأول: أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا بالله، فالباء بمعنى في، يعني: إلا في الله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول والقوة المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق والقوة المطلقة، لأن غير الله فيه حول وقوة، لكنها نسبية ليست بكاملة، فالحول الكامل والقوة الكاملة في الله وحده. الثاني: أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة إلا بالله، فالباء للاستعانة أو للسببية، وهذا المعنى أصح، وهو مقتضى ورودها في مواضعها، إذ إننا لا نتحول من حول إلى حول ولا نقوى على ذلك إلا بالله فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله، وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله من الحول والقوة. فإن صح الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول: ((اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)). وعن ابن مسعود مرفوعاً: ((الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)) رواه أبو داود والترمذي وصححه (¬1). وجعل آخره من قول ابن مسعودٍ. قوله: "مرفوعاً". أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (الطيرة شرك، الطيرة شرك). هاتان الجملتان يؤكد بعضهما بعضاً من باب التوكيد اللفظي. وقوله: (شرك). أي: إنها من أنواع الشرك، وليس الشرك كله، وإلا، لقال: الطيرة الشرك. وهل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر المخرج من الملة، أو أنها نوع من أنواع الشرك؟ نقول: هي نوع من أنواع الشرك، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر)) (¬2)، أي: ليس الكفر المخرج عن الملة، وإلا، لقال: (هما بهم الكفر)، بل هما نوع من الكفر. ¬

(¬1) [3618])) رواه أبو داود (3910) والترمذي (1614) وابن ماجه (3538) وأحمد (1/ 389) (3687) وابن حبان (13/ 491) والحاكم (1/ 65) وأبو يعلى (9/ 26) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) والبخاري في ((العلل الكبير)) وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 360) والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل وروى سليمان بن حرب يقول هذا الحديث وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل قال سليمان هذا عندي قول عبد الله بن مسعود وما منا, وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 108) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) [3619])) رواه مسلم (67) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

لكن في ترك الصلاة قال: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬1)، فقال: (الكفر)، فيجب أن نعرف الفرق بين (أل) المعرفة أو الدالة على الاستغراق، وبين خلو اللفظ منها، فإذا قيل: هذا كفر، فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة، وإذا قيل: هذا الكفر، فهو المخرج من الملة. فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه، فإنه لا يعد مشركاً شركاً يخرجه من الملة، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سبباً، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك يعتبر شركاً من هذه الناحية، والقاعدة: (أن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سبباً، فإنه مشرك شركاً أصغر). وهذا نوع من الإشراك مع الله، إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعياً، وإما في التقدير إن كان هذا السبب كونياً، لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله، فهو مشرك شركاً أكبر، لأنه جعل لله شريكاً في الخلق والإيجاد. قوله: (وما منا). (منا): جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، إما قبل (إلا) إن قدرت ما بعد إلا فعلاً، أي: وما منا أحد إلا تطير، أو بعد (إلا)، أي: وما منا إلا متطير. والمعنى: ما منا إنسان يسلم من التطير، فالإنسان يسمع شيئاً فيتشاءم، أو يبدأ في فعل، فيجد أوله ليس بالسهل فيتشاءم ويتركه. والتوكل: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله، وفعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسباباً. فلا يكفي صدق الاعتماد فقط، بل لابد أن تثق به، لأنه سبحانه يقول: مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 4]. قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود). وهو قوله: (وما منا إلا ... ) إلخ. وعلى هذا يكون موقوفاً، وهو مدرج في الحديث، والمدرج: أن يدخل أحد الرواة كلاماً في الحديث من عنده بدون بيان، ويكون في الإسناد والمتن، ولكن أكثره في المتن، وقد يكون في أول الحديث، وقد يكون في وسطه، وقد يكون في آخره، وهو الأكثر. مثال ما كان في أول الحديث: قول أبي هريرة رضي الله عنه: ((أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار)) (¬2)، فقوله: (أسبغوا الوضوء) من كلام أبي هريرة، وقوله: (ويل للأعقاب من النار) من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. ومثال ما كان في وسطه قول الزهري في حديث بدء الوحي: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء، والتحنث: التعبد)) (¬3)، ومثال ما كان في آخره: هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، وكذا حديث أبي هريرة، وفيه: ((فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل)) (¬4) , فهذا من كلام أبي هريرة. ولأحمد من حديث ابن عمرو ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك، قال: أن تقولوا اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك)) (¬5). قوله: "من ردته الطيرة عن حاجته". "من". شرطية، وجواب الشرط: "فقد أشرك"، واقترن الجواب بالفاء، لأنه لا يصلح لمباشرة الأداة، وحينئذ يجب اقترانه بالفاء، وقد جمع ذلك في بيت شعر معروف، وهو قوله: اسمية طلبية وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس ¬

(¬1) [3620])) رواه مسلم (82) , من حديث جابر رضي الله عنه. (¬2) [3621])) رواه البخاري (165) , ومسلم (242) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) [3622])) رواه البخاري (6982) , ومسلم (160) , من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬4) [3623])) رواه البخاري (136) , ومسلم (246). (¬5) [3624])) رواه أحمد (2/ 220) (7045) , وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 108): فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 10) , والألباني في ((السلسلة الصحيحة)): إسناده صحيح.

وقوله: (عن حاجته) الحاجة: كل ما يحتاجه الإنسان بما تتعلق به الكمالات، وقد تطلق عن الأمور الضرورية. قوله: (فقد أشرك). أي: شركاً أكبر إن اعتقد أن هذا المتشاءم به يفعل ويحدث الشر بنفسه، وإن اعتقده سبباً فقط فهو أصغر، .... قاعدة مفيدة .... وهي: (أن كل من اعتقد في شيء أنه سبب ولم يثبت أنه سبب لا كوناً ولا شرعاً، فشركه شرك أصغر، لأنه ليس لنا أن نثبت أن هذا سبب إلا إذا كان الله قد جعله سبباً كونياً أو شرعياً، فالشرعي: كالقراءة والدعاء، والكوني: كالأدوية التي جرب نفعها). وقوله: "فما كفارة ذلك". أي: ما كفارة هذا الشرك، أو ما هو الدواء الذي يزيل هذا الشرك؟ لأنه الكفارة قد تطلق على كفارة الشيء بعد فعله، وقد تطلق على الكفارة قبل الفعل، وذلك لأن الاشتقاق مأخوذ من الكفر، وهو الستر، والستر واق، فكفارة ذلك إن وقع وكفارة ذلك إن لم يقع. وقوله: ((اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك)). يعني: فأنت الذي بيدك الخير المباشر، كالمطر والنبات، وغير المباشر، كالذي يكون سببه من عند الله على يد مخلوق، مثل: أن يعطيك إنسان دراهم صدقة أو هدية، وما أشبه ذلك، فهذا الخير من الله، لكن بواسطة جعلها الله سبباً، وإلا، فكل الخير من الله ـ عز وجل ـ. وقوله: ((فلا خير إلا خيرك)). هذا الحصر حقيقي، فالخير كله من الله، سواء كان بسبب معلوم أو بغيره. وقوله: ((لا طير إلا طيرك)). أي: الطيور كلها ملكك، فهي لا تفعل شيئاً، وإنما هي مسخرة، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [الملك: 19]، وقال تعالى: أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 72]، فالمهم أن الطير مسخرة بإذن الله، فالله تعالى هو الذي يدبرها ويصرفها ويسخرها تذهب يميناً وشمالاً، ولا علاقة لها بالحوادث. ويحتمل أن المراد بالطير هنا ما يتشاءم به الإنسان، فكل ما يحدث للإنسان من التشاؤم والحوادث المكروهة، فإنه من الله كما أن الخير من الله، كما قال تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ [الأعراف: 131]. ... وأن الشر في فعل الله ليس بواقع، بل الشر في المفعول لا في الفعل، بل فعله تعالى كله خير، إما خير لذاته، وإما لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي تجعله خيراً. فيكون قوله: "لا طير إلا طيرك" مقابلاً لقوله: "ولا خير إلا خيرك". قوله: (ولا إله غيرك). (لا) نافية للجنس، و (إله) بمعنى: مألوه، كغراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: هو المعبود محبة وتعظيماً يتأله إليه الإنسان محبة له وتعظيماً له. فإن قيل: إن هناك آلهة دون الله، كما قال تعالى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ [هود: 101]. أجيب: أنها وإن عبدت من دون الله وسميت آلهة، فليست آلهة حقاً لأنها لا تستحق أن تعبد، فلهذا نقول: لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله. يستفاد من هذا الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن ترده الطيرة عن حاجته، وإنما يتوكل على الله ولا يبالي بما رأى أو سمع أو حدث له عند مباشرته للفعل أول مرة، فإن بعض الناس إذا حصل له ما يكره في أول مباشرته الفعل تشاءم، وهذا خطأ، لأنه مادامت هناك مصلحة دنيوية أو دينية، فلا تهتم بما حدث. أن الطيرة نوع من الشرك، لقوله: (من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك).

أن من وقع في قلبه التطير ولم ترده الطيرة، فإن ذلك لا يضر كما سبق في حديث ابن مسعود: (وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل). أن الأمور بيد الله خيرها وشرها. انفراد الله بالألوهية، كما انفرد بالخلق والتدبير. وله من حديث الفضل بن عباس: ((إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)) (¬1). قوله في حديث الفضل: (إنما الطيرة). هذه الجملة عند البلاغيين تسمى حصراً، أي: ما الطيرة إلا ما أمضاك أو ردك لا ما حدث في قلبك ولم تلتفت إليه، ولا ريب أن السلامة منها حتى في تفكير الإنسان خير بلا شك، لكن إذا وقعت في القلب ولم ترده ولم يلتفت لها، فإنها لا تضره، لكن عليه أن لا يستسلم، بل يدافع، إذ الأمر كله بيد الله. قوله: (ما أمضاك أو ردك). أما (ما ردك)، فلا شك أنه من الطيرة، لأن التطير يوجب الترك والتراجع. وأما (ما أمضاك)، فلا يخلو من أمرين: الأول: أن تكون من جنس التطير، وذلك بأن يستدل لنجاحه أو عدم نجاحه بالتطير، كما لو قال: سأزجر هذا الطير، فإذا ذهب إلى اليمين، فمعنى ذلك اليمن والبركة، فيقدم، فهذا لا شك أنه تطير، لأن التفاؤل بمثل انطلاق الطير عن اليمين غير صحيح، لأنه لا وجه له، إذا الطير طار، فإنه يذهب إلى الذي يرى أن وجهته، فإذا اعتمد عليه، فقد اعتمد على سبب لم يجعله الله سبباً، وهو حركة الطير. الثاني: أن يكون سبب المضي كلاماً سمعه أو شيئاً شاهده يدل على تيسير هذا الأمر له، فإن هذا فأل، وهو الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إن اعتمد عليه وكان سبباً لإقدامه، فهذا حكمه حكم الطيرة، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطاً في طلبه، فهذا من الفأل المحمود. والحديث في سنده مقال، لكن على تقدير صحته هذا حكمه. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - بتصرف – 2/ 93 ¬

(¬1) [3625])) رواه أحمد (1/ 213) (1824) , قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 358): [فيه] محمد بن عبد الله بن علاثة وهو مختلف فيه وفيه انقطاع, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 240): إسناده ضعيف.

وأما الطِّيَرَةُ فهي: ترك الإنسان حاجته، واعتقاده عدم نجاحها، تشاؤماً بسماع بعض الكلمات القبيحة كيا هالك أو يا ممحوق ونحوها. وكذا التشاؤم ببعض الطيور كالبومة وما شاكلها إذا صاحت، قالوا إِنَّها ناعية أو مخبرة بشر، وكذا التشاؤم بملاقاة الأعورِ أو الأعرج أو المهزول أو الشيخ الهرم أو العجوز الشمطاء، وكثير من الناس إذا لقيه وهو ذاهب لحاجة صَدَّهُ ذلك عنها ورجع معتقداً عدم نجاحها، وكثير من أهل البيع لا يبيع مِمَّنْ هذه صفته إذا جاءهُ أول النهار، حتى يبيع من غيره تشاؤماً به وكراهة له. وكثير منهم يعتقد أنه لا ينال في ذلك اليوم خيراً قط، وكثير من الناس يتشاءم بما يعرض له نفسه في حال خروجه كما إذا عثر أو شيك يرى أَنَّه لا يجد خيراً، ومن ذلك التشاؤم ببعض الأيام أو ببعض الساعات كالحادي والعشرين من الشهر وآخر أربعاء فيه ونحو ذلك فلا يسافر فيها كثير من الناس ولا يعقد فيها نكاحاً ولا يعمل فيها عملاً مهماً ابتداء، يظن أو يعتقد أن تلك الساعة نحس، وكذا التشاؤم ببعض الجهات في بعض الساعات فلا يستقبلها في سفر ولا أمر حتى تنقضي تلك الساعة أو الساعات. وهي من أكاذيب المنجمين ... ، يزعمون أَنَّ هناك فلكاً دَوَّاراً يكون كل يوم أو ليلة في جهة من الجهات فمن استقبل تلك الجهة في الوقت الذي يكون فيها هذه الفلك لا ينال خيراً ولا يأمن شراً، وهم في ذلك كاذبون مفترون قبَّحهم الله ولعنهم، وقد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. ومن ذلك التشاؤم بوقوع بعض الطيور على البيوت يرون أَنَّها معلمةٌ بشرٍّ، وكذا صوت الثعلب عندهم، ومن ذلك الاستقسام بتنفير الطير والظباء فإِنْ تيامنت ذهبوا لحاجتهم وإِنْ تياسرت تركوها، وهذا من الاستقسام بالأزلام الذي أمر الله تعالى باجتنابه وأخبر أَنَّه رجس من عمل الشيطان، وهذا وما شاكله كثير منه كان في الجاهلية قبل النبوة وقد أبطله الإسلام فأَعاده الشيطان في هذا الزمان أكثر مما كان عليه في الجاهلية بأضعاف مضاعفة، ووسع دائرة ذلك وساعده عليه شياطين الإنس من الكهنة والمنجمين وأضرابهم وأتباعهم؛ أرداهم الله وألحقهم به آمين. قال الله تعالى وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف:131]، وقال تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل:45 – 47]، وقال تعالى في قصة الثلاثة رسل عيسى قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ [يس:16 - 18] قال مجاهد في قوله تعالى فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ قالوا: العاقبة والرخاء نحن أحق بها وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قال بلاء وعقوبة يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى قال: يتشاءموا به.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ [الأعراف:131] قال ((الأمر مِنْ قِبَلِ اللهِ)) (¬1). وقال رضي الله عنه في قوله طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ [النحل:47] قال: الشؤم أتاكم مِنْ عندِ اللهِ لكفركم (¬2)، وتقدم ذكر الطيرة ونفيها في الأحاديث السابقة. وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدَّثني عبد الله بن محمد حدَّثنا عثمان بن عمر حدَّثنا يونس عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عَدْوى ولا طيرة، والشؤم في ثلاث: في المرأةِ والدار والدابة)) (¬3). والشُّؤم ضد اليمن، وهو عدم البركة، والمراد به الأمر المحسوس المشاهد كالمرأة العاقر التي لا تلد أو اللسنة المؤذية أو المبذرة بمال زوجها سفاهة ونحو ذلك. وكذا الدار الجدبة أو الضيقة أو الوبيئة الوخيمة المشرب أو السيئة الجيران وما في معنى ذلك، وكذا الدابة التي لا تلد ولا نسل لها أو الكثيرة العيوب الشينة الطبع وما في معنى ذلك، فهذا كله شيء ضروري مشاهد معلوم ليس هو من باب الطيرة المنفية فإِنَّ ذلك أمر آخر عند من يعتقده ليس من هذا لأنهم يعتقدون أنَّها نحس على صاحبها لذاتها لا لعدم مصلحتها وانتفائها فيعتقدون أَنَّه إِنْ كان غنياً افتقر ليس بتبذيرها بل لنحاستها عليه، وإِنَّه إِنْ يأخذها يموت بمجرد دخولها عليه لا بسبب محسوس، بل عندهم أَنَّ لها نجما لا يوافق نجمه بل ينطحه ويكسره، وذلك مِنْ وحي الشيطان يوحيه إلى أوليائه من المشركين، قال الله تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ [الأنعام:121]، وقال تعالى إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27]. حتَّى إنَّ رجلاً في زماننا هذا كان يشعوذ على الناس بذلك ويفرق به بين المرء وزوجه، فتنبه له بعض العامة ممن يحضر مجالس الذكر ويسمع ذم المنجمين وتكذيبهم بالآيات والأحاديث فقال له: إنِّي أُرِيد أَنْ أنكح امرأة، ما ترى فيها هل هي سعد لي أو نحس عليَّ؟ فعرض ذلك على قواعده الشيطانية ثم قال له: دعها فإنِّك إنْ أخذتها لا تبلي معها ثوباً، يعني يموت سريعاً لا تطول معها صحبته، وكانت تلك المرأة التي سأله عنها وسماها له هي زوجته وقد طالت صحبته معها وله منها نحو خمسة من الأولاد، فدعاهم كلهم بأسمائهم حتى حضروا فقال له: هؤلاء أولادي منها. ولهذا نظائر كثيرة من خرافاتهم. والمقصود أنَّ الشؤم المثبت في هذا الحديث أمر محسوس ضروري مشاهد ليس من باب الطيرة المنفية التي يعتقدها أهل الجاهلية ومن وافقهم. وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدَّثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أَنَّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا طيرة، وخيرها الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة. يسمعها أحدكم)) (¬4). قال حدَّثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصَّالح الكلمة الحسنة)) (¬5). ... ¬

(¬1) [3626])) رواه ابن جرير في ((التفسير)) (13/ 48). (¬2) [3627])) ذكره البغوي في ((التفسير)) (6/ 169) , (¬3) [3628])) رواه البخاري (5753). (¬4) [3629])) رواه البخاري (5754) , ومسلم (2223). (¬5) [3630])) رواه البخاري (5756) , ومسلم (2224) ,

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية حين جاء سهيل بن عمرو قال: ((سَهَّلَ اللهُ أَمْرَكُمْ)) (¬1) الحديث وما شاكله. ومن شرط الفأل أَنْ لا يعتمد عليه وأَنْ لا يكون مقصوداً، بل أَنْ يتفق للإنسان ذلك مِنْ غير أنْ يكون له على بال. ومن البِدَع الذميمة والمحدثات الوخيمة مأخذ الفأل من المصحف فإنَّه من اتخذ آيات الله هزواً ولعباً ولهواً، ساءَ ما يعملون. وما أدري كيف حال مَنْ فتح على قوله تعالى لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:78]، وقوله وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93] وأمثال هذا الآيات. ويروى أَنَّ أَوَّل من أحدث هذه البدعة بعض المروانية وأَنَّه تفاءلَ يوماً ففتح المصحف فاتفق لاستفتاحه قول الله عز وجل وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيدٍ [إبراهيم:15] الآيات فيقال إنَّه أَحرق المصحف غضباً من ذلك وقال أبياتاً لا نسوِّد بها الأوراق. والمقصود أَنَّ هذه بدعة قبيحة، والفأْلُ إذا قصده المتفائل فهو طيرة كالاستقسام بالأزلام، وقد روى الإمام أحمد في تعريف الطيرة حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما ((إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)) (¬2)، وروى في كفارتها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وقفه ((مَنْ ردَّتْهُ الطِّيرة عَنْ حاجته فقد أَشْرَك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أَنْ تقول: اللهم لا خير إلا خيرُك، ولا طير إلا طيرُك، ولا إله غيرك)) (¬3). ¬

(¬1) [3631])) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 353) , قال الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)): حسن لغيره. (¬2) [3632])) رواه أحمد (1/ 213) (1824) , قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 358): [فيه] محمد بن عبد الله بن علاثة وهو مختلف فيه وفيه انقطاع, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 240): إسناده ضعيف. (¬3) [3633])) رواه أحمد (2/ 220) (7045) , وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 108): فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 10) , والألباني في ((السلسلة الصحيحة)): إسناده صحيح.

وقال أبو داود رحمه الله تعالى: حدَّثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عيسى بن عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الطيرة شرك)) ثلاثاً ((وما منّا إلا، ولكنَّ الله يذهبه بالتوكل)) (¬1)، وقوله ((ما منّا إلا)) إلخ هو من كلام ابن مسعود كما فصله الترمذي رحمه الله في روايته عن المرفوع حيث قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث ((وما منا إلاَّ، ولكن الله يذهبه بالتوكل)): كل هذا عندي قول عبد الله بن مسعود (215). وقال رحمه الله تعالى: حدَّثنا أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة قالا حدَّثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن عامر (قال أحمد: القرشي) قال ذُكرت الطِّيَرَةُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحسنها الفأل ولا تَرُدُّ مسلماً. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهُمَّ لا يأتي بالحسنات إلا أنْت، ولا يدفع السيئات إلا أَنْتَ ولا حول ولا قوة إلا بك)) (¬2). ¬

(¬1) [3634])) رواه أبو داود (3910) والترمذي (1614) وابن ماجه (3538) وأحمد (1/ 389) (3687) وابن حبان (13/ 491) والحاكم (1/ 65) وأبو يعلى (9/ 26) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) والبخاري في ((العلل الكبير)) وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 360) والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل وروى سليمان بن حرب يقول هذا الحديث وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل قال سليمان هذا عندي قول عبد الله بن مسعود وما منا, وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 108) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) [3635])) رواه أبو داود (3919) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , وعبد الرزاق في ((المصنف)) (10/ 406) , والحديث سكت عنه أبو داود, وصححه النووي في ((رياض الصالحين)) (537) , وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 291) , والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/ 373): مرسل, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (199).

وأما الغول فهي واحد الغيلان وهي من شَرِّ شياطين الجن وسحرتهم والنفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية فيهم من الضُرِّ والنَّفعِ، وكانوا يخافونهم خوفاً شديداً ويستعيذون ببعضهم من بعض كما قال تعالى عنهم وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] زاد الإنس الجن جرأة عليهم وشراً وطغياناً، وزادتهم الجن إخافة وخبلاً وكفراناً. وكان أَحَدُهم إذا نزل واديا قال: أعوذُ بِسَيِّدِ هذا الوادي من سفهائه (¬1) فيأتي الشيطان فيأخذ من مال هذا المستعيذ أو يروعه في نفسه، فيقول: يا صاحب الوادي، جارك أو نحو ذلك. فيسمع منادياً ينادي ذلك المعتدي أَنْ اتركه أو دعه أو ما أشبه ذلك. فأبطل الله تعالى ورسولُهُ صلى الله عليه وسلم ذلك ونفى أَنْ يضروا أحداً إلاَّ بإذن اللهِ عز وجل، وأبدلنا عن الاستعاذة بالمخلوقين الاستعاذة بجبَّار السموات والأرض، رب الكون وخالقه ومالكه وإلهه وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا وكلماته التامات التي لا يجاوزهن جبار ولا متكبر، فقال الله تبارك وتعالى وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97]، وقال تعالى وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأعراف:200]، وقال تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] إلى آخر السورة، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] إلى آخر السورة. وغيرها من الآيات. وقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين: ((ما سأل سائلٌ بمثلهما ولا استعاذَ مستعيذٌ بمثلهما)) (¬2)، وقال صلى الله عليه وسلم ((مَنْ نَزَلَ منْزلاً فقال: أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّات مِنْ شَرِّ ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك)) (¬3) وهو في الصحيح، ... وفي الحديث الصحيح ((إِنَّ الشيطان إذا سمع النداء أَدْبَرَ وله ضُراط (¬4) – وفي لفظ حصاص)) (¬5) وأحاديث الاستعاذة والأذكار في طرد الشيطان وغيره كثيرة مشهورة مسبورة في مواضعها من كتب السنة، وأَمَّا قول مَنْ قال إِنَّ المراد في الحديث نفي وجود الغيلان مطلقاً فليس بشيءٍ لأنَّ ذلك مكابرة للأمور المشاهدة المعلومة بالضرورة في زمن النّبي صلى الله عليه وسلم وقبله وبعده من إتيانهم وانصرافهم ومخاطبتهم وتشكلهم. والله أعلم. وأما الهامة والصفر: فقال أبو داود رحمه الله تعالى: حدَّثنا محمَّدُ بن المصفى حدَّثنا بقية قال: قلت لمحمد – يعني ابن راشد – قوله ((هام)) قال: كانت الجاهلية تقول: ((لَيْسَ أحدٌ يموت فيدفن إلا خرج مِنْ قبره هامة)). ... فقوله ((صَفَر)) قال: سمعت أهل الجاهلية يستشئمون بصَفَر، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ((لا صَفَر)) قال محمد: وقد سمعنا من يقول هو وجع يأخذ في البطن، فكانوا يقولون هو يعدي فقال ((لا صفر)) (¬6)، وقال رحمه الله: حدَّثنا يحيى بن خلف حدَّثنا أبو عاصم حدَّثنا ابن جريج عن عطاء قال: يقول الناس صفر وجع يأخذ في البطن. قلت: فما الهامة؟ قال: يقول الناس الهامة التي تصرخ هامة الناس، وليست بهامة الإنسان، إنما هي دابة (¬7). وقال رحمه الله: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهدٌ أخبركم أشهب قال: سئل مالك عن قوله ((لا صَفَر)) قال: إنَّ أَهْل الجاهلية كانوا يحلِّون صَفَر، يحلّونه عاماً ويحرِّمونه عاماً، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لا صَفَر)) (¬8). ... وكل هذه المعاني لهذه الألفاظ قد اعتقدها الجهال وكلها بجميع معانيها المذكورة منفية بنص الحديث. ولله الحمد والمنّة. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي -بتصرف – ص1160 ¬

(¬1) [3636])) رواه ابن جرير في ((التفسير)) (23/ 654). (¬2) [3637])) رواه النسائي في (8/ 253) (5438) , والدارمي (2/ 554) , والحميدي (2/ 376) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 78) , من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه, قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 232): إسناده جيد, وقال الألباني في ((صحيح النسائي)): حسن صحيح. (¬3) [3638])) رواه مسلم (2708). (¬4) [3639])) رواه البخاري (608) , ومسلم (389) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين .... )).واللفظ للبخاري. (¬5) [3640])) رواه مسلم (389). (¬6) [3641])) رواه أبو داود (3915) , وقال الألباني صحيح مقطوع. (¬7) [3642])) رواه أبو داود (3918) , وقال الألباني صحيح مقطوع. (¬8) [3643])) رواه أبو داود (3914) , وقال الألباني صحيح مقطوع.

- المسألة الثانية: ذكر أمثلة من الشرك الأصغر في الأفعال

المثال الأول: الرقى الشركية الرقى في اللغة: جمع رقية، والاسم منه (رقيا)، يقال: رقيته، أرقيه، رقيا، والمرة (رقية) (¬1). وفي الاصطلاح: الأمور التي يعوذ بها لرفع البلاء أو دفعه (¬2). والرقية الشرعية هي الأذكار من القرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في السنة أو الأدعية الأخرى المشروعة التي يقرؤها الإنسان على نفسه أو يقرؤها عليه غيره ليعيذه الله من الشرور بأنواعها، من الأمراض وشرور جميع مخلوقات الله الأخرى من السباع والهوام والجن والإنس وغيرها، فيعيذه منها بدفعها قبل وقوعها، بأن لا تصيبه، أو يعيذه منها بعد وقوعها بأن يرفعها ويزيلها عنه، وغالباً يصحب قراءة هذه الأذكار نفث من الراقي، وقد تكون الرقية بالقراءة والنفث على بدن المرقي أو في يديه ويمسح بهما جسده ومواضع الألم إن وجدت، وقد تكون بالقراءة في ماء ثم يشربه المرقي أو يصب على بدنه، وبعضهم يقوم بكتابة الأذكار بزعفران أو غيره على ورق أو في إناء، ثم يغسله بماء، ثم يسقيه المريض. والرقى التي يفعلها الناس تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: الرقى الشرعية، وهي الرقى التي سبق ذكرها، وقد أجمع أهل العلم جوازها في الجملة. ويشترط في هذه الرقية أيضا أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها، وأن لا يعتمد عليها المرقي بقلبه، وأن يعتقد أن النفع إنما هو من الله تعالى، وأن هذه الرقية إنما هي سبب من الأسباب المشروعة (¬3)، ويشترط أن لا تكون هذه الرقية من ساحر أو متهم بالسحر، وحكم هذه الرقية عند اجتماع الشروط السابقة أنها مستحبة، وهي من أعظم أسباب الشفاء من الأمراض بإذن الله تعالى. والدليل على استحباب الرقية في حق المرقي: ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ: قل هو الله أحد، وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به. والدليل على استحبابها في حق الراقي: ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب؟ فقال: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)). النوع الثاني: الرقى المحرمة: ومنها: الرقى الشركية، وهي الرقى التي يعتمد فيها الراقي أو المرقي على الرقية، فإن اعتمد عليها مع اعتقاده أنها سبب من الأسباب، وأنها لا تستقل بالتأثير فهذا شرك أصغر، وإن اعتمد عليها اعتماداً كلياً حتى اعتقد أنها تنفع من دون الله، أو تضمنت صرف شيء من العبادة لغير الله، كالدعاء، أو الاستعاذة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو من الشرك الأكبر المخرج من الملة. والدليل على تحريم جميع الرقى الشركية: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك))، وما روى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: ((اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك)) رواه مسلم. ¬

(¬1) ((النهاية))، و ((المصباح))، (مادة: رقى). (¬2) وينظر ((النهاية))، و ((المصباح)) و ((فتح الباري)): الطب باب الرقى بالقرآن (10/ 195)، و ((عمدة القاري)) (21/ 262). والرقى تسمى العزائم. والعزائم في الأصل: رقى كانوا يعزمون بها على الجن، فيقال: عزم الراقي، كأنه أقسم على الداء. ينظر ((لسان العرب)) (مادة: عزم)، وينظر ((المراد بالعزائم عند المشعوذين في الفروق)) (الفرق 242، 4/ 147). (¬3) ينظر: ((المدخل)) لابن الحاج (4/ 326).

ومن الرقى المحرمة: أن تكون الرقية فيها طلاسم، أو ألفاظ غير مفهومة، والغالب أنها رقى شركية، وبالأخص إذا كانت من شخص غير معروف بالصلاح والاستقامة على دين الله تعالى، أو كانت من كافر كتابي أو غيره. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 397 هذه الأمور المذكورة التي يتعلق بها العامة غالبها من الشرك الأصغر لكن إذا اعتمد العبد عليها بحيث يثق بها ويضيف النفع والضر إليها كان ذلك شركا أكبر والعياذ بالله لأنه حينئذ صار متوكلا على سوى الله ملتجئا إلى غيره وَمَن يَثِقْ بِوَدْعَةٍ أوْ نَابِ ... أَوْ حَلْقَةٍ أوْ أَعْيُنِ الذِّئَابِ أَوْ خَيْطٍ اَوْ عُضْوٍ مِنَ النُّسُورِ ... أَو وَتَرٍ أوْ تُرْبَةِ الْقُبُورِ لأَيِّ أَمْرٍ كَائِنٍ تَعَلَّقَهْ ... وَكلَهُ اللهُ إِلَى مَا عَلَّقَهْ (ومن يثق) هذا الشرط جوابه (وكلهُ) الآتي: (بودعة) قال في النهاية هو شيء أبيض يجلب من البحر يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم. وإنما نهى عنه لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين (227). (أو ناب) كما يفعله كثير من العامة يأخذون ناب الضبع ويعلقونه من العين. (أو حلقة) وكثيراً ما يعلقونها من العين وسيأتي في الحديث أنهم يعلقونها من الواهنة وهو مرض العضد. (أو أعين الذئاب) وكثيراً ما يعلقونها يزعمون أن الجن تفر منها، ومنهم من يقول إنه إذا وقع بصر الذئب على جني لا يستطيع أن يفر منه حتى يأخذه، ولهذا يعلقون عينه إذا مات على الصبيان ونحوهم. (أو خيط) وكثيراً ما يعلقونه على المحموم ويعتقدونه فيه عقداً بحسب اصطلاحاتهم، وأكثرهم يقرأ عليه سورة: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] إلى آخرها، ويعقد عند كل كاف منها عقدة، فيجتمع في الخيط تسع عقد بعدد الكافات، ثم يربطونه بيد المحموم أو عنقه. (أو عضو من النسور) كالعظم ونحوه يجعلونها خرزاً ويعلقونها على الصبيان يزعمون أنها تدفع العين. (أو وتر) وكانوا في الجاهلية إذا عتق وتر القوس أخذوه وعلقوه يزعمون عن العين على الصبيان والدواب. (أو تربة القبور) وما أكثر من يستشفي بها لا شفاهم الله، واستعمالهم لها على أنواع: فمنهم من يأخذها ويمسح بها جلده، ومنهم من يتمرغ على القبر تمرغ الدابة، ومنهم من يغتسل بها مع الماء، ومنهم من يشربها وغير ذلك. وهذا كله ناشئ عن اعتقادهم في صاحب ذلك القبر أنه ينفع ويضر، حتى عدوا ذلك الاعتقاد فيه إلى تربته فزعموا أنها فيها شفاء وبركة لدفنه فيها، حتى إن منهم من يعتقد في تراب بقعة لم يدفن فيها ذلك الولي بزعمه بل قيل له إن جنازته قد وضعت في ذلك المكان. وهذا وغيره من تلاعب الشيطان بأهل هذه العصور زيادة على ما تلاعب بمن قبلهم. نسأل الله العافية.

(لأي أمر كائن تعلقه) الضمير عائد إلى ما تقدم وغيره (وكله الله) أي تركه (إلى ما علقه) دعاء عليه أي لا حفظه الله ولا كلأه بل تركه إلى ما وثق به واعتمد عليه دون الله عز وجل: قال الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)) رواه أحمد (¬1). وله عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر فقال: ((ما هذا؟)) قال: من الواهنة، فقال: ((انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)) (¬2) , ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف:106] (¬3) وفي (الصحيح) عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً أن ((لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)) (¬4). وعن رويفع رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه)) رواه أحمد (¬5). وله عن عبد الله بن عكيم مرفوعاً ((من علق شيئاً وكل إليه)) ورواه الترمذي (¬6). ¬

(¬1) [3647])) رواه أحمد (4/ 154) (17440) , وأبو يعلى (3/ 295) , قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (8/ 232): [فيه] مشرح بن عقبة أرجو أنه لا بأس به, وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 3949): فيه خالد لم يضعف تفرد به, وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1266). (¬2) [3648])) رواه أحمد (4/ 445) (20014) , وابن ماجه باختصار (3531) قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 240): [فيه] مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران والحسن اختلف في سماعه من عمران, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 106):فيه مبارك بن فضالة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات, وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (2015). (¬3) [3649])) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (8/ 473). (¬4) [3650])) رواه البخاري (3005) , ومسلم (2115). (¬5) [3651])) رواه أبو داود (36) , والنسائي (8/ 135) (5067) , وأحمد (4/ 108) (17036) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال النووي في ((المجموع شرح المهذب)) (2/ 116) , وابن الملقن في ((البدر المنير)) (2/ 352): إسناده جيد, وصححه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 140) , والألباني في ((صحيح الجامع)) (7910). (¬6) [3652])) رواه الترمذي (2072) , وأحمد (4/ 310) (18803) , والحاكم (4/ 241) , ورواه الطبراني (22/ 385) بلفظ: ((من علق)) بدلاً من ((من تعلق)) , قال الترمذي عبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي, وقال ابن حجر في ((إتحاف المهرة)) (8/ 260): مرسل, وقال أبو حاتم في ((المراسيل)): عبد الله بن عكيم ليس له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كتب إليه, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 103): [أبو معبد الجهني] قد قيل إنه عبد الله بن عكيم قلت فإن كان هو قد ثبتت صحبته بقوله سمعت وفي إسناده محمد بن أبى ليلى وهو سيئ الحفظ وبقية رجاله ثقات, وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3456): حسن لغيره.

وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة فأدخلتها تحت السرير. قالت: فدخل فجلس إلى جانبي فرأى في عنقي خيطاً. فقال: ما هذا الخيط؟ قالت قلت: خيط رقي لي فيه، فأخذه فقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) قالت قلت له: لم تقول هذا، وقد كانت عيني تقذف فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت. فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أذهب البأس رَبَّ الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) رواه أحمد (¬1). وروى جملة الدلالة منه على الباب أبو داود، أعني الجملة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد: الرقى هي التي تسمى العزائم وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة، والتمائم شيء يلقونه على الأولاد عن العين، والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته ا. هـ. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 623 ¬

(¬1) [3653])) رواه أبو داود (3883) , وابن ماجه (3530) , وأحمد (1/ 381) (3615) , والطبراني (10/ 213) , والحاكم (4/ 463) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 219): إسناده حسن, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2972): إسناده صحيح.

المثال الثاني: التمائم الشركية

المثال الثاني: التمائم الشركية التمائم في اللغة: جمع تميمة، وهي في الأصل خرزة كانت تعلق على الأطفال، يتقون بها من العين ونحوها (¬1)، وكأن العرب سموها بهذا الاسم لأنهم يريدون أنها تمام الدواء والشفاء المطلوب. وفي الاصطلاح: هي كل ما يعلق على المرضى أو الأطفال أو البهائم أو غيرها من تعاويذ لدفع البلاء أو رفعه (¬2). ومن أنواع التمائم: الحجب والرقى التي يكتبها بعض المشعوذين ويكتبون فيها طلاسيم وكتابات لا يفهم معناها، وغالبها شرك، واستغاثات بالشياطين، وتعلق على الأطفال أو على البهائم، أو على بعض السلع أو أبواب البيوت يزعمون أنها سبب لدفع العين أو أنها سبب لشفاء المرضى من بني الإنسان أو من الحيوان، ومنها: الخلاخيل التي يجعلها بعض الجهال على أولادهم يعتقدون أنها سبب لحفظهم من الموت، ومنها: لبس حلقة الفضة للبركة أو للبواسير، ولبس خواتم لها فصوص معينة يعتقدون أنها تحفظ من الجن، ولبس أو تعليق خيوط عقد فيها شخص له اسم معين كـ (محمد) عقداً للعلاج من بعض الأمراض (¬3)، ومنها الحروز وجلود الحيوانات والخيوط وغيرها مما يعلق على الأطفال أو على أبواب البيوت ونحو ذلك، والتي يزعمون أنها تدفع العين أو المرض أو الجن أو أنها سبب للشفاء من الأمراض، وهذه كلها محرمة، وهي من الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك))، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من علق تميمة فقد أشرك))، فهي من الشرك، لأنهم ظنوا أن لغير الله تأثيرا في الشفاء، وطلبوا دفع الأذى من غيره تعالى مع أنه لا يدفعه أحد سواه جل وعلا (¬4)، لكن إن اعتقد متخذها أنها تنفع بذاتها من دون الله فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أن الله هو النافع وحده، لكن تعلق قلبه بها في دفع الضر، فهو شرك أصغر، لاعتماده على الأسباب، ولأنه جعل ما ليس بسبب سبباً (¬5)، فهذه التمائم السابق ذكرها كلها ليس فيها نفع بوجه من الوجوه، وهي من خرافات الجاهلية التي ينشرها السحرة والمشعوذون، ويدجلون بها على السذج والجهلة من الناس. ويدخل في التمائم أن تكتب آيات من القرآن أو بعض الأذكار الشرعية (الرقى) في ورقة ثم توضع في جلد أو غيره ثم تعلق على الأطفال أو على بعض المرضى، وقد اختلف في جواز تعليقها، ولعل الأحوط المنع من هذه التمائم، لعدة أمور، أهمها: 1 - أن الأحاديث جاءت عامة في النهي عن التمائم، ولم يأت حديث واحد في استثناء شيء منها. 2 - أن تعليق التمائم من القرآن والأدعية والأذكار المشروعة نوع من الاستعاذة والدعاء، فهي على هذا عبادة، وهي بهذه الصفة لم ترد في القرآن ولا في السنة، والأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز إحداث عبادة لا دليل عليها. ¬

(¬1) انظر: ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 226)، و ((الصحاح))، و ((النهاية))، و ((القاموس))، و ((لسان العرب)) (مادة: تمم). (¬2) ((التمهيد)) (17/ 162)، ((سنن البيهقي: الضحايا)) (9/ 350)، ((تفسير القرطبي)) تفسير الآية 82 من الإسراء (10/ 320)، ((النهاية)) لابن الأثير (مادة: تمم)، ((شرح السنة)) (12/ 158)، ((القوانين الفقهية كتاب الجامع)) (ص: 295). (¬3) ينظر ((تعليق الشيخ محمد حامد الفقي المصري –رحمه الله – على فتح المجيد)) باب من الشرك لبس الحلقة (ص: 114، 118). (¬4) ((النهاية)) لابن الأثير (مادة: تمم)، ((حاشية ابن عابدين)): أول البيع (5/ 232). (¬5) ينظر: ((التيسير))، و ((قرة عيون الموحدين))، و ((القول السديد))، و ((القول المفيد باب من الشرب لبس الحلقة))، و ((تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز على فتح المجيد باب الرقى)) (ص: 12) و ((مجموع فتاويه ومقالاته)) (1/ 275)، و ((الشرك الأصغر)) (ص: 216).

3 - أن في تعليقها تعريضاً للقرآن وكلام الله تعالى وعموم الأذكار الشرعية للإهانة، إذ قد يدخل بالتميمة أماكن الخلاء، وقد ينام عليها الأطفال أو غيرهم، وقد تصيبها بعض النجاسات، وفي منع تعليقها صيانة للقرآن ولذكر الله تعالى عن الإهانة. 4 - سد الذريعة؛ لأن تعليق هذه التمائم يؤدي إلى تعلق القلوب بها من دون الله، ويؤدي إلى تعليق التمائم الشركية، كما هو الواقع عند كثير من المسلمين. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 408 وَإِنْ تَكُنْ مِمَّا سِوَى الْوَحْيَيْنِ ... فَإِنَّهَا شِرْكٌ بِغَيْرِ مَيْنِ بَلْ إِنَّهَا قَسِيمَةُ الأَزْلاَمِ ... فِي الْبُعْدِ عَنْ سِيمَا أُولي الإسْلامِ (وإن تكن) أي التمائم (مما سوى الوحيين) بل من طلاسم اليهود وعباد الهياكل والنجوم والملائكة ومستخدمي الجن ونحوهم أو من الخرز أو الأوتار أو الحلق من الحديد وغيره (فإنها شرك) أي تعلقها شرك (بدون مين) أي شك، إذ ليست هي من الأسباب المباحة والأدوية المعروفة، بل اعتقدوا فيها اعتقاداً محضاً أنها تدفع كذا وكذا من الآلام لذاتها لخصوصية زعموا فيها كاعتقاد أهل الأوثان في أوثانهم، (بل إنها قسيمة) أي شبيهة (الأزلام) التي كان يستصحبها أهل الجاهلية في جاهليتهم ويستقسمون بها إذا أرادوا أمراً، وهي ثلاثة قداح مكتوب على أحدها: افعل، والثاني: لا تفعل، والثالث: غفل، فإن خرج في يده الذي فيه افعل مضى لأمره، أو الذي فيه لا تفعل ترك ذلك، أو الغفل أعاد استقسامه. وقد أبدلنا الله تعالى – وله الحمد – خيراً من ذلك: صلاة الاستخارة ودعاءها. والمقصود أن هذه التمائم التي من غير القرآن والسنة شريكة للأزلام وشبيهة بها من حيث الاعتقاد الفاسد والمخالفة للشرع (في البعد عن سيما أولي الإسلام) أي عن زي أهل الإسلام، فإن أهل التوحيد الخالص من أبعد ما يكون عن هذا وهذا، والإيمان في قلوبهم أعظم من أن يدخل عليه مثل هذا، وهم أجل شأناً وأقوى يقيناً من أن يتوكلوا على غير الله أو يثقوا بغيره. وبالله التوفيق. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي –2/ 640

المسألة الثالثة: ذكر أمثلة من الشرك الأصغر في العبادات القولية

المثال الأول: الحلف بغير الله الحلف في اللغة: مصدر حلف، يحلف، وهو الملازمة؛ لأن الإنسان يلزمه الثبات على ما حلف عليه، ويسمى (اليمين)؛ لأن المتحالفين كان أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه (¬1)، ويسمى أيضاً (القسم). والحلف في الأصل: توكيد لشيء بذكر معظم مصدراً بحرف من حروف القسم. وفي الاصطلاح: توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى مصدراً بحرف من حروف القسم. وقد أجمع أهل العلم على أن اليمين المشروعة هي قول الرجل: والله، أو بالله، أو تالله، واختلفوا فيما عدا ذلك. واليمين عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها لغيره الله (¬2)، فيحرم الحلف بغيره تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت)) (¬3) متفق عليه، فمن حلف بغير الله سواء أكان نبياً أم ولياً أم الكعبة أم غيرها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، ووقع في الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) (¬4)، ولأن الحلف فيه تعظيم للمحلوف به، فمن حلف بغير الله كائناً من كان، فقد جعله شريكاً لله – عز وجل – في هذا التعظيم الذي لا يليق إلا به سبحانه وتعالى، وهذا من الشرك الأصغر إن كان الحالف إنما أشرك في لفظ القسم لا غير (¬5)، أما إن كان الحالف قصد بحلفه تعظيم المخلوق الذي حلف به كتعظيم الله تعالى، كما يفعله كثير من المتصوفة الذين يحلفون بالأولياء والمشايخ أحياء وأمواتاً، حتى ربما بلغ تعظيمهم في قلوبهم أنهم لا يحلفون بهم كاذبين مع أنهم يحلفون بالله وهم كاذبون، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن المحلوف به عندهم أجل وأعظم وأخوف من الله تعالى. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 417 ¬

(¬1) ينظر: ((معجم مقاييس اللغة)) (مادة: حلف، ومادة: يمن)، ((المطلع)) (ص: 387)، ((الدر النقي)) (3/ 796). (¬2) ((بدائع الصنائع)): الإيمان (3/ 2). (¬3) رواه البخاري (6108)، مسلم (1646) (¬4) رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللفظ له، وأحمد (2/ 125) (6072). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث حسن. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (735) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وأحمد شاكر في ((المسند)) (8/ 222). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) ينظر: ((مشكل الآثار)) للطحاوي الحنفي (2/ 297 - 299)، ((مدارج السالكين)) (1/ 373)، ((معطية الأمان من حنث الأيمان)) لابن العماد الحنبلي (ص: 83 - 84)، ((فتح المجيد والقول السديد باب فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً))، ((اليمين)) لسعاد الشايقي (ص: 157 - 158)، ((فقه الإيمان)) للدكتور أمير عبد العزيز (ص: 29 - 32)، ((فقه الإيمان)) للدكتور محمد عبيدات (ص: 31 - 33)، ((من أحكام اليمين)) لناجي الطنطاوي (ص: 22)، ((فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين)) جمع فهد السليمان (2/ 215 - 221).

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: ((ألا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) (¬1) وفي رواية قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً (¬2). متفق عليه. ولأبي داود والنّسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)) (¬3). ولأحمد ومسلم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله)) (¬4) ... وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من حلف بالأمانة)) رواه أبو داود (¬5). وفي الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يحلف بالأمانة فقال: ((ألست الذي يحلف بالأمانة)) (¬6). وعن قتيلة بنت صفي أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ((ورب الكعبة))، ويقول أحدهم: ((ما شاء الله ثم شئت)) رواه النسائي وصححه وابن ماجه (¬7). وقد ثبت في كفارة الحلف بغير الله حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف فقال في حلفه باللات والعزَّى فليقل لا إله إلا الله (¬8). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص 615 ¬

(¬1) رواه البخاري (6646). (¬2) رواه البخاري (6647) ومسلم (1646). (¬3) رواه أبو داود (3248) والنسائي (7/ 5) وابن حبان (10/ 199) والطبراني في ((الأوسط)) (5/ 25) والحديث سكت عنه أبي داود, وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 455) , وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬4) رواه البخاري (3836) ومسلم (1646). (¬5) رواه أبو داود (3253) وأحمد (5/ 352) (23030) واللفظ له, والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 30) والحديث سكت عنه أبو داود, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 124): إسناده صحيح, وقال النووي في ((الأذكار)) (456): إسناده صحيح وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 335): رجاله رجال الصحيح خلا الوليد بن ثعلبة وهو ثقة, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬6) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 77) وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 178): رجاله ثقات. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/ 126): رجاله ثقات. (¬7) رواه النسائي (7/ 6) قال ابن حجر في ((الإصابة)) (4/ 389): إسناده صحيح, وقال البخاري في ((العلل الكبير)) (253) [روى] منصور: عن عبد الله بن يسار، عن حذيفة حديث منصور أشبه عندي وأصح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬8) رواه البخاري (4860) ومسلم (1647).

المثال الثاني: التشريك بين الله تعالى وبين أحد من خلقه بـ (الواو)

المثال الثاني: التشريك بين الله تعالى وبين أحد من خلقه بـ (الواو) ومن الشرك الأصغر قول ما شاء الله وشئت، كما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده)) (¬1). ولأبي داود بسند صحيح عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان)) (¬2). وتقدم في ذلك حديث قتيلة، والفرق بين الواو وثم أنه إذا عطف بالواو كان مضاهياً مشيئة الله بمشيئة العبد إذ قرن بينهما، وإذا عطف بثم فقد جعل مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل كما قال تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ [الإنسان: 30] ومثله قول: لولا الله وفلان هذا من الشرك الأصغر، ويجوز أن يقول: لولا الله ثم فلان، ذكره إبراهيم النخعي. ولابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] قال: الأندادُ هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك (226). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص 615 عن قتيلة: ((أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت)). رواه النسائي وصححه (¬3) قوله: (أن يهودياً) اليهودي: هو المنتسب إلى شريعة موسى عليه السلام، وسموا بذلك من قوله تعالى: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ، أي: رجعنا، أو لأن جدهم اسمه يهوذا بن يعقوب، فتكون التسمية من أجل النسب، وفي الأول تكون التسمية من أجل العمل، ولا يبعد أن تكون من الاثنين جميعاً. قوله: (إنكم تشركون). أي: تقعون في الشرك أيها المسلمون. قوله: (ما شاء الله وشئت). الشرك هنا أنه جعل المعطوف مساوياً للمعطوف عليه، وهو الله عز وجل حيث كان العطف بالواو المفيدة للتسوية. قوله: " والكعبة ". الشرك هنا أنه حلف بغير الله، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ما قال اليهودي، بل أمر بتصحيح هذا الكلام، فأمرهم إذا حلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، فيكون القسم بالله. ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 214) (1839) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 290) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) , قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200): إسناده صحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 253): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (601). (¬2) رواه أبو داود (4980) وأحمد (5/ 384) (23313) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3/ 216) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 340) الحديث سكت عنه أبو داود, وقال الذهبي في ((المهذب)) (3/ 1144):إسناده صالح, وقال النووي في ((الأذكار)) (444): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬3) رواه النسائي (7/ 6) قال ابن حجر في ((الإصابة)) (4/ 389): إسناده صحيح, وقال البخاري في ((العلل الكبير)) (253) [روى] منصور: عن عبد الله بن يسار، عن حذيفة حديث منصور أشبه عندي وأصح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).

وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله، ثم شئت، فيكون الترتيب بثم بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق، وبذلك يكون الترتيب صحيحاً، أما الأول، فلأن الحلف صار بالله، وأما الثاني، فلأنه جعل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله، وأنه لا مساواة بينهما. ويُستفاد من الحديث: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن ما قاله حق. 2 - مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق. 3 - أنه ينبغي عند تغيير الشيء أن يغير إلى شيء قريب منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا: ((ورب الكعبة))، ولم يقل: احلفوا بالله، وأمرهم أن يقولوا: ((ما شاء الله، ثم شئت)). إشكال وجوابه: وهو أن يقال: كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي؟ وجوابه: أنه يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمعه ولم يعلم به. ولكن يقال: بأن الله يعلم، فكيف يقرهم؟ فيبقى الإشكال، لكن يجاب: إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر، فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة مع أنهم يشركون شركاً أكبر ولا يرون عيبهم. وله أيضاً عن ابن عباس، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت فقال: ((أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)) (¬1). قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم. .. )). الظاهر أنه قاله للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً، وأنه جعل الأمر مُفوضاً لمشيئة الله ومشيئة رسوله. قوله: ((أجعلتني لله نداً؟!)). الاستفهام للإنكار، وقد ضمن معنى التعجب، ومن جعل للخالق نداً، فقد أتى شيئاً عجاباً. والنِّد: هو النظير والمساوي، أي: أجعلتني لله مساوياً في هذا الأمر؟! قوله ((بل ما شاء الله وحده)). أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقطع عنه الشرك، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بَعُدَت. يستفاد من الحديث: أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ يقتضي مساواته للخالق شرك، فإن كان يعتقد المساواة، فهو شرك أكبر، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك، فهو أصغر، وإذا كان هذا شركاً، فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول صلى الله عليه وسلم؟! هذا أعظم، لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من خصائص الربوبية، بل يلبس الدرع، ويحمل السلاح، ويجوع، ويتألم، ويمرض، ويعطش كبقية الناس، ولكن الله فضله على البشر بما أوحى إليه من هذا الشرع العظيم، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ [الكهف: 110]، فهو بشر، وأكد هذه البشرية بقوله: مِّثْلُكُمْ، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]، ولا شك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه أعطاه من الصبر العظيم، وأعطاه من الكرم ومن الجود، لكنها كلها في حدود البشرية، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية، فهذا أمر لا يمكن، ومن ادعى ذلك، فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفر بمن أرسله. ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 214) (1839) , والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 290) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) , قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200): إسناده صحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 253): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (601).

فالمهم أننا لا نغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام فننزله في منزلة هو ينكرها، ولا نهضم حقه الذي يجب علينا فنعطيه ما يجب له، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه، ولكننا لا ننزله منزلة الرب عز وجل. 2 - إنكار المنكر وإن كان في أمر يتعلق بالمنكر، لقوله صلى الله عليه وسلم ((أجعلتني لله نداً))، مع أنه فعل ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا إذا انحنى لك شخص عند السلام، فالواجب عليك الإنكار. 3 - أن من حسن الدعوة إلى الله عز وجل أن تذكر ما يباح إذا ذكرت ما يحرم، لأنه صلى الله عليه وسلم لما منعه من قوله: ((ما شاء الله وشئت)) أرشده إلى الجائز وهو قوله: ((بل ما شاء الله وحده)). ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: ((رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت، أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، قال: هل أخبرت بها أحداً؟. قلت نعم قال: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده)) (¬1). القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – 2/ 408 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (2199) , والطبراني (8/ 325) , والحاكم (3/ 323). قال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 91): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (138).

المثال الثالث: الاستسقاء بالأنواء

المثال الثالث: الاستسقاء بالأنواء الاستسقاء في اللغة: من سقى، يسقي، والمصدر: سقيا، بفتح السين وتسكين القاف، والاسم: السقيا، والمراد: إنزال الغيث (¬1)، والسين والتاء في ((الاستسقاء)) تدل على الطلب، أي السقيا، كالاستغفار، فهو طلب المغفرة، فمادة (استفعل) تدل على الطلب غالباً (¬2). والأنواء: جمع نوء، وهو النجم، وفي السنة الشمسية ثمانية وعشرون نجماً، كنجم الثريا، ونجم الحوت. فالاستسقاء بالأنواء: أن يطلب من النجم أن ينزل الغيث، ويدخل فيه أن يُنسب الغيث إلى النجم، كما كان أهل الجاهلية يزعمون، فكانوا إذا نزل مطر في وقت نجم معين نسبوا المطر إلى ذلك النجم، فيقولون: مطرنا بنوء كذا، أو هذا مطر الوسمي، أو هذا مطر الثريا، ويزعمون أن النجم هو الذي أنزل هذا الغيث (¬3). والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن ينسب المطر إلى النجم معتقداً أنه هو المنزل للغيث بدون مشيئة الله وفعله جل وعلا، فهذا شرك أكبر بالإجماع. القسم الثاني: أن ينسب المطر إلى النوء معتقداً أن الله جعل هذا النجم سبباً في نزول هذا الغيث، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنه جعل ما ليس بسبب سبباً، فالله تعالى لم يجعل شيئاً من النجوم سبباً في نزول الأمطار، ولا صلة للنجوم بنزولها بأي وجه، وإنما أجرى الله العادة بنزول بعض الأمطار في وقت بعض النجوم. وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الاستسقاء بالأنواء، ومنها: 1 - ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا)) (¬4). قال: فنزلت هذه الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] حتى بلغ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، ومعنى الآية الأخيرة: أنكم تجعلون شكر ما أنعم الله به عليكم من الغيث أنكم تكذبون بذلك، وذلك بنسبة إنزال الغيث إلى غير الله تعالى (¬5). 2 - ما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (¬6). وهذا الحديث يشمل على الصحيح النوعين السابقين، فهذا القول كفر، لكن إن نسب الغيث إلى النجم من دون الله فهو كفر وشرك أكبر، وإن نسبه إليه نسبة تسبب فهو كفر نعمة وشرك أصغر. 3 - ما رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) (¬7). ¬

(¬1) ((معجم مقاييس اللغة)) و ((النهاية)) (مادة: سقي). (¬2) ((القول المفيد)) باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. (¬3) ينظر: ((التمهيد)) (16/ 287 - 288)، ((شرح السنة)) (4/ 420)، ((شرح النووي لصحيح مسلم)) (2/ 61)، ((النهاية)) (مادة: نوأ)، ((جامع الأصول)): النجوم (11/ 577 - 578). (¬4) رواه مسلم (73) (¬5) ((المفهم)) (1/ 261)، ((إكمال المعلم)) (1/ 333). (¬6) رواه البخاري (846)، ومسلم (71). (¬7) رواه مسلم (934).

هذا وإذا قال المسلم: (مطرنا بنوء كذا وكذا) ومقصده أن الله أنزل المطر في وقت هذا النجم، معتقداً أنه ليس للنجم أدنى تأثير لا استقلالاً ولا تسبباً فقد اختلف أهل العلم في حكم هذا اللفظ: فقيل: هو محرم (¬1). وقيل: مكروه (¬2). وقيل: مباح (¬3)، ولا شك أن هذا اللفظ ينبغي تركه، واستبداله بالألفاظ الأخرى التي لا إيهام فيها، فإما أن يقول: (مطرنا بفضل الله ورحمته)، أو يقول: (هذه رحمة الله)، وهذا هو الذي ورد الثناء على من قاله، كما سبق في النصوص، فهو أولى من غيره، وإما أن يقول: (هذا مطر أنزله الله في وقت نجم كذا)، أو يقول: (مطرنا في نوء كذا)، ونحو ذلك من العبارات الصريحة التي لا لبس ولا إشكال فيها، فقول (مطرنا بنوء كذا) أقل أحواله الكراهة الشديدة، والقول بالتحريم قول قوي، لما يلي: 1 - أنه قد جاء الحديث القدسي مطلقاً بعيب قائلي هذا اللفظ، وباعتبار قولهم كفراً بالله تعالى، وإيماناً بالكوكب. 2 - أن هذا القول ذريعة إلى الوقوع في الاعتقاد الشركي، فاعتياد الناس عليه في عصر قد يؤدي بجهالهم أو بمن يأتي بعدهم إلى الوقوع في الاستسقاء الشركي بالأنواء. 3 - أنه لفظ موهم لاعتقاد فاسد. 4 - أن فيه استبدالاً للفظ المندوب إليه شرعاً في هذه الحال، وهو قول: (مطرنا بفضل الله ورحمته) بلفظ من ألفاظ المشركين، ففي هذا ترك للسنة وتشبه بالمشركين، وقد نهينا عن التشبه بهم. قريب من لفظ (مطرنا بنوء كذا وكذا) ما يشبهه من الألفاظ الموهمة، كلفظ (هذا مطر الوسمي)، ونحو ذلك. هذا وهناك أمثلة أخرى كثيرة للشرك الأصغر تركتها خشية الإطالة، ومن ذلك التسمي بالأسماء التي فيها تعظيم لا يليق إلا بالله تعالى، كملك الملوك، وقاضي القضاة ونحوهما، ومنها التسمي بأسماء الله تعالى، ومنها التسمي باسم فيه تعبيد لغير الله تعالى، كعبد الرسول، وعبد الحسين، ونحوهما، ومنها بعض صور التبرك البدعي، ومنها التصوير لذوات الأرواح إذا كان فيه نوع تعظيم، ومنها سب الدهر، ومنها الحكم بغير ما أنزل الله، وبالأخص إذا كان في قضية واحدة. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 429 الاستسقاء: طلب السقيا، كالاستغفار: طلب المغفرة والاستعانة: طلب المعونة، والاستعاذة: طلب العوذ، والاستهداء: طلب الهداية، لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب، وقد لا تدل على الطلب، بل تدل على المبالغة في الفعل، مثل: استكبر، أي: بلغ في الكبر غايته، وليس المعنى طلب الكبر، والاستسقاء بالأنواء، أي: أن تطلب منها أن تسقيك. والاستسقاء بالأنواء، أي: أن تطلب منها أن تسقيك. والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: شرك أكبر، وله صورتان: الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا! اسقنا أو أغثنا، وما أشبه ذلك، فهذا شرك أكبر، لأنه دعا غير الله، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر، قال تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 17]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]، وقال تعالى وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106]. ¬

(¬1) ((الفروع)): صلاة الاستسقاء (1/ 163)، ((التيسير وفتح المجيد)) باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. (¬2) ((الأذكار)) للنووي (ص: 308)، ((شرح مسلم للنووي)) (2/ 61). (¬3) ((شرح السنة)) الاستسقاء (4/ 421)، ((النهاية)) (مادة: نوأ)؛ ((جامع الأصول)) النجوم (11/ 578).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على النهي عن دعاء غير الله، وأنه من الشرك الأكبر. الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدعها، فهذا شرك أكبر في الربوبية، والأول في العبادة، لأن الدعاء من العبادة، وهو متضمن للشرك في الربوبية، لأنه لم يدعها إلا وهو يعتقد أنها تفعل وتقضي الحاجة. القسم الثاني شرك أصغر، وهو أن يجعل هذه الأنواء سبباً مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل، لأن كل من جعل سبباً لم يجعله الله سبباً لا بوجه ولا بقدرة، فهو مشرك شركاً أصغر. وقال الله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82]. قوله تعالى: وتجعلون. أي: تصيرون، وهى تنصب مفعولين: الأول: رزق، والثاني أن، وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان، والتقدير: وتجعلون رزقكم كونكم تكذبون أو تكذيبكم. والمعنى: تكذبون أنه من عند الله، حيث تضيفون حصوله إلى غيره. قوله: رزقكم. الرزق هو العطاء، والمراد به هنا: ما هو أعم من المطر، فيشمل معنيين: الأول: أن المراد به رزق العلم، لأن الله قال: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 75 - 83]، أي: تخافونهم فتداهنونهم، وتجعلون شكر ما رزقكم الله به من العلم والوحي أنكم تكذبون به، وهذا هو ظاهر سياق الآية. الثاني: أن المراد بالرزق المطر، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف، إلا أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أن المراد بالرزق المطر، وأن التكذيب به نسبته إلى الأنواء (¬1)، وعليه يكون ما ساق المؤلف الآية من أجله مناسباً للباب تماماً. والقاعدة في التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين جميعاً بدون منافاة تحمل عليهما جميعاً، وإن حصل بينهما منافاة طلب المرجح. ومعنى الآية: أن الله يوبخ هؤلاء الذين يجعلون شكر الرزق التكذيب والاستكبار والبعد، لأن شكر الرزق يكون بالتصديق والقبول والعمل بطاعة المنعم، والفطرة كذلك لا تقبل أن تكفر بمن ينعم عليها، فالفطرة والعقل والشرع كل منها يوجب أن تشكر من ينعم عليك، سواء قلنا: المراد بالرزق المطر الذي به حياة الأرض، أو قلنا: إن به القرآن الذي به حياة القلوب، فإن هذا من أعظم الرزق، فكيف يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعمة بالتكذيب؟! واعلم أن التكذيب نوعان: أحدهما: التكذيب بلسان المقال، بأن يقول هذا كذب، أو المطر من النوء ونحو ذلك. والثاني: التكذيب بلسان الحال، بأن يعظم الأنواء والنجوم معتقداً أنها السبب، ولهذا وعظ عمر بن عبد العزيز الناس يوماً، فقال: (أيها الناس! إن كنتم مصدقين، فأنتم حمقى، وإن كنتم مكذبين، فأنتم هلكى) (¬2). وهذا صحيح، فالذي يصدق ولا يعمل أحمق، والمكذب هالك، فكل إنسان عاص نقول له الآن: أنت بين أمرين: إما أنك مصدق بما رتب على هذه المعصية، أو مكذب، فإن كنت مصدقاً، فأنت أحمق، كيف لا تخاف فتستقيم؟ ‍! وإن كنت غير مصدق، فالبلاء أكبر، فأنت هالك كافر. وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) (¬3). ¬

(¬1) [3687])) رواه مسلم (73). (¬2) [3688])) رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (5/ 290). (¬3) [3689])) رواه مسلم (934).

قوله في حديث أبي مالك: (أربع في أمتي). الفائدة من قوله: (أربع) ليس الحصر، لأن هناك أشياء تشاركها في المعنى، وإنما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك باب حصر العلوم وجمعها بالتقسيم والعدد، لأنه يقرب الفهم، ويثبت الحفظ. قوله: (من أمر الجاهلية). أمر هنا بمعنى شأن، أي: من شأن الجاهلية وهو واحد الأمور، وليس واحد الأوامر، وليس الأوامر، لأن واحد الأوامر طلب الفعل على وجه الاستعلاء. وقوله: (من أمر الجاهلية). إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير، لأن كل إنسان يقال: فعلك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضب، إذ إنه لا أحد يرضى أن يوصف بالجهل، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية، فالغرض من الإضافة هنا أمران: التنفير. بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان، إذ ليست أهلاً بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها، فالذي يعتني بها جاهل. والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل البعثة، لأنهم كانوا على جهل وضلال عظيم حتى إن العرب كانوا أجهل خلق الله، ولهذا يسمون بالأميين، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، نسبة إلى الأم، كأن أمه ولدته الآن. لكن لما بعث فيهم هذا النبي الكريم، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164]، فهذه منة عظيمة أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور السامية: يتلو عليهم آيات الله. ويزكيهم، فيطهر أخلاقهم وعبادتهم وينميها. ويعلمهم الكتاب والحكمة. هذه فوائد أربع عظيمة لو وزنت الدنيا بواحدة منها لوزنتها عند من يعرف قدرها، ثم بين الحال من قبل فقال وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [عمران: 164] و (إن هذه ليست نافية بل مؤكدة؛ فهي مخففة من الثقيلة، يعني: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين. إذا ًالمراد بالجاهلية ما قبل البعثة، لأن الناس كانوا فيها على جهل عظيم. فجهلهم شامل للجهل في حقوق الله وحقوق عباده، فمن جهلهم أنهم ينصبون النصب ويعبدونها من دون الله، ويقتل أحدهم ابنته لكي لا يعير بها، ويقتل أولاده من ذكور وإناث خشية الفقر. قوله: ((لا يتركونهن)). المراد: لا يتركون كل واحد منها باعتبار المجموع بالمجموع، بأن يكون كل واحد منها عند جماعة، والثاني عند آخرين، والثالث عند آخرين، والرابع عند آخرين، وقد تجتمع هذه الأقسام في قبيلة، وقد تخلو بعض القبائل منها جميعاً، إنما الأمة كمجموع لابد أن يوجد فيها شيء من ذلك، لأن هذا خبر من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، والمراد بهذا الخبر التنفير، لأنه صلى الله عليه وسلم قد يخبر بأشياء تقع وليس غرضه أن يؤخذ بها، كما قال صلى الله عليه وسلم ((لتركبن سنن من كان قبلكم اليهود والنصارى)) (¬1) أي: فاحذروا، وأخبر صلى الله عليه وسلم: ((أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله)) (¬2)، أي: بلا محرم، وهذا خبر عن أمر واقع وليس إقراراً له شرعاً. قوله (أمتي) أي: أمة الإجابة. ¬

(¬1) [3690])) رواه البخاري (3456) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه, ولفظه: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه) قلنا يارسول الله, اليهود والنصارى قال ((فمن)). (¬2) روى البخاري (3595) من حديث عدي بن حاتم بلفظ: (فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله). أما لفظ: (أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضر موت ...... ) , لم أجده.

قوله: (الفخر بالأحساب). الفخر: التعالي والتعاظم، والباء للسببية، أي: يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه. والحسب: ما يحتسبه الإنسان من شرف وسؤدد، كأن يكون من بني هاشم فيفتخر بذلك، أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة، فيفتخر بذلك، وهذا من أمر الجاهلية، لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالي والتعاظم، والمتقي حقيقة هو الذي كلما ازدادت نعم الله عليه ازداد تواضعاً للحق وللخلق. وإذا كان الفخر بالحسب من فعل الجاهلية، فلا يجوز لنا أن نفعله، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ [الأحزاب: 33]، واعلم أن كل ما ينسب إلى الجاهلية، فهو مذموم ومنهي عنه. قوله: ((الطعن في الأنساب)). الطعن العيب، لأنه وخز معنوي كوخز الطاعون في الجسد، ولهذا سمي العيب طعناً. والأنساب: جمع نسب، وهو أصل الإنسان وقرابته، فيطعن في نسبه كأن يقول: أنت ابن الدباغ، أو أنت ابن مُقطَّعة البظور – وهو شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء -. قوله: ((والاستسقاء بالنجوم)). أي: نسبة المطر إلى النجوم مع اعتقاد أن الفاعل هو الله – عز وجل، أما إن أعتقد أن النجوم هي التي تخلق المطر والسحاب أو دعاها من دون الله لتنزل المطر، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة ............. أن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة، فمن أهل العلم من قال: إنه داخل تحت المشيئة: إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له. ومن أهل العلم من قال: إنه ليس بداخل تحت المشيئة، وإنه لابد أن يعاقب، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيميه لإطلاق قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 116]، فقال: والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، وبهذا نعرف عظم سيئة الشرك، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً) (¬1) لأن الحلف بغير الله من الشرك، والحلف بالله كاذباً من كبائر الذنوب وسيئة الشرك أعظم من سيئة الذنب. ثبوت الجزاء والبعث. أن الجزاء من جنس العمل. ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصراف، اقبل على الناس، فقال ((هل تدرون ماذا قال ربكم)) (¬2)؟. قوله في حديث زيد بن خالد (صلى لنا). أي إماماً، لأن الإمام يصلي لنفسه ولغيره، ولهذا يتبعه المأموم، وقيل: إن اللام بمعنى الباء، وهذا قريب وقيل: إن اللام للتعليل، أي: صلى لأجلنا. قوله: (صلاة الصبح بالحديبية). أي صلاة الفجر، والحديبية فيها لغتان: التخفيف، وهو أكثر، والتشديد، وهى أسم بئر سمي بها المكان، وقيل أن أصلها شجرة حدبا تسمى حديبية، والأكثر على أنها بئر، وهذا المكان قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه في الحرم، نزل به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة من الهجرة لما قدم معتمراً، فصده المشركون عن البيت، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ويسمى الآن الشميسي. قوله: (على إثر سماء كانت من الليل). الإثر معناه العقب، والأثر معناه العقب، والأثر: ما ينتج عن السير. قوله: (سماء). المراد به المطر. ¬

(¬1) رواه الطبراني (9/ 183) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 79) وعبد الرزاق في ((المصنف)) (8/ 496) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 177) رجاله رجال الصحيح, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 58): رواته رواة الصحيح, وصححه الألباني في ((إرواء الغليل)) (2562). (¬2) [3693])) رواه البخاري (846) , ومسلم (71).

قوله: (كانت من الليل). (من) لابتداء الغاية هذا هو الظاهر – والله أعلم -، ويحتمل أن تكون بمعنى في للظرفية. قوله: (فلما انصرف) أي: من صلاته، وليس من مكانه بدليل قوله: (أقبل على الناس). قوله: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟). الاستفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقي عليهم، وإلا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله، لأن الوحي لا ينزل عليهم. ومعنى قوله: (هل تدرون). أي: هل تعلمون. والمراد بالربوبية هنا الخاصة، لأن ربوبية الله للمؤمن خاصة كما أن عبودية المؤمن له خاصة، ولكن الخاصة لا تنافي العامة، لأن العامة تشمل هذا وهذا، والخاصة تختص بالمؤمن. قوله: (قالوا: الله ورسوله). فيه إشكال نحوي، لأن: (أعلم) خبر عن اثنين، وهي مفرد، فيقال: أن اسم التفضيل: إن اسم التفضيل إذا نوي به معنى (من)، وكان مجرداً من أل والإضافة لزم فيه الإفراد والتذكير. وفيه أيضاً إشكال معنوي، وهو أنه جمع بين الله ورسوله بالواو، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: ((ما شاء الله وشئت. قال أجعلتني لله نداً!)) (¬1) فيقال: أن هذا أمر شرعي، وقد نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما إنكاره على من قال: ما شاء وشئت، فلأنه أمر كوني، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس له شأن في الأمور الكونية. والمراد بقولهم: (الله ورسوله أعلم) تفويض العلم إلى الله ورسوله، وأنهم لا يعلمون. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال، مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (¬2). قوله: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر). (مؤمن) صفة لموصوف محذوف، أي: عبد مؤمن، وعبد كافر. و (أصبح): من أخوات كان، واسمها: (مؤمن)، وخبرها: (من عبادي). ويجوز أن يكون (أصبح) فعلاً ماضياً ناقصاً، واسمها ضمير الشأن، أي: أصبح الشأن، فـ (من عبادي) خبر مقدم، و (مؤمن) مؤخر، أي: أصبح شأن الناس منهم مؤمن ومنهم كافر. قوله: (فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته). أي: قال بلسانه وقلبه، والباء للسببية، وأفضل: العطاء والزيادة. والرحمة: صفة من صفات الله، يكون بها الإنعام والإحسان إلى الخلق. وقوله: (فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب). لأنه نسب المطر إلى الله ولم ينسبه إلى الكوكب، ولم ير له تأثيراً في نزوله، بل نزل بفضل الله. قوله: (وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا). الباء للسببية، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب، وصار كافراً بالله، لأنه أنكر نعمة الله ونسبها إلى سبب لم يجعله الله سبباً، فتعلقت نفسه بهذا السبب، ونسي نعمة الله، وهذا الكفر لا يخرج من الملة، لأن المراد نسبة المطر إلى النوء على أنه سبب وليس إلى النوء على أنه فاعل. لأنه قال: (مطرنا بنوء كذا)، ولم يقل: أنزل علينا المطر نوء كذا، لأنه لو قال ذلك، لكان نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، وبه نعرف خطأ من قال: إن المراد بقوله: (مطرنا بنوء كذا) نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، لأنه لو كان هذا هو المراد لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا ولم يقل مطرنا به. فعلم أن المراد أن من أقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله، لكن النوء هو السبب، فهو كافر، وعليه يكون من باب الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة. ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 214) (1839) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1/ 290) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) , قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200): إسناده صحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 253): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (601). (¬2) [3695])) رواه البخاري (846) , ومسلم (71).

والمراد بالكوكب النجم، وكانوا ينسبون المطر إليه، ويقولون: إذا سقط النجم الفلاني جاء المطر، وإذا طلع النجم الفلاني جاء المطر، وليسوا ينسبونه إلى هذا نسبة وقت، وإنما نسبة سبب، فنسبة المطر إلى النوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: نسبة إيجاد، وهذه شرك أكبر. نسبة سبب، وهذه شرك أصغر. نسبة وقت، وهذه جائزة بأن يريد بقوله: مطرنا بنوء كذا، أي: جاءنا المطر في هذا النوء أي في وقته. ولهذا قال العلماء: يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويجوز مطرنا في نوء كذا، وفرقوا بنيهما أن الباء للسببية، و (في) للظرفية، ومن ثم قال أهل العلم: إنه إذا قال: مطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز، وهذا وإن كان له وجه من حيث المعنى، لكن لا وجه له من حيث اللفظ، لأن لفظ الحديث: (من قال: مطرنا بنوء كذا)، والباء للسببية أظهر منها للظرفية، وهي وإن جاءت للظرفية كما في قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138]، لكن كونها للسببية أظهر، والعكس بالعكس، (في) للظرفية أظهر منها للسببية وإن جاءت للسببية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ((دخلت امرأة النار في هرة)) (¬1) والحاصل أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقاً، ولا يظن أنها تأتى سببية، فهذا جائز، ومع ذلك فالأولى أن يقال لهم: قولوا: في نوء كذا. ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 75 - 82]. قوله: (ولهما). الظاهر أنه سبق قلم، وإلا، فالحديث في (مسلم) وليس في (الصحيحين). ومعنى الحديث: أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمة الله وبعضهم قال: لقد صدق نوء كذا وكذا، فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه. ومنه ما يذكر في بعض كتب التوقيت: (وقل أن يخلف نوؤه)، أو: (هذا نوؤه صادق)، وهذا لا يجوز، وهو الذي أنكره الله – عز وجل – على عباده، وهذا شرك أصغر، ولو قال بإذن الله، فإنه لا يجوز لأن كل الأسباب من الله، والنوء لم يجعله الله سبباً. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - بتصرف– 2/ 141 ¬

(¬1) [3696])) رواه البخاري (3318) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. ومسلم (2619) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المطلب الخامس: الكلام على بعض الأعمال الشركية غير ما ذكر

تمهيد لما كانت الأعمال الشركية كثيرة لا حصر لها، رأينا أنه من اللازم علينا الكلام على بعضها مما هو منتشر بين الناس خطره، وقد يخفى عليهم حكمه. وهي ما بين قضايا منافية للتوحيد، وأخرى منافية لكماله؛ أو قضايا لها جهتان: فهي من جهة تنافي التوحيد، ومن جهة تنافي كماله. وعلة ذلك: أنها تارة تكون من الشرك, أو الكفر, أو النفاق الأكبر، وتارة تكون من الشرك, أو الكفر, أو النفاق الأصغر. وقد تقدم أن الأولى تنافي التوحيد، وأن الثانية تنافي كمال التوحيد. وهكذا الأمر نفسه بالنسبة للوسائل، فما أوصل للشرك الأكبر ونحوه أخذ حكمه، وما أوصل إلى الشرك الأصغر ونحوه أخذ حكمه. وهذه الأعمال كما يلي: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 141

الفرع الأول: السحر والشعوذة

الفرع الأول: السحر والشعوذة وهو لغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، ومنه سمي السحر سحراً لأنه يقع خفياً آخر الليل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحراً)) لما في البيان من قدرة من يتصف به على إخفاء الحقائق. وشرعاً: هو عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فتمرض وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه، قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ، وقد أمر الله بالتعوذ من السحر وأهله، فقال جل شأنه: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ وهن السواحر اللواتي ينفخن في عقد السحر، والسحر له حقيقة؛ ولذا أمرنا بالتعوذ منه، وظهرت آثاره على المسحورين، قال تعالى: وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. فوصفه بالعظم، ولو لم تكن له حقيقة لم يوصف بهذا الوصف، وهذا لا يمنع أن يكون من السحر ما هو خيال، كما قال سبحانه عن سحر سحرة فرعون: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى أي: يخيل لموسى أن الحبال تسعى كالحيات من قوة ما صنعوه من السحر. وعليه فالسحر قسمان: أحدهما: سحر حقيقي. والثاني: سحر خيالي. وهذا لا يعني أن الساحر قادر على تغيير حقائق الأشياء، فهو لا يقدر على جعل الإنسان قرداً أو القرد بقرة مثلاً. والساحر ليس هو ولا سحره مؤثرين بذاتهما ولكن يؤثر السحر إذا تعلق به إذن الله القدري الكوني, وأما إذن الله الشرعي فلا يتعلق به البتة؛ لأن السحر مما حرمه الله ولم يأذن به شرعاً، قال تعالى: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ. وحكم الساحر: كافر خارج عن ملة الإسلام، والسحر: كفر مخرج عن ملة الإسلام، فهو من الكفر الأكبر الذي إن مات عليه لم يغفر له، وأحبط له عمله. وعليه، فالساحر يقتل مرتداً، وقد ثبت قتل الساحر عن عدد من أصحاب رسول الله عليه السلام، فقد صح عن أم المؤمنين حفصة (أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت)، وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة, فقتلنا ثلاث سواحر). وقد صح عن جندب بن عبد الله الأزدي مرفوعاً إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ((حد الساحر ضربة بالسيف)) وهو قول مالك وأحمد وأبي حنيفة وقال الشافعي: (يقتل إذا قتل به إنساناً). وقال أبو حنيفة: (يقتل إن تكرر منه السحر). وقتله عند مالك وأحمد وأبي حنيفة حد للمرتد، وعند الشافعي لا يقتل إلا إذا قتل به قصاصاً عن قتله لمعصوم، وأما كفره، فإن لم يصف كفراً ولا فعله فليس بكافر، مع العلم بأن الكل متفقون على أنه محرم، ومن كبائر الذنوب، بل من الموبقات، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر ... )) إلخ الحديث. هذا وقد كان سحر النبي عليه الصلاة والسلام من قبيل المرض المؤثر في البدن دون العقل الذي هو مناط التكليف، ولذا لما أمره جبريل وميكائيل أن يقرأ المعوذات الثلاث (سورة الإخلاص والفلق والناس) فهم عنهما وقرأ فأزال الله بذلك ما كان يشعر به. والصحيح الراجح من أقوال أهل العلم عندي: أن الساحر كافر بالله كما قال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة: 102]، ولولا أن تعلمه واستعماله كفر لما وجها له هذا التحذير. ويدخل في مسمى السحر ما يفعله بعض الناس مما يسمى خفة يد، والتنويم المغناطيسي، وما يسمى بتحضير الأرواح، وغيرها من أفعال الشعوذة والدجالين. وإذا كان السحر محرماً والساحر على الراجح كافراً فإن إتيانهم، وطلب عمل السحر أيضاً محرم، ومن يقصد الساحر كافر كفراً أصغر هو أعظم من كبائر الذنوب، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم شيئا من السحر قليلاً كان أو كثيراً كان آخر عهده من الله)) رواه عبد الرزاق، عن صفوان بن سليم، وهو مرسل (¬1). والسحر من الشرك لأنه لا يحصل إلا بالاستعانة بالشياطين، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)) رواه النسائي وحسنه ابن مفلح (¬2). المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 141 ¬

(¬1) [3697])) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (18753). (¬2) [3698])) رواه النسائي (7/ 112) , والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 127) , قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 551): [فيه] عباد المنقري هو ممن يكتب حديثه, وقال المزي في ((تهذيب الكمال)) (9/ 429): [فيه] عباد بن ميسرة قال يحيى بن معين ليس به بأس وقال أبو داود ليس بالقوي, وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 378): لا يصح للين عباد بن ميسرة وانقطاعه, وقال الألباني في ((ضعيف النسائي)): ضعيف لكن جملة التعليق ثبتت في الحديث.

الفرع الثاني: الكهانة

الفرع الثاني: الكهانة الكهانة هي طلب العلم بالمستقبل والإخبار عما في الضمير. فالكاهن مدع للعلم بالغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، كما قال سبحانه وتعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. وأما ما يتكلم به الكاهن فيقع كما أخبر فذلك سببه مسترق السمع من الشياطين الذي يلقي للكاهن ما استرقه ومعه تسعا وتسعين كذبة، فصارت نسبة إصابته الحق في حقه واحد إلى مائة مما يدل على أن إصابة الحق عنده ضعيفة جدا، بل بعيدة للغاية، وعندئذ فلا تكون إصابته لأنه عالم، بل لأنها وافقت ما في علم الله، وإلا فإنه رماها مع عدم علمه بأنها ستقع قطعاً. وعلى هذا، فالكاهن في إخباره عما يقع في المستقبل، أو في الضمير كاذب في ادعاء علمه، وهو يستغل البسطاء من الناس، ويسلب أموالهم بغير حق، وهو ينشر أنواع الشعوذات فيهم، ويجعلهم أكثر قابلية للدجل، والشعوذة والإيمان بالخرافة. ومن هنا حرمت الكهانة وما في معناها من العرافة وهي: الاستدلال على المسروق ببعض المقدمات، كأثر السارق، ورؤية محل السرقة، أو منديل السارق، أو نحو ذلك؛ لأنها من جنس الكهانة، وفيها ما فيها من معنى. والكاهن كافر بالله كفراً أكبر لادعائه علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ومن أتاه مصدقاً أنه يعلم الغيب كافراً كفراً أكبر، أما من لم يصدقه لكن حضر مكانه ليرى ما يفعله لا لقصد الشهادة عليه أو أمره بمعروف، أو نهيه عن منكر، أو حضر ليعمل بما أشار به لدعوى أنه لا ضرر فيه، فإن أفاد حصل المطلوب، وإن لم يحصل فلا ضرر؛ فإنه كافر كفراً أصغر، أكبر من كبائر الذنوب. قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) رواه أبو داود. وفي رواية للأربعة والحاكم: ((من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)). (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) رواه مسلم (¬2). هذا، ولأحمد رضي الله عنه فيمن أتى الكاهن فصدقه روايتان: إحداهما: أنه كفر أصغر ولعله الراجح. الثانية: التوقف مع تسميته كافراً كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم, فالتوقف في الحكم لا في التسمية، فلا يقال: ينقل عن الملة. ويلتحق بالكاهن حكماً به الرمال، والضرب بالحصى، وقراءة الكف، والفنجان، وقراءة الحروف الأبجدية، وقراءة البروج، وقراءة الخطوط ونحو ذلك مما انتشر في هذا العصر من أنواع الكهانة. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 143 ¬

(¬1) [3699])) رواه أبو داود (3904) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأتا حائضا أو أتى امرأتا في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (135) , وابن ماجه (639) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) (9017) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (1/ 49) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 227): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)). (¬2) [3700])) رواه مسلم (2230)

الفرع الثالث: النشرة

الفرع الثالث: النشرة قال ابن الأثير: (النشرة بالضم ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسًّا من الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي: يكشف ويزال)، والمراد بها هنا: هي حل السحر عن المسحور وهي نوعان: الأول: حل السحر عن المسحور بسحر مثله، وهو محرم، وهو كفر أصغر، وهو الذي قال فيه الحسن: (لا يحل السحر إلا الساحر) (¬1)، حيث يتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور. الثاني: حل السحر بالأدعية والرقى المباحة من القرآن والسنة، فهذا جائز. وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة، فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أحمد بسند جيد (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تداووا بحرام)) (¬3)، وقال: ((ما جعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها)) فحل السحر بالسحر من عمل الشيطان، وعمل الشيطان محرم، فلا يكون فيه شفاء وتوقع أن فيه شفاء عادة لم يجز؛ لأنه يحرم التداوي بالمحرمات، ولا يقال أن ذلك مما تمليه الضرورة؛ لأن محل الضرورة ما فيه نفع يدفعها، والسحر ليس كذلك كما دل عليه الحديث المتقدم. وإن قلنا: إن فيها نفعاً فإن محل الضرورة خوف الموت، والمسحور لا يموت بمجرد سحره حتى يقال إنه يحافظ على نفسه, كما أن تجويز إتيان السحر من أجل العلاج به يساعد على تعلمه وهو يحمل ضمناً تجويز تعلمه والعمل به, ويفتح الباب لكل شرير أن يسحر فيلجأ الناس إليه من أجل العلاج مما يزيد في شر السحرة وإفسادها, مع أن الشرع يحل دم الساحر ويدل على كفره – كما تقدم – وهذا الأمر مما ابتلي به كثير من الناس في عصرنا، فيكثر منهم من يذهب إلى السحر لحل ما أصابه من السحر عنه، مما جعل الناس يكثرون من لجوئهم إلى السحر سواء في العلاج، أو في طلب سحر الغير لحقد أو حسد أو بغضاء، مما زاد في الفساد وفتح باب الخرافة للناس. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 145 ¬

(¬1) [3701])) ((فتح الباري)) (10/ 233) , وانظر ((تغليق التعليق)) (3/ 243). (¬2) [3702])) رواه أبو داود (3868) , وأحمد (14167) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 351) , ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 40) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 351): روي مرسلاً وهو أصح, وقال النووي في ((المجموع شرح المهذب)) (9/ 67): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (¬3) رواه أبو داود (3874). وسكت عنه أبو داود. وقال الألباني في ((التعليقات الرضية)) (3/ 153): صحيح من حيث معناه لشواهده، وقال في ((مشكاة المصابيح)) (4464): إسناده ضعيف وشطره الأول صحيح لغيره. والحديث رواه الطبراني (24/ 254) بلفظ: ((خلق)) بدل ((أنزل)). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 86): رواه الطبراني ورجاله ثقات. وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) (1633).

الفرع الرابع: التنجيم

الفرع الرابع: التنجيم وهو في اللغة: طلب العلم بالنجوم فالتاء في لفظ التنجيم للطلب فهو تفعيل منه. وشرعاً: هو الاستدلال بالنجوم. والحكمة من خلق النجوم التي أخبرنا بها في كتابه الكريم هي: 1 - علامات على الجهات التي تعرف بها الجهات الأصلية والفرعية. 2 - يهتدي بها المسافر إلى جهات البلدان؛ لمعرفة طرقها, أو أماكن وجودها، قال تعالى: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. 3 - زينة للسماء الدنيا. 4 - رجوماً للشياطين المسترقين للسمع بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وعليه فمن ادعى لها فائدة غير هذه طولب بالدليل الشرعي على ذلك، ولا يقر على شيء مما يقول حتى يقيمه بلا شبهة إذ لا يترك ما دل عليه كتاب الله لقول قائل كائناً من كان. والتنجيم على قسمين: الأول: علم تأثير: وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية, بأن تجعل أسباباً مؤثرة أو مقارنة لها، فإن اعتقد أنها الفاعلة أو المؤثرة، سواء بنفسها أو ادعى أنها مؤثرة بإذنه تعالى فهو مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن ملة الإسلام. وإن اعتقد أنها مقارنة للحوادث الأرضية لا تفارقها فهو مشرك شركاً أصغر، ينافي كمال التوحيد، وذلك لأن اعتقاد أن الشيء سبب مؤثر أو مقارنة أمر شرعي فلابد من ثبوت السببية شرعاً أو عادة وهي منفية هنا فدعواها قول على الله بغير علم. الثاني: علم تسيير: وهو الاستدلال بها على الجهات، ومواقع البلدان، ونحو ذلك، فهو جائز لا محظور فيه ومنه: حساب التقاويم، ومعرفة بروج الشتاء والصيف، وأوقات التلقيح، والتأبير، والأمطار، وهبوب الرياح وصلاح الثمار، وتهيج العلل. والأمراض، ونحو ذلك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)) رواه أبو داود، وإسناده صحيح (¬1). فالمراد به القسم الأول؛ لأن المعروف من حال المنجم هو الاستعانة بالشياطين واعتقادهم ما يعتقده الصابئة من أن النجوم ذوات أرواح فاعلة، فيستعينون بالشياطين في قضاء أمورهم، وبناء عليه اعتبر نوعاً من السحر. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 146 (ينظر الفصل الثاني، من الباب الخامس، في الكتاب التاسع من الموسوعة) ¬

(¬1) [3704])) رواه أبو داود (3905) , وابن ماجه (3726) , وأحمد (1/ 227) (2000) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 138) , والطبراني (11/ 135) , كلهم رووه بلفظ: ((من اقتبس علماً من النجوم)) بدلاً من ((من اقتبس شعبةً من النجوم)) , والحديث سكت عنه ابو داود, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 193) , والنووي في ((رياض الصالحين)) (536) , والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/ 144) , وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 312) قالوا: إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)).

الفصل الثالث: وسائل الشرك

تمهيد: الوسائل: جمع وسيلة، وهي: ما أدى إلى غيره. ولذا فقد تقرر شرعاً أن ما كان وسيلة لمحرم فهو محرم، وما كان وسيلة لواجب فهو واجب، وما كان وسيلة لسنة فهو سنة، وما كان وسيلة لمكروه فهو مكروه، وما كان وسيلة إلى مباح فهو مباح. فكذلك ما كان وسيلة لشرك فهو شرك. وبذا يتبين أن خطر الوسيلة تبعاً لخطر ما تؤدي إليه، وإن أخطر الوسائل ما أدت إلى الشرك بالله لأنه أعظم ذنب عصي الله به. من هنا تأتي أهمية معرفة وسائل الشرك المؤدية إليه، وقيمة العلم بها وبأحكامها، ولما كانت وسائل الشرك كثيرة غير محصورة، كان التعرض لأكثرها انتشاراً وأعظمها خطراً أمراً متعيناً علماً بها، وتنبيهاً على غيرها المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 165 ولما كان الشرك الأكبر أعظم ذنب عصي الله به؛ حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كل قول أو فعل يؤدي إليه، أو يكون سبباً في وقوع المسلم فيه. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية أمته، وسلامتها من كل ما يكون سبباً في هلاكها، كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]. وقال أبو ذر رضي الله عنه: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا بين لكم)) (¬1). وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يحجزهن، ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحمون فيها)) (¬2) رواه البخاري ومسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد من كل ما يهدمه أو ينقصه حماية محكمة، وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك ولو من بعيد؛ لأن من سار على الدرب وصل؛ ولأن الشيطان يزين للإنسان أعمال السوء، ويتدرج به من السيء إلى الأسوأ شيئاً فشيئاً حتى يخرجه من دائرة الإسلام بالكلية – إن استطاع إلى ذلك سبيلاً – فمن انقاد له واتبع خطواته خسر الدنيا والآخرة. ولذلك لما عصى كثير من المسلمين نبيهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بفعل بعض الأمور التي نهاهم عنها وحذرهم منها، واتبعوا خطوات الشيطان الذي زين لهم الباطل ودعاهم إليه حتى ظنوا أنهم على الحق مع مخالفتهم ومعصيتهم الصريحة للنبي صلى الله عليه وسلم أدى بهم ذلك إلى الوقوع في الشرك الأكبر المخرج من الملة. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين– ص: 273 ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (2/ 155). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 266): رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1803): إسناده صحيح رجاله ثقات. (¬2) رواه البخاري (3426)، ومسلم (2284)

المبحث الأول: التوسل

المطلب الأول: تعريف التوسل لفظة (التوسل) لفظة عربية أصيلة، وردت في القرآن والسنة وكلام العرب من شعر ونثر، وقد عني بها: التقرب إلى المطلوب، والتوصل إليه برغبة، قال ابن الأثير في (النهاية): (الواسل: الراغب، والوسيلة: القربة والواسطة، وما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل) وقال الفيروز أبادي في (القاموس): (وسل إلى الله تعالى توسيلاً: عمل عملاً تقرب به إليه كتوسل) وقال ابن فارس في (معجم المقاييس): (الوسيلة: الرغبة والطلب، يقال: وسل إذا رغب، والواسل: الراغب إلى الله عز وجل، وهو في قول لبيد: أرى الناس لا يدرون ما قدْرُ أمرهم بلى، كل ذي دين إلى الله واسلُ). وقال الراغب الأصفهاني في (المفردات): (الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة، لتضمنها لمعنى الرغبة، قال تعالى: وابتغوا إليه الوسيلة، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى: مراعاة سبيله بالعمل والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، والواسل: الراغب إلى الله تعالى). وقد نقل العلامة ابن جرير هذا المعنى أيضاً وأنشد عليه قول الشاعر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل هذا وهناك معنى آخر للوسيلة هو المنزلة عند الملك، والدرجة والقربة، كما ورد في الحديث تسمية أعلى منزلة في الجنة بها، وذلك هو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (¬1). وواضح أن هذين المعنيين الأخيرين للوسيلة وثيقا الصلة بمعناها الأصلي، ولكنهما غير مرادين في بحثنا هذا. معنى الوسيلة في القرآن: إن ما قدمته من بيان معنى التوسل هو المعروف في اللغة، ولم يخالف فيه أحد، وبه فسر السلف الصالح وأئمة التفسير الآيتين الكريمتين اللتين وردت فيهما لفظة (الوسيلة)، وهما قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 35]. وقوله سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57]. فأما الآية الأولى، فقد قال إمام المفسرين الحافظ ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: (يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم، ووعد من الثواب، وأوعد من العقاب. اتقوا الله يقول: أجيبوا الله فيما أمركم، ونهاكم بالطاعة له في ذلك. وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ: يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه). ونقل الحافظ ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن: معنى الوسيلة فيها القربة، ونقل مثل ذلك عن مجاهد وأبي وائل والحسن وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، ونقل عن قتادة قوله فيها: (أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه) ثم قال ابن كثير: (وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه .. والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود) (¬2) وأما الآية الثانية فقد بين الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مناسبة نزولها التي توضح معناها فقال: (نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون) (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم (384). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 52 - 53). (¬3) رواه مسلم (3030).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (¬1): (أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك، لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهذا هو المعتمد في تفسير الآية). ... وهي صريحة في أن المراد بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله تعالى، ولذلك قال: يبتغون أي يطلبون ما يتقربون به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة، وهي كذلك تشير إلى هذه الظاهرة الغريبة المخالفة لكل تفكير سليم، ظاهره أن يتوجه بعض الناس بعبادتهم ودعائهم إلى بعض عباد الله، يخافونهم ويرجونهم، مع أن هؤلاء العباد المعبودين قد أعلنوا إسلامهم، وأقروا لله بعبوديتهم، وأخذوا يتسابقون في التقرب إليه سبحانه، بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، ويطمعون في رحمته، ويخافون من عقابه، فهو سبحانه يُسَفه في هذه الآية أحلام أولئك الجاهلين الذين عبدوا الجن، واستمروا على عبادتهم مع أنهم مخلوقون عابدون له سبحانه، وضعفاء مثلهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وينكر الله عليهم عدم توجيههم بالعبادة إليه وحده، تبارك وتعالى، وهو الذي يملك وحده الضر والنفع، وبيده وحده مقادير كل شيء وهو المهيمن على كل شيء. التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد ناصر الدين الألباني – بتصرف - ص10 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (10/ 12 - 13).

المطلب الثاني: أنواع التوسل

الفرع الأول: التوسل المشروع 1 - التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا: كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير أن تعافيني. أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي. ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبك لمحمد صلى الله عليه وسلم. فإن الحب من صفاته تعالى. ودليل مشروعية هذا التوسل قوله عز وجل: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 18] , والمعنى: ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى. ولا شك أن صفاته العليا عز وجل داخلة في هذا الطلب، لأن أسماءه الحسنى سبحانه صفات له، خصت به تبارك وتعالى. ومن ذلك ما ذكره الله تعالى من دعاء سليمان عليه السلام حيث قال: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19]. ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أدعيته الثابتة عنه قبل السلام من صلاته صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي .. )) (¬1). ومنها أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول في تشهده: ((اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم فقال صلى الله عليه وسلم قد غفر له قد غفر له)) (¬2). ¬

(¬1) رواه النسائي (3/ 55) وأحمد (4/ 264) (18351) وابن حبان (5/ 304) والحاكم (1/ 705) وأبو يعلى (3/ 195) من حديث عمار بن ياسر, قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 177): رجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب اختلط, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (8/ 356): مأثور وقد روي هذا اللفظ من وجه آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم – أظنه من رواية زيد بن ثابت, وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/ 333): رجال إسناده ثقات, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1301). (¬2) رواه أبو داود (985) والنسائي (3/ 52) (1301) وأحمد (4/ 338) (18995) والطبراني (20/ 296) والحاكم (1/ 400) من حديث محجن بن الأدرع, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً آخر يقول في تشهده: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم - وفي رواية (الأعظم) - الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)) (¬1). ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من كثر همه فليقل: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحد من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا)) (¬2). ومنها ما ورد في استعاذته صلى الله عليه وسلم وهي قوله: ((اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني .. )) (¬3). ومنها ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان إذا حزبه - أي أهمه وأحزنه- أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)) (¬4). فهذه الأحاديث وما شابهها تبين مشروعية التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه أو صفه من صفاته، وأن ذلك مما يحبه الله سبحانه ويرضاه، ولذلك استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 8] , فكان من المشروع لنا أن ندعوه سبحانه بما دعاه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فذلك خير ألف مرة من الدعاء بأدعية ننشئها، وصيغ نخترعها. ¬

(¬1) رواه أبو داود (1495) والترمذي (3544) والنسائي (3/ 52) (1300) وابن ماجه (3858) وأحمد (3/ 158) (12632) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث غريب من حديث ثابت عن أنس وقد روي من غير هذا الوجه عن أنس, وقال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/ 411): (فيه) سعيد بن زربي عامة حديثه لا يتابع عليه, وقال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (2/ 749): (فيه) سعيد بن زربي متروك الحديث, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 159): رجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلس وإن كان ثقة , وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬2) رواه أحمد (1/ 391) (3712) والطبراني (10/ 169) وابن حبان (3/ 253) والحاكم (1/ 690) قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 189): رجاله رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان , وصححه ابن القيم في ((شفاء العليل)) (2/ 749) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 267)) إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (199). (¬3) رواه البخاري (7383) ومسلم (2717) من حديث ابن عباس. (¬4) [3716])) رواه الترمذي (3524) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 147) والحاكم (1/ 730) قال الترمذي هذا حديث غريب, وقال الحاكم حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 313): إسناده صحيح, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 120): رجاله رجال الصحيح غير عثمان بن موهب وهو ثقة , وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

2 ـ التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي: كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك اغفر لي .. أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد صلى الله عليه وسلم وإيماني به أن تفرج عني .. ومنه أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بالٍ، فيه خوفه من الله سبحانه، وتقواه إياه، وإيثاره رضاه على كل شيء، وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه، ليكون أرجى لقبوله وإجابته. وهذا توسل جيد وجميل قد شرعه الله تعالى وارتضاه، ويدل على مشروعيته قوله تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 16] , وقوله: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] , وقوله: رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 193 - 194] ,. وقوله: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 109] , وأمثال هذه الآيات الكريمات المباركات. وكذلك يدل على مشروعية هذا النوع من التوسل ما رواه بريدة بن الحٌصَيب رضي الله عنه حيث قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: ((اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال: قد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)) (¬1). ¬

(¬1) [3717])) رواه أبو داود (1493) والترمذي (3475) وابن ماجه (3847) وأحمد (5/ 350) (23015) وابن حبان (3/ 173) والحاكم (1/ 683) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 395) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب, وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وله شاهد على شرط مسلم, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي))

ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار، كما يرويها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم))، وفي رواية لمسلم: فقال بعضهم لبعض: ((انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله، فادعوا الله بها، لعل الله يفرجها عنكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبُقُ (¬1) قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب شيء (وفي رواية لمسلم: الشجر) يوماً، فلم أرحْ عليهما (¬2)، حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سَنَة (¬3) من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض -وفي رواية لمسلم-: يا عبد الله اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ لي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله! لا تستهزئ بي. فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)) (¬4). ¬

(¬1) الغبوق: هو الذي يشرب العشي، ومعناه: كنت لا أقدم عليهما في شرب اللبن أهلا ولا غيرهم (¬2) المراح: موضع مبيت الماشية، والمعنى: لم أرد الماشية من المرعى إلى حظائرها. (¬3) السنة: العام المقحط الذي لم تنبت الأرض فيه شيئاً، سواء نزل غيث أم لم ينزل. (¬4) [3721])) رواه البخاري (2272) ومسلم (2743).

ويتضح من هذا الحديث أن هؤلاء الرجال المؤمنين الثلاثة حينما اشتد بهم الكرب، وضاق بهم الأمر، ويئسوا من أن يأتيهم الفرج من كل طريق إلا طريق الله تبارك وتعالى وحده، فلجئوا إليه، ودعوه بإخلاص واستذكروا أعمالاً لهم صالحة، كانوا تعرفوا فيها إلى الله في أوقات الرخاء، راجين أن يتعرف إليهم ربهم مقابلها في أوقات الشدة، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه: (( .. تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) (¬1) فتوسلوا إليه سبحانه بتلك الأعمال؛ توسل الأول ببره والديه، وعطفه عليهما، ورأفته الشديدة بهما حتى كان منه ذلك الموقف الرائع الفريد، وما أحسب إنساناً آخر، حاشا الأنبياء ـ يصل بره بوالديه إلى هذا الحد. وتوسل الثاني بعفته من الزنى بابنة عمه التي أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء بعدما قدر عليها، واستسلمت له مكرهة بسبب الجوع والحاجة، ولكنها ذكرته بالله عز وجل، فتذكر قلبه، وخشعت جوارحه، وتركها والمال الذي أعطاها. وتوسل الثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته التي كانت فَرَقاَ (¬2) من أرز كما ورد في رواية صحيحة للحديث وذهب، فنماها له صاحب العمل، وثمرها حتى كانت منها الشاه والبقر والإبل والرقيق، فلما احتاج الأجير إلى المال ذكر أجرته الزهيدة عند صاحبه، فجاءه وطالبه بحقه، فأعطاه تلك الأموال كلها، فدهش وظنه يستهزئ به، ولكنه لما تيقن منه الجد، وعرف أنه ثمرَّ له أجره حتى تجمعت منه تلك الأموال، استاقها فرحاً مذهولاً، ولم يترك منها شيئاً. وأيْم الله إن صنيع رب العمل هذا بالغ حد الروعة في الإحسان إلى العامل، ومحقق المثل الأعلى الممكن في رعايته وإكرامه، مما لا يصل إلى عشر معشاره موقف كل من يدعي نصرة العمال والكادحين، ويتاجر بدعوى حماية الفقراء والمحتاجين، وإنصافهم وإعطائهم حقوقهم، دعا هؤلاء الثلاثة ربهم سبحانه متوسلين إليه بهذه الأعمال الصالحة أي صلاح، والمواقف الكريمة أي كرم، معلنين أنهم إنما فعلوها ابتغاء رضوان الله تعالى وحده. ¬

(¬1) [3722])) رواه أحمد (1/ 307) (2804) والطبراني (11/ 223) والحاكم (3/ 623) والحديث حسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 327) وقال ابن رجب في ((رسائل ابن رجب)) (3/ 91): إسناده حسن لا بأس به, وقال الصنعاني في ((سبل السلام)) (4/ 267): إسناده حسن, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 287): إسناده حسن, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2961) (¬2) مكيال تقدر سعته بثلاثة آصع

لم يريدوا بها دنيا قريبة أو مصلحة عاجلة أو مالاً، ورجوا الله جل شأنه أن يفرج عنهم ضائقتهم، ويخلصهم من محنتهم، فاستجاب سبحانه دعاءهم، وكشف كربهم، وكان عند حسن ظنهم به، فخرق لهم العادات وأكرمهم بتلك الكرامة الظاهرة، فأزاح الصخرة بالتدرج على مراحل ثلاث، كلما دعا واحد منهم تنفرج بعض الانفراج حتى انفرجت تماماً مع آخر دعوة الثالث بعد أن كانوا في موت محقق. ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يروي لنا هذه القصة الرائعة التي كانت في بطون الغيب، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ليذكرنا بأعمال فاضلة مثالية لأناس فاضلين مثاليين من أتباع الرسل السابقين، لنقتدي بهم، ونتأسى بأعمالهم، ونأخذ من أخبارهم الدروس الثمينة، والعظات البالغة. ولا يقولن قائل: إن هذه الأعمال جرت قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا تنطبق علينا بناء على ما هو الراجح في علم الأصول أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا. لأننا نقول: إن حكاية النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الحادثة إنما جاءت في سياق المدح والثناء، والتعظيم والتبجيل، وهذا إقرار منه صلى الله عليه وسلم بذلك، بل هو أكثر من إقرار لما قاموا به من التوسل بأعمالهم الصالحة المذكورة، بل إن هذا ليس إلا شرحاً وتطبيقاً عملياً للآيات المتقدمة، وبذلك تتلاقى الشرائع السماوية في تعاليمها وتوجيهاتها، ومقاصدها وغاياتها، ولا غرابة في ذلك، فهي تنبع من معين واحد، وتخرج من مشكاة واحدة، وخاصة فيما يتعلق بحال الناس مع ربهم سبحانه، فهي لا تكاد تختلف إلا في القليل النادر الذي يقتضي حكمة الله سبحانه تغييره وتبديله. 3 - التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح:

كأن يقول المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى، فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ربه، ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه. فهذا نوع آخر من التوسل المشروع، دلت عليه الشريعة المطهرة، وأرشدت إليه، وقد وردت أمثلة منه في السنة الشريفة، كما وقعت نماذج منه من فعل الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: ((أصاب الناس سنَة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب (على المنبر) قائماً في يوم الجمعة، قام (وفي راوية: دخل) أعرابي (من أهل البدو) (من باب كان وجَاه المنبر) (نحو دار القضاء ورسول الله قائم، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً) فقال: يا رسول الله! هلك المال، وجاع (وفي رواية: هلك) العيال (ومن طريق أخرى: هلك الكُراع، وهلك الشاء) (وفي أخرى هلكت المواشي، وانقطعت السبل (فادعُ الله لنا) أن يَسْقِيَنا () وفي أخرى: يُغيثنا (فرفع يديه يدعو) حتى رأيت بياض إبطه (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا (، ورفع الناس أيديهم معه يدعون (ولم يذكر أنه حوَّل رداءه، ولا استقبل القبلة) ولا والله (ما نرى في السماء) من سحاب ولا) قزعة (ولا شيئاً، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار) (وفي رواية: قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة) (قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت) فو الذي نفسه بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطرَ يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم (وفي رواية: فهاجت ريح أنشأت سحاباً، ثم اجتمع، ثم أرسلت السماءُ عزاليها (ونزل عن المنبر فصلى) (فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا) (وفي رواية: حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله) فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى (ما تقلع) (حتى سالت مثاعب المدينة) (وفي رواية: فلا والله ما رأينا الشمس ستاً) وقام ذلك الأعرابي أو غيره وفي رواية: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً (فقال: يا رسول الله تهدم البناء) وفي رواية: تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي) وفي طريق: بشَق المسافر، ومُنع الطريق (وغرق المال، فادع الله) يحبسه (لنا) فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم (فرفع يده، فقال: اللهم حوالينا ولا علينا،) اللهم على رؤوس الجبال والآكام) والظراب (وبطون الأودية ومنابت الشجر (فما) جعل) يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت مثل الجوْبَة، (وفي رواية: فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة (يميناً وشمالاً) كأنه إكليل) (وفي أخرى: فانْجابَتْ) عن المدينة انجياب الثوب) (يمطر ما حولينا ولا يمطر فيها شيء (وفي طريق: قطرة) (وخرجنا نمشي في الشمس) يريهم الله كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجابة دعوته)، وسال الوادي (وادي) قناة شهراً، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود)) (¬1). ¬

(¬1) [3724])) قال الألباني في ((التوسل)) (ص40) , رواه البخاري وقد أوردته هكذا في مختصري له (1/ 224 - 226 رقم 497) جامعا بين طرقه ورواياته المختلفة الواردة في مواضع شتى.

ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقَون)) (¬1). ومعنى قول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، أننا كنا نقصد نبينا صلى الله عليه وسلم ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله بدعائه، والآن وقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس، ونطلب منه أن يدعوَ لنا، وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم: (اللهم بجاه نبيك اسقنا)، ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: (اللهم بجاه العباس اسقنا)، لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، ولم يفعله أحد من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم ... ، ومن ذلك أيضاً ما رواه الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في (تاريخه) (18/ 151/1) بسند صحيح عن التابعي الجليل سليم ابن عامر الخبَائري: (أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم) (¬2). وروى ابن عساكر أيضاً بسند صحيح أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضاً: قم يا بكاء! زاد في رواية: (فما دعا إلا ثلاثاً حتى أمطروا مطراً كادوا يغرقون منه) (¬3). فهذا معاوية رضي الله عنه أيضاً لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما سبق بيانه، وإنما يتوسل بهذا الرجل الصالح: يزيد بن الأسود رحمه الله تعالى، فيطلب منه أن يدعو الله تعالى، ليسقيهم ويغيثهم، ويستجيب الله تبارك وتعالى طلبه. وحدث مثل هذا في ولاية الضحاك بن قيس أيضاً. التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد بن ناصر الدين الألباني - بتصرف - ص38 ¬

(¬1) [3725])) رواه البخاري (1010). (¬2) [3726])) أورده الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (2/ 178) , قال الألباني في ((التوسل)) (41): إسناده صحيح. (¬3) [3727])) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 366) , وابن أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (2/ 461) , واللالكائي في ((كرامات الأولياء)) (1/ 190).

الفرع الثاني: التوسل الممنوع

الفرع الثاني: التوسل الممنوع • الوجه الأول: التوسل إليه تعالى بذات وشخص المتوسل به .. • الوجه الثاني: التوسل إلى الله تعالى بجاه فلان, أو حقه, أو حرمته وما أشبه. • الوجه الثالث: الإقسام على الله جل وعلا بالمتوسل به.

الوجه الأول: التوسل إليه تعالى بذات وشخص المتوسل به.

الوجه الأول: التوسل إليه تعالى بذات وشخص المتوسل به. إن التوسل بذات وشخص المتوسل به إلى الله تعالى، عمل غير شرعي لأنه لم يأمر به الله، ولا بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم. على أن التوسل بذات الشخص بدون متابعة للعمل الذي كان يعمله، فبلغ به المنزلة الطيبة عند الله، إنما هو عمل قد ذمه الله تعالى لما وصف توسل المشركين فقال حاكياً عنهم: أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزُّمر: 3]. فالتوسل بالعبد الصالح من غير متابعة له في الأعمال الصالحة لا يجوز أن يكون وسيلة. فهذا التزلف بذوات الأشخاص رده الله سبحانه ولم يقبله. وإنه تعالى قد عاب عليهم في هذه الآية أمرين اثنين: عاب عليهم عبادة الأولياء من دونه، وعاب عليهم، محاولتهم القربى والزلفى إليه تعالى بالأشخاص والعباد المخلوقين. فكلا الأمرين في الآية، عيب وذنب. وكلاهما باطل وكذب وضلال وقال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آَمِنُونَ [سبأ: 37]. أي إن الذين يقربون عند الله درجات، ومنازل عظيمة والذين تضاعف لهم حسناتهم إنما تضاعف بأعمالهم لا بالجاهات ولا الوساطات. قول ابن تيمية رحمه الله: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل بغير ذلك: فأجاب رحمه الله: (الحمد لله رب العالمين: إن أراد بذلك أنه لابد من واسطة يبلغنا أمر الله فهذا حق. فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه، وما أعده لأوليائه من كرامته، وما وعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى عباده. فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى، ويرفع درجاتهم، ويكرمهم في الدنيا والآخرة. وأما المخالفون للرسل، فإنهم ملعونون، وهم عن ربهم ضالون محجوبون). ثم قال: (وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة في جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم وهداهم، ويسألونه ذلك، ويرجعون إليه فيه فهو من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء شفعاء، يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار). اهـ. قول أبي حنيفة رحمه الله: قال في الدر المختار: (وفي التتارخانية معزياً للمنتقى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. والدعاء المأذون فيه المأمور به: ما استفيد من قوله تعالى: وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]) ...

الوجه الثاني: التوسل إلى الله تعالى بجاه فلان, أو حقه, أو حرمته وما أشبه

الوجه الثاني: التوسل إلى الله تعالى بجاه فلان, أو حقه, أو حرمته وما أشبه أما التوسل إلى الله تعالى: بجاه أو بحرمة المتوسل به .. فهذا عمل لم يشرعه الله ولم يبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أمر به، ولا حض عليه، ولم يصل إلينا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم. وإننا نوجه سؤالاً للذين يستحلون هذا النوع من التوسل فنقول: إن هذا الذي تسألون الله بجاهه أو بحرمته عنده، كيف تكون له هذا الجاه والحرمة، وتلك المنزلة الطيبة عنده سبحانه؟ أليس هذا كله، من طاعته لربه وتنفيذه لأوامره، وتركه لنواهيه، وفعله الخيرات، وجهاده في سبيل الله, ونشره الدعوة بين الناس، وصبره على الأذى في سبيلها ... ؟ أليس كذلك ... ؟ ولولا أن يفعل هذا ... ما كان له ذلك الجاه ولا الحرمة ولا تلك المنزلة العالية. فإذا كان الأمر كذلك ... فهل لكم من أعماله تلك أي سهم أو نصيب ... ؟ ستقولون: لا ... إن عمله له وليس لأحد أي نصيب منه، فأقول: هذا هو القول الحق بارك الله فيكم, فما دمتم تعلمون أن كل هذه المكانة والحرمة متأتية له من سعيه، ومتأكدون أن سعيه له، وليس لكم فيه من حق ... فكيف إذاً تتوسلون إلى الله بجاه لا تملكونه، وحرمة ليس لكم فيها أية علاقة، ومكانة اختصه الله بها وليس لكم منها مثقال ذرة ... ؟ والله سبحانه وتعالى قرر في كتاب العزيز: وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى [النجم: 39 - 40]. إذاً فالذي ليس من سعيكم ليس لكم فيه من نصيب ... فتوسلكم بجاهه, أو بحرمته, أو منزلته مخالف لما قال سبحانه من الآية المتقدمة، وليس لكم أن تفعلوا ذلك. وبناء على ما تقدم، فإن كل توسل إلى الله بما لم يشرع ... غير مقبول ومردود .. لأنه ليس مطابقاً لما أمر الله وشرع. هذا عدا عن أن مخالفة أمر الله يترتب عليها عقاب, لأن مخالفة أمر الله ذنب، ولكل ذنب عقاب. فما رأيكم بعمل تعملونه ... وتظنون أنه قربى إلى الله وفي الواقع ليس هو قربى ... بل ذنب يستحق أن تتوبوا منه أو تعاقبوا عليه ... فلا أنتم منه تتوبون أو تستغفرون، ولا أنتم عنه راجعون، فتكررون الذنب ولا تستغفرون, ويتراكم ولا تشعرون, وتحسبون أنكم بعملكم هذا تحسنون صنعاً ... !!! فأطعتم الشيطان ... ! وعصيتم الرحمن!!! ولكن بعد أن وضح الحق ... هل أنتم منتهون؟ وإذا كان هناك رجال صالحون، قبضهم الله إليه، ومضوا إلى ما عملوا من خير وصلاح ... فهم – إن شاء الله – في بحبوحة من رحمة الله ومغفرته، ورحاب فسيحة من رضاه وعفوه وكرمه، فليس لأحد أن يتوسل إلى الله بصلاحهم ... لأن صلاحهم من سعيهم، لا من سعي المتوسلين بهم. قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله: (ليس لأحد أن يدل على الله بصلاح سلفه، فإنه ليس صلاحهم من عمله الذي يستحق به الجزاء، كأهل الغار الثلاثة، فأنهم لم يتوسلوا إلى الله بصلاح سلفهم، وإنما توسلوا إلى الله بأعمالهم) اهـ. ولماذا لا تعملون صالحاً كما عملوا .. وتتوسلون بأعمالكم الصالحة كما توسلوا .. فتكتب لكم في صحائفكم، وتتقربون بها إلى الله وتتوسلون، كما فعل السلف الصالح ممن سبقكم ... أما سمعتم الشاعر يقول: لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الآباء نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني، ونفعل مثلما فعلوا وقال شارح العقيدة الطحاوية رحمه الله: (ولا مناسبة بين ذلك –أي صلاح المتوسل به- وبين استجابة الدعاء، فكأن المتوسل يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعاي! وأي مناسبة في هذا ... وأي ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء وقد قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ [الأعراف: 55]. وهذا ... ونحوه من الأدعية المبتدعة. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن الأئمة رضي الله عنهم أجمعين، وإنما يوجد مثل هذا .. في الحروز والهياكل – أي التمائم – التي يكتب بها الجهال والطرقية, والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والإتباع، لا على الهوى والابتداع).

الوجه الثالث: الإقسام على الله جل وعلا بالمتوسل به

الوجه الثالث: الإقسام على الله جل وعلا بالمتوسل به الأصل في القسم أو الحلف، أن يكون بالله تعالى، لأنه عبادة، ومعلوم أن العبادة لا يجوز أن تصرف إلا لله عز وجل، ولذا فإنه لا يجوز القسم أو الحلف بغيره سبحانه. وقد ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) (¬1) وفي لفظ: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححوه (¬2). فإذا فهم هذا ... فيتعين أنه لا يجوز الحلف بمخلوق على مخلوق، فكيف يجوز الحلف بالمخلوق على الخالق .. !؟ كأن يقول مثلاً: اللهم إني أقسمت عليك بفلان أو أسألك بحق فلان أن تقضي حاجتي ... قد يتأثر المخلوق إذا أقسمت عليه بعظيم أو مكرم لديه ... فيتحول عن عزمه الذي كان عازماً على فعله ... إلى مرادك الذي أقسمت عليه بأن يلتزم به ... أما الله سبحانه، فلا أحد يستطيع أن يحول مراده أو يؤثر عليه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: 88]. أي هو السيد العظيم الذي لا أعظم منه أحد الذي له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه، الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فمن كان هذا شأنه، كيف تقسم عليه بمخلوق؟ ألا إن شأن الله أعظم من ذلك، وإن الله تعالى جده وتقدست أسماؤه، وجلت صفاته، هو الذي يقسم به على مخلوقاته، لا أن يقسم عليه بمخلوقاته. ألا ترى معي يا أخي المسلم، أن الإقسام على الله بمخلوقاته ليس شركاً فحسب .. بل هو تقرب إلى الله بالشرك به ... !!! والمفروض بالتقرب ... أن يكون بشيء يرضي المتقرب منه ... ولا يفكر عاقل بأن يتقرب إلى أحد بما يكره. وإن هؤلاء الذين يقسمون على الله بمخلوقاته يتقربون إلى ربهم بذلك .. والله سبحانه لا يرضيه أن يشرك به عباده ... فضلاً عن أن يتقربوا إليه بهذا الشرك وما أدري إذا كان هؤلاء يدرون ما يفعلون أو لا يدرون ... !!!؟ فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم ثم نسأل: إذا كان الحلف عبادة ... هل المحلوف به أعظم، أم المحلوف عليه أعظم ... ؟ سيقولون بل المحلوف به أعظم ... فإذا كان المحلوف به أعظم فعندما نحلف على الله بأحد خلقه ... من يكون هنا المحلوف عليه ... ؟!!! سيقولون: المحلوف به هو المخلوق والمحلوف عليه هو الله الخالق. فنقول: أرأيتم كيف جعلتم المخلوق أعظم عندكم من الخالق ... ؟!!! نعوذ بالله من الشرك والكفر وسوء المنقلب في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) رواه البخاري (6646). (¬2) رواه أبو داود (3251) والترمذي (1535) وأحمد (2/ 125) (6073) وابن حبان (10/ 199) والحاكم (4/ 330) من حديث عبد الله بن عمر, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن, وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي, وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 459) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

أرأيت يا أخي المسلم كيف يستولي الشيطان على هؤلاء فيريهم الحق باطلاً والباطل حقاً ... ؟ أرأيت يا أخي إلى أية هاوية يريد الشيطان أن يرديهم فيها.؟ ترى هل شعروا بهمز الشيطان ونفخة ونفثه يسري في كيانهم كما يسري السم في الجسد ... ؟ وهل سيظلون هكذا طائعين منقادين كالأنعام إلى جهنم وبئس المصير ... أسيظلون هكذا ... أم يفلتون من حبال عدوهم ويهربون إلى ربهم تائبين منيبين إليه، يذرفون دموع الندم ويرجون من الله رحمة ومغفرة ... والله إن فعلوا ... لوجدوا الله تواباً رحيماً. فبادروا يا رعاكم الله إلى كنف التواب الرحيم، تلقوا عفوه وكرمه ورضوانه رغم ما أسلفتم من الذنوب والآثام قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزُّمر: 53]. وإن الكريم سبحانه لا يغفر ذنوبكم فحسب بل يبدلها حسنات، وهذا جزاء التائبين المستغفرين المؤمنين العاملين. اسمعوا قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70]. وقد أنحى العلماء باللائمة على من يقسم بالمخلوق، وأقاموا النكير عليه, وحذروا منه أشد التحذير، لما فيه من المساس بالألوهية والعياذ بالله تعالى. قال شارح العقيدة الطحاوية: (وإن الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور، لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز فكيف على الخالق؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (¬1) ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك. حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لما بلغه الأثر فيه (¬2) , كما أن القول بجاه فلان عندك, أو نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك. ومراده أن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضاً محذور فإنه لو كان هذا، هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته. وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره. فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه – لما خرجوا يستسقون -: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه: بدعائه الله لنا، وشفاعته عنده، وليس المراد أنا نقسم عليك به, أو نسألك بجاهه عندك, إذ لو كان ذلك مراداً، لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس). اهـ ويروى ... أن داود عليه السلام قال: ((اللهم إني أسألك بحق آبائي عليك, فأوحى إليه: وما حق آبائك علي؟)) (¬3). وقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي: ¬

(¬1) رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللفظ له، وأحمد (2/ 125) (6072). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث حسن. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (735) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وأحمد شاكر في ((المسند)) (8/ 222). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) قال الزيلعي في ((نصب الراية)) (4/ 273) هو حديث مرفوع موضوع. (¬3) قيل إنه ضعيف وقد رويناه بصيغة التمريض للدلالة على ضعفه، وذكرناه اسئناسا للمناسبة مع بيان ضعفه.

(قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: أسألك بمعاقد العز من عرشك. وأن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام) قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله، فمنكرة لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق له على خلقه). وفي قوله له: (المسألة بخلقه لا تجوز: لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز، يعني: وفاقاً). وقال ابن بلدجي في شرح المختار: (ويكره أن يدعو الله إلا به. ولا يقول: أسألك بملائكتك أو أنبيائك، أو نحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه). وقال نعمان خير الدين الحنفي في (جلا العينين) وذكر العلائي في شرح التنوير عن التتارخانية: أن أبا حنيفة قال: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به). وجميع متون الحنفية أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء وبحق البيت الحرام، مكروه كراهة تحريم، وهي كالحرام في العقوبة بالنار اهـ. التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع لمحمد نسيب الرفاعي - بتصرف – ص: 186 وللتوسل غير المشروع (البدعي) صور متعددة، ومنها: 1 - التوسل إلى الله بدعاء الموتى أو الغائبين، والاستغاثة بهم ونحو ذلك، فهذا شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام مناف للتوحيد. 2 - التوسل إلى الله بفعل الطاعات عند قبور الموتى ومشاهدهم، والبناء عليهم، وسترها، والدعاء عندها، فهذا شرك أصغر مناف لكمال التوحيد الواجب. 3 - التوسل إلى الله بمنزلة الصالحين، ومكانتهم عند الله؛ وهو محرم لأن عملهم ينفعهم هم، كما قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)). (¬1). ومكانتهم تنفعهم هم، والله لا يقاس على خلقه، فإن رضاه عن عبد لا يحتاج فيه إلى الوسائط، وغضبه عليه لا تنفع فيه الوسائط، وإنما يكون ذلك في حق المخلوق لما في قبول الوسائط من منافع تعود إليهم؛ لكونهم شركاء لبعضهم في المنافع والأمور، ولذا فإن الصحابة عدلوا عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى العباس ليدعو لهم, ولو كان ذلك جائزاً بعد موته لكان التوسل به أولى، وعدولهم دليل على أن المستقر عندهم عدم جوازه مع أن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبلغها أحد، وإنما أتي من أجاز التوسل بالمكانة والمنزلة عند الله من حيث قاس الله على الخلق. وأما حديث الأعمى الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم اللهم إني أتوسل بك يا محمد إلى ربك. فإن ذلك طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له؛ ولذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم قل: ((اللهم شفعه في)) وهذا على فرض صحته وإلا فإن هذا الحديث منقطع السند. وأما ((توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)) فهو حديث موضوع. ذكر ذلك ابن الجوزي, وابن تيمية, والشوكاني وغيرهم من أهل العلم، وبذا يعلم حرمة الدعاء بقول بعضهم أسألك بجاه فلان. 4 - التوسل بذوات الصالحين كقول بعضهم (أسألك بمحمد) وهذا اللفظ بدعي محرم، وهو محتمل لمعان كلها فاسدة غير مشروعة وهي: أ- أن يقصد التوسل بالمكانة والمنزلة. ب- أن يريد الإقسام به على الله, والحلف بغير الله محرم وهو من الشرك الأصغر. ج- أن يريد أن يكون واسطة بين الله وعبده في جلب منفعة أو دفع ضر، وهذا شرك المشركين، وهو شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام. قال تعالى عن المشركين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى. ¬

(¬1) رواه مسلم (1631).

د- أن يقصد التبرك بذكر هذا اللفظ وهو أيضاً محرم لاحتماله المقاصد المتقدمة من جهة، ولكونه ليس مأخوذاً به شرعاً فيفعل، بل إن الصحابة لم يفعلوه، وهكذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم, مما يدل على أنه بدعة محدثة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬1). وقال: ((وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 165 ومما يدل على بدعيته أيضا أن الأدعية الواردة في القرآن الكريم وهي كثيرة، لا نجد في شيء منها التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق أو المكانة لشيء من المخلوقات، وهاك بعض الأدعية الكريمة على سبيل المثال: يقول ربنا جل شأنه معلماً إيانا ما ندعو به ومرشداً: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286] ويقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201] ويقول: فَقَالُواْ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85 - 86] ويقول: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، إلى قوله رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 35 - 41] ويقول على لسان موسى عليه السلام: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 25 - 28] ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان: 65] , إلى آخر ما هنالك من الأدعية القرآنية الكريمة، وبعضها مما يعلمنا الله تعالى أن ندعو به ابتداء، وبعضها مما يحكيه سبحانه عن بعض أنبيائه ورسله، أو بعض عباده وأوليائه، وواضح أنه ليس في شيء منها ذاك التوسل المبتدع الذي يدندن حوله المتعصبون، ويخاصم فيه المخالفون. وإذا انتقلنا إلى السنة الشريفة لنطلع منها على أدعية النبي صلى الله عليه وسلم التي ارتضاها الله تعالى له، وعلمه إياها، وأرشدنا إلى فضلها وحسنها، نراها مطابقة لما في أدعية القرآن السالفة من حيث خلوها من التوسل المبتدع المشار إليه، وهاك بعض تلك الأدعية النبوية المختارة: ¬

(¬1) رواه البخاري (2697) , ومسلم (1718).

فمنها دعاء الاستخارة المشهور الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه إذا هموا بأمر كما كان يعلمهم القرآن، وهو: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به)) (¬1). ومنها: ((اللهم أصلح لي ديني، الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)) (¬2) و: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ... )) (¬3) و: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) (¬4) و: ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك)) (¬5) و: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد نعوذ بك من النار)) (¬6). ومثل هذه الأدعية في السنة كثير، ولا نجد فيها دعاء واحداً ثابتاً فيه شيء من التوسل المبتدع الذي يستعمله المخالفون. ومن الغريب حقاً أنك ترى هؤلاء يعرضون عن أنواع التوسل المشروعة السابقة. فلا يكادون يستعملون شيئاً منها في دعائهم أو تعليمهم الناس مع ثبوتها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة عليها، وتراهم بدلاً من ذلك يعمدون إلى أدعية اخترعوها، وتوسلات ابتدعوها لم يشرعها الله عز وجل، ولم يستعملها رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن سلف هذه الأمة من أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، وأقل ما يقال فيها: إنها مختلف فيها، فما أجدرهم بقوله تبارك وتعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ َ خَيْرٌ [البقرة:61]. ولعل هذا أحد الشواهد العملية التي تؤكد صدق التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي رحمه الله حيث قال: (ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سننهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة) (¬7). هذا ولم ننفرد نحن بإنكار تلك التوسلات المبتدعة، بل سبقنا إلى إنكارها كبار الأئمة والعلماء، وتقرر ذلك في بعض المذاهب المتبعة، ألا وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فقد جاء في (الدر المختار) (2/ 630) – وهو من أشهر كتب الحنفية – ما نصه: ¬

(¬1) [3735])) رواه البخاري (1162). (¬2) [3736])) رواه مسلم (2720). (¬3) رواه النسائي (3/ 55) وأحمد (4/ 264) وابن حبان (5/ 304) والحاكم (1/ 705) وأبو يعلى (3/ 195) من حديث عمار بن ياسر, قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 177): رجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب اختلط, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1301). (¬4) [3738])) رواه مسلم (2721). (¬5) [3739])) رواه الترمذي (3502) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 107) من حديث عبد الله بن عمر, قال الترمذي هذا حديث حسن غريب, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (482): غاية رتبة هذا الحديث أن يكون حسنا, وحسنه الألباني في ((صحيح الترمذي)). (¬6) [3740])) رواه الطبراني (1/ 195) والحاكم (3/ 721) من حديث أسامة بن عمير, والحديث سكت عليه الحاكم والذهبي, وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 373): حسن وله شاهد, وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1304). (¬7) [3741])) رواه الدارمي (1/ 58) , واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 93).

(عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه، المأمور به. ما استفيد من قوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]). ونحوه في (الفتاوى الهندية) (5/ 280). وقال القُدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بـ (شرح الكرخي) في (باب الكراهة): (قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، قال القُدوري: المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً). نقله شيخ الإسلام في (القاعدة الجليلة) وقال الزبيدي في (شرح الإحياء) (2/ 285): (كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك، إذ ليس لأحد على الله حق، وكذلك كره أبو حنيفة ومحمد أن يقول الداعي: ((اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك)) (¬1)، وأجازه أبو يوسف لما بلغه الأثر فيه). أقول: لكن الأثر المشار إليه باطل لا يصح، رواه ابن الجوزي في (الموضوعات) وقال: (هذا حديث موضوع بلا شك)، وأقره الحافظ الزيلعي في (نصب الراية) (¬2) فلا يحتج به، وإن كان قول القائل: (أسألك بمعاقد العز من عرشك) يعود إلى التوسل بصفة من صفات الله عز وجل، فهو توسل مشروع بأدلة أخرى كما سبق، تغني عن هذا الحديث الموضوع. قال ابن الأثير رحمه الله: (أسألك بمعاقد العز من عرشك، أي بالخصال التي استحق بها العرش العز، أو بمواضع انعقادها منه، وحقيقة معناه: بعز عرشك، وأصحاب أبي حنيفة يكرهون هذا اللفظ من الدعاء). فعلى الوجه الأول من هذا الشرح، وهو الخصال التي استحق بها العرش العز، يكون توسلاً بصفة من صفات الله تعالى فيكون جائزاً، وأما على الوجه الثاني الذي هو مواضع انعقاد العز من العرش، فهو توسل بمخلوق فيكون غير جائز، وعلى كلٍ فالحديث لا يستحق زيادة في البحث والتأويل لعدم ثبوته، فنكتفي بما سبق. التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد ناصر الدين الألباني – ص 34 - والذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء - من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك - يتضمن شيئين: - أحدهما: الإقسام على الله سبحانه وتعالى به، وهذا منهيٌّ عنه عند جماهير العلماء كما تقدم، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء. - والثاني: السؤال به، فهذا يجوزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكنَّ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيفٌ بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علَّمه أن يقول: ((أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة)) (¬3) .. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– ص114 ¬

(¬1) [3742])) والحديث رواه الطبراني (25/ 12) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 324) من حديث قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 83): إسناده حسن, وروى البيهقي في ((كتاب الدعوات الكبير)) (1/ 424) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه, قال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (2/ 464): موضوع بلا شك, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 328): (فيه) عامر بن خداش هذا هو النيسابوري قال شيخنا الحافظ أبو الحسن كان صاحب مناكير وقد تفرد به عن عمر بن هارون البلخي وهو متروك متهم, وقال السخاوي في ((القول البديع)) (329): سنده واه بمرة, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (233): موضوع, وقال الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (418): موضوع. (¬2) [3743])) انظر ((نصب الراية)) (4/ 338). (¬3) [3744])) رواه الترمذي (3578) وابن ماجه (1385) وأحمد (4/ 138) (17279) والطبراني (9/ 30) وابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/ 225) وعبد بن حميد (1/ 147) من حديث عثمان بن حنيف, قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (230): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

ثانيا: شبهات حول التوسل وردها

ثانيا: شبهات حول التوسل وردها الشبهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما: يحتجون على جواز التوسل بجاه الأشخاص وحرمتهم وحقهم بحديث أنس رضي الله عنه قال: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون)) (¬1). فيفهمون من هذا الحديث أن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه، ومكانته عند الله سبحانه، وأن توسله كأنه مجرد ذكر منه للعباس في دعائه، وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله، وقد أقره الصحابة على ذلك، فأفاد بزعمهم ما يدعون. وأما سبب عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم - بزعمهم – وتوسله بدلاً منه بالعباس رضي الله عنه، فإنما كان لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ليس غير. وفهمهم هذا خاطئ، وتفسيرهم هذا مردود من وجوه كثيرة أهمها: 1 – إن القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضاً، ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه. وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها، ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر: ((كنا نتوسل إليك بنبينا .. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)) شيئاً محذوفاً، لا بد له من تقدير، وهذا التقدير إما أن يكون: (كنا نتوسل بـ (جاه) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (جاه) عم نبينا) على رأيهم هم، أو يكون: (كنا نتوسل إليك بـ (دعاء) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (دعاء) عم نبينا) على رأينا نحن. ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء. ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة، لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم. ترى هل كانوا إذا أجدبوا وقحَطوا قبع كل منهم في داره، أو مكان آخر، أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعوا ربهم قائلين: (اللهم بنبيك محمد، وحرمته عندك، ومكانته لديك اسقنا الغيث). مثلاً أم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ذاته فعلاً، ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم، فيحقق صلى الله عليه وسلم طلْبتهم، ويدعو ربه سبحانه، ويتضرع إليه حتى يسقوا؟ أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقاً في السنة النبوية الشريفة، وفي عمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولا يستطيع أحد من الخلفيين أو الطُّرُقيين أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون. بل الذي نجده بكثرة، وتطفح به كتب السنة هو الأمر الثاني، إذ تبين أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة، أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم، ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليس غير. ويرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [النساء:64]. ¬

(¬1) [3745])) رواه البخاري (1010).

ومن أمثلة ذلك ما مر معنا في حديث أنس السابق الذي ذكر فيه مجيء الأعرابي إلى المسجد يوم الجمعة حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وعرضه له ضنك حالهم، وجدب أرضهم، وهلاك ماشيتهم، وطلبه منه أن يدعو الله سبحانه لينقذهم مما هم فيه، فاستجاب له صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وصفه ربه بقوله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، فدعا صلى الله عليه وسلم لهم ربه، واستجاب سبحانه دعاء نبيه، ورحم عباده ونشر رحمته، وأحيا بلدهم الميت. ومن ذلك أيضاً مجيء الأعرابي السابق نفسه أو غيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة الثانية، وشكواه له انقطاع الطرقات وتهدم البنيان، وهلاك المواشي، وطلبه منه أن يدعو لهم ربه، ليمسك عنهم الأمطار، وفعل صلى الله عليه وسلم فاستجاب له ربه جل شأنه أيضاً. ومن ذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: ((شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه. قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم ... )) الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله سبحانه، وصلى بالناس، فأغاثهم الله تعالى حتى سالت السيول، وانطلقوا إلى بيوتهم مسرعين، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)) (¬1). فهذه الأحاديث وأمثالها مما وقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أصحابه الكرام رضوان الله عليهم تُبين بما لا يقبل الجدال أو المماراة أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالصالحين الذي كان عليه السلف الصالح هو مجيء المتوسل إلى المتوسل به، وعرضه حاله له، وطلبه منه أن يدعو له الله سبحانه، ليحقق طلبه، فيستجيب هذا له، ويستجيب من ثم الله سبحانه وتعالى. 2 – وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس واستعمالهم، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس أو موظف مثلاً، فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه، ويعرض له حاجته فيفعل، وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسؤول، فيقضيها له غالباً. فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم، وما يزال، فإذا قال أحدهم: إني توسلت إلى فلان، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته، ليحدث بها الأول، ويطلب منه قضاءها، ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له: بحق فلان (الوسيط) عندك، ومنزلته لديك اقض لي حاجتي. وهكذا فالتوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر رضي الله عنه: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا)) (¬2) , أي: كنا إذا قل المطر مثلاً نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونطلب منه أن يدعو لنا الله جل شأنه. ¬

(¬1) [3746])) رواه أبو داود (1173) والحاكم (1/ 476) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (3/ 349) قال أبو داود وهذا حديث غريب إسناده جيد, وقال النووي في ((الأذكار)) (230): إسناده صحيح, وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 151) وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (143): إسناده جيد, وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) [3747])) رواه البخاري (1010).

3 – ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر رضي الله عنه: ((وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا))، أي إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا. تُرى لماذا عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه، مع العلم أن العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر أمام شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه؟ أما الجواب برأينا فهو: لأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأنى لهم أن يحظوا بدعائه صلى الله عليه وسلم وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه: وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]. ولذلك لجأ عمر رضي الله عنه، وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواضع عدة، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس رضي الله عنه، لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية أخرى، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا. وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ممكناً، وما كان من المعقول أن يقر الصحابة رضوان الله عليهم عمر على ذلك أبداً، لأن الانصراف عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالانصراف عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى الاقتداء بغيره، سواء بسواء، ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يعرفون قدر نبيهم صلى الله عليه وسلم ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد، كما نرى ذلك واضحاً في الحديث الذي رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي بالناس، فأقيم؟ قال: فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف، فقال: يا أبا بكر: ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم)). (¬1). ¬

(¬1) [3748])) رواه البخاري (684). ومسلم (421).

فأنت ترى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستسيغوا الاستمرار على الاقتداء بأبي بكر رضي الله عنه في صلاته عندما حضر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن أبا بكر رضي الله عنه لم تطاوعه نفسه على الثبات في مكانه مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، لماذا؟ كل ذلك لتعظيمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتأدبهم معه، ومعرفتهم حقه وفضله، فإذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يرتضوا الاقتداء بغير النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمكن ذلك، مع أنهم كانوا بدءوا الصلاة في غيابه صلى الله عليه وسلم عنهم، فكيف يتركون التوسل به صلى الله عليه وسلم أيضاً بعد وفاته، لو كان ذلك ممكناً، ويلجئون إلى التوسل بغيره؟ وكما لم يقبل أبو بكر أن يؤم المسلمين فمن البديهي أن لا يقبل العباس أيضاً أن يتوسل الناس به، ويدعوا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لو كان ذلك ممكناً. (تنبيه): وهذا يدل من ناحية أخرى على سخافة تفكير من يزعم أنه صلى الله عليه وسلم في قبره حي كحياتنا، لأنه لو كان ذلك كذلك لما كان ثمة وجه مقبول لانصرافهم عن الصلاة وراءه صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وراء غيره ممن لا يدانيه أبداً في منزلته وفضله. ولا يعترض أحد على ما قررته بأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا في قبري حي طري، من سلم علي سلمت عليه)) (¬1). وأنه يستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم حي مثل حياتنا، فإذا توسل به سمعنا واستجاب لنا، فيحصل مقصودنا، وتتحقق رغبتنا، وأنه لا فرق في ذلك بين حاله صلى الله عليه وسلم في حياته، وبين حاله بعد وفاته أقول: لا يعترض أحد بما سبق لأنه مردود من وجهين: ¬

(¬1) [3749])) لم يرد حديث بهذا اللفظ ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة منها ما ذكر في المتن, ومنها حديث رواه أبو يعلى في ((المسند)) (2/ 173) من حديث عبد الرحمن بن عوف, ولفظه: (( ..... إني لما رأيتني دخلت النخل لقيت جبريل فقال إني أبشرك أن الله يقول: من سلم عليك سلمت عليه ومن صلى عليك صليت عليه)) , قال الذهبي في ((المهذب)) (2/ 796): إسناده جيد لكنه معلول, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (4/ 277): صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

الأول حديثي: وخلاصته أن الحديث المذكور لا أصل له بهذا اللفظ، كما أن لفظة (طري) لا وجود لها في شيء من كتب السنة إطلاقاً، ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)) قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمتَ (قال: يقولون: بَليتَ)، قال: ((إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) (¬1) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ((الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)) (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مررت ليلة أسري بي على موسى قائماً يصلي في قبره)) (¬3) وقوله: ((إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام)) (¬4). الجواب الثاني فقهي: وفحواه أن حياته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب، ولا يدري كنهها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية، ولا تخضع لقوانينها، فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب، ويتنفس ويتزوج، ويتحرك ويتبرز، ويمرض ويتكلم، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحداً بعد الموت حتى الأنبياء عليهم السلام، وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعرض له هذه الأمور بعد موته. ¬

(¬1) [3750])) رواه أبو داود (1047) وابن ماجه (1636) والنسائي (3/ 91) وأحمد (4/ 8) (16207) والحاكم (1/ 413) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 441): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) [3751])) رواه أبو يعلى (6/ 147) من حديث أنس بن مالك, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 214): رجال أبي يعلى ثقات, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 561): فيه يحيى بن أبي كثير وهو من رجال الصحيح عن المستلم بن سعيد، وقد وثقه أحمد وابن حبان عن الحجاج الأسود وهو ابن أبي زياد البصري وقد وثقه أحمد وابن معين عن ثابت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2790). (¬3) [3752])) رواه مسلم (2375) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬4) [3753])) رواه النسائي (3/ 43) وابن حبان (3/ 195) والطبراني (10/ 220) والحاكم (2/ 456) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي, وقال ابن القيم في ((جلاء الأفهام)) (120): إسناده صحيح, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 27): رجاله رجال الصحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).

ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولم يخطر في بال أحد منهم الذهاب إليه صلى الله عليه وسلم في قبره، ومشاورته في ذلك، وسؤاله عن الصواب فيها، لماذا؟ إنّ الأمر واضح جداً، وهو أنهم كلهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم انقطع عن الحياة الدنيا، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها. فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حي، أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ، ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (¬1) وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى، بل لكل منها شكل خاص وحكم معين، ولا تتشابه إلا في الاسم، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. ونعود بعد هذا التنبيه إلى ما كنا فيه من الرد على المخالفين في حديث توسل عمر بالعباس، فنقول: إن تعليلهم لعدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه بأنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل هو تعليل مضحك وعجيب. إذ كيف يمكن أن يخطر في بال عمر رضي الله عنه، أو في بال غيره من الصحابة الكرام رضي الله عنهم تلك الحذلقة الفقهية المتأخرة، وهو يرى الناس في حالة شديدة من الضنك والكرب، والشقاء والبؤس، يكادون يموتون جوعاً وعطشاً لشح الماء وهلاك الماشية، وخلو الأرض من الزرع والخضرة حتى سمي ذاك العام بعام الرمادة، كيف يَرِد في خاطره تلك الفلسفة الفقهية في هذا الظرف العصيب، فيدع الأخذ بالوسيلة الكبرى في دعائه، وهي التوسل بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، لو كان ذلك جائزاً ويأخذ بالوسيلة الصغرى، التي لا تقارن بالأولى، وهي التوسل بالعباس، لماذا؟ لا لشيء إلا ليبين للناس أنه يجوز لهم التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل!! إن الشاهد والمعلوم أن الإنسان إذ حلّت به شدة يلجأ إلى أقوى وسيلة عنده في دفعها، ويدَع الوسائل الأخرى لأوقات الرخاء، وهذا كان يفهمه الجاهليون المشركون أنفسهم، إذ كانوا يَدعون أصنامهم في أوقات اليسر، ويتركونها ويدْعون الله تعالى وحده في أوقات العسر، كما قال تبارك وتعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 265]. فنعلم من هذا أن الإنسان بفطرته يستنجد بالقوة العظمى، والوسيلة الكبرى حين الشدائد والفواق، وقد يلجأ إلى الوسائل الصغرى حين الأمن واليسر، وقد يخطر في باله حينذاك أن يبين ذلك الحكم الفقهي الذي افترضوه، وهو جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل. وأمر آخر نقوله جواباً على شبهة أولئك، وهو: هب أن عمر رضي الله عنه خطر في باله أن يبين ذلك الحكم الفقهي المزعوم، ترى فهل خطر ذلك في بال معاوية والضحاك بن قيس حين توسلا بالتابعي الجليل: يزيد بن الأسود الجُرَشي أيضاً؟ لا شك أن هذا ضرب من التمحل والتكلف لا يحسدون عليه. ¬

(¬1) [3754])) رواه أبو داود (2041) وأحمد (2/ 527) (10827) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (5/ 245) من حديث أبي هريرة, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/ 299): إسناده جيد, وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 409): سنده جيد, وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (5/ 31) ووافقه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

4 – إننا نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما أمراً جديراً بالانتباه، وهو قوله: (إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحطوا، استسقى بالعباس بن عبدالمطلب، ففي هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما، ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بعمه رضي الله عنه، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإننا نقول: لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة، ولما استمر عليه كلما استسقى، وهذا بيّن لا يخفى إن شاء الله تعالى على أهل العلم والإنصاف. 5 – لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر المذكور وقصده، إذ نقلت دعاء العباس رضي الله عنه استجابة لطلب عمر رضي الله عنه، فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني رحمه الله في (الفتح) (3/ 150) حيث قال: (قد بين الزبير بن بكار في (الأنساب) صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس) (¬1). وفي هذا الحديث: أولاً: التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه لا بذاته كما بينه الزبير بن بكار وغيره، وفي هذا رد واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس لا بدعائه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس، فيدعو بعد عمر دعاءً جديداً. ثانياً: أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا صلى الله عليه وسلم في حياته، وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس، ومما لا شك فيه أن التوسليْن من نوع واحد: توسلهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوسلهم بالعباس، وإذا تبين للقارئ ... أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلاً بدعائه صلى الله عليه وسلم فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه أيضاً، بضرورة أن التوسليْن من نوع واحد. أما أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلاً بدعائه، فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في (مستخرجه على الصحيح) لهذا الحديث بلفظ: (كانوا إذ قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به، فيستسقي لهم، فيسقون، فلما كان في إمارة عمر ... ) (¬2) فذكر الحديث (¬3)، نقلته من (الفتح) (2/ 399)، فقوله: (فيستسقي لهم) صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى ففي (النهاية) لابن الأثير: (الاستسقاء، استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم السقيا بالضم، واستقيت فلاناً إذا طلبت منه أن يسقيك). إذا تبين هذا، فقوله في هذه الرواية (استسقوا به) أي بدعائه، وكذلك قوله في الرواية. الأولى: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي بدعائه، لا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث. إلا هذا. ويؤيده: ثالثاً: لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى، لما ترك التوسل. ¬

(¬1) [3755])) ((فتح الباري)) لابن حجر (3/ 443). (¬2) [3756])) رواه ابن حبان (7/ 110) , وذكره ابن حجر في ((فتح الباري)) (2/ 495) (¬3) [3757])) الحديث رواه البخاري (1010).

به صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، لأن هذا ممكن لو كان مشروعاً، فعدول عمر عن هذه إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه أكبر دليل على أن عمر والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم، كما رأيت في توسل معاوية بن أبي سفيان والضحاك ابن قيس بيزيد بن الأسود الجرشي، وفيهما بيان دعائه بصراحة وجلاء. فهل يجوز أن يجمع هؤلاء كلهم على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لو كان جائزاً، سيّما والمخالفون يزعمون أنه أفضل من التوسل بدعاء العباس وغيره؟! اللهم إن ذلك غير جائز ولا معقول، بل إن هذا الإجماع منهم من أكبر الأدلة على أن التوسل المذكور غير مشروع عندهم، فإنهم أسمى من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير! اعتراض ورده: وأما جواب صاحب (مصباح الزجاجة في فوائد قضاء الحاجة) (ص25) عن ترك عمر التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن عمر لم يبلغه حديث توسل الضرير، ولو بلغه لتوسل به). فهو جواب باطل من وجوه: الأول: أن حديث الضرير إنما يدل على ما دل عليه توسل عمر هذا من التوسل بالدعاء. لا بالذات ... الثاني: أن توسل عمر لم يكن سراً، بل كان جهراً على رؤوس الأشهاد، وفيهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فإذا جاز أن يخفى الحديث على عمر، فهل يجوز أن يخفى على جميع الموجودين مع عمر من الصحابة؟! الثالث: أن عمر ... كان يكرر هذا التوسل كلما نزل بأهل المدينة خطر، أو كلما دعي للاستسقاء كما يدل على ذلك لفظ (كان) في حديث أنس السابق (أن عمر كان إذا قحَطوا استسقى بالعباس) (¬1) وكذلك روى ابن عباس عن عمر كما ذكره ابن عبد البر في (الاستيعاب) (3/ 98)، فإذا جاز أن يخفى ذلك عليه أول مرة، أفيجوز أن يستمر على الجهل به كلما استسقى بالعباس، وعنده المهاجرون والأنصار، وهم سكوت لا يقدمون إليه ما عندهم من العلم بحديث الضرير؟! اللهم إن هذا الجواب ليتضمن رمي الصحابة جميعهم بالجهل بحديث الضرير مطلقاً، أو على الأقل بدلالته على جواز التوسل بالذات، والأول باطل لا يخفى بطلانه، والثاني حق فإن الصحابة لو كانوا يعلمون أن حديث الضرير يدل على التوسل المزعوم لما عدلوا عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بدعاء العباس كما سبق. رابعاً: أن عمر ليس هو وحده الذي عدل عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالدعاء، بل تابعه على ذلك معاوية بن أبي سفيان فإنه أيضاً عدل إلى التوسل بدعاء يزيد بن الأسود، ولم يتوسل به صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الصحابة وأجلاء التابعين، فهل يقال أيضاً إن معاوية ومن معه لم يكونوا يعلمون بحديث الضرير؟ وقل نحو ذلك في توسل الضحاك بن قيس بيزيد هذا أيضاً. ثم أجاب صاحب (المصباح) بجواب آخر، وتبعه من لم يوفق من المتعصبين المخالفين فقال: ¬

(¬1) [3758])) رواه البخاري (1010).

(إن عمر أراد بالتوسل بالعباس الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في إكرام العباس وإجلاله، وقد جاء هذا صريحاً عن عمر، فروى الزبير بن بكار في (الأنساب) من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: (استسقى عمر ابن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فخطب عمر فقال: إن رسول صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذوه وسيلة إلى الله ... ) ورواه البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه به (¬1). والجواب من وجوه أيضاً: الأول: عدم التسليم بصحة هذه الرواية، فإنها من طريق داود ابن عطاء وهو المدني، وهو ضعيف كما في (التقريب)، ومن طريق الزبير بن بكار عنه رواه الحاكم (3/ 334) وسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله: (داود متروك) ... والراوي عنه ساعدة بن عبيدالله المزني لم أجد من ترجم له، ثم إن في السند اضطراباً، فقد رواه – كما رأيت – هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فقال: (عن أبيه) بدل ابن عمر، لكن هشاماً أوثق من داود، إلا أننا لم نقف على سياقه، لننظر هل فيه مخالفة لسياق داود هذا أم لا؟ ولا تغتر بقولهم في (المصباح) عقب هذا الإسناد: (به) المفيد أن السياق واحد، فإن عمدته فيما نقله عن البلاذري إنما هو (فتح الباري) وهو لم يقل: (به). انظر (الفتح) (2/ 399). الثاني: لو صحت هذه الرواية، فهي إنما تدل على السبب الذي من أجله توسل عمر بالعباس دون غيره من الصحابة الحاضرين حينذاك، وأما أن تدل على جواز الرغبة عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم - لو كان جائزاً عندهم – إلى التوسل بالعباس أي بذاته فكلا، ثم كلا، لأننا نعلم بالبداهة والضرورة – كما قال بعضهم – أنه لو أصاب جماعة من الناس قحط شديد، وأرادوا أن يتوسلوا بأحدهم لما أمكن أن يعدلوا عمن دعاؤه أقرب إلى الإجابة، وإلى رحمة الله سبحانه وتعالى، ولو أن إنساناً أصيب بمكروه فادح، وكان أمامه نبي، وآخر غير نبي، وأراد أن يطلب الدعاء من أحدهما لما طلبه إلا من النبي، ولو طلبه من غير النبي، وترك النبي لعد من الآثمين الجاهلين، فكيف يظن بعمر ومن معه من الصحابة أن يعدلوا عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره، لو كان التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم جائزاً، فكيف وهو أفضل عند المخالفين من التوسل بدعاء العباس وغيره من الصالحين؟! لا سيما وقد تكرر ذلك منهم مراراً كما سبق، وهم لا يتوسلون به صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة، واستمر الأمر كذلك، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف ما صنع عمر، بل صح عن معاوية ومن معه ما يوافق صنيعه حيث توسلوا بدعاء يزيد بن الأسود، وهو تابعي جليل، فهل يصح أن يقال: إن التوسل به كان اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! الحق أقول: إن جريان عمل الصحابة على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم عند نزول الشدائد بهم. ¬

(¬1) [3759])) رواه الطبراني في ((الدعاء)) (5/ 427) والحاكم (3/ 377) , قال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/ 711): تفرد به الزبير بن بكار عن ساعدة, وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 92): [فيه] داود وهو ضعيف, وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 174): [فيه] داود بن عطاء المدني: متروك, وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (3/ 139): واه جدا.

– بعد أن كانوا لا يتوسلون بغيره صلى الله عليه وسلم في حياته – لهو أكبر الأدلة الواضحة على أن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم غير مشروع، وإلا لنقل ذلك عنهم من طرق كثيرة في حوادث متعددة، ألا ترى إلى هؤلاء المخالفين كيف يلهجون بالتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لأدنى مناسبة لظنهم أنه مشروع، فلو كان الأمر كذلك لنُقِل مثله عن الصحابة، مع العلم أنهم أشد تعظيماً ومحبة له صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، فكيف ولم يُنقل عنهم ذلك ولا مرة واحدة، بل صح عنهم الرغبة عنه إلى التوسل بدعاء الصالحين؟! الشبهة الثانية: حديث الضرير: بعد أن فرغنا من تحقيق الكلام في حديث توسل عمر بالعباس رضي الله عنه، وبينا أنه ليس حجة للمخالفين بل هو عليهم، نشرع الآن في تحقيق القول في حديث الضرير، والنظر في معناه: هل هو حجة لهم أم عليهم أيضاً؟ فنقول: أخرج أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: ((إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخّرتُ ذاك، فهو خير))، وفي رواية: - وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك -، فقال: ادعهُ. فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ (وشفّعني فيه). قال: ففعل الرجل فبرأ (¬1). يرى المخالفون: أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيراً. وأما نحن فنرى أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه، وهو التوسل بالذات، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع ... ، لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها: أولاً: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، وذلك قوله: (ادعُ الله أن يعافيني) فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه صلى الله عليه وسلم، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً: (اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني، وتجعلني بصيراً). ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذكر فيها اسم الموسَّل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) [3760])) رواه أحمد (4/ 138) (17279) والحديث رواه ابن ماجه (1385) والترمذي (3578) والطبراني (9/ 30) وابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/ 225) وعبد بن حميد (1/ 147) , قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (230): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

((إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرت فهو خير لك)). وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة)) (¬1). ثالثاً: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: (فادع) فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنه صلى الله عليه وسلم خير من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه، فإذن لا بد أنه صلى الله عليه وسلم دعا له، فثبت المراد، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهي تدخل في قوله تعالى: وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: 35]. وهكذا فلم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه، ليكون الأمر مكتملاً من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء – كما هو ظاهر – وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون. وقد غفل عن هذا الشيخ الغماري أو تغافل، فقال في (المصباح) (24): ((وإن شئتَ دعوتُ)). أي وإن شئت علمتك دعاء تدعو به، ولقنتك إياه، وهذا التأويل واجب ليتفق أول الحديث مع آخره). ... هذا التأويل باطل لوجوه كثيرة منها: أن الأعمى إنما طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، لا أن يعلمه دعاء، فإذا كان قوله صلى الله عليه وسلم له: ((وإن شئت دعوت)) جواباً على طلبه تعين أنه الدعاء له، ولابد، وهذا المعنى هو الذي يتفق مع آخر الحديث، ولذلك رأينا الغماري لم يتعرض لتفسير قوله في آخره: ((اللهم فشفعه في، وشفعني فيه)) لأنه صريح في أن التوسل كان بدعائه صلى الله عليه وسلم ... ثم قال: (ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للضرير فذلك لا يمنع من تعميم الحديث في غيره). ... وهذه مغالطة مكشوفة، لأنه لا أحد ينكر تعميم الحديث في غير الأعمى في حالة دعائه صلى الله عليه وسلم لغيره، ولكن لما كان الدعاء منه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير معلوم بالنسبة للمتوسلين في شتى الحوائج والرغبات، وكانوا هم أنفسهم لا يتوسلون بدعائه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لذلك اختلف الحكم، وكان هذا التسليم من الغماري حجة عليه. رابعاً: أن في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أن يقول: ((اللهم فشفعه في)) وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، أو جاهه، أو حقه، إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم في، أي اقبل دعائه في أن ترد عليَّ بصري، والشفاعة لغة الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً، فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره، قال في (لسان العرب): (الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، والشافع الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، يقال: تشفعت بفلان إلى فلان، فشفعني فيه). فثبت بهذا الوجه أيضاً أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بذاته. ¬

(¬1) [3761])) رواه البخاري (5653).

خامساً: إن مما علم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله: ((وشفعني فيه)) أي اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم، أي دعاءه في أن ترد علي بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه. ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد، وتجتثه من الجذور، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه. ذلك أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأعمى مفهومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة. ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحداً منهم يستعملها، فيقول في دعائه مثلاً: اللهم شفع فيَّ نبيك، وشفعني فيه. سادساً: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في (دلائل النبوة) كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيده كل من دعا به من العميان مخلصاً إليه تعالى، منيباً إليه قد عوفي، بل على الأقل لعوفي واحد منهم، وهذا ما لم يكن ولعله لا يكون أبداً. كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وقدره وحقه، كما يفهم عامة المتأخرين، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وسلم، بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين، وكل الأولياء والشهداء والصالحين، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة، والإنس والجن أجمعين! ولم نعلم ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلى اليوم. إذا تبين للقارئ الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات، فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: (اللهم إني أسألك، وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم) إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة، كقوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف: 82] أي أهل القرية وأصحاب العير. ونحن والمخالفون متفقون على ذلك، أي على تقدير مضاف محذوف، وهو مثل ما رأينا في دعاء عمر وتوسله بالعباس، فإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (جاه) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (ذات) ك أو (مكانت) ك إلى ربي كما يزعمون، وإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (دعاء) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (دعاء) ك إلى ربي كما هو قولنا. ولا بد لترجيح أحد التقديرين من دليل يدل عليه. فأما تقديرهم (بجاهه) فليس لهم عليه دليل لا من هذه الحديث ولا من غيره، إذ ليس في سياق الكلام ولا سباقه تصريح أو إشارة لذكر الجاه أو ما يدل عليه إطلاقاً، كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه، فيبقى تقديرهم من غير مرجح، فسقط من الاعتبار، والحمد لله ...

وثمة أمر آخر جدير بالذكر، وهو أنه لو حمل حديث الضرير على ظاهره، وهو التوسل بالذات لكان معطلاً لقوله فيما بعد: (اللهم فشفعه في، وشفعني فيه) وهذا لا يجوز كما لا يخفى، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها. وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء، فثبت المراد، وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات، والحمد لله. على أنني أقول: لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته صلى الله عليه وسلم، فيكون حكماً خاصاً به صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم سيدهم وأفضلهم جميعاً، فيمكن أن يكون هذا مما خصه الله به عليهم كثير مما صح به الخبر، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات، فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته لله، فعليه أن يقف عنده، ولا يزيد عليه كما نقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى. هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف، والله الموفق للصواب ... تنبيه: واعلم أنه وقع في بعض الطرق الأخرى لحديث الضرير ... زيادتان لا بد من بيان شذوذهما وضعفهما، حتى يكون القارئ على بينة من أمرهما، فلا يغتر بقول من احتج بهما على خلاف الحق والصواب. الزيادة الأولى: زيادة حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي .. فساق إسناده مثل رواية شعبة، وكذلك المتن إلا أنه اختصره بعض الشيء، وزاد في آخره بعد قوله: ((وشفع نبيي في رد بصري: وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك)) رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في (تاريخه)، فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا حماد بن سلمه به. وقد أعلَّ هذه الزيادة شيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) (ص102) بتفرد حماد بن سلمة بها، ومخالفته لرواية شعبة، وهو أجل من روى هذا الحديث وهذا إعلال يتفق مع القواعد الحديثية، ولا يخالفها البتة، وقول الغماري في (المصباح) (ص30) بأن حماداً ثقة من رجال الصحيح، وزيادة الثقة مقبولة، غفلة منه أو تغافل عما تقرر في المصطلح، أن القبول مشروط بما إذا لم يخالف الراوي من هو أوثق منه، قال الحافظ في (نخبة الفكر): (والزيادة مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق، فإن خولف بأرجح، فالراجح المحفوظ، ومقابله الشاذ). ... وهذا الشرط مفقود هنا، فإن حماد بن سلمة، وإن كان من رجال مسلم، فهو بلا شك دون شعبة في الحفظ، ويتبين لك ذلك بمراجعة ترجمة الرجلين في كتب القوم، فالأول أورده الذهبي في (الميزان) وهو إنما يورد فيه من تُكُلَّم فيه، ووصفه بأنه (ثقة له أوهام) بينما لم يورد فيه شعبة مطلقاً، ويظهر لك الفرق بينهما بالتأمل في ترجمة الحافظ لهما، فقد قال في (التقريب): (حماد بن سلمة ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره) ثم قال: (شعبة بن الحجاج ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابداً). ...

وإذا تبين لك هذا عرفت أن مخالفة حماد لشعبة في هذا الحديث وزيادته عليه تلك الزيادة غير مقبولة، لأنها منافية لمن هو أوثق منه فهي زيادة شاذة كما يشير إليه كلام الحافظ السابق في (النخبة) ولعل حماداً روى هذا الحديث حين تغير حفظه، فوقع في الخطأ، وكأن الإمام أحمد أشار إلى شذوذ هذه الزيادة، فإنه أخرج الحديث من طريق مؤمَّل (وهو ابن إسماعيل) عن حماد – عقب رواية شعبة المتقدمة – إلا أنه لم يسق لفظ الحديث، بل أحال به على لفظ حديث شعبة، فقال: (فذكر الحديث) ويحتمل أن الزيادة لم تقع في رواية مؤمل عن حماد، لذلك لم يشر إليها الإمام أحمد كما هي عادة الحفاظ إذا أحالوا في رواية على أخرى بينوا ما في الرواية المحالة من الزيادة على الأولى. وخلاصة القول: إن الزيادة لا تصح لشذوذها، ولو صحت لم تكن دليلاً على جواز التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، لاحتمال أن يكون معنى قوله: ((فافعل مثل ذلك)) يعني من إتيانه صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وطلب الدعاء منه والتوسل به، والتوضؤ والصلاة، والدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو به. والله أعلم. الزيادة الثانية: قصة الرجل مع عثمان بن عفان، وتوسله به صلى الله عليه وسلم حتى قضى له حاجته، وأخرجها الطبراني في (المعجم الصغير) (ص103 - 104) وفي (الكبير) (3/ 2/1/ 1 - 2) من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد، فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل، فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان رضي الله عنه فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله عليه، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فتصبر، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد، وقد شق علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ائت الميضأة، فتوضأ ثم صلِّ ركعتين، ثم ادعُ بهذه الدعوات)) قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. (¬1) قال الطبراني: (لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي – واسمه عمير بن يزيد – وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح). ... ¬

(¬1) [3762])) رواه الطبراني في ((الكبير)) (9/ 30) وفي ((الصغير)) (1/ 306) وقال الطبراني والحديث صحيح, بعد ما ذكر الطرق التي روي بها, وقال مقبل الوادعي في ((الشفاعة)) (189): في إسنادها روح بن القاسم، لكن تضعيف هذه الزيادة من حيث كونها تدور على شبيب بن سعيد.

لا شك في صحة الحديث، وإنما البحث الآن في هذه القصة التي تفرد بها شبيب بن سعيد كما قال الطبراني، وشبيب هذا متكلم فيه، وخاصة في رواية ابن وهب عنه، لكن تابعه عنه إسماعيل وأحمد ابنا شبيب بن سعيد هذا، أما إسماعيل فلا أعرفه، ولم أجد من ذكره، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه، بخلاف أخيه أحمد فإنه صدوق، وأما أبوه شبيب فملخص كلامهم فيه: أنه ثقة في حفظه ضعف، إلا في رواية ابنه أحمد هذا عنه عن يونس خاصة فهو حجة، فقال الذهبي في (الميزان): (صدوق يغرب، ذكره ابن عدي في (كامله) فقال .. له نسخة عن يونس بن يزيد مستقيمة، حدث عنه ابن وهب بمناكير، قال ابن المديني: كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه صحيح قد كتبته عن ابنه أحمد. قال ابن عدي: كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه، وأرجو أنه لا يتعمد، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس فكأنه يونس آخر. يعني يجوَّد). فهذا الكلام يفيد أن شبيباً هذا لا بأس بحديثه بشرطين اثنين: الأول: أن يكون من رواية ابنه أحمد عنه، والثاني: أن يكون من رواية شبيب عن يونس، والسبب في ذلك أنه كان عنده كتب يونس بن يزيد، كما قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) عن أبيه، فهو إذا حدث من كتبه هذه أجاد، وإذا حدث من حفظه وهم كما قال ابن عدي، وعلى هذا فقول الحافظ في ترجمته من (التقريب): (لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب) فيه نظر، لأنه أوهم أنه لا بأس بحديثه من رواية أحمد مطلقاً، وليس كذلك، بل هذا مقيد بأن يكون من روايته هو عن يونس لما سبق، ويؤيده أن الحافظ نفسه أشار لهذا القيد، فإنه أورد شبيباً هذا في (من طعن فيه من رجال البخاري) من (مقدمة فتح الباري) (ص133) ثم دفع الطعن عنه – بعد أن ذكر من وثقه وقول ابن عدي فيه – بقوله: (قلت: أخرج البخاري من رواية ابنه عنه عن يونس أحاديث، ولم يخرج من روايته عن غير يونس، ولا من رواية ابن وهب عنه شيئاً). فقد أشار رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الطعن قائم في شبيب إذا كانت روايته عن غير يونس، ولو من رواية ابنه أحمد عنه، وهذا هو الصواب كما بينته آنفاً، وعليه يجب أن يحمل كلامه في (التقريب) توفيقاً بين كلاميه، ودفعاً للتعارض بينهما. إذا تبين هذا يظهر لك ضعف هذه القصة، وعدم صلاحية الاحتجاج بها. ثم ظهر لي فيها علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها، فقد أخرج الحديث ابن السني في (عمل اليوم والليلة) (ص202) والحاكم (1/ 526) من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة، وكذلك رواه عون بن عمارة البصري ثنا روح ابن القاسم به، أخرجه الحاكم، وعون هذا وإن كان ضعيفاً، فروايته أولى من رواية شبيب، لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي. وخلاصة القول: إن هذه القصة ضعيفة منكرة، لأمور ثلاثة: ضعف حفظ المتفرد بها، والاختلاف عليه فيها، ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث، وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟ ومن عجائب التعصب واتباع الهوى أن الشيخ الغماري أورد روايات هذه القصة في (المصباح) (ص12و17) من طريق البيهقي في (الدلائل) والطبراني، ثم لم يتكلم عليها مطلقاً لا تصحيحاً ولا تضعيفاً، والسبب واضح، أما التصحيح فغير ممكن صناعة، وأما التضعيف فهو الحق ولكن, ونحو ذلك فعل من لم يوفق في (الإصابة)، فإنهم أوردوا (ص21 - 22) الحديث بهذه القصة، ثم قالوا: (وهذا الحديث صححه الطبراني في (الصغير) و (الكبير)! وفي هذا القول على صغره جهالات:

أولاً: أن الطبراني لم يصحح الحديث في (الكبير) بل في (الصغير) فقط، وأنا نقلت الحديث عنه للقارئين مباشرة، لا بالواسطة كما يفعل أولئك، لقصر باعهم في هذا العلم الشريف (ومن ورد البحر استقل السواقيا). ثانياً: أن الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة، بدليل قوله ... (قد روى الحديث شعبة ... والحديث صحيح) فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو هذه القصة، فلم يصححها إذن الطبراني، فلا حجة لهم في كلامه. ثالتاً: أن عثمان بن حنيف لو ثبتت عنه القصة لم يُعَلِّم ذلك الرجل فيها دعاء الضرير بتمامه، فإنه أسقط منه جملة ((اللهم شفعه في وشفعني فيه)) لأنه يفهم بسليقته العربية أن هذا القول يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً لذلك الرجل، كما كان داعياً للأعمى، ولما كان هذا منفياً بالنسبة للرجل، لم يذكر هذه الجملة؟ قال شيخ الإسلام (ص104): (ومعلوم أن الواحد بعد موته صلى الله عليه وسلم إذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه – مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعُ له – كان هذا كلاماً باطلاً، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا أن يقول: (فشفعه في)، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة، ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: (فشفعه في) لكان كلاماً لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه ولا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول). ثم ذكر أمثلة كثيرة مما تفرد به بعض الصحابة، ولم يتبع عليه مثل إدخال ابن عمر الماء في عينيه في الوضوء، ونحو ذلك فراجعه. ثم قال: وإذا كان في ذلك كذلك، فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً له، ولا شافعاً فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته صلى الله عليه وسلم يتوسلون فلما مات لم يتوسلوا به، بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور، لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر: لا يأكل سميناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون. وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته، فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما، ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق، وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره، وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به، لا بذاته).

هذا، وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة وجدها من الأدلة الأخرى على نكارتها وضعفها، وهي أن الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل، ولا يلتفت إليه! فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تستحي من عثمان، ومع ما عرف به رضي الله عنه من رفقه بالناس، وبره بهم، ولينه معهم؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه، لأنه ظلم يتنافى مع كماله رضي الله عنه وأرضاه. الشبهة الثالثة: قياس الخالق على المخلوقين: يقول المخالفون، إن التوسل بذوات الصالحين وأقدارهم أمر مطلوب وجائز، لأنه مبني على منطق الواقع ومتطلباته، ذلك أن أحدنا إذا كانت له حاجة عند ملك أو وزير أو مسؤول كبير فهو لا يذهب إليه مباشرة، لأنه يشعر أنه ربما لا يلتفت إليه، هذا إذا لم يرده أصلاً، ولذلك كان من الطبيعي إذا أردنا حاجة من كبير فإننا نبحث عمن يعرفه، ويكون مقرباً إليه أثيراً عنده، ونجعله واسطة بيننا وبينه، فإذا فعلنا ذلك استجاب لنا، وقضيت حاجتنا، وهكذا الأمر نفسه في علاقتنا بالله سبحانه – بزعمهم – فالله عز وجل عظيم العظماء، وكبير الكبراء، ونحن مذنبون عصاة، وبعيدون لذلك عن جناب الله، ليس من اللائق بنا أن ندعوه مباشرة، لأننا إن فعلنا ذلك خفنا أن يردنا على أعقابنا خائبين، أو لا يلتفت إلينا فنرجع بخفي حنين، وهناك ناس صالحون كالأنبياء والرسل والشهداء قريبون إليه سبحانه، يستجيب لهم إذا دعوه، ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لديه، أفلا يكون الأولى بنا والأحرى أن نتوسل إليه بجاههم، ونقدم بين يدي دعائنا ذكرهم، عسى أن ينظر الله تعالى إلينا إكراماً لهم، ويجيب دعاءنا مراعاة لخاطرهم، فلماذا تمنعون هذا النوع من التوسل، والبشر يستعملونه فيما بينهم، فلم لا يستعملونه مع ربهم ومعبودهم؟ ونقول جواباً على هذه الشبهة: إنكم يا هؤلاء إذاً تقيسون الخالق على المخلوق، وتشبهون قيوم السماوات والأرض، أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، الرؤوف الرحيم بأولئك الحكام الظالمين، والمتسلطين المتجبرين الذين لا يأبهون لمصالح الرعية، ويجعلون بينهم وبين الرعية حجباً وأستاراً، فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل، ترضي هذه الوسائط بالرشاوي والهبات، وتخضع لها وتتذلل، وتترضاها وتتقرب إليها، فهل خطر ببالكم أيها المساكين أنكم حين تفعلون ذلك تذمون ربكم، وتطعنون به، وتؤذونه، وتصفونه بما يمقته وما يكرهه؟ هل خطر ببالكم أنكم تصفون الله تعالى بأبشع الصفات حين تقيسونه على الحكام الظلمة، والمتسلطين الفجرة، فكيف يسوِّغ هذا لكم دينكم، وكيف يتفق هذا مع ما يجب عليكم من تعظيمكم لربكم، وتمجيدكم لخالقكم؟ ترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجهاً لوجه، ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له، أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر؟ يا هؤلاء إنكم تفخرون في أحاديثكم بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وتمجدونه وتشيدون به وتبينون للناس أنه كان متواضعاً لا يتكبر ولا يتجبر، وكان قريباً من الناس، يتمكن أضعفهم من لقائه ومخاطبته، وأنه كان يأتيه الأعرابي الجاهل الفظ من البادية، فيكلمه دون واسطة أو حجاب، فينظر في حاجته ويقضيها له إن كانت حقاً. ترى هل هذا النوع من الحكام خير وأفضل، أم ذاك النوع الذي تضربون لربكم به الأمثال؟ فما لكم كيف تحكمون؟ وما لعقولكم أين ذهبت، وما لتفكيركم أين غاب، وكيف ساغ لكم تشبيه الله تعالى بالملك الظالم، أم كيف غطى عنكم الشيطان بشاعة قياس الله سبحانه على الأمير الغاشم؟

يا هؤلاء إنكم لو شبهتم الله تعالى بأعدل الناس وأتقى الناس، وأصلح الناس لكفرتم، فكيف وقد شبهتموه بأظلم الناس، وأفجر الناس، وأخبث الناس؟ يا هؤلاء إنكم لو قستم ربكم الجليل على عمر بن الخطاب التقي العادل لوقعتم في الشرك، فكيف تردى بكم الشيطان، فلم ترضوا بذلك حتى أوقعكم في قياس ربكم على أهل الجور والفساد من الملوك والأمراء والوزراء؟ إن تشبيه الله تعالى بخلقه كفر كله حذر منه سبحانه حيث قال: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:73 - 74] (¬1) كما نفى سبحانه أي مشابهة بينه وبين أي خلق من مخلوقاته فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى: 11]. ولكن شر تشبيه أن يشبهه المرء بالأشرار والفجار والفساق من الولاة، وهو يظن أنه يحسن صنعاً! إن هذا هو الذي يحمل بعض العلماء والمحققين على المبالغة في إنكار التوسل بذوات الأنبياء، واعتباره شركاً، وإن كان هو نفسه ليس شركاً عندنا، بل يخشى أن يؤدي إلى الشرك، وقد أدى فعلاً بأولئك الذين يعتذرون لتوسلهم بذلك التشبيه السابق الذي هو الكفر بعينه لو كانوا يعلمون. ومن هنا يتبين أن قول بعض الدعاة الإسلاميين اليوم في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين: (والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة) ليس صحيحاً على إطلاقه لما علمت أن في الواقع ما يشهد بأنه خلاف جوهري، إذ فيه شرك صريح ... ولعل مثل هذا القول الذي يهوِّن من أمر هذا الانحراف هو أحد الأسباب التي تدفع الكثيرين إلى عدم البحث فيه، وتحقيق الصواب في أمره، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار المبتدعين في بدعهم، واستفحال خطرها بينهم، ولذلك قال الإمام العز بن عبد السلام في رسالة (الواسطة) (ص5): (ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجَّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله تعالى حوائج خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطلب، فمن أثبتهم وسائط على هذ الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبَّهون لله، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً ... ). الشبهة الرابعة: هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا استحباب؟ قد يقول القائل: صحيح أنه لم يثبت في السنة ما يدل على استحباب التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، ولكن ما المانع منه إذا فعلناه على طريق الإباحة، لأنه لم يأتِ نهي عنه؟ فأقول: هذه شبهة طالما سمعناها ممن يريد أن يتخذ موقفاً وسطاً بين الفريقين لكي يرضي كلاً منهما، وينجو من حملاتهما عليه! والجواب: يجب أن لا ننسى في هذا المقام معنى الوسيلة إذ هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود ... ¬

(¬1) [3763])) قال الحافظ ابن كثير: (أي لا تجعلوا لله أنداداً وأشباهاً وأمثالاً).

ولا يخفى أن الذي يراد التوصل إليه إما أن يكون دينياً، أو دنيوياً، وعلى الأول لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل إلى الأمر الديني إلا من طريق شرعي، فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلاً سبب لاستجابة الدعاء لرد عليه ذلك إلا أن يأتي بدليل، ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل، لأنه كلام ينقض بعضه بعضاً، أنك تسميه توسلاً، وهذا لم يثبت شرعاً، وليس له طريق آخر في إثباته، وهذا بخلاف القسم الثاني من القسمين المذكورين وهو الدنيوي، فإن أسبابه يمكن أن تعرف بالعقل أو بالعلم أو بالتجربة ونحو ذلك، مثل الرجل يتاجر ببيع الخمر، فهذا سبب معروف للحصول على المال، فهو وسيلة لتحقيق المقصود وهو المال، ولكن هذه الوسيلة نهى الله عنها، فلا يجوز اتباعها بخلاف ما لو تاجر بسبب لم يحرمه الله عز وجل، فهو مباح، أما السبب المدعى أن يقرب إلى الله وأنه أرجى في قبوله الدعاء، فهذا سبب لا يعرف إلا بطريق الشرع، فحين يقال: بأن الشرع لم يرد بذلك، لم يجز تسميته وسيلة حتى يمكن أن يقال إنه مباح التوسل به،. ...... وشيء ثان: وهو أن التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه، وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها في أول البحث، فما الذي يحمل المسلم على اختيار هذا التوسل الذي لم يرد، والإعراض عن التوسل الذي ورد؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة فهي بدعة ضلالة اتفاقاً، وهذا التوسل من هذا القبيل، فلم يجز التوسل به، ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب!. وأمر ثالث: وهو أن هذا التوسل بالذوات يشبه توسل الناس ببعض المقربين إلى الملوك والحكام، والله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء باعتراف المتوسلين بذلك، فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملاً بأولئك الملوك والحكام كما سبق بيانه، وهذا غير جائز. الشبهة الخامسة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين (¬1) زينها لهم الشيطان، ولقنهم إياها حيث يقولون: قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقاً التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فإذا كان التوسل بهذا جائزاً فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز، وأحرى بالمشروعية، فلا ينبغي إنكاره. والجواب من وجهين: الوجه الأول: أن هذا قياس، والقياس في العبادات باطل كما تقدم (ص130)، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول: إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح – وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي – جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي، وهذا وما لزم منه باطل فهو باطل. الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة، لأننا لم نقل – كما لم يقل أحد من السلف قبلنا – أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته، وهذا بين لا يخفى والحمد لله. التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد ناصر الدين الألباني – بتصرف - ص40 توجيه بعض ما استدل به المبتدعون من جواز التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم مع بيان خطئهم في الاستدلال: ¬

(¬1) [3764])) منهم صاحب كتاب ((التاج)).

- حديث الأعمى الذي صححه الترمذي ((أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره عليه، فأمره أن يتوضأ فيصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، يا نبي الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها، اللهم فشفعه في فدعا الله، فرد الله عليه بصره)) (¬1). والجواب عن هذا أن يقال: أولاً: لا ريب أن الله جعل على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما قال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] , وكما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] وفي (الصحيحين): ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم)) (¬2) فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق. وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين. ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] , وبقوله في الحديث الصحيح: ((إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)) (¬3) والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– 2/ 784 - حديث أبي سعيد: ((أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا)) (¬4) , فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف. لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه سبحانه، أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله. فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)). اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– 2/ 796 ¬

(¬1) [3765])) رواه الترمذي (3578) وابن ماجه (1385) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 169) (10495) , وأحمد (4/ 138) (17279) والطبراني (9/ 30) وابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/ 225) وعبد بن حميد (1/ 147) , قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقال الشوكاني في ((تحفة الذاكرين)) (ص: 230): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) [3766])) رواه البخاري (7373) ومسلم (30). (¬3) [3767])) رواه مسلم (2577) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. (¬4) [3768])) رواه ابن ماجه (778) وأحمد (3/ 21) (11172) قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 379): لم أره في شيء من الأصول التي جمعها أبو رزين, وقال ابن تيمية في ((الرد على البكري)) (122) في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف, وضعفه الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)).

ومن هذا الباب: ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: (كنت إذا سألت عليا رضي الله عنه شيئا فلم يعطنيه قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه) (¬1) أو كما قال. فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك. وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: ((إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي)) (¬2) , ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما، أولى من سؤاله بحق جعفر، فكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره، لكن بين المعنيين فرق. فإن السائل بالنبي، طالب به متسبب به، فإن لم يكن في ذلك السبب ما يقتضي حصول مطلوبه، ولا كان مما يقسم به لكان باطلا. وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المقسم للمقسم به، وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار القسم، وفي مثل هذا قيل: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) (¬3) , وقد يكون من باب تعظيم المسؤول به. فالأول يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحض والمنع. والثاني: سؤال للمسؤول بما عنده من محبة المسؤول به وتعظيمه ورعاية حقه. فإن كان ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل حسن السؤال، كسؤال الإنسان بالرحم. وفي هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة، وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– 2/ 801 وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ((اللهم شَفِّعْه فيَّ)) ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم. ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدْعُ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله (¬4). قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- ص 101 - ما روي عن مالك في هذا وجوابه ¬

(¬1) [3769])) رواه الطبراني (2/ 109) وأحمد في ((العلل)) (1/ 378). (¬2) [3770])) رواه مسلم (2552). (¬3) [3771])) رواه البخاري (2703). (¬4) وقد عمي بعض الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن عباس وجابر وكان ابن عباس راغباً في الشفاء، فلو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم مشروعاً لتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم ولشفي وهو أولى بأن يجاب من هذا الصحابي المجهول بل عمي عتبان بن مالك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ابن أم مكتوم.

ثم ذكر حكاية بإسناد غريب (¬1) منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فهر، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، ثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، ثنا يعقوب (¬2) بن إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا ابن حميد (¬3) قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوماً فقال لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] الآية، ومدح قوماً فقال إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات: 3] الآية، وذم قوماً فقال إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ [الحجرات: 4] الآية، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 64]: (¬4). ... ¬

(¬1) لقد بحثت عن رجال هذا الإسناد بدءًا من أبي العباس أحمد بن عمر بن دلهات إلى أبي الحسن بن المنتاب في ترتيب المدارك للقاضي عياض، والصلة لابن بشكوال، فلم أقف لأحد منهم على ترجمة، فهو إسناد غريب حقاً كما وصفه شيخ الإسلام. (¬2) هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن كامجر، قال الدارقطني لا بأس به، ((تاريخ بغداد)) (14/ 291). (¬3) قال الذهبي في ((المغني)) (2/ 573): ضعيف لا من قبل حفظه، قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبوزرعة: يكذب. وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن ابن الشاذكوني. (¬4) قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 353): كذب على مالك ليس لها إسناد معروف وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه.

وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين (¬1) ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه (¬2). وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذَّبه أبو زرعة (¬3) وابن وارة (¬4). وقال صالح بن محمد الأسدي (¬5): ما رأيت أحدًا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه (¬6). وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير (¬7). وقال النسائي: ليس بثقة (¬8). وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات (¬9). وآخر من روى (الموطأ) عن مالك هو أبو مصعب (¬10) وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد ابن إسماعيل السهمي (¬11) توفي سنة تسع وخمسين ومائتين. وفي الإسناد أيضاً من لا يعرف حاله (¬12). ¬

(¬1) انظر: كتاب ((المجروحين)) لابن حبان (2/ 303)، و ((الكاشف)) (3/ 326)، و ((تهذيب التهذيب)) (9/ 131)، والميزان (3/ 531). (¬2) ولم يذكره أحد في تلاميذ مالك حتى المزي في ((تهذيب الكمال))، انظر ترجمة مالك في ((تهذيب الكمال)) (3/ 1296 - 1297)، وترجمة محمد بن حميد منه (3/ 1190 - 1191) وراجع ((ترتيب المدارك)) للقاضي عياض (1/ 282 - 545) وقد قسم فيه الرواة عن مالك إلى طبقتين: كبرى وصغرى، وعلى حسب البلدان، ولم يذكر فيهم ابن حميد وهذا يؤكد ما قاله شيخ الإسلام. (¬3) قال ابن حبان في ((المجروحين)) (2/ 204). قال أبو زرعة وابن وارة - أي للإمام أحمد -: صح عندنا أنه يكذب قال - يعني صالح بن أحمد -: فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده. (¬4) الحافظ الكبير الثبت أبو عبد الله محمد بن مسلم بن عثمان بن وارة الرازي، مات سنة (270)، ((تذكرة الحفاظ)) (2/ 575).قال الحافظ: ثقة حافظ .. من الحادية عشر/ س. (تقريب) (2/ 207). (¬5) الحافظ العلامة شيخ ما وراء النهر، أبو علي صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب الأسدي مولاهم البغدادي، نزيل بخارى، كان ثبتاً صدوقاً مشهوراً. قال أبو سعد الإدريسي: ما أعلم بعصر صالح بالعراق ولا بخراسان في الحفظ مثله ... ، ((تذكرة الحفاظ)) (2/ 541 - 543). (¬6) انظر: ((تاريخ بغداد)) (2/ 262) وقال: محمد بن حميد أحاديثه تزيد وما رأيت أجرأ على الله منه. (¬7) ((تاريخ بغداد)) (2/ 260) (¬8) ((تاريخ بغداد)) (2/ 263). (¬9) كتاب ((المجروحين)) (2/ 203). وقال البخاري في ((التاريخ)) (ق1/ج1/ 69): فيه نظر. وقال إسحاق بن منصور: أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار أنهما كذابان. ((تاريخ بغداد)) (2/ 263). وجرت له قصتان مع أبي حاتم الرازي ومحمد بن عيسى الدامغاني اتضح منهما كذبه العريض. ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم (7/ 232 - 233). راجع هذه الأقوال في ((تهذيب الكمال)) (3/ 1190 - 1191)، و ((تهذيب التهذيب)) (9/ 127 - 131)، و ((الميزان)) (3/ 530). (¬10) الإمام الفقيه أحمد بن أبي بكر الزهري المدني، قاضي المدينة وعالمها، سمع مالكاً وطائفة. وفاته كما ذكر شيخ الإسلام. راجع ((الكاشف)) (1/ 53)، و ((التقريب)) (1/ 12)، و ((التذكرة)) (ص 482). (¬11) الأمر كما ذكر المؤلف. انظر ((الكاشف)) (1/ 52)، و ((التقريب)) (1/ 11). (¬12) لعله يشير بهذا إلى معظم رجال الإسناد من ابن دلهات إلى يعقوب بن إسحاق، وقد أخبرت أني لم أقف لهم على خبر بعد بحث، فلعل واحداً من هؤلاء المجهولين اخترع هذه الحكاية إن سلم من اختراعها ابن حميد.

وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل (¬1) حكاية لا تعرف إلا من جهته! (¬2). هذا إن ثبتت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم ومروان بن محمد الطاطري ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث!. مع أن قوله: (وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة). إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة ... كما جاءت به الأحاديث الصحيحة (¬3) حين يأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردّهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر)) (¬4). ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه: أحدها، قوله: (أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله وأدعو!) فقال: (ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم)؛ فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين أن الداعي إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم ... ومما يوهن هذه الحكاية أنه قال فيها: "ولم تصرفُ وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة". إنما يدل على أنه يوم القيامة يتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة، كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا - لو كانت الحكاية صحيحة - أن يطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره. ¬

(¬1) يريد بهذا شيخ الإسلام أن ابن حميد على مافيه من بلاء لم يصرح في رواية هذه الحكاية بصيغة من صيغ التحديث؛ كسمعت مالكاً، أو حدثني، أو أخبرني، أو عن مالك، أو قال مالك، وإنما قال: ناظر مالك فهي بهذا التعبير مرسلة، فإن سلم محمد بن حميد من تبعتها، فهناك احتمال آخر أن يكون رجل كذاب اخترع هذه الحكاية، ونسبها إلى مالك، أو يكون هناك عدد من الوسائط بين محمد بن حميد وبين مالك فيهم كذاب أو كذابون تداولوا هذه الحكاية حتى وصلت إلى محمد بن حميد. (¬2) يقصد شيخ الإسلام أن محمد بن حميد مع عدم إدراكه لمالك، فقد انفرد من بين أصحاب مالك على كثرتهم، وكثرة الأئمة الحفاظ فيهم، وعلى كثرة من لازمه منهم، ومع معرفتهم وحفظهم وإتقانهم لحديثه ومثل محمد بن حميد - وأصدق منه - إذا انفرد عن أصحاب مالك بحديث، أو مثل هذه الحكاية، لا تقبل منه، ولو أسندها فكيف إذا أرسلها. (¬3) رواه البخاري (4712) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه الترمذي (3148) , وابن ماجه (4308) , قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 325): في إسناده علي بن يزيد بن جدعان, وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) ,

ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا سَنَّهُ لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة بأدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها؟ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟ فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا لعلم أنه لا يقول مثل هذا. ثم قال في الحكاية: "استقبله واستشفع به فيشفعك الله". والاستشفاع به معناه في اللغة؛ أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به. ومنه الحديث الذي في (السنن) (¬1) ((أن أعرابياً قال: يا رسول الله! جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادْعُ الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله. فسبح رسول الله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: ويحك أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه)). وذكر تمام الحديث فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك". ومعلوم أنه لا ينكر أن يُسأل المخلوق بالله أو يقسم عليه بالله، وإنما أن يكون الله شافعاً إلى المخلوق، ولهذا لم ينكر قوله: "نستشفع بك على الله"؛ فإنه هو الشافع المشفع. وهم – لو كانت الحكاية صحيحة – إنما يجيئون إليه لأجل طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال في تمام الحكاية: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [النساء: 64] الآية، وهؤلاء إذا شرع لهم أن يطلبوا منه الشفاعة والاستغفار بعد موته فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم. وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته، فإنما يقال في ذلك: (استشفعْ به فيشفعه الله فيك) لا يقال: فيشفعك الله فيه وهذا معروف الكلام، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر العلماء، يقال: شفع فلان في فلان فشفع فيه. فالمشفع الذي يشفعه المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي يشفع، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المشفع، ليس المشفع الذي يستشفع به. ولهذا يقول في دعائه: يا رب شفعني، فيشفعه الله فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبي شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟. وأيضاً فإنَّ طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره ليس مشروعاً عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– ص147 ¬

(¬1) رواه أبوداود (4726) والطبراني (2/ 128) والآجري في ((الشريعة)) (1/ 280) من حديث جبير بن مطعم, قال أبو داود والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح وافقه عليه جماعة, وقال ابن القيم في ((مختصر الصواعق المرسلة)) (434): إسناده حسن, وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 8): له طريق أخرى عند غير محمد بن إسحاق, وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)).

ثالثا: أحاديث وآثار ضعيفة في التوسل

ثالثا: أحاديث وآثار ضعيفة في التوسل يحتج مجيزو التوسل المبتدع بأحاديث كثيرة، إذا تأملناها نجدها تندرج تحت نوعين اثنين، الأول ثابت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يدل على مرادهم، ولا يؤيد رأيهم كحديث الضرير، وقد تقدم الكلام على هذا النوع. والنوع الثاني غير ثابت النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضه يدل على مرادهم، وبعضه لا يدل، وهذه الأحاديث التي لا تصح كثيرة، فأكتفي بذكر ما اشتهر منها، فأقول: الحديث الأول: عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً ((من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ... أقبل الله عليه بوجهه)) (¬1). رواه أحمد (3/ 21) واللفظ له، وابن ماجه، وانظر تخريجه مفصلاً في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (رقم 24). وإسناده ضعيف لأنه من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، وعطية ضعيف كما قال النووي في (الأذكار) وابن تيمية في (القاعدة الجليلة) والذهبي في (الميزان) بل قال في (الضعفاء) (88/ 1): (مجمع على ضعفه)، والحافظ الهيثمي في غير موضع من (مجمع الزوائد) منها (5/ 236) وأورده أبو بكر بن المحب البعلبكي في (الضعفاء والمتروكين)، والبوصيري كما يأتي، وكذا الحافظ ابن حجر بقوله فيه: (صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً، وقد أبان فيه عن سبب ضعفه وهو أمران: الأول: ضعف حفظه بقوله: (يخطئ كثيراً، وهذا كقوله فيه (طبقات المدلسين): (ضعيف الحفظ) وأصرح منه قوله في (تلخيص الحبير) (ص241 طبع الهند) وقد ذكر حديثاً آخر: (وفيه عطية بن سعيد العوفي وهو ضعيف). الثاني: تدليسه، لكن كان على الحافظ أن يبين نوع تدليسه، فإن التدليس عند المحدثين على أقسام كثيرة من أشهرها ما يلي: الأول: أن يروي الراوي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه، موهماً أنه سمعه منه، كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان. الثاني: أن يأتي الراوي باسم شيخه أو لقبه على خلاف المشهور به تعمية لأمره، وقد صرحوا بتحريم هذا النوع إذا كان شيخه غير ثقة، فدلسه لئلا يعرف حاله، أو أوهم أنه رجل آخر من الثقات على وفق اسمه أو كنيته، وهذا يعرف عندهم بتدليس الشيوخ. ... وتدليس عطية من هذا النوع المحرم، كما كنت بينته في كتابي (الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة). وخلاصة ذلك أن عطية هذا كان يروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فلما مات جالس أحد الكذابين المعروفين، بالكذب في الحديث وهو الكلبي، فكان عطية إذا روى عنه كناه أبا سعيد، فيتوهم السامعون منه أنه يريد أبا سعيد الخدري! وهذا وحده عندي يسقط عدالة عطية هذا، فكيف إذا انضم إلى ذلك سوء حفظه! ولهذا كنت أحب للحافظ رحمه الله أن ينبه على أن تدليس عطية من هذا النوع الفاحش، ولو بالإشارة كما فعل في (طبقات المدلسين) إذ قال: (مشهور بالتدليس القبيح) ... ثم كأن الحافظ نسي أو وهم – أو غير ذلك من الأسباب التي تعرض للبشر – فقال في تخريجه لهذا الحديث: إن عطية قال في رواية: حدثني أبو سعيد. قال: (فأمن بذلك تدليس عطية) كما نقله ابن علان عنه، وقلده في ذلك بعض المعاصرين. ... ¬

(¬1) [3794])) انظر ((مسند أحمد)) (3/ 21) (11172) , ورواه ابن ماجه (778) , قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 379): لم أره في شيء من الأصول التي جمعها أبو رزين, وقال ابن تيمية في ((الرد على البكري)) (122) في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف, وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 426): إسناده حسن, وحسنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 267) , وضعفه الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)) (152). انظر ((السلسلة الضعيفة)) (24).

والتصريح بالسماع إنما يفيد إذا كان التدليس من النوع الأول، وتدليس عطية من النوع الآخر القبيح، فلا يفيد فيه ذلك، لأنه في هذه الرواية أيضاً قال: (حدثني أبو سعيد) فهذا هو عين التدليس القبيح. فتبين مما سبق أن عطية ضعيف لسوء حفظه وتدليسه الفاحش، فكان حديثه هذا ضعيفاً، وأما تحسين الحافظ له الذي اغتر به من لا علم عنده فهو بناء على سهوه السابق، فتنبه ولا تكن من الغافلين. وفي الحديث علل أخرى تكلمت عليها في الكتاب المشار إليه سابقاً، فلا حاجة للإعادة، فليرجع إليه من شاء الزيادة. وأما فهم بعض المعاصرين من عبارة الحافظ ابن حجر السابقة في (التقريب) أنها تفيد توثيق عطية هذا ففهم لا يغبطون عليه، وقد سألت الشيخ أحمد بن الصديق حين التقيت به في ظاهرية دمشق عن هذا الفهم فتعجب منه، فإن من كثر خطؤه في الرواية سقطت الثقة به بخلاف من قال ذلك منه، فالأول ضعيف الحديث، والآخر حسن الحديث، ولذلك جعل الحافظ في (شرح النخبة) من كثر غلطه قرين من ساء حفظه، وجعل حديث كل منهما مردوداً فراجعه مع حاشية الشيخ علي القاري عليه (ص121، 130). وإنما غرَّ هؤلاء ما نقلوه عن الحافظ أنه قال في (تخريج الأذكار): (ضعف عطية إنما جاء من قبل تشيعه، وقيل تدليسه، وإلا فهو صدوق). وهم لقصر باعهم إن لم نقل لجهلهم في هذا العلم لا جرأة لهم على بيان رأيهم الصريح في أوهام العلماء، بل إنهم يسوقون كلماتهم كأنها في مأمن من الخطأ والزلل، لا سيما إذا كانت موافقة لغرضهم كهذه الجملة، وإلا فهي ظاهرة التعارض مع قول الحافظ المنقول عن (التقريب) إذ أنها تعلل ضعف عطية بسببين: أحدهما: التشيع، وهذا ليس جرحاً مطلقاً على الراجح. والثاني: التدليس، وهذا جرح قد يزول كما سيأتي، ومع ذلك فإنه أشار إلى تضعيفه لهذا السبب بقوله: (قيل). بينما جزم في (التقريب) بأنه كان مدلساً، كما جزم بأنه كان شيعياً، ولذلك أورده (أعني الحافظ نفسه) في رسالة (طبقات المدلسين) (ص18) فقال: (تابعي معروف، ضعيف الحفظ مشهور بالتدليس القبيح) ذكره في (المرتبة الرابعة) وهي التي يورد فيها (من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد) كما ذكره في المقدمة، فهذان النصان من الحافظ نفسه دليل على وهمه في تضعيفه كون عطية مدلساً في الجملة المذكورة آنفاً. فهذا وجه من وجوه التعارض بينها وبين عبارة (التقريب). وثمة وجه آخر وهو أنه في هذه الجملة لم يصفه بما هو جرح عنده – كما سبق عن (شرح النخبة) – وهو قوله في (التقريب): (يخطئ كثيراً) فهذا كله يدلنا على أن الحافظ رحمه الله تعالى لم يكن قد ساعده حفظه حين تخريجه لهذا الحديث، فوقع في هذا القصور الذي يشهد به كلامه المسطور في كتبه الأخرى، وهي أولى بالاعتماد عليها من كتابه (التخريج)، لأنه في تلك ينقل عن الأصول مباشرة، ويلخص منها بخلاف صنيعه في (التخريج). ولما ذكرنا من حال العوفي ضعف الحديث غير واحد من الحفاظ كالمنذري في (الترغيب) والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) وكذا البوصيري، فقال في (مصباح الزجاجة) (2/ 52): (هذا إسناد مسلسل بالضعفاء: عطية وفضيل بن مرزوق والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء). وقال صديق خان في (نزل الأبرار) (ص71) بعد أن أشار لهذا الحديث وحديث بلال الآتي بعده: (وإسنادهم ضعيف، صرح بذلك النووي في (الأذكار). الحديث الثاني:

وحديث بلال الذي أشار إليه صديق خان هو ما روي عنه أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قال: بسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً .. )) (¬1) الحديث أخرجه ابن السني في (عمل اليوم والليلة – رقم82) من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عنه. ... وهذا سند ضعيف جداً، وآفته الوازع هذا، فإنه لم يكن عنده وازع يمنعه من الكذب، كما بينته في (السلسلة الضعيفة) ولذلك لما قال النووي في (الأذكار): (حديث ضعيف أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث) قال الحافظ بعد تخريجه: (هذا حديث واه جداً، أخرجه الدارقطني في (الأفراد) من هذا الوجه وقال: تفرد به الوازع، وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث. والقول فيه أشد من ذلك، فقال ابن معين والنسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم وجماعة، متروك الحديث، وقال الحاكم: يروي أحاديث موضوعة). ... فلا يجوز الاستشهاد به كما فعل الشيخ الكوثري، والشيخ الغماري في (مصباح الزجاجة) وغيرهما من المبتدعة. ومع كون هذين الحديثين ضعيفين فهما لا يدلان على التوسل بالمخلوقين أبداً، وإنما يعودان إلى أحد أنواع التوسل المشروع الذي تقدم الكلام عنه، وهو التوسل إلى الله تعالى بصفة من صفاته عز وجل، لأن فيهما التوسل بحق السائلين على الله وبحق ممشى المصلين. فما هو حق السائلين على الله تعالى؟، لا شك أنه إجابة دعائهم، وإجابة الله دعاء عباده صفة من صفاته عز وجل، وكذلك حق ممشى المسلم إلى المسجد هو أن يغفر الله له، ويدخله الجنة ومغفرة الله تعالى ورحمته، وإدخاله بعض خلقه ممن يطيعه الجنة. كل ذلك صفات له تبارك وتعالى. وبهذا تعلم أن هذا الحديث الذي يحتج به المبتدعون ينقلب عليهم، ويصبح بعد فهمه فهماً جيداً حجة لنا عليهم، والحمد لله على توفيقه. الحديث الثالث: عن أبي أمامة قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح، وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء: اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد .. أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك ... )) (¬2). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (10/ 117): (رواه الطبراني، وفيه فضال بن جبير، وهو ضعيف مجمع على ضعفه). ... بل هو ضعيف جداً، اتهمه ابن حبان فقال: (شيخ يزعم أنه سمع أبا أمامة، يروي عنه ما ليس منه حديثه). وقال أيضاً: (لا يجوز الاحتجاج به بحال، يروي أحاديث لا أصل لها). وقال ابن عدي في (الكامل) (25/ 13): (أحاديثه كلها غير محفوظة). ... فالحديث شديد الضعف، فلا يجوز الاستشهاد به أيضاً، كما فعل صاحب (المصباح) (ص56). الحديث الرابع: ¬

(¬1) [3795])) انظر ((عمل اليوم والليلة) (1/ 161) لابن السني, قال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 267): الحديث واه جدا, وقال النووي في ((الأذكار)) (1/ 78): حديث ضعيف أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث. والحديث رواه ابن ماجه (778) , وأحمد (3/ 21) (11172) , من حديث فضيل بن مرزوق عن عطية بن سعد العوفى عن أبى سعيد الخدرى, قال ابن تيمية في ((الرد على البكري)) (122): في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف, وضعفه الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)). (¬2) [3796])) رواه الطبراني (8/ 264) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 120): فيه فضال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه, وضعفه الألباني انظر ((السلسلة الضعيفة)) (6253).

عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنهما دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون ... فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطجع فيه فقال: ((الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع مدخلها بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين ... )) (¬1). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (9/ 257): (رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح، وثقة ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح). ... ومن طريق الطبراني رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء) (3/ 121) وإسناده عندهما ضعيف، لأن روح بن صلاح الذي في إسناده قد تفرد به، كما قال أبو نعيم نفسه، وروح ضعفه ابن عدي، وقال ابن يونس: رويت عنه مناكير، وقال الدارقطني (ضعيف في الحديث) وقال ابن ماكولا: (ضعفوه) وقال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثين: (له أحاديث كثيرة، في بعضها نكرة) فقد اتفقوا على تضعيفه فكان حديثه منكراً لتفرده به. وقد ذهب بعضهم إلى تقوية هذا الحديث لتوثيق ابن حبان والحاكم لروح هذا، ولكن ذلك لا ينفعهم، لما عرفا به من التساهل في التوثيق، فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى لو كان الجرح مبهماً، فكيف مع بيانه كما هي الحال هنا، وقد فصلت الكلام على ضعف هذا الحديث في (السلسلة الضعيفة) فلا نعيد الكلام عليه في هذه العجالة ... الحديث الخامس: عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين)) (¬2). فيرى المخالفون أن هذا الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب من الله تعالى أن ينصره، ويفتح عليه بالضعفاء المساكين من المهاجرين، وهذا – بزعمهم – هو التوسل المختلف فيه نفسه. والجواب من وجهين: الأول: ضعف الحديث، فقد أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير) (1/ 81/2): حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه حدثنا أبي حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن أبيه عن أمية به. وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي بن عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد به. ثم رواه من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة عن أمية بن خالد مرفوعاً بلفظ: (( ... يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين)). ... مداره على أمية هذا، ولم تثبت صحبته، فالحديث مرسل ضعيف، وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب) (1/ 38): (لا تصح عندي صحبته، والحديث مرسل) وقال الحافظ في (الإصابة) (1/ 133): (ليست له صحبة ولا رواية). ... وفيه علة أخرى، وهي اختلاط أبي إسحاق وعنعنته، فإنه كان مدلساً، إلا أن سفيان سمع منه قبل الاختلاط، فبقيت العلة الأخرى وهي العنعنة. فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة. وهذا هو الجواب الأول. ¬

(¬1) [3797])) رواه الطبراني في ((الكبير)) (24/ 351) , وفي ((الأوسط)) (1/ 67) وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (23). (¬2) [3798])) رواه الطبراني (1/ 292) , قال ابن عبد البر في ((الاستيعاب)) (1/ 197): مرسل, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 142): رواته رواة الصحيح وهو مرسل, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 265): رجاله رجال الصحيح, وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 57): مرسل, وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (1858) ,

الثاني: أن الحديث لو صح فلا يدل إلا على مثل ما دل عليه حديث عمر، وحديث الأعمى من التوسل بدعاء الصالحين. قال المناوي في (فيض القدير): ((كان يستفتح)) أي يفتتح القتال، من قوله تعالى: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال:19] ذكره الزمخشري. ((ويستنصر)) أي يطلب النصرة ((بصعاليك المسلمين)) أي بدعاء فقرائهم الذين لا مال لهم. ... وقد جاء هذا التفسير من حديثه، أخرجه النسائي (2/ 15) بلفظ: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم وإخلاصهم)) (¬1) وسنده صحيح، وأصله في (صحيح البخاري)، فقد بين الحديث أن الاستنصار إنما يكون بدعاء الصالحين، لا بذواتهم وجاههم. ومما يؤكد ذلك أن الحديث ورد في رواية قيس بن الربيع المتقدمة بلفظ: ((كان يستفتح ويستنصر ... )) فقد علمنا بهذا أن الاستنصار بالصالحين يكون بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم، وهكذا الاستفتاح، وبهذا يكون هذا الحديث – إن صح – دليلاً على التوسل المشروع، وحجة على التوسل المبتدع، والحمد لله. الحديث السادس: عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: ((لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم ‍! وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضِف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتُك)) (¬2). أخرجه الحاكم في (المستدرك) (2/ 615) من طريق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري: حدثنا إسماعيل بن مسلمة: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر. وقال: صحيح الإسناد ... فتعقبه الذهبي فقال: (قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، وعبد الله بن أسلم الفهري لا أدري من ذا) قلت: ومن تناقض الحاكم في (المستدرك) نفسه أنه أورد فيه (3/ 332) حديثاً آخر لعبد الرحمن هذا ولم يصححه، بل قال: (والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد!). ... والفهري هذا أورده الذهبي في (الميزان) وساق له هذا الحديث وقال: (خبر باطل)، وكذا قال الحافظ ابن حجر في (اللسان) (3/ 360) وزاد عليه قوله في الفهري هذا: (لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته) قلت: والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رُشيد، قال الحافظ: ذكره ابن حبان، متهم بوضع الحديث، يضع على ليث ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه، وهو الذي روى عن ابن هدية نسخة كأنها معمولة). ... والحديث رواه الطبراني في (المعجم الصغير) (ص207): ثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري: ثنا أحمد بن سعيد المدني الفهري: ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به. وهذا سند مظلم فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون، وقد أشار إلى ذلك الحافظ الهيثمي حيث قال في (مجمع الزوائد) (8/ 253): (رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم). ... ¬

(¬1) [3799])) رواه النسائي (6/ 45) (3178) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2/ 409): إسناده صحيح على شرط الشيخين. والحديث أصله في ((صحيح البخاري)) (2896). (¬2) [3800])) رواه الحاكم (2/ 672): وقال هذا حديث صحيح الإسناد, وتعقبه الذهبي وقال: بل موضوع, وقال البيهقي في ((دلائل النبوة)) (5/ 489): تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه عنه وهو ضعيف, وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 299): [فيه] عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وفيه كلام, وقال الألباني في ((التوسل)) (103): موضوع.

وهذا إعلال قاصر، يوهم من لا علم عنده أن ليس فيهم من هو معروف بالطعن فيه، وليس كذلك فإن مداره على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال البيهقي: (إنه تفرد به) وهو متهم بالوضع، رماه بذلك الحاكم نفسه، ولذلك أنكر العلماء عليه تصحيحه لحديثه، ونسبوه إلى الخطأ والتناقض، فقال (وارث علم الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين شيخ الإسلام ابن تيمية) (¬1) رحمه الله في (القاعدة الجليلة) (ص89): (ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب (المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم): (عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه) , قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً (¬2)، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني، وغيرهم. وقال ابن حبان: (كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك). وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث، وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم). ... وقد أورد الحاكم نفسه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابه (الضعفاء) كما سماه العلامة ابن عبد الهادي، وقال في آخره: (فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم، لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا أستحله تقليداً، والذي أختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن)) (¬3). ... فمن تأمل في كلام الحاكم هذا والذي قبله يتبين له بوضوح أن حديث عبد الرحمن بن زيد هذا موضوع عند الحاكم نفسه، وأن من يرويه بعد العلم بحاله فهو أحد الكاذبَيْن. وقد اتفق عند التحقيق كلام الحفاظ ابن تيمية والذهبي والعسقلاني على بطلان هذا الحديث، وتبعهم على ذلك غير واحد من المحققين كالحافظ ابن عبد الهادي كما سيأتي، فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصحح الحديث بعد اتفاق هؤلاء على وضعه تقليداً للحاكم في أحد قوليه، مع اختياره في قوله الآخر لطالب العلم أن لا يكتب حديث عبد الرحمن هذا، وأنه إن فعل كان أحد الكاذبين كما سبق. ... أن للحديث علتين: الأولى: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأنه ضعيف جداً. الثانية: جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن. ¬

(¬1) [3801])) من كلام العلامة الشيخ محب الدين الخطيب في مقدمته للقاعدة الجليلة. (¬2) [3802])) هذا نص من شيخ الإسلام على أن كلمة (يغلط كثيراً) صيغة جرح لا تعديل، ولا يخفى أنه لا فرق بينها وبين كلمة (يخطئ كثيراً) التي وصف الحافظ بها عطية العوفي. (¬3) [3803])) رواه مسلم في المقدمة (1/ 7) من حديث المغيرة بن شعبة.

وللحديث عندي علة أخرى. وهي اضطراب عبد الرحمن أو من دونه في إسناده، فتارة كان يرفعه كما مضى، وتارة كان يرويه موقوفاً على عمر، لا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أبو بكر الآجري في كتاب (الشريعة) (ص427) من طريق عبد الله ابن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد به، وعبد الله هذا لم أعرفه أيضاً، فلا يصح عن عمر مرفوعاً ولا موقوفاً، ثم رواه الآجري من طريق آخر عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم قال: ((اللهم أسألك بحق محمد عليك .. )) الحديث نحوه مختصراً، (¬1) وهذا مع إرساله ووقفه، فإن إسناده إلى ابن أبي الزناد ضعيف جداً، وفيه عثمان بن خالد والد أبي مروان العثماني، قال النسائي: (ليس بثقة). وعلى هذا فلا يبعد أن يكون أصل هذا الحديث من الإسرائيليات التي تسربت إلى المسلمين من بعض مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم. أو عن كتبهم التي لا يوثق بها، لما طرأ عليها من التحريف والتبديل كما بينه شيخ الإسلام في كتبه، ثم رفعه بعض هؤلاء الضعفاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ أو عمداً. مخالفة هذا الحديث للقرآن: ومما يؤيد ما ذهب إليه العلماء من وضع هذا الحديث وبطلانه أنه يخالف القرآن الكريم في موضعين منه: الأول: أنه تضمن أن الله تعالى غفر لآدم بسبب توسله به صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37] وقد جاء تفسير هذه الكلمات عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما مما يخالف هذا الحديث، فأخرج الحاكم (3/ 545) عنه: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ قال: أي رب! ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال: بلى. قال: أي رب! ألم تسكنّي جنتك؟ قال: بلى. قال: ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن تبتُ وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى. قال: فهو قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37])) (¬2) وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. ... وقول ابن عباس هذا في حكم المرفوع من وجهين: الأول: أنه أمر غيبي لا يقال من مجرد الرأي. الثاني: أنه ورد في تفسير الآية، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع ... ولا سيما إذا كان من قول إمام المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)) (¬3). وقد قيل في تفسير هذه الكلمات: إنها ما في الآية الأخرى قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].وبهذا جزم السيد رشيد رضا في (تفسيره). ¬

(¬1) [3804])) رواه الآجري في ((الشريعة)) (1/ 395). (¬2) [3805])) رواه الحاكم (2/ 594) والآجري في ((الشريعة)) (1/ 370) وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (1/ 104) قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وصححه الألباني في ((التوسل)) (113). (¬3) [3806])) رواه أحمد (1/ 266) (2397) والطبراني (10/ 263) والحاكم (3/ 615) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البزار في ((البحر الزخار)) (11/ 282): روي من غير وجه بأسانيد مختلفة وباختلاف ألفاظ, وصححه ابن عبد البر في ((الاستيعاب)) (3/ 67) وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 279): لأحمد طريقان رجالهما رجال الصحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (6/ 88).

(1/ 279). لكن أشار ابن كثير (1/ 81) إلى تضعيفه، ولا منافاة عندي بين القولين، بل أحدهم يتمم الآخر، فحديث ابن عباس لم يتعرض لبيان ما قاله آدم عليه السلام بعد أن تلقى من ربه تلك الكلمات وهذا القول يبين ذلك، فلا منافاة والحمد لله، وثبت مخالفة الحديث للقرآن، فكان باطلاً. الموضع الثاني: قوله في آخره: ((ولولا محمد ما خلقتك)) فإن هذا أمر عظيم يتعلق بالعقائد التي لا تثبت إلا بنص متواتر اتفاقاً، أو صحيح عند آخرين، ولو كان ذلك صحيحاً لورد في الكتاب والسنة الصحيحة، وافتراض صحته في الواقع مع ضياع النص الذي تقوم به الحجة ينافي قوله تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. والذكر هنا يشمل الشريعة كلها قرآناً وسنة، كما قرره ابن حزم في (الإحكام) وأيضاً فإن الله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الحكمة التي من أجلها خلق آدم وذريته، فقال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] , فكل ما خالف هذه الحكمة أو زاد عليها لا يقبل إلا بنص صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم كمخالفة هذا الحديث الباطل. ومثله ما اشتهر على ألسنة الناس: ((لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك)) (¬1) فإنه موضوع كما قاله الصنعاني ووافقه الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) (¬2). ومن الطرائف أن المتنبي ميرزا غلام أحمد القادياني سرق هذا الحديث الموضوع فادعى أن الله خاطبه بقوله: ((لولاك لما خلقت الأفلاك))!! وهذا شيء يعترف به أتباعه القاديانيون ... لوروده في كتاب متنبئهم (حقيقة الوحي) (ص99). ثم على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط كما يزعم بعض المخالفين خلافاً لمن سبق ذكرهم من العلماء والحفاظ، فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه، لأن – على قولهم – عبادة مشروعة، وأقل أحوال العبادة أن تكون مستحبة، والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة، فإذا الحديث عنده ضعيف، فلا حجة فيه البتة، وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى. الحديث السابع ((توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)): وبعضهم يرويه بلفظ: ((إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم)) (¬3). هذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة، وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة كما نبَّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (القاعدة الجليلة) (ص132، 150) قال: (مع أن جاهه صلى الله عليه وسلم عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له كما قال سبحانه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سورة سبأ: 22 - 23]. ¬

(¬1) [3807])) قال الصغاني في ((موضوعات الصغاني)) (52): موضوع, وقال ملا علي قاري في ((الأسرار المرفوعة)) (288): قيل لا أصل له أو بأصله موضوع, انظر ((السلسلة الضعيفة)) (1/ 359). (¬2) [3808])) ((الفوائد المجموعة)) (1/ 152). (¬3) [3809])) قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (27/ 126): كذب موضوع, وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1/ 99): لا أصل له.

فلا يلزم إذاً من كون جاهه صلى الله عليه وسلم عند ربه عظيماً، أن نتوسل به إلى الله تعالى لعدم ثبوت الأمر به عنه صلى الله عليه وسلم، ويوضح ذلك أن الركوع والسجود من مظاهر التعظيم فيما اصطلح عليه الناس، فقد كانوا وما يزال بعضهم يقومون ويركعون ويسجدون لمليكهم ورئيسهم والمعظم لديهم، ومن المتفق عليه بين المسلمين أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أعظم الناس لديهم، وأرفعهم عندهم. ترى فهل يجوز لهم أن يقوموا ويركعوا ويسجدوا له في حياته وبعد مماته؟ الجواب: إنه لا بد لمن يجوز ذلك، من أن يثبت وروده في الشرع، وقد نظرنا فوجدنا أن السجود والركوع لا يجوزان إلا له سبحانه وتعالى، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد أو يركع أحد لأحد، كما أننا رأينا في السنة كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للقيام، فدل ذلك على عدم مشروعيته. ترى فهل يستطيع أحد أن يقول عنا حين نمنع السجود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إننا ننكر جاهه صلى الله عليه وسلم وقدره؟ كلا ثم كلا. فظهر من هذا بجلاء إن شاء الله تعالى أنه لا تلازم بين ثبوت جاه النبي صلى الله عليه وسلم وبين تعظيمه بالتوسل بجاهه ما دام أنه لم يرد في الشرع. هذا، وإن من جاهه صلى الله عليه وسلم أنه يجب علينا اتباعه وإطاعته كما يجب إطاعة ربه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا أمرتكم به)) (¬1) فإذا لم يأمرنا بهذا التوسل ولو أمرَ استحباب فليس عبادة، فيجب علينا اتباعه في ذلك وأن ندع العواطف جانباً، ولا نفسح لها المجال حتى ندخل في دين الله ما ليس منه بدعوى حبه صلى الله عليه وسلم، فالحب الصادق إنما هو بالاتِّباع، وليس بالابتداع كما قال عز وجل: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31] , ومنه قول الشاعر: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرك في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع أثران ضعيفان: 1 – أثر الاستسقاء بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته: وبعد أن فرغنا من إيراد الأحاديث الضعيفة في التوسل، وتحقيق القول فيها يحسن بنا أن نورد أثراً، كثيراً ما يورده المجيزون لهذا التوسل المبتدع، لنبين حاله من صحة أو ضعف، وهل له علاقة بما نحن فيه أم لا؟ فأقول: قال الحافظ في (الفتح) (2/ 397) ما نصه: (وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار – وكان خازن عمر – قال: ((أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! استسق لأمتك، فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجلُ في المنام، فقيل له: ائت عمر .. )) الحديث. (¬2) وقد روى سيف في (الفتح) أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة). ... والجواب من وجوه: ¬

(¬1) [3810])) رواه الشافعي في ((المسند)) (1/ 233) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 76) وفي ((شعب الإيمان)) (3/ 239) والبغوي في ((شرح السنة)) (7/ 241) من حديث المطلب بن حنطب رضي الله عنه, قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 417) إسناده مرسل حسن. (¬2) [3811])) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 356) , وضعفه الألباني في ((التوسل)) (118) قال: فيه مالك الدار غير معروف العدالة والضبط.

الأول: عدم التسليم بصحة هذه القصة، لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح، وقد أورده ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (4/ 213) ولم يذكر راوياً عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه – مع سعة حفظه واطلاعه – لم يحك فيه توثيقاً فبقي على الجهالة، ولا ينافي هذا قول الحافظ: ( ... بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان ... ) لأننا نقول: إنه ليس نصاً في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسنادَ من عند أبي صالح، ولقال رأساً: (عن مالك الدار ... وإسناده صحيح) ولكنه تعمد ذلك، ليلفت النظر إلى أن ها هنا شيئاً ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة، فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله، لما فيه من إيهام صحته لاسيما عند الاستدلال به، بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ رحمه الله هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته. والله أعلم. وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه الصناعة، ويؤيد ما ذهبت إليه أن الحافظ المنذري أورد في (الترغيب) (2/ 41 - 42) قصة أخرى من رواية مالك الدار عن عمر ثم قال: (رواه الطبراني في (الكبير)، ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون، ومالك الدار لا أعرفه). وكذا قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (3/ 125). وقد غفل عن هذا التحقيق صاحب كتاب (التوصل) (ص241) فاغتر بظاهر كلام الحافظ، وصرح بأن الحديث صحيح، وتخلص منه بقوله: (فليس فيه سوى: جاء رجل .. ) واعتمد على أن الرواية التي فيها تسمية الرجل ببلال بن الحارث فيها سيف، وقد عرفت حاله. وهذا لا فائدة كبرى فيه، بل الأثر ضعيف من أصله لجهالة مالك الدار كما بيناه. الثاني: أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة، بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله تعالى في سورة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا [نوح: 10 - 11] وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقاً أنه التجأ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعاً لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة. الثالث: هب أن القصة صحيحة، فلا حجة فيها، لأن مدارها على رجل لم يسم، فهو مجهول أيضاً، وتسميته بلالاً في رواية سيف لا يساوي شيئاً، لأن سيفاً هذا – وهو ابن عمر التميمي – متفق على ضعفه عند المحدثين، بل قال ابن حبان فيه: (يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث). فمن كان هذا شأنه لا تقبل روايته ولا كرامة، لا سيما عند المخالفة ... الفرق بين التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وبين طلب الدعاء منه:

الوجه الرابع: أن هذا الأثر ليس فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه طلب الدعاء منه بأن يسقي الله تعالى أمته، وهذه مسألة أخرى لا تشملها الأحاديث المتقدمة، ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، أعني الطلب منه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) (ص19 - 20): (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: (يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله يا ولي الله (الأصل: رسول الله) ادع الله لي، سل الله لي، سل الله أن يغفر لي ... ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلاناً الذي ظلمني، ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجيرك. ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضراً أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا لأمته، وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين، وكان أصحابه يبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكوا إليك جدب الزمان أو قوة العدو، أن كثرة الذنوب ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين، وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة وضلالة باتفاق المسلمين (¬1). ¬

(¬1) [3812])) يحمل كلام شيخ الإسلام هنا على أحد وجهين: أولهما: أن يكون خطاب المخالفين بما يعتقدون من انقسام البدعة بحسب الأحكام الخمسة، ومنها الوجوب والاستحباب. وثانيهما: أن يكون أراد بالبدعة اللغوية منها، وهي ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ودل عليها الدليل الشرعي. وإنما قلنا هذا لما هو معروف عنه رحمه الله أنه يعد البدعة الشرعية كلها ضلالة، وتمام كلامه هنا يدل عليه.

ومن قال في بعض البدع: إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين: إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله، ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال ((هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم قرأ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (¬1) [الأنعام: 153]. قلت: إنما وقع بعض المتأخرين في هذا الخطأ المبين بسبب قياسهم حياة الأنبياء في البرزخ على حياتهم في الدنيا، وهذا قياس باطل مخالف للكتاب والسنة والواقع، وحسبنا الآن مثالاً على ذلك أن أحداً من المسلمين لا يجيز الصلاة وراء قبورهم، ولا يستطيع أحد مكالمتهم، ولا التحدث إليهم، وغير ذلك من الفوارق التي لا تخفى على عاقل. الاستغاثة بغير الله تعالى: ونتج من هذا القياس الفاسد والرأي الكاسد تلك الضلالة الكبرى، والمصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من عامة المسلمين وبعض خاصتهم، ألا وهي الاستغاثة بالأنبياء الصالحين من دون الله تعالى في الشدائد والمصائب حتى إنك لتسمع جماعات متعددة عند بعض القبور يستغيثون بأصحابها في أمور مختلفة، كأن هؤلاء الأموات يسمعون ما يقال لهم، ويطلب منهم من الحاجات المختلفة بلغات متباينة، فهم عند المستغيثين بهم يعلمون مختلف لغات الدنيا، ويميزون كل لغة عن الأخرى، ولو كان الكلام بها في آن واحد! وهذا هو الشرك في صفات الله تعالى الذي جهله كثير من الناس، فوقعوا بسببه في هذه الضلالة الكبرى. ويبطل هذا ويرد عليه آيات كثيرة. منها قوله تعالى: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [الإسراء: 56]. والآيات في هذا الصدد كثيرة، بل قد ألف في بيان ذلك كتب ورسائل عديدة (¬2). فمن كان في شك من ذلك فليرجع إليها يظهر له الحق إن شاء الله، ولكني وقفت على نقول لبعض علماء الحنفية رأيت من المفيد إيرادها هنا حتى لا يظن ظان أن ما قلناه لم يذهب إليه أحد من أصحاب المذاهب المعروفة. ¬

(¬1) [3813])) رواه أحمد (1/ 465) وابن حبان (1/ 180) والحاكم (2/ 261) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 343) والطيالسي (1/ 33) , قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال ابن القيم في ((طريق الهجرتين)) (152): ثابت, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 25): فيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (6/ 89): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) [3814])) منها ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) و ((الرد على البكري)) لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن أجمعها ((مجموعة التوحيد النجدية)) فعليك بمطالعتها.

قال الشيخ أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في (التعليق المغني على سنن الدارقطني) (ص520 - 521): (ومن أقبح المنكرات وأكبر البدعات وأعظم المحدثات ما اعتاده أهل البدع من ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله بقولهم: يا شيخ عبد القادر الجيلاني شيئاً لله، والصلوات المنكوسة إلى بغداد، وغير ذلك مما لا يعد، هؤلاء عبدة غير الله ما قدروا الله حق قدره، ولم يعلم هؤلاء السفهاء أن الشيخ رحمه الله لا يقدر على جلب نفع لأحد ولا دفع ضر عنه مقدار ذرة، فلم يستغيثون به ولم يطلبون الحوائج منه؟! أليس الله بكاف عبده؟!! اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك أو نعظم أحداً من خلقك كعظمتك، قال في (البزازية) وغيرها من كتب الفتاوى: (من قال: إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر) (¬1) وقال الشيخ فخر الدين أبو سعد عثمان الجياني بن سليمان الحنفي في رسالته: "ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقد بذلك كفر. كذا في (البحر الرائق)، وقال القاضي حميد الدين ناكوري الهندي في (التوشيح): (منهم الذين يدعون الأنبياء والأولياء عند الحوائج والمصائب باعتقاد أن أرواحهم حاضرة تسمع النداء وتعلم الحوائج، وذلك شرك قبيح وجهل صريح، قال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5]، وفي (البحر) (¬2): لو تزوج بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح، ويكفر لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب (¬3)، وهكذا في (فتاوى قاضي خان) و (العيني) و (الدر المختار) و (العالمكيرية) وغيرها من كتب العلماء الحنفية، وأما في الآيات الكريمة والسنة المطهرة في إبطال أساس الشرك، والتوبيخ لفاعله فأكثر من أن تحصى، - ولشيخنا العلامة السيد محمد نذير حسين الدهلوي في رد تلك البدعة المنكرة رسالة شافية). 2 – أثر فتح الكوى فوق قبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء: روى الدارمي في (سننه) (1/ 43): حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد ابن زيد ثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحَط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: (انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق) (¬4). ... وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة: أولها: أن سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن زيد فيه ضعف. قال فيه الحافظ في (التقريب): صدوق له أوهام. وقال الذهبي في (الميزان): (قال يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة، يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد لا يستمرئه). وثانيهما: أنه موقوف على عائشة وليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صح لم تكن فيه حجة، لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة، مما يخطئون فيه ويصيبون، ولسنا ملزمين بالعمل بها. ¬

(¬1) [3815])) ((البحر)) (5/ 134). (¬2) [3816])) (3/ 94). (¬3) [3817])) ومن هذا القبيل ما اعتاده كثير من الناس من الإجابة بقولهم: "الله ورسوله أعلم"! وما ورد من قول بعض الصحابة ذلك فإنما كان في حال حياته صلى الله عليه وسلم، أما في حال وفاته فلا يجوز هذا بحال. (¬4) [3818])) رواه الدارمي (1/ 56) قال الألباني في ((التوسل)) (126): ضعيف الإسناد موقوف.

وثالثها: أن أبا النعمان هذا هو محمد بن الفضل، يعرف بعارم، وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخر عمره. وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي حيث أورده في "المختلطين" من كتابه (المقدمة) وقال (ص391): (والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط ولا يقبل من أخذ عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده). ... وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده، فهو إذن غير مقبول، فلا يحتج به، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرد على البكري) (ص68 - 74): (وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان باقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في (الصحيحين) عن عائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها)) (¬1)، ولم تزل الحجرة النبوية كذلك في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم .. ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه يُبنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف. وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين لو صح ذلك لكان حجة ودليلاً على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت، ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه، ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه، فأين هذا من هذا، والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله، فإن الله تعالى يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته وموالاته، فهذه هي الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه، وإن أريد أن نتوسل إليه بما تُحِبُ ذاته، وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان والعمل الصالح، فهذا باطل عقلاً وشرعاً، أما عقلاً فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوباً له ما يوجب كون حاجتي تقضى بالتوسل بذاته إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضى به حاجتي، فإن كان منه دعاء لي أو كان مني إيمان به وطاعة له فلا ريب أن هذه وسيلة، وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة لي منها إذا لم يحصل لي السبب الذي أمرت به فيها. وأما الشرع فيقال: العبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، فليس لأحد أن يصلي إلى قبره ويقول هو أحق بالصلاة إليه من الكعبة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في (الصحيح) أنه قال ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) (¬2) مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم، بل يستدبرون القبلة، ويصلون إلى قبر الشيخ ويقولون: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة! وطائفة أخرى يرون الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام (والنبوي) والأقصى. وكثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل منه في المساجد، وهذا كله مما قد علم جميع أهل العلم بديانة الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام. ومن لم يعتصم في هذا الباب وغيره بالكتاب والسنة فقد ضَل وأضل، ووقع في مهواة من التلف. فعلى العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الكاملة البيضاء الواضحة، ويسلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا رأى من العبادات والتقشفات وغيرها التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع علم أن ضررها راجح على نفعها، ومفسدتها راجحة على مصلحتها، إذ الشارع الحكيم لا يهمل المصالح) ثم قال: (والدعاء من أجل العبادات، فينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عبادته الصور المشروعة، فإن هذا هو الصراط المستقيم. والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين). التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد ناصر الدين الألباني - بتصرف- ص 75 وإذا كان القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن القريب شيئاً، دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتفع به إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – ص 122 ¬

(¬1) [3819])) رواه البخاري (545) ومسلم (611). (¬2) [3820])) رواه مسلم (972).

المبحث الثاني: التبرك

المطلب الأول: معنى التبرك البركة: هي كثرة الخير وثبوته، وهي مأخوذة من البركة بالكسر، والبركة: مجمع الماء، ومجمع الماء يتميز عن مجرى الماء بأمرين: الكثرة. الثبوت. والتبرك طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين: أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم، مثل القرآن، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ [ص: 29] , فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أمماً كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة. أن يكون بأمر حسي معلوم، مثل: التعليم، والدعاء، ونحوه، فهذا الرجل يتبرك بعمله ودعوته إلى الخير، فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيراً كثيراً. وقال أسيد بن حضير: (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر) (¬1)، فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص245 ¬

(¬1) [3821])) رواه البخاري (334) ومسلم (367).

المطلب الثاني: أنواع التبرك

تمهيد والتبرك ينقسم من جهة حكمه إلى قسمين: أ- تبرك مشروع: وهو أن يفعل المسلم العبادات المشروعة طلباً للثواب المترتب عليها، ومن ذلك أن يتبرك بقراءة القرآن والعمل بأحكامه، فالتبرك به هو ما يرجو المسلم من الأجور على قراءته له وعمله بأحكامه، ومنه التبرك بالمسجد الحرام بالصلاة فيه ليحصل على فضيلة مضاعفة الصلاة فيه، فهذا من بركة المسجد الحرام. ب- تبرك ممنوع: وهو ينقسم من حيث حكمه إلى قسمين: تبرك شركي، وتبرك بدعي تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين- بتصرف - ص: 288

الفرع الأول: التبرك المشروع

1 - التبرك بذكر الله بما أن حقيقة البركة ثبوت الخير ودوامه، وكثرة الخير وزيادته، وأن الخير كله الديني والدنيوي في يدي الله سبحانه وتعالى. ..... فلا تطلب البركة إلا منه تبارك وتعالى، أو مما أودع هو فيه البركة، وعلى الوجه المشروع، فإن من وسائل طلب البركة منه سبحانه وتعالى التبرك بذكره عز وجل. وذكر الله سبحانه وتعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل (¬1)، لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويثير المحبة والحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة (¬2). التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 203 بركات الذكر وفضائله: لذكر الله تعالى فضائل عظيمة وبركات كثيرة، دينية ودنيوية. (أ) فمن البركات الدنيوية ما يأتي: 1 - اطمئنان القلب وزوال الخوف عنه، كما قال تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ [الرعد: 28]. 2 - الذكر يعطي الذاكرة قوة، حتى أنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة وعلياً رضي الله تعالى عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا أربعاً وثلاثين، لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك وقال: ((فهو خير لكما من خادم)) (¬3). فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في بدنه مغنية عن خادم (¬4). وذكر ابن القيم رحمه الله أن كلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله) لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق. وأورد شواهد على ذلك (¬5). 3 - من منافع الاستغفار الدنيوية ما جاء في قول الله تعالى في سورة نوح اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 12]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)) (¬6). 4 - من بركات الذكر الدنيوية الرقية باسم الله تعالى، وبالأذكار الشرعية للاستشفاء والعلاج ... (ب) ومن البركات الدينية ما يأتي: 1 - مغفرة الذنوب ومضاعفة الأجر. والأحاديث في هذا كثيرة جداً، أنقل منها ما يأتي: في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)) (¬7). ¬

(¬1) من كتاب ((الأذكار)) للنووي (ص: 6). (¬2) ((الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب)) للإمام ابن القيم (ص: 190). (¬3) رواه البخاري (3705) , ومسلم (2727). (¬4) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 164، 165) باختصار. (¬5) ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 165، 167). (¬6) رواه أبو داود (1518) وابن ماجه (3819) قال البغوي في ((شرح السنة)) (3/ 100): يرويه الحكم بن مصعب بإسناده، وهو ضعيف، وضعفه الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)) (768). (¬7) رواه البخاري (6405)، ومسلم (2691).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) (¬1). وفي صحيح البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أعوذ بك من شر ما صنعت، إذا قال حين يمسي فمات دخل الجنة، أو كان من أهل الجنة، وإذا قال حين يصبح فمات من يومه مثله)) (¬2). 2 - ومن المنافع الدينية أيضاً أن مجالس الذكر من أسباب نزول السكينة وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة. فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)) (¬3). (ج) ومن البركات الدينية والدنيوية معاً لذكر الله عز وجل أنه حصن منيع من الشياطين وشرورهم. والأحاديث الدالة على هذا كثيرة، ومنها ما يأتي: جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)) (¬4). وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً)) (¬5). وفي بعض السنن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله)) (¬6). ثم إن الدعاء له ثمرات ونتائج طيبة في الدنيا والآخرة. ومما يدل على فضل الذكر أيضاً: أن المقصود بالطاعات كلها إقامة ذكر الله عز وجل، فهو سر الطاعات وروحها (¬7). إلى غير ذلك من الفضائل العظيمة والبركات العديدة لذكر الله عز وجل (¬8). ولذا ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه)) (¬9) كما روت ذلك عائشة رضي الله عنها. فحري بنا المداومة على ذكر الله تعالى بأنواعه، وفي مواطنه، والتقيد بالأذكار المشروعة، طاعة لله تعالى، واتباعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم، ورجاء نيل الفضائل الجليلة، والبركات الكثيرة، والخيرات الوفيرة لذكر الله تعالى في الدنيا والآخرة. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع - بتصرف– ص: 210 ¬

(¬1) رواه البخاري (6405)، ومسلم (2691). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6306). (¬3) رواه مسلم (2699). (¬4) رواه مسلم (2018). (¬5) رواه البخاري (141)، ومسلم (1434). (¬6) رواه الترمذي (606)، وابن ماجه (297) وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذاك القوي، وقال البيهقي في الدعوات الكبير (1/ 111): إسناده فيه نظر. (¬7) من كتاب ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 426)، وانظر التفصيل في كتابه ((الوابل الصيب)) (ص: 159 - 162)، وانظر أيضاً ((فتح الباري)) (11/ 209، 210). (¬8) ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ((الوابل الصيب)) (ص91 - 187) أكثر من سبعين فائدة للذكر. (¬9) رواه البخاري معلقا قبل حديث (634) باب هل يتتبع المؤذن فاه ها هنا وها هنا، ومسلم (373).

2 - التبرك بتلاوة القرآن الكريم

2 - التبرك بتلاوة القرآن الكريم بركات التلاوة وفضائلها: قال سبحانه وتعالى آمراً بتلاوة كتابه الكريم وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الكهف: 27]. وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)). رواه الإمام مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه (¬1). وقال جل وعلا في بيان فضل تلاوة القرآن المجيد: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29، 30]. وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة جداً. منها ما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، المخرج في صحيح مسلم وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)) (¬2). ومنها ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المخرج في صحيح مسلم أيضاً وفيه ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) (¬3). وقد ثبت في الصحيحين دنو الملائكة واستماعهم لقراءة أسيد بن حضير رضي الله عنه. وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) (¬4). وأخيراً أذكر المثل الذي ضربه نبينا صلى الله عليه وسلم لمن يقرأ القرآن أو يتركه، مؤمناً كان أو منافقاً. فقد روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر)) (¬5). هذا مجمل فضائل وبركات تلاوة القرآن الكريم الدينية. ومن البركات والمصالح الدنيوية: الاستشفاء به والانتفاع من الرقية ببعض سوره وآياته. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 215 ¬

(¬1) رواه مسلم (804). (¬2) رواه مسلم (803). (¬3) رواه مسلم (2699). (¬4) رواه الترمذي (2910). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصحح إسناده الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (901) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) رواه البخاري (5020،5429). ومسلم (797)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

3 - المشروع من التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم

تمهيد: (ولا شك أن آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم – صفوة خلق الله وأفضل النبيين – أثبت جوداً، وأشهر ذكراً، وأظهر بركة، فهي أولى بذلك وأحرى). ولهذا فإن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم تبركوا بذاته عليه الصلاة والسلام، وبآثاره الحسية المنفصلة منه صلى الله عليه وسلم في حياته، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر عليهم، ثم إنهم رضي الله عنهم تبركوا ومن بعدهم من سلف هذه الأمة الصالح بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، مما يدل على مشروعية هذا التبرك. وينبغي أن يعلم أنه لا يصاحب هذا التبرك – من جهة الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح – شيء يعارض أو يناقض توحيد الألوهية أو الربوبية، وأن هذا الفعل ليس من باب الغلو المذموم، وإلا لنبه على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته رضي الله عنهم، كما نهاهم عن بعض الألفاظ الشركية (¬1)، وحذرهم من ألفاظ الغلو (¬2). فينظر إذاً إلى هذا على أنه تكريم وتشريف من الخالق سبحانه وتعالى لصفوة خلقه في بدنه، وما ينفصل عنه من آثاره الحسية، حيث وضع تبارك وتعالى في ذلك كله الخير والبركة. ¬

(¬1) انظر أمثلة هذا في كتاب ((التوحيد)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 112) (باب قول ما شاء الله وشئت). (¬2) انظر أمثلة هذا في كتاب ((التوحيد)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 146) (باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك).

نماذج من تبرك الصحابة بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته:

نماذج من تبرك الصحابة بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته: ..... نماذج مما نقل إلينا نقلاً صحيحاً من الأخبار والآثار عن تبرك جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أثناء حياته، بذاته الكريمة، أو بآثاره الشريفة صلى الله عليه وسلم، على النحو التالي: أ- تبرك الصحابة رضي الله عنهم بأعضاء جسده صلى الله عليه وسلم. مما يدل على بركة أعضاء جسده الشريف صلى الله عليه وسلم ما روته عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها)) (¬1). ومما ورد عن تبرك الصحابة رضي الله تعالى عنهم بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ما ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاءوه في الغداة الباردة، فيغمس يده فيها)) (¬2). وما ثبت عن أبي جحيفة رضي الله عنه أنه قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين)) وفيه ((وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم)) قال: ((فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك)) (¬3). وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على تقبيل يده صلى الله عليه وسلم. كما أنهم أيضاً يحرصون على مس أي موضع من جسده صلى الله عليه وسلم وتقبيله كلما أمكن ذلك للتبرك وغيره. ومن هذا ما روى أبو داود في سننه أن أسيد بن حضير رضي الله عنه بينما هو يحث القوم – وكان فيه مزاح – طعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني، قال: ((اصطبر)) قال: إن عليك قميصاً وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه، وأخذ يقبل كشحه، قال: ((إنما أردت هذا يا رسول الله)) (¬4). ب- تبركهم بما انفصل منه صلى الله عليه وسلم: 1 - التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم. ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أقرهم على ذلك، بل إنه صلى الله عليه وسلم وزعه عليهم. ففي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق (خذ) وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس)) (¬5). وفي رواية: ((فبدأ بالشق الأيمن، فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك، ثم قال: هاهنا أبو طلحة فدفعه إلى أبي طلحة)) (¬6). قال النووي رحمه الله تعالى: (من فوائد الحديث التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم، وجواز اقتنائه للتبرك) (¬7). وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على اقتناء شعره الشريف عليه الصلاة والسلام. ففي صحيح مسلم أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: ((لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل)) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (5016)، ومسلم (2192). (¬2) رواه البخاري (5016)، ومسلم (2192). (¬3) رواه البخاري (3553). (¬4) رواه أبو داود (5224) والطبراني في ((الكبير)) (1/ 205) (556) والحديث سكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح]، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5224): إسناده صحيح. (¬5) رواه مسلم (1305). (¬6) رواه مسلم (1305). (¬7) ((شرح النووي لصحيح مسلم)) (9/ 54). (¬8) رواه مسلم (2325).

وقد ذكر النووي من أحكام هذا الحديث: تبرك الصحابة بشعر الرسول صلى الله عليه وسلم الكريم، وإكرامهم إياه أن يقع منه إلا في يد رجل سبق إليه (¬1). ولعل حرص الصحابة رضي الله عنهم على ذلك في حجة الوداع لإظهار مدى حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له على مرأى جموع الحجاج. 2 - التبرك بريق النبي صلى الله عليه وسلم. في الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى بعبد الله بن الزبير. قالت: ((فأتيت المدينة فنزلت بقباء، فولدته بقباء، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم حنكه بالتمرة)) الحديث (¬2). وجاء في صحيح البخاري في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه قال عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ((فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده ... )) (¬3). قال ابن حجر رحمه الله معلقاً على فعل الصحابة رضي الله عنهم ونحوه في هذه الغزوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة، وبالغوا في ذلك،، إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة، ويعظمه هذا التعظيم، كيف يظن به أن يفر عنه ويسلمه لعدوه؟ بل هم أشد اغتباطاً به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم) (¬4). 3 - التبرك بعرق النبي صلى الله عليه وسلم. جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأُتيت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق، واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها، فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((وما تصنعين يا أم سليم؟ فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال: أصبت)) (¬5). ج- تبركهم بما لبسه أو لمسه أو فضل منه صلى الله عليه وسلم: - التبرك بثياب النبي صلى الله عليه وسلم: جاء في صحيح البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ((جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة، فقال سهل للقوم: أتدرون ما البردة؟ فقال القوم: هي شملة، فقال سهل: هي شملة منسوجة، فيها حاشيتها، فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه، فاكسنيها، فقال: نعم فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه فقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي أكفن فيها)) (¬6). وثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى اللاتي يغسلن ابنته إزاره وقال: ((أشعرنها إياه)) (¬7). قال النووي رحمه الله تعالى: معنى ((أشعرنها إياه)): اجعلنه شعاراً لها، وهو الثوب الذي يلي الجسد، سمي شعراً لأنه يلي شعر الجسد، ثم قال: (والحكمة في إشعارها به تبريكها). ¬

(¬1) من كتاب ((شرح النووي لصحيح مسلم)) (15/ 82). (¬2) رواه البخاري (3909)، ومسلم (2146). (¬3) رواه البخاري (2731،2732). (¬4) ((فتح الباري)) (5/ 341). (¬5) رواه مسلم (2331). (¬6) رواه مسلم (6036). (¬7) رواه البخاري (1253)، ومسلم (939).

- التبرك بمواضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم. جاء في صحيح مسلم في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ((فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه)) (¬1). - التبرك بفضل شرب النبي صلى الله عليه وسلم. في الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب، فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً. قال: فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده)) (¬2). - التبرك بماء وضوئه صلى الله عليه وسلم. جاء في الصحيحين عن أبي جحيفة رضي الله عنه أنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به)) (¬3). وأما المقصود بفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (كأنهم اقتسموا الماء الذي فضل عنه، ويحتمل أن يكونوا تناولوا ما سال من أعضاء وضوئه صلى الله عليه وسلم) (¬4). وجاء في صحيح البخاري في حديث صلح الحديبية أن عروة ابن مسعود الثقفي رضي الله عنه قال عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه)) (¬5). بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد أصحابه رضي الله عنهم أحياناً إلى شيء من هذا، وساعدهم عليه. ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه، ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا فأخذا القدح، ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادتهما أم سلمة من وراء الستر: أفضلا لأمكما مما في إنائكما، فأفضلا لها منه طائفة)) (¬6). وفيهما أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت)) الحديث (¬7). التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 243 ¬

(¬1) رواه مسلم (2053). (¬2) رواه البخاري (2451) ومسلم (2030). (¬3) رواه البخاري (3553) ومسلم (503). (¬4) ((فتح الباري بشرح صحيح البخاري)) لابن حجر العسقلاني (1/ 295). (¬5) رواه البخاري (2731،2732). (¬6) رواه البخاري (4328)، ومسلم (2497). (¬7) رواه البخاري (194).

4 - التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:

4 - التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم بعد وفاته: • أ- نماذج من تبرك الصحابة بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:. • ب- نماذج من تبرك التابعين بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:. • ج- هل يوجد شيء من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في العصر الحاضر؟.

أ- نماذج من تبرك الصحابة بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:

أ- نماذج من تبرك الصحابة بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته: عقد الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب بعنوان: باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه, وسيفه, وقدحه, وخاتمه، وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك مما لم يذكر قسمته، ومن شعره, ونعله, وآنيته, مما تبرك أصحابه وغيرهم بعد وفاته (¬1). ثم ساق البخاري جملة من أحاديث هذا الباب. ... منها. عن عيسى بن طهمان قال: (أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين، لهما قبالان، فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس: أنهما نعلا النبي صلى الله عليه وسلم) (¬2). وعن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها كساء ملبداً، وقالت: (في هذا نزع روح النبي صلى الله عليه وسلم) (¬3). وفي رواية أخرى (أخرجت إلينا عائشة إزاراً غليظاً مما يصنع باليمن، وكساء من هذه التي يدعونها الملبدة). (¬4). وأخرج البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه أيضاً في موضع آخر عن عاصم الأحول قال: (رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، قال أنس: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا) (¬5). وجاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أخرجت جبة طيالسة، وقالت: (هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها) (¬6). ¬

(¬1) ((صحيح البخاري)) (4/ 46). (¬2) رواه البخاري (3107). (¬3) رواه البخاري (3108). (¬4) رواه البخاري (3108)، ومسلم (2080). (¬5) رواه البخاري (3108)، ومسلم (2080). (¬6) رواه ومسلم (2069).

ب- نماذج من تبرك التابعين بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:

ب- نماذج من تبرك التابعين بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته: لم يقتصر التبرك بآثار المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على الصحابة الكرام رضي الله عنهم، بل نقل عن بعض التابعين أيضاً رحمهم الله تعالى ما يدل على وقوع هذا التبرك المشروع. وسأورد الآن نماذج مما صح نقله في هذا الباب عن جمع من التابعين رحمهم الله تعالى. فمن ذلك حرصهم على اقتناء شعر الرسول صلى الله عليه وسلم، المحفوظ عند بعض الصحابة رضي الله عنهم للتبرك به. ففي صحيح البخاري رحمه الله تعالى عن ابن سيرين رحمه الله تعالى أنه قال: قلت لعبيدة: (عندنا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، أصبناه من قبل أنس، أو من قبل أهل أنس) فقال: (لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها) (¬1). وكانوا يتبركون بالشعرات الكريمة عند إصابتهم بالعين ونحوها. ففي صحيح البخاري عن عثمان بن عبد الله بن موهب رضي الله عنه قال: (أرسلني أهلي إلى أم سلمة – زوج النبي صلى الله عليه وسلم – بقدح من ماء ... فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة ... ) (¬2). قال ابن حجر رحمه الله: (والمراد أنه كان من اشتكى أرسل إناء إلى أم سلمة، فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه، وتعيده، فيشربه صاحب الإناء، أو يغتسل به استشفاء بها فتحصل له بركتها) (¬3). كما كان التابعون رحمهم الله تعالى يتبركون بالشرب في قدح النبي صلى الله عليه وسلم. فقد عقد الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه – كتاب الأشربة – باباً بعنوان (باب الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم وآنيته) ثم ذكر هذا القول تعليقاً: وقال أبو بردة: قال لي عبد الله بن سلام: (ألا أسقيك في قدح شرب النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟) (¬4). ثم روى البخاري في هذا الباب حديثين فقط. وسأذكر أحدهما، وهو المروي عن أبي حازم رحمه الله عن سهل بن سعد رضي الله عنه، وفيه أن سهل بن سعد سقى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بقدح، قال أبو حازم: (فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه) وقال: (ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له) (¬5). وفي موضع آخر من صحيح البخاري، روى عن عاصم الأحول رحمه الله أنه قال في شأن قدح النبي صلى الله عليه وسلم – الموجود عند أنس بن مالك رضي الله عنه -: (رأيت القدح وشربت فيه) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (170). (¬2) رواه البخاري (5896). (¬3) ((فتح الباري)) (10/ 353). (¬4) رواه البخاري معلقا قبل حديث (5637). (¬5) رواه البخاري (5637). (¬6) رواه البخاري (3109).

ج- هل يوجد شيء من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في العصر الحاضر؟

ج- هل يوجد شيء من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في العصر الحاضر؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال أحب أن أنبه على أن حكم التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم باق على مشروعيته، لا يقتصر على الصحابة رضي الله عنهم أو التابعين فقط رحمهم الله تعالى، فإن بركة آثار الرسول صلى الله عليه وسلم باقية فيها، وليس هناك ما يرفعها. وإجابة عن السؤال الآنف الذكر لابد من بيان الأمور الآتية: أولاً: جاء في صحيح البخاري رحمه الله عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهماً ولا ديناراً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة) (¬1). ولا شك أن هذا يدل على قلة ما خلفه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته من أدواته الخاصة. ثانياً: وردت أخبار عديدة بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين رحمهم الله، إلى يومنا هذا تدل على حصول هذا التبرك بآثار المصطفى صلى الله عليه وسلم، من قبل بعض الخلفاء والعلماء والصالحين، وإن كان بعض هذه الأخبار ليس صحيحاً، وهذا إما بسبب ضعف في روايته، أو لعدم صحة نسبة الأثر ذاته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأكثر. قال صاحب كتاب (الآثار النبوية) بعد أن سرد الآثار المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، بالقسطنطينية – عاصمة الخلافة العثمانية -: (لا يخفى أن بعض هذه الآثار محتمل الصحة، غير أنا لم نر أحداً من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله سبحانه أعلم بها، وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب ويتنازعها من الشكوك) (¬2) الخ. ثالثاً: ثبوت فقدان الكثير من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم على مدى الأيام والقرون، بسبب الضياع، أو الحروب والفتن، وغير ذلك. ومن الأمثلة على هذا ما يأتي:- 1 - جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، حتى وقع منه في بئر أريس، نقشه – محمد رسول الله -) (¬3). 2 - فقدان البردة والقضيب في آخر الدولة العباسية حين أحرقهما التتار عند غزوهم لبغداد سنة 656هـ (¬4). قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (وقد توارث بنو العباس هذه البردة خلفاً عن سلف، وكان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضيب المنسوب إليه صلوات الله وسلامه عليه في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع به القلوب، ويبهر به الأبصار) (¬5). 3 - ذهاب نعلين ينسبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في فتنة تيمورلنك بدمشق سنة 803هـ (¬6). ومن الأسباب أيضاً لفقدان الآثار النبوية وصية بعض من عنده شيء منها أن يكفن فيه إن كان لباساً، كما تقدم قريباً من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أو يوصي بأن يدفن معه بعد موته، إن كان ذلك الأثر شعرات مثلاً (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (2739). (¬2) من كتاب ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 78). (¬3) رواه البخاري (5873)، ومسلم (2091). (¬4) من كتاب ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 27 - 30). (¬5) من كتاب ((البداية والنهاية)) لابن كثير (6/ 8). (¬6) ((فتح المتعال في مدح النعال)) لأحمد بن محمد المقري (ص: 363) باختصار. (¬7) انظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 337)، ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 82، 84، 85).

رابعاً: يلحظ كثرة ادعاء وجود وامتلاك شعرات منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من البلدان الإسلامية (¬1) في العصور المتأخرة، حتى قيل إن في القسطنطينية وحدها ثلاثاً وأربعين شعرة سنة 1327هـ، ثم أهدي منها خمس وعشرون وبقي ثماني عشرة (¬2). ولذا قال مؤلف كتاب (الآثار النبوية) بعد أن ذكر أخبار التبرك بشعرات الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أصحابه رضي الله عنهم: (فما صح من العشرات التي تداولها الناس بعد ذلك فإنما وصل إليهم مما قسم بين الأصحاب رضي الله عنهم، غير أن الصعوبة في معرفة صحيحها من زائفها) (¬3). وهناك عناية بحفظ تلك الشعراء المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل من يدعي ذلك، حيث إنها تحفظ في صناديق أو قوارير وتلف بقطع من الحرير ونحوه. على أنه في بعض الأماكن يحتفل بإخراجها – على طريقة خاصة – مرة واحدة أو أكثر كل عام، في بعض المواسم، كليلة 27 من رمضان، أو ليلة النصف من شعبان مثلاً (¬4). ومن خلال ما تقدم فإن ما يدعى الآن عند بعض الأشخاص، أو في بعض المواضع من وجود بعض الآثار النبوية، كالشعرات أو النعال وغيرها – موضع شك، فيحتاج في إثبات صحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى برهان قاطع، يزيل الشك الوارد، ولكن أين ذلك؟ يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: (ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وسلم، من ثياب، أو شعر، أو فضلات، قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين) (¬5) لاسيما مع مرور أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان على وجود تلك الآثار النبوية، ومع إمكان الكذب في ادعاء نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للحصول على بعض الأغراض، كما وضعت الأحاديث ونسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً. وعلى أي حال فإن التبرك الأسمى والأعلى بالرسول صلى الله عليه وسلم هو اتباع ما أثر عنه من قول أو فعل، والاقتداء به، والسير على منهاجه ظاهراً وباطناً، وإن في هذا الخير كله ... يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في بركته لما آمنوا به وأطاعوه، فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه حصل له من بركة الرسول بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله) (¬6). التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع - بتصرف– ص: 243 ¬

(¬1) ومن الأمثلة على ذلك: القاهرة، دمشق، بيت المقدس، عكا، حيفا وغيرها. انظر كتاب ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 89 - 96). (¬2) انظر: ((الآثار النبوية)) (ص: 91). (¬3) انظر: ((الآثار النبوية)) (ص: 82). (¬4) انظر: ((الآثار النبوية)) (ص: 91 - 93، 95)، وكتاب ((تبرك الصحابة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم)) للكردي (ص: 58 - 60)، وكتاب ((تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين)) لأحمد بن حجر البنعلي (ص: 168 - 170). (¬5) ((التوسل أنواعه وأحكامه)) للألباني (ص: 146)، وانظر كتاب ((أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة)) لأحمد بن يحيى النجمي (ص: 309)، وكتاب ((هذه مفاهيمنا)) لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ (ص: 204). (¬6) ((مجموع فتاوى)) شيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 113).

الفرع الثاني: التبرك الممنوع وأنواعه وأسبابه وآثاره

1 - تبرك شركي: وهو أن يعتقد المتبرك أن المتبرك به – وهو المخلوق – يهب البركة بنفسه، فيبارك في الأشياء بذاته استقلالاً، أو أن يطلب منه الخير والنماء فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى (¬1)؛ لأن الله تعالى وحده موجد البركة وواهبها، فقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((البركة من الله))، فطلبها من غيره، أو اعتقاد أن غيره يهبها بذاته شرك أكبر. ¬

(¬1) ((كتاب التبيان)) (ص: 26 - 27) و ((كتاب التنشيط)) (ص: 60 - 65) كلاهما للرستمي الحنفي نقلاً عن كتاب ((جهود علماء الحنفية)) لشمس الدين الأفغاني (2/ 1575 - 1578)، وينظر: ((التيسير))، باب من تبرك بشجرة أو حجر (ص: 148).

2 - تبرك بدعي:

2 - تبرك بدعي: وهو التبرك بما لم يرد دليل شرعي يدل على جواز التبرك به، معتقداً أن الله جعل فيه بركة، أو التبرك بالشيء الذي ورد التبرك به في غير ما ورد في الشرع التبرك به فيه. وهذا بلا شك محرم؛ لأن فيه إحداث عبادة لا دليل عليها من كتاب أو سنة، ولأنه جعل ما ليس بسبب سبباً، فهو من الشرك الأصغر؛ ولأنه يؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين - ص: 289 أنواع التبرك البدعي النوع الأول: التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته الذي بقي من التبرك بعد وفاته أمران فقط هما: 1 - الإيمان به وطاعته واتباعه. ومن المعلوم أن هذا واجب على المكلفين، وأن من أداه سيحصل على الخير العظيم والأجر الجزيل، وعلى سعادة الدارين، وهذا ما يسمى بالبركات المعنوية للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنعم بذلك من فضل وخير. 2 - التبرك بآثاره الحسية المنفصلة منه صلى الله عليه وسلم ... وعلى هذا فما عدا ذلك من صيغ التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته غير مشروع، بل هو ممنوع. هذا وإن مما تتحتم معرفته هنا أنه مع وجوب اعتقاد عظم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته، وعموم بركته حياً وميتاً، ومع عظم محبة الناس له صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا يجب أن لا يؤدي إلى رفعه فوق منزلته، أو الغلو في محبته، كما يظهر مثلاً في ممارسات التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم غير المشروع. كما ينبغي أن يعلم أيضاً أن منع التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال، لا يعني انتقاص حقه أو التقليل من شأنه صلى الله عليه وسلم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – بتصرف - ص: 317 أ- مظاهر التبرك الممنوع بقبره صلى الله عليه وسلم: تشرع زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بدون شد الرحال إليه، وأن فاعل ذلك يثاب عليه كما يثاب على زيارة القبور، إلا أن هذه الزيارة لابد أن تكون على الوجه المشروع كما سلف إيضاحه. ولكن بعض الزائرين لقبره عليه الصلاة والسلام لم يكتفوا بالزيارة الشرعية، بل أحدثوا بدعا وأموراً، بحجة التماس البركة والخير والأجر، ونحو ذلك. ولا شك أن ذلك ممنوع من جهة الشرع، كما سيأتي توضيحه بإذن الله. ويمكن بيان أبرز مظاهر ذلك التبرك الممنوع بقبره صلى الله عليه وسلم فيما يلي: 1 - طلب الدعاء أو الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره: إن هذا العمل من أنواع التوسل غير المشروع بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن التوسل مشروع ونافع في حياته صلى الله عليه وسلم فقط، وبشفاعته يوم القيامة. أما طلب ذلك بعد وفاته، عند قبره، أو غير قبره صلى الله عليه وسلم، كأن يقول الشخص: يا رسول الله استغفر الله لي، ادع الله أن يغفر لي، أو يهديني، أو ينصرني، فهذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، وليست واجبة ولا مستحبة باتفاقهم، وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة، وهي ضلالة باتفاق المسلمين (¬1). ¬

(¬1) من كتاب ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) لابن تيمية (ص: 14 - 21) بتصرف واختصار.

أما سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته حاجة، أو الاستغاثة به لكشف كربة، ونحو ذلك، فهذا أبعد مراتب البدع، وهو من أنواع الشرك بالله تعالى (¬1)، لأنه من باب الاستعانة أو الاستغاثة بمخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى (¬2). 2 - أداء بعض العبادات عند القبر النبوي: من أشهر هذه العبادات الدعاء والصلاة عند القبر. وإن من يعمل ذلك يظن أو يعتقد أن الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، وأن الصلاة عند القبر أرجى للقبول (¬3)، فيقصد زيارته لذلك (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الفعل ونحوه: (فهذا من المنكرات المبتدعة باتفاق أئمة المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين) (¬5). وقال أيضاً رحمه الله مبيناً حكم الدعاء عند القبر النبوي: (ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عند القبر يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده) (¬6) اهـ. ويدخل فيما تقدم من بدع الزيارة: الجلوس عند القبر، وحوله، لتلاوة القرآن الكريم، وذكر الله عز وجل (¬7)، وما قد يتبع ذلك من رفع الصوت، وطول القيام أو الجلوس عند القبر، مما يضايق الآخرين من المصلين أو الزوار، أو يشوش عليهم، وأيضاً تجديد الزائر التوبة عند القبر الشريف، كما ادعى بعضهم استحبابه (¬8). وهكذا فإن قصد أي نوع من أنواع العبادة الأخرى، كالطواف (¬9) ونحوه، مما قد يعمل عند القبر تبركاً، فإن ذلك كله من البدع المحدثة في الدين، ولأن الطواف خاص بالكعبة فقط. وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معللاً عدم مشروعية أداء العبادات عند القبر النبوي: (لو كان للأعمال عند القبر فضيلة لفتح للمسلمين باب الحجرة، فلما منعوا من الوصول إلى القبر، وأمروا بالعبادة في المسجد: علم أن فضيلة العمل فيه لكونه في مسجده ... ولم يأمر قط بأن يقصد بعمل صالح أن يفعل عند قبره صلى الله عليه وسلم) (¬10). 3 - التمسح بالقبر أو تقبيله، ونحو ذلك: ¬

(¬1) من كتاب ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 119)، وكتاب ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 55) بتصرف. (¬2) انظر إن شئت تفاصيل هذه المسألة في كتاب غاية الأماني في الرد على النبهاني للألوسي (ص: 256) فما بعدها، وانظر أيضاً لهذه المسألة ونحوها كتاب ((كشف الشبهات)) للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقد طبع ضمن القسم الأول لمؤلفاته (ص: 153 - 183) وهو كتاب نفيس. (¬3) ومن باب أولى قصد الصلاة تجاه القبر. انظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 194). (¬4) ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 56) بتصرف. (¬5) ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 56). (¬6) ((مجموعة الرسائل الكبرى)) لابن تيمية (2/ 408)، وانظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 681). (¬7) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 737) بتصرف، ومن رسالة الألباني بعنوان ((مناسك الحج والعمرة في الكتاب والسنة وآثار السلف، ورد ما ألحق الناس بها من البدع)) (ص: 61). (¬8) انظر مثلاً كتاب ((وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى)) للسمهودي (4/ 1399)، وكتاب ((حقيقة التوسل والوسيلة على ضوء الكتاب والسنة)) لموسى محمد علي (ص: 94). (¬9) ((الروض المربع)) للبهوتي (ص: 152)، ((مجموعة الرسائل الكبرى)) لابن تيمية (2/ 410)، ((الإيضاح في المناسك)) للنووي (ص: 160)، ((المدخل)) لابن الحاج (1/ 263)، ((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) للسيوطي (ص: 125)، ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 166)، وغيرها. (¬10) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 236، 237).

إن التمسح بحائط قبر الرسول صلى الله عليه وسلم باليد أو غيرها – على أي وجه كان – أو تقبيله رجاء الخير والبركة، مظهر من مظاهر البدع عند بعض الزوار. وقد نص على كراهة ذلك الفعل، وعلى النهي عنه جماعة من العلماء (¬1)، وقال الإمام الغزالي رحمه الله: إنه عادة النصارى واليهود (¬2). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اتفاق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين – الصحابة وأهل البيت وغيرهم – أنه لا يتمسح به، ولا يقبله (¬3). أما ما يروى عن بعض العلماء أنه فعل ذلك أو أجازه ففيه نظر (¬4). وقال شيخ الإسلام مبيناً حكم تقبيل الجمادات: (ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه قال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (¬5) (¬6) .. وقال في موضع آخر مبيناً سبب كراهة العلماء للتمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو تقبيله، قال رحمه الله: (لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد، وإخلاص الدين لله رب العالمين) (¬7). وقال أيضا: (لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق) (¬8). وللإمام النووي رحمه الله تعالى كلام نفيس حول حكم هذا الفعل بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أرى أن من المناسب ذكره هنا لأهميته. قال رحمه الله ما نصه: (يكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، وينبغي أن لا يغتر بكثير من العوام في مخالفتهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وجهالاتهم، ولقد أحسن السيد الجليل أبو علي الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قوله ما معناه: اتبع طرق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطريق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين. ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي في ما وافق الشرع، وأقوال العلماء، وكيف يبتغى الفضل في مخالفة الصواب؟) (¬9) اهـ. ¬

(¬1) انظر الكتب الآتية: ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 85)، ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 259)، ((الحوادث والبدع)) للطرطوشي (ص: 148)، ((المغني)) لابن قدامة (3/ 559)، ((الإيضاح)) للنووي (ص: 161)، ((المدخل)) لابن الحجاج (1/ 263)، ((الأمر بالأتباع)) للسيوطي (ص: 125)، ((وفاء الوفا بأخبار المصطفى)) للسمهودي (4/ 1402). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 271). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 79). (¬4) راجع ((الرد على الأخنائي)) لابن تيمية (ص: 169، 171)، ((أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة)) لأحمد بن يحيى النجمي (ص: 303 - 306). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 79). (¬6) الحديث رواه البخاري (1597) ومسلم (1270). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 80). (¬8) ((مجموعة الرسائل الكبرى)) لابن تيمية (1/ 298). (¬9) ((الإيضاح في المناسك)) للإمام النووي (ص: 161).

وهكذا تبين لنا أن التمسح بالقبر أو تقبيله (¬1)، ونحو ذلك مما قد يعمل عند القبر الشريف تبركاً، كإلصاق البطن أو الظهر بجدار القبر (¬2)، أو التبرك برؤية القبر (¬3)، كل ذلك من البدع المذمومة. إلى غير ذلك من مظاهر التبرك غير المشروع بقبر النبي صلى الله عليه وسلم التي يراها من يزور مسجده صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 324 ب- التبرك بالمواضع التي جلس أو صلى فيها صلى الله عليه وسلم لابد من معرفة الفرق بين هذين الأمرين (وهما): أحدهما: ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم من العبادات – كالصلاة ونحوها – في أي بقعة أو مكان، فإنه يشرع قصده وتحري مكانه، اقتداء به صلى الله عليه وسلم وطلباً للأجر والثواب، وهذا لا خلاف فيه. الثاني: ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من العبادات وغيرها، في أي مكان، دون قصده لمكان بذاته، أو أداء العبادة فيه، فهذا مما لا يشرع قصده أو تحريه، وهو محل البحث هنا. وعلى هذا فإن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد فهو عبادة يشرع التأسي به فيه، فإذا تخصص زمان أو مكان بعبادة، كان تخصيصه بتلك العبادة سنة (¬4). فقصد الصلاة أو الدعاء في الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها سنة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعاً له، كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات، فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته، وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب (¬5). ومن أمثلة هذا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام، وكما كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وكما يقصد المساجد للصلاة، ويقصد الصف الأول، ونحو ذلك (¬6). أما ما لم يكن كذلك فلا يشرع قصده. قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحاً حكم هذه المسألة: (لم يشرع الله تعالى للمسلمين مكاناً يقصد للصلاة إلا المسجد، ولا مكاناً يقصد للعبادة إلا المشاعر، فمشاعر الحج، كعرفة ومزدلفة ومنى تقصد بالذكر والدعاء والتكبير لا الصلاة، بخلاف المساجد، فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجد والمشاعر، وفيها الصلاة والنسك ... وما سوى ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة ولا الدعاء ولا الذكر، إذ لم يأت في شرع الله ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكناً لنبي أو منزلاً أو ممراً. فإن الدين أصله متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الاقتداء به فيها، بخلاف ما كان من خصائصه. فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلاً سن لنا أن نتأسى به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم) (¬7) اهـ. ¬

(¬1) أقبح من هذا تقبيل الأرض حول القبر. انظر: ((وفاء الوفا)) للسمهودي (4/ 1406). (¬2) من كتاب ((الإيضاح)) للنووي (ص: 160، 161)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 219)، ((الأمر بالأتباع)) للسيوطي (ص: 125)، ((الإبداع)) لعلي محفوظ (ص: 166). ومنهم من يضع خده على القبر استشفاء. انظر كتاب ((التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية)) لمحمد الفقي (ص: 216). (¬3) ذكر هذا بعضهم على سبيل الترغيب. انظر كتاب ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 85). (¬4) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/ 260). (¬5) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 746، 747) بتصرف. (¬6) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 742). (¬7) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (5/ 263، 264).

وبناء على ما تقدم فإن المواضع التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة – ما عدا مسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء – أو على طرقها، أو بمكة – ما عدا المسجد الحرام – ونحو ذلك مما لم يقصده بذاته، كبعض المساجد بمكة أو المدينة وما حولهما، المبنية على آثار صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، في حضره أو سفره أو غزواته – إن صح ذلك – لا تشرع الصلاة فيها على سبيل القصد, والقربة, والتبرك، وستأتي أدلة ذلك. وكذلك فإن المواضع والبقاع والجبال التي جلس أو أقام فيها الرسول صلى الله عليه وسلم – ما عدا المشاعر – لا تقصد العبادة فيها التماساً للبركة. وكذا فإن الآبار التي شرب منها الرسول صلى الله عليه وسلم – ما عدا بئر زمزم – أو اغتسل منها، لا تقصد تبركاً واستشفاء ...... أدلة عدم شرعية التبرك بالمواضع التي جلس أو صلى فيها صلى الله عليه وسلم: يمكن الاستدلال على عدم شرعية التبرك بهذه المواضع – على الوجه المتقدم – من عدة أوجه: أحدها: لا يوجد دليل من النصوص الشرعية يفيد جواز ذلك الفعل أو استحبابه. ولا شك أن الجلوس في تلك المواضع للصلاة أو الدعاء أو الذكر ونحو ذلك قربة وتبركاً من أنواع العبادة، والعبادات مبناها على الاتباع لا على الابتداع. الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقل عن أحد منهم أنه تبرك بشيء من المواضع التي جلس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو البقع التي صلى عليها عليه الصلاة والسلام اتفاقاً، مع أنهم أحرص الأمة على التبرك بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومع علمهم بتلك المواضع، وشدة محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له، واتباعهم لسنته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجاً وعماراً ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته، وأتبع لها من غيرهم) (¬1). فتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين التي حث الرسول صلى الله عليه وسلم على التمسك بها، بل هو مما ابتدع. ولم ينقل قصد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو لم يكن يقصد التبرك – كما سيأتي إيضاحه – مع أن قول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة (¬2). وكما أن أداء الصلاة ونحوها من أنواع العبادة غير مشروع عند الآثار النبوية تبركاً، فإن التمسح أو التقبيل لشيء منها ممنوع أيضاً، كما عليه سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: (المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائماً، لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها) (¬3). الوجه الثالث: نهي السلف الصالح عن هذا التبرك قولاً وفعلاً. لقد أنكر هذا التبرك السلف الصالح رحمهم الله، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وكان على رأس هؤلاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد. ¬

(¬1) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 748). (¬2) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 748) بتصرف. (¬3) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 800).

فعن المعرور بن سويد رحمه الله قال: (خرجنا مع عمر بن الخطاب، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد، فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا، حتى أحدثوها بِيَعاً، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض) (¬1). قال ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذه القصة: (لما كان النبي لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه، بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة، ومتشبه باليهود والنصارى في القصد، الذي هو عمل القلب وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل) (¬2) اهـ. وورد في قصة أخرى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقطعت. هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفعله، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) (¬3). وقد قال ابن وضاح القرطبي رحمه الله بعد أن روى هاتين القصتين: (وكان مالك بن أنس، وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم ما عدا قباء وأحداً) (¬4). ثم قال: (وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس، فصلى فيه، ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يقتدى به، وقدم وكيع أيضاً مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان). ثم قال أخيراً: (فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال بعد من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى) (¬5) الخ. تلك نماذج لنهي السلف الصالح رحمهم بأقوالهم وأفعالهم عن هذا التبرك المبتدع. الوجه الرابع: أن منع هذا التبرك من باب سد الذريعة، ويمكن إيضاح ذلك من عدة وجوه: أحدها: أن النهي عن هذا الفعل سد لذريعة الشرك والفتنة (¬6)، فهو وسيلة إلى الفتنة بتلك المواضع، وتعظيمها، وربما أفضى ذلك إلى جعلها معابد (¬7). الثاني: أن ذلك الفعل يشبه الصلاة عند المقابر (¬8)، إذ هو ذريعة إلى اتخاذ تلك الآثار مساجد. والنصوص الشرعية تحرم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ... مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم (¬9)، فما بالك بالمواضع الأخرى لهم. الثالث: أن هذا الفعل ذريعة إلى التشبه بأهل الكتاب في أفعالهم، كما حذر عمر رضي الله عنه. ¬

(¬1) رواه عبد الرزاق 2/ 118 (2734). (¬2) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (1/ 281). (¬3) رواه أحمد2/ 53، والترمذي (3682) وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وقال الألباني ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5988): حسن أو أعلى. (¬4) المقصود إتيان قبور شهداء أحد لزيارتهم والسلام عليهم، وفي كتاب ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 347) هكذا (ما عدا قباء وحده) نقلاً عن ابن وضاح. (¬5) ((البدع والنهي عنها)) لابن وضاح القرطبي (ص: 43). (¬6) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 368). (¬7) من كتاب ((التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية)) لعبد العزيز بن ناصر الرشيد (ص: 340)، وانظر كتاب ((هذه مفاهيمنا)) لصالح آل الشيخ (ص: 212). (¬8) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 745). (¬9) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/ 262) بتصرف.

الوجه الخامس: أن بركة ذوات الأنبياء والمرسلين لا تتعدى إلى الأمكنة الأرضية، والله أعلم، وإلا لزم أن تكون كل أرض وطئها النبي، أو جلس عليها، أو طريق مر بها تطلب بركتها، ويتبرك بها، وهذا لازم باطل قطعًا، فانتفى الملزوم إذاً (¬1). قال الشيخ صديق حسن رحمه الله: (قالوا: المشي في أرض مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر السيئات، خصوصاً مع النية الصالحة ... وفيها بشرى له برجاء أن يكون متبعاً آثاره الشريفة، قلت: وذلك يحتاج إلى سند، لأن المكفر إنما هو اتباع هديه وسنته ظاهراً وباطناً دون تتبع آثاره الأرضية فقط، فتدبر) (¬2). وبهذه الأوجه وغيرها يستدل على عدم مشروعية التبرك المذكور. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – ص: 339 وما ورد عن ابن عمر ونزوله في مواضع نزول النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مردود بفعل سائر الصحابة وقد تبين أن أحدا من السلف لم يكن يفعل ذلك، إلا ما نقل عن ابن عمر: أنه كان يتحرى النزول في المواضع التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في المواضع التي صلى فيها، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وصب فضل وضوئه في أصل شجرة. ففعل ابن عمر ذلك وهذا من ابن عمر تحر لمثل فعله. فإنه قصد أن يفعل مثل فعله، في نزوله وصلاته، وصبه للماء وغير ذلك، لم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها. ... أن لا تكون تلك البقعة في طريقه، بل يعدل عن طريقه إليها، أو يسافر إليها سفرا قصيراً أو طويلا مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال، التي يقال فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، أو مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء، مثل ما كان مبنياً على نعله، ومثل ما في جبل قاسيون، وجبل الفتح، وجبل طور زيتا الذي ببيت المقدس، ونحو هذه البقاع، فهذا مما يعلم كل من كان عالما بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه من بعده، أنهم لم يكونوا يقصدون شيئا من هذه الأمكنة. ارتياد جبل حراء والغار ونحوه من البدع التي لم تشرع ولم يفعلها الصحابة والسلف الصالح. فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة، كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك، ولهذا قال أبو طالب في شعره: وراق ليرقى في حراء ونازل وقد ثبت في (الصحيح) ((عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي غار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، ثم يرجع فيتزود لذلك، حتى فجأه الوحي، وهو بغار حراء، فأتاه الملك، فقال له: اقرأ. فقال لست بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم قال: اقرأ. فقال لست بقارئ قال: مرتين أو ثلاثا- ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5] , فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره)) (¬3) الحديث بطوله. ¬

(¬1) من كتاب ((هذه مفاهيمنا)) (ص: 211)، وانظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/ 263). (¬2) من كتاب ((رحلة الصديق إلى البيت العتيق)) لصديق حسن خان (ص: 21). (¬3) رواه البخاري (3).

فتحنثه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث. ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه، وأقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولا يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء. ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت -والحديبية عن يمينك وأنت قاصد مكة إذا مررت بالتنعيم عند المساجد التي يقال إنها مساجد عائشة، والجبل الذي عن يمينك يقال له جبل التنعيم، والحديبية غربيه- ثم إنه اعتمر من العام القابل عمرة القضية، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه، وأقاموا بها ثلاثا. ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة، فقاتل هوازن بوادي حنين، ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فأتى بعمرة من الجعرانة إلى مكة، ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين، ولم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله، ولم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته زيارة تلك البقاع والمشاهد وهو في ذلك كله، لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئا من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام، وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنمرة، المجاورة لعرفة. ثم بعده خلفاؤه الراشدون وغيرهم، من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء. وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة: 40] , وهو غار بجبل ثور، يمان مكة، لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء، ولا بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة مسجدا، غير المسجد الحرام، بل تلك المساجد كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى، وقد بني هناك له مسجد. ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك، ولكان يعلم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله. وإذا كان حكم مقام نبينا صلى الله عليه وسلم في مثل غار حراء الذي ابتدئ فيه بالإنباء والإرسال، وأنزل عليه فيه القرآن، مع أنه كان قبل الإسلام يتعبد فيه. وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنزل الله فيه سكينته عليه. فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبياء أبعد عن أن يشرع قصدها، والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك، إذا كانت صحيحة ثابتة. فكيف إذا علم أنها كذب، أو لم يعلم صحتها. وأيضا- فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما، لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها. فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟

وإذا كان هذا ليس بمشروع في موضع قدميه للصلاة، فكيف بالنعل الذي هو موضع قدميه للمشي وغيره؟ هذا إذا كان النعل صحيحا، فكيف بما لا يعلم صحته، أو بما يعلم أنه مكذوب: كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون وينحتون فيها موضع قدم، ويزعمون عند الجهال أن هذا الموضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه، وقدمي إبراهيم الخليل، الذي لا شك فيه، ونحن مع هذا قد أمرنا أن نتخذه مصلى، فكيف بما يقال إنه موضع قدميه، كذبا وافتراء عليه كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس، وغير ذلك من المقامات. فإن قيل فقد أمر الله أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فيقاس عليه غيره. قيل له: هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم الذي بمكة، سواء أريد به المقام الذي عند الكعبة موضع قيام إبراهيم، أو أريد به المشاعر: عرفة ومزدلفة ومنى، فلا نزاع بين المسلمين أن المشاعر خصت من العبادات بما لا يشركها فيه سائر البقاع، كما خص البيت بالطواف. فما خصت به تلك البقاع لا يقاس به غيرها. وما لم يشرع فيها فأولى أن لا يشرع في غيرها ونحن استدللنا على أن ما لم يشرع هناك من التقبيل، والاستلام أولى أن لا يشرع في غيرها، ولا يلزم أن يشرع في غير تلك البقاع مثل ما شرع فيها. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية– 2/ 803 ج- حكم التبرك بأثر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم: ذلك أنه يوجد في بعض البلدان ما يسمى (أثر موطئ قدم الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو عبارة عن حجارة عليها أثر قدم، يزعم بعض الناس أنها قدم الرسول صلى الله عليه وسلم, فيتبركون بها مسحاً وتقبيلاً ومشاهدة، وغير ذلك، كالدعاء عندها، ونحوه، وقد ينشئون الزيارة لأجل ذلك. والكلام على بطلان ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن ما يدعى وجوده من آثار قدمه الشريفة عليه الصلاة والسلام غير صحيح؛ لعدة أسباب, منها ما يأتي: 1 - عدم وجود ما يثبت صحة شيء من ذلك، فليس هناك أدلة معتبرة يعتمد عليها، وإنما الأمر مجرد إشاعات فقط في البداية، اكتسبت الشهرة بعد ذلك، خصوصاً عند العوام. 2 - نص المحققون من العلماء والحفاظ على إنكار صحة آثار القدم النبوية على الأحجار (¬1). وإن من علامات زيف آثار القدم ما قرره صاحب كتاب (الآثار النبوية) حين قابل بين المعروف من تلك الآثار، حيث قال: (المعروف الآن من هذه الأحجار سبعة: أربعة منها بمصر، وواحد بقبة الصخرة ببيت المقدس، وواحد بالقسطنطينية، وواحد بالطائف، وهي حجارة سوداء، إلى الزرقة في الغالب، عليها آثار أقدام متباينة في الصورة والقدم، لا يشبه الواحد منها الآخر) (¬2). 3 - أن ما استفاض واشتهر خصوصاً على ألسنة الشعراء والمداح من تأثير قدمه صلى الله عليه وسلم في الصخر إذا وطئ عليه لا أصل له، فهو كذب مختلق (¬3). الوجه الثاني: لو صح وجود شيء من آثار قدم الرسول صلى الله عليه وسلم افتراضاً، فإنه لا يجوز التبرك به على وجه من الوجوه، لما يأتي: 1 - ما تقدم تقريره والاستدلال عليه. .. من عدم مشروعية التبرك بالمواضع التي جلس أو صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثر القدم جزء من هذه المواضع، ولذا لم يتبرك به السلف الصالح رحمهم الله تعالى. ¬

(¬1) أورد المؤلف أحمد تيمور باشا صاحب كتاب ((الآثار النبوية)) جملة من أسماء هؤلاء العلماء. انظر كتابه هذا (ص: 68، 69)، وراجع ((الاقتضاء)) (2/ 800)، و ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (27/ 13). (¬2) ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 53). (¬3) انظر كتاب ((فتح المتعال في مدح النعال)) للمقري (ص: 349، 351)، وكتاب ((الآثار النبوية)) (ص: 53، 63).

وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (الموضع الذي كان صلى الله عليه وسلم يطؤه بقدميه الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله) (¬1). وقال في موضع آخر رحمه الله: (قصد الصلاة والدعاء عندما يقال إنه قدم نبي، أو أثر نبي، أو قبر نبي ... من البدع المحدثة، المنكرة في الإسلام، لم يشرع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، بل هو من أسباب الشرك، وذرائع الإفك) (¬2). 2 - اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم عليه السلام (¬3) – الموجود به موضع قدميه – وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدمي إبراهيم عليه السلام – الذي لا شك فيه – مع أنا قد أمرنا أن نتخذه مصلى، فكيف بما يقال إنه موضع قدم الرسول صلى الله عليه وسلم – كذباً وافتراء (¬4) -. هذا ما يتعلق بحكم التبرك بأثر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا الحكم أيضاً في كل ما قد ينسب إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم من آثار أخرى مشابهة، كأثر الكف, أو المرفق, أو الرأس وغير ذلك (¬5)، فإنه لا يوجد لها مستند شرعي صحيح، يثبت صحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أنه لا يشرع التبرك بها على أي وجه من الوجوه لو صح شيء منها، والله سبحانه وتعالى أعلم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – ص: 352 د - حكم التبرك بمكان ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم: ذكر بعض المتأخرين من المؤرخين أن بمكة موضعاً مشهوراً يقال إنه مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يزار بعد صلاة المغرب من الليلة الثانية عشرة من شهر ربيع الأول في كل سنة، من قبل بعض الفقهاء والأعيان، على طريقة خاصة، فيدخلون فيه ويخطبون ويدعون لولاة الأمر، ثم يعودون إلى المسجد الحرام قبيل العشاء (¬6). وذكر بعضهم أن هذا الموضع يفتح يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ليتبرك به الناس – بالصلاة, والدعاء, والتمسح ونحو ذلك – فهو أول تربة مست جسمه الطاهر عليه الصلاة والسلام (¬7)، وحتى ادعى بعض العلماء أن الدعاء يستجاب في مولد النبي صلى الله عليه وسلم عند الزوال (¬8). فهل التبرك بمكان ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم مشروع أم ممنوع؟. والجواب: أن حكم هذه المسألة لا يختلف عن أمثالها من المسائل السابقة، وهو عدم الجواز، وذلك من وجهين: الوجه الأول: اختلاف العلماء والمؤرخين في تعيين مكان ولادته صلى الله عليه وسلم (¬9)، وعدم وجود أدلة صحيحة تحدد هذا الموضع يقيناً. وأما المكان المشهور – المشار إليه آنفاً – فمحل شك لدى كثير من العلماء. وقد تطرق الرحالة أبو سالم العياشي إلى تحقيق مكان المولد، وساق اختلاف العلماء فيه، ثم ناقش ذلك القول المشهور بين الناس. ¬

(¬1) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 800). (¬2) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (27/ 145). (¬3) انظر: ((أخبار مكة)) للأزرقي (2/ 29، 30)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 212). (¬4) ((الاقتضاء)) (2/ 799، 800) بتصرف. (¬5) انظر: ((الآثار النبوية)) لأحمد تيمور باشا (ص: 61، 62). (¬6) من كتاب ((الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف)) لابن ظهيرة – المتوفى سنة 986هـ - (ص: 326)، و ((كتاب إعلام العلماء الأعلام)) للقطبي – المتوفى سنة 1014هـ (ص: 154) باختصار. (¬7) ((رحلة ابن جبير)) (ص: 92) بتصرف. (¬8) انظر: ((إعلام العلماء والأعلام)) للقطبي (ص: 154). (¬9) انظر مثلاً ((شفاء الغرام)) (1/ 269)، ((الجامع اللطيف)) (ص: 325 - 327)، ((أخبار الكرام)) (ص: 220، 221).

ومما أورده قوله: (والعجب أنهم عينوا محلاً من الدار مقدار مضجع، وقالوا له: موضع ولادته صلى الله عليه وسلم، ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف، لما تقدم من الخلاف في كونه في مكة أو غيرها، وعلى القول بأنه فيها ففي أي شعابها؟ وعلى القول بتعيين هذا الشعب ففي أي الدور؟ وعلى القول بتعيين الدار يبعد كل البعد تعيين الموضع من الدار، بعد مرور الأزمان والأعصار، وانقطاع الآثار). ثم قال أيضاً رحمه الله مستبعداً صحة تحديد ذلك المكان: (والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعتني بحفظ الأمكنة، سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك، وبعد مجيء الإسلام فقد علم من حال الصحابة وتابعيهم ضعف اعتناقهم بالتقييد، بالأماكن التي لم يتعلق بها عمل شرعي، لصرفهم اعتناءهم رضي الله عنهم لما هو أهم، من حفظ الشريعة، والذب عنها بالسنان واللسان) (¬1) اهـ. ولا شك أن اختلاف العلماء والمؤرخين في تحديد موضع الولادة دليل على عدم اهتمام الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم به – لأنه لا يتعلق به عمل شرعي – وإلا لنقل اتفاقهم على مكان معين معروف، كما تعرف أماكن مشاعر الحج مثلاً. فهذا إذاً من دلائل عدم مشروعية التبرك بمكان الولادة، فالصحابة أحرص من غيرهم على فعل الخير والمسارعة إليه. الوجه الثاني: لو صحت معرفة مكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم لما جاز التبرك به على أي وجه، لما تقدم تقريره والاحتجاج له ... من عدم مشروعية التبرك بالمواضع التي جلس أو صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الآثار المكانية، ومكان الولادة جزء منها. أما الاستدلال على شرعية تعظيم المكان الذي ولد فيه نبي، والتبرك به، بما روي أن جبريل عليه السلام أمر محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج بصلاة ركعتين ببيت لحم، حيث ولد عيسى عليه السلام (¬2)، فيجاب عنه بما يأتي: 1 - أن علماء الحديث وغيرهم حكموا على هذه الرواية بأنها منكرة موضوعة، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في بيت لحم (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ثبت في الصحيح ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بيت المقدس ليلة الإسراء صلى فيه ركعتين)) (¬4) ولم يصل بمكان غيره ولا زاره، وحديث المعراج فيه ما هو في الصحيح، وفيه ما هو في السنن والمسانيد، وفيه ما هو ضعيف، وفيه ما هو من الموضوعات المختلقات، مثل ما يرويه بعضهم فيه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له جبريل: هذا قبر أبيك إبراهيم، انزل فصل فيه، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى، انزل فصل فيه)) (¬5) .... فهذا ونحوه من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة). إلى أن قال: (وبيت لحم كنيسة من كنائس النصارى، ليس في إتيانها فضيلة عند المسلمين، سواء كان مولد عيسى أو لم يكن) (¬6). وقال ابن القيم رحمه الله: (قد قيل: إنه – أي النبي صلى الله عليه وسلم – نزل ببيت لحم، وصلى فيه، ولم يصح ذلك عنه ألبتة) (¬7). ¬

(¬1) ((الرحلة العياشية)) المسماة (ماء الموائد) للعياشي (1/ 225). (¬2) من كتاب ((القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل صلى الله عليه وسلم)) للشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري (ص: 43، 138) نقلاً عن رسالة لمحمد بن علوي المالكي. (¬3) انظر كتاب ((القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل صلى الله عليه وسلم)) للشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري (ص: 138 - 145) فقد أفاض مؤلفه وفقه الله في نقل كلام أهل العلم وحكمهم على هذه الرواية وأسانيدها. (¬4) رواه مسلم (162). (¬5) ينظر كتاب ((المجروحين)) (1/ 225) لابن حبان. (¬6) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 814). (¬7) ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/ 34).

2 - لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى ليلة الإسراء في بيت لحم، لم يكن في ذلك ما يؤيد جواز الصلاة في مكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً واحتساباً للأجر، لعدم صحة القياس في أمور العبادة، فهي توقيفية. فضلاً عن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بتعظيم بيت لحم، ولم يأمرها بالصلاة فيه، ولم يكن أحد من الصحابة رضي الله عنهم يعظم بيت لحم ويصلي فيه (¬1)، فليس في إتيانه فضيلة عند المسلمين كما تقدم، وكذا مكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – ص: 355 النوع الثاني: التبرك بالأولياء والصالحين وردت أدلة كثيرة تدل على مشروعية التبرك بجسد وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، كشعره وعرقه وثيابه وغير ذلك. أما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الأولياء والصالحين فلم يرد دليل صحيح صريح يدل على مشروعية التبرك بأجسادهم ولا بآثارهم، ولذلك لم يرد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من التابعين أنهم تبركوا بجسد أو آثار أحد من الصالحين، فلم يتبركوا بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه, ولا بغيره من العشرة المبشرين بالجنة، ولا بأحد من أهل البيت ولا غيرهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، لحرصهم الشديد على فعل جميع أنواع البر والخير، فإجماعهم على ترك التبرك بجسد وآثار غيره صلى الله عليه وسلم من الصالحين دليل صريح على عدم مشروعيته. وعليه فإن من تبرك بذات أو آثار أحد من الصالحين غير النبي صلى الله عليه وسلم قد عصى الله تعالى، وعصى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأعطى هذه الخاصية التي خص بها ربنا جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم لغيره من البشر، وسواهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فسوى عموم الأولياء والصالحين بخير البشر وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه هضم لحقه صلى الله عليه وسلم، ودليل على نقص محبته عليه الصلاة والسلام في قلب هذا المتبرك. ومن أنواع التبرك المحرم بالصالحين: أ) التمسح بهم, ولبس ثيابهم, أو الشرب بعد شربهم طلباً للبركة. ب) تقبيل قبورهم، والتمسح بها، وأخذ ترابها طلباً للبركة، وقد حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن هذا كله منهي عنه (¬2)، وذكر أبو حامد الغزالي الشافعي المتوفي سنة 505هـ، وغيره من علماء الشافعية والحنفية أن هذه الأفعال من عادات النصارى، وذكر بعض علماء الشافعية وبعض علماء الحنفية أن استلام القبور تبركاً كبيرة من كبائر الذنوب. ج) عبادة الله عند قبورهم تبركاً بها، معتقداً فضل التعبد لله تعالى عندها، وأن ذلك سبب لقبول هذه العبادة، وسبب لاستجابة الدعاء. النوع الثالث: التبرك بالأزمان, والأماكن, والأشياء التي لم يرد في الشرع ما يدل على مشروعية التبرك بها. ومن أمثلة هذه الأشياء: 1 - الأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعبد لله فيها اتفاقاً من غير قصد لها لذاتها، وإنما لأنه صلى الله عليه وسلم كان موجوداً في هذه الأماكن وقت تعبده لله تعالى بهذه العبادة، ولم يرد دليل شرعي يدل على فضلها. ¬

(¬1) من كتاب ((الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي)) للشيخ حمود التويجري (ص: 88) بتصرف، وانظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 813). (¬2) ينظر: رسالة ((زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور)) (ص: 24 - 32)، ((الاستغاثة في الرد على البكري)) (1/ 356)، ((مجموع الفتاوى)) (4/ 521، 26/ 97، 27/ 79 - 109، 136 - 294)، ((الاختيارات)) الجنائز (ص: 92)، ((الصارم المنكي)) (ص: 109 - 178)، ((الزواجر)): الكبيرة (93 - 98، 1/ 149).

ومن هذه الأماكن: جبل ثور، وغار حراء، وجبل عرفات، والأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، والمساجد السبعة التي قرب الخندق، والمكان الذي يزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه – مع أنه مختلف في مكان ولادته عليه الصلاة والسلام اختلافاً كثيراً – ومثل الأماكن التي قيل إنه ولد فيها نبي أو ولي أو عاشوا فيها ونحو ذلك – مع أن كثيراً من ذلك لم يثبت -. فلا يجوز للمسلم قصد زيارة هذه الأماكن للتعبد لله تعالى عندها، أو فوقها، بصلاة أو دعاء أو غيرهما، كما لا يجوز للمسلم مسح شيء من هذه الأماكن لطلب البركة، ولا يشرع صعود هذه الجبال لا في أيام الحج ولا غيرها، حتى جبل عرفات، لا يشرع صعوده في يوم عرفة، ولا غيره، ولا التمسح بالعمود التي فوقه، وإنما يشرع الوقوف عند الصخرات القريبة منه إن تيسر، وإلا وقف الحاج في أي مكان من عرفات. ولذلك لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قصد شيئاً من هذه الأماكن للتبرك بها بتقبيل أو لمس أو غيرهما ولا أن أحداً منهم قصدها للتعبد لله فيها. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى)) (¬1) رواه البخاري ومسلم، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي هو ثاني الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم (أنه لما رأى الناس وهو راجع من الحج ينزلون فيصلون في مسجد، فسأل عنهم، فقالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من مر بشيء من هذه المساجد فحضرت الصلاة فليصل، وإلا فليمض) (¬2). فهذا قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) (¬3). وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر – رضي الله عنهما – ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) (¬4). وهو – أي قول عمر السابق – يدل على التحذير من التبرك بالأماكن التي مر بها أو تعبد فيها نبينا صلى الله عليه وسلم دون قصد لها، وعلى عدم مشروعية قصد هذه الأماكن للتعبد لله فيها، وعلى هذا أجمع سلف هذه الأمة وكل من سار على طريقتهم؛ ولأن ذلك من المحدثات التي لا دليل عليها. ¬

(¬1) رواه البخاري (1197)، ومسلم (827). (¬2) رواه عبد الرزاق (2/ 118) (2734). قال ابن تيمية في ((التوسل والوسيلة)) (203)، وابن كثير في ((مسند الفاروق)) (1/ 142): إسناده صحيح. (¬3) [3958])) رواه الترمذي (3682) , وأحمد (2/ 53) (5145) , وابن حبان (15/ 318) , والحاكم (3/ 93) , والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 338) , قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (7/ 133): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). والحديث روي عن أبي هريرة, ومعاوية ابن أبي سفيان, وأبو ذر الغفاري, وبلال, رضي الله عنهم. (¬4) رواه الترمذي (3663، 3799) وابن ماجه (97) , وأحمد (5/ 385) (23324). وقال: هذا حديث حسن. وحسنه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1165)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 579). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

2 - التبرك ببعض الأشجار وبعض الأحجار وبعض الأعمدة وبعض الآبار والعيون التي يظن بعض العامة أن لها فضلاً، إما لظنهم أن أحد الأنبياء والأولياء وقف على ذلك الحجر، أو لاعتقادهم أن نبياً نام تحت تلك الشجرة، أو يرى أحدهم رؤيا أن هذه الشجرة أو هذا الحجر مبارك، أو يعتقدون أن نبياً اغتسل في تلك البئر أو العين، أو أن شخصاً اغتسل فيها فشفي، ونحو ذلك، فيغلون فيها ويتبركون بها فيتمسحون بالأشجار والأحجار، ويغتسلون بماء هذه البئر أو تلك العين طلباً للبركة، ويعلقون بالشجرة الخرق والمسامير والثياب، فربما أدى بهم غلوهم هذا في آخر الأمر إلى عبادة هذه الأشياء، واعتقاد أنها تنفع وتضر بذاتها. ولا شك أن التبرك بالأشجار والأحجار والعيون ونحوها، بأي نوع من أنواع التبرك، من مسح أو تقبيل، أو اغتسال، أو غيرها مما سبق ذكره تبركاً وتعظيماً محرم بإجماع أهل العلم، ولا يفعله إلا الجهال؛ لأنه إحداث عبادات ليس لها أصل في الشرع، ولأنه من أعظم أسباب الوقوع في الشرك الأكبر، ولما روى أبو واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم وأمتعتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138]، ثم قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم)) (¬1). فلما طلب حدثاء العهد بالإسلام من الصحابة شجرة يتبركون بها تقليداً للمشركين أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرهم أن طلبهم هذا يشبه طلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة تقليداً لمشركي زمانهم، فطلبهم مشابه لطلب بني إسرائيل من جهة طلب التشبه بالمشركين فيما هو شرك، وإن كان ما طلبه هؤلاء الصحابة من الشرك الأصغر. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه ليس هناك حجر أو غيره يشرع مسحه أو تقبيله تبركاً، حتى مقام إبراهيم الخليل – عليه السلام – لا يشرع تقبيله مطلقاً مع أنه قد وقف عليه، وأثرت فيه قدماه – عليه السلام -، وهذا كله قد أجمع عليه أهل العلم. ومسح الحجر الأسود وتقبيله, وكذلك مسح الركن اليماني في أثناء الطواف إنما هو من باب التعبد لله تعالى، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عمر رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (¬2) رواه البخاري ومسلم. كما أنه يجب قطع الأشجار وهدم الآبار والعيون، وإزالة الأحجار التي يتبرك بها العامة، حسماً لمادة الشرك، كما فعل عمر – رضي الله عنه – حين قطع شجرة بيعة الرضوان. 2 - التبرك ببعض الليالي والأيام التي يقال: إنها وقعت فيها أحداث عظيمة، كالليلة التي يقال إنها حصل فيها الإسراء والمعراج، ونحو ذلك تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين - ص: 296 النوع الرابع: التبرك بالأماكن والأشياء الفاضلة وردت نصوص شرعية كثيرة تدل على فضل وبركة كثير من الأماكن، كالكعبة المشرفة، والمساجد الثلاثة، وكثير من الأزمان كليلة القدر ويوم عرفة، وكثير من الأشياء الأخرى، كما زمزم، والسحور للصائم، والتبكير في طلب الرزق ونحوه، وغير ذلك. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2180)، وأحمد (5/ 218) (21947). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) [3961])) رواه البخاري (1597) ومسلم (1270).

والتبرك بهذه الأشياء يكون بفعل العبادات وغيرها مما ورد في الشرع ما يدل على فضلها فيها، ولا يجوز التبرك بها بغير ما ورد، وعليه فمن تبرك بالأزمان, أو الأماكن, أو الأشياء التي وردت نصوص تدل على فضلها أو بركتها بتخصيصها بعبادات أو تبركات معينة لم يرد في الشرع ما يدل على تخصيصها بها، فقد خالف المشروع، وأحدث بدعة ليس لها أصل في الشرع، وذلك كمن يخص ليلة القدر بعمرة، وكمن يتبرك بجدران الكعبة بتقبيلها أو مسحها، أو يتمسح بمقام إبراهيم أو بالحجر المسمى حجر إسماعيل، أو بأستار الكعبة، أو بجدران المسجد الحرام، أو المسجد النبوي وأعمدتهما ونحو ذلك، فهذا كله محرم، وهو من البدع المحدثة، وقد اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة على عدم مشروعيته (¬1)، وعندك أن يتبرك بأحجار أو تراب شيء من المواضع الفاضلة بالتمرغ عليه أو يجمعه أو الاحتفاظ به. ومما يدل أيضاً على تحريم التبرك بالأشياء الفاضلة بغير ما ورد في الشرع ما ثبت في (صحيح البخاري) عن ثاني الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بأتباع سنتهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على قلب عمر ولسانه)) (¬2)، وقال صلى الله عليه وسلم عنه وعن أبي بكر: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) (¬3)، أنه قال رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (¬4) رواه البخاري ومسلم، فقول عمر هذا صريح في أن تقبيل الحجر الأسود إنما هو اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمسلم يفعله تعبداً لله تعالى، واقتداء بخير البرية صلى الله عليه وسلم، وليس من باب التبرك في شيء. وإذا كان هذا في شأن الحجر الأسود الذي هو أفضل الكعبة، فغيره من الأماكن والأشياء الفاضلة أولى، فيتعبد المسلم فيها بما ورد في الشرع ولا يزيد عليه. ومما يدل كذلك على تحريم التبرك بالأشياء الفاضلة بغير ما ورد في الشرع ما ثبت عن حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – أنه أنكر على من استلم أركان الكعبة الأربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني (¬5).رواه البخاري. تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين - بتصرف– ص: 308 ¬

(¬1) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص: 808، 809)، ((مجموع الفتاوى)) (4/ 521، 27/ 79، 106 - 110)، ((الاختيارات)) الجنائز (92)، و ((الحج)) (ص: 118)، ((زيارة القبور)) للبركوي الحنفي (ص: 52)، ((مجلس الأبرار)) للرومي الحنفي مع ((خزينة الأسرار)) لسبحان بخش الهندي الحنفي (ص: 130)، و ((نقائش الأزهار للسورتي الحنفي (ص: 161) نقلاً عن ((جهود علماء الحنفية)) (ص: 657)، ((إصلاح المساجد)) للقاسمي (ص: 52)، ((القول السديد)) للسعدي (ص: 53)، ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (5/ 11، 12). (¬2) [3963])) رواه الترمذي (3682) , وأحمد (2/ 53) (5145) , وابن حبان (15/ 318) , والحاكم (3/ 93) , والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 338) , قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (7/ 133): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)).والحديث روي عن أبي هريرة, ومعاوية ابن أبي سفيان, وأبو ذر الغفاري, وبلال, رضي الله عنهم. (¬3) رواه الترمذي (3663، 3799) وابن ماجه (97) , وأحمد (5/ 385) (23324). وقال: هذا حديث حسن. وحسنه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1165)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 579). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬4) [3965])) رواه البخاري (1597) ومسلم (1270). (¬5) رواه البخاري (244).

ثانيا: أسباب التبرك الممنوع

1 - الجهل بالدين من الأمور المسلم بها: أهمية العلم, ولاسيما العلم الشرعي، أي معرفة أمور الدين وشرائعه، ومن ثم العمل بذلك، حتى يعبد الله تعالى على بصيرة, قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]. ومن هنا فإن الجهل بالدين وبأحكامه آفة خطيرة، وداء عظيم، فهو يحجب عن معرفة الحق، ويبعد عن سنن الهدى، ويؤدي إلى الضلال، ويوقع في البدع المتعددة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على القبور والآثار فهو من البدع المحدثة في الإسلام، من فعل من لم يعرف شريعة الإسلام، وما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد, وإخلاص الدين لله، وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبني آدم. ولهذا يوجد أن من كان أبعد عن التوحيد, وإخلاص الدين لله, ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيماً لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع) (¬1). الخ. فالجهل إذاً أحد أسباب حصول كثير من صور التبرك الممنوع عند بعض المسلمين، حيث لم يميزوا بين التبرك المشروع والممنوع، بل خلطوا بينهما أو قاسوا الثاني على الأول. ولقد انتشر الجهل في العصور المتأخرة في أنحاء العالم الإسلامي، وخاصة الأقطار النائية. ومن أهم أسباب انتشار الجهل بين الناس: سكوت علماء أهل السنة عن بيان الحق وتبليغ شرائع الدين وأحكامه، وتخاذلهم عن إنكار البدع المحدثة والتحذير عنها، وإعراض الناس عن سؤال أهل العلم في أمور دينهم. وفي مقابل هذا: تشجيع ورعاية علماء أهل البدع – وعلى رأسهم الروافض والصوفية – لبدعهم، وإحيائها، أو إفتاء البعض بدون علم ولا دراية، فيحصل الضلال والإضلال. هذا ومن آثار الجهل السيئة، والمفاسد المترتبة عليه: تقليد الأسلاف، وتحكيم العادات السائدة بدون دليل، وهي شبهة قديمة احتج بها الكفار المخالفون لدعوة الرسل عليهم السلام، كما أخبرنا الله تعالى عن ذلك في كتابه الكريم. يقول الإمام الشوكاني رحمه الله مبيناً خطر هذا الأمر: (بهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكراً, والمنكر معروفاً، وتبدلت الأمة بكثير من المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك، ومرنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم، وأنسوا إليه) (¬2). كما أن من مفاسد الجهل أيضاً الوقوع في فتنة الشيطان وتلبيسه. قال الإمام ابن القيم عند ذكره الأمور التي أوقعت عباد القبور في الافتتان بها، مع العلم بأن ساكنيها أموات، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياتاً ولا نشوراً. قال رحمه الله تعالى: (منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل: من تحقيق التوحيد، وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم جداً من ذلك، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا بقدر ما معهم من العلم) (¬3) الخ. وعلى أي حال فإن الواجب على المسلم تعلم أمور دينه والتفقه فيه، حتى لا يعبد الله بغير ما شرعه، ولأن من أمكنه التعلم ولم يتعلم يأثم. وقد يعذر الجاهل لعدم علمه، أو عدم استطاعته التعلم، لكنه لا يعذر بعد العلم، فقد قامت عليه الحجة حينئذ التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – ص: 467 ¬

(¬1) ((تفسير سورة الإخلاص)) (ص: 366). (¬2) ((الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد)) لمحمد بن علي الشوكاني (ص: 28)، المطبوع ضمن مجموعة الرسائل السلفية. انظر ((رسالة تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد)) للصنعاني (ص: 33). (¬3) ((إغاثة اللهفان)) (1/ 214، 215).

2 - التشبه بالكفار

2 - التشبه بالكفار لقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع العلماء على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم، لما ينشأ عن مشابهتهم والاقتداء بهم من الأضرار الكثيرة. فمن الأدلة على ذلك في القرآن الكريم قول الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة: 120]. وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة. منها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (¬1). وما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله, اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) (¬2). قال ابن تيمية رحمه الله: وهذا خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات (¬3). كما جاءت السنة بالنهي عن مشابهة الكفار في أمور مخصوصة كثيرة، في العبادات والعادات، كنهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، وأن في ذلك مشابهة لأهل الكتاب. وقد تقدم لنا إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من طلب اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة، وللعكوف عندها من أجل التبرك، اقتداء بفعل مشركي الجاهلية. هذا ومن صور التبرك الحاصلة بسبب التشبه بالكفار مما ابتلي به بعض المسلمين ما يأتي: 1 - الغلو في الأنبياء والصالحين. فإن النصارى قد عظموا أنبياءهم وأتباعهم حتى عبدوهم، فقلدهم بعض المسلمين وتأثروا بهم، حيث غلوا في محبة وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين، كما تقدم قريباً. وقد أضل النصارى كثيراً من جهال المسلمين، حتى صاروا يزورون كنائسهم، ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم (¬4). 2 - إحداث الاحتفال بالموالد والأعياد. ومن أمثلة ذلك الاحتفال بزمان المولد النبوي، وموالد الأولياء، ونحو ذلك من المناسبات تعظيماً وتبركاً. ولا يخفى أن أهم دواعي إحداث هذه الأعياد والاحتفالات البدعية في بلاد المسلمين هو التشبه بأهل الكتاب، ولاسيما النصارى منهم، حيث إنهم يقيمون أعياداً عديدة في مواسم وأحوال عيسى عليه السلام. 3 - بناء المساجد وغيرها على القبور، والتبرك بها. فإن منشأ ما ابتلي به الكثير في بلاد المسلمين من بناء المساجد على القبور، أو اتخاذ القبور مساجد بلا بناء، أو تعظيم القبور والمشاهد، إن منشأ ذلك هو التقليد الأعمى لمن كان قبلنا من الضالين، بل والمغضوب عليهم (¬5). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4031)، وأحمد (2/ 50) (5114). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 509)، والعراقي في ((المغني)) (1/ 359): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 282): ثابت [و] إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬2) رواه البخاري (7319) , ومسلم (2669). (¬3) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 147). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (27/ 460، 461) بتصرف. (¬5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (27/ 460)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 77، 295)، بحث الوادعي ((حول القبة المبنية على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم)) (ص: 286) بتصرف.

فإن اليهود والنصارى هم الأئمة في ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً عن فعلهم، في مرض موته: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬1). والنصارى أشد غلوا في ذلك من اليهود، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (¬2). ومن المعلوم أن النصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين، مما يوافق دينهم، ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر، ليقوى بذلك دينهم، ولئلا ينفر المسلمون عنهم وعن دينهم (¬3). ولا شك أن من دواعي التشبه بأفعال الكفار مجاورتهم أو مخالطتهم، حتى وصل الحال – مثلاً – ببعض جهال المسلمين في بلاد الهند إلى أن أحدهم صار يمشي زحفاً لزيارة قبر الولي، ويرجع على قفاه تقديراً وتعظيماً. وهذا بسبب مجاورة البوذيين هناك ومخالطتهم، حيث تأثروا بهم فقلدوهم في هذا الفعل ونحوه. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – ص: 475 ¬

(¬1) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529) من حديث عائشة. (¬2) رواه البخاري (427)، ومسلم (528). (¬3) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (27/ 462 - 464) باختصار.

3 - تعظيم الآثار

3 - تعظيم الآثار المقصود بالآثار هنا: الآثار المكانية، ونحوها. وقد تقدم أنه لا يجوز تعظيم مكان لم يعظمه الشرع، كما أن هذا التعظيم يجب أن يكون على وفق الشرع أيضاً، وما جاوز ذلك من التعظيم والتبرك بالأماكن فممنوع. وقد لاحظنا ... أن تعظيم الآثار المكانية وتقديسها هو السبب الباعث على التبرك بها وطلب الخير عندها. كما يلاحظ أن معظم هذه الآثار التي يتبرك بها هي آثار النبي والصالحين المكانية المنسوبة إليهم، مثل أماكن ولادتهم، ومواضع عبادتهم أو إقامتهم، أو بعض أحوالهم، ... ويدخل في هذا تعظيم قبور الأنبياء والصالحين والبناء عليها. وهذه الآثار المكانية إما أن تكون ثابتة – وهي الأكثر – أو منقولة، مثل ما يزعم في بعض البلدان من أحجار عليها أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وما ينقل من تراب القبور تبركاً. ولا شك أن تعظيم تلك الآثار، ومن ثم التبرك بها، قد حصل بسبب تعظيم أصحاب هذه الآثار والغلو فيهم. ومن الأسباب الأخرى أيضاً تقليد الكفار، فإن الكفار يعظمون آثار عظمائهم، وتعظيم الآثار من سماتهم. ويمكن أن يدخل فيما تقدم مما يعظم ويتبرك به: التبرك الممنوع ببعض البقاع المقدسة، أو ما هي مظنة التقديس والتعظيم، كالتبرك ببعض أجزاء الكعبة، أو بالمشاعر المقدسة، أو بصخرة بيت المقدس، ونحو ذلك. هذا ولعل من أسباب انتشار التبرك بالمواضع: تساهل الكثير من العلماء في رواية أخبار فضائل المواضع، وعدم تمحيصها، فكثرت في كتب الفضائل الأحاديث والآثار والأخبار الضعيفة، بل والموضوعة، عن فضائل بعض المواضع وما تحتوي عليه من البركة. ومن النماذج لما وصل إليه تعظيم وتقديس الآثار المكانية، والمبالغة في اقتضائها للبركة ما يأتي: (1) أن مفتاح الكعبة إذا وضع في فم الصغير الذي ثقل لسانه عن الكلام يتكلم سريعاً بقدرة الله تعالى (¬1). (2) ما يروى أن الله تعالى قال للصخرة: (أنت عرشي الأدنى). (3) تمسح الجهال بالحاج أو المعتمر من مكة المكرمة، أو الزائر للمدينة المنورة، بل وبسكان الحجاز وما حوله. (4) نقل شيء من تراب قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وحفظه تبركاً، وكذا قبر غيره صلى الله عليه وسلم. (5) أكل تراب جبل عرفات، ونحوه. وغير ذلك كثير ... وهناك أسباب أخرى عامة ساعدت على وجود وانتشار هذا التبرك الممنوع وفشوه في المجتمع. ومن أهم هذه الأسباب على سبيل الإجمال: تأثير الفرق المبتدعة، كالصوفية والرافضة، والتمسك بالآثار الضعيفة أو الموضوعة، وقياس الممنوع من التبرك على المشروع منه، وسكوت العلماء عن الإنكار، والاستسلام للعاطفة, والتعصب للهوى، والله تعالى أعلم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن الجديع – بتصرف – ص: 479 ¬

(¬1) انظر ((رحلة الصديق إلى البيت العتيق))، للسيد صديق حسن خان (ص: 24).

ثالثا: آثار التبرك الممنوع

ثالثاً: آثار التبرك الممنوع لاشك أن التبرك الممنوع يفضي إلى شرور كثيرة، اعتقادية وعملية، وإلى مفاسد عظيمة، دينية ودنيوية، فله آثار سيئة وخطيرة. وسأتكلم عن أهم هذه الآثار بالتفصيل، مبيناً كيفية حصول كل أثر منها، مع الاستشهاد بنماذج توضح ذلك. أولا: الشرك: من آثار التبرك الممنوع: الشرك، والمقصود به الشرك الأكبر. وهو أعظم الآثار وأشدها خطراً، كيف لا وهو أكبر الكبائر، يخرج من ملة الإسلام، ويحبط جميع الأعمال، ويوجب الخلود في النار لمن مات عليه، وفيه تنقص لله رب العالمين. ولهذا بعث الله تعالى رسله من أجل إفراده بالعبادة بجميع أنواعها، وترك عبادة ما سواه، كما قال عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. أما كيف يوصل التبرك الممنوع إلى الشرك؟ فإن ذلك يحصل من إحدى حالتين: الأولى: أن يكون التبرك الممنوع في حد ذاته شركاً. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: التبرك بالأموات – من الأنبياء والصالحين وغيرهم – في دعائهم لقضاء الحاجات الدينية أو الدنيوية، وتفريج الكربات والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالذبح أو النذر لهم، والطواف على قبورهم. فهذا ونحوه من الشرك الأكبر، لأنهم قد اعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله، فأنزلوهم منزلة الربوبية، أو صرفوا لهم من العبادات ما لا يجوز أن يصرف إلا لله تبارك وتعالى، وهذا بسبب المبالغة في تعظيمهم، والافتتان فيهم، والتعلق بهم. ووصل الأمر في اعتقاد بعض المشركين بأصحاب القبور إلى أن قالوا: إن البلاء يندفع عن أهل البلد بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين. وكل هذه الأمور الشركية تفعل باسم التبرك، وأحياناً باسم التوسل والتشفع. الحالة الثانية: أن يؤدي التبرك الممنوع إلى الشرك، فيكون التبرك الممنوع من وسائله، ويكون الشرك من نتائج التبرك الممنوع ومن آثاره. ولهذا حصل المنع من بعض أنواع التبرك سداً للذريعة إلى الشرك، وخوفاً من الوقوع فيه. ومن الأمثلة على ذلك النهي عن الصلاة عند القبور، أو بناء المساجد أو القباب عليها، أو الدعاء عندها، ونحو ذلك من المظاهر والمشاهد مما يراد به تعظيم أصحابها. ويلحق بذلك: التبرك بأمكنة وآثار الأنبياء والصالحين، وتعظيمها وتقديسها. فإن هذه الأمور ونحوها من أعظم الذرائع والأسباب المؤدية إلى وقوع الشرك بأصحاب القبور والآثار في وقت من الأوقات مع تطاول الأيام. وقد كان أصل حصول الشرك وعبادة الأصنام في الأرض بسبب تعظيم الموتى الصالحين. روى ابن جرير الطبري رحمه الله عن بعض السلف في تفسيره لقوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح: 23 - 24] أن هذه أسماء رجال صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا جاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر, فعبدوهم. وروى ابن جرير أن هذه الأصنام كانت تعبد في زمان نوح عليه السلام، ثم اتخذها العرب بعد ذلك (¬1). وأيضا فإن (اللات) التي هي من أكبر أوثان العرب في الجاهلية، كان سبب عبادتهم تعظيم قبر رجل صالح والعكوف عليه (¬2). وبهذا تبين أن سبب عبادة الأصنام هو المبالغة في تعظيم الصالحين. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (29/ 98، 99) وانظر: ((صحيح البخاري)) (6/ 736) كتاب التفسير، تفسير سورة نوح. (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) (27/ 58، 59).

ولهذا نهى الشارع الحكيم عن كل ما يؤدي إلى اتخاذ الأوثان، مثل تعظيم قبور الأنبياء والصالحين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي التي أوقعت كثيراً من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين ... ونحو ذلك، فلأن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه، أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله، وبهذا نجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها ويخشعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد، بل ولا في السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء بها ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال). ثم قال رحمه الله: (فهذه المفسدة، التي هي مفسدة الشرك – كبيره وصغيره – هي التي حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد الثلاثة، ونحو ذلك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها، لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها، فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ – وإن لم يقصد ذلك – سدًّا للذريعة) (¬1) اهـ. ومن الأمثلة أيضاً على النهي عن بعض أنواع التبرك سدًّا لذريعة الوقوع في الشرك: التبرك الممنوع بالأشجار والأحجار وبعض البقع، وتعظيمها، فإن هذا التبرك قد يؤدي إلى الشرك مع مرور الزمان. ولقد كان من أسباب عبادة الأوثان والأحجار عند العرب أن الواحد منهم كان إذا أراد سفراً حمل معه حجراً من حجارة البيت تبركاً به وتعظيماً، حتى صاروا إلى عبادة الأحجار والجمادات. جاء في كتاب (الأصنام) لابن الكلبي (أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام لما سكن مكة، وولد بها أولاد كثير حتى ملأوا مكة ... ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد ... وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم بها، وصبابة بالحرم وحباً له، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم ... ) (¬2). ثانياً: الابتداع: التبرك الممنوع ابتداع في الدين، ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وهو مخالف للتبرك المشروع الذي دلت عليه الأدلة الشرعية. فالتبرك الممنوع كله إذاً من أصنام البدع المحدثة المذمومة، إلا أن بدعيته تتفاوت وتختلف باختلاف صوره وكيفيته، فإن منه ما يصل إلى حد الشرك ... ومنه ما يكون أدنى من ذلك. والأمثلة على صور التبرك الممنوع المبتدعة كثيرة جداً،. .... ومن نماذج ذلك على سبيل الإجمال ما يأتي:- - شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين. - التبرك بقبور الأنبياء والصالحين، كأداء العبادات عندهم، مثل الصلاة والدعاء والطواف، وكتقبيل القبور والتمسح بها، وحمل شيء من ترابها والعكوف عندها. - قصد مواضع صلاة أو جلوس النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة أو الدعاء، مما لم يفعله صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد. ¬

(¬1) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 674). (¬2) ((الأصنام)) لابن الكلبي (ص: 6).

- التبرك بمكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بليلة مولده، أو بليلة الإسراء والمعراج، أو ذكرى الهجرة، ونحو ذلك. - وكذا التبرك بموالد الصالحين، أو من يسمون بالأولياء. - التبرك المبتدع ببعض الجبال والمواضع. وكما أن التبرك الممنوع بدعة في حد ذاته فهو أيضاً يجر إلى بدع أخرى. وأكتفي هنا من الشواهد على ذلك بمثالين فقط. أحدهما: أن من النتائج السيئة للتبرك الممنوع بقبور الأنبياء والصالحين بناء المساجد عليها، وبناء القباب فوقها، وزخرفة القبور وتشييدها، وكذا بناء المساجد على آثار الأنبياء والصالحين، ونحو ذلك من الأعمال المحدثة في الإسلام. الثاني: أن التبرك الممنوع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته قد أدى إلى إحداث عيد المولد النبوي والاحتفال به، ثم تدرج الأمر، فأقيمت الاحتفالات لأعياد أخرى كثيرة مبتدعة، في مواسم متفرقة، كليلة الإسراء والمعراج, وذكرى الهجرة، وغير ذلك من الأعياد المبتدعة التي تفعل باسم الدين، وكأنها من شعائر الإسلام، والتي يزداد عددها مع مرور الأيام. وهذا هو شأن البدعة، فإن فعل القليل منها يؤدي إلى فعل الكثير من البدع الأخرى. فلا يجوز التهاون في شأن البدعة مهما صغرت، فإنها تتدرج حتى تكبر وتعظم، ويشتد خطرها وأثرها. قال الإمام أبو محمد البربهاري رحمه الله محذراً عن ذلك: (واحذر صغار المحدثات من الأمور، فإن صغار البدع تعود حتى تصير كباراً، وكذلك كل بدعة أحدثت من الأمور، فإن صغار البدع تعود حتى تصير كباراً، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة، كان أولها صغيراً يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع المخرج منها، فعظمت، وصارت ديناً يدان بها) (¬1). وحسبنا في ذم البدع والابتداع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (¬2)، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: ((وشر الأمور محدثاتها)) (¬3). ثالثا: اقتراف المعاصي: إن من آثار التبرك الممنوع انتهاك الحرمات، ووقوع كثير من المفاسد والمنكرات، ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي: 1 - ما تتضمنه غالباً أعياد المولد النبوي، وأعياد موالد الأولياء، وكذا الأعياد المبتدعة الأخرى من أنواع المعاصي والمنكرات الظاهرة. ومنها استعمال الأغاني وآلات اللهو والطرب، وما يتبع ذلك من الرقص. وإقامة حلقات الذكر على الوجه المحرم شرعاً، مع قلة احترام كتاب الله تعالى. ومنها اختلاط الرجال بالنساء، وما ينتج عن ذلك من الفتنة. ومنها إضاعة الأموال وتبذيرها لإقامة الحفلات، والإسراف في إيقاد الشموع في المساجد والطرقات, ونفقات الزينة. إلى غير ذلك من الأمور المخالفة للشرع، التي تفعل باسم التبرك والاحتفال بليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها من المناسبات. 2 - ما يترتب من المفاسد والأضرار على التبرك الممنوع بالقبور واتخاذها مزارات ومشاهد وأعياد متكررة. ومن ذلك صرف النفقات الباهظة المحرمة على بناء القباب والمزارات وكسوتها بالأقمشة، وتزيينها بالمصابيح، وتحبيس الأوقاف للإنفاق على ذلك، وإضاعة الأموال عن طريق النذور التي تقدم لصالح الأموات ويأكلها السدنة. ¬

(¬1) ((شرح السنة)) لأبي محمد البربهاري (ص: 23). (¬2) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. قال الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (1/ 160)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) رواه مسلم (867).

3 - ما يحصل من مساوئ التبرك الممنوع عند زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كالجلوس عند القبر النبوي للتلاوة والذكر، ورفع الصوت بالدعاء، وتكرار التلفظ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقصد القبر للسلام عليه بعد كل صلاة. ومع بدعية هذه الأفعال إلا أن لها أيضاً أضراراً على الآخرين، كالتشويش على المصلين، وإحداث الزحام على الزوار. رابعا: الوقوع في أنواع من الكذب: إن من الآثار السيئة للتبرك الممنوع لجوء أصحابه إلى الكذب، من أجل الاستدلال على شرعية ما ذهبوا إليه، أو لغرض تعيين موضع التبرك أو محله. ولهذا وقعوا في عدة أنواع من الكذب، تلك الخصلة الذميمة الممقوتة. ويمكن بيان أنواع الكذب التي وقعوا فيها بسبب التبرك الممنوع فيما يأتي: الأول: الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم. لا شك أن أشد أنواع الكذب هو الكذب على الله تعالى, أو على رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد حذر عليه الصلاة والسلام من الكذب عليه بقوله: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) (¬1). ويتنوع الكذب هنا على الرسول صلى الله عليه وسلم: فقد يكون في أقواله، للاستدلال على شرعية التبرك ببعض الأمور، وهذا هو الكثير، وقد يكون الكذب في آثاره صلى الله عليه وسلم. ومن نماذج الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله ما يأتي: 1 - إيراد الأخبار الموضوعة لأجل تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم في القصص التي تقرأ ليلة المولد النبوي. 2 - الأحاديث الموضوعة في فضل زيارة قبره صلى الله عليه وسلم. 3 - وضع الأحاديث في فضائل القبور كحديث: ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بالقبور)). 4 - الأحاديث المكذوبة في فضل الصخرة بالقدس. 5 - أحاديث فضل الجامع الأموي بدمشق ومضاعفة الصلاة فيه. أما الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في آثاره فإن المقصود به ما قد ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً – لا سيما في العصر الحاضر – من آثاره الحسية، للتبرك بها، كشعراته مثلاً. وكذا دعوى وجود أثر موطئ قدم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الأحجار، حتى يتبرك بها، وقد حققت عدم صحة ذلك. الثاني: الكذب على غير الرسول صلى الله عليه وسلم، كالكذب على الصحابة رضي الله عنهم، أو التابعين رحمهم الله، وغيرهم من الصالحين. وهذا الكذب عليهم قد يكون في الأقوال، مثل ما ينسب إليهم من الروايات المكذوبة في ذكر فضائل وبركة بعض الأماكن. وقد يكون الكذب عليهم في الأفعال، كادعاء حصول البركة عند بعض القبور، مثل ادعاء أن الشافعي كان يدعو عند قبر أبي حنيفة إذا نزلت به شدة فيستجاب له. الثالث: الكذب في تعيين موضع التبرك. ويكثر هذا النوع في تعيين مواضع قبور بعض الصالحين من الصحابة وغيرهم. ولعل خير مثال على ذلك هو تعدد أسماء المدن التي يقال إن رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما موجود فيها، فقد بلغ عددها ثمانية أسماء. الرابع: ادعاء بركة بعض المواضع دون مستند شرعي. ومن النماذج على ذلك: زعمهم أن دار خديجة رضي الله عنها بمكة أفضل المواضع بعد المسجد الحرام، وأن الدعاء يستجاب فيها. ومنها كثرة ادعاء استجابة الدعاء عند بعض المقابر أو الجبال أو المساجد المحدثة المبنية على آثار الأنبياء والصالحين ... خامساً: تحريف النصوص: ... إن أصحاب التبرك الممنوع، من أجل الاستدلال على شرعية ما ذهبوا إليه يلجؤن أحياناً إلى الكذب، فهم لهذا أيضاً يذهبون إلى تحريف معاني النصوص الشرعية، وتحميلها ما لا تحتمل. وأغلب ما يوجد من هذا التحريف هو تحريفهم النصوص التي يريدون الاستدلال بها. ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي: ¬

(¬1) رواه البخاري (1291)، ومسلم في مقدمة صحيحه (3).

1 - استدلالهم على استحباب طلب الاستغفار من الرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره بعموم قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 64]. 2 - استدلالهم على مشروعية التبرك بالمواضع التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بحديث صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان بن مالك رضي الله عنه. 3 - استدلالهم على جواز اتخاذ المساجد على القبور بقوله تعالى في قصة أصحاب الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف: 21]. وقد يوجد التحريف من قبلهم عن طريق تحريف النصوص المعارضة لهم. مثال ذلك تحريفهم نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيداً بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) (¬1). فقالوا: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده، واعتياد قصده وانتيابه، ونهي أن يجعل بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول، بل يقصد كل ساعة وكل وقت (¬2). وهذا تحريف للمعاني، ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم، وقلب للحقائق (¬3). سادساً: إضاعة السنن: من المفاسد في الدين التي يشتمل عليها التبرك الممنوع إضاعة السنن. وهذا من خصائص البدع (ذلك أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن) (¬4). ولهذا جاء في الحديث ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة)) (¬5). ولا شك أن السنن تموت إذا أحييت البدع (لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق، كما في العكس، لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين) (¬6). ثم إن من لم يعطل الفرائض والسنن فستضعف عنايته بها على الأقل، بسبب تعلقه بالبدع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند سياقه مفاسد البدع: (ومنها أن الخاصة والعامة تنقص بسببها عنايتهم بالفرائض والسنن، ورغبتهم فيها، فتجد الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن، حتى كأنه يفعل هذه عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة، وهذا عكس الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة, والرحمة, والرقة, والطهارة, والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد، إن لم يفته هذا كله فلابد أن يفوته كماله) (¬7). هذا ومن الأمثلة على ما يؤدي إليه التبرك الممنوع من إضاعة الواجبات والسنن ما يأتي: 1 - التبرك بقبور الأنبياء والصالحين، والعكوف عندها ومجاورتها، ونحو ذلك من المظاهر المبتدعة يشغل عن كثير من الفرائض والواجبات, والسنن المشروعة في الدين. ¬

(¬1) رواه أبو داود (2042)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 491) (4162). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، والنووي في ((الأذكار)) (154). (¬2) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 192). (¬3) ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 192، 193). (¬4) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 740). (¬5) رواه أحمد (4/ 105) (17011) , مرفوعا من حديث غضيف بن الحارث. قال الهيثمي ((مجمع الزوائد)) (1/ 193): فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (3/ 333): في إسناده ابن أبي مريم وهو ضعيف وبقية وهو مدلس. (¬6) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 114). (¬7) ((الاقتضاء)) (2/ 611)، وانظر هذا المرجع (2/ 741).

حتى لقد أصبح العكوف عند بعضهم في المسجد المبني على القبر أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام، بل حرمة ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرمه الله ورسوله أعظم عندهم من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه (¬1). وبلغ الأمر ببعض الغلاة إلى تفضيل زيارة المشاهد التي على القبور على حج البيت الحرام، وإلى اعتقاد أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من حج البيت (¬2). 2 - قصد المساجد المحدثة المبتدعة، وتتبع آثار الأنبياء والصالحين وبعض الجبال والمواضع، في مكة والمدينة وبلاد الشام وغيرها، لأداء العبادات فيها تبركاً، كالصلاة والدعاء – وفي ذلك تعطيل لأداء العبادة المفروضة أو المسنونة في المساجد الثلاثة الفاضلة، وسائر المساجد الأخرى التي شرعت العبادة فيها. 3 - إقامة الأعياد والاحتفالات المبتدعة للموالد وغيرها، التي تستنزف الجهود والأوقات، وتشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن كثير من الواجبات والسنن. سابعاً: التغرير بالجهال، وإضلال الأجيال: من الآثار السيئة للتبرك الممنوع أنه يؤدي إلى التغرير بالجهال وإضلالهم. فمن المعلوم أن هذا التبرك يحتوي على مظاهر بارزة جذابة. ومن أكثر تلك المظاهر: الأبنية المقامة على بعض القبور، كالمساجد والقباب والمشاهدات والمزارات، وما يجري فيها وما حولها من مظاهر التبرك المبتدعة المختلفة. ومنها أيضاً مظاهر الأعياد والاحتفالات المبتدعة، التي تقام في المساجد, أو القبور, أو الطرقات، واجتماع الناس فيها. فإن الجاهل إذا رأى هذه المظاهر المحسوسة والمشاهد الملموسة، أو مر بها، سيتأثر بلا شك، ويغتر بذلك، لاسيما مع كثرة أهلها الذين يزاولونها ويعتنون بها. فهذا التبرك الممنوع – بمظاهره البراقة – سبب من أسباب فتنة الناس به, وجرهم إليه، ولاسيما الجهال والعوام، وهو بهذا يؤدي إلى إضلال كثير من الأجيال المتعاقبة للمسلمين، الذين يرون تلك المظاهر والمشاهد المتكررة، التي تقام باسم الدين، ويدعو إليها من ينتسب إليه، إضافة إلى تحسين الشيطان للبدع في نفوس الناس وتزيينها لهم. التبرك أنواعه وأحكامه لناصر بن عبد الرحمن بن محمد الجديع – بتصرف – ص: 483 ¬

(¬1) ((الاقتضاء)) (2/ 739). (¬2) ((الاقتضاء)) (2/ 739).

المبحث الثالث: اتخاذ القبور مساجد

أولاً: معنى اتخاذ القبور مساجد الذي يمكن أن يفهم من هذا الاتخاذ، إنما هو ثلاثة معانٍ: الأول: الصلاة على القبور، بمعنى: السجود عليها. الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء. الثالث: بناء المساجد عليها، وقصد الصلاة فيها. أقوال العلماء في معنى الاتخاذ المذكور: وبكل واحدٍ من هذه المعاني قال طائفة من العلماء، وجاءت بها نصوص صريحة عن سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم. أما الأول: فقال ابن حجر الهيتمي: واتخاذ القبر مسجداً معناه الصلاة عليه، أو إليه (¬1). فهذا نصٌ منه على أنه يفهم الاتخاذ المذكور شاملاً لمعنيين، أحدهما: الصلاة على القبر. وقال الصنعاني: واتخاذ القبور مساجد أعمّ من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها (¬2). ... يعني أنه يعمّ المعنيين كليهما، ويحتمل أنه أراد المعاني الثلاثة، وهو الذي فهمه الإمام الشافعي رحمه الله، وسيأتي نص كلامه في ذلك، ويشهد للمعنى الأول أحاديث: الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور، أو يقعد عليها، أو يصلى عليها)) (¬3). الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر)) (¬4). الثالث: عن أنس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور)) (¬5). الرابع: عن عمرو بن دينار - وسئل عن الصلاة وسط القبور - قال: ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى)) (¬6). وأما المعنى الثاني: فقال المناوي في (فيض القدير) - حيث شرح الحديث الثالث المتقدم -: أي اتخذوها جهة قبلتهم، مع اعتقادهم الباطل، وأن اتخاذها مساجد لازم لاتخاذ المساجد عليها كعكسه، وهذا بيّن به سبب لعنهم لما فيه من المغالاة في التعظيم. قال القاضي - يعني: البيضاوي -: لما كانت اليهود يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، فاتخذوها أوثاناً لعنهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه ... ... وهذا معنى قد جاء النهي الصريح عنه فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)) (¬7). قال الشيخ علي القاري - معللاً النهي -: لما فيه من التعظيم البالغ كأنه من مرتبة المعبود، ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظِّم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم، وفي معناه بل أولى منه الجنازة الموضوعة - يعني قبلة المصلين - وهو مما ابتلي به أهل مكة حيث يضعون الجنازة عند الكعبة ثم يستقبلون إليها (¬8) .... ¬

(¬1) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 121). (¬2) ((سبل السلام)) (1/ 214). (¬3) رواه ابن ماجه مختصرا (1270)، وأبو يعلى في مسنده (2/ 297). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 64): رواه أبو يعلى ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (ص29): إسناده صحيح. (¬4) رواه الطبراني (11/ 376). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 27): رواه الطبراني في ((الكبير)) وفيه عبدالله بن كيسان المروزي: ضعّفه أبو حاتم، ووثّقه ابن حبان. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1016): الحديث صحيح. (¬5) رواه ابن حبان (6/ 93). وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (6893): صحيح. (¬6) رواه عبدالرزاق (1/ 406) (1591). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (29): وهو مرسل صحيح الإسناد. (¬7) رواه مسلم (972). من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه. (¬8) انظر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) (2/ 372).

ونحو الحديث السابق ما روى ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أصلي قريباً من قبر، فرآني عمر بن الخطاب، فقال: القبر القبر؛ فرفعت بصري إلى السماء وأنا أحسبه يقول: القمر! (¬1). وأما المعنى الثالث: فقد قال به الإمام البخاري، فإنه ترجم للحديث الأول بقوله: (باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور) (¬2). فقد أشار بذلك إلى أن النهي عن اتخاذ القبور مسجداً يلزم منه النهي عن بناء المساجد عليه، وهذا أمر واضح، وقد صرح به المناوي آنفاً، وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجداً، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومها متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان، وإن تغاير المفهوم (¬3). وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها في آخر الحديث الأول: فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً (¬4). إذ المعنى فلولا ذاك اللعن الذي استحقه اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم القبور مساجد المستلزم البناء عليها، لجعل قبره صلى الله عليه وسلم في أرض بارزة مكشوفة، ولكن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك خشية أن يبنى عليه مسجد من بعض من يأتي بعدهم فتشملهم اللعنة. ويؤيد هذا ما روى ابن سعد بسند صحيح عن الحسن وهو (البصري) قال: ائتمروا أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضعاً رأسه في حجري إذ قال: ((قاتل الله أقواماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قبض في بيت عائشة رضي الله عنها (¬5). ... هذه الرواية - على إرسالها - تدل على أمرين اثنين: أحدهما: أن السيدة عائشة فهمت من الاتخاذ المذكور في الحديث أنه يشمل المسجد الذي قد يدخل فيه القبر، فبالأحرى أن يشمل المسجد الذي بني على القبر. الثاني: أن الصحابة أقرّوها على هذا الفهم، ولذلك رجعوا إلى رأيها فدفنوه صلى الله عليه وسلم في بيتها. فهذا يدل على أنه لا فرق بين بناء المسجد على القبر، أو إدخال القبر في المسجد، فالكل حرام لأن المحذور واحد، ولذلك قال الحافظ العراقي: فلو بنى مسجداً يقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفة وقفه مسجداً (¬6). ... وفي هذا إشارة إلى أن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام ... ويشهد لهذا المعنى الحديث الخامس المتقدم بلفظ: ((أولئك قوم إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً ... أولئك شرار الخلق ... )) (¬7). فهو نص صريح في تحريم بناء المسجد على قبور الأنبياء والصالحين؛ لأنه صرح أنه من أسباب كونهم من شرار الخلق عند الله تعالى. ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (427)، ورواه موصولاً عبدالرزاق في ((المصنف)) (1/ 404) (1581) وزاد: ((إنما أقول القبر: لا تصل إليه)). وقال الألباني في ((النصيحة)) (143): أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً، وهو صحيح. وانظر: ((تغليق التعليق)) (2/ 228 - 230) ففيه زيادة فائدة. (¬2) انظر: ((صحيح البخاري)) باب رقم (61). (¬3) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 201). (¬4) رواه مسلم (529). (¬5) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2/ 241). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) - كما في (متن الموسوعة) -: سنده صحيح. (¬6) انظر: ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 274). (¬7) رواه البخاري (427)، ومسلم (528). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬8) رواه مسلم (970).

فإنه بعمومه يشمل بناء المسجد على القبر، كما يشمل بناء القبة عليه، بل الأول أولى بالنهي، كما لا يخفى. فثبت أن هذا المعنى صحيح أيضاً يدل عليه لفظ (الاتخاذ)، وتؤيده الأدلة الأخرى. أما شمول الأحاديث للنهي عن الصلاة في المساجد المبنيّة على القبور فدلالتها على ذلك أوضح، وذلك لأن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها، من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن المقصود بها والتوسل بها إليه، مثاله: إذا نهى الشارع عن بيع الخمر، فالنهي عن شربه داخل في ذلك، كما لا يخفى، بل النهي عنه من باب أولى. ومن البيّن جداً أن النهي عن بناء المساجد على القبور ليس مقصوداً بالذات، كما أن الأمر ببناء المساجد في الدور والمحلات ليس مقصوداً بالذات، بل ذلك كله من أجل الصلاة فيها، سلباً أو إيجاباً، يوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلاً بنى مسجداً في مكان قفر غير مأهول، ولا يأتيه أحد للصلاة فيه، فليس لهذا الرجل أيّ أجر في بنائه لهذا المسجد، بل هو عندي آثم لإضاعة المال، ووضعه الشيء في غير محله! فإذا أمر الشارع ببناء المساجد فهو يأمر ضمناً بالصلاة فيها، لأنها هي المقصودة بالبناء، وكذلك إذا نهى عن بناء المساجد على القبور، فهو ينهى ضمناً عن الصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودة بالبناء أيضاً، وهذا بيّن لا يخفى على العاقل إن شاء الله تعالى. ترجيح شمول الحديث للمعاني كلها وقول الشافعي بذلك: وجملة القول: أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كل هذه المعاني الثلاثة، فهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وقد قال بذلك الإمام الشافعي رحمه الله، ففي كتابه (الأم) ما نصه: وأكره أن يُبنى على القبر مسجد وأن يُسوّى، أو يُصلّى عليه، وهو غير مُسوّى - يعني: أنه ظاهر معروف - أو يُصلى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬1). قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يُعظّمه أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده (¬2). فقد استدل بالحديث على المعاني الثلاثة التي ذكرها في سياق كلامه، فهو دليل واضح على أنه يفهم الحديث على عمومه، وكذلك صنع المحقق الشيخ على القارئ نقلاً عن بعض أئمة الحنفية فقال في (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح): سبب لعنهم: إما لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لهم، وذلك هو الشرك الجلي، وإما لأنهم كانوا يتخذون الصلاة لله تعالى في مدافن الأنبياء والسجود على مقابرهم والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة نظراً منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذلك هو الشرك الخفي لتضمنه ما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك إما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، أو لتضمّنه الشرك الخفي. كذا قاله بعض الشراح من أئمتنا، ويؤيده ما جاء في رواية: ((يُحذِّر ما صنعوا)) (¬3) (¬4). ... والسبب الأول الذي ذكره وهو السجود لقبور الأنبياء تعظيماً لهم وإن كان غير مستبعد حصوله من اليهود والنصارى، فإنه غير متبادر من قوله صلى الله عليه وسلم: ((اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) فإن ظاهره أنهم اتخذوها مساجد لعبادة الله فيها على المعاني السابقة تبركاً بمن دُفن فيها من الأنبياء، وإن كان هذا أدى بهم - كما يؤدي بغيرهم - إلى وقوعهم في الشرك الجلي، ذكره الشيخ القارئ. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني - ص28 ¬

(¬1) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 892) مرسلاً. من حديث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ورواه موصولاً البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظة: (النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) ((الأم)) (ص246). (¬3) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531). من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم. (¬4) ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) (1/ 45).

ثانيا: أدلة تحريم هذا الاتخاذ وحكمه ومذاهب العلماء فيه

ثانياً: أدلة تحريم هذا الاتخاذ وحكمه ومذاهب العلماء فيه 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). قالت: فلولا ذاك أبرز (¬1) قبره غير أنه خُشي أن يتخذ مسجداً (¬2) ... 2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬3). 3 و4 - عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له، فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: ((لعنة الله على اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) تقول عائشة: ((يُحذِّر مثل الذي صنعوا)) (¬4). قال الحافظ ابن حجر: وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمّ من يفعل فعلهم ... 5 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (¬5) قال الحافظ ابن رجب في (فتح الباري): هذا الحديث يدلّ على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها، كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراد، فتصوير صور الآدميين محرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم، كما دلت عليه نصوص أُخر، يأتي ذكر بعضها. قال: والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، فتصوير الصور على مثال صور الأنبياء والصالحين للتبرك بها، والاستشفاع بها يحرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة، وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتنزه بذلك، والتلهي محرم، وهو من الكبائر وفاعله من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى (¬6) ... ... ولا فرق في التحريم بين التصوير اليدوي والتصوير الآلي والفوتوغرافي، بل التفريق بينهما جمود وظاهرية عصرية ... 6 - عن جندب بن عبدالله البجلي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي فيكم خليل، وإن الله عز وجل قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) (¬7). ¬

(¬1) قال الألباني: أي كشف قبره صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد دفن خارج بيته، كذا في ((فتح الباري)). (¬2) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529). (¬3) رواه البخاري (437)، ومسلم (530). (¬4) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531). (¬5) رواه البخاري (427)، ومسلم (528). (¬6) ((فتح الباري)) لابن رجب (3/ 197، 198). (¬7) رواه مسلم (532).

7 - عن الحارث النجراني قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)) (¬1). 8 - عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: ((أدخلوا عليَّ أصحابي فدخلوا عليه وهو متقنع ببردة معافريّ، فكشف القناع فقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬2). 9 - عن أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذي اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬3). 10 - عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله (وفي روايةٍ: قاتل الله) اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬4). 11 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬5). 12 - عن عبدالله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)) (¬6). 13 - عن علي بن أبي طالب قال: ((لقيني العباس فقال: يا علي انطلق بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا من الأمر شيء وإلا أوصى بنا الناس، فدخلنا عليه، وهو مغمى عليه، فرفع رأسه فقال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور الأنبياء مساجد)). زاد في رواية: ((ثم قالها الثالثة)). فلما رأينا ما به خرجنا ولم نسأله عن شيءٍ (¬7) ... ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة (2/ 150) (7546). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) رواه أحمد (5/ 203) (21822)، والطبراني (1/ 164). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 30): رواه أحمد والطبراني في ((الكبير))، ورجاله موثقون. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/ 139): إسناده جيد. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده حسن في الشواهد. (¬3) رواه أحمد (1/ 195) (1691) و (1/ 196) (1699)، والدارمي (2/ 305)، والبيهقي (9/ 208)، وأبو يعلى (2/ 177). قال الذهبي في ((المهذب)) (7/ 3775): إسناده صالح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 328): [روي] بإسنادين ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (3/ 146): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح. (¬4) رواه أحمد (5/ 184) (21644) و (5/ 186) (21667)، والطبراني (5/ 150). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 30): رواه الطبراني في ((الكبير)) ورجاله موثقون. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح بشواهده المتقدمة. (¬5) رواه أحمد (2/ 246) (7352)، وأبو يعلى (12/ 33)، والحميدي (2/ 445). قال أحمد شاكر في ((المسند)) (13/ 88): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده قوي. (¬6) الشطر الأول من الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (7067)، والحديث رواه موصولاً أحمد (1/ 405) (3844)، وابن حبان (15/ 260)، والطبراني (10/ 188)، وأبو يعلى (9/ 216). قال أحمد شاكر في ((المسند)) (5/ 324): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح. (¬7) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 28)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (42/ 426). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): هذا إسناد حسن لولا أنني لم أعرف أبا بكر هذا، ولم يورده الدولابي، وأبو أحمد الحاكم في ((الكنى)).

إن كل من يتأمل في تلك الأحاديث الكريمة يظهر له بصورةٍ لا شك فيها أن الاتخاذ المذكور حرام، بل كبيرة من الكبائر، لأن اللعن الوارد فيها، ووصف المخالفين بأنهم شرار الخلق عند الله تبارك وتعالى، لا يمكن أن يكون في حقّ من يرتكب ما ليس كبيرة كما لا يخفى. مذاهب العلماء في ذلك: وقد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم من صرح بأنه كبيرة وإليك تفاصيل المذاهب في ذلك: 1 - مذهب الشافعية أنه كبيرة: قال الفقيه ابن حجر الهيتمي: الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها (¬1). ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة وغيرها، ثم قال: (تنبيه): عدّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، ... ووجه اتخاذ القبر مسجداً منها واضح، لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله تعالى يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية: ((يُحذِّر مثل الذي صنعوا)) (¬2) أي يُحذِّر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك، فيلعنوا كما لعنوا، ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً، ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة من الأحاديث المذكورة لما علمت، فقال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به عين المحادّة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله، للنهي عنها ثم إجماعاً، فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ويجب المبادرة لهدمها، وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار، لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن ذلك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره. اهـ. (¬3). هذا كله كلام الفقيه ابن حجر الهيتمي، وأقره عليه المحقق الألوسي في (روح المعاني) (¬4)، وهو كلام يدل على فهم وفقه في الدين؛ وقوله فيما نقله عن بعض الحنابلة: والقول بالكراهة محمول على غير ذلك كأنه يشير إلى قول الشافعي: وأكره أن يُبنى على القبر مسجد وأن يُسوّى، أو يُصلّى عليه، وهو غير مُسوّى - يعني: أنه ظاهر معروف - أو يُصلّى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬5). قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يُعظّم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تُؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده (¬6). ¬

(¬1) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 120). (¬2) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531). (¬3) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 121). (¬4) ((روح المعاني)) (5/ 31). (¬5) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 892) مرسلاً. من حديث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ورواه موصولاً البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظة: (النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬6) ((الأم)) (ص246).

وعلى هذا أتباعه من الشافعية كما في (التهذيب)، وشرحه (المجموع) ومن الغريب أنهم يحتجون على ذلك ببعض الأحاديث ... مع أنها صريحة في تحريم ذلك، ولعن فاعله، ولو أن الكراهة كانت عندهم للتحريم لقرب الأمر، ولكنها لديهم للتنزيه فكيف يتفق القول بالكراهة مع تلك الأحاديث التي يستدلون بها عليها؟! أقول هذا، وإن كنت لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية؛ لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني، ولا شك أن الشافعي متأثر بأسلوب القرآن غاية التأثر، فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه، لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين، فقد قال تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7] وهذه كلها محرمات، فهذا المعنى - والله أعلم - هو الذي أراده الشافعي رحمه الله بقوله المتقدم: (وأكره)، ويؤيده أنه قال عقب ذلك: وإن صلى إليه أجزأه، وقد أساء؛ فإن قوله: (أساء) معناه: ارتكب سيئة، أي حراماً، فإنه هو المراد بالسيئة في أسلوب القرآن أيضاً، فقد قال تعالى في سورة (الإسراء) بعد أن نهى عن قتل الأولاد، وقربان الزنى، وقتل النفس وغير ذلك: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 38] أي: محرماً. ويؤكد أنّ هذا المعنى هو المراد من الكراهة في كلام الشافعي في هذه المسألة: أن مذهبه أن الأصل في النهي التحريم، إلا ما دلّ الدليل على أنه لمعنى آخر، كما صرح بذلك في رسالته (جماع العلم) (¬1) ونحوه في كتابه (الرسالة) (¬2)، ومن المعلوم لدى كل من درس هذه المسألة بأدلتها أنه لا يوجد أي دليل يصرف النهي الوارد في بعض الأحاديث المتقدمة إلى غير التحريم كيف والأحاديث تؤكد أنه للتحريم ... ؟ ولذلك فإني أقطع بأن التحريم هو مذهب الشافعي، لاسيما وقد صرح بالكراهة بعد أن ذكر حديث: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬3) ... فلا غرابة إذاً إن صرح الحافظ العراقي -وهو شافعي المذهب - بتحريم بناء المسجد على القبر كما تقدم والله أعلم. ولهذا نقول: لقد أخطأ من نسب إلى الإمام الشافعي القول بإباحة تزوج الرجل بنته من الزنى بحجّة أنه صرّح بكراهة ذلك والكراهة لا تنافي الجواز إذا كانت للتنزيه! قال ابن القيم: نصّ الشافعي على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنى، ولم يقل قطّ أنه مباح ولا جائز، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أحلّه الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى عقب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ... [الإسراء: 23] إلى قوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ... [الأنعام:151] إلى قوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] إلى آخر الآيات ثم قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، وفي (الصحيح): ((إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال)) (¬4). ¬

(¬1) ((جماع العلم)) (ص125). (¬2) ((الرسالة)) (ص343). (¬3) رواه البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظ: (النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬4) رواه البخاري (2408) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. ومسلم (1715) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المتأخرين اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرّم، وتركه أرجح من فعله، ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث، فغلط في ذلك، وأقبح غلطاً منه من حمل لفظ الكراهة، أو لفظ لا ينبغي في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على المعنى الاصطلاحي الحادث! (¬1) ... 2 - مذهب الحنفية الكراهة التحريمية: والكراهة بهذا المعنى الشرعي قد قال به هنا الحنفية فقال الإمام محمد تلميذ أبي حنيفة: لا نرى أن يُزاد على ما خرج من القبر ونكره أن يُجصص أو يُطين أو يُجعل عنده مسجدا (¬2). والكراهة عند الحنفية إذا أُطلقت فهي للتحريم كما هو معروف لديهم وقد صرح بالتحريم في هذه المسألة ابن الملك منهم ... 3 - مذهب المالكية التحريم: وقال القرطبي - بعد أن ذكر الحديث الخامس (¬3) -: قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد (¬4). 4 - مذهب الحنابلة التحريم: ومذهب الحنابلة التحريم أيضا كما في (شرح المنتهى) (¬5) وغيره بل نص بعضهم على بطلان الصلاة في المساجد المبنية على القبور ووجوب هدمها فقال ابن القيم في (زاد المعاد) في صدد بيان ما تضمنته غزوة تبوك من الفقه والفوائد وبعد أن ذكر قصة مسجد الضرار الذي نهى الله تبارك وتعالى نبيه أن يصلي فيه وكيف أنه صلى الله عليه وسلم هدمه وحرقه؛ قال: ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يُعصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وهدمها كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه وهو مسجد يُصلى فيه ويُذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين وكل مكانٍ هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدمٍ أو تحريقٍ وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وُضع له وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحقّ بذلك وأوجب ... ومنها: أن الوقف لا يصحّ على غير برّ ولا قربة كما لم يصحّ وقف هذا المسجد وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بُني على قبر كما يُنبش الميت إذا دُفن في المسجد نصّ على ذلك الإمام أحمد وغيره؛ فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق فلو وضعا معاً لم يجز ولا يصحّ هذا الوقف، ولا يجوز ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً (¬6) فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى (¬7). ¬

(¬1) ((إعلام الموقعين)) (1/ 47 - 48). (¬2) ((الآثار)) لمحمد بن الحسن الشيباني (ص45). (¬3) وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية - وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة - فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)). رواه البخاري (427)، ومسلم (528). (¬4) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 38). (¬5) ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/ 353). (¬6) ((زاد المعاد)) (3/ 22). (¬7) ((زاد المعاد)) (3/ 22).

فتبين مما نقلناه عن العلماء أن المذاهب الأربعة متفقة على ما أفادته الأحاديث المتقدمة من تحريم بناء المساجد على القبور. وقد نقل اتفاق العلماء على ذلك أعلم الناس بأقوالهم ومواضع اتفاقهم واختلافهم ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد سُئل رحمه الله بما نصه: هل تصح الصلاة على المسجد إذا كان فيه قبر والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا؟ وهل يُمهد القبر أو يُعمل عليه حاجز أو حائط؟ فأجاب: الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يُبنى مسجد على قبرٍ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) (¬1). وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر إما بتسويةِ القبر، وإما بنبشه إن كان جديداً، وإن كان المسجد بُني بعد القبر فإما أن يُزال المسجد، وإما أن تُزال صورة القبر؛ فالمسجد الذي على القبر لا يُصلّى فيه فرض ولا نفل فإنه منهيٌ عنه (¬2). وقد تبنّت دار الإفتاء في الديار المصرية فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه فنقلتها عنه في فتوى لها أصدرتها تنصّ على عدم جواز الدفن في المسجد فليراجعها من شاء في (مجلة الأزهر) (¬3) وقال ابن تيمية: يحرم الإسراج على القبور واتخاذ المساجد عليها وبينها ويتعين إزالتها ولا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين (¬4) ... وهكذا نرى أن العلماء كلهم اتفقوا على ما دلت عليه الأحاديث من تحريم اتخاذ المساجد على القبور فنحذّر المؤمنين من مخالفتهم والخروج عن طريقتهم خشية أن يشملهم وعيد قوله عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] وإِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني - ص10 فأما العكوف والمجاورة عند شجرة أو حجر، تمثال أو غير تمثال، أو العكوف والمجاورة عند قبر نبي، أو غير نبي، أو مقام نبي أو غير نبي، فليس هذا من دين المسلمين. بل هو من جنس دين المشركين، الذين أخبر الله عنهم بما ذكره في كتابه، حيث قال: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:51 - 58]. ¬

(¬1) رواه مسلم (532). من حديث جندب رضي الله عنه. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 107)، و (2/ 192). (¬3) ((مجلة الأزهر)) (112/ 501، 503). (¬4) ((الاختيارات العلمية)) (ص52).

وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:69 - 82]. وقال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:138 - 140]. فهذا عكوف المشركين، وذاك عكوف المسلمين، فعكوف المؤمنين في المساجد لعبادة الله وحده لا شريك له، وعكوف المشركين على ما يرجونه، ويخافونه من دون الله، ومن يتخذونهم شركاء وشفعاء، فإن المشركين لم يكن أحد منهم يقول: إن العالم له خالقان، ولا إن الله له شريك يساويه في صفاته. هذا لم يقله أحد من المشركين، بل كانوا يُقرّون بأن خالق السماوات والأرض واحد كما أخبر الله عنهم بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ [لقمان:25]، وقوله تعالى: قُلْ لِّمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84 - 89]. وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك فقال تعالى لهم: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ [الروم:28]. وكانوا يتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى الله زُلفى، وتشفع لهم كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [الزمر:43 - 44]. وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ [يونس:18].

وقال تعالى عن صاحب يس: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:22 - 25]. وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] وقال تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ [السجدة:4] وقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51]. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 827 قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح منظومة سلم الوصول وَمَنْ عَلَى الْقَبْرِ سِرَاجًا أَوْقَدَا ... أوِ ابْتَنَى عَلَى الضَّرِيحِ مَسْجِدا فإِنَّهُ مُجَدِّدٌ جِهَارا ... لِسُنَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (ومن على القبر) متعلق بأوقد (سراجا) مفعول (أوقدا) بألف الإطلاق، والمعنى: ومن أوقد سراجاً على القبر (أو ابتنى) بمعنى: بنا وزيدت التاء فيه لمعنى الاتخاذ (على الضريح) أي: على القبر، واشتقاقه من الضرح الذي هو الشق (مسجدا) أو اتخذ القبر نفسه مسجدا ولو لم يبن عليه (فإنه) أي فاعل ذلك (مجدد) بفعله ذلك (جهاراً) أي تجديداً واضحاً مجاهراً به الله ورسوله وأولياءه (لسنن) أي لطرائق (اليهود والنصارى) في اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد ويعكفون عليها، وأعياد لهم ينتابونها، ويترددون إليها، كيف وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للذين طلبوا منه ذات أنواط: ((الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لتتبعن سنن من كان قبلكم)) (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه)). قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)) أخرجاه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه (¬2)، وقد وقع الأمر والله كما أخبر صلى الله عليه وسلم به، فالله المستعان. كَمْ حَذَّرَ الْمُخْتَارُ عَنْ ذَا وَلَعَنْ ... فَاعِلَهُ كَمَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنْ بَلْ قَدْ نَهَى عَنِ ارْتِفَاعِ الْقَبْرِ ... وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ فَوْقَ الشِّبْرِ وَكُلُّ قَبْرٍ مُشْرِفٍ فَقَدْ أَمَرْ ... بِأَنْ يُسَوَّى هَكَذَا صَحَّ الْخَبَرْ ¬

(¬1) رواه ابن حبان (6702)، والطبراني (3/ 244). من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق ((صحيح ابن حبان)): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669).

(كم) خبرية للتكثير (حذر المختار) نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم (عن ذا) الفعل من اتخاذ القبور مساجد وأعياداً والبناء عليها وإيقاد السرج عليها، كما في (الصحيح) عن عائشة رضي الله عنها: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح - أو الرجل الصالح - بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) (¬1). وفيه - أي في (الصحيح) - عنها هي - أي: عائشة - وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم: قال: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يُحذِّر ما صنعوا (¬2) وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬3). وعن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)) رواه الجماعة إلا البخاري، وابن ماجه (¬4)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً)) رواه الجماعة إلا ابن ماجه (¬5). وعن جندب بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((إنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم (¬6). وعن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)) رواه أحمد ومسلم والثلاثة (¬7) وصححه الترمذي ولفظه: ((نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ))، وفي لفظ النسائي: ((نهى أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه))، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) رواه أهل السنن (¬8). وللترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)) (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (427)، ومسلم (528). (¬2) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531). (¬3) رواه البخاري (437)، ومسلم (530) بدون لفظة: (النصارى)، وأحمد (2/ 285) (7818) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬4) رواه مسلم (972)، وأبو داود (3229)، والترمذي (1050)، والنسائي (2/ 67). (¬5) رواه البخاري (432)، ومسلم (777)، وأبو داود (1043)، والترمذي (451)، والنسائي (3/ 197). (¬6) رواه مسلم (532). (¬7) رواه مسلم (970)، وأبو داود (3225)، والترمذي (1052)، والنسائي (4/ 87)، وأحمد (3/ 295) (14181). (¬8) رواه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (4/ 94). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حسن. ووافقه البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 150)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 345) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (59): الحديث صحيح لغيره إلا (اتخاذ السرج) فإنه: منكر، لم يأت إلا من هذا الطريق الضعيف. (¬9) رواه الترمذي (1056). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 151): صحيح. وقال ابن القطان في ((المحرر)) (206)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن.

ولابن ماجه مثله من حديث حسان رضي الله عنه (¬1)، ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)) رواه أبو حاتم ابن حبان في (صحيحه) (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات (¬3) ... ، وقال سعيد بن منصور في (سننه): حدثنا عبدالعزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي صالح قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشَّى فقال: هلم إلى العشاء، فقلت لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء (¬4). وروى مالك في (الموطأ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬5). وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا. (وقد نهى) النبي صلى الله عليه وسلم، عن (ارتفاع القبر) بالبناء أو نحوه، كما تقدم من النهي عن تجصيصها والبناء عليها، ... من الأمر بتسويتها (وأن يزاد فيه فوق شبر) كما في (السنن) عن جابر رضي الله عنه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبنى على القبر أو يُزاد عليه أو يُجصص)) (¬6). (وكل قبر مشرف) يعني مرتفع (فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم (بأن يُسوّى) بالأرض أو بما عداه من القبور التي لم تجاوز الشرع في ارتفاعها، (هكذا صح الخبر)، وهو ما رواه مسلم عن ثمامة بن شُفِي قال: كنا مع فَضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا، فأمر فَضالة بن عبيد بقبره فسوي ثم قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها)) (¬7). وله عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيته)) (¬8). معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 2/ 659 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (1279). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 43 - 44): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن. (¬2) رواه أحمد (1/ 405) (3844)، وابن حبان (15/ 260)، ورواه الطبراني (10/ 188)، وأبو يعلى (9/ 216)، والشطر الأول من الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم (7067). قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص330): رواه أحمد بإسنادٍ جيد. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (5/ 324): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح. (¬3) رواه أبو داود (2042). وسكت عنه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) - كما أشار لذلك في مقدمته -، والنووي في ((الأذكار)) (154). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 169): إسناده حسن وله شواهد. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 314): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) رواه سعيد بن منصور في ((سننه)) مرسلاً كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (ص106). قال ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 301)، وابن عبدالهادي الحنبلي في ((الصارم المنكي)) (322): مرسل. قال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص220): مرسل بإسنادٍ قوي. (¬5) رواه مالك في ((الموطأ)) (1/ 172) مرسلاً عن عطاء بن يسار رحمه الله. قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/ 347): روي متصلاً مسنداً. وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 349): مرسل. وقال الألباني في ((غاية المرام)) (126): صحيح. (¬6) رواه النسائي (4/ 86)، والبيهقي (3/ 410). قال المعلمي في ((البناء على القبور)) (94): رواته ثقات, وفيه ما يعلم مما تقدم [يعني عنعنة ابن جريج مع الزيادة]. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. (¬7) رواه مسلم (968). (¬8) رواه مسلم (969).

ثالثا: شبهات حول اتخاذ القبور مساجد وحكم مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم

ثالثاً: شبهات حول اتخاذ القبور مساجد وحكم مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً: قوله تعالى في سورة الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، وجه دلالة الآية على ذلك: أنّ الذين قالوا هذا القول كانوا نصارى، على ما هو مذكور في كتب التفسير، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله تعالى، ولم يعقبها بما يدل على ردها كما في هذه الآية الكريمة. ثانياً: كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف، ولو كان ذلك لا يجوز لما دفنوه صلى الله عليه وسلم في مسجده! ثالثاً: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف مع أن فيه قُبِر سبعين نبياً كما قال صلى الله عليه وسلم (¬1)! رابعاً: ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام، وهو أفضل مسجد يتحرى المصلي فيه. خامساً: بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في ((الاستيعاب)) لابن عبد البر (¬2). سادساً: زعم بعضهم أن المنع من اتخاذ القبور مساجد إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور، زالت برسوخ التوحيد في قلوب المؤمنين، فزال المنع! الجواب عن الشبهة الأولى: أما الشبهة الأولى فالجواب عنها من ثلاثة وجوه: الأول: أن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحداً من الأنبياء قبلي ... (فذكرها، وآخرها) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)) (¬3) فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا! الثاني: هب أن الصواب قول من قال: (شريعة من قبلنا شريعة لنا) فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا، لأن الأحاديث تواترت في النهي عن البناء المذكور كما سبق، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا. الثالث: لا نسلم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين، وعلى التسليم فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين، متمسكين بشريعة نبيٍ مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك، قال الحافظ ابن رجب في (فتح الباري في شرح البخاري) .. : حديث: ((لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬4). ¬

(¬1) رواه الطبراني (12/ 414) بلفظ: ((في مسجد الخيف قُبِر سبعين نبياً)). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 300): رواه البزار ورجاله ثقات. وقال ابن حجر في ((مختصر البزار)) (1/ 476): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (4020): ضعيف. (¬2) ((الاستيعاب)) (2/ 13). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): منكر. (¬3) رواه البخاري (335) بلفظة: (عامةً) بدلاً من (كافةً)، ومسلم (521) بلفظة: (خاصة). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (4441). من حديث عائشة رضي الله عنها.

وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى (¬1). وقال الشيخ علي بن عروة في (مختصر الكوكب) .. تبعاً للحافظ ابن كثير في (تفسيره): حكى ابن جرير (¬2) في القائلين ذلك قولين (¬3): أحدهما: أنهم المسلمون منهم. والثاني: أهل الشرك منهم. فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هم محمودون أم لا؟ فيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يُحذِّر ما فعلوا (¬4)، وقد رُوِّينا عن عمر بن الخطاب: أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها (¬5). إذا عرفت هذا، فلا يصح الاحتجاج بالآية على وجه من الوجوه، وقال العلامة المحقق الألوسي في (روح المعاني): واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك! وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في (حواشيه على البيضاوي)، وهو قول باطل عاطل، فاسد كاسد ... ) (¬6). ثم ذكر بعض الأحاديث المتقدمة، وأتبعها بكلام الهيتمي في (الزواجر) مقراً له عليه، ... ثم نقل عنه في كتابه (شرح المنهاج) ما نصه: وقد أفتى جمعٌ بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة، التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام آخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح. اهـ. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (3/ 194). (¬2) ((تفسير الطبري)) (17/ 640). (¬3) قال الألباني: وحكاهما أيضاً: ابن الجوزي في تفسيره ((زاد المسير)) (5/ 123) دون أن يرجح أحدهما على عادته. (¬4) رواه البخاري (435، 436)، ومسلم (531) بلفظة: (صنعوا) بدلاً من (فعلوا). من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم. (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 78) (¬6) ((روح المعاني)) (5/ 31).

ثم قال الإمام الألوسي: لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا، وقد استُدِلَّ بها، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من نام عن صلاة أو نسيها)) (¬1)، الحديث ثم تلا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، وهو مقول لموسى عليه السلام، وسياقه الاستدلال، واحتج أبو يوسف على جري القود بين الذكر والأنثى بآية: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ [المائدة: 45]، والكرخي على جريه بين الحر والعبد، والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل، إلى غير ذلك، لأنا نقول: مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا، لكن لا مطلقاً، بل إنْ قصّ الله تعالى علينا بلا إنكار فإنكار رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل (¬2). وقد سَمِعتَ أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفاً احتجاجُ الأئمة بها، وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك، وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً لا يدل على فعلهم عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده. ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم: الأمراء والسلاطين، كما روي عن قتادة. وعلى هذا لقائلٍ أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور، فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسدّه، وكفّ التعرض لأصحابه، فلم يقبل الأمراء منهم، وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد. وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول: إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طراز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه، الملعون فاعله، وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريباً من كهفهم، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب، ومثل هذا الاتخاذ ليس محذوراً إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه، كنسبة النبوي إلى المرقد ... صلى الله تعالى على من فيه وسلم، ويكون قوله: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ [الكهف:21] على هذه الشاكلة قول الطائفة: (ابنوا عليهم). وإن شئت قلت: إن ذلك الاتخاذ كان على كهفٍ فوق الجبل الذي هم فيه، وفيه خبر مجاهد: أن الملك تركهم في كهفهم وبنى على كهفهم مسجداً، وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم، وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولاً فلا يحتاج إليه على ما قيل (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (597)، ومسلم (684) بلفظ: ((من نسي صلاةً أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها))، واللفظ لمسلم من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) قال الألباني: لقوله صلى الله عليه وسلم ((فإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله)). وهو حديث صحيح. اهـ. والحديث: رواه أبو داود (4604)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وأحمد (4/ 132) (17233). من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه. (¬3) قال الألباني: يشير إلى ما ذكره في أول الصفحة الأولى من الصفحتين المشار إليهما وهو قوله: وعن الحسن: أنه اتخذ (يعني: المسجد) ليصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا. قال الألوسي: وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولاً وإليه ذهب بعضهم، بل قيل: إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره. ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شيء بالخرافات.

وبالجملة: لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة، معولاً على الاستدلال بهذه الآية، فإن ذلك في الغواية غاية، وفي قلة النُهى نهاية! ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها، وبنائها بالجص والآجرّ، وتعليق القناديل عليها، والصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، والاجتماع عندها، في أوقات مخصوصة، إلى غير ذلك محتجاً بهذه الآية الكريمة، وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً، وجعله إياهم في توابيت من ساج، ومقيساً لبعض على بعض! وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وابتداع دين لم يأذن به الله عز وجل. ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره عليه الصلاة والسلام - وهو أفضل قبر على وجه الأرض - والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له، والسلام عليه، فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك، والله سبحانه يتولى هداك. ... وقد استدل بالآية المذكورة على الجواز المزعوم، بل على استحباب بناء المساجد على القبور بعض المعاصرين لكن من وجهٍ آخرٍ مبتدعٍ مغايرٍ بعض الشيء لما سبق حكايته ورده فقال ما نصه: والدليل من هذه الآية إقرار الله إياهم على ما قالوا، وعدم رده عليهم! ... هذا الاستدلال باطل من وجهين: الأول: أنه لا يصحّ أن يعتبر عدم الرد عليهم إقراراً لهم، إلا إذا ثبت أنهم كانوا مسلمين وصالحين متمسكين بشريعة نبيهم، وليس في الآية ما يشير أدنى إشارة إلى أنهم كانوا كذلك، بل يحتمل أنهم لم يكونوا كذلك، وهذا هو الأقرب؛ أنهم كانوا كفاراً أو فجاراً، كما ... -نقل عن- ابن رجب وابن كثير وغيرهما، وحينئذ فعدم الرد عليهم لا يعد إقراراً بل إنكاراً، لأن حكاية القول عن الكفار والفجار يكفي في رده عزوه إليهم! فلا يعتبر السكوت عليه إقراراً كما لا يخفى، ويؤيده الوجه الآتي: الثاني: أن الاستدلال المذكور إنما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين، الذين يكتفون بالقرآن فقط ديناً، ولا يقيمون للسنة وزناً، وأما طريقة أهل السنة والحديث الذين يؤمنون بالوحيين، مصدقين بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) وفي رواية: ((ألا إنّ ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)) (¬1). فهذا الاستدلال عندهم والمستدل يزعم أنه منهم! باطل ظاهر البطلان، لأن الرد الذي نفاه، قد وقع في السنة المتواترة كما سبق، فكيف يقول: إن الله أقرهم ولم يرد عليهم، مع أن الله لعنهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فأي ردٍّ أوضح وأبين من هذا؟! وما مثل من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدمة؛ إلا كمثل من يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام بقوله تعالى في الجن الذين كانوا مذللين لسليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13] يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيل والتصاوير! وما يفعل ذلك مسلم يؤمن بحديثه صلى الله عليه وسلم. وبهذا ينتهي الكلام عن الشبهة الأولى، وهي الاستدلال بآية الكهف والجواب عنها وعن ما تفرع منها. الجواب عن الشبهة الثانية: ¬

(¬1) رواه أبو داود (4604) بلفظ: (الكتاب) بدلاً من: (القرآن)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وأحمد (4/ 130) (17213)، و (4/ 132) (17233). من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه. والحديث حسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 129) - كما أشار لهذا في مقدمته -. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح.

وأما الشبهة الثانية وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده كما هو مشاهد اليوم، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه‍! والجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم دفنوه في حجرته التي كانت بجانب مسجده، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى المسجد، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء، ولا خلاف في ذلك بينهم، والصحابة رضي الله عنهم حينما دفنوه صلى الله عليه وسلم في الحجرة، إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً، كما ... في حديث عائشة وغيره (¬1)، ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم! ذلك أن الوليد بن عبدالملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد (¬2)، ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة حينذاك خلافاً لما توهم بعضهم، قال العلامة الحافظ محمد بن عبدالهادي في (الصارم المنكي): وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبدالملك، بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان آخرهم موتاً جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وتوفي في خلافة عبدالملك، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك (¬3)، وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري، في كتاب (أخبار مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم) عن أشياخه وعمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529). ولفظه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خَشِيَ أو خٌشِيَ أن يتخذ مسجداً. من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((تاريخ ابن جرير)) (5/ 22 - 23)، و ((تاريخ ابن كثير)) (9/ 74 - 75). (¬3) قال الألباني: وإنما لم يسم الحافظ ابن عبدالهادي السنة التي وقع فيها ذلك لأنها لم ترد في رواية ثابتة على طريقة المحدثين، وما نقلناه عن ابن جرير هو من رواية الواقدي وهو متهم، ورواية ابن شبة الآتية في كلام الحافظ ابن عبدالهادي مدارها على مجاهيل، وهم عن مجهول! كما هو ظاهر، فلا حجة في شيء من ذلك، وإنما العمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد كان في ولاية الوليد، وهذا القدر كاف في إثبات أن ذلك كان بعد موت الصحابة الذين كانوا في المدينة حسبما بيَّنه الحافظ لكن يُعكّر عليه ما رواه أبو عبدالله الرازي في ((مشيخته)) (1/ 218) عن محمد بن الربيع الجيزري: توفي سهل بن سعد بالمدينة وهو ابن مائة سنة وكانت وفاته: سنة إحدى وتسعين وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الجيزري هذا لم أعرفه ثم هو معضل، وقد ذكر مثله الحافظ ابن حجر في ((الإصابة)) (2/ 87) عن الزهري من قوله: فهو معضل أيضاً أو مرسل، ثم عقبه بقوله: وقيل: قبل ذلك، وزعم ابن أبي داود أنه مات بالإسكندرية. وجزم في (التقريب): أنه مات سنة 88 فالله أعلم. وخلاصة القول: أنه ليس لدينا نص تقوم به الحجة على أن أحداً من الصحابة كان في عهد عملية التغيير هذه، فمن ادّعى خلاف ذلك فعليه الدليل. (¬4) انظر: ((الصارم المنكي)) (ص136).

يتبين لنا مما أوردناه أن القبر الشريف إنما أدخل إلى المسجد النبوي حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة وإن ذلك كان على خلاف غرضهم الذي رموا إليه حين دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة، لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها ... وهو مخالف أيضاً لصنيع عمر وعثمان حين وسّعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه، ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبدالملك عفا الله عنه، ولئن كان مضطراً إلى توسيع المسجد، فإنه كان باستطاعته أن يوسّعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو رضي الله عنه بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى ولم يتعرض للحجرة، بل قال: (إنه لا سبيل إليها) (¬1) فأشار رضي الله عنه إلى المحذور الذي يترقب من جراء هدمها وضمها إلى المسجد. ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين، فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئاً ما، فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم، قال النووي: ولما احتاجت الصحابة (¬2) والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطاناً مرتفعةً مستديرةً حوله، لئلا يظهر في المسجد (¬3)، فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر (¬4). ونقل الحافظ ابن رجب في (الفتح) نحوه عن القرطبي كما في (الكوكب) (65/ 91/1)، وذكر ابن تيمية في (الجواب الباهر) (ق9/ 2): أن الحجرة لما أُدخلت إلى المسجد سُدَّ بابها، وبُني عليها حائط آخر، صيانةً له صلى الله عليه وسلم أن يُتخذ بيته عيداً، وقبره وثناً. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني – ص: 54 الجواب عن الشبهة الثالثة: وأما الشبهة الثالثة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه قَبر سبعين نبيًّا! فالجواب: أننا لا نشك في صلاته صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد، ولكننا نقول: إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبياً لا حجة فيه من وجهين: ¬

(¬1) قال الألباني: انظر: ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (4/ 21)، و ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (8/ 478/2) وقال السيوطي في ((الجامع الكبير)) (3/ 272/2): وسنده صحيح إلا أن سالماً أبا النضر لم يدرك عمر، و ((وفاء الوفاء)) للسمهودي (1/ 343)، و ((المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية)) للعلامة محمد سلطان العصومي رحمه الله تعالى (ص43) وهو مؤلف رسالة ((هداية السلطان إلى بلاد اليابان)). (¬2) قال الألباني: عزو هذا إلى الصحابة لا يثبت .... (¬3) قال الألباني: وفي هذا دليل واضح على أن ظهور القبر في المسجد ولو من وراء النوافذ والحديد والأبواب لا يزيل المحذور، كما هو الواقع في قبر يحيى عليه السلام في مسجد بني أمية في دمشق وحلب، ولهذا نص أحمد على أن الصلاة لا تجوز في المسجد الذي قبلته إلى قبر، حتى يكون بين حائط المسجد وبين المقبرة حائل آخر. (¬4) ((شرح صحيح مسلم)) (5/ 14).

الأول: أننا لا نسلم صحة الحديث المشار إليه، لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح، ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين، ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه، فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به، قال الطبراني في (معجمه الكبير): حدثنا عبدان بن أحمد نا عيسى بن شاذان، نا أبو همام الدلال، نا إبراهيم بن طمهان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: ((في مسجد الخيف قَبرُ سبعين نبياً)) (¬1). وأورده الهيثمي (المجمع) بلفظ: (( ... قُبِرَ سبعون نبياً)) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. وهذا قصور منه في التخريج، فقد أخرجه الطبراني أيضاً كما رأيت. وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرّف على أحدهما فقال: (قُبِر) بدل (صلى) لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث، فقد أخرج الطبراني في (الكبير) بإسنادٍ رجاله ثقات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً: ((صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً ... )) الحديث (¬2) ... وجملة القول: أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لصحته، فإن صح فالجواب عنه من الوجه الآتي وهو: الثاني: أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف، وقد عقد الأزرقي في (تاريخ مكة) (¬3) عدة فصول في وصف مسجد الخيف، فلم يذكر أن فيه قبوراً بارزةً، ومن المعلوم أن الشريعة إنما تُبنى أحكامها على الظاهر، فإذاً ليس في المسجد المذكور قبور ظاهرة، فلا محظور في الصلاة فيه ألبتة، لأن القبور مندرسة ولا يعرفها أحد، بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه سبعين قبراً! ولذلك لا يقع فيه تلك المفسدة التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور الظاهرة والمشرفة!. الجواب عن الشبهة الرابعة: وأما ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى فيه. فالجواب: لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة (¬4)، ولكن هذه الفضيلة أصلية فيه منذ رفع قواعده إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل عليه السلام فيه لو صح أنه دفن فيه، ومن زعم خلاف ذلك، فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً، وجاء بما لم يقله أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولا جاء به حديث تقوم الحجة به. فإن قيل: لا شك فيما ذكرت، ودفن إسماعيل فيه لا يخالف ذلك، ولكن ألا يدل هذا على الأقل على عدم كراهية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟ فالجواب: كلا ثم كلا، وهاك البيان من وجوه: ¬

(¬1) رواه الطبراني (12/ 414) بلفظ: ((في مسجد الخيف قُبِر سبعين نبياً)). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 300): رواه البزار ورجاله ثقات. وقال ابن حجر في ((مختصر البزار)) (1/ 476): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): ضعيف. (¬2) رواه الطبراني (11/ 452). من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 300): رواه الطبراني في ((الكبير)) وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): حسن. (¬3) ((تاريخ مكة)) (406 - 410). (¬4) قال صلى الله عليه وسلم: ((وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)). رواه ابن ماجه (1406)، وأحمد (3/ 343) (14735). قال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 517): إسناده صحيح. وقال العراقي في ((طرح التثريب)) (6/ 47): إسناده جيد. وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (4/ 1550): إسناده صحيح إلا أنه اختلف فيه على عطاء. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

الأول: أنه لم يثبت في حديثٍ مرفوعٍ أن إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام، ولم يرد شيء من ذلك في كتابٍ من كتب السنة المعتمدة كـ (الكتب الستة)، و (مسند أحمد)، و (معاجم الطبراني الثلاثة) وغيرها، ضعيفاً بل موضوعاً عند بعض المحققين (¬1)، وغاية ما روي في ذلك من آثار معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات، أخرجها الأزرقي في (أخبار مكة)، فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات (¬2). ونحو ذلك ما أورد السيوطي في (الجامع) من رواية الحاكم في (الكنى) عن عائشة مرفوعاً بلفظ: ((إن قبر إسماعيل في الحجر)) (¬3). الوجه الثاني: أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة ولا بارزة، ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى، فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد، فلا يصح حينئذٍ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض لظهور الفرق بين الصورتين، وبهذا أجاب الشيخ على القاري رحمه الله تعالى، فقال في (مرقاة المفاتيح): ... وذكر غيره أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قَبْرُ سبعين نبيًّا (¬4). قال القاري: وفيه أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة فلا يصلح الاستدلال (¬5). وهذا جواب عالم نحرير، وفقيه خريت، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفاً، وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة، وأن ما في بطن الأرض من القبور، فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر، بل الشريعة تنزه عن مثل هذا الحكم، لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء، كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات: 25 - 26] قال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم (¬6). ومنه قول الشاعر: صاح هذي قبورنا تملأ الرحب ... فأين القبور من عهد عاد؟ خفف الوطأ ما أظن أديم ... الأرض إلا من هذه الأجساد سر إن استطعت في الهواء رويداً ... لا اختيالا على رفات العباد ومن البيّن الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهراً غير معروفاً مكانه، فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد، حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة، حتى ولو كانت مزورة! لا عند القبور المندرسة، ولو كانت حقيقية، فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين، وهذا ما جاءت به الشريعة كما بيّنا سابقاً، فلا يجوز التسوية بينهما، والله المستعان. الجواب عن الشبهة الخامسة: ¬

(¬1) قال الألباني: نقل السيوطي في ((التدريب)) عن ابن الجوزي قال: ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين العقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع. قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجاً من دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة. كذا في ((الباعث الحثيث)) (ص85). (¬2) قال الألباني: انظر: ((إحياء المقبور)) (47 - 48). ومن عجائب الجهل بالسنة أن بعض المفسرين المتأخرين احتج بهذه الآثار الواهية على جواز الصلاة في المقبرة بقصد الاستظهار بروح الميت أو وصول أثر ما من أثر عبادته لا للتعظيم له والتوجه نحوه! وهذا مع أنه لا دليل فيها على ما زعمه من الجواز، فهو مخالف لعموم الأدلة الناهية عن الصلاة في المقبرة وما شابهها من المساجد المبنية على القبور ... (¬3) قال الألباني في ((ضعيف الجامع الصغير)) (1907): ضعيف. (¬4) (مرقاة المفاتيح) (1/ 456). (¬5) (مرقاة المفاتيح) (1/ 456). (¬6) رواه الدولابي (1/ 129)، والطبري في ((تفسيره)) (24/ 134). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): رجاله ثقات.

أما بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فشبهة لا تساوي حكايتها! ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتكأ عليها في رد تلك الأحاديث المحكمة لما سمحت لنفسي أن أسوّد الصفحات في سبيل الجواب عنها وبيان بطلانها! والكلام عليها من وجهين: الأول: رد ثبوت البناء المزعوم من أصله، لأنه ليس له إسناد تقوم الحجة به، ولم يروه أصحاب (الصحاح) و (السنن) و (المسانيد) وغيرهم، وإنما أورده ابن عبدالبر في ترجمة أبي بصير من (الاستيعاب) مرسلاً، فقال: وله قصة في المغازي عجيبة، ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة عام الحديبية، قال: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلماً. فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان! فاستلّه الآخر، وقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال له أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد وفرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد بعده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه: ((لقد رأى هذا ذعراً))، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير، فقال: يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك: قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويل أُمه مِسْعَر حرب، لو كان معه أحد)) فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير ... وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتمّ ألفاظٍ وأكمل سياقٍ قال:. .. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وصلى عليه، وبنى على قبره مسجداً (¬1). ... ¬

(¬1) انظر: ((الاستيعاب)) (2/ 13).

فأنت ترى أن هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار أنه تابعي صغير، سمع من أنس بن مالك رضي الله عنه، وإلا فهي معضلة، وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة، على أن موضع الشاهد منها وهو قوله: (وبنى على قبره مسجداً) لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري، ولا من رواية عبدالرزاق عن معمر عنه، بل هو من رواية موسى بن عقبة، كما صرح به ابن عبد البر، لم يجاوزه، وابن عقبة لم يسمع أحداً من الصحابة، فهذه الزيادة ... قوله: (وبنى على قبره مسجداً) معضلة (¬1)، بل هي عنده منكرة، لأن القصة رواها البخاري في (صحيحه) (¬2) موصولة من طريق عبدالرزاق عن معمر قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة، وكذلك أوردها ابن إسحاق في (السيرة) عن الزهري مرسلاً كما في (مختصر السيرة) لابن هشام (¬3)، ووصله أحمد في (مسنده) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة (¬4)، وكذلك رواه ابن جرير في (تاريخه) (¬5) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة، فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة؛ لإعضالها، عدم رواية الثقات لها. والله الموفق. الوجه الثاني: أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة، في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين: أولاً: أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره. ثانياً: أنه لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره، فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم، لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك في آخر حياته كما سبق، فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم - على فرض صحته - عند التعارض وهذا بيّن لا يخفى، نسأل الله تعالى أن يحمينا من اتباع الهوى! الجواب عن الشبهة السادسة وهي الزعم بأن المنع إنما كان لعلةٍ، وهي خشية الافتتان بالمقبور، وقد زالت، فزال المنع!! ¬

(¬1) قال الألباني: ولا تغتر أيها القارئ بما فعله هنا مؤلف ((إحياء المقبور)) فإنه ساق (ص44) القصة التي أوردناها في الأعلى من طريق ابن عبد البر، غير أن المؤلف حذف من كلامه: (وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر). ووصل رواية عبدالرزاق عن الزهري برواية موسى بن عقبة حتى صارتا كأنهما رواية واحدة وبدا للناظر في سياقه أن القصة بناء المسجد على القبر هي من رواية عبدالرزاق عن الزهري، وإنما هي من رواية موسى بن عقبة بدون إسناد! ثم وقفت على رواية موسى بن عقبة في ((تاريخ ابن عساكر)) (8/ 334/1) رواه بإسنادين عنه عن ابن شهاب مرسلاً ومعضلاً بلفظ: (وجعل عند قبره مسجداً) وهذا اللفظ - لو صح - أقلّ مخالفة، لأنه ليس نصاً في أن البناء كان على القبر، بل عنده، وشتان ما بينهما، وليس فيه أيضاً أن أبا جندل هو الذي بنى المسجد؛ فتأمل. (¬2) رواه البخاري (2731، 2732). (¬3) ((مختصر السيرة)) (3/ 331 - 339) (¬4) رواه أحمد (4/ 323) (18930). قال شعيب الأرناؤوط محقق (المسند): إسناده حسن، محمد بن إسحاق وإن كان مدلساً وقد عنعن إلا أنه قد صرح بالتحديث في بعض فقرات هذا الحديث فانتفت شبهة تدليسه. (¬5) ((تاريخ الطبري)) (3/ 271 - 285).

لا أعلم أحداً من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة، إلا مؤلف (إحياء المقبور) فإنه تمسك بها وجعلها عمدته في رد تلك الأحاديث المتقدمة واتفاق الأمة عليها، فقال ما نصه: وأما النهي عن بناء المساجد على القبور، فاتفقوا على تعليله بعلتين: إحداهما: أن يؤدي إلى تنجيس المسجد (¬1) ... وثانيهما: وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة بالقبر، لأنه إذا وقع بالمسجد، وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح، لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه، ويؤدي بهم إلى فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه، إذا كان في قبلة المسجد، فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك (¬2). ثم ساق شيئاً من النقول في العلة المذكورة عن بعض العلماء منهم الإمام الشافعي، ثم قال المؤلف المشار إليه: والعلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين، ونشأهم على التوحيد الخالص، واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى، وأنه سبحانه المنفرد بالخلق والإيجاد والتصريف (!) وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين (¬3)! ... والجواب: أن يقال: أثبت العرش ثم انقش! أثبت أولاً أن الخشية المذكورة هي وحدها علة النهي، ثم أثبت أنها قد انتفت، ودون ذلك خرط القتاد. أما الأول: فإنه لا دليل مطلقاً على أن العلة هي الخشية المذكورة فقط، نعم من الممكن أن يقال: إنها بعض العلة، وأما حصولها بها فباطل، لأن من الممكن أيضاً أن يضاف إليها أمور أخرى معقولة كالتشبه بالنصارى، وكالإسراف في صرف المال فيما لا فائدة فيه شرعاً، وغير ذلك مما قد يبدو للباحث الناقد. وأما زعمه أن العلة انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين إلخ. فهو زعم باطل أيضاً وبيانه من وجوه: الأول: أن الزعم بُني على أصل باطل، وهو أن الإيمان بأن الله هو المنفرد بالخلق، والإيجاد كاف في تحقيق الإيمان المنجي عند الله تبارك وتعالى، وليس كذلك، فإن هذا التوحيد وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية، كان يؤمن به المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، ومع ذلك فلم ينفعهم هذا التوحيد شيئاً، لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة، وأنكروه على النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار، بقولهم فيما حكاه الله عنهم: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]. ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه ترك الاستغاثة بغير الله، وترك الدعاء والذبح لغير الله، وغير ذلك مما هو خاص بالله تعالى من العبادات، فمن جعل شيئاً من ذلك لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك به، وجعل له نداً وإن شهد له بتوحيد الربوبية، فالإيمان المنجي إنما هو الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإفراد الله بذلك، وهذا مفصّل في غير هذا الموضوع ... الوجه الثاني: ¬

(¬1) قال الألباني: وهذه العلة باطلة من وجوه لا مجال لبيانها الآن، ومن أدلة ذلك بخصوص قبور الأنبياء: أن أجسادهم لا تبلى كما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف تنجس الأرض بهم؟! (¬2) ((إحياء المقبور)) (ص18 - 19). (¬3) ((إحياء المقبور)) (ص20 - 21).

علمت مما سبق من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته، بل في مرض موته، فمتى زالت العلة التي ذكرها؟ إن قيل: زالت عقب وفاته صلى الله عليه وسلم فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه صلى الله عليه وسلم، لأن القول بذلك يستلزم بناء على ما سبق من كلامه أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعد في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، وإنما رسخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم! ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم، وهذا مما لا أتصور أحداً يقول به لوضوح بطلانه. وإن قيل: زالت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك في آخر نَفَسٍ من حياته؟! ويؤيده: الوجه الثالث: أن في بعض الأحاديث المتقدمة باستمرار الحكم إلى قيام الساعة ... الوجه الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم إنما دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم خشية أن يتخذ قبره مسجداً، عن عائشة رضي الله عنها في الحديث (¬1)، فهذه خشية إما أن يقال: إنها كانت مُنصبة على الصحابة أنفسهم، أو على من بعدهم، فإن قيل بالأول، قلنا: فالخشية على من بعدهم أولى، وإن قيل بالثاني، وهو الصواب عندنا، فهو دليل قاطع على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم، لا في عصرهم ولا فيما بعدهم، فالزعم بخلاف رأيهم ضلال بيّن. ويؤيده: الوجه الخامس: أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه، مما يستلزم بقاء العلة السابقة، وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال، فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها، وهذا بيّن لا يخفى والحمد لله، وإليك بعض الأمثلة على ما ذكرنا: 1 - عن عبدالله بن شرحبيل بن حسنة قال: رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور، فقيل له: هذا قبر أم عمرو بنت عثمان! فأمر به فسوّي (¬2). 2 - عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته)) (¬3) ... 3 - عن أبي بردة قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: ((إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا المشي ولا يتبعني مجمر، ولا تجعلوا في لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلوا على قبري بناء وأشهدكم أني بريء من كل حالقةٍ، أو سالقةٍ، أو خارقةٍ))، قالوا: أو سمعت فيها شيئاً؟ قال: نعم، من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4). 4 - عن أنس: كان يكره أن يُبنى مسجد بين القبور (¬5). 5 - عن إبراهيم أنه: كان يكره أن يجعل على القبر مسجداً (¬6). وإبراهيم هذا هو ابن يزيد النخعي الثقة الإمام، وهو تابعي صغير مات سنة 96هـ، فقد تلقى هذا الحكم بلا شك من بعض كبار التابعين من الصحابة، ففيه دليل قاطع على أنهم كانوا يرون بقاء هذا الحكم واستمراره بعده صلى الله عليه وسلم، فمتى نسخ؟ ‍‍! ¬

(¬1) رواه البخاري (1390)، ومسلم (529). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 28). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح. (¬3) رواه مسلم (969). (¬4) رواه أحمد (4/ 397) (19565)، والبيهقي (3/ 395). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): إسناده قوي. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده حسن من أجل أبي حريز. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 153). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): ورجاله ثقات رجال الشيخين. (¬6) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 23). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح عنه.

6 - عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فقرأ بنا في الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] ولإيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون، فقال: ما هذا؟ فقال: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً! من عرضت له منكم فيها الصلاة، فليصل، ومن لم يعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل (¬1). 7 - عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت (¬2). 8 - عن قزعة قال: سألت ابن عمر: آتي الطور؟ فقال: دع الطور ولا تأتها، وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (¬3). 9 - عن علي بن حسين: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه، (كذا الأصل) فيدخل فيها فيدعو، فدعاه فقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي، فإن صلاتكم وتسليمكم تبلغني حيثما كنتم)) (¬4). ويقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً، وابن خزيمة في حديث علي ابن حجر وابن عساكر من طريقين عن سهيل بن أبي سهيل أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فالتزمه ومسح، قال: فحصبني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، (وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) (¬5) ¬

(¬1) رواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (2/ 118)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 151). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (2/ 150). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): ورجاله ثقات كلهم، لكنه منقطع بين نافع وعمر فلعل الواسطة بينهما عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. ثم قال: ثم استدركت فقلت: يبعد ذلك كله ما أخرجه البخاري فيه ((صحيحه)) (2958) من طريق أخرى عن نافع قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: ((رجعنا من العام المقبل: فما اجتمع اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله)). يعني خفاءها عليهم. فهو نص على أن الشجرة لم تبق معروفة المكان حتى يمكن قطعها من عمر، فدل ذلك على ضعف رواية القطع الدال عليه الانقطاع الظاهر فيها نفسها. ومما يزيدها ضعفا ما روى البخاري (صحيحه) (4162) عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: ((لقد رأيت الشجرة، ثم أتيتها بعد، فلم أعرفها)). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 150)، والأزرقي في ((أخبار مكة)) (2/ 298). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): إسناده صحيح. (¬4) رواه أبو يعلى (1/ 361)، والضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (428). قال ابن عبدالهادي المقدسي في ((الصارم المنكي)) (206): جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 6): رواه أبو يعلى، وفيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبى حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (313)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 33): حسن. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور، كما قال الحافظ في ((التقريب)) (1/ 700). (¬5) رواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 71)، وسعيد بن منصور في ((سننه)) مرسلاً كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (ص106)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (13/ 62). قال ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 301)، وابن عبدالهادي الحنبلي في ((الصارم المنكي)) (322): مرسل. قال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص220): مرسلٌ بإسنادٍ قوي.

10 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني (¬1) حيثما كنتم)) (¬2). 11 - ورأى ابن عمر فسطاطاً على قبر عبدالرحمن فقال: انزعه يا غلام فإنما يظله عمله (¬3). 12 - عن أبي هريرة: أنه أوصى أن لا يضربوا على قبره فسطاطاً (¬4). 13 - وروى ابن أبي شيبة وابن عساكر مثله عن أبي سعيد الخدري (¬5). 14 - عن محمد بن كعب قال: هذه الفساطيط التي على القبور محدثة (¬6). 15 - سعيد بن المسيب أنه قال في مرضه الذي مات فيه: إذا ما مت، فلا تضربوا على قبري فسطاطاً (¬7). 16 - عن سالم مولى عبدالله بن علي بن حسين قال: أوصى محمد بن علي أبو جعفر قال: لا ترفعوا قبري على الأرض (¬8). 17 - عن عمرو بن شرحبيل قال: لا ترفعوا جدثي - يعني القبر - فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك (¬9). واعلم أن هذه الآثار وإن اختلفت دلالاتها، فهي متفقة على النهي في الجملة عن كل ما يُنبئ عن تعظيم القبور تعظيماً يخشى منه الوقوع في الفتنة والضلال، مثل بناء المساجد والقباب على القبور، وضرب الخيام عليها، ورفعها أكثر من الحديث المشروع، والسفر والاختلاف إليها (¬10)، والتمسح بها، ومثل التبرك بآثار الأنبياء ونحو ذلك، فهذه الأمور كلها غير مشروعة عند السلف الذين سميناهم من الصحابة وغيرهم، وذلك يدل على أنهم كانوا جميعاً يرون بقاء علة النهي عن بناء المساجد على القبور وتعظيمها بما لم يشرع، ألا وهي خشية الإضلال والافتتان بالموتى كما نص عليها الإمام الشافعي رحمه الله، بدليل استمرارهم على القول بالحكم المعلول بهذه العلة، فإن بقاء أحدهم يستلزم بقاء الآخر، كما لا يخفى، وهذا بالنسبة لمن نص منهم على كراهية بناء المساجد على القبور ظاهراً، أما الذين صرحوا بالنهي عن غير ذلك، مثل: رفع القبر وضرب الخيمة عليه ونحوه مما أجملنا الكلام عليه آنفاً، فهم يقولون ببقاء الحكم المذكور من باب أولى، وذلك لوجهين: الأول: أن بناء المساجد على القبور أشد جرماً من رفع القبور وضرب الخيام عليها، لما ورد من اللعن على البناء، دون الرفع والضرب المذكور. الثاني: أن المفروض في أولئك السلف الفهم والعلم، فإذا ثبت عن أحد منهم النهي عن شيء هو دون ما نهى عنه الشارع، ولم ينقل هذا النهي عن أحدهم، فنحن نقطع بأنه ينهى عنه أيضاً، حتى ولو فرض عدم بلوغ النهي إليه لأن نهيه عما هو دون هذا يستلزم النهي عنه من باب أولى، كما لا يخفى. فثبت أن القول بانتفاء العلة المذكورة وما بني عليه كله باطل، لمخالفته نهج السلف الصالح رضي الله عنهم، مع مصادمته للأحاديث الصحيحة، والله المستعان. تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد لمحمد ناصر الدين الألباني - 68 ¬

(¬1) قال الألباني: قوله: (تبلغني) هذا الحديث وغيره مما تقدم صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لا يسمع صلاة المصلين عليه، فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمعها فقد كذب عليه، فكيف حال من يزعم أنه صلى الله عليه وسلم يسمع غيرها؟! (¬2) رواه أبو داود (2042). وسكت عنه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) - كما أشار لذلك في مقدمته -، والنووي في ((الأذكار)) (154). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 169): إسناده حسن، وله شواهد. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 314): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬3) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (1461)، ورواه موصولاً ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (35/ 41 - 42) من طريق ابن سعد في ((الطبقات الكبرى))، وانظر: ((تغليق التعليق)) لابن حجر (2/ 492 - 493). (¬4) رواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 418)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 23)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 338). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): إسناده صحيح. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 24)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (20/ 396)، ورواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 430). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): إسناده ضعيف، لكن له طرق أخرى عند ابن عساكر فهو بها صحيح. (¬6) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 24). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): رجاله ثقات غير ثعلبة وهو ابن الفرات، قال أبو حاتم وأبوزرعة: لا أعرفه، كما في ((الجرح والتعديل)) (1/ 464 - 465). (¬7) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (5/ 142). (¬8) رواه الدولابي في ((الكنى)) (3/ 154) قال الألباني في ((تحذير الساجد)): ورجاله ثقات غير سالم هذا فهو مجهول. كما قال الذهبي في ((الميزان))، والحلي الشيعي في ((خلاصة الأقوال)) (ص 108). (¬9) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (6/ 108) قال الألباني في ((تحذير الساجد)): سنده صحيح. (¬10) الاختلاف إليها أي: إكثار التردد لزيارتها، وهذا مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري عيداً)).

رابعا: النهي عن اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيدا

رابعاً: النهي عن اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيدا فأما العموم: فقال أبو داود في (سننه): حدثنا أحمد بن صالح، قال: قرأت على عبدالله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬1) فمن ذلك: ما رواه أبو يعلى الموصلي في (مسنده)، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم - من ولد ذي الجناحين- حدثنا علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو. فنهاه، فقال: ألا أحدّثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)) رواه أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي الحافظ، فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على (الصحيحين)، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في (صحيحه) (¬2). وروى سعيد في (سننه)، حدثنا حبان بن علي، حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني)) (¬3). وقال سعيد: حدثنا عبدالعزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء؟ فقلت لا أريده. فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم)). ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء (¬4). ¬

(¬1) رواه أبو داود (2042). وسكت عنه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) - كما أشار لذلك في مقدمته -، والنووي في ((الأذكار)) (154). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 169): إسناده حسن وله شواهد. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 314): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه أبو يعلى (1/ 361)، والضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (428). قال ابن عبدالهادي المقدسي في ((الصارم المنكي)) (206): جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 6): رواه أبو يعلى، وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (313)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 33): حسن. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور، كما قال الحافظ في ((التقريب)) (1/ 700). (¬3) رواه سعيد بن منصور في ((سننه)) مرسلاً كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (ص: 322)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (13/ 62). (¬4) رواه سعيد بن منصور في ((سننه)) مرسلاً كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (ص: 106)، ورواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (3/ 71). قال ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 301)، وابن عبدالهادي الحنبلي في ((الصارم المنكي)) (ص: 322): مرسل. قال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص220): مرسل بإسنادٍ قوي.

فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لاسيما وقد احتج من أرسله به وذلك يقتضي ثبوته عنده، ولو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين. فكيف وقد تقدم مسندا؟ ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا. فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تتخذوا بيوتكم قبورا)) أي: لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم. وفي (الصحيحين) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا)) (¬1). وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه)) (¬2)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعقب النهي عن اتخاذه عيداً بقوله: ((صلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬3) وفي الحديث الآخر: ((فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)) (¬4) يشير بذلك صلى الله عليه وسلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً، والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه كثيرة. مثل ما روى أبو داود من حديث أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن عبدالله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) (¬5) صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث على شرط مسلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (432)، ومسلم (777). (¬2) رواه مسلم (780). (¬3) رواه أبو داود (2042). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وسكت عنه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) - كما أشار لذلك في مقدمته -، والنووي في ((الأذكار)) (154). وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 169): إسناده حسن وله شواهد. وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/ 314): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) رواه أبو يعلى (1/ 361)، والضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (428). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن عبدالهادي المقدسي في ((الصارم المنكي)) (206): جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 6): رواه أبو يعلى، وفيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (313)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 33): حسن. (¬5) رواه أبو داود (2041). وسكت عنه. وقال النووي في ((الأذكار)) (154): إسناده صحيح. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/ 299)، والعراقي في ((المغني)) (1/ 409): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن.

ومثل ما روى أبو داود - أيضاً - عن أوس بن أوس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي))، قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء)) (¬1) ... وفي النسائي وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله وكَّلَ بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام)) (¬2) إلى أحاديث أخر في هذا الباب متعددة. ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث، وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي، وأعلم بمعناه من غيره، فبيّن أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذ له عيداً. وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً. فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت، الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 659 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1047)، ورواه النسائي (3/ 91)، وابن ماجه (1636)، وأحمد (4/ 8) (16/ 207). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال النووي في ((المجموع)) (4/ 548): إسناده صحيح. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 94) - كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه النسائي (3/ 43) بلفظ: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) وبلفظ النسائي رواه أحمد (1/ 387) (3666)، والحاكم (2/ 456). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 416) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح.

خامسا: زيارة القبور

خامساً: زيارة القبور قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح الأبيات الآتية من منظومة (سلم الوصول): فإنْ نَوَى الزَّائِرُ فيمَا أضمَرَهُ ... في نَفْسِهِ تَذْكِرَةً بالآخِرَهْ ثُمَّ الدُّعَا لَهُ ولِلأَمْوَاتِ ... بِالعَفْوِ والصفْحِ عَنِ الزَّلاَّتِ وَلَمْ يَكُنْ شَدَّ الرِّحَالِ نَحْوَها ... وَلَمْ يقُلْ هَجْراً كَقَوْلِ السُّفَهَا فَتِلْكَ سُنَّةٌ أتَتْ صَرِيحَهْ ... في السُّنَنِ المُثْبَتَة الصَّحِيحَهْ قال: زيارة القبور تأتي (على أقسام ثلاثة): زيارة سنيّة، وزيارة بدعية، وزيارة شركية ...

والبداءة بالشرعية لشرفها والندب إليها، ثم البدعية لكونها أخف جرماً من الشركية، ثم هي بعد ذلك. (فإن نوى الزائر) للقبور (فيما أضمره في نفسه) أي: كانت نيته بتلك الزيارة (تذكرة بالآخرة) أي ليتعظ بأهل القبور ويعتبر بمصارعهم إذ كانوا أحياء مثله يؤملون الآمال ويخولون الأموال، ويجولون في الأقطار بالأيام والليال، ويطمعون في البقاء ويستبعدون الارتحال، فبينما هم كذلك إذا بصارخ الموت قد نادى، فاستجابوا له على الرغم جماعات وفرادى، وأبادهم ملوكاً ونواباً وقواداً وأجناداً، وقدموا على ما قدَّموا غياً كان أو رشاداً، وصار لهم التراب لحفاً ومهاداً، بعد الغرف العالية التي كان عليها الحجاب أرصاداً، تساوى فيها صغيرهم وكبيرهم، وغنيهم وفقيرهم، وشريفهم وحقيرهم، ومأمورهم وأميرهم. اتفق ظاهر حالهم واتحد، ولا فرق للناظر إليهم يميز به أحداً من أحد. وأما باطناً فالله أكبر لو كشف للناظرين الحجاب، لرأوا من الفروق العجب العجاب، فهؤلاء لهم طوبى وحسن مآب، وأولئك في أسوأ حالة وأشد العذاب، فليعلم الواقف عليهم الناظر إليهم، أنه بهم ملتحق، ولإحدى الحالتين مستحق، فليتأهب لذلك، وليتب إلى العزيز المالك، وليلتجئ إليه من شر كل ما هنالك. (ثم) قصد أيضاً (الدعا) أي: دعاء الله عز وجل (له) أي لنفسه (وللأموات) من المسلمين (بالعفو) من الله عز وجل (والصفح عن الزلات) وكذا يدعو لسائر المسلمين بذلك (و) مع ذلك (لم يكن شد الرحال نحوها) الضمير للقبور لما في (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) (¬1). (ولم يقل هجراً) أي محظوراً شرعاً (كقول) بعض (السفها) لما في (السنن) من حديث بريدة قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً)) (¬2) (فتلك) الإشارة إلى النوع المذكور من الزيارة (سنة) طريقة نبوية (أتت صريحة) أي واضحة ظاهرة (في السنن) أي الأحاديث (المثبتة) في دواوين الإسلام (الصحيحة) سنداً ومتناً، منها: حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((وقد كنت نهيتك عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه فزوروها، فإنها تذكر الآخرة)) رواه الترمذي وصححه (¬3). وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: ((استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزورها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)) (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) رواه أحمد ومسلم والنسائي (¬5). ولأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها مثله وزاد: ((اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (1197)، ومسلم (827). (¬2) رواه النسائي (4/ 89)، وأحمد (5/ 361) (23102). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): حديث صحيح. (¬3) رواه الترمذي (1054). وقال: حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. وهو جزء من حديث رواه مسلم (1977). (¬4) رواه مسلم (976). (¬5) رواه مسلم (249)، والنسائي (150)، وأحمد (2/ 300) (7980). (¬6) رواه أحمد (6/ 71) (24469). قال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 222): حسن. قال شعيب الأرناؤوط محقق (المسند): إسناده ضعيف. وضعف هذه الزيادة الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)).

وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه (¬1)، زاد مسلم في رواية ((يرحم الله المتقدمين منا ومنكم والمتأخرين)) (¬2) ... وكذلك الأحاديث في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد كثيراً يدعو لهم ويترحم عليهم (¬3). وكان الصحابة إذا أتوا قبره صلى الله عليه وسلم صلوا وسلموا عليه فحسب، كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه)) (¬4). وكذا التابعون ومن بعدهم من أعلام الهدى ومصابيح الدجى لم يذكر عنهم في زيارة القبور غير العمل بهذه الأحاديث النبوية وأفعال الصحابة لم يعدلوا عنها ولم يستبدلوا بها غيرها بل وقفوا عندها، فهذه الزيارة الشرعية المستفادة من الأحاديث النبوية، وعليها درج الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، إنما فيها التذكر بالقبور والاعتبار بأهلها والدعاء لهم والترحم عليهم وسؤال الله العفو عنهم، فمن ادعى فيها غير هذا طولب بالبرهان، وأنى له ذلك ومن أين يطلبه؟ بل كذب وافترى، وقفا ما ليس له به علم. بلى إن العلوم الشرعية دالة على ضلاله وجهله معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 2/ 646 ¬

(¬1) رواه مسلم (975)، وابن ماجه (1547)، وأحمد (5/ 353) (23035). (¬2) رواه مسلم (974) من حديث عائشة رضي الله عنها. بلفظ: (ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين). (¬3) رواه مسلم (974). (¬4) رواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 576)، وابن أبي شيبة (3/ 28)، والبيهقي (5/ 245). وقال الألباني في ((فضل صلاة النبي)) (100): إسناده موقوف صحيح.

سادسا: حكم الدعاء عند القبور

سادساً: حكم الدعاء عند القبور قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح منظومة سلم الوصول: أو قصد الدعاء والتوسلا ... بهم إلى الرحمن جلّ وعلا فبدعة محدثة ضلالة ... بعيدة عن هدي ذي الرسالة أو قصد الدعاء من الصلاة وغيرها، أو الاعتكاف عند قبورهم أو نحو ذلك (والتوسلا) بألف الإطلاق (بهم) أي بأهل القبور (إلى الرحمن جل وعلا) عما ائتفكه أهل الزيغ والضلال (فبدعة محدثة) لم يأذن الله تعالى بها (ضلالة) كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم في روايةٍ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) (¬4) وغير ذلك. فإن من قال: اللهم إني أسألك بجاه فلان، وهو ميت أو غائب، وإن كان يرى أنه لم يدع إلا الله ولم يعبد سواه فهو قد عبد الله بغير ما شرع وابتدع في الدين ما ليس منه واعتدى في دُعائه ودعا الله بغير ما أمره أن يدعوه به، فإن الله تعالى إنما أمرنا أن ندعوه بأسمائه الحسنى كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ولم يشرع لنا أن ندعوه بشيء من خلقه البتة، بل قد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نقسم بشيء من المخلوقات مطلقاً فكيف بالإقسام بها على الله عز وجل. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – بتصرف – 2/ 650 ولهذا فإن الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين: أحدهما: أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق، لا لقصد الدعاء فيها، كمن يدعو الله في طريقه، ويتفق أن يمر بالقبور، أو كمن يزورها، فيسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة، فهذا ونحوه لا بأس به. الثاني: أن يتحرى الدعاء عندها، بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا النوع منهي عنه، إما نهي تحريم أو تنزيه، وهو إلى التحريم أقرب، والفرق بين البابين ظاهر. فإن الرجل لو كان يدعو الله، واجتاز في ممره بصنم، أو صليب، أو كنيسة، أو كان يدعو في بقعة، وهناك صليب هو عنه ذاهل، أو دخل كنيسة ليبيت فيها مبيتاً جائزاً، ودعا الله في الليل، أو بات في بيت بعض أصدقائه ودعا الله، لم يكن بهذا بأس. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 2/ 682 ¬

(¬1) رواه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) (17). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه مسلم (1718). ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7350) كتاب: الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ. من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. قال الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (1/ 160)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

سابعا: الكلام على الزيارة الشركية

سابعاً: الكلام على الزيارة الشركية قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح الأبيات الآتية من منظومة (سلم الوصول): وَإِنْ دَعَا الْمَقْبُورَ نَفْسَهُ فَقَدْ ... أَشْرَكَ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَجَحَدْ لَن يَقْبَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ ... صَرْفَاً ولاَ عَدْلاً فَيَعْفُوْ عَنْهُ ثُمَّ الدُّعَا لَهُ وَلِلأَمْوَاتِ ... بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الزَّلاَّتِ إِذْ كُلُّ ذَنْبٍ مُوشِكُ الْغُفْرَانِ ... إلاَّ اتِّخَاذَ النِّدِّ للرَّحْمَنِ

قال: (وإن دعا) الزائر (المقبور نفسه) من دون الله عز وجل وسأل منه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل من جلب خير أو دفع ضر أو شفاء مريض أو رد غائب أو نحو ذلك من قضاء الحوائج (فقد أشرك) في فعله ذلك (بالله العظيم) المتعالي عن الأضداد والأنداد والكفؤ والولي والشفيع بدون إذنه (وجحد) حق الله عز وجل على عباده وهو إفراده بالتوحيد وعبادته وحده لا شريك له ونفي ضد ذلك عنه، قال الله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال تعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ. وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس:106 - 107]، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5 - 6]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف:194] الآيات.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73] الآيات وقال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر/13] وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] الآيات، وغيرها ما لا يحصى يخبر الله تعالى أن من دعا مع الله إلهاً آخر ولو لحظة فقد كفر وإن مات على ذلك فلا فلاح له أبداً، ولو فعل ذلك نبيه لكان من الظالمين، وأنه لا كاشف للضر غيره ولا جالب للخير سواه، وأنه لا أضل ممن يدعو من دونه سواه، وأن من عبد من دون الله يكون عدواً لعابده يوم القيامة وكافراً بعبادته إياه من دون الله تعالى، وأنهم كلهم عباد مثل عابديهم مخلوقون مربوبون مملوكون تحت تصرف الله وقهره لا يستجيبون لمن دعاهم ولا يقدرون على استنقاذ ما استلبه الذباب فكيف يقدرون على قضاء شيء من حوائج عابديهم؟ بل قد أخبرنا عز وجل أنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو سمعوا دعاءه ما استجابوا له، وأخبرنا أن من عبدوهم من الصالحين كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم أنهم لا يملكونَ كشف ضر من دعاهم ولا تحويله من حال إلى حال، بل هم يبتغون الوسيلة إلى ربهم والقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، فينبغي للعباد الاقتداء بهم في ذلك الابتغاء والرجاء والخوف من الله عز وجل، لا دعاؤهم دونه، تعالى الله عما يشركون. (لا يقبل الله تعالى منه) أي من ذلك الداعي مع الله غيره المتخذ من دونه أولياء (صرفاً) أي نافلةً (ولا عدلاً) أي ولا فريضةً (فيعفو عنه) في ذلك لأن الكافر عمله لا شيء، قال الله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23] وقال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ [إبراهيم:18]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] الآيات، وقال تعالى لصفوة خلقه وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام: ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] وقال لسيدهم وخاتمهم وأكرمهم على ربه تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65]. (إذ) حرف تعليل (كل ذنب) لقي العبد ربه به (موشك الغفران) أي يرجى ويؤمل أن يغفر ويعفو عنه (إلا اتخاذ الند للرحمن) فإن ذلك لا يغفر ولا يخرج صاحبه من النار ولا يجد ريح الجنة، قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48] وقال تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:116] وقال تعالى: مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] وقال تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 2/ 656

المبحث الرابع: الغلو في الصالحين

المبحث الرابع: الغلو في الصالحين لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو على وجه العموم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) (¬1) وثبت أن الغلو في الصالحين كان هو أول وأعظم سبب أوقع بني آدم في الشرك الأكبر، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه أخبر عن أصنام قوم نوح أنها صارت في العرب، ثم قال: (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسخ العلم، عبدت) (¬2). ولذلك ينبغي للمسلم أن يحذر من التساهل في هذا الباب؛ لئلا يؤدي به أو يؤدي بمن يراه أو يقلده أو يأتي بعده إلى الوقوع في الشرك الأكبر. ومن أنواع الغلو المحرم في حق الصالحين والذي يوصل إلى الشرك: أولاً: المبالغة في مدحهم، كما يفعل كثير من الرافضة، وقلدهم في ذلك كثير من الصوفية، وقد أدت هذه المبالغة بكثير منهم في آخر الأمر إلى الوقوع في الشرك الأكبر في الربوبية، وذلك باعتقاد أن بعض الأولياء يتصرفون في الكون، وأنهم يسمعون كلام من دعاهم ولو من بعد، وأنهم يجيبون دعاءه، وأنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يعلمون الغيب، مع أنه ليس لديهم دليل واحد يتمسكون به في هذا الغلو، سوى أحاديث مكذوبة أو واهية ومنامات، وما يزعمونه من الكشف إما كذباً، وإما من أثر تلاعب الشيطان بهم، وقد أدى بهم هذا الغلو إلى الشرك في الألوهية أيضاً، فدعو الأموات من دون الله، واستغاثوا بهم، وهذا والعياذ بالله من أعظم الشرك. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه عليه الصلاة والسلام، فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، فإنما أنا عبد فقولون: عبد الله ورسوله)) (¬3)، رواه البخاري، وإذا كان هذا في حقه صلى الله عليه وسلم فغيره من البشر أولى أن لا يزاد في مدحهم، فمن زاد في مدحه صلى الله عليه وسلم أو في مدح غيره من البشر فقد عصى الله تعالى، ومن دعا إلى هذا الغلو وأصر عليه بعد علمه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد سنته صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس إلى عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام، وإلى اتباع وتقليد اليهود والنصارى في ضلالهم وغلوهم في أنبيائهم، والذي نهاهم الله تعالى عنه. والنبي صلى الله عليه وسلم له فضائل كبيرة ثابتة في كتاب الله تعالى وفي صحيح سنته عليه الصلاة والسلام، فهو عليه الصلاة والسلام ليس في حاجة إلى أن يكذب ويزور الناس له فضائل صلوات ربي وسلامه عليه. ثانياً: تصوير الأولياء والصالحين: من المعلوم أن أول شرك حدث في بني آدم سببه الغلو في الصالحين بتصويرهم، كما حصل من قوم نوح عليه السلام، ... ولخطر التصوير وعظم جرم فاعله وردت نصوص شرعية فيها تغليظ على المصورين، وتدل على تحريم التصوير لذوات الأرواح بجميع صوره وأشكاله. ومن النصوص الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)) (¬4) ¬

(¬1) [4157])) رواه النسائي (5/ 268) وأحمد (1/ 347) (3248) وابن حبان (9/ 183) والحاكم (1/ 637) وأبو يعلى (4/ 316) قال الحاكم حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, وصححه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/ 428) وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 85): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) رواه البخاري (4920). (¬3) رواه البخاري (3445) بلفظ (ابن مريم). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (5950)، ومسلم (2109).

رواه البخاري ومسلم، وروى البخاري ومسلم أيضاً عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه أتاه رجل فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم)) (¬1) وقال: إن كنت لابد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له. وثبت عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) (¬2). رواه مسلم ولذلك فإنه ينبغي للمسلم أن لا يتساهل في أمر التصوير بجميع أنواعه، سواء منه ما كان مجسماً، كالتماثيل وغيرها مما له ظل – وهو أشد حرمة وأعظم إثماً – أم ما كان على ورق, أو جدار, أو خرقة أو غيرها، ويعظم خطر التصوير إذا كان المصور من كبار أهل العلم، أو ممن لهم منزلة كبيرة في قلوب الناس. قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: (التصوير معناه نقل شكل الشيء وهيئته بواسطة الرسم أو الالتقاط بالآلة أو النحت، وإثبات هذا الشكل على لوحة, أو ورقة, أو تمثال، وكان العلماء يتعرضون للتصوير في مواضيع العقيدة؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك، وادعاء المشاركة لله بالخلق أو المحاولة لذلك، وأول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير ... فالتصوير هو منشأ الوثنية؛ لأن تصوير المخلوق تعظيم له، وتعلق به في الغالب، خصوصاً إذا كان المصور له شأن من سلطة, أو علم, أو صلاح، وخصوصاً إذا عظمت الصورة بنصبها على حائط, أو إقامتها في شارع أو ميدان، فإن ذلك يؤدي إلى التعلق بها من الجهال وأهل الضلال ولو بعد حين، ثم هذا فيه أيضاً فتح باب لنصب الأصنام والتماثيل التي تعبد من دون الله) (¬3). تسهيل العقيدة الإسلامية لعبد الله بن عبد العزيز الجبرين - بتصرف– ص: 275 ¬

(¬1) رواه مسلم (2110). (¬2) رواه مسلم (969). (¬3) ينظر كتاب ((الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد)).

المبحث الخامس: تقديس الأشخاص والأشياء

المبحث الخامس: تقديس الأشخاص والأشياء التقديس: هو التعظيم، ويستعمل عرفاً: فيما جاوز الحد المشروع. والأشياء: جمع شيء، والمراد به الأماكن, والأزمان, والاجتماعات. وغاية التعظيم وكماله لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، لما له من صفات العظمة ونعوت الجلال والكمال، فأسماؤه حسنى كما قال سبحانه: وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] وأفعاله كلها حكمة كما وصف نفسه فقال: فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [البروج: 16] وشرعه كله عدل كما قال جل شأنه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] ونعمه سابغة على عباده قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] فهو المستحق وحده لأعظم التقديس وتمامه، فهو المحمود على كل شيء لذاته، وأما غيره سبحانه فإنما يستحق من التعظيم بحسب ما له من مكانة عند الله، وبالطريقة التي شرعها الله لتعظيمه. وكل تعظيم خرج عن ذلك فهو تعظيم محرم لا يأذن به الله. وبناء على ذلك فإن تعظيم الأشخاص لا يكون إلا بمقدار موافقتهم لشرعه فيستحقون بذلك موالاة المؤمنين ومحبتهم واحترامهم هذا، والتعظيم بناء على ذلك على قسمين: 1 - تعظيم أذن الله به، وهو ما كان في حدود المشروع. 2 - تعظيم لم يأذن الله به، وهو ما جاوز المشروع وهو المسمى بالتقديس. وعليه فلا تقديس إلا لله وحده، وهو ما تقدم من غاية التعظيم كماله وتمامه وأعلاه. وبذا لا يكون صالحاً لسواه, ولا يوصف به أحد إلا إياه. ومن الأماكن, والأزمان, والاجتماعات ما جاءت الشريعة بتعظيمه, ورفعة مكانه ومكانته، وذلك بما شرعه الله فيها من العبادة التي يحبها ويرضاها، فيختص التعظيم بها دون سواها، وذلك كالكعبة المشرفة التي شرع تعظيمها بالطواف حولها عبادة لله، وبين الصفا والمروة التي شرع السعي بينهما عبادة لله، وعرفة التي شرع الله الوقوف فيه في يوم التاسع من ذي الحجة عبادة لله، والمسجد النبوي الذي شرع الله تعظيمه بعبادة الله فيه وزيادة الأجر لمن فعلها فيه، والمسجد الأقصى الذي شرع الله تعظيمه بزيادة ثواب العبادة فيه، ونحو ذلك. وهكذا فقد عظم الله أمر أيام الحج، وأيام التشريق، وشهر رمضان، والاثنين والخميس من كل أسبوع، والأمر نفسه في العيدين، والجمعة، والاجتماع لصلاة الخسوف, والكسوف, والاستسقاء، ونحو ذلك. فتعظيمها بما عظمها الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز ذلك؛ لأنه عبادة لله، والعبادات توقيفية على معنى أن لا يزاد فيها ولا ينقص إلا بدليل من الكتاب والسنة.

وأما ما عظم من الأماكن والأزمان والاجتماعات، كالقبور، وبعض الأيام كيوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره، والاجتماع فيه كالاحتفال بالإسراء والمعراج، وذكرى الهجرة النبوية، ونحو ذلك. فهي من البدع المنكرة المحرمة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وكل بدعة ضلالة)) ولو كان هذا الأمر مشروعاً لشرعه الله ورسوله، ولفعله من بعده من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فلما لم يكن شيء من ذلك دل على أنه ليس مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لاسيما وأن دين الله قد كمل وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترك شيئاً نافعاً، أو ضاراً في أمر الدين والدنيا إلا بينه وحث أمته عليه أو حذرهم منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزغ عنها إلا هالك)) (¬1). وقال سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3] , كما أنه لا يجوز شرعاً أن تشرع عبادات خاصة حتى بأيام أذن الله تعظيمها إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن تخص ليلة الجمعة بقيام, أو يومها بصيام)). ولأن تخصيص الأماكن والأيام والاجتماعات بذلك في كل عام أو نحوه من اتخاذها عيداً, والرسول صلى الله عليه وسلم نص على أن للمسلمين عيدين الفطر والأضحى، مما يدل على أنه لا عيد غيرهما، فمن اعتاد شيئاً في وقت معين يعظمه بالاجتماع، أو مكان معين، فقد اتخذه عيداً، وشرع ما لم يشرع الله. كما أنه تحرم موافقة أصحاب الملل الأخرى في أماكن عبادتهم, أو أيامها, أو اجتماعاتها؛ لأن في ذلك تشبهاً بهم. ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن هنا لما جاء الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مكان نذر الذبح فيه، سأله هل هو مكان لوثن من أوثان الجاهلية أو عيد من أعيادهم؟ فلما بين له الرجل أنه ليس كذلك أذن له، مما يدل على أنه إذا كان مكاناً لعباداتهم أو اجتماعاتهم فيحرم على المسلم موافقتهم فيه، كما أنه صلى الله عليه وسلم شرع صوم التاسع من محرم مع العاشر لما في تخصيصه من شبهة الموافقة لليهود. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 180 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (43) , وأحمد (4/ 126) (17182). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 68): إسناده حسن, وصححه الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/ 131) , والألباني في ((صحيح ابن ماجه)).

المبحث السادس: الأعياد والاحتفالات البدعية

المبحث السادس: الأعياد والاحتفالات البدعية الأعياد: جمع عيد، وهو اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد؛ إما يعود السنة، أو بعود الأسبوع, أو الشهر, أو نحو ذلك. فالعيد يجمع أموراً منها يوم عائد كيوم الفطر، ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات، وقد يختص العيد بمكان تعينه، وقد يكون مطلقاً، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً. فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة: ((إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً)) (¬1)، والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس رضي الله عنه: (شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬2). والمكان كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري عيداً)) (¬3). وقد يكون لفظ العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعهما يا أبا بكر إن لكل قوم عيد، وإن عيدنا هذا اليوم)) (¬4). وبناء على ذلك فلا يجوز لأحد أن يلازم الحفاوة والاحتفال بيوم من الأيام، أو مكان من الأماكن، أو اجتماع من الاجتماعات لم يرد الشرع باتخاذه عيداً سواء كان ذلك بتخصيصه بعبادة من العبادات، أو اجتماع من الاجتماعات، أو عادة من العادات، فإن قارنه الموافقة لأعداء الله من الكفار, والمشركين, وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كان الأمر أعظم حرمة وأشد خطراً، وذلك لما فيه من المشابهة الظاهرة بهم، والذي هو طريق للمشابهة في الباطن. ولذا لما طلب منه رجل أن يذبح في مكان سماه (بوانة) قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل بها عيد من أعيادهم)) (يريد اجتماعاً معتاداً من اجتماعاتهم التي عندهم عيداً) فلما قال: لا. قال له: ((أوف بنذرك)). وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر، كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظم الكلام, ولا حسن الاستفصال. ومعلوم أن ذلك لما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها، أو لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ونحو ذلك. إذ ليس الإمكان الفعل، أو نفس الفعل، أو زمانه. فيحرم الاحتفال بعيد الميلاد، سواء كان للمسيح أو للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وغيرهما من الناس، لما في ذلك من مشابهة اليهود والنصارى، وهكذا كل احتفال أو اجتماع يعتاد كل أسبوع, أو شهر, أو سنة، ولم يأت من الشرع ما يدل على إباحته كعيد رأس السنة، أو الاحتفال بالهجرة، أو الإسراء، أو ليلة النصف من شعبان. ¬

(¬1) رواه البيهقي في ((السنن) (3/ 243)، والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 372)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال البيهقي: مرسل وروي موصولا ولا يصح وصله. وقال أبو حاتم الرازي في ((العلل)) (1/ 399): وهم إنما يرويه مالك بإسناد مرسل. وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (11/ 211): [فيه] اضطراب عن يزيد بن سعيد ولا يصح من روايته في هذا الباب. (¬2) رواه البخاري (962) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) رواه أبو يعلى (1/ 361)، والضياء المقدسي في ((الأحاديث المختارة)) (428). قال ابن عبدالهادي المقدسي في ((الصارم المنكي)) (206): جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 6): رواه أبو يعلى، وفيه حفص بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات. وقال السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (313)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 33): حسن. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور، كما قال الحافظ في ((التقريب)) (1/ 700). (¬4) رواه البخاري (3931) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ومن ذلك ما ابتدع هذه الأزمان من الأعياد الوطنية، والاحتفال بعيد الشجرة، والاحتفال بالأيام المبتدعة كيوم الغذاء، ويوم الطفل، ونحو ذلك. ويدل على ما ذكرناه ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد)) (¬1) وتلك الأيام أيام منى. وفي رواية ((هذا عيدنا)) (¬2) وفي رواية ((وإن عيدنا هذا اليوم)) (¬3). ودلالته من وجهين: أولاً: قوله: ((فإن لكل قوم عيداً, وهذا عيدنا)) فهذا يقتضي أن لكل قوم عيداً يخصهم كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا. فأعياد اليهود والنصارى وسواهم أمر يخصهم دوننا فلا نشاركهم فيه, كما لا نشاركهم في دينهم. ثانياً: قوله: ((هذا عيدنا)) فمقتضى هذا اللفظ أن عيدنا يخصنا وليس لنا عيد سواه وقوله: ((وإن عيدنا هذا اليوم)) أضاف العيد إلى ((نا))، وعرف اليوم، والتعريف باللام والإضافة يفيد الاستغراق، فيقتضي هذا أن جنس عيدنا منحصر في هذا اليوم. ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬4). ولا شك أن هذه الأعياد والاجتماعات ليست من ديننا فهي مردودة أي: باطلة, فيحرم اعتيادها والاحتفاء بها. ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) (¬5) وهذه الأعياد والاحتفالات من البدع فهي ضلالة، فيحرم اعتيادها والعناية بأمرها. هذا، والأعياد إما مكانية, أو زمانية، أو اجتماعية. فأما الأعياد المكانية من جهة حكم الشرع فثلاثة أنواع: الأول: مالا خصوص له في الشريعة. الثاني: ماله خصوص لا يقتضي قصده للعبادة فيه. الثالث: ما تشرع العبادة فيه لكن لا يتخذ عيداً. فمثال الأول: عموم الأمكنة مما لا خصوصية له، ولا شرعت فيه العبادة، فلا يجوز تخصيصه، ولا قصده بعبادة، كالصحارى، وسائر الأمكنة مثلاً ما لم يكن عيداً لليهود والنصارى. ومثال الثاني: كقبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور وكشهر رجب. ومثال الثالث: كالصلاة في مسجد قباء فهي مشروعة، لكن لا يتخذ عيداً يقصد كل سنة، وكل شهر، ونحو ذلك. وهكذا ليلة النصف من شعبان، ثبوت فضلها لا يجوز اتخاذها عيداً يحتفل به كل سنة. وأما الأعياد الزمانية فهي أيضاً من جهة حكم الشرع ثلاثة أنواع: أحدها: يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً كأول خميس من رجب، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب. النوع الثاني: ما جرى فيه من الحوادث مالا يقتضي كونه موسماً كالثامن عشر من ذي الحجة المشهور بـ (غدير خم). النوع الثالث: ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، ويومي العيدين، نحوها. فالأول يحرم تخصيصه بشيء من العبادات أو الاحتفالات، وكذلك الحكم في النوع الثاني. وأما النوع الثالث فلا يتجاوز ما شرعه الله ورسوله فيه. هذا، وقد يصحب هذه الأعياد المكانية والزمانية من الاجتماعات البدعية ما يجعلها أعظم بدعة، وأغلظ حكماً؛ كمن يقصد القبور يوم العيد، والاجتماع عليها، والاحتفال عندها، أو يقصد المسجد الأقصى من أجل التبرك به، أو الطواف بجبل عرفات، ونحو ذلك من البدع المنكرة التي لم يأت بها دليل من الكتاب ولا من السنة النبوية. وأما الاجتماعات فهي من جهة حكم الشرع ثلاثة أنواع: ¬

(¬1) رواه البخاري (987) ومسلم (892) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري تعليقا بعد حديث رقم (986). (¬3) رواه البخاري (3931) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) (17). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. قال الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (1/ 160)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

الأول: ما لم يشرع أصلاً كالاجتماع للاحتفال بالمواليد. الثاني: ما شرع الاجتماع له كصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، ونحوها. الثالث: ما يحرم الاجتماع له كالاجتماع في المقابر, والأضرحة للصلاة المفروضة فيها، ودعاء أهلها، والطواف حولها. هذا، والواجب على المسلمين أن يحرصوا على تخليص دينهم من كل شائبة تكدر صفوه، أو تتسبب في تغييره؛ لأن الدين إذا كثرت فيه البدع تغيرت صورته، فصار مجموعة من الأعمال الخرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان. فإن لحفظ الدين جانبين: الأول: المحافظة عليه؛ وذلك بتعلم حقائقه، وتعليمها، ونشرها بين الناس حتى تكون معروفة مشهورة ظاهرة واضحة. الثاني: محاربة ما يكدر صفوه من المكفرات، والمبتدعات، والمعاصي التي تقضي على صفائه، وتكدر حقائقه، فتظهر مشوهة. وبذلك يفرح أعداؤه ويسر أدعياؤه. قال تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32]. ومما تقدم تبين أن الحكم العام لاتخاذ الأعياد والاحتفالات هو الحرمة المقتضية للبدعة؛ وأما كونها وسيلة من وسائل الشرك فذلك بين من جهتين: الأولى: لما في ذلك من المشابهة للكفار في الظاهر التي تؤدي للمشابهة في الباطن؛ لأن المشابهة بالكفار تدل على استحسان من الفاعل لفعلهم، والذي هو جزء من كفرهم, وشعائرهم الوثنية؛ ولذا استحق أن يحشر معهم. وفي رواية: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) (¬1). وهو نص صريح على أن التشبه في الظاهر مؤذن بالتشبه بهم في الباطن. الثانية: ما يشتمل عليه اتخاذ الأعياد والاحتفالات البدعية من مخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والحكم بغير ما أنزل الله. ففيه نوع من شرك الطاعة كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] أي: ديناً وشرعاً. وعلى هذا فهو إما وسيلة من وسائل الشرك الأكبر أو الأصغر، فإن اشتمل على عبادة غير الله فهو شرك أكبر، وإن اشتمل على ما دونه فهو شرك أصغر. والشرك الأكبر ينافي التوحيد، والشرك الأصغر ينافي كمال التوحيد. كما أن اتخاذ الاحتفالات والأعياد البدعية كبيرة من كبائر الذنوب، وهي مؤذنة بتغيير وجه الدين، الأمر الذي هو طريق للكفر الأكبر أو الكفر الأصغر؛ فإن اشتمل على ما به يكفر كفراً أكبر خرج من الملة، وإن اشتمل على ما به كفر أصغر لم يخرج عن الملة، واستحق المتلبس به الوعيد إذا مات ولم يتب منه. ومن هنا يتبين لنا الخطر المؤدي إلى زعزعة العقيدة الإسلامية في قلوب المسلمين عن طريق اتخاذ الأعياد, والاحتفالات البدعية. ولا يقال إننا نفعلها ولا نجد هذا، لأن الشرع ينزل مظنة الشيء منزلة الشيء نفسه، ويجعل وسائل الأشياء في الحكم كالذي تؤدي إليه، فما كان وسيلة للشرك أكبره أو أصغره ينزل منزلة الشرك نفسه أكبره أو أصغره. المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم بن محمد البريكان– ص: 186 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4031)، وأحمد (2/ 50) (5114). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 509)، والعراقي في ((المغني)) (1/ 359): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 282): ثابت [و] إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.

الفصل الرابع: حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد بتحريم وسائل الشرك وطرقه

الفصل الرابع: حماية النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد بتحريم وسائل الشرك وطرقه لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أمر التوحيد وحذر عن الشرك غاية التحذير، فكل أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك حماية لأمر التوحيد، ولكن المقصود بهذه المسألة هنا ما جاء عنه في التحذير وسده للطرق الموصلة للشرك، إذ به يتحقق الإنسان من معرفة الشرك فيحذره بالابتعاد عن وسائله، ولما خفي على كثير من الناس في الأزمنة المتأخرة هذا الأمر وقعوا في الشرك وإن زعموا أنه ليس بشرك. فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم المخلوق، إذ الغلو في تعظيمه يؤدي إلى استشعار القلب بالخوف والرهبة منه والرجاء فيه، فيصرف إليه عندئذ شيئاً من حقوق الله تعالى. فمن هذه الوسائل المنهي عنها: الأول (¬1): إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) (¬2). ¬

(¬1) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/ 675)، ومجلة البحوث الإسلامية – العدد: 20، (ص: 200)، بحث للشيخ صالح الفوزان. (¬2) رواه البخاري (3445). من حديث عمر رضي الله عنه.

الثاني (¬1): نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور وعن اتخاذها عيداً، وعن اتخاذها مساجد، فقال لما ذكرت له أم سلمة رضي الله عنها: أنها رأت كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الصور قال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) (¬2) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ليال: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)) (¬3). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (¬4). كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور كما قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) (¬5). وكذلك نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مسجد أو لا لقوله: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) (¬6). فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك الأمور كلها الدالة على تعظيم القبر لئلا يفضي ذلك إلى عبادتهم وطلب قضاء الحوائج من الموتى، ويدل على أن هذا هو المراد ما أشار به إلى صنيع الأمم السابقة، وكذلك لأن هذا هو أصل ابتداء الشرك في الناس كما تقدم (¬7). وقد قال ابن قدامة معللاً للنهي عن اتخاذ القبور مساجد ومصلى: (لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها) (¬8) اهـ. ¬

(¬1) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/ 77، 292، 295، 2/ 671 - 672)، و ((مجلة البحوث الإسلامية)) – العدد: 20، (ص: 200). بحث للشيخ صالح الفوزان. (¬2) رواه البخاري (434)، ومسلم (528). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه مسلم (532). من حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه. (¬4) رواه أبو داود (2042)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 491) (4162). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (892) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، والنووي في ((الأذكار)) (154). (¬5) رواه مسلم (970). (¬6) رواه مسلم (972). من حديث أبو مرثد الغنوي رضي الله عنه. (¬7) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 673 - 2/ 768). (¬8) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 193).

الثالث: النهي عن الوفاء بالنذر بالذبح لله تعالى في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية. فعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: ((نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيه عيد من أعيادهم. قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) (¬1). فقوله في آخر الحديث ((فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله)) يفيد أن الوفاء بالنذر في المكان الذي فيه أمر من أمور الجاهلية معصية لله، ففي هذا سد لذريعة الشرك وإبعاد للمسلمين عن التشبه بالمشركين في تعظيم أوثانهم (¬2). الرابع: النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها صيانة للصلاة وللمصلين المسلمين أن يشبهوا الكفار في سجودهم لها وعبادتهم لها وللشيطان. وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عمرو بن عبسة بقوله: ((صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ... (إلى أن قال): حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار)) (¬3). وهذا كله حماية للتوحيد. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى إساءة الظن برب العالمين وعدم تقديره حق قدره. ومن ذلك الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق، فعن قتيلة: ((أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون وتقولون: ما شاء الله وشئت وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت)) (¬4) اهـ. فجعل المخلوق مساوياً للخالق باللفظ في المشيئة أو التعظيم فيه إساءة ظن برب العالمين واستنقاص له، إذ هو المتعالي العظيم الذي له الخلق والأمر سبحانه. وإن هذه التسوية نهي عنها وإن لم يعتقد قائلها ذلك بقلبه، وقد تكون مثل هذه الألفاظ شركاً أكبر إذا قصدها قائلها بقلبه (¬5). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– 1/ 100 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3313)، والطبراني (2/ 75) (1342). والحديث سكت عنه أبو داود، واحتج به ابن حزم في ((المحلى)) (8/ 22)، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (741) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال النووي في ((المجموع)) (8/ 467): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 440 - 442). و ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 201). (¬3) رواه مسلم (832). (¬4) رواه النسائي (7/ 6) (3782). من حديث قتيلة بنت صيفي الجهني رضي الله عنها. قال ابن حجر في ((الإصابة)) (4/ 389): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬5) انظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 596 - 602).

الكتاب الثالث: الإيمان بالملائكة

تمهيد: الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان، والذي لا يصح إيمان عبد حتى يقر به، فيؤمن بوجودهم، وبما ورد في الكتاب والسنة من صفاتهم وأفعالهم. قال الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285]، وقال تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة: 98]. وقد حكم الله عز وجل بالكفر على من أنكر وجود الملائكة؛ ولم يؤمن بهم، فقال تبارك وتعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 136]. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 659

المبحث الأول: معنى الملائكة لغة

المبحث الأول: معنى الملائكة لغةً والملائكة لغة: جمع ملك، قال ابن فارس: (الميم واللام والكاف أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة) (¬1). والملك أصله (ملاك) نقلت حركة الهمزة فيه إلى الساكن قبله، ثم حذفت الألف تخفيفاً فصارت ملكاً، وهو مشتق من الألوكة والملأكة وهي: الرسالة، والملأك: الملك؛ لأنه يبلغ عن الله تعالى، يقال: ألك؛ أي تحمل الرسالة (¬2). قال الطبري رحمه الله: (فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة؛ لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده) (¬3). وإنما سميت الرسالة ألوكة ومألكة لأنها تؤلك في الفم، من قولهم: يألك اللجام ويعلكه (¬4). المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 659 ¬

(¬1) ((معجم مقاييس اللغة)) (5/ 351 - 352) مادة (ملك). (¬2) انظر: ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 132) مادة (ألك)، و ((المحيط في اللغة)) (6/ 275)، و ((المصباح المنير)) (1/ 23)، و ((القاموس المحيط)) (3/ 432 - 433)، مادة (ملك). (¬3) ((تفسير الطبري)) (1/ 261). (¬4) انظر: ((المحيط في اللغة)) (1/ 329)، ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 133) مادة (ألك).

المبحث الثاني: معنى الملائكة اصطلاحا

المبحث الثاني: معنى الملائكة اصطلاحاً الملائكة اصطلاحاً: خلق من خلق الله تعالى، خلقهم الله عز وجل من نور، مربوبون مسخرون، عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يوصوفون بالذكورة ولا بالأنوثة، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يملون ولا يتعبون ولا يتناكحون ولا يعلم عددهم إلا الله (¬1). وقد عرفها بعضهم بأنها: (أجسام نورانية، أعطيت قدرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى) (¬2). المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين - ص: 660 ¬

(¬1) انظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 447)، و ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 78)، و ((الإيمان)) لمحمد نعيم ياسين (ص: 32)، ((عالم الملائكة الأبرار)) لعمر سليمان الأشقر (ص: 13 وما بعدها). (¬2) انظر: ((فتح الباري)) (6/ 450)، ((روح المعاني)) للألوسي (1/ 218).

الفصل الثاني: معنى الإيمان بالملائكة وثمرات الإيمان بهم

المبحث الأول: معنى الإيمان بالملائكة الإيمان (بالملائكة) الذين هم عباد الله المكرمون والسفرة بينه تعالى: وبين رسله عليهم الصلاة والسلام (المرام) خَلقا وخُلقا والكرام على الله تعالى: (البررة) الطاهرين ذاتا وصفة وأفعالا المطيعين لله عز وجل خلقهم الله تعالى: من النور لعبادته ليسوا بناتا لله عز وجل ولا أولادا ولا شركاء معه ولا أندادا تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون والملحدون علوا كبيرا قال الله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون وَمَنْ يِقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نُجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين [الأنبياء:26 - 29]، وقال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُون وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون أصْطَفَى البَنَاتِ عَلَى البَنِين مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُون - إلى قوله: - وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومْ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُون [الصافات:151 - 166]، وقال الله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِين أَمْ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالبَنِين - إلى قوله – وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الذِّينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَنَكْتُبُ شَهَادَتَهُمْ وَيَسْأَلُون [الزخرف:15 - 19]، الآيات. وقال الله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَيَحْشُرْهُمْ إليه جَمِيعا [الأنبياء:172]، وقال الله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهَ لا يَسْتِكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُون يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتَرُون [الأنبياء:19 - 20]، وقال الله تعالى: الحَمْدُ لله فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةَ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شيء قَدِير [فاطر:1]، وقال الله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وَنَزَّلَ المَلائِكَةَ تَنْزِيلاً المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ للرَّحْمَن وقال الله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُورا [الفرقان:22]، وقال الله تعالى: إِنَّ الذِّينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون [الأعراف:206]، وقال الله تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَا [مريم:64] وقال الله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم جَمِيعاً ثُمَّ يقول للمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُون [سبأ:40] وقال الله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُواً لله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌ للكَافِرِين [البقرة:98] والآيات في ذكر الملائكة في القرآن كثيرة.

معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص808 والإيمان بالملائكة: هو الإيمان بوجودهم إيماناً جازماً لا يتطرق إليه شك، ولا ريب، قال الله تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، لقوله تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:136]. فأهل السنة والجماعة: يؤمنون بهم إجمالاً، وأما تفصيلاً فبمن صح به الدليل ممن سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كجبريل الموكل بالوحي، وميكائيل الموكل بالمطر، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، وملك الموت الموكل بقبض الأرواح، ومالك خازن النار. وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بوجودهم، وأنهم عباد مخلوقون، خلقهم الله تعالى: من نور، وهم ذوات حقيقية، وليسوا قوى خفية، وهم خلق من خلق الله تعالى. والملائكة خلقتهم عظيمة، منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك، وثبت أن جبريل - عليه السلام - له ستمائة جناح. وهم جند من جنود الله، قادرون على التمثل بأمثال الأشياء، والتشكل بأشكال جسمانية؛ حسبما تقتضيها الحالات التي يأذن بها الله سبحانه وتعالى وهم مقربون من الله ومكرمون. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة لعبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص131

المبحث الثاني: عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالملائكة

المبحث الثاني: عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالملائكة وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات:5]، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:4]. وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم. ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله للواحد القهار، وهم ينفذون أمره: لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون فهم عباد مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم، ولا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، الموكلون بالحياة، فجبرائيل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم. فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده، ينزلون الأمر من عنده في أقطار العالم، ويصعدون إليه بالأمر، قد أطت السماوات بهم، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم. والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم، فتارة يقرن الله تعالى: اسمه باسمهم، وصلاته بصلاتهم، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له، ومراتبهم من الدنو، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم، والتقريب والعلو والطهارة والقوة والإخلاص. قال تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْم [آل عمران:17]، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة الأحزاب:43]، الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [سورة غافر:7]، وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [سورة الزمر:75]، بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ [الأنبياء:26] إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206]، فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38] كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:11]، كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:16] يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:21]، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ [الصافات:8]، وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم. فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 2/ 405

المبحث الثالث: الملائكة مخلوقات قائمة بنفسها حية ناطقة

المبحث الثالث: الملائكة مخلوقات قائمة بنفسها حية ناطقة من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الملائكة مخلوقات قائمة بنفسها، خلقها الله عز وجل من نور، وأنها حية ناطقة تنزل وتصعد، وتجيء وتذهب، وتتكلم بتبليغ الوحي، وبغيره. فهي أعيان مخلوقة موجودة، وليست مجرد أعراض كما زعمت الفلاسفة. نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: قرر رحمه الله أن الملائكة من المخلوقات بقوله: (والملائكة من الأعيان لا من الأعراض، فهي من المخلوقات باتفاق المسلمين، وليس بين أهل الملل خلاف في أن الملائكة جميعهم مخلوقون، ولم يجعل أحد منهم المصنوعات نوعين: عالم خلق وعالم أمر، بل الجميع عندهم مخلوق، ومن قال: إن قوله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54] أريد به هذا التقسيم الذي ذكره، فقد خالف إجماع المسلمين) (¬1). وبين رحمه الله أن هذه المخلوقات موجودة في الحقيقة، وليسوا مجرد صفات أو أعراض، فقال: (فنقول إن المسلمين من أعظم الناس معرفة بوجود الملائكة والجن كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة) (¬2). وقرر أيضاً رحمه الله أن الملائكة أعيان قائمة بنفسها، حية وناطقة، خلافاً للفلاسفة ومن سار على نهجهم ممن يجعل الملائكة أعراضاً تقوم بالنفس، حيث قال: (ومعلوم أن الملائكة الذين وصفهم الله تعالى في الكتاب والسنة لا ينطبقون على هذه العقول العشرة والنفوس التسعة التي يذكرونها، ولهذا يؤول بهم الأمر إلى أن يجعلوا الملائكة والشياطين أعراضاً تقوم بالنفس؛ ليست أعياناً قائمة بنفسها حية ناطقة، ومعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما أخبرت به الرسل واتفق عليه المسلمون) (¬3). ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: الملائكة خلق من خلق الله عز وجل؛ خلقهم الله من نور، وعلى هذا تواترت أقوال السلف رحمهم الله تعالى من الصحابة والتابعين. فقد روى الإمام أبو سعيد الدارمي رحمه الله أن عمرو بن دينار رحمه الله قال: (أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق ... ) (¬4). وعقد الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه باباً بعنوان: (باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وهو الخالق المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه؛ فهو مفعول مخلوق مكون) (¬5). وقال الواحدي رحمه الله في قوله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54] قال: (يعني: أن جميع ما في العالم مخلوق له) (¬6). فيدخل في ذلك الملائكة بلا شك، إذ ليس هناك نص من القرآن الكريم، ولا من السنة الشريفة يخرج الملائكة عن هذا العموم، بل إن النصوص جاءت مقررة لكون الملائكة عليهم السلام مخلوقون مربوبون ... وقد ذكر الحليمي رحمه الله المعاني التي ينتظمها الإيمان بالملائكة، وذكر منها: (إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله وخلقه كالإنس والجن) (¬7). ¬

(¬1) ((بغية المرتاد)) (ص: 231، 232). (¬2) ((الجواب الصحيح)) (5/ 24 - 25). (¬3) ((بغية المرتاد)) (ص: 219) باختصار. (¬4) انظر: ((شذرات الذهب)) (2/ 176). (¬5) بعد رقم (7451). (¬6) ((الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)) (1/ 397). (¬7) ((المنهاج)) (2/ 256) بتحقيق أبو زيد بن محمد مكي.

وهذا ما قرره ابن حزم رحمه الله بقوله: (وإن الملائكة حق، وهم خلق من خلق الله عز وجل، مكرمون، كلهم رسل الله، قال الله تعالى: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ [الرعد: 23]، وقال تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ [الأنبياء: 26]، وقال تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ [فاطر: 1]) (¬1). وقال الطوفي رحمه الله: (وكذا الملائكة، فإن الشياطين خلقوا من نار، والملائكة من نور، كما صح في السنة النبوية) (¬2). وتواترت أقوال السلف أيضاً على أن الملائكة أحياء عقلاء ناطقون. قال القاضي عياض رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن الملائكة مؤمنون فضلاء، واتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه، وأنهم في حقوق الأنبياء، والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم) (¬3). وقال ابن حزم رحمه الله: (وقال بعض السخفاء: إن الملائكة بمنزلة الهواء والرياح. وهذا كذب وقحة وجنون؛ لأن الملائكة بنص القرآن والسنن وإجماع جميع من يقر بالملائكة من أهل الأديان المختلفة عقلاً متعبدون منهيون مأمورون، وليس كذلك الهواء والرياح، لكنها لا تعقل ولا هي متكلفة متعبدة؛ بل هي مسخرة مصرفة لا اختيار لها، قال تعالى: وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [البقرة: 164]) (¬4). ومن المعلوم ضرورة أن الإيمان والعقل والفضل لا يوصف به غير الأحياء، فظهر من كلام العلماء رحمهم الله أنهم مقرون لكون الملائكة من الأحياء. مستند الإجماع في المسألة: مما يستدل به على أن الملائكة مخلوقة عموم قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62]، وقوله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غافر: 62]. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خلقه) (¬5). ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا [فصلت: 12]. قال القرطبي رحمه الله: وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا قال قتادة والسدي: خلق فيها شمسها وقمرها، ونجومها وأفلاكها، وخلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها) (¬6). ومن الأدلة قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ [الشورى: 29]. قال مجاهد رحمه الله في قوله: وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ قال: (يدخل في هذا الملائكة والناس) (¬7). وقال ابن كثير رحمه الله: (وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات؛ على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء أقطار السماوات والأرض) (¬8). ومن أدلة السنة ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)) (¬9). فهذا نص صريح صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة مخلوقة، فلم يبق بعد ذلك لمخالف مقال. ¬

(¬1) ((المحلي)) (1/ 13). (¬2) ((الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية)) (1/ 409). (¬3) ((الشفا)) (2/ 174). (¬4) ((الفصل)) (36/ 196) باختصار. (¬5) ((الرسالة)) (ص: 54). (¬6) ((تفسير القرطبي)) (15/ 302). (¬7) ((تفسير الطبري)) م13 (26/ 40)، و ((تفسير القرطبي)) (16/ 28). (¬8) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 146). (¬9) رواه مسلم (2996).

أما الأدلة على أن الملائكة متصفون بالكلام فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن المحاورة التي جرت بينه عز وجل وبين ملائكته عليهم السلام فقال تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 30 - 32]. فأثبت الله عز وجل في هذه الآيات أنه كلم الملائكة عليهم السلام وكلموه. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أيضاً أن الملائكة عليهم السلام يكلم بعضهم بعضاً كما في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23]. وقد ذكر الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله أن هذه الآية فيها: (إثبات أن الملائكة يتكلمون ويفهمون ويعقلون لأنهم يسألون: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ويجابون: قال الْحَقَّ، خلافاً لمن قال: إنهم لا يوصفون بذلك؛ فيلزم من قولهم هذا أننا تلقينا الشريعة ممن لا عقول لهم، وهذا قدح في الشريعة بلا ريب) (¬1). وفي هذه الأدلة – التي تثبت صفة الكلام للملائكة عليهم السلام – دلالة أيضاً على أنهم أحياء. ومما يدل على ذلك أيضاً ما أخبر الله عز وجل عنهم من أنهم يصعدون وينزلون، كما في قوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4]، وقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4]. وغير الحي لا يمكن وصفه بذلك. أما من السنة فقد ثبت أن الملائكة عليهم السلام يتمثلون في صورة البشر، كما في حديث جبريل المشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينا نحن عند رسول الله ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ ... ). ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم)). (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)). (¬3). وهذا إثبات قاطع على أن الملائكة عليهم السلام أحياء، وأنهم يتكلمون. فظهر جلياً بما لا يدع مجالاً للشك – بجموع هذه الأدلة – أن الملائكة عليهم السلام خلق من خلق الله عز وجل، وهم أحياء ناطقون. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 664 ¬

(¬1) ((القول المفيد)) (1/ 411). (¬2) رواه مسلم (8). (¬3) رواه مسلم (2567).

المبحث الرابع: سجود الملائكة لآدم عليه السلام

المبحث الرابع: سجود الملائكة لآدم عليه السلام من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل لما أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام سجدوا له جميعاً بلا استثناء، ملائكة الأرض، وملائكة السماء، لقوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: 72]. (ومن قال إنه لم يسجد له جميع الملائكة بل ملائكة الأرض؛ فقد رد القرآن بالكذب والبهتان، وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى، وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة الذين يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل) (¬1). وكانت سجود الملائكة لآدم عليه السلام عبادة وطاعة لله، وقربة يتقربون بها إليه وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم (¬2) ... نقل شيخ الإسلام رحمه الله إجماع أهل الملل على سجود الملائكة لآدم عليه السلام وذلك في معرض رده على الفلاسفة الذين يزعمون أن الملائكة هي التي أبدعت جميع المصنوعات حيث قال: (ولأن ما اتفق عليه أهل الملل من أن الملائكة سجدوا لآدم عليه السلام يبطل قول هؤلاء: إن أضعف العقول – التي هي الملائكة عندهم – هو مبدع جميع البشر، ورب كل ما تحت فلك القمر) (¬3). وقد بين رحمه الله أن هذا السجود كان لآدم عليه السلام على الحقيقة فقال: (السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه بإجماع من يسمع قوله) (¬4). وذلك للرد على من زعم أن السجود كان لله، وإنما جعل آدم عليه السلام قبله للملائكة يسجدون إليه كما يسجد إلى الكعبة، وليس في هذا تفضيل له عليهم؛ كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند الله. ثم ذكر رحمه الله الأدلة على صحة ما ذهب إليه، وفساد قول هؤلاء وذلك من عدة وجوه: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى قال: اسْجُدُواْ لآدَمَ [البقرة: 34]، ولم يقل: إلى آدم. وكل حرف له معنى، ومن التمييز في اللسان أن يقال: سجدت له، وسجدت إليه، كما قال تعالى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37]، وقوله: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الرعد: 15]، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى عنزة، ولا يقال لعنزة، وإلى عمود وشجرة، ولا يقال لعمود، ولا لشجرة. والساجد للشيء يخضع له بقلبه، ويخشع له بفؤاده، وأما الساجد إليه فإنما يولي وجهه وبدنه إليه ظاهراً، كما يولي وجهه إلى بعض النواحي إذا أمه، كما قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144]. الثاني: أن آدم عليه السلام لو كان قبلة لم يمتنع إبليس من السجود، أو يزعم أنه خير منه، فإن القبلة قد تكون أحجاراً؛ وليس في ذلك تفضيل لها على المصلين إليها، وقد يصلي الرجل إلى عَنَزَة وبعير، وإلى رجل؛ ولا يتوهم أنه مفضل بذلك، فمن أي شيء فر الشيطان؟ هذا هو العجب العجيب. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 345، 346). (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) (1/ 301)، و ((الوسيط في تفسير القرآن المجيد)) للواحدي (1/ 119)، و ((تفسير البغوي)) (1/ 35). (¬3) ((بغية المرتاد)) (ص: 243). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 358).

الثالث: أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة واحدة؛ لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلاف كثيرة، إذ جعلت قبلة دائمة في جميع أنواع الصلوات، فهذه القصة الطويلة التي هي من أفضل النعم عليه، والتي رفعه الله بها، وامتن بها عليه؛ ليس فيها أكثر من أنه جعله كالكعبة في بعض الأوقات، مع أن بعض ما أوتيه من الإيمان والعلم، والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة؛ والكعبة إنما وضعت له ولذريته؛ أفيجعل من جسيم النعيم عليه أو يشبه به في شيء نزر قليل جداً؟. هذا مالا يقوله عاقل (¬1). وهذا السجود كان من جميع الملائكة؛ ملائكة السماء، وملائكة الأرض، وهذا ما قرره رحمه الله عندما سئل: هل سجد ملائكة السماء والأرض، أم ملائكة الأرض خاصة؟. فأجاب رحمه الله: (بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: 73]، فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم وللاستغراق؛ فإن قوله: الْمَلَائِكَةُ يقتضي جميع الملائكة؛ فإن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي العموم؛ فهو رب جميع الملائكة. الثاني: (كلهم) وهذا من أبلغ العموم، الثالث: قوله: أَجْمَعُونَ وهذا توكيد للعموم.) (¬2). ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: اتفقت كلمة العلماء رحمهم الله تعالى على أن الملائكة عليهم السلام سجدوا لآدم عليه السلام. والذي يدل على ذلك ما نقوله من الإجماع على أن سجود الملائكة لآدم عليه السلام لم يكن سجود عبادة. قال أبو بكر بن العربي رحمه الله: (اتفقت الأمة على أن السجود لآدم عليه السلام لم يكن سجود عبادة) (¬3). وقال الفخر الرازي رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة) (¬4). وقرر ذلك القرطبي رحمه الله بقوله: (واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة) (¬5). قلت: وفي إجماعهم على أن السجود لم يكن سجود عبادة، يؤخذ منه أنهم مجمعون على وقوع هذا السجود لآدم عليه السلام، وهو ما نقل عليه الإجماع شيخ الإسلام رحمه الله. وقد بين الطبري رحمه الله أن السجود وقع من جميع الملائكة لا من بعضهم حيث قال: ( ... فلما سوى الله خلق ذلك البشر وهو آدم، ونفخ فيه من روحه، سجد له الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: 73]، يعني بذلك الملائكة الذين هم في السموات والأرض) (¬6). وهذا السجود كان لآدم عليه السلام على الحقيقة، خلافاً لمن زعم أن السجود كان لله وإنما جعل آدم عليه السلام قبلة، فقد أخرج الطبري عن قتادة رحمهما الله في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [البقرة: 34] أنه قال: (فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته) (¬7). وقال البغوي رحمه الله: اسْجُدُواْ فيه قولان: الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة، وتضمن معنى الطاعة لله عز وجل بامتثال أمره، وكان ذلك سجود تعظيم وتحية لا سجود عبادة) (¬8). مستند الإجماع في المسألة: الأدلة على سجود الملائكة لآدم عليه السلام كثيرة، وقد ذكر المولى تبارك وتعالى ذلك في سبعة مواضع من الكتاب العزيز. قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]. ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 358، 359) بتصرف. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 345) باختصار. (¬3) ((أحكام القرآن)) (1/ 27). (¬4) ((التفسير الكبير)) (2/ 212). (¬5) ((تفسير القرطبي)) (1/ 333). (¬6) ((تفسير الطبري)) م12 (23/ 225). (¬7) ((تفسير الطبري)) م1 (1/ 301). (¬8) ((تفسير البغوي)) (1/ 35).

وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف: 11]. وقال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء: 61]. وقال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 50]. وقال الله عز وجل: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [طه: 116]. وقال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 28 - 30]. وقال المولى عز وجل: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: 71 - 73]. فهذه الأدلة جميعاً دلت دلالة قاطعة على أن الملائكة سجدوا لآدم عليه السلام على الحقيقة؛ امتثالاً وطاعة لربهم عز وجل. أما أدلة السنة على ذلك فما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى. قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض؟. فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاما. قال آدم: فهل وجدت فيها: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه: 121]؟. قال: نعم قال: أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى)). (¬1). والشاهد في قوله موسى عليه السلام: (وأسجد لك ملائكته). فهذا إثبات من موسى عليه السلام، وإقرار من محمد صلى الله عليه وسلم على سجود الملائكة لآدم عليه السلام. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، يأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ... )) (¬2). وفي هذا إثبات من النبي صلى الله عليه وسلم – الذي لا ينطق عن الهوى – على سجود الملائكة لآدم عليه السلام. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 672 ¬

(¬1) رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652). (¬2) رواه البخاري (4476)، ومسلم (193).

المبحث الخامس: ثمرات الإيمان بالملائكة

المبحث الخامس: ثمرات الإيمان بالملائكة قال ابن عثيمين: والإيمان بالملائكة يثمر ثمرات جليلة منها: الأولى: العلم بعظمة الله تعالى، وقوته، وسلطانه، فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق. الثانية: شكر الله تعالى على عنايته ببني آدم، حيث وكل من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم، وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم. الثالثة: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى مجموع فتاوى ابن عثيمين -6/ 89

الباب الثاني: صفات الملائكة الخلقية والخلقية وأقسامهم

المبحث الأول: مادة خلقهم ووقته إنّ المادة التي خلقوا منها هي النور؛ ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)) (¬1). ولم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي نور هذا الذي خلقوا منه، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نخوض في هذا الأمر لمزيد من التحديد؛ لأنه غيب لم يرد فيه ما يوضحه أكثر من هذا الحديث ... ولا ندري متى خُلقوا، فالله - سبحانه - لم يخبرنا بذلك، ولكننا نعلم أنّ خلقهم سابق على خلق آدم أبي البشر، فقد أخبرنا الله أنه أعلم ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، والمراد بالخليفة آدم عليه السلام، وأمرهم بالسجود له حين خلقه: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 29]. رؤية الملائكة: ولما كانت الملائكة أجساماً نورانية لطيفة، فإن العباد لا يستطيعون رؤيتهم، خاصة أن الله لم يعط أبصارنا القدرة على هذه الرؤية. ولم ير الملائكة في صورهم الحقيقية من هذه الأمة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلقه الله عليها، وقد دلت النصوص على أن البشر يستطيعون رؤية الملائكة، إذا تمثل الملائكة في صورة بشر. رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته الملائكية التي خلقه الله عليها مرتين، هما المذكورتان في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23]، وفي قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 13 - 15]، عندما عرج به إلى السموات العلا. وقد ورد في صحيح مسلم: ((أن عائشة رضي الله عنها سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن هاتين الآيتين فقال صلى الله عليه وسلم: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطاً من السماء، سادّاً عِظَمُ خَلْقه ما بين السماء إلى الأرض)) (¬2). (وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم: 8]، فقالت: إنما ذلك جبريل عليه السلام، كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته، التي هي صورته، فسدّ أفق السماء) (¬3). وورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح) (¬4). وقال ابن مسعود أيضاً في قوله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 18] (أي رفرفاً أخضر قد سدّ الأفق) (¬5). وهذا الرفرف الذي سدّ الأفق هو ما كان عليه جبريل، فقد ذكر ابن حجر أن النسائي والحاكم رويا من طريقهما عن ابن مسعود قال: (أبصر نبي الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض) (¬6) (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (2996). (¬2) رواه مسلم (177). (¬3) رواه مسلم (177). (¬4) رواه البخاري (4856)، ورواه مسلم (174). (¬5) رواه البخاري (3233). (¬6) رواه الترمذي (3283)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 473) (11541)، والحاكم (2/ 509). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 40): إسناده جيد قوي، وحسن إسناده ابن حجر في ((تحفة النبلاء)) (85). (¬7) ((فتح الباري)) (8/ 611).

وذكر ابن حجر أن ابن مسعود قال في رواية النسائي: (رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح قد سدّ الأفق) (¬1). وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سدّ الأفق. يسقط من جناحه التهاويل من الدرر واليواقيت) (¬2). قال ابن كثير في هذا الحديث: (إسناده جيد) (¬3). وقال في وصف جبريل: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21]، والمراد بالرسول الكريم هنا: جبريل، وذي العرش: رب العزة سبحانه. 2 - عِظم خلقة حَمَلة العرش: روى أبو داود عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أُذن لي أن أُحدِّث عن ملك من ملائكة الله، من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) (¬4). ورواه ابن أبي حاتم وقال: ((تخفق الطير)). قال محقق مشكاة المصابيح: (إسناده صحيح). وروى الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، رجلاه في الأرض السفلى، وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام، يقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت)) (¬5). عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص 9 ¬

(¬1) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 473) (11542)، ورواه أحمد (1/ 412) (3915)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (2/ 501) وأشار في المقدمة أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح. (¬2) رواه أحمد (1/ 395) (3748)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (2/ 505) وأشار في المقدمة أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 39): إسناده جيد قوي. (¬3) ((البداية والنهاية)) (1/ 39). (¬4) رواه أبو داود (4727)، وابن أبي حاتم (10/ 3209). وسكت عنه، وقال ابن كثير في تفسيره (8/ 212): وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/ 533): إسناده على شرط الصحيح. (¬5) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 314) (6503). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (853).

المبحث الثاني: أهم الصفات الخلقية

المطلب الأول: أجنحة الملائكة للملائكة أجنحة كما أخبرنا الله تعالى، فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، أو أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر: 1]. والمعنى أن الله جعلهم أصحاب أجنحة، بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة أو أربعة، أو أكثر من ذلك. عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص 12

المطلب الثاني: جمال الملائكة

المطلب الثاني: جمال الملائكة خلقهم الله على صور جميلة كريمة قال تعالى في جبريل: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم: 5 - 6]. قال ابن عباس: (ذُو مِرَّةٍ: ذو منظر حسن) (¬1)، وقال قتادة: (ذو خَلْقٍ طويل حسن) (¬2). وقيل: (ذُو مِرَّةٍ: ذو قوة) (¬3). ولا منافاة بين القولين، فهو قوي وحسن المنظر. وقد تقرر عند الناس وصف الملائكة بالجمال، كما تقرر عندهم وصف الشياطين بالقبح، ولذلك تراهم يشبهون الجميل من البشر بالملك، انظر إلى ما قالته النسوة في يوسف الصديق عندما رأينه: فلما رأينه أكبرنه وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملكٌ كريمٌ [يوسف: 31] عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 12 ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (22/ 499). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (22/ 499). (¬3) ((تفسير الطبري)) (22/ 499).

المطلب الثالث: تفاوتهم في الخلق والمقدار

المطلب الثالث: تفاوتهم في الخلق والمقدار الملائكة ليسوا على درجة واحدة في الخلق والمقدار، فبعض الملائكة له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وجبريل له ستمائة جناح، ولهم عند ربهم مقامات متفاوتة معلومة: وما منَّا إلاَّ له مقامٌ معلومٌ [الصافات: 164]. وقال في جبريل: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21]؛ أي له مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند الله. وأفضل الملائكة هم الذين شهدوا معركة بدر، ففي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع: ((أن جبريل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة)) (¬1). عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 13 ¬

(¬1) رواه البخاري (3992).

المطلب الرابع: لا يوصفون بالذكورة والأنوثة

المطلب الرابع: لا يوصفون بالذكورة والأنوثة من أسباب ضلال بني آدم في حديثهم عن عوالم الغيب أن بعضهم يحاول إخضاع هذه العوالم لمقاييسه البشرية الدنيوية، فنرى أحداً من هؤلاء يعجب في مقال له من أن جبريل كان يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ثوان من توجيه سؤال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى جواب من الله، فكيف يأتي بهذه السرعة الخارقة، والضوء يحتاج إلى ملايين السنوات الضوئية؛ ليصل إلى بعض الكواكب القريبة من السماء. وما درى هذا المسكين أن مثله كمثل بعوضة، تحاول أن تقيس سرعة الطائرة بمقياسها الخاص، لو تفكر في الأمر، لعلم أن عالم الملائكة له مقاييس تختلف تماماً عن مقاييسنا نحن البشر. ولقد ضلّ في هذا المجال مشركو العرب الذين كانوا يزعمون أن الملائكة إناث، واختلطت هذه المقولة المجافية للحقيقة عندهم بخرافة أعظم وأكبر؛ إذ زعموا أن هؤلاء الإناث بنات الله. وناقشهم القرآن في هاتين القضيتين، فبين أنهم - فيما ذهبوا إليه - لم يعتمدوا على دليل صحيح، وأن هذا القول قول متهافت، ومن عجب أنهم ينسبون لله البنات، وهم يكرهون البنات، وعندما يبشر أحدهم أنه رزق بنتاً يظل وجهه مسوداً وهو كظيم، وقد يتوارى من الناس خجلاً من سوء ما بُشر به، وقد يتعدى هذا المأفون طوره، فيدس هذه المولودة في التراب، ومع ذلك كله ينسبون لله الولد، ويزعمون أنهم إناث، وهكذا تنشأ الخرافة، وتتفرع في عقول الذين لا يتصلون بالنور الإلهي. استمع إلى الآيات التالية تحكي هذه الخرافة وتناقش أصحابها: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ [الصافات: 149 - 156]. وقد جعل الله قولهم هذا شهادة سيحاسبهم عليها، فإن من أعظم الذنوب القول على الله بغير علم: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون [الزخرف: 19]. عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 13

المطلب الخامس: لا يأكلون ولا يشربون

المطلب الخامس: لا يأكلون ولا يشربون وأنهم لا يحتاجون إلى طعام البشر وشرابهم، فقد أخبرنا الله أن الملائكة جاؤوا إبراهيم في صورة بشر، فقدّم لهم الطعام، فلم تمتد أيديهم إليه، فأوجس منهم خيفة، فكشفوا له عن حقيقتهم، فزال خوفه واستغرابه: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 24 - 28]. وفي آية أخرى قال: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70]. ونقل السيوطي عن الفخر الرازي: (أن العلماء اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون, ولا يشربون, ولا يتناكحون) (¬1). عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص 15 ¬

(¬1) ((تفسير الرازي)) (ص: 52)، و ((الحبائك في أخبار الملائك)) (ص: 64).

المطلب السادس: لا يملون ولا يتعبون

المطلب السادس: لا يملّون ولا يتعبون والملائكة يقومون بعبادة الله وطاعته وتنفيذ أوامره، بلا كلل ولا ملل، ولا يدركهم ما يدرك البشر من ذلك، قال تعالى في وصف الملائكة: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20]. ومعنى لا يفترون: لا يضعفون. وفي الآية الأخرى: فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38] تقول العرب: سئم الشيء، أي: ملّه. وقد استدل السيوطي بقوله: لا يَفْتُرُونَ على أن الملائكة لا ينامون، ونقله عن الفخر الرازي (¬1). عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 15 ¬

(¬1) ((تفسير الرازي)) (ص: 52)، و ((الحبائك في أخبار الملائك)) (ص: 64).

المطلب السابع: منازل الملائكة

المطلب السابع: منازل الملائكة منازل الملائكة ومساكنها السماء، كما قال تعالى: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5]. وقد وصفهم الله تعالى بأنهم عنده: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38]. وينزلون إلى الأرض بأمر الله لتنفيذ مهمات نيطت بهم، ووكلت إليهم: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: 64]. ويكثر نزولهم في مناسبات خاصة كليلة القدر: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 3 - 4]. عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 15

المطلب الثامن: أعداد الملائكة

المطلب الثامن: أعداد الملائكة الملائكة خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر: 31]. وإذا أردت أن تعلم كثرتهم، فاسمع ما قاله جبريل عن البيت المعمور، عندما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عنه عندما بلغه في الإسراء: ((هذا البيت المعمور يصلي فيه في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم)) (¬1). وفي صحيح مسلم عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) (¬2). فعلى ذلك فإن الذين يأتون بجهنم يوم القيامة أربعة مليارات وتسعمائة مليون ملك. وإذا تأملت النصوص الواردة في الملائكة التي تقوم على الإنسان علمت مدى كثرتهم، فهناك ملك موكل بالنطفة، وملكان لكتابة أعمال كل إنسان، وملائكة لحفظه، وقرين ملكي لهدايته وإرشاده ..... عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 16 ¬

(¬1) رواه البخاري (3207) واللفظ له، ومسلم (162). (¬2) رواه مسلم (2842).

المطلب التاسع: موت الملائكة

المطلب التاسع: موت الملائكة من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل قد كتب على جميع المخلوقات الفناء، وتفرد عز جاهه بالبقاء، وعلى هذا فهم يؤمنون بأن الملائكة عليهم السلام يجوز عليهم الموت، وأن الله قادر على ذلك. وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة، أتباع أرسطو وأمثالهم، ومن دخل معهم من المنتسبين إلى الإسلام ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال (¬1)، وأنكر ذلك أيضاً ابن حزم رحمه الله ... سئل – شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: هل جميع الخلق حتى الملائكة يموتون؟. فأجاب: (الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة، والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك، وقدرة الله عليه) (¬2) .... إن الله عز وجل قادر على أن يميت الملائكة، كما هو قادر على إماتة البشر، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27]. فقد روى البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، والصور قرن، فلا يبقى لله خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات؛ إلا من شاء ربك) (¬3). وأخرج الطبري رحمه الله بسنده عن قتادة أنه قال: (قوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ [الزمر: 68] قال الحسن: يستثني الله وما يدع أحداً من أهل السماوات ولا أهل الأرض إلا أذاقه الموت، قال قتادة: قد استثنى الله، والله أعلم إلى ما صارت ثنيته) (¬4). وقد بين الطبري رحمه الله أن قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ بمعنى: مات (¬5). والملائكة عليهم السلام من سكان السماوات؛ وبناء على ذلك فالآية تشملهم، فيموتون كما يموت الإنس والجن. وقال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء: 35] من سورة الأنبياء، قال: (يقول تعالى ذكره: كل نفس منفوسة من خلقه معالجة غصص الموت ومتجرعة كأسها) (¬6). وقد قرر ذلك الحليمي رحمه الله في كتابه (المنهاج) بقوله: (والإيمان بالملائكة ينتظم معاني – وذكر منها -: إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله وخلقه، كالإنس والجن، مأمورون مكلفون، لا يقدرون إلا على ما يقدرهم الله تعالى عليه، والموت جائز عليهم، ولكن الله تعالى جعل لهم أمداً بعيداً، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه) (¬7). ونقل عبد القاهر البغدادي رحمه الله الإجماع على جواز فناء العالم من طريق القدرة والإمكان فقال: (وأجمعوا أيضاً على جواز الفناء على العالم كله من طريق القدرة والإمكان، وإنما قالوا بتأبيد الجنة، وتأبيد جهنم وعذابها من طريق الشرع) (¬8). والملائكة عليهم السلام إنما هم جزء من هذا العالم الكبير الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وأوجده، وهو وحده القادر على فنائه وهلاكه؛ كما أخبرنا الله عز وجل في كتابه العزيز، فقال عز من قائل: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] .... ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 259) باختصار. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 259). (¬3) رواه ابن أبي شيبة (7/ 511) (37637). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 377): موقوف [و] إسناده قوي. (¬4) ((تفسير الطبري)) م12 (24/ 39). (¬5) ((تفسير الطبري)) م12 (24/ 37). (¬6) ((تفسير الطبري)) م10 (17/ 34). (¬7) (2/ 256) بتحقيق أبو زيد بن محمد مكي. (¬8) ((الفرق بين الفرق)) (ص: 290).

ومن الأدلة قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر: 68]. قال ابن كثير رحمه الله: (هذه النفخة هي الثانية وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله؛ كما جاء مصرحاً به مفسراً في حديث الصور المشهور، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء، ويقول: ((لمن الملك اليوم)) ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول: ((لله الواحد القهار)) (¬1). وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في المراد بالمستثنى في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر: 68] إلى أقوال كثيرة، وقد ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه (فتح الباري) بقوله: (وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال: الأول: أنهم الموتى كلهم لكونهم لا إحساس لهم فلا يصعقون، وإلى هذا جنح القرطبي في (المفهم) وفيه ما فيه، ومستنده أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، وتعقبه صاحبه القرطبي في (التذكرة) فقال: قد صح فيه حديث أبي هريرة. وفي الزهد لهناد بن السري عن سعيد بن جبير موقوفاً: (هم الشهداء)، وسنده إلى سعيد صحيح وهذا هو القول الثاني. الثالث: الأنبياء، وإلى ذلك جنح البيهقي في تأويل الحديث في تجويزه أن يكون موسى ممن استثنى الله، قال: ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا ثم لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار، وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله، فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع له في صعقة الطور. ثم ذكر أثر سعيد بن جبير في الشهداء وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه سأل جبريل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله عز وجل)) (¬2). صححه الحاكم ورواته ثقات ورجحه الطبري. الرابع: قال يحيى بن سلام في تفسيره: (بلغني أن آخر من يبقى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يموت الثلاثة ثم يقول الله لملك الموت مت فيموت. قلت: وجاء نحو هذا مسنداً في حديث أنس أخرجه البيهقي وابن مردويه بلفظ: (فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبريل وميكائيل وملك الموت) الحديث، وسنده ضعيف. وأخرج الطبري بسند صحيح عن إسماعيل ووصله إسماعيل بن أبي زياد الشامي في تفسيره عن ابن عباس مثل يحيى بن سلام ونحوه عن سعيد بن المسيب أخرجه الطبري وزاد (ليس فيهم حملة العرش لأنهم فوق السماوات). الخامس: يمكن أن يؤخذ مما في الرابع. السادس: الأربعة المذكورون وحملة العرش، وقع ذلك في حديث أبي هريرة الطويل المعروف بحديث الصور وقد تقدمت الإشارة إليه وأن سنده ضعيف مضطرب، وعن كعب الأحبار نحوه وقال: هم اثنا عشر، أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه البيهقي من طريق زيد بن أسلم مقطوعاً ورجاله ثقات. ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 81). (¬2) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (2/ 277) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في ((التلخيص)): صحيح على شرط البخاري ومسلم. وقال ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (29/ 617): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 378): رواته ثقات.

وجمع في حديث الصور بين هذا القول وبين القول أنهم الشهداء، ففيه ((فقال أبو هريرة رضي الله عنه: يا رسول الله فمن استثنى حين الفزع؟ قال: الشهداء)) ثم ذكر نفخة الصعق على ما تقدم. السابع: موسى عليه السلام وحده، أخرجه الطبري بسند ضعيف عن أنس وعن قتادة وذكره الثعلبي عن جابر. الثامن: الولدان الذين في الجنة والحور العين. التاسع: هم وخزان الجنة والنار وما فيها من الحيات والعقارب، حكاهما الثعلبي عن الضحاك بن مزاحم. العاشر: الملائكة كلهم، جزم به أبو محمد بن حزم في الملل والنحل فقال: الملائكة أرواح لا أرواح فيها، فلا يموتون أصلاً. وأما ما وقع عند الطبري بسند صحيح عن قتادة قال: قال الحسن: يستثني الله وما يدع أحدا إلا أذاقه الموت فيمكن أن يعد قولاً آخر. قال البيهقي: استضعف بعض أهل النظر أكثر هذه الأقوال لأن الاستثناء وقع من سكان السماوات والأرض وهؤلاء ليسوا من سكانها؛ لأن العرش فوق السماوات فحملته ليسوا من سكانها، وجبريل وميكائيل من الصافين حول العرش، ولأن الجنة فوق السماوات والجنة والنار عالمان بانفرادهما خلقتا للبقاء. ويدل على أن المستثنى غير الملائكة ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وصححه الحاكم من حديث لقيط بن عامر مطولاً وفيه: ((يلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من أحد إلا مات حتى الملائكة الذين مع ربك)) (¬1). ولعل الذي تطمئن إليه النفس من هذه الأقوال هو ما ذكره الحسن رحمه الله: من أن الله سبحانه وتعالى يستثني، وهو أعلم بما استثناه. فقد يتناول الاستثناء هذه الأقوال جميعاً، وقد يتناول غيرها، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله جل جلاله، فإنه عز وجل قد ذكر ذلك على سبيل الإطلاق (¬2). (ولا يصار إلى بيان المبهمات إلا بقاطع) (¬3)، فلا سبيل إلى العلم بذلك إلا عن طريق الخبر، إما من كتاب الله عز وجل، وإما عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وبكل حال: النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى عليه السلام، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه أم لا؟. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى الله؛ لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر، والله أعلم) (¬4). وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم أن الملائكة عليهم السلام يموتون كما يموت غيرهم من الجن والإنس، أما المستثنى فعلمه عند الله. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – بتصرف – ص: 693 ¬

(¬1) رواه أحد في ((المسند)) (4/ 12) (16251). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (5/ 72): غريب جدا وألفاظه في بعضها نكارة. وضعف إسناده الألباني في ((تخريج كتاب السنة)) (636). (¬2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 261). (¬3) ((تفسير القاسمي)) سورة الزمر 68. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 261).

المبحث الثالث: هل الجن من الملائكة

المبحث الثالث: هل الجن من الملائكة الجن ليسوا من الملائكة؛ لأن الملائكة خلقوا من نور, والجن خلقوا من نار قال الله - تعالى -: وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ [الحجر: 27]. وثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الملائكة خلقوا من نور؛ ولأن الملائكة كما وصفهم الله - تعالى - بقوله: عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 26 - 27]. والجن فيهم المؤمن والكافر والمطيع والعاصي قال الله - تعالى -: قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ [الأعراف:38]. وقال عن الجن: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 14 - 15]. وقال عنهم أيضًا: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]. ولأن الملائكة - كما قال أهل العلم - صمد لا يأكلون ولا يشربون، والجن يأكلون ويشربون، فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال للجن الذين وفدوا إليه: ((لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا)) فتبين بهذه الأدلة أن الملائكة ليسوا من الجن فأما قوله - تعالى -: فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ [الحجر: 30 - 31]. فإنما استثناه لأنه كان معهم حينذاك وليس منهم, ويبين ذلك قوله - تعالى - في سورة الكهف: فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50]. فعلل فسقه عن أمر ربه بكونه من الجن، ولو كان الملائكة من الجن لأمكن أن يفسقوا عن أمر ربهم كما فسق إبليس، وهذا الاستثناء يسمى استثناء منقطعًا كما يقول النحويون: (جاء القوم إلا حمارًا) (¬1) وهو كلام عربي فصيح، فاستثنى الحمار من القوم وإن لم يكن منهم. مجموع فتاوى ورسائل لابن عثيمين - 1/ 285 ¬

(¬1) ((التوقيف على مهمات التعاريف)) (ص: 654).

المبحث الرابع: هل إبليس من الملائكة

المبحث الرابع: هل إبليس من الملائكة إبليس ليس من الملائكة لأن إبليس خلق من نار والملائكة خلقت من نور، ولأن طبيعة إبليس غير طبيعة الملائكة، فالملائكة وصفهم الله - تعالى - بأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [الممتحنة: 6]. ووصفهم الله - تعالى - بقوله: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19 - 20].أما الشيطان فإنه على العكس من ذلك فإنه كان مستكبرًا كما قال - تعالى -: إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، [البقرة:34] ولكن لما وجه الخطاب إلى الملائكة بالسجود لآدم وكان إبليس من بينهم - أي معهم مشاركًا لهم في العبادة - وإن كان قلبه - والعياذ بالله - منطويًا على الكفر والاستكبار صار الخطاب متوجهًا إلى الجميع فلهذا صح استثناؤه منهم فقال - تعالى -: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ وإلا فأصله ليس منهم بلا شك كما قال - تعالى -: فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] .. والله أعلم. مجموع فتاوى ورسائل لابن عثيمين - 1/ 286

الفصل الثاني: الصفات الخلقية

المبحث الأول: الملائكة كرام بررة وصف الله الملائكة بأنهم كرام بررة: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 15 - 16]؛ أي القرآن بأيدي سفرة، أي: الملائكة؛ لأنهم سفراء الله إلى رسله وأنبيائه، قال البخاري: (سفرة: الملائكة واحدهم سافر، سفرتُ: أصلحت بينهم، وجعلت الملائكة - إذا نزلت بوحي الله تعالى وتأديته - كالسفير الذي يصلح بين القوم) (¬1). وقد وصف الله تعالى هؤلاء الملائكة بأنهم كِرَامٍ بَرَرَةٍ؛ أي: خلقهم كريم حسن شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة ظاهرة كاملة، ومن هنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد. روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام، ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران)) (¬2). استحياء الملائكة: من أخلاق الملائكة التي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بها: الحياء؛ ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عائشة: ((أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مضطجعاً في بيتها، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثمّ استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وسوّى ثيابه، فدخل، فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر، فلم تهتش له، ولم تُبَالهِ، ثم دخل عمر، فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان، فجلست، وسويت ثيابك، فقال: ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة)) (¬3). وقولها: لم تهتش له: الهشاشة والبشاشة: طلاقة الوجه، وحسن اللقاء. وقولها: لم تباله: لم تحتفل به (¬4). عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 19 ¬

(¬1) ((صحيح البخاري)) (6/ 216). (¬2) رواه البخاري (4937) واللفظ له، ومسلم (798). (¬3) رواه مسلم (2401). (¬4) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (15/ 168 - 169).

المبحث الثاني: قدراتهم

المبحث الثاني: قدراتهم أعطى الله الملائكة القدرة على أن يتشكلوا بغير أشكالهم، فقد أرسل الله جبريل إلى مريم في صورة بشر: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم: 16 - 19]. وإبراهيم - عليه السلام - جاءَته الملائكة في صورة بشر، ولم يعرف أنهم ملائكة حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم، وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 69 - 70]. وجاؤوا إلى لوط في صورة شباب حسان الوجوه، وضاق لوط بهم، وخشي عليهم قومه، فقد كانوا قوم سوء يفعلون السيئات، ويأتون الذكران من العالمين: وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: 77]. يقول ابن كثير) تبدى لهم الملائكة في صورة شباب حسان امتحاناً واختباراً, حتى قامت على قوم لوط الحجة، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ((¬1). وقد كان جبريل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة، فتارة يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي (صحابي كان جميل الصورة)، وتارة في صورة أعرابي. وقد شاهده كثير من الصحابة عندما كان يأتي كذلك. في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال: ((بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام)) (¬2). وفي الحديث أنه سأله عن الإيمان, والإحسان, والساعة وأماراتها. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد أن السائل جبريل، جاء يعلم الصحابة دينهم. ((ورأت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي يكلمه، فلما سألته عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل، وهو يقرئك السلام)) (¬3). وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأنه لما هاجر تائباً جاءه الموت في منتصف الطريق إلى الأرض التي هاجر إليها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فحكّموا فيه ملكاً جاءَهم في صورة آدمي، يقول عليه السلام: ((فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له)) (¬4)، ولا بدّ أنهم حكموه بأمر الله، فأرسل الله لهم هذا الملك في صورة آدمي، والقصة في صحيح مسلم، في باب التوبة. عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 20 ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (1/ 42). (¬2) رواه مسلم (8). (¬3) رواه أحمد (6/ 74) (24506). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3/ 105): إسناده حسن في الشواهد. (¬4) رواه مسلم (2766). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

المبحث الثالث: علمهم

المبحث الثالث: علمهم والملائكة عندهم علم وفير علّمهم الله إيّاه، ولكن ليس عندهم القدرة التي أعطيت للإنسان في التعرف على الأشياء: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 31 - 32]. فالإنسان يتميز بالقدرة على التعرف على الأشياء، واكتشاف سنن الكون، والملائكة يعلمون ذلك بالتلقي المباشر عن الله سبحانه وتعالى. ولكنّ الذي علمهم الله إياه أكثر مما يعرفه الإنسان، ومن العلم الذي أعطوه علم الكتابة: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12]. عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 22

المبحث الرابع: اختصام الملأ الأعلى

المبحث الرابع: اختصام الملأ الأعلى والملائكة تتحاور فيما بينها فيما خفي عليها من وحي ربها، ففي سنن الترمذي، ومسند أحمد عن ابن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني الليلة ربي - تبارك وتعالى - في أحسن صورة - قال: أحسبه قال: في المنام - فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا. قال: فوضع يده بين كتفيّ، حتى وجدت بردها بين ثدييّ، فعلمت ما في السموات، وما في الأرض. فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام. قال: صدقت، ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: يا محمد، إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبّ المساكين، وأن تغفر لي، وترحمني، وتتوب عليّ، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون)) (¬1). قال ابن كثير في هذا الحديث بعد ذكره له: (هذا حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة فقد غلط، وهو في السنن من طرق، وهذا الحديث رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به. وقال الحسن: صحيح، وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن في قوله: مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ [ص: 69 - 70]. فإن الاختصام المذكور في الحديث، قد فسره الرسول صلى الله عليه وسلم. والاختصام المذكور في القرآن فسرته الآيات بعده: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [ص: 71 - 74]. فالاختصام المذكور في القرآن كان في شأن آدم - عليه السلام - وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربّه في تفضيله عليه) (¬2). منظمون في كل شؤونهم: الملائكة منظمون في عبادتهم، وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بهم في ذلك فقال: ((ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟. قالوا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف، ويتراصون في الصف)) (¬3). وفي يوم القيامة يأتون صفوفاً منتظمة: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، ويقفون صفوفاً بين يدي الله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38]، والروح: جبريل. وانظر إلى دقة تنفيذهم للأوامر، ففي صحيح مسلم، ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)) (¬4) .. عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص: 23 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3233، 3234)، وأحمد (1/ 368) (3484)، وأبو يعلى (4/ 475)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (293) بلفظ: ((ثديي)) بدلاً من ((صدري)). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 162): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 81). (¬3) رواه مسلم (430). من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (197)، وأحمد (3/ 136) (12420).

المبحث الخامس: عبادة الملائكة

المبحث الخامس: عبادة الملائكة الملائكة مطبوعون على طاعة الله، ليس لديهم القدرة على العصيان: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. فتركهم للمعصية، وفعلهم للطاعة جبلّة، لا يكلفهم أدنى مجاهدة؛ لأنه لا شهوة لهم. ولعلّ هذا هو السبب الذي دعا فريقاً من العلماء إلى القول: إن الملائكة ليسوا بمكلفين، وإنهم ليسوا بداخلين في الوعد والوعيد (¬1). ويمكن أن نقول: إن الملائكة ليسوا بمكلفين بالتكاليف نفسها التي كلف بها أبناء آدم. أما القول بعدم تكليفهم مطلقاً، فهو قول مردود، فهم مأمورون بالعبادة والطاعة: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50]. وفي الآية أنهم يخافون ربهم، والخوف نوع من التكاليف الشرعية، بل هو من أعلى أنواع العبودية، كما قال فيهم: وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28]. مكانة الملائكة: خير ما يوصف به الملائكة أنهم عباد الله، ولكنهم عباد مكرمون، وقد سبق أن أشرنا إلى أن دعوى المشركين في أنّ الملائكة - بنات الله - دعوى باطلة، لا نصيب لها من الصحة، وقد أكذب الله القائلين بهذا القول، وبين حقيقة الملائكة ومكانتهم في أكثر من موضع، قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 26 - 29]. الملائكة عباد يتصفون بكل صفات العبودية، قائمون بالخدمة، منفذون للتعاليم، وعلم الله بهم محيط، لا يستطيعون أن يتجاوزوا الأوامر، ولا أن يخالفوا التعليمات الملقاة إليهم، خائفون وجلون ... ومن تمام عبودية الملائكة أنهم لا يتقدمون بين يدي ربهم مقترحين، ولا يعترضون على ما أمر من أوامره، بل هم عاملون بأمره، مسارعون مجيبون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 27]، وهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به، فالأمر يحركهم، والأمر يوقفهم، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟ قال: فنزلت: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64])) (¬2). نماذج من عبادتهم: الملائكة عباد الله، مكلفون بطاعته، وهم يقومون بالعبادة والتكاليف بيسر وسهولة. وسنورد - هنا - بعض العبادات التي حدثنا الله، أو رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم يقومون بها. 1 - التسبيح: الملائكة يذكرون الله تعالى، وأعظم ذكره التسبيح، يسبحه تعالى حملة عرشه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر: 7]، كما يسبحه عموم ملائكته: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5]. وتسبيحهم لله دائم لا ينقطع، لا في الليل، ولا في النهار: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20]. ولكثرة تسبيحهم فإنهم هم المسبِّحون في الحقيقة، وحق لهم أن يفخروا بذلك: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات: 165 - 166]. ¬

(¬1) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 409). (¬2) رواه البخاري (3218).

وما كثرة تسبيحهم إلا لأن التسبيح أفضل الذكر، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر، قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده)) (¬1). 2 - الاصطفاف: ... ذكر الحديث الذي يحث الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أصحابه على الاقتداء بالملائكة في الاصطفاف للصلاة: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟. وعندما سئل عن كيفية اصطفافهم قال: يتمون الصفوف، ويتراصون في الصف)). رواه مسلم (¬2). وفي القرآن عن الملائكة: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات: 165]. وهم يقومون، ويركعون، ويسجدون، ففي مشكل الآثار للطحاوي، وفي المعجم الكبير للطبراني عن حكيم بن حزام قال: ((بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا عليه ملك ساجد أو قائم)) (¬3). 3 - الحج: للملائكة كعبة في السماء السابعة يحجون إليها، هذه الكعبة هي التي أسماها الله تعالى: البيت المعمور، وأقسم به في سورة الطور: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور: 4]. قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: (ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء، بعد مجاوزته السماء السابعة: ((ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً، لا يعودون إليه آخر ما عليهم)) (¬4)؛ يعني يتعبدون فيه، ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، والبيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة، ولهذا وَجَد إبراهيمَ الخليل - عليه الصلاة والسلام - مسنداً ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل). وذكر ابن كثير أن البيت المعمور بحيال الكعبة، أي فوقها، لو وقع لوقع عليها، وذكر أن في كل سماء بيتاً يتعبد فيه أهلها، ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له: بيت العزة (¬5). وهذا الذي ذكره ابن كثير من أن البيت المعمور بحيال الكعبة مروي عن علي بن أبي طالب، أخرج ابن جرير من طريق خالد بن عرعرة: (أن رجلاً قال لعلي - رضي الله عنه-: ما البيت المعمور؟ قال: بيت في السماء بحيال البيت، حرمة هذا في السماء كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون إليه) (¬6). قال فيه الشيخ ناصر الدين الألباني: (ورجاله ثقات غير خالد بن عرعرة, وهو مستور ... ثم ذكر أن له شاهداً مرسلاً صحيحاً من رواية قتادة، قال: ذكر لنا ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه مسجد في السماء، تحته الكعبة، لو خرّ لخر عليها ... )) (¬7)). ثم قال المحقق - الألباني -: (وجملة القول أن هذه الزيادة ((حيال الكعبة)) ثابتة بمجموع طرقها) (¬8). 4 - خوفهم من الله وخشيتهم له: ولما كانت معرفة الملائكة بربهم كبيرة، كان تعظيمهم له، وخشيتهم له عظيمة، قال الله فيهم: وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28]. ويبين شدة خوفهم من ربهم ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان)). قال علي، وقال غيره: (صفوان ينفذهم ذلك. فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير) (¬9). وفي معجم الطبراني الأوسط بإسناد حسن عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مررت ليلة أُسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى)) (¬10). عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص 29 ¬

(¬1) رواه مسلم (2731). (¬2) رواه مسلم (430). من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه. (¬3) رواه الطحاوي (3/ 167)، والطبراني (3/ 201)، والمروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 258)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (1/ 202)، وأبو الشيخ في ((العظمة)) (3/ 986). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1060): إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. (¬4) رواه البخاري (3207)، ومسلم (162). من حديث صعصعة بن مالك رضي الله عنه. بلفظ: (( ... فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم ... )). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 429). (¬6) رواه الطبري في تفسيره (22/ 455). (¬7) رواه الطبري في تفسيره (22/ 456). (¬8) ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/ 476). (¬9) [4286])) رواه البخاري (4701). (¬10) [4287])) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5/ 64) (4679)، وابن أبي عاصم (621). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 83): رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر في ((الكافي الشاف)) (187): مرفوع وإسناده قوي، وصحح إسناده السيوطي في ((الخصائص الكبرى)) (1/ 158).

الفصل الثالث: أقسام الملائكة

تمهيد: هم بالنسبة إلى ما هيأهم الله تعالى له ووكلهم به على أقسام

المبحث الأول: الموكل بالوحي

المبحث الأول: الموكل بالوحي فمنهم الموكلُ بالوحي من الله تعالى: إلى رسله عليهم الصلاة والسلام، وهو الروح الأمين جبريل عليه السلام، قال الله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:97]، وقال الله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ [النحل:102]، وقال تعالى: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:4 - 9] وهذا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في الأبطح حين تجلى له على صورته التي خلق عليها، له ستمائة جناح قد سد عظم خلقه الأفق، ثم رآه ليلة المعراج أيضاً في السماء كما قال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13 - 15]، ولم يره صلى الله عليه وسلم في صورته إلا هاتين المرتين، وبقية الأوقات في صورة رجل، وغالباً في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه. وقال تعالى: فيه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:19 - 23] الآيات، وقال تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] ... معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 810

المبحث الثاني: الموكل بالصور

المبحث الثاني: الموكل بالصُّور ومنهم الموكل بالصُّور وهو إسرافيل عليه السلام، ينفخ فيه ثلاث نفخات بأمر ربه عز وجل: الأولى: نفخة الفزع. والثانية: نفخة الصعق. والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين ... ولأحمد والترمذي من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له. قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)) (¬1). وهؤلاء الثلاثة من الملائكة هم الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه من صلاة الليل: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (¬2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 812 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2431)، وأحمد (3/ 7) (11053). وقال الترمذي: هذا حديث حسن. ووافقه البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 470)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه مسلم (770). من حديث عائشة رضي الله عنها.

المبحث الثالث: الموكل بقبض الأرواح

المبحث الثالث: الموكل بقبض الأرواح ومنهم الموكل بقبض الأرواح (ملك الموت) قال الله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:61]، وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال:50]، وقال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ - إلى قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 28 - 32] وغيرها من الآيات. وقد جاء في الأحاديث أن أعوانه يأتون العبد بحسب عمله، إن كان محسناً ففي أحسن هيئة وأجمل صورة بأعظم بشارة، وإن كان مسيئاً ففي أشنع هيئة وأفظع منظر بأغلظ وعيد، ثم يسوقون الروح حتى إذا بلغت الحلقوم قبضها ملك الموت فلا يدعونها في يده بل يضعونها في أكفان وحنوط يليق بها كما قال تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:83 - 96] معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 813

المبحث الرابع: الموكل بحفظ العبد في حله وارتحاله

المبحث الرابع: الموكل بحفظ العبد في حِلّه وارتحاله ومنهم الموكل بحفظ العبد في حِلّه وارتحاله وفي نومه ويقظته وفي كل حالاته، وهم المعقبات قال الله تعالى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:10 - 11]، وقال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء:42]، وقال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام:61]. قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية الأولى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]: والمعقبات من الله هم الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله تعالى: خلوا عنه (¬1). وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكّل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه إلاّ قال له الملك وراءك، إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه (¬2). وقال تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء:42] قال ابن كثير: أي بدل الرحمن، يمتنُّ سبحانه وتعالى بنعمته على عبيده وحفظه لهم بالليل والنهار وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام. اهـ. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 814 ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (16/ 371). (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (16/ 373).

المبحث الخامس: الموكل بحفظ عمل العبد من خير وشر

المبحث الخامس: الموكل بحفظ عمل العبد من خير وشر ومنهم الموكل بحفظ عمل العبد من خير وشر، وهم الكرام الكاتبون وهؤلاء يشملهم مع ما قبلهم قوله عز وجل: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام:61]، وقال تعالى: فيهم: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]، وقال تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]؛ فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات. وقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10]، عن علقمة عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الرجل ليتكلمُ بالكلمة مِنْ رضوانِ الله تعالى: ما يظنُّ أَنْ تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانَهُ إلى يومِ يلقاه. وإِنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى: ما يظُنُّ أَنْ تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى: عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه)) فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال من الحارث، ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي: حسن صحيح (¬1). وفي (الصحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الله تعالى: تجاوز لي عَنْ أُمَّتي ما حدَّثت به أَنْفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)) (¬2) وفي رواية ((ما لم تعمل أو تكلم به)) (¬3) وفيه عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة, وإِذَا همَّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حَسنة، فإِن عملها فاكتبوها عشراً)) (¬4) وفي روايةٍ: ((قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بحسنةٍ فلم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف, وإذا هَمَّ بسيئةٍ ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإِن عملها كتبتها سيئة واحدة)) (¬5). وفي أخرى: ((قال الله عز وجل: إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنةً ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها. وإذا تحدث بأنْ يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها)) (¬6). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قالت الملائكة رَبِّ ذاك عبدُك يريدُ أن يعمل سيئة - وهو تعالى: أبْصرُ به - فقال ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإِن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرّاي)) (¬7). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحسن أحدُكُم إسلامه فكُلُّ حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل)) (¬8)، ¬

(¬1) رواه الترمذي (2319)، وابن ماجه (3969)، وأحمد (3/ 469) (8392)، والحاكم (1/ 106). قال الترمذي: حسن صحيح. ووافقه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (210). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح. ووافقه الذهبي. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 337)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه مسلم (127) (201). (¬3) رواه البخاري (5269)، ومسلم (127) (202)، واللفظ له. (¬4) رواه البخاري (7501) بلفظ: (إذا أراد)، ومسلم (128) (203). (¬5) رواه مسلم (128) (204). (¬6) رواه مسلم (129). (¬7) رواه مسلم (129). (¬8) رواه البخاري (42)، ومسلم (129) ..

وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إنَّ الله تبارك وتعالى كتب الحسنات والسيئات ثم بَيَّنَ ذلك، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة – زاد في رواية: - أو محاها الله. ولا يهلك على الله إلا هالك)) (¬1). وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: وتلا هذه الآية عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد [ق:17]: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأمَّا الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14]، ثم يقول: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك. اهـ. ويناسب ذكر المعقبات والحفظة ما روى البخاري رحمه الله تعالى: في باب: قول الله عز وجل: تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليه [المعارج:4] قال: حدَّثنا إسماعيلُ حدثني مالكٌ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنَّهار، ويجتمعون في صلاةِ العصرِ وصلاة الفجر، ثم يعرُجُ الذين باتوا فيكُم فيسألُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بهم فيقول: كيفَ تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وَهُمْ يُصَلُّون وأتيناهم وهُمْ يُصَلُّون)) ورواه مسلم أيضاً (¬2). وفيهما عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((قام فينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: إِنَّ الله لا ينامُ ولا ينبغي لهُ أْن ينام، يحفظُ القسط ويرفعه، يرفعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النَّهار قبل عمل الليل)) (¬3) ... والأحاديث في ذكر الحفظة كثيرة. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 814 ¬

(¬1) رواه البخاري (6491)، ومسلم (131) واللفظ له. (¬2) رواه البخاري (555)، ومسلم (632). (¬3) رواه مسلم (179).

المبحث السادس: الموكل بفتنة القبر

المبحث السادس: الموكل بفتنة القبر وللناس في سؤال منكر ونكير: هل هو خاص بهذه الأمة أم لا ثلاثة أقوال: الثالث: التوقف، وهو قول جماعة، منهم: أبو عمر بن عبد البر، فقال: وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها)) (¬1) منهم من يرويه: تُسأل (¬2)، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة قد خصت بذلك، وهذا أمر لا يقطع به، ويظهر عدم الاختصاص، والله أعلم (¬3). شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 2/ 581 منكر ونكير هما ملكان جاء وصفهما في السنة بأنهما سود الوجوه وزرق العيون، يأتيان العبد في قبره فيقعدانه ويسألانه من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينعم في قبره. وأما الكافر فلا يحار جوابا، فيضرب بمرزبة من حديد يصيح منها صيحة يسمعها كل من يليه إلا الثقلين. ومن الأحاديث الواردة في هذا: ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قبر الميت - أو قال: أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبدالله ورسوله. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا ... )) (¬4) تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي لعبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر - ص289 ¬

(¬1) رواه مسلم (2867). (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (16/ 600 - 601) عن الربيع، وأبي قتادة، وغيرهما. وعزاه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (22/ 254) لابن أبي شيبة، وقال: وقال ابن أبي شيبة: تُسأل في قبورها. ولم أجده في ((مصنفه)) إنما روى الحديث (3/ 50) كما بـ ((صحيح مسلم)) - حيث رواه مسلم من طريق ابن أبي شيبة أصلاً - ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ... )). (¬3) انظر: ((التمهيد)) (22/ 253). (¬4) رواه الترمذي (1071)، وابن أبي عاصم في (السنة) (864). قال الترمذي: حسن غريب. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 115) - كما أشار إلى ذلك في المقدمة -. وكذلك الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

المبحث السابع: خزنة الجنة

المبحث السابع: خزنة الجنة ومنهم خزنة الجنة ومقدمهم رضوان عليهم السلام قال الله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، وقال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23]. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 818

المبحث الثامن: المبشرون للمؤمنين عند وفياتهم، وفي يوم القيامة

المبحث الثامن: المبشرون للمؤمنين عند وفياتهم، وفي يوم القيامة ومنهم المبشرون للمؤمنين عند وفياتهم، وفي يوم القيامة كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30 – 32]، وقال تعالى: فيهم لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103] معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 814

المبحث التاسع: خزنة جهنم

المبحث التاسع: خزنة جهنم ومنهم خزنة جهنم عياذاً بالله منها، وهم الزبانية ورؤساؤهم تسعة عشر، ومقدمهم مالك عليهم السلام. قال الله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتَّى إِذَا جَاؤُها فُتِحَتْ أبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الزمر:71] الآيات، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [غافر:49]، فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:17 - 18]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وقال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً [المدثر:27 - 31]، وقال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، وفي (صحيح مسلم): ((يُؤتى بجهنَّم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، كُل زمام في يد سبعين ألف مَلكٍ يَجرُونها)) (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - 2 819 ¬

(¬1) رواه مسلم (2842). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

المبحث العاشر: الموكلون بالنطفة في الرحم

المبحث العاشر: الموكلون بالنطفة في الرحم ومنهم الموكلون بالنطفة في الرحم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((حدثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أَنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمِّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكونُ علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)) (¬1) الحديث. وفي بابه من الأحاديث كثير، وفيها ((أن الملك يقول يا رب مخلَّقة أو غير مخلَّقة؟ أو توأم؟ ذكر أم أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الرزق وما الأجل؟ فيقضي الله تعالى: ما يشاء. فيكتب الملك كما أمره الله عز وجل فلا يغير ولا يبدل)) (¬2) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 819 ¬

(¬1) رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) من حديث أبي ذر مرفوعاً (10/ 3358) بدون (مخلَّقة أو غير مخلَّقة؟ أو توأم) ورواه الطبري في ((تفسيره)) (18/ 567)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (8/ 2474) بدون ((أو توأم)). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً. قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 419): وإسناده صحيح وهو موقوف لفظاً مرفوع حكماً.

المبحث الحاي عشر: حملة العرش

المبحث الحاي عشر: حملة العرش ومنهم حملة العرش والكروبيون وهم الذين قال الله تعالى فيهم: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7] الآيات، وقال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، ... وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) (¬1)، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي وعكرمة والضحاك وابن جريج: ثمانية صفوف من الملائكة (¬2). وقال الضحاك عن ابن عباس: الكروبيون ثمانية أجزاء (¬3)، كل جزء منهم بعدة الإنس والجن والشياطين والملائكة معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - بتصرف – 2/ 820 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4727)، ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (4/ 356) بلفظ: ((سبعين)) بدلاً من ((سبعمائة)). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الذهبي في ((العلو)) (97): إسناده صحيح. وقال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (8/ 239): إسناده جيد. وقال ابن حجر في ((تحفة النبلاء)) (ص53): رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 85): رواه الطبراني في ((الأوسط)) ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) (23/ 583 - 584). (¬3) انظر: ((النكت والعيون)) للماوردي (4/ 317).

المبحث الثاني عشر: ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر

المبحث الثاني عشر: ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر ومنهم ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عز وجل تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم بهم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجدونك)) (¬1) ... وقال صلى الله عليه وسلم: ((وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلونَ كتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلا نَزَلَتْ عليهم السَّكينة وغشيتهم الرَّحمة وحفَّتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده)) (¬2) ... معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 822 ¬

(¬1) رواه البخاري (6408)، ومسلم (2689). (¬2) رواه مسلم (2699).

المبحث الثالث عشر: الموكل بالجبال

المبحث الثالث عشر: الموكل بالجبال ومنهم الموكل بالجبال وقد ثبت ذكره في حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عبد ياليل وعوده منهم، وفيه قول جبريل له صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ اللهَ قَدْ سمع قولَ قومِكَ لك وما ردُّوه عليك)) وفيه قول ملك الجبال: ((إِن شئت أَنْ أطبق عليهم الأخشبين، فقال صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله مِنْ أصلابِهِمْ مَنْ يعبد الله لا يشرك به شيئاً)) (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 823 ¬

(¬1) رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795). من حديث عائشة رضي الله عنها.

المبحث الرابع عشر: زوار البيت المعمور

المبحث الرابع عشر: زوَّارُ البيت المعمور ومنهم زوَّارُ البيت المعمور الذي أقسم الله تعالى به في كتابه ثبت ذلك في حديث المعراج، وهو بيت في السماء السابعة بحيال الكعبة في الأرض لو سقط لوقع عليها، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، ((يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم)) (¬1)، يعني: لا تحول نوبتهم لكثرتهم. والحديث بألفاظه في (الصحيحين). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 823 ¬

(¬1) جزء من حديث طويل رواه البخاري (3207)، ومسلم (164). من حديث أنس رضي الله عنه.

المبحث الخامس عشر: ملائكة صفوف لا يفترون، وقيام لا يركعون

المبحث الخامس عشر: ملائكة صفوف لا يفترون، وقيام لا يركعون ومنهم ملائكة صفوف لا يفترون، وقيام لا يركعون، وركَّع وسجَّد لا يرفعون، ومنهم غير ذلك: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31]. روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون. أَطَّتِ السَّماءُ وحق لها أَنْ تَئطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتُم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولما تلذذتم بالنِّساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)) فقال أبو ذر: والله لوددت أني شجرة تعضد (¬1). وعن حكيم بن حزام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم: ((هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسمع أطيطَ السَّماءِ وما تلام أَنْ تَئِطّ، ما فيها موضع شبرٍ إلاَّ وعليه ملكٌ راكعٌ أو ساجد)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما في السماء الدنيا موضِعٌ إلاَّ عليه ملك ساجد أو قائم، وذلك قول الملائكة: وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات:164 - 166])) (¬3). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2312)، وابن ماجه (4190)، وأحمد (5/ 173) (21555)، والحاكم (2/ 554). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 152): صحيح. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 71)، - وذلك كما أشار في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن دون قوله: (والله لوددت ... ) فإنه مدرج. (¬2) رواه الطبراني (3/ 201)، والمروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 258)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (1/ 202)، وأبو الشيخ في ((العظمة)) (3/ 986). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1060): إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (21/ 126)، والمروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 260)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3232). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن العظيم)) (8/ 271): وهذا مرفوع غريب جداً. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1059): وهذا إسناد حسن في الشواهد.

وعن رجلٍ صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ لله تعالى: ملائكة ترعد فرائِصَهُمْ مِنْ خيفَتِهِ، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلاَّ وقعت على ملك يصلي، وإِنَّ منهم ملائكة سجوداً منذ خلقَ اللهُ السَّمواتِ والأَرْضِ لم يرفعوا رؤوسهمْ ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإِنَّ منهم ملائكةً ركوعاً لم يرفعوا رؤوسهم منذُ خلقَ الله السَّمواتِ والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل فقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك)) (¬1). وفي (الصحيح) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تَصفُّونَ كما تصفُّ الملائكة عِنْدَ رَبِّها؟ فقلنا: يا رسولَ اللهِ وكيفَ تَصُفُّ الملائكة عِنْدَ ربِّها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصُّونَ في الصف)) (¬2). وفيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خُلقَت الملائكةُ مِنْ نورِ العَرْش، وَخُلِقَ الجانُّ من مارجٍ مِنْ نار، وخلق آدمُ ممَّا وُصِفَ لكم)) (¬3) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 823 منهم الموكلون بحمل العرش، ومنهم الموكلون بالوحي، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم خزنة الجنة وخزنة النار. ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد، ومنهم الموكلون بقبض أرواح المؤمنين، ومنهم الموكلون بقبض أرواح الكافرين، ومنهم الموكلون بسؤال العبد في القبر. ومنهم من يستغفرون للمؤمنين ويصلون عليهم ويحبونهم، ومنهم من يشهد مجالس العلم وحلقات الذكر؛ فيحفونهم بأجنحتهم، ومنهم من هو قرين للإنسان لا يفارقه، ومنهم من يدعو العباد إلى فعل الخير، ومنهم من يشهد جنائز الصالحين، ويقاتلون مع المؤمنين ويثبّتونهم في جهادهم مع أعداء الله, ومنهم الموكلون بحماية الصالحين، وتفريج كربهم، ومنهم الموكلون بالعذاب. والملائكة لا يدخلون بيتاً فيه تمثال، ولا صورة، ولا كلب، ولا جرس، ويتأذون مما تتأذى منه بنو آدم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة)) (¬4). وقال: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) (¬5). والملائكة كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل. قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31]. وقد حجبهم الله تعالى: عنا؛ فلا نراهم في صورهم التي خلقوا عليها، ولكن كشفهم لبعض عباده، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلقه الله عليها مرتين، قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:13 - 14]. وقال: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [النجم:22 - 23] الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص 131 وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعمل آلاتها ملائكة. فالملائكة أعظم جنود الله ومنهم: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [المرسلات:1 - 3]، فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا [المرسلات:4 - 5]، ومنهم: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًاً [النازعات:1 - 4]، ومنهم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [الصافات:1 - 3] , ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها: فرقة وطائفة وجماعة، ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 2/ 405 ¬

(¬1) رواه المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 267). قال ابن كثير في ((تفسيره)) (8/ 272): وهذا إسنادٌ لا بأس به. (¬2) رواه مسلم (430). (¬3) رواه مسلم (2996) بدون لفظة: (العرش). (¬4) رواه البخاري (3351)، ومسلم (2106). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬5) رواه البخاري (3225) ومسلم (2106). من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه.

الفصل الرابع: التفاضل بين الملائكة، وبين الملائكة والبشر

الفصل الرابع: التفاضل بين الملائكة، وبين الملائكة والبشر • المبحث الأول: التفاضل بين الملائكة. • المبحث الثاني: التفاضل بين الملائكة والبشر.

المبحث الأول: التفاضل بين الملائكة

المبحث الأول: التفاضل بين الملائكة والملائكة متفاضلون بعضهم أفضل من بعض، وأفضلهم المقربون الذين قال الله فيهم: لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172]. قال الرازي: (قوله: وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يدل على أن طبقات الملائكة مختلفة في الدرجة والفضيلة, فالأكابر منهم مثل جبريل, وميكائيل, وإسرافيل, وعزرائيل, وحملة العرش) (¬1) والملائكة المقربون هم المسمون بالكروبيين) (¬2). قال ابن الأثير: (وفي حديث أبي العالية: ((الكروبيين سادة الملائكة)) هم المقربون) (¬3). قال ابن كثير وقد ذكر أقسام الملائكة: (ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش, وهم أشرف الملائكة مع حملة العرش، وهم الملائكة المقربون كما قال تعالى: لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (¬4). وأفضل المقربين رؤساء الملائكة الثلاثة الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم في دعائه الذي يفتتح به صلاته إذا قام من الليل فيقول: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض .. )) (¬5). الحديث قال ابن القيم في هذا الحديث: (فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم واصطفائهم وقربهم من الله, وكم من ملك غيرهم في السماوات فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة، فجبريل صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات, وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات وأخرجتهم من قبورهم) (¬6). وقد خص الله جبريل وميكائيل في كتابه بالذكر وعطف ذكرهما على ذكر الملائكة فقال: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة: 98]. قيل إنما خصهما بالذكر تشريفاً لهما (¬7). وأفضل الملائكة ومقدمهم جبريل عليه السلام، قال الله عز وجل فيه: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 97]. فشرفه الله عز وجل بذكره وذم معاديه، وذكر سبحانه دليل فضله وتشريفه وهو وظيفته الشريفة الكريمة: تبليغ الوحي للرسل من الله، فهو الواسطة بين الله ورسوله، وقد سماه الله في كتابه بأسماء شريفة ووصفه بأوصاف كريمة، قال سبحانه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 102]. فسماه روح القدس، وقال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء: 193]. فسماه الروح الأمين، وقال سبحانه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21]. أي أن القرآن نزل به جبريل ووصف سبحانه جبريل بصفات كريمة كلها تقتضي تفضيله على سائر الملائكة, فهو رسول كريم, وذو قوة، وهو مكين المنزلة عند ذي العرش, ومطاع في السموات تطيعه الملائكة، وأمين على وحي الله ورسالاته (¬8) , ولقد خصه الله بالذكر في مواضع من كتابه، قال سبحانه: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4]. فذكره سبحانه بعد ذكر نفسه ولم يذكر سواه من الملائكة، وقال سبحانه: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4]. ففي هذه الآيات تخصيص من الله له في الذكر مع ذكر الملائكة، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء أن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء)) (¬9). وفي هذا الحديث ما لا يخفى من بيان فضل جبريل عليه السلام وأنه ليس فقط مبلغ كلام الله إلى الرسل بل وإلى الملائكة أيضاً. ومن أفضل الملائكة أهل بدر منهم كما في الحديث أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة)) (¬10). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي - ص: 350 ¬

(¬1) ((تفسير الرازي)) (11/ 119). (¬2) ((الفتاوى)) (4/ 357) و ((البداية والنهاية)) (1/ 49) و ((معارج القبول)) (2/ 87). (¬3) ((النهاية)) (4/ 161). (¬4) ((البداية والنهاية)) (1/ 49). (¬5) رواه مسلم (770). من حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما. (¬6) ((زاد المعاد)) (1/ 36). (¬7) ((تفسير القرطبي)) (2/ 36). (¬8) ((زاد المسير)) (7/ 43). (¬9) ((البخاري مع الفتح)) (13/ 461) و ((مسلم)) (4/ 2030). (¬10) رواه البخاري (3992). من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه.

المبحث الثاني: التفاضل بين الملائكة والبشر

المبحث الثاني: التفاضل بين الملائكة والبشر هذه مسألة كثر الكلام فيها في كتب المتأخرين من أهل العلم أخذاً ورداً، وطال طولاً أخرجها عن فائدتها وحدها، وخلاصة ما قيل فيها أن الناس فيها على مذاهب ثلاثة (¬1): الأول: تفضيل الملائكة على البشر مطلقاً، وإليه ذهبت المعتزلة, وبعض الأشعرية, وابن حزم, ومال إليه بعض أهل السنة, وبعض الصوفية, واستدلوا بأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لها وجهها في الدلالة على قولهم, كقوله سبحانه في بني آدم: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70]. فقال على كثير ولم يقل على كل, ومن عساه أن يكون الخارج من هذا الكثير إلا الملائكة، وبقوله سبحانه: لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172]. ومثل هذا دال لغة على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه، وبقوله سبحانه: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام: 50]. والمعنى عندهم أني لا أدعي فوق منزلتي، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) (¬2). وهو نص في الأفضلية، وهي أدلة على ما ترى من الدلالة، إلا أن المخالفين ردوا على الاستدلال بها ورد هؤلاء على ردودهم. الثاني: تفضيل الأنبياء وصالحي البشر على الملائكة: وهو مذهب جمهور أهل السنة والجماعة وكذا جمهور أصحاب الأشعري واستدلوا بأدلة ظاهرة الدلالة على قولهم، كقوله سبحانه: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، والفاضل لا يسجد للمفضول، وقوله سبحانه: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 32]. وقوله: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33]. هذه في الأنبياء، أما في صالح البشر فكقوله سبحانه: ¬

(¬1) ((مقالات الإسلاميين)) (48 و 226 و 439) و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (7/ 235) و ((الفصل)) (5/ 20 وما بعدها) و ((المحلى)) (1/ 13) و ((أصول الدين)) (166) و ((المواقف)) (367) و ((فتح الباري)) (13/ 386) و ((شرح الطحاوية)) (277) و ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 398) و ((المواهب اللدنية)) (2/ 44) وغيرها. (¬2) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7]. وهي أدلة في القوة على ما ترى، إلا أن المخالفين ردوا على الاستدلال بها وعلى الرد رد، ورأى قوم أن الأدلة متكافئة فكان قول ثالث وهو التوقف والسكوت عن التفضيل. وإنا إن ذهبنا نتتبع الأدلة والردود ورد الردود لخرج بنا الموضوع عن حده وطال طولاً لا نستطيع الوقوف عند حد له. وهي مسألة - كما ذكرت - كثر فيها الاختلاف, وتشعبت فيها الاستدلالات, وتشابكت وعظم فيها الجدال حتى خرج بها بعضهم مخرج المنافرة والمفاخرة فأخذ يقول: منا الأنبياء ومنا الأولياء، فرد عليه بأن للملائكة أن تقول: أليس منكم فرعون وهامان؟ أليس منكم من ادعى الربوبية؟ (¬1) وأساء بعضهم الأدب فقال: كان الملك خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم, أو أن بعض الملائكة خدموا بني آدم (¬2). وهذه المسألة قد قال فيها ابن تيمية رحمه الله: (المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة، وربما ناظر بعض الناس على تفضيل الملك، وبعضهم على تفضيل البشر، وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره) (¬3). وقال ابن كثير: (أكثر ما توجد هذه المسألة في كتب المتكلمين والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم) قال: (أقدم كلام رأيته في هذه المسألة ما ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة أمية بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلساً لعمر بن عبد العزيز وعنده جماعة فقال عمر: ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم) وذكر بقية الواقعة وفيها معارضة أحدهم بتفضيل الملائكة واستدلال كل (¬4). ولقد نزع جماعة من أهل العلم إلى أن هذه من فضول المسائل، قال البيهقي في التفاضل بين الملائكة والبشر: (والأمر فيه سهل، وليس فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو به) (¬5). وقال شارح الطحاوية: (وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة لقلة ثمرتها, وأنها قريب مما لا يعني, ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (¬6). وقال: (وحاصل الكلام أن هذه المسألة من فضول المسائل ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول) (¬7). ونقل عن تاج الدين الفزاري من كتاب له في تفضيل البشر على الملك ما نصه: (اعلم أن هذه المسألة من بدع الكلام التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة ولا من بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد, ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كبير المقاصد، ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن، وامتنع عن الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه لم يخل كلامه من ضعف واضطراب) (¬8). ¬

(¬1) ((طبقات الحنابلة)) (4/ 207). (¬2) ((شرح الطحاوية)) (279). (¬3) ((الفتاوى)) (4/ 354). (¬4) ((البداية والنهاية)) (1/ 54) ((تهذيب تاريخ دمشق)) (3/ 136). (¬5) ((شعب الإيمان)) (1/ 182). (¬6) ((شرح الطحاوية)) (278). (¬7) ((شرح الطحاوية)) (288). (¬8) ((شرح الطحاوية)) (297).

ولم تكن المسألة عند السلف موضع نظر وأخذ ورد, ولم تكن لهم بها عناية فائقة بحيث ينصبونها موضوعاً للنظر والاستدلال, ولم يقع بينهم فيها كلام وخلاف، وقد رويت عن الصحابة أحاديث موقوفة ومرفوعة فيها ذكر لهذه المسألة في بعضها تفضيل المؤمن على الملائكة, وبعضها تفضيل المؤمن على بعض الملائكة, وبعضها تفضيل بني آدم على الملائكة, ولكنها أحاديث إما ضعيفة أو موضوعة مثل حديث: ((المؤمن أكرم على الله عز وجل من بعض الملائكة)) (¬1). وحديث: ((أن الملائكة قالت: يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نلهو, فكما جعلت لهم الدنيا فأجعل لنا الآخرة فقال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان)) (¬2). وحديث: ((ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من بني آدم، قيل: يا رسول الله, ولا الملائكة؟ قال: الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر)) (¬3). وكلها ضعيف وموضوع. وقال ابن تيمية بعد ذكر بعض هذه الأحاديث: (وأقل ما في هذه الآثار أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم أن صالحي البشر أفضل من الملائكة من غير نكير منهم لذلك، ولم يخالف أحد منهم في ذلك، إنما ظهر الخلاف بعد تشتت الأهواء بأهلها, وتفرق الآراء, فقد كان ذلك المستقر عندهم) (¬4). وقال: (قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالح البشر على الملائكة, وتروى على رؤوس الناس ولو كان هذا منكراً لأنكروه فدل على اعتقادهم ذلك) (¬5). وقد جاء عن الإمام أحمد أنه كان يفضل صالحي المؤمنين على الملائكة, ويخطئ من يفضل الملائكة على بني آدم (¬6). وقد فصل ابن تيمية في هذه المسألة تفصيلاً طويلاً, قرر فيه مذهب أهل السنة تفضيل صالح البشر على الملائكة (¬7). ونقل عنه ابن القيم: (أنه سئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية, والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عما يلابسه بنو آدم, مستغرقون في عبادة الرب, ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر, وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة) قال: (وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل, وتتفق أدلة الفريقين, ويصالح كل منهم على حقه) (¬8). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي- ص354 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (786)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 137). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [فيه أبو المهزم] قال البيهقي: متروك، وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (2/ 278): [فيه] أبو المهزم تركه شعبة وقال البيهقي: متروك وقد روي موقوفاً. (¬2) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 196) (6173). من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال ابن تيمية في ((بغية المرتاد)) (224): ثابت بالإسناد على شرط الصحيح، وقال ابن القيم في ((مختصر الصواعق المرسلة)) (405): إسناده صحيح وروي مرسلاً، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 49): مرفوع وهو أصح. (¬3) رواه الطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (1/ 87)، والبيهقي (1/ 174) (153). من حديث ابن عمرو رضي الله عنه. قال البيهقي: تفرد به عبيد الله بن تمام، قال البخارى: عنده عجائب. ورواه غيره عن خالد الحذاء موقوفا على عبد الله بن عمرو، وهو الصحيح، وقال ابن كثير في تفسيره (5/ 98): هذا حديث غريب جداً، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير وفيه عبيد الله بن تمام وهو ضعيف، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (4981): منكر مرفوع. (¬4) ((الفتاوى)) (4/ 369). (¬5) ((الفتاوى)) (4/ 371). (¬6) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 279 و 306). (¬7) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 352). (¬8) ((بدائع الفوائد)) (3/ 163).

الباب الثالث: دور الملائكة تجاه المؤمنين وواجب المؤمنين تجاه الملائكة

الفصل الأول: دور الملائكة تجاه المؤمنين - محبتهم للمؤمنين: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل. فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحبّ فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثمّ يوضع له القبول في الأرض)) (¬1). - تسديد المؤمن: روى البخاري في صحيحه ((عن حسّان بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له، فقال: اللهمّ أيده بروح القدس)) (¬2). وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة قال: (قال سليمان عليه السلام: لأطوفنّ الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله. فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ونسي، فأطاف بهنّ، ولم تلد إلا امرأة منهنّ نصف إنسان)). قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان أرجى لحاجته)) (¬3). فالملك سدد نبي الله سليمان وأرشده إلى الأصوب والأكمل. - صلاتهم على المؤمنين: أخبرنا الله أن الملائكة تصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56]. وهم يصلون على المؤمنين أيضاً: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43]. والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند ملائكته، حكاه البخاري عن أبي العالية (¬4)، ... وأمّا الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس، والاستغفار لهم، وهذا ما سنوضحه فيما يأتي: نماذج من الأعمال التي تصلي الملائكة على صاحبها: أ- معلّم الناس الخير: روى الترمذي في سننه عن أبي أمامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير)) (¬5). ب- الذين ينتظرون صلاة الجماعة: في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه، تقول: اللهمّ اغفر له، اللهم ارحمه. ما لم يحدث)) (¬6). ج- الذين يصلون في الصف الأول: في سنن أبي داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول)) (¬7). وفي سنن النسائي: ((على الصفوف المتقدمة)) (¬8). وفي سنن ابن ماجة من حديث البراء، وحديث عبد الرحمن بن عوف: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) (¬9). د- الذين يسدّون الفرج بين الصفوف: ¬

(¬1) رواه البخاري (3209)، ومسلم (2637). (¬2) رواه البخاري (453). (¬3) رواه البخاري (5242)، ومسلم (1654). (¬4) ((صحيح البخاري)) (6/ 111). (¬5) رواه الترمذي (2685). وقال: غريب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬6) رواه مسلم (649). (¬7) رواه أبو داود (664)، وأحمد (4/ 298) (18666). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (219) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وحسن إسناده النووي في ((رياض الصالحين)) (384). (¬8) رواه النسائي (2/ 89). وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬9) رواه ابن ماجه (823) و (825). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 153) بعد حديث البراء: رجاله ثقات، وقال بعد حديث عبدالرحمن بن عوف: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححهما الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

في سنن ابن ماجة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سدّ فرجة رفعه الله بها درجة)) (¬1). هـ- الذين يتسحرون: في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني الأوسط بإسناد حسن، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى وملائكته يصلون على المتسحرين)) (¬2). والذين يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم: روى أحمد في مسنده، والضياء في المختارة عن عامر بن ربيعة بإسناد حسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد يصلي عليّ إلا صلتْ عليه الملائكة، ما دام يصلي عليّ، فليقلّ العبد من ذلك أو ليكثر)) (¬3). ز- الذين يعودون المرضى: روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من رجل يعود مريضاً ممسياً، إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنّة، ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك، يستغفرون له حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة)) (¬4). هل لصلاة الملائكة علينا أثر: يقول تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب: 43]. تفيد الآية أن ذكر الله لنا في الملأ الأعلى، ودعاء الملائكة للمؤمنين واستغفارهم لهم، له تأثير في هدايتنا وتخليصنا من ظلمات الكفر, والشرك, والذنوب, والمعاصي إلى النور الذي يعني وضوح المنهج والسبيل، بالتعرف على طريق الحق الذي هو الإسلام، وتعريفنا بمراد الله منا، وإعطائنا النور الذي يدلنا على الحق: في الأفعال, والأقوال, والأشخاص. - التأمين على دعاء المؤمنين: الملائكة يؤمنِّون على دعاء المؤمن: وبذلك يكون الدعاء أقرب إلى الإجابة، ففي صحيح مسلم وسنن ابن ماجة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك، كلما دعا له بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل)) (¬5). ولما كان الدعاء المؤمّن عليه حريّاً بالإجابة، فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يدعو على نفسه بشر، ففي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)) (¬6). - استغفارهم للمؤمنين: أخبرنا الله أن الملائكة يستغفرون لمن في الأرض: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الشورى: 5]. ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (821)، وأحمد (6/ 89) (24631)، والحاكم (1/ 334)، والبيهقي (3/ 103) (5404). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال البيهقي: إسناده محفوظ، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) رواه ابن حبان (8/ 245) (3467)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 287) (6434). قال ابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (13/ 135): صحيح، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3409): رجاله ثقات. (¬3) رواه أحمد (3/ 445) (15718)، والضياء (8/ 189). وقال: إسناده حسنه، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5744). (¬4) رواه أبو داود (3098) وقال: أسند عن علي عن النبي من غير وجه صحيح، وصححه الألباني موقوفاً في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬5) رواه مسلم (2732)، وابن ماجه (2358). (¬6) رواه مسلم (920).

وأخبر في آية سورة غافر أن حملة العرش والملائكة الذين حول العرش ينزهون ربهم، ويخضعون له، ويخصون المؤمنين التائبين بالاستغفار، ويدعونه بأن ينجيهم من النار، ويدخلهم الجنة، ويحفظهم من فعل الذنوب والمعاصي: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر: 7 - 9] - شهودهم مجالس العلم, وحلق الذكر, وحفهم أهلها بأجنحتهم: في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم)). قال: ((فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا)) (¬1). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) (¬2). وفي سنن الترمذي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)) (¬3)؛ أي تتواضع له. فالأعمال الصالحة - كما ترى - تقرب الملائكة منا، وتقربنا منهم، ولو استمر العباد في حالة عالية من السمو الروحي، لوصلوا إلى درجة مشاهدة الملائكة ومصافحتهم كما في الحديث الذي يرويه مسلم، عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم)) (¬4). وفي رواية الترمذي عن حنظلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم تكونون كما تكونون عندي لأظلتكم الملائكة بأجنحتها)) (¬5). - تسجيل الملائكة الذين يحضرون الجمعة: وهؤلاء الملائكة يسجلون بعض أعمال العباد، فيسجلون الذين يؤمون الجُمَع الأول فالأول. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم، وجلسوا يستمعون الذكر)). متفق عليه (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (6408) واللفظ له، ومسلم (2689). (¬2) رواه مسلم (2699). (¬3) رواه الترمذي (2682). ورواه أبو داود (3641)، وابن ماجه (223)، وأحمد (5/ 196) (21763)، وابن حبان (1/ 289) (88). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: ليس هو عندي بمتصل، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 106): لا يصح، وقال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (25/ 247): له طرق كثيرة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 151) كما أشار لذلك في المقدمة، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) رواه مسلم (2750). (¬5) رواه الترمذي (2452). وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. (¬6) رواه البخاري (929)، ومسلم (850).

ويسجلون ما يصدر عن العباد من أقوال طيبة، ففي صحيح البخاري وغيره عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: ((كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءَه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف، قال: من المتكلم؟ قال: أنا. قال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول)) (¬1). فهؤلاء الكتبة من الملائكة غير الملكين اللذين يسجلان صالح أعماله وطالحها بالتأكيد؛ لكونهم بضعة وثلاثين ملكاً. - تعاقب الملائكة فينا: وهؤلاء الملائكة الذين يطوفون في الطرق يلتمسون الذكر، ويشهدون الجمع والجماعات يتعاقبون فينا، فطائفة تأتي، وطائفة تذهب، وهم يجتمعون في صلاة الصبح، وصلاة العصر، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) (¬2). ولعل هؤلاء هم الذين يرفعون أعمال العباد إلى ربهم، ففي صحيح مسلم ((عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل. .. )) (¬3) الحديث. وقد عظّم الله شأن صلاة الفجر؛ لأن الملائكة تشهدها، قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء: 78] - تنزلّهم عندما يقرأ المؤمن القرآن: ومنهم من يتنزّل من السماء حين يقرأ القرآن؛ ففي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: ((قرأ رجل سورة الكهف، وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، قال فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزلت عند القرآن، أو تنزلت للقرآن)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أن أسيد بن حضير بينما هو في ليلة يقرأ في مربده، إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضاً. قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى، فقمت إليها، فإذا مثل الظلة فوق رأسي، فيها أمثال السرج، عرجت في الجوّ حتى ما أراها. قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، بينا أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي، إذ جالت فرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت، ثمّ جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت، ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال: فانصرفت، وكان يحيى قريباً منها، خشيت أن تطأه، فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج، عرجت في الجوّ حتى ما أراها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة كانت تسمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم)) (¬5). - يبلّغون الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمته السلام: ¬

(¬1) رواه البخاري (799)، وأبو داود (770). (¬2) رواه البخاري (3223)، ومسلم (632). (¬3) رواه مسلم (179). (¬4) رواه مسلم (796). (¬5) رواه البخاري (5018)، ومسلم (796) واللفظ له.

روى النسائي والدارمي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام)) (¬1). - تبشيرهم المؤمنين: فقد حملوا البشرى إلى إبراهيم بأنه سيرزق بذرية صالحة: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 24 - 28]. وبشرت زكريا بيحيى: فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران: 39]. وليس هذا مقصوراً على الأنبياء والمرسلين، بل قد تبشر المؤمنين، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته -طريقه- ملكاً، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عزّ وجلّ، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) (¬2). وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل، فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إِدام, أو طعام, أو شراب، فإذا هي قد أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربّها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) (¬3). - الملائكة والرؤيا في المنام: روى البخاري في صحيحه في باب التهجد، ((عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطيّ البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لم ترع)) (¬4)؛ أي لا تخف. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أريتك في المنام يجيء بك الملك في سَرَقَةٍ من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهك الثوب، فإذا أنت هي، فقلت: إن يك هذا من الله يمضه)) (¬5). - يقاتلون مع المؤمنين ويثبتونهم في حروبهم: ¬

(¬1) [4379])) رواه النسائي (3/ 43)، والدارمي (2/ 409) (2774)، وابن حبان (3/ 195)، والطبراني (10/ 220)، والحاكم (2/ 456). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي, وقال ابن القيم في ((جلاء الأفهام)) (120): إسناده صحيح, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 27): رجاله رجال الصحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬2) رواه مسلم (2567). (¬3) رواه البخاري (3820)، ومسلم (2432). (¬4) رواه البخاري (1121)، ومسلم (2479). (¬5) رواه البخاري (3895)، ورواه مسلم (2438).

وقد أمد الله المؤمنين بأعداد كثيرة من الملائكة في معركة بدر: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9]، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: 123 - 125] وفي صحيح البخاري ((عن ابن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة حرب)) (¬1). وقد بين الله الحكمة والغاية من هذا الإمداد، وهو تثبيت المؤمنين، والمحاربة معهم، وقتال الأعداء، وقتلهم بضرب أعناقهم وأيديهم: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 10]، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال: 12]. وقال في سورة آل عمران: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ [آل عمران: 126 - 127]. ......... وقد سمع أحد المقاتلين من المسلمين صوت ضربة ملك، ضرب بها أحد الكفار، وصوته وهو يزجر فرسه، ففي صحيح مسلم ((عن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذٍ يشتدّ في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فخرّ مستلقياً، فنظر إليه، فإذا هو قد خُطم أنفه، وشقّ وجهه، كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة)) (¬2). وقد حاربت الملائكة في مواقع أخر؛ ففي غزوة الخندق أرسل الله ملائكته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [الأحزاب: 9]، والمراد بالجنود التي لم يروها الملائكة، كما ثبت في الصحاح وفي غيرها: ((أن جبريل جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الخندق وقد وضع سلاحه واغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، أخرج إليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة)) (¬3). وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: ((كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم، موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة)) (¬4). - حمايتهم للرسول صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) رواه البخاري (3995). (¬2) رواه مسلم (1763). (¬3) رواه البخاري (4117)، ومسلم (1769). من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (4118).

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، أو لأعفرنّ وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته. قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)) (¬1). ورواه البخاري بأخصر من رواية مسلم هذه، في كتاب التفسير (¬2) .... - شهود الملائكة لجنازة الصالحين: قال الرسول صلى الله عليه وسلم في سعد بن معاذ: ((هذا الذي تحرّك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُمّ ضمة، ثمّ فرّج عنه)). رواه النسائي عن ابن عمر (¬3). - إظلالها للشهيد بأجنحتها: في البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: ((جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مثل به، ووضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، فسمع صوت نائحة، فقيل: ابنة عمرو - أو أخت عمرو-. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لمَ تبكي، أو لا تبكي، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها)) وقد عنون له البخاري بقوله: (باب ظل الملائكة على الشهيد) (¬4). - الملائكة الذين جاؤوا بالتابوت: قال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ [البقرة: 248]. والذي يعنينا من هذه الآية ما أخبرنا الله به، أن الملائكة جاءت بني إسرائيل، في تلك الفترة، بتابوت تطميناً لهم وتثبيتاً؛ كي يعلموا أن طالوت مختار من الله تعالى، فيتابعوهُ, ويطيعوهُ. - حمايتهم للمدينة ومكة من الدجال: يدخل الدجال عندما يخرج كل بلد إلا مكة والمدينة؛ لحماية الملائكة لهما، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث فاطمة بنت قيس من قصة تميم الداري: ((أن الدجال قال: إني أنا المسيح الدجال، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو أحداً منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتاً، يصدني عنهما، وإن على كل نَقْب منها ملائكة يحرسونها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن بمخصرته في المنبر: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة))، يعني: المدينة (¬5). وروى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، ولها يومئذٍ سبعة أبواب، على كل باب ملكان)) (¬6). وفي صحيح البخاري أيضاً عن أبي هريرة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)) (¬7) .... - نزول عيسى بصحبة ملكين: في سنن الترمذي عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم: في ذكره حديث الدجال وفيه: ((فبينما هو كذلك إذ هبط عيسى ابن مريم عليه السلام بشرقي دمشق، عند المنارة البيضاء، بين مهرودتين، واضعاً يَدَيْهِ على أجنحة ملكين)) (¬8). ¬

(¬1) رواه مسلم (2797). (¬2) رواه البخاري (4958). (¬3) رواه النسائي (2/ 441). قال السيوطي في ((اللآلئ المصنوعة)) (1/ 436): أصله صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬4) رواه البخاري (2816). (¬5) رواه مسلم (2942). (¬6) رواه البخاري (7125). (¬7) رواه البخاري (1880)، ومسلم (1379). (¬8) رواه الترمذي (2240)، ورواه مسلم (2937).

- الملائكة باسطة أجنحتها على الشام: عن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا طوبى للشام، يا طوبى للشام. قالوا: يا رسول الله وبم ذلك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطوا أجنحتها على الشام)) (¬1). - ما في موافقة الملائكة من أجر وثواب: ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمّن الإمام فأَمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬2). وفي صحيح البخاري: ((إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬3). وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهمّ ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬4). عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر - بتصرف – ص 53 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3954)، وأحمد (5/ 184) (21647)، وابن حبان (1/ 320) (114)، والحاكم (2/ 249)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 432) (2311). قال الترمذي: حسن غريب، وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 352): سنده سند الصحيحين إلا عبد الرحمن بن شماسة فإنه لم يخرج له البخاري، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه البخاري (780)، ومسلم (410). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (781). (¬4) رواه البخاري (796).

الفصل الثاني: واجب المؤمنين تجاه الملائكة

الفصل الثاني: واجب المؤمنين تجاه الملائكة الملائكة عباد الله اختارهم واصطفاهم، ولهم مكانة عند ربهم، والمؤمن الذي يعبد الله، ويتبع رضوانه لا مناص له من أن يتولى الملائكة بالحب والتوقير، ويتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إليهم ويؤذيهم، وفي المبحث التالي نتناول شيئاً من ذلك بالبيان والتوضيح. - البعد عن الذنوب والمعاصي: أعظم ما يؤذي الملائكة الذنوب, والمعاصي, والكفر, والشرك، ولذا فإن أعظم ما يُهْدَى للملائكة ويرضيهم أن يخلص المرء دينه لربه، ويتجنب كل ما يغضبه. ولذا فإنَّ الملائكة لا تدخل الأماكن والبيوت التي يعصى فيها الله تعالى، أو التي يوجد فها ما يكرهه الله يبغضه، كالأنصاب, والتماثيل, والصور، ولا تقرب من تلبس بمعصية كالسكران. قال ابن كثير (¬1): (ثبت في الحديث المروي في الصحاح والمسانيد والسنن من حديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يدخل الملائكة بيتاً فيه صورة, ولا كلب, ولا جُنب)) (¬2). وفي رواية عن عاصم بن ضمرة عن علي: ((ولا بول)) (¬3)، وفي رواية رافع عن أبي سعيد مرفوعاً: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو تمثال)) (¬4)، وفي رواية ذكوان أبي صالح السماك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب أو جرس)) (¬5)). وروى البزار بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث لا تقربهم الملائكة: السكران، والمتضمخ بالزعفران، والجنب)) (¬6). وفي سنن أبي داود بإسناد حسن، عن عمار بن ياسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ)) (¬7). - الملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم: ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فهم يتأذون من الرائحة الكريهة، والأقذار, والأوساخ. روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل الثوم, والبصل, والكراث، فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) (¬8). وقد بلغ الأمر بالرسول صلى الله عليه وسلم أن أمر بالذي جاء إلى المسجد - ورائحة الثوم أو البصل تنبعث منه - أن يخرج إلى البقيع: - وهذا ثابت في صحيح مسلم (¬9). - النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة: ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (1/ 55). (¬2) رواه أبو داود (227)، والنسائى (7/ 185)، وابن حبان (4/ 5)، (1205)، والحاكم (1/ 278). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 46): ثابت، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 242) كما قال ذلك في المقدمة. (¬3) رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 146) (1246). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 291): فيه عمرو بن خالد وقد أجمعوا على ضعفه. (¬4) رواه الترمذي (2805)، وأحمد (3/ 90، رقم 11876)، ومالك (2/ 965، رقم 1734)، وابن حبان (13/ 160، رقم 5849). قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) رواه مسلم (2113). (¬6) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) (5/ 159) للهيثمي، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5/ 252) (5233). قال الهيثمي: رواه البزار وفيه عبد الله بن حكيم ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3060). (¬7) رواه أبو داود (4180)، والبيهقي (5/ 36) (8756). والحديث سكت عنه أبو داود، [وأورده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود))]. (¬8) رواه البخاري (855)، ومسلم (564) واللفظ له. (¬9) رواه مسلم (564).

نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن البصاق عن اليمين في أثناء الصلاة؛ لأن المصلي إذا قام يصلي يقف عن يمينه ملك، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها)) (¬1). - موالاة الملائكة كلهم: وعلى المسلم أن يحب جميع الملائكة، فلا يفرق في ذلك بين ملك وملك؛ لأنهم جميعاً عباد الله عاملون بأمره، تاركون لنهيه، وهم في هذا وحدة واحدة، لا يختلفون ولا يفترقون. وقد زعم اليهود أن لهم أولياء وأعداء من الملائكة، وزعموا أن جبريل عدو لهم، وميكائيل ولي لهم، فأكذبهم الله تعالى- في مدعاهم - وأخبر أن الملائكة لا يختلفون فيما بينهم: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة: 97 - 98]. فأخبر سبحانه أن الملائكة كلهم وحدة واحدة فمن عادى واحداً منهم، فقد عادى الله وجميع الملائكة، أمّا تولي بعض الملائكة ومعاداة بعض آخر، فهي خرافة لا يستسيغها إلا مثل هذا الفكر اليهودي المنحرف، وهذه المقولة التي حكاها القرآن عن اليهود عذر واهٍ عللوا به عدم إيمانهم، فزعموا أن جبريل عدوهم؛ لأنّه يأتي بالحرب والدمار، ولو كان الذي يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ميكائيل لتابعوه. عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر – ص 68 ¬

(¬1) رواه البخاري (416).

الفصل الثالث: دور الملائكة تجاه الكفار والفساق

الفصل الثالث: دور الملائكة تجاه الكفار والفساق الملائكة لا يحبون الكفرة الظالمين المجرمين، بل يعادونهم ويحاربونهم، ويزلزلون قلوبهم، كما حدث في معركة بدر والأحزاب، ونزيد الأمر هنا تفصيلاً وإيضاحاً بذكر ما لم نذكره هناك - إنزال العذاب بالكفار: عندما كان يُكذَّب رسول من الرسل، ويصرّ قومه على التكذيب، كان الله ينزل في كثير من الأحيان بهم عذابه، وكان الذي يقوم بالتعذيب أحياناً الملائكة. - إهلاكهم قوم لوط: جاء الملائكة المأمورون بتعذيب قوم لوط في صورة شبان حسان الوجوه، واستضافهم لوط، ولم يعلم قومه بهم، فدلت زوجة لوط قومها عليهم، فجاءوا مسرعين، يريدون بهم الفاحشة، فدافعهم لوط، وحاورهم، فأبوا عليه، فضربهم جبريل بجناحه، فطمس أعينهم، وأذهب بصرها: وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيد قالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ [هود: 77 - 81]. قال ابن كثير (¬1): وذكروا أن جبريل - عليه السلام - خرج عليهم، فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه، فطمست أعينهم، حتى قيل غارت بالكلية، ولم يبق لها محل ولا أثر ... قال تعالى: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 37]. وفي الصباح أهلكهم الله تعالى: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 82 - 83] قال ابن كثير في تفسيره: (قال مجاهد: أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم كفأها، وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن). وذكر أقوالاً مقاربة لهذا القول، ولم يورد حديثاً يشهد لهذا. - لعن الكفرة: قال تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [آل عمران: 86 - 87]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة: 161]. ولا تلعن الملائكة الكفرة فحسب، بل قد تلعن من فعلوا ذنوباً معينة ومن هؤلاء: أ- لعن الملائكة المرأة التي لا تستجيب لزوجها: ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، لَعَنَتْها الملائكة حتى تصبح)) (¬2) وفي رواية في الصحيح: ((حتى ترجع)) (¬3) ب- لعنهم الذي يشير إلى أخيه بحديدة: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال أبو القاسم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمّه)) (¬4). ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (1/ 167). (¬2) رواه البخاري (5193). (¬3) رواه البخاري (5194). (¬4) رواه مسلم (2616).

ولعن الملائكة يدل على حرمة هذا الفعل، لما فيه من ترويعٍ لأخيه، ولأنّ الشيطان قد يطغيه فيقتل أخاه، خاصة إذا كان السلاح من هذه الأسلحة الحديثة، التي قد تنطلق لأقل خطأ، أو لمسة غير مقصودة، وكم حدث أمثال هذا. ج- لعنهم من سبّ أصحاب الرسول: في معجم الطبراني الكبير عن ابن عباس بإسناد حسن: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من سبّ أصحابي، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) (¬1). فيما عجباً لأقوام جعلوا سبّ أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ديناً لهم يتقربون به إلى الله، مع أن جزاءَهم ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم هنا، وهو جزاء رهيب. د- لعنهم الذين يحولون دون تنفيذ شرع الله: في سنن النسائي وسنن ابن ماجة، بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قَتَلَ عمداً فَقَود يديه، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين)) (¬2). فالذي يحول دون تنفيذ حكم الله في قتل القاتل عمداً بالجاه أو المال ... فعليه هذه اللعنة، فكيف بالذي يحول دون تنفيذ الشريعة كلها؟! هـ- لعنهم الذي يؤوي محدثاً: من الذين تلعنهم الملائكة كما يلعنهم الله الذين يحدثون في دين الله، بالخروج على أحكامه، والاعتداء على تشريعه، أو يؤوون من يفعل ذلك، ويحمونه، كما في الحديث الصحيح: ((من أحدث حدثاً, أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين)) (¬3). والحدث في المدينة فيه زيادة في الإجرام، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المدينة حرم، ما بين عَيْر إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً، ولا عدلاً)) (¬4) - رؤية الملائكة: لا يستطيع بنو آدم أن يروا الملائكة، لأن الله لم يعط أبصارهم القدرة على رؤيتهم. ولم ير الملائكة في صورهم الحقيقة من هذه الأمة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلقه الله عليها ... - طلب الكفار رؤية الملائكة؟ وقد طلب الكفار رؤية الملائكة للتدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم الله أن اليوم الذي يرون فيه الملائكة يوم شؤم عليهم؛ إذ الكفار يرون الملائكة عندما يحلّ بهم العذاب، أو عندما ينزل بالإنسان الموت، ويكشف عنه الغطاء: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا [الفرقان: 21 - 22]. عالم الملائكة الأبرار لعمر الأشقر - بتصرف – ص: 70 ¬

(¬1) رواه الطبراني (12/ 142) (12740). وحسنه محمد جار الله الصعدي في ((النوافح العطرة)) (383)، والألباني بمجموع طرقه في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2340). (¬2) رواه أبو داود (4195)، والنسائي (8/ 40)، وابن ماجه (2635). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (10/ 379)، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (750) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 381) كما قال هذا في المقدمة. (¬3) رواه مسلم (1371). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6755)، ومسلم (1370).

الكتاب الرابع: الإيمان بالكتب المنزلة

الكتاب الرابع: الإيمان بالكتب المنزلة • الفصل الأول: تعريف الإيمان بالكتب. • الفصل الثاني: معنى الإيمان بالكتب. • الفصل الثالث: أهمية الإيمان بالكتب. • الفصل الرابع: حكم الإيمان بالكتب. • الفصل الخامس: حقيقة الإيمان بالكتب. • الفصل السادس: ثمرات الإيمان بالكتب.

الفصل الأول: تعريف الإيمان بالكتب

الفصل الأول: تعريف الإيمان بالكتب الكتب في اللغة: جمع كتاب بمعنى مكتوب، مثل فراش بمعنى مفروش، وإله بمعنى مألوه، وغراس بمعنى مغروس. ومادة (كتب) تدور حول الجمع والضم، وسمي الكاتب كاتباً؛ لأنه يجمع الحروف ويضم بعضها إلى بعض. ومنه الكتيبة من الجيش سميت كتيبةً؛ لاجتماعها، وانضمام بعضها إلى بعض، ومنه تسمية الخياط كاتباً؛ لأنه يجمع أطراف الثوب إلى بعض، كما في مقامات الحريري، حيث قال ملغزاً: وكاتبين وما خطت أناملهم ... حرفاً ولا قرأوا ما خط في الكتب ويَقْصدُ بهم الخياطين. رسائل في العقيدة لمحمد إبراهيم الحمد - ص: 280 والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيها كما في قوله تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ [النساء: 153] يعني صحيفة مكتوبا فيها. والمراد بالكتب هنا: الكتب والصحف التي حوت كلام الله تعالى الذي أوحاه إلى رسله عليهم السلام. سواء ما ألقاه مكتوباً كالتوراة، أو أنزله عن طريق الملك مشافهة فكتب بعد ذلك كسائر الكتب. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء - ص: 127

الفصل الثاني: معنى الإيمان بالكتب

الفصل الثاني: معنى الإيمان بالكتب ومعنى الإيمان بالكتب التصديق الجازم بأن كلها منزل من عند الله عز وجل على رسله إلى عباده بالحق المبين والهدى المستبين، وأنها كلام الله عز وجل لا كلام غيره، وأن الله تعالى: تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد، فمنها المسموع منه من وراء حجاب بدون واسطة، ومنها ما يسمعه الرسول المَلَكي ويأمره بتبليغه منه إلى الرسول البشري كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51] وقال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً [الإسراء:106] ومنها ما خطه بيده عز وجل كما قال تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145]. والإيمان بكل ما فيها من الشرائع وأنه كان واجباً على الأمم الذين نزلت إليهم الصحف الأولى الانقياد لها والحكم بما فيها كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - إلى قوله: - وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أهل الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:44 – 49].

وأن جميعها يصدق بعضها بعضاً لا يكذبه كما قال تعالى: في الإنجيل مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ [المائدة:46] وقال في القرآن مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48]. وإن كل من كذب بشيء منها أو أبى عن الانقياد لها مع تعلق خطابه يكفر بذلك كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. وأَنَّ نسخ الكتب الأولى بعضها ببعض حق كما نسخ بعض شرائع التوراة بالإنجيل قال الله تعالى: في عيسى عليه السلام وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إلى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ – إلى قوله - وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران:48 - 50] وكما نسخ كثير من شرائع التوراة والإنجيل والقرآن كما قال تعالى: عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُون الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 156 – 158] الآية. وأَنَّ نسخ القرآن بعض آياته ببعض حَقٌّ كما قال تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] وقال تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل:101] الآيات، وكما قال تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ [الأنفال:66] بعد قوله يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:65]. والناسخ والمنسوخ آيات مشهورات مذكورات في مواضعها من كتب التفسير وغيرها. وإنه لا يأتي كتاب بعده ولا مغير ولا مبدِّل لشيء من شرائعه بعده، وأنه ليس لأحد الخروج عن شيء من أحكامه، وأَنَّ من كذب بشيء منه من الأمم الأولى فقد كذب بكتابه، كما أَنَّ مَنْ كذب بما أخبر عنه القرآن من الكتب فقد كذب به، وأَنَّ من اتَّبَعَ غير سبيله ولم يقتفِ أثره ضل قال تعالى: المص. كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:1 – 3]. ثم الإيمان بكتب الله عز وجل يجب إجمالاً فيما أجمل وتفصيلاً فيما فصل، فقد سمى الله تعالى: من كتبه التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود في قوله تعالى: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً [النساء:163] والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صحف إبراهيم وموسى، وقد أخبر تعالى: عن التنْزيل على رسله مجملاً في قوله وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] وقال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا – إلى قوله - وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة:136] وقال وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ [الشورى:15] فنقول كما أمرنا ربنا عز وجل: آمنا بما أنزل الله من كتاب وما أرسل من رسول. وقال تعالى: في القرآن والسنة وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]. فلا بد في الإيمان به من امتثال أوامره واجتناب مناهيه وتحليل حلاله وتحريم حرامه والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بقصصه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والوقوف عند حدوده وتلاوته آناء الليل والنهار والذب عنه لتحريف الغالين وانتحال المبطلين والنصيحة له ظاهراً وباطناً بجميع معانيها، نسأل الله تعالى: أن يرزقنا كل ذلك ويوفقنا له ويعيننا عليه ويثبتنا به وجميع إخواننا المسلمين إنه وليّ التوفيق. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 826

الفصل الثالث: أهمية الإيمان بالكتب

الفصل الثالث: أهمية الإيمان بالكتب الإيمان بالكتب أصل من أصول العقيدة، وركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلا إذا آمن بالكتب التي أنزلها الله على رسله عليهم السلام وقد أثنى الله عز وجل على الرسل الذين يبلغون عن الله رسالاته فقال عز وجل: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ [الأحزاب: 39]. كما أخبر سبحانه أن الرسول والمؤمنون آمنوا بما أنزل من عند الله من كتب، قال تعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285]. ومما يدل على أهميته أن الله أمر المؤمنين بأن يؤمنوا بما أنزله كما في قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]. ومما يدل على أهميته أن الله أهلك الأمم بسبب تكذيبهم برسالاته، كما أخبر الله عن صالح بقوله: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 79]. كذلك من أنكر شيئاً مما أنزل الله فهو كافر كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:136]. رسائل في العقيدة لمحمد إبراهيم الحمد – ص: 281

الفصل الرابع: حكم الإيمان بالكتب

الفصل الرابع: حكم الإيمان بالكتب الإيمان بكتب الله التي أنزل على رسله كلها ركن عظيم من أركان الإيمان وأصل كبير من أصول الدين، لا يتحقق الإيمان إلا به. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 136]. فأمر الله عباده المؤمنين في الآية بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه. فأمرهم بالإيمان بالله ورسوله وهو محمد صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي أنزل على رسوله وهو القرآن، والكتاب الذي أنزل من قبل وهو جميع الكتب المتقدمة: كالتوراة، والإنجيل، والزبور، ثم بين في ختام الآية أن من كفر بشيء من أركان الإيمان فقد ضل ضلالا بعيدا وخرج عن قصد السبيل ومن أركان الإيمان المذكورة الإيمان بكتب الله. وقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177]. فأخبر عز وجل أن حقيقة البر: هو الإيمان بما ذكر من أركان الإيمان، والعمل بخصال البر الواردة في الآية بعد هذا. وذكر من أركان الإيمان: (الإيمان بالكتاب) قال ابن كثير: هو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء. حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب (¬1). ولتقرير الإيمان بالكتب كلها أمر الله عباده المؤمنين أن يخاطبوا أهل الكتاب بقوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]. فتضمنت الآية إيمان المؤمنين بما أنزل الله عليهم بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل على أعيان الرسل المذكورين في الآية، وما أنزل على بقية الأنبياء في الجملة وأنهم لا يفرقون بين الرسل في الإيمان ببعضهم دون بعض فانتظم ذلك الإيمان بجميع الرسل وكل ما أنزل الله عليهم من الكتب. والآيات في تقرير هذا من كتاب الله كثيرة. وأما السنة فقد دلت كذلك على وجوب الإيمان بالكتب. وأن الإيمان بها ركن من أركان الإيمان، دل على ذلك حديث جبريل، وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في إجابته: الإيمان بالكتب مع بقية أركان الإيمان. فتقرر بهذا وجوب الإيمان بالكتب والتصديق بها جميعها، واعتقاد أنها كلها من الله تعالى أنزلها على رسله بالحق والهدى والنور والضياء، وأن من كذب بها أو جحد شيئا منها فهو كافر بالله خارج من الدين. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء ص127 ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 297).

وأن أهل السنة والجماعة يؤمنون ويعتقدون اعتقاداً جازماً أن الله - عز وجل - أنزل على رسله كتباً فيها أمره، ونهيه، ووعده ووعيده، وما أراده الله من خلقه، وفيها هدى ونور، قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]. وأن الله أنزل كتبه على رسله لهداية البشرية، قال تعالى: الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1]. ومن هذه الكتب: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، وأعظمها التوراة والإنجيل والقرآن، وأعظم الثلاثة وناسخها وأفضلها هو القرآن. ولم يتكفّل الله سبحانه بحفظ شيء من هذه الكتب - عدا القرآن - بل استحفظ عليها الأحبار والربانيون؛ لكنهم لم يحافظوا عليها، وما رعوها حق رعايتها؛ فحصل فيها تغيير وتبديل. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص 135 قال ابن أبي العز الحنفي-رحمه الله تعالى-: وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين، فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه، من التوراة والإنجيل والزبور، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه، لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى وأما الإيمان بالقرآن، فالإقرار به، واتباع ما فيه، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب. فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله، وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء. قال تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ [البقرة:136]. الم اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ –إلى قوله- وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:1 - 4]. آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ [البقرة:285]. أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:82]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تكلم بها، وأنها نزلت من عنده. وفي ذلك إثبات صفة الكلام والعلو. وقال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة:213]. وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41 - 42]. وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ:6]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 2/ 423

الفصل الخامس: حقيقة الإيمان بالكتب

الفصل الخامس: حقيقة الإيمان بالكتب الإيمان بكتب الله يشتمل على عدة جوانب دلت النصوص على وجوب اعتقادها وتقريرها لتحقيق هذا الركن العظيم من أركان الإيمان وهي: 1 - التصديق الجازم بأنها كلها منزلة من الله عز وجل، وأنها كلام الله تعالى لا كلام غيره، وأن الله تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد سبحانه. قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران: 2 - 4]. فأخبر الله عز وجل أنه أنزل هذه الكتب المذكورة وهي: التوراة، والإنجيل، والقرآن من عنده وهذا يدل على أنه هو المتكلم بها وأنها منه بدأت لا من غيره، ولذا توعد في نهاية السياق من كفر بآيات الله بالعذاب الشديد. وقال مخبرًا عن التوراة إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة: 44] فبين أنه تعالى هو الذي أنزل التوراة وأن ما فيها من الهدى والنور منه سبحانه. وقال تعالى في سياق آخر مبينًا أن التوراة من كلامه وذلك في معرض إخباره عن اليهود أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [البقرة: 75] فكلام الله الذي سمعوه ثم حرفوه هو التوراة. قاله السُّدِّي وابن زيد وجمع من المفسرين. وقال تعالى في الإنجيل وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: 47] أي من الأوامر والنواهي التي هي من كلام الله. وقال في القرآن الكريم: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]. وقال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6]. وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [النحل: 102]. وقال تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6]. وإنما أمروا أن يسمعوا القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كلام الله على الحقيقة. 2 - الإيمان بأنها دعت كلها إلى عبادة الله وحده وقد جاءت بالخير والهدى والنور والضياء. قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79]. فبين الله أنه ما ينبغي لأحد من البشر، آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة، أن يأمر الناس أن يتخذوه إلها من دون الله. وذلك أن كتب الله إنما جاءت بإخلاص العبادة لله وحده.

وقال تعالى مبينًا أن كتبه جاءت بالحق والهدى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران: 3 - 4]. وقال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [البقرة: 213]. وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائًدة: 44]. وقال تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ [المائدة: 46]. وقال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185]. إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة أن كتب الله تعالى قد جاءت بالهدى والنور من الله تعالى. 3 - الإيمان بأن كتب الله يصدق بعضها بعضًا فلا تناقض بينها ولا تعارض كما قال تعالى في القرآن وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48]. وقال في حق الإنجيل: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ [المائدة: 46]. فيجب الإيمان بهذا واعتقاد سلامة كتب الله من كل تناقض أو تعارض، وهذا من أعظم خصائص كتب الله عن كتب الخلق وكلام الله عن كلام الخلق فإن كتب المخلوقين عرضة للنقص والخلل والتعارض كما قال تعالى في وصف القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82]. 4 - الإيمان بما سمى الله عز وجل من كتبه على وجه الخصوص، والتصديق بها، وبإخبار الله ورسوله عنها. وهذه الكتب هي: أ) التوراة: وهي كتاب الله الذي آتاه موسى عليه السلام. قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ [القصص: 43]. وفي حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: (( ... فيأتون إبراهيم فيقول: لست هُنَاكم ويذكر خطيئته التي أصابها ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما)) (¬1)، وقد ألقى الله التوراة على موسى مكتوبة في الألواح وفي ذلك يقول سبحانه وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف: 145]. قال ابن عباس (يريد ألواح التوراة) (¬2). وفي حديث احتجاج آدم وموسى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( ... قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده)) أخرجاه في الصحيحين من طرق كثيرة (¬3). والتوراة هي أعظم كتب بني إسرائيل وفيها تفصيل شريعتهم وأحكامهم التي أنزلها الله على موسى وقد كان على العمل بها أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة: 44]. ¬

(¬1) رواه البخاري (7410)، ومسلم (193). (¬2) ((تفسير البغوي)) (3/ 82)، و ((تفسير الخازن)) (2/ 287). (¬3) رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652).

ب) الإنجيل: وهو كتاب الله الذي أنزله على عيسى ابن مريم عليهما السلام. قال تعالى: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [المائدة: 46]. وقد أنزل الله الإنجيل مصدقا للتوراة وموافقا لها كما تقدم في الآية السابقة. قال بعض العلماء (¬1): لم يخالف الإنجيل التوراة إلا في قليل من الأحكام مما كانوا يختلفون فيه كما أخبر الله عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50]. وقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أن التوراة والإنجيل نصا على البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157]. وقد لحق الإنجيل من التحريف ما لحق التوراة ... ج) الزبور: وهو كتاب الله الذي أنزله على داود عليه السلام. قال تعالى: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [السماء: 163]. قال قتادة في تفسير الآية: (كنا نحدث أنه دعاء علمه الله داود وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود) (¬2). د) صحف إبراهيم وموسى: وقد جاء ذكرها في موضعين من كتاب الله، الأول في سورة النجم في قول الله تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 36 - 39]. والثاني في سورة الأعلى، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 14 - 19]. فأخبر الله عز وجل عن بعض ما جاء في هذه الصحف من وحيه الذي أنزله على رسوليه إبراهيم وموسى عليهما السلام. والعلم عند الله. هـ) القرآن العظيم: وهو كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، وهو آخر كتب الله نزولا وأشرفها وأكملها، والناسخ لما قبله من الكتب وقد كانت دعوته لعامة الثقلين من الإنس والجن. قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] ومهيمنًا: أي شهيدًا على ما قبله من الكتب وحاكما عليها. وقال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19]. وقال عز وجل: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1]. وللقرآن أسماء كثيرة أشهرها: القرآن، والفرقان، والكتاب، والتنزيل، والذكر. فيجب الإيمان بهذه الكتب على ما جاءت به النصوص، من ذكر أسمائها، ومن أنزلت فيهم، وكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها، وما قُصَّ علينا من أخبار أهلها. 5 - الاعتقاد الجازم بنسخ جميع الكتب والصحف التي أنزلها الله على رسله، بالقرآن الكريم، وأنه لا يسع أحدًا من الإنس أو الجن، لا من أصحاب الكتب السابقة، ولا من غيرهم، أن يعبدوا الله بعد نزول القرآن بغير ما جاء فيه أو يتحاكموا إلى غيره. والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة. قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1]. وقال عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16]. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء- بتصرف - 131 ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 36). (¬2) رواه الطبري (17/ 470).

الفصل السادس: ثمرات الإيمان بالكتب

الفصل السادس: ثمرات الإيمان بالكتب وللإيمان بالكتب آثاره العظيمة على المؤمن فمن ذلك: - شكر الله تعالى على لطفه بخلقه وعنايته بهم حيث أنزل إليهم الكتب المتضمنة إرشادهم لما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة. - ظهور حكمة الله تعالى حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها، وكان خاتم الكتب القرآن العظيم مناسبا لجميع الخلق في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة. - إثبات صفة الكلام لله تعالى وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين، وعجز المخلوقين عن الإتيان بمثل كلامه. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء – ص: 129 - العلم بعناية الله؛ حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به ... - التحرر من زبالات أفكار البشر بهدي السماء. - السير على طريق مستقيمة واضحةٍ لا اضطراب فيها ولا اعوجاج. - الفرح بذلك الخير العظيم قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] - شكر الله على هذه النعمة العظيمة. - التحرر من التخبط الفكري والعقدي. رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد – بتصرف - ص: 282

الباب الثاني: الإيمان بالقرآن

الباب الثاني: الإيمان بالقرآن • الفصل الأول: تعريف القرآن وفضله. • الفصل الثاني: حفظ القرآن الكريم وسلامته من التحريف. • الفصل الثالث: منزلة القرآن من الكتب المتقدمة. • الفصل الرابع: خصائص القرآن الكريم. • الفصل الخامس: عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن. • الفصل السادس: المخالفون في القرآن.

الفصل الأول: تعريف القرآن وفضله

الفصل الأول: تعريف القرآن وفضله • المبحث الأول: معنى القرآن في اللغة. • المبحث الثاني: معنى القرآن في الاصطلاح. • المبحث الثالث: فضل القرآن.

المبحث الأول: معنى القرآن في اللغة

المبحث الأول: معنى القرآن في اللغة القرآن من مادة قرأ، ومنه قرأت الشيء، فهو قرآن: أي جمعته، وضممت بعضه إلى بعض، فمعناه: الجمع والضم. ومنه قولهم: ما قرأت هذه الناقة سلى قط، وما قرأت جنيناً، أي لم تضم رحمها على ولد (¬1). قال أبو عبيدة -رحمه الله-: ( ... وإنما سمي قرآناً لأنه يجمع السور فيضمها، وتفسير ذلك في آية من القرآن، قال الله -جل ثناؤه-: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ [القيامة: 17] ... تأليف بعضه إلى بعض ... ) ثم قال: وفي آية أخرى: فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآَنَ [النحل: 98] ... إذا تلوت بعضه في إثر بعض، حتى يجتمع، وينضم بعضه إلى بعض، ومعناه: يصير إلى معنى التأليف والجمع، ثم استشهد على هذا المعنى، بقول عمرو بن كلثوم: ذراعي حرة أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنيناً (¬2) أي لم تضم في رحمها ولداً قط (¬3) فسمي القرآن قرآناً، لأنه جمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور: بعضها إلى بعض (¬4). ويذكر أبو بكر الباقلاني: أن القرآن يكون مصدراً واسماً: مصدراً كما في قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ [القيامة: 17]، واسماً كما في قوله (تعالى): وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء: 45] (¬5). ويروى عن الشافعي رحمه الله: (أن القرآن اسم علم لكتاب الله، غير مشتق: كالتوراة، والإنجيل) (¬6). قال القرطبي رحمه الله: (والصحيح الاشتقاق في الجميع) (¬7) أي في القرآن والتوراة والإنجيل. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن- 1/ 53 ¬

(¬1) انظر: ((الصحاح)) - لإسماعيل بن حماد الجوهري (1/ 65) مادة: قرأ. بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار - دار العلم للملايين - الطبعة الثانية 1399هـ - 1979م، و ((لسان العرب)) (1/ 128) مادة: قرأ. (¬2) انظر: ((شرح القصائد السبع الطوال)) لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري (معلقة عمرو ابن كلثوم) (ص: 380)، بتحقيق: عبد السلام هارون - دار المعارف - الطبعة الثانية 1969م. مصر، وأصل البيت: ذراعي عيطل أدماء بكر تربعت الأجارع والمتونا (¬3) ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي (1/ 1 - 3)، بتحقيق: د/ محمد فؤاد سركين، دار الفكر - الطبعة الثانية 1390هـ - 1970م، مطبعة السعادة 1954م، مصر -. (¬4) انظر: ((لسان العرب)) (1/ 128) مادة قرأ. (¬5) انظر: ((نكت الانتصار لنقل القرآن)) لأبي بكر الباقلاني (ص: 56) بتحقيق: محمد زغلول سلام، منشأة المعارف 1971م الإسكندرية - مصر - (بدون رقم الطبعة). (¬6) ((الجامع لأحكام القرآن)) لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (2/ 298) - دار الكاتب العربي الطبعة الثالثة 1387هـ - 1967م، مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية - القاهرة. (¬7) ((الجامع لأحكام القرآن)) لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (2/ 298) - دار الكاتب العربي الطبعة الثالثة 1387هـ - 1967م، مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية - القاهرة.

المبحث الثاني: معنى القرآن في الاصطلاح

المبحث الثاني: معنى القرآن في الاصطلاح القرآن الكريم هو اسم لكلام الله تعالى، المنزل على عبده ورسوله: محمد صلى الله عليه وسلم، وهو اسم لكتاب الله خاصة ولا يسمى به شيء غيره من سائر الكتب (¬1). وإضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة حقيقية، من باب إضافة الكلام إلى قائله. وعرفه السيوطي (رحمه الله) بقوله: (وأما في العرف فهو الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه، فخرج بالمنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: التوراة والإنجيل، وسائر الكتب، وبالإعجاز: الأحاديث الربانية القدسية كحديث الصحيحين: ((أنا عند ظن عبدي بي ... إلى آخره)) (¬2) وغيره ... وقولنا: بسورة منه: هو بيان لأقل ما وقع به الإعجاز، وهو قدر أقل سورة، كالكوثر، أو ثلاث آيات من غيرها، بخلاف من دونها (¬3) ... ثم قال: (وزاد بعض المتأخرين في الحد: المتعبد بتلاوته، ليخرج المنسوخ التلاوة) (¬4). ولما ظهر الخوض في صفات الله تعالى، وفي كلام الله خاصة، من قبل الزنادقة، وفرق المبتدعة، أحتاج أهل السنة إلى تعريف القرآن تعريفاً يظهرون فيه معتقدهم في صفات الله تعالى عامة، وفي صفة الكلام خاصة، ومنه القرآن، مخالفين بذلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، فقال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: (وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه، فزعم أنه كلام البشر فقد كفر) (¬5). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن– 1/ 54 ¬

(¬1) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن))، القرطبي (2/ 298)، و ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/ 1). (¬2) رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) انظر: تفصيل هذه المسألة في كتاب: ((إعجاز القرآن)) لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، (ص: 254 - 258) بتحقيق: السيد أحمد صقر – دار المعارف الطبعة الثالثة 1971م – مصر. (¬4) ((التحبير في علم التفسير)) لجلال الدين السيوطي ص: (39 - 40) بتحقيق: د/ فتحي عبد القادر فريد – دار العلوم للطباعة والنشر – الطبعة الأولى 1402هـ - 1982م الرياض – السعودية. (¬5) ((شرح الطحاوية)) (ص: 121، 122).

المبحث الثالث: فضل القرآن

المبحث الثالث: فضل القرآن ما تقولون في فضل كتاب أنقذ الله به أمة من جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، دأبهم السلب والنهب، ومعبودهم الأوثان والحجارة، وديدنهم توارث العداوات والأحقاد، لا تعرف من الحق رسماً. نحلتها ما وجدت عليه آباءها, وما استحسنته أسلافها, من آراء منحرفة، ونحل مخترعة، وملل مبتدعة، فأنزل الله عليهم هذا الكتاب فأنقذهم منها به، وانتشلهم به من أوحالها. ما تقولون في فضل كتاب ختم الله به الكتب، وأنزل على نبي ختم به الأنبياء، وبدين ختمت به الأديان. ما تقولون في فضل كتاب فتحت به أمصار، وجثت عنده الركب، ونهل من منهله العلماء، وشرب من مشربه الأدباء، وخشعت لهيمنته الأبصار، وذلت له القلوب، وقام بتلاوته العابدون, والراكعون, والساجدون. ذلكم القرآن الكريم: (كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، فلا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه) (¬1). ذلكم القرآن الكريم: كلام الله العظيم، وصراطه المستقيم، ودستوره القويم، ناط به كل سعادة، وحكمته البالغة، ونعمته السابغة. ذلكم القرآن الكريم: حجة الرسول الدامغة، وآيته الكبرى شاهدة برسالته، وناطقة بنبوته. ذلكم القرآن الكريم: كتاب الإسلام في عقائده وعباداته، وحكمه وأحكامه، وآدابه وأخلاقه، وقصصه ومواعظه، وعلومه وأخباره، وهدايته ودلالته. ذلكم القرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك ... فضل القرآن ومكانته لا يدانيه فضل، ولا تسموا إليه مكانة، فضائل عامة، وفضائل خاصة لبعض سوره وآياته، أكتفي هنا بذكر ومضات من هذه ومن تلك عل فيها المراد. فضائل القرآن الكريم العامة: أما فضائله عامة، فقد وردت في آيات عديدة وأحاديث كثيرة الإشارة إلى ذلك، فمن القرآن ننهل أصدق الأوصاف لفضله، وأوفاها لحقه، فمن ذلك قوله تعالى: ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2]، وهي أول جملة بعد الفاتحة يقرأها المسلم في القرآن، ولك أن تسيح في استكناه المراد بذلك. ومن فضل القرآن في القرآن: أن عد إنزاله في شهر مزية كبرى لهذا الشهر، فما ظنكم بالمنزل نفسه، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ [البقرة: 185]. وعلق الرحمة عند تلاوة القرآن بالاستماع إليه: وَإِذَا قُرِئَ القُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204]. ووصفه بالعظمة: وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآَنَ العَظِيمَ [الحجر: 87]، وبالهداية: إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]. وأقسم الله به: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وأمر بتلاوته: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل: 91 - 92]. وبتدبره: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ [محمد: 24]، وذم الذين لا يسجدون عند تلاوته: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ [الانشقاق: 21]، وشهد له بالسلامة من العوج: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزُّمر: 28]، الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا [الكهف: 1]. بل إنه لكثرة فضائل القرآن تعددت أسماؤه وصفاته، وورد في القرآن كثير من ذلك، وسبق الحديث عن ذلك. ¬

(¬1) ((الموافقات)) الشاطبي (3/ 346).

فهل رأيتم فضلاً أكبر من هذا، ومنزلة أعظم من هذه المنزلة، يتبوأ عليها القرآن مستحقاً. هذا بعض فضل القرآن عند منزله سبحانه وتعالى، أما فضائله التي جاءت على لسان مبلغه عليه الصلاة والسلام فكثيرة، من أجمعها الحديث الذي رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن: 1 - 2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)) (¬1)، وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله, وهو النور المبين، والشفاء النافع, عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول: ألم حرف, .... )) (¬2). ومالنا والإطناب في فضل القرآن ليكفنا – وحسبنا ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) (¬3). فكما فاض فضل القرآن فعم الشهر الذي أنزل فيه فصار أفضل الشهور، والليلة التي أنزل فيها فصارت أفضل الليالي، فقد عم فضله أيضاً على الناس فصار خيرهم من تعلمه وعلمه. هذا غيض من فيض عن فضل القرآن الكريم عامة في الكتاب والسنة، وهناك فضائل خاصة لبعض سوره وآياته. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: 124 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2906) وقال: إسناده مجهول وفي الحارث مقال. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 43): لا ينبغي أن يعول عليه. وقال المزي في ((تهذيب الكمال)): [فيه] أبو المختار الطائي قال علي بن المديني لا يعرف وقال أبو زرعة لا أعرفه. (¬2) رواه الدارمي في ((سننه)) (3315)، قال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (1/ 66): [فيه] إبراهيم الهجري [ضعفه غير واحد]. وقال ابن كثير في ((فضائل القرآن)) (46): غريب من هذا الوجه وإنما هو من كلام ابن مسعود ولكن له شاهد من وجه آخر. وروي الترمذي حديثاً بلفظ (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصحح إسناده الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (901) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (5027).

الفصل الثاني: حفظ القرآن الكريم وسلامته من التحريف

المبحث الأول: حفظ القرآن في عهد النبوة أنزل الله تعالى كتابه ليكون الكتاب المهيمن، والرسالة الخاتمة، والشرعة الباقية، مما يتطلب رعايته عن عبث العابثين؛ وتحريف الغالين؛ وانتحال المبطلين؛ وقد اتفق له ذلك منذ اللحظة الأولى لنزوله، وحتى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تحقيقاً لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وللحفظ في عهد النبوة وجوه عدة، منها: 1 - الطريقة التي كان ينزل بها الوحي: وهي أن ينزل على هيئة تكون أدعى إلى حفظه، وضبطه: أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي, فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول)) (¬1). 2 - مدارسة الملك النبي صلى الله عليه وسلم القرآن: وكان ذلك في رمضان من كل عام: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة) (¬2). وفي رواية لأبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه ... ) (¬3). 3 - كتابة الوحي، ومقابلته: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقاً شديداً ... فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف، أو كسرة، فأكتب وهو يملي علي ... فإذا فرغت، قال: اقرأ، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس)) (¬4). 4 - قصر الكتابة على القرآن: وذلك في بادئ الأمر، لئلا يختلط القرآن بغيره، لحديث ((لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج ... )) (¬5). ثم كان الإذن بالكتابة، بعد أن زال سبب المنع. 5 - الحض على تعلم القرآن وتعليمه: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على تعلم القرآن وتعليمه، وحفظه، وتحفيظه, وكان يقدم أكثرهم أخذاً للقرآن في إمامة الصلوات، وقيادة السرايا: أخرج البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) (¬6). وأخرج الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن؛ فأتى على رجل منهم من أحدثهم سناً، فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: فاذهب أنت أميرهم ... )) (¬7). 6 - قوة الحافظة عند العرب: فالعرب كانوا أهل حافظة لا تكاد تخطئ، وذاكرة لا يكاد يعزب عنها شيء، وخاصة أن القرآن جاء في براعة من الأسلوب، ورفعة من البيان، ما يجعله أحرى لحفظه، والاهتمام به، حتى كثر آخذوه: صدراً وسطراً، قال الباقلاني رحمه الله: ( ... وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال, وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير؛ إذ كان عمدة دينهم، وعلماً عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم) (¬8). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن– 1/ 61 ¬

(¬1) رواه البخاري (2)، ومسلم (2333). (¬2) رواه البخاري (4997)، ومسلم (2308). (¬3) رواه البخاري (4998). (¬4) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (4889). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 157): [روي] بإسنادين ورجال أحدهما ثقات. وقال السيوطي في ((تدريب الراوي)) (2/ 24): رجاله موثقون. (¬5) رواه مسلم (3004). (¬6) رواه البخاري (5027). (¬7) ((سنن الترمذي)) (2876)، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأشار المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 300): إلى أن [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]. وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) [أشار في المقدمة إلى صحته]. (¬8) ((إعجاز القرآن)) (ص: 16).

المبحث الثاني: حفظ القرآن في عهد الصحابة رضوان الله عليهم

المبحث الثاني: حفظ القرآن في عهد الصحابة رضوان الله عليهم أما حفظ القرآن في عهد الصحابة، فقد تجلى ذلك عبر حادثتين عظيمتين: الأولى منها: في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وذلك لما كثر في حفظة كتاب الله تعالى، فخشي الصحابة ذهاب القرآن بذهاب حفظته؛ فأجمعوا أمرهم على جمعه في مكان واحد، وهو ما يسمى بالجمع الأول؛ أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إلي أبو بكر الصديق، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك؛ وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به في جمع القرآن، قلت كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن، أجمعه من العسب, واللخاف, وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة: 128]، حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر، حياته، ثم عند حفصة بنت عمر) (¬1). أما الحادثة الثانية: ففي عهد الخليفة الثالث، عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك لما ظهر النزاع بين بعض المسلمين بسبب الاختلاف في الأحرف التي يقرأ بها القرآن، فأجمع الصحابة ومن معهم من المسلمين على جمع القرآن في مصحف واحد، وأحرقوا ما دونه من المصاحف، توحيداً لقراءتهم، وجمعاً لكلمتهم: أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: (إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القرآن، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى! فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت, وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم؛ ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) (¬2). وهكذا حفظ كتاب الله تعالى على يد الشيخين الجليلين، أبي بكر وعثمان، وهو مما يعد في مناقبهما (¬3). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان بن علي بن حسن-1/ 63 ¬

(¬1) رواه البخاري (4679). (¬2) رواه البخاري (4987). (¬3) انظر: ((البرهان في علوم القرآن)) لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (1/ 239، 240). بتحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم – مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه الطبعة الثانية 1391هـ - 1972م – مصر.

المبحث الثالث: سلامة القرآن من التحريف

المبحث الثالث: سلامة القرآن من التحريف إن القرآن الكريم، وهو ما بين الدفتين، مما في أيدي الناس اليوم، هو الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو على ما كان عليه؛ لا زيادة فيه ولا نقصاً، وقد ورد إلينا متواتراً، بنقل الكافة – التي لا تقع تحت حصر ولا عد – عن مثلها حفظاً وكتابة، ولم يختلف في عصر من العصور عما في غيره، بل هو كتاب واحد، بلفظ واحد، يجتمع أهل الأرض جميعاً على قراءته دون اختلاف بينهم: لا في سورة، أو آية، أو كلمة، أو حركة. وقد ضمن الله تعالى لكتابه السلامة من التحريف، كما في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] وهذا يقتضي حفظ عينه وهيئته التي نزل عليها، وقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [الأنعام: 115] قال البيضاوي رحمه الله في تفسيرها: (لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أولا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً كما فعل بالتوراة ... فيكون ضماناً لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ) (¬1). ومن وسائل هذا الحفظ: النقل المتواتر، نقل الكافة المتكاثرة عن مثلها إلى غيرها، حفظاً وكتابة، جيلاً بعد جيل. قال الباقلاني رحمه الله: ( ... ثم تناقله خلف عن سلف، هم مثلهم في كثرتهم، وتوافر دواعيهم على نقله، حتى انتهى إلينا على ما وصفنا من حاله) (¬2). لكن الرافضة الشيعة، أثاروا بعض الشبهات حول تواتر القرآن وسلامته من التحريف، أذكر أشدها، مع الجواب على كل شبهة: الشبهة الأولى: زعموا أن التواتر لم يتوفر للقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بدليل حديث قتادة عند البخاري، قال (سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) (¬3). وفي رواية عن أنس قال: (مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة) (¬4) وذكر ثلاثة من المتقدمين، وأبدل أبي بن كعب بأبي الدرداء. والجواب على هذه الشبهة من وجوه: الأول: أن هذه الأحاديث ليس فيها ما هو مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في تعيين الصحابة، وتعدادهم اضطراب، حتى أن بعضهم أوصلهم إلى ستة (¬5)، فيصير العدد لا مفهوم له (¬6). الثاني: أن يكون المراد بالأحاديث أنه لم يجمع القرآن من فيِّ رسول الله إلا هؤلاء الأربعة، أو أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحرف التي نزل بها إلا أولئك، أو أنه لم يجمع ما نسخ منه وأزيل رسمه بعد تلاوته مع ما ثبت رسمه وبقي فرض حفظه وتلاوته، إلا تلك الجماعة (¬7). الثالث: الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أكثر من ذلك بكثير، ويدل عليه حديث بئر معونة، حيث قتل سبعون من القراء، (¬8) وقتل مثلهم في صدر خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك في موقعة اليمامة (¬9). ¬

(¬1) ((أنوار التنزيل وأسرار التأويل)) لأبي الخير عبد الله بن عمر البيضاوي (1/ 328) – مطبعة مصطفى البابي الحلبي – الطبعة الثانية 1388هـ - 1968م. مصر (وبهامشه تفسير الجلالين – السيوطي والمحلى). (¬2) ((إعجاز القرآن)) (ص: 17)، وانظر: ((البرهان)) للزركشي (1/ 241). (¬3) رواه البخاري (3810)، ومسلم (2465). (¬4) رواه البخاري (5004). (¬5) انظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (1/ 41). (¬6) انظر: ((فتح الباري)) (9/ 51). (¬7) انظر: ((البرهان)) للزركشي (2/ 242) و ((الانتصار)) للباقلاني (ص: 68 - 70)، و ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (1/ 57). (¬8) رواه البخاري (3064)، ومسلم (677). (¬9) رواه البخاري (4986).

الرابع: دواعي الحفظ لدى الصحابة، وتمام الاستعداد عندهم يحيل القول بقلة الحفظة منهم. الشبهة الثانية: زعم الرافضة أن بعض القرآن لم يتفق له التواتر، ومثلوا لذلك بقول زيد بن ثابت: (حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة: 128 - 129] (¬1). وبقوله – أيضا -: (فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها، فالتمسناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها في المصحف) (¬2). والجواب عن هذه الشبهة يكون في مقامين: المقام الأول: الجواب على ما ادعوه في آية براءة: وهو من وجوه: الأول: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يعرف هذه الآية قبل هذه الحادثة، بدليل رواية أخرى يقول فيها: (فقدت آية كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... الآية فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت (¬3)؛ فأثبتناها في سورتها) (¬4). الثاني: قد شهد كل من عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأبي بن كعب أنهم سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5) قال الخطابي: (فقد اجتمع في هذه الآية: زيد، وأبو خزيمة، وعمر) (¬6). الثالث: أما قول زيد في رواية البخاري: (لم أجدها مع أحد غيره) فقد قال الحافظ ابن حجر: (أي مكتوبة، كما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ، أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة ... ) (¬7). المقام الثاني: الجواب على ما ادعوه في آية الأحزاب: وهو من وجوه: الأول: هذه الآية شهد بسماعها من الرسول صلى الله عليه وسلم خزيمة الأنصاري، وشهادته تعدل شهادة رجلين بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬8). الثاني: قول زيد: (فقدت آية، كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على معرفته إياها، وأنه سمعها وإنما كان يطلب التثبت). الثالث: هذه الحادثة وقعت في عهد عثمان أثناء نسخ المصحف ولا يتصور أن تكون هذه الآية مفقودة من عهد نزول القرآن، مروراً بالجمع الأول في عهد أبي بكر، ولا تعرف إلا في عهد عثمان رضي الله عنه، مع حفظ الله تعالى لكتابه ودينه. ¬

(¬1) رواه البخاري (4986). (¬2) رواه البخاري (4049). (¬3) وقع اضطراب في هذا الاسم في بعض الروايات، فبعضهم ذكره: أبا خزيمة، وآخرون ذكروه: خزيمة، والصحيح أن صاحب آية التوبة أبو خزيمة، وصاحب آية الأحزاب خزيمة. انظر: ((فتح الباري)) (9/ 15). (¬4) كتاب ((المصاحف)) لأبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ص: 7)، صححه: د/ آثر جفري – المطبعة الرحمانية – الطبعة الأولى 1936م-1355هـ - مصر – وانظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (1/ 56). (¬5) انظر: ((كتاب المصاحف)) أبو بكر عبد الله بن أبي داود (ص: 30 - 31). (¬6) انظر: ((فتح الباري)) (9/ 15). (¬7) ((فتح الباري)) (9/ 15). (¬8) رواه البخاري (4784).

الشبهة الثالثة: زعم الرافضة أن القرآن تعرض لتحريف شديد من قبل الصحابة أثناء عملية الجمع، وأن عثمان رضي الله عنه قد أسقط منه خمسمائة حرف (¬1) حتى قام أحد مشاهير الشيعة، وهو الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي بتأليف كتاب في ذلك، سماه: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)، جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة ومجتهديهم في مختلف العصور، بأن القرآن الكريم قد زيد فيه ونقص منه (¬2) وذكر هاشم البحراني – وهو أحد علماء الشيعة – في كتابه: (البرهان). نصوصاً كثيرة يستدل بها على أن القرآن لم يجمعه إلا الأئمة، أي أئمة الشيعة الاثنا عشر (¬3)، وقد روى أحاديث في تحريف القرآن، منها: (لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين) (¬4) ومنها: (لولا أن زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفي حقنا على ذي الحجى) (¬5). والجواب على هذه الشبهة، من وجوه: الأول: أن هذا الزعم مخالف لإجماع الصحابة والمسلمين في كل عصر، والعادة تمنع تواطؤ هذه الجموع المتكاثرة، على الكذب والافتراء. الثاني: أن علي بن أبي طالب داخل في هذا الإجماع، ولو قدر أنه سكت عن إظهار الحق تقية، فلا يجوز له ذلك بعد أن أفضت إليه الخلافة، وصار الأمر بيده (¬6). الثالث: هذا الزعم مخالف لحفظ الله تعالى للقرآن: نصاً وعقلاً وحساً، أما النص فقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وأما العقل: فإن الله تعالى قدر أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الخاتمة، فمحال أن تتعرض للتحريف والتبديل؛ لأنه خلاف الحكمة والتقدير. أما الحس: فهو يشهد بأن الذي في أيدي عامة المسلمين اليوم، هو القرآن الكريم، فكيف يكون القرآن الحق عند قلة من الناس، والمحرف عند الأكثرية منهم! وهو مع ذلك الكتاب المهيمن، والناسخ لجميع الشرائع المتقدمة (¬7). منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن– 1/ 65 ¬

(¬1) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (1/ 81)، و ((مقدمتان في علوم القرآن)) ((مقدمة كتاب المباني)) لمجهول و ((مقدمة ابن عطية)) (ص: 78) وما بعدها تصحيح: د/ آثر جفري – مكتبة الخانجي – الطبعة الثانية 1392هـ - 1972م القاهرة. انظر: ((شرح المولى محمد صالح المازندراني على الكافي)) للكليني (11/ 76) مع تعليق الحاج الميرزا أبو الحسن الشعراني، من منشورات المكتبة الإسلامية 1388هـ طهران (بدون رقم الطبعة). (¬2) انظر: ((الخطوط العريضة)) للسيد محب الدين الخطيب (ص: 10، 11) – دار طيبة الرياض – مطابع الشرق الأوسط – الطبعة التاسعة (بدون تاريخ الطبعة)، وراجع كتاب: ((الشيعة والقرآن)) لإحسان إلهي ظهير (ص: 111) وما بعدها، فقد عقد باباً لدراسة كتاب الطبرسي – المذكور أعلاه – ونقل عنه جملاً كثيرة، وصور منه صفحات ... ((الشيعة والقرآن)) توزيع رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد نشر: إدارة ترجمان السنة – الطبعة الخامسة 1404هـ - 1983م – لاهور باكستان. (¬3) انظر: ((البرهان في تفسير القرآن)) لهاشم بن السيد سليمان بن سيد عبد الجواد البحراني (من علماء الشيعة) (1/ 15 - 17) الطبعة الثانية – طهران (بدون تاريخ الطبعة). (¬4) ((البرهان في تفسير القرآن)) (1/ 22) – باب فيما عني به الأئمة (ع) في القرآن. (¬5) ((البرهان في تفسير القرآن)) (1/ 22). (¬6) انظر: ((مقدمات في علوم القرآن)) (ص: 78). (¬7) يذكر الأستاذ: موريس بو كاي – أنه يوجد في المكتبات الأوربية – مثل المكتبة الوطنية بباريس، قطع مخطوطة من القرآن يرجع تاريخها – حسب تقدير الخبراء – إلى القرنين: الثاني والثالث من الهجرة. انظر: ((دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة)) (ص: 156).

الفصل الثالث: منزلة القرآن من الكتب المتقدمة

الفصل الثالث: منزلة القرآن من الكتب المتقدمة القرآن آخر الكتب السماوية وهو خاتمها، وهو أطولها، وأشملها، وهو الحاكم عليها. قال الله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48]. وقال تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 37]. وقال: مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111]. قال أهل التفسير في قوله تعالى وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ: مهيمناً وشاهداً على ما قبله من الكتب، ومصدقاً لها؛ يعني يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف، وتبديل، وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير. ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما قال تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص:52 - 53]. فالقرآن هو رسالة الله لجميع الخلق، وقد تكفل سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. ولا يقبل الله من أحد ديناً إلا ما جاء في هذا القرآن العظيم. قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في قوله تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ: أي مشتملاً على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وزيادة في المطالب الإلهية، والأخلاق النفسية؛ فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب، فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه. وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل، وإلا لو كان من عند الله لم يخالفه. رسائل في العقيدة لمحمد إبراهيم الحمد – بتصرف – ص: 293 القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب أصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب؛ يقال – إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده – قد هيمن فلان عليه. وتقول: هيمن فلان على فلان، إذا صار قريباً عليه؛ فهو مهيمن (¬1). ويسمى الحاكم على الناس والقائم بأمورهم: المهيمن (¬2). ولفظ مهيمن كان أصله (مؤيمن) بالهمزة، ثم قلبت الهمزة هاء لقرب مخرجها، كما تقلب في أرقت الماء؛ فيقال: هرقت الماء. ويقال: ماء مهراق، والأصل: ماء مراق (¬3). وأهل السنة والجماعة يؤمنون أن القرآن الكريم هو المهيمن على كل الكتب قبله؛ بمعنى: أنه أمين عليها، حافظ لها، وشاهد على أنها حق من عند الله تعالى، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما فيها من التحريف والتبديل، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، فصارت له الهيمنة عليها من كل وجه. نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام رحمه الله: (السلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب) (¬4). فهو الأمين والشاهد على ما بين يديه من الكتب، وهو أيضاً الحاكم على كل كتاب قبله بإجماع المسلمين. ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 344)، و ((فتح الباري)) (9/ 149). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 43). (¬3) انظر: ((تفسير غريب القرآن)) لابن قتبة (ص: 12). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 43).

قال رحمه الله: ( ... إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن، وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن) (¬1). وقد بين رحمه الله السبب في احتلال القرآن هذه المنزلة العالية، والمرتبة الرفيعة بقوله: (فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بياناً وتفصيلاً، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضاً ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات) (¬2). ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: تواترت النصوص عن سلف هذه الأمة وخلفها على أن القرآن الكريم هو المؤتمن والشاهد والحاكم على ما بين يديه من الكتب. فقد روى الطبري رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسير قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 4]. قال: (المهيمن: الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله) (¬3). وروي عنه أيضاً أنه قال: (وَمُهَيْمِنًا أي: حاكماً على ما قبله من الكتب) (¬4). وقال قتادة رحمه الله: وَمُهَيْمِنًا أي: (أميناً وشاهداً على الكتب التي خلت قبله) (¬5). وعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: (القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب) (¬6). وروى الطبري عن ابن زيد في قوله: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ قال: (مصدقاً عليه، كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدق على ذلك، وكل شيء ذكر الله في القرآن فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق) (¬7). وجميع هذه الأقوال كما قال ابن كثير رحمه الله: (كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله) (¬8). وإنما احتل القرآن الكريم هذه المنزلة لكونه يستحيل أن يتطرق إليه التبديل والتحريف، ولا يمكن نسخه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ختم الله به الكتب. قال الفخر الرازي رحمه الله: (إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخاً البتة، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف على ما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق؛ صدق باقية أبداً) (¬9). ¬

(¬1) ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 508)، وانظر كذلك (5/ 509). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 44). (¬3) ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 345). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 92). (¬5) ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 345). (¬6) ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 346)، و ((تفسير القرطبي)) (6/ 198). (¬7) ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 346). (¬8) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 92) وانظر كذلك: قول ابن قتيبة في ((تفسير غريب القرآن)) (ص: 11). (¬9) ((التفسير الكبير)) (12/ 11).

مستند الإجماع في المسألة: لقد نص المولى جل جلاله في كتابه العزيز على أن هذا القرآن هو الأمين على ما سبقه من الكتب، وهو الشاهد والحاكم عليها فقال تبارك وتعالى في محكم التنزيل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48]. قال ابن كثير رحمه الله: (جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]) (¬1). فهو محفوظ بحفظ الله عز وجل إلى قيام الساعة، شاهد على هذه الكتب، مبين ما حرف منها، وحاكم بما أقره الله وأمر به من أحكامها، وناسخ ما نسخه الله منها، وهو أمين عليها في ذلك كله. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 748 ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 92).

الفصل الرابع: خصائص القرآن الكريم

الفصل الرابع: خصائص القرآن الكريم • المبحث الأول: الأخبار الغيبية. • المبحث الثاني: إعجازه. • المبحث الثالث: تعدد أسمائه وصفاته. • المبحث الرابع: شفاعته لأهله. • المبحث الخامس: أنه لا ينسب إلا إلى الله تعالى. • المبحث السادس: التعبد بتلاوته. • المبحث السابع: الثواب لقارئه ولمستمعه. • المبحث الثامن: أن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظه. • المبحث التاسع: أنه آخر الكتب المنزلة. • المبحث العاشر: هيمنته على الكتب السابقة.

المبحث الأول: الأخبار الغيبية

المبحث الأول: الأخبار الغيبية حوى القرآن الكريم جملة من أخبار الغيب, تجعل الإعجاز في القرآن إعجازاً مركباً, إن كان خصومه عجزوا عن الإتيان بمثله مفرداً, فهم عن الإتيان بمثله مركباً أعجز, فلا يفكر أحدهم أو يخطر بباله محاولة الإتيان بمثله, وإن حاول منهم سفيه ذلك زاد سفاهته سفاهة، وحمقه حمقاً. وعلم الغيب ليس لأحد من البشر, ولا يدركون منه شيئاً إلا على سبيل التخمين لا على سبيل القطع والجزم. أما أن يأتي كتاب يحمل أخباراً غيبية، ويقطع بوقوعها ثم تقع كما أخبر فهذا من خصائص القرآن الكريم. والغيب إما أن يتعلق بماض, أو بحاضر, أو بمستقبل, وهي أخبار كثيرة جداً نذكر أمثلة لكل نوع للإثبات لا للاستقصاء. فمن الأخبار الغيبية الماضية: الإخبار عن خلق السماوات والأرض، وآدم وقصة إبليس لعنه الله .. ثم بعد ذلك قصص الأنبياء السابقين، والأمم الماضية ووجه الغيب فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يعرف القراءة, فلم يعهد عنه أنه قرأ في كتب أهل الكتاب, أو تلقى الدرس عن أحد منهم, أو خالطهم, أو مازجهم, ولم يكن أحد من قومه يعلم شيئاً منها. ونصوص القرآن تشهد على ذلك، فقد خاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في سياق قصة نوح عليه السلام، فقال سبحانه: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49]، وفي قصة موسى عليه السلام: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ... وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ [هود: 44 - 46]. وفي قصة مريم عليها السلام: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44]. أخبار غيب الحاضر: آيات كثيرة كشفت أحداثاً وقضايا في حينها لم يحضرها الرسول صلى الله عليه وسلم, ولم يخبره بها أحد من أصحابه. وفي سورة التوبة من هذا النوع كثير، فقد وردت آيات تكشف حال المنافقين وما يخفونه بينهم أو في صدورهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ [البقرة: 204]، يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة: 74]. ولاشتهار هذا بين المنافقين والكفار فإنهم يتنادون فيما بينهم أن اخفضوا أصواتكم حتى لا يسمعكم إله محمد، ووصف الله المنافقين بقوله: يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة: 64]. يقولون ذلك لما شاهدوا من أخبار الغيب التي يجيء بها القرآن الكريم. أخبار الغيب في المستقبل: وهذا النوع آياته كثيرة منها ما تحقق وانقطع، ومنها ما تحقق أيضاً وما زال في كل يوم يتحقق. فمن النوع الأول قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1 - 4]، الآية والقصة في ذلك مشهورة وتفصيلها في كتب التفسير. ومنه أيضاً وعد الله سبحانه للرسول وأصحابه بدخول مكة: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ [الفتح: 27]، ثم وقع هذا الحادث كما أخبر الله تعالى.

ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]، فلم يستطع أحد أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل مع كثرة المتربصين له, بل وكثرة المحاولات لذلك، فتبوء كلها بالفشل أمام: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. والشواهد على ذلك كثيرة أوردها المؤرخون والرواة، وسردوا منها ما يثبت أن هذا التحدي لم يكن في مجتمع يخلص الود والحب، بل كان يكمن فيه أعداء متربصون, ماكرون, يكيدون من اليهود والمشركين. ومن النوع الثاني الذي تحقق ومازال يتحقق الإخبار بعد أن وقع التحدي بالقرآن أنهم لن يأتوا بمثل هذا القرآن وأنهم لن يفعلوا فقال سبحانه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88]. وقال سبحانه: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 23 - 24]، إنه ليس تحدياً فحسب، بل تحد مع إخبار مسبق بأنهم لن يفعلوا!! ومازال التحدي جارياً وما زال الخبر الغيبي متحققاً. ومنه ما جاء في بيان أن الله قد كتب للإسلام البقاء والخلود وحفظ القرآن: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد: 17]، وقوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. ويظهر ذلك ويستبين إذا علمت أن هذه الآيات نزلت في مكة في وقت كان المشركون متكالبين على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وكان المسلمون في اضطهاد وتعذيب, ومع هذا جاءت هذه البشرى ترسل أشعتها, ولو كانت تحمل خبراً بظهورهم على قومهم فحسب لكان فيها إعجاز وأي إعجاز، فكيف وهي تحمل خبر (مكث الإسلام في الأرض) , و (إيتاء أكله في كل حين) , و (حفظ الله له)، والله ما هذا بقول بشر, ولا يقوله بشر لا يعلم مصيره، ولا يضمن لنفسه حياته، فكيف يضمن بقاء هذا الدين في حياته وبعد وفاته أبد الآبدين وما بقيت على الأرض حياة. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي- ص: 87

المبحث الثاني: إعجازه

المبحث الثاني: إعجازه القرآن هو الحجة التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتحدى الناس أن يأتوا بمثله، وتحداهم أخرى أن يأتوا بعشر سور مثله، وتحداهم ثالثة أن يأتوا بسورة مثله، وتحداهم رابعة أن يأتوا بحديث مثله، وما استطاعوا ولن يستطيعوا. ولن نذهب يمنة ويسرة لتأصيل الإعجاز، أو لإطالة الحديث عنه هنا، فليس هذا بمقام ذاك، ولا هو بمستوعب له، فالإعجاز أجلى من أن يطال في بيانه، وأوعب من أن تستقصى أطرافه. نزل القرآن على أمة أمية في العقيدة، وأمية في الفكر، وأمية في الصناعة، وفي الزراعة، وأمية في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وأمية في كل شؤون الحياة، إلا الكلمة وتذوقها، فهم أربابها وأصحابها, يمتطونها ويحكمون صنعتها, يطربون لجميلها, ويمجون قبيحها, ملكوها بقدر ما ملكتهم, يسيرونها وتسيرهم, ترفع فيهم وتضع. بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن معجزته في شيء لا يتقنونه، أو فن لا يحذقونه، بل تحداهم فيما يدركون, وفيما هم فيه بارزون. جاءت المعجزة قرآناً يقرأونه بألسنتهم، ويسمعونه بآذانهم، ويزنونه بموازين كلامهم، فإذا به أبلغ من بليغ الكلام، وأفصح من فصيحه، لا يرتقي إليه بيان, ولا يدركه لسان، فملك البلاغة بألوانها، وجاز الفصاحة بأركانها. وجاءهم بما لا قبل لهم برده، ولا قدرة لهم في دفعه، لا يملكون من أنفسهم معه إرادة، وليست لهم معه مشيئة، إلا أن يضع المعاند أصابعه في أذنيه، ويستغشي ثيابه ويلغو فيه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآَنِ وَالغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصِّلت: 26]، أما من لم يفعل فقد حيل بينه وبين خلافه, فلا يملك إلا أن ينعقد قلبه عليه وهو يجهد في نقضه, ويستقيم لدعوته، وهو يبالغ في رفضه, فلا مفر منه إلا إليه, فقد أخذ بمجامع القلوب, واستولى على جهات النفوس, فما أعجب شأنه, وأعظم أمره. ويزيدك عجباً لا ينفد أن هذا الكلام لم يأخذ من اللغة صنعتها، ومن الأسلوب جماله، ومن الفصاحة رونقها، ومن البلاغة سموها فحسب، بل أخذ مع هذا كله من المعاني أسماها، ومن المقاصد أعلاها. جاء بالدين بأصوله, وحججه, وبراهينه, وشريعته, وآدابه, وسائر مقومات الأمة على أكمل وجه، وأحسنه، فهو والله إعجاز في إعجاز. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: 95

المبحث الثالث: تعدد أسمائه وصفاته

المبحث الثالث: تعدد أسمائه وصفاته وردت للقرآن الكريم أسماء وصفات كثيرة في كثير من الآيات, وفي بعض من الأحاديث النبوية. ولكثرة هذه الأسماء والصفات، فقد أفردها بعض العلماء بمؤلفات مستقلة، فضلاً عن إيرادها أو إيراد جملة منها في بطون مؤلفاتهم. وممن ألف فيه علي بن أحمد بن الحسن التجيبي الحرالي، المتوفي سنة (647)، وابن قيم الجوزية المتوفي سنة (751)، ألف كتاب (شرح أسماء الكتاب العزيز) (¬1)، ومن المعاصرين، ألف الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، كتاباً عنوانه: (الهدى والبيان في أسماء القرآن). وقد وقع الاختلاف بين العلماء في عدد أسماء القرآن الكريم، فهذا الزركشي يذكر أن (الحرالي) أنهى أساميه إلى نيف وتسعين، لكن الزركشي نفسه لا يورد إلا خمسة وخمسين اسماً نقلها عن أبي المعالي عزيزي بن عبد الملك المعروف بشيدل (¬2)، وقد أوردها أيضاً السيوطي (¬3). أما الفيروز آبادي فقد قال: (ذكر الله تعالى للقرآن مائة اسم نسوقها على نسق واحد) (¬4)، لكنه لم يذكر إلا تسعة وثمانين اسماً وزادها أربعة أسماء. فتكون جملة الأسماء التي أوردها الفيروز آبادي ثلاثة وتسعين اسماً من القرآن للقرآن. أما الشيخ صالح البليهي فلم يذكر إلا ستة وأربعين اسماً من أسماء القرآن الكريم، لاعتقاده أن بعض هذا العدد –إن لم يكن أكثره- أوصاف للقرآن وليست بأسماء (¬5)، ومع هذا فإنه لا يستبعد أن يكون بعض ما ذكره هو من أوصاف القرآن وليست من أسمائه (¬6). ومن أسمائه التي استمدها العلماء من القرآن نفسه: التنزيل، الآيات، الكتاب، القرآن، الحق، التذكرة، الهدى، الوحي، الصراط المستقيم، التبيان، الصدق، المفصل، الحديث، الرحمة، النور، النذير، كلام الله، القول الثقيل، القول الفصل، العربي، الحكيم، الحكمة البالغة، العلم، القصص، البشير، الموعظة، المبارك البصائر، الشفاء، النبأ العظيم، الفرقان، المجيد، الروح، البلاغ، حبل الله، البرهان، أحسن الحديث المثاني، السراج، المبين، وغير ذلك من الأسماء والصفات. وقد بين العلماء حكمة تعدد الأسماء فقال الفيروز آبادي: (أعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى أو كماله في أمر من الأمور، أما ترى أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال قوته، وكثرة أسماء القيامة دلت على كمال شدته وصعوبته، وكثرة أسماء الداهية دلت على شدة نكايتها، وكذلك كثرة أسماء الله تعالى دلت على كمال جلال عظمته، وكثرة أسماء النبي صلى الله عليه وسلم دلت على علو رتبته وسمو درجته، وكذلك كثرة أسماء القرآن دلت على شرفه وفضيلته) (¬7). وبين أسماء القرآن الكثيرة اشتراك وامتياز، فهي تشترك في دلالتها على ذات واحدة هي القرآن الكريم نفسه، ويمتاز كل واحد منها عن الآخر بدلالته على معنى خاص، فكل اسم للقرآن يدل على حصول معناه فيه، فتسميته مثلاً بالهدى يدل على أن الهداية فيه، وتسميته بالتذكرة يدل على أن فيه ذكرى، وهكذا كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى عن لفظ السيف والصارم والمهند ... فإنها تشترك في دلالتها على الذات فهي من هذا الوجه كالمتواطئة، ويمتاز كل منها بدلالته على معنى خاص، فتشبه المتباينة وأسماء الله وأسماء رسوله وكتابه من هذا الباب) (¬8). ¬

(¬1) ((ذيل طبقات الحنابلة)) ابن رجب، (2/ 449). (¬2) ((البرهان)) الزركشي (1/ 273). (¬3) ((الإتقان)) السيوطي (1/ 50 - 51). (¬4) ((بصائر ذوي التمييز)) الفيروزآبادي (1/ 88). (¬5) ((الهدى والبيان في أسماء القرآن)) صالح البليهي (ص: 44). (¬6) ((الهدى والبيان)) صالح البليهي (ص: 43). (¬7) ((بصائر ذوي التمييز)) الفيروزآبادي (1/ 88). (¬8) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (20/ 494).

وهناك إشارة دقيقة استمدها بعض العلماء من تسميته بالقرآن، والكتاب، فقال: (روعي في تسميته قرآناً كونه متلوا بالألسن، كما روعي في تسميته كتاباً كونه مدوناً بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه. وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعاً، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجتمع عليه من الأصحاب, المنقول إلينا جيلاً بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة, ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحافظ بالإسناد الصحيح المتواتر. وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية، إقتداء بنبيها بقي القرآن محفوظاً في حرز حريز (¬1). وينبغي أن أنبه إلى أمرين هنا .. الأول: أن ما ذكرته من أسماء القرآن مأخوذ من القرآن نفسه، وقد ورد في السنة أسماء أخرى للقرآن الكريم. الثاني: أن أسماء القرآن وصفاته توقيفية، لا نسميه ولا نصفه إلا بما جاء في الكتاب, أو في السنة النبوية الشريفة، فإن قلت: أرأيت تسميته بالمصحف، هل وردت في الكتاب أو السنة، قلت: أن المصحف ليس اسماً للقرآن ذاته، وإنما اسم للصحف التي كتب عليها القرآن، ولم يطلق عليه (المصحف) إلا بعد جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في صحف ضم بعضها إلى بعض فسميت مصحفاً. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: 121 ¬

(¬1) ((النبأ العظيم)) د. محمد عبد الله دراز (ص: 12 - 13).

المبحث الرابع: شفاعته لأهله

المبحث الرابع: شفاعته لأهله خص الله سبحانه وتعالى كتابه المبين القرآن الكريم من بين سائر الكتب بأن يشفع لأهله يوم القيامة، وقد ثبت هذا للقرآن الكريم كله ولسور منه بعينها، ووردت في السنة أحاديث تبين هذه الشفاعة. ومن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)) (¬1). وروى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)) (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: ((يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول القرآن: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق، وتزاد بكل آية حسنة)) (¬3). وعن الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: (يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه، فيكون له قائداً إلى الجنة، ويشهد عليه ويكون سائقاً به إلى النار) (¬4). وغير ذلك من الأحاديث التي تثبت شفاعة القرآن لأهله يوم القيامة، فهنيئاً لأصحاب القرآن صحبته. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي– ص: 119 ¬

(¬1) رواه مسلم (804). (¬2) رواه أحمد في ((المسند)) (2/ 174) (6626). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 107): رجاله محتج بهم في الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (10/ 118): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1429) (¬3) رواه الترمذي (2915)، وقال: حسن صحيح. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (901) كما أشار لذلك في مقدمته. وذكر المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 299) إلى أن [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]. (¬4) رواه الدارمي في ((سننه)) (3325). قال الوادعي في ((الشفاعة)) (245): فيه انقطاع.

المبحث الخامس: أنه لا ينسب إلا إلى الله تعالى

المبحث الخامس: أنه لا ينسب إلا إلى الله تعالى الأصل في الأقوال أن تنسب إلى قائليها، تلك قضية مسلمة لا شك فيها. وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من عند نفسه، بل هو من عند ربه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4]. لكن ما بلغه عليه الصلاة والسلام لأمته، إما أن يؤمر بتبليغه بلفظه على أنه قرآن لا يزيد فيه حرفاً، ولا ينقص منه حرفاً، وإما أن يوحى إليه معناه، ويوكل إليه التعبير عنه. فما كان من الأول فليس للرسول صلى الله عليه وسلم منه إلا التبليغ، ولا يمنحه هذا حق نسبته إليه، فلا ينسب إلا لله سبحانه وتعالى. أما النوع الثاني فإن للرسول صلى الله عليه وسلم فوق تبليغه صياغة ألفاظه، وحينئذ فيجوز أن ينسب إلى الله نسبة إنشاء، ويجوز أن ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نسبة تبليغ وعبارة، هذا فيما يضيفه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه أو ما يسمى بالأحاديث القدسية. وعلى هذا فإن القرآن الكريم هو الذي لا تجوز نسبته لغير الله, لأن لفظه ومعناه من عند الله. قال ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى عن الأحاديث القدسية: (وهي ما نقل إلينا آحاداً عنه صلى الله عليه وسلم مع إسناده لها عن ربه, فهي من كلامه تعالى، فتضاف إليه وهو الأغلب، ونسبتها إليه حينئذ نسبة إنشاء لأنه المتكلم بها أولاً، وقد تضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المخبر بها عن الله تعالى، بخلاف القرآن فإنه لا يضاف إلا إليه تعالى فيقال فيه: (قال الله تعالى) , وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى) (¬1). ولعل الحكمة في جواز نسبة الأحاديث القدسية إلى الله تعالى وإلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنها ليست كالقرآن، ألفاظها ومعانيها من الله، فلا تصح الصلاة بتلاوتها، وينال قارئها ما ينال تالي القرآن من الثواب على كل حرف، ويجوز أن يمسها المحدث، وتجوز روايتها بالمعنى، وتختلف الروايات فيها، بخلاف القرآن وما إلى ذلك، ولو كان لفظها من الله، لكان لها ما كان للقرآن الكريم. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: 132 ¬

(¬1) ((فتح المبين لشرح الأربعين)) أحمد بن حجر الهيثمي (ص: 201).

المبحث السادس: التعبد بتلاوته

المبحث السادس: التعبد بتلاوته وهي من خصائص القرآن التي لا تكون لسواه، وقد تلتبس هذه الخاصية للقرآن بالخاصية التالية وهي الثواب لقارئه ولمستمعه، والحق أنها غير تلك، فالتعبد بتلاوة القرآن أخص من ثواب القراءة، ذلكم أنا نقصد بالتعبد بتلاوته، أن من العبادات الشرعية ما لا يتم إلا بتلاوة القرآن وهي الصلاة عمود هذا الدين، أما الثواب على التلاوة فيحصل سواء كان في صلاة أو في خارجها، وهذا فرق أحسبه بيناً. وقد وردت النصوص القرآنية التي تقرن تلاوة القرآن الكريم بالصلاة عمود هذا الدين، قال تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل: 1 - 4]. وقال سبحانه: أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء: 78 - 79]، وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ [فاطر: 19 - 20]. وقال المفسرون: (إن (قرآن الفجر) هو صلاة الصبح) (¬1). فتأمل أخي المسلم كيف عبر عن الصلاة بالقرآن، وما ذاك إلا لأن الصلاة لا تصح إلا به، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)). (¬2). وهذا البخاري وغيره يعقد باباً في (وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت)، بل عد العلماء الفاتحة ركنا من أركان الصلاة لا تصح إلا بها، ... وغير ذلك من العبادات التي يشترط أو يسن فيها تلاوة شيء من القرآن، والتي لا يقوم فيها مقامه شيء من الكلام سواه، مما يدل على اختصاص القرآن بأنه متعبد بتلاوته فيها، فضلاً عن الثواب لقارئه. فتأملوا أيها الأحبة فضل القرآن العظيم، ومكانته السامية بين العبادات حتى مازجها وكأنه روحها الذي به تصح، وعمادها الذي به تقوم. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– بتصرف - ص: 133 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير جامع البيان)) الطبري (15/ 94). (¬2) رواه البخاري (756)، ومسلم (394)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

المبحث السابع: الثواب لقارئه ولمستمعه

المبحث السابع: الثواب لقارئه ولمستمعه الواجبات والسنن وعد الله عليها بالثواب، حتى المباحات إذا اقترنت بالنية الصالحة يثاب فاعلها. وطلب العلم إذا أريد به وجه الله نال صاحبه الأجر العظيم، والثواب الجزيل. لكن تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه، واستماعه وتدبره، وما إلى ذلك يثاب صاحبها فوق ذلك ثواباً خاصاً لا يكون لشيء غيرها. وأنواع الثواب التي وردت لأولئك التالين للقرآن، أو معلميه، أو متعلميه، أو مستمعيه، متنوعة متعددة. منها ما يكون حسنات ترجح بميزان صاحبها يوم القيامة، ومنها ما يكون نوراً وضياء، ومنها ما يكون حفظاً لنفسه، ولأهله، ولماله في الدنيا، ومنها ما يكون شفيعاً لصاحبه يوم القيامة، ومنها ما يكون سبباً لحماية صاحبها من عذاب النار، وغير ذلك من أنواع الثواب على تلاوة القرآن. ومنها ما يكون ثواباً لتلاوة القرآن كله، ومنها ما يكون ثواباً على تلاوة سورة منه مخصوصة, ومنها ما يكون ثواباً على آيات منه معينة، ومنها ما يكون خاصاً بالمداومين على القرآن وأهله, وخاصته, وحملته. الاجتماع لتلاوته: ومن أجمع الأحاديث التي وردت في بيان ثواب من اجتمع لتلاوة القرآن الكريم وتدارسه، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)). (¬1). فجمع هذا الحديث أربعة أنواع من ثواب تلاوة القرآن ومدارسته: 1 - تنزل عليهم السكينة. 2 - تغشاهم الرحمة. 3 - تحفهم الملائكة. 4 - يذكرهم الله فيمن عنده. فمن منا لا يحرص على واحدة منها، فضلاً عن مجموعها، كيف وقد اجتمعت كلها في علم واحد ميسر. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: 134 ¬

(¬1) رواه مسلم (2699).

المبحث الثامن: أن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظه

المبحث الثامن: أن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظه ميز الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم عن سائر الكتب بأن تعهد بحفظه فقال عز شأنه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ... القرآن وحده هو الذي تعهد الله بحفظه، أما التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة، فقد أوكل الله حفظها إلى أهلها، قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة: 44]، الآية .. وانظر بعين البصيرة، واخترق بنورها حواجز القرون، فسترى حتماً معجزة إلهية في هذا الكتاب المبين، وإن شئت فقل معجزة في المعجزة، تكالب الأعداء عليه منذ أول إشعاعة له، وتداعت الأمم عليه، وتآمر المتآمرون، وخطط المخططون، على وجه ما كان من الممكن أن ينجو منهم, فلا تتبدل فيه كلمة زيادة أو نقصاً، ولا يختلف فيه حرف تقديماً أو تأخيراً، لولا أن هناك قوة أكبر لا يستطيعها بشر، تولت حفظ هذا الكتاب. أول ما نزل كان المشركون يلغون عند تلاوته، ويطاردون صاحبه، ويحاربون أتباعه، ويصرفون الناس عن سماعه، ما تركوا وسيلة إلا سلكوها، ولا مطية إلا ركبوها، وخابوا وخسروا. وحين دخل الناس في الإسلام، دخل معهم أرباب نحل وملل يريدون تحطيم الحصون الإسلامية من الداخل، ونشأت فرق، وكثر النزاع، وعمت الفتن، وطمت المحن، وذهبت كل فرقة تلتمس لها سنداً من القرآن، ومن السنة، وما كان بعض أصحاب الفرق ليتردد أو ليحجم عن التحريف في القرآن الكريم لو استطاع ذلك، لا يمنعه عنه خوف من الله أو احترام لكتابه، فالذي يجرؤ على الافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم لن يعدم جرأة على الافتراء على الكتاب الذي جاء به. فاستطاع أولئك أن يفتروا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما احتاج إلى جهود علماء أعلام، حتى قاموا بتنقيتها من افتراءات المفترين، ودحض شبهات الملحدين، حتى ظلت كما كانت محجة بيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك. فحين قال الزنديق لهارون الرشيد رحمه الله تعالى: أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم، أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم منها حرفاً، أجابه هارون: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري, وعبد الله بن المبارك، ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً (¬1). هكذا تجرأوا على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما القرآن فلم يجرؤ أحد منهم على شيء من ذلك. وحين قامت دولة الإسلام، واتسعت رقعته، حسبت طائفة أن المهمة انتهت، وأن العقيدة انتشرت، ووصلت في الأرض مداها، فركنوا إلى الدعة، وآثروا السكون، فالتمس الأعداء منهم هذه الغفلة، فتداعوا عليهم، وجيشوا الجيوش، وجمعوا الجموع، وصبوا جام غضبهم على العالم الإسلامي في أرضهم، يهدمون بيوتهم ومساكنهم .. وفي أرواحهم .. يقتلونهم رجالاً, ونساء, وأطفالاً، كباراً وصغاراً، وفي تراثهم .. يحرقون كتبهم, ومؤلفاتهم, وعلومهم. ¬

(¬1) ((تاريخ الخلفاء)) السيوطي (ص: 194)، و ((الأسراء المرفوعة)) ملا علي القارئ (ص: 62).

صليبيون .. وتتار .. ومغول .. وباطنية .. وملاحدة .. ثم استعمار بأبشع صوره، وأردأ أشكاله، يستولي على العقول، فيسلخها من الدين، ويجردها من الأخلاق، وينشر الفسق، والمجون، والبدع، والمنكرات، وصوراً من الجهل، والدجل، والشعوذة .. حتى أعجزوهم عن حماية أنفسهم، أو عقيدتهم، أو أرضهم، أو أعراضهم، أو أخلاقهم، حتى عقولهم باعوها بالرخيص لأولئك فقلدوهم في مساوئهم, ولم يدركوا الأخذ بمحاسنهم، إن كان فيهم محاسن. بلبلوا أفكارهم، ورموهم في متاهات العقول، وراجت بينهم الشعارات البراقة: التقدم .. التطور .. العلمانية .. الحداثة .. البنيوية .. التحرر .. الثورية .. التجديد .. القومية .. الاشتراكية .. الشيوعية .. شعارات جوفاء يرددونها لا يفقهون لها معنى, أو لا يدركون لها مرمى. مع كل هذا التفكك في العالم الإسلامي .. وكل هذا التأثير من الأعداء فإنهم لم يستطيعوا تحريف, أو تبديل, أو أدنى تغيير في هذا الكتاب، ولم يكونوا من الزاهدين، ولا عنه من المتورعين، فهم أحرص الناس لو كانوا يستطيعون. استطاعوا الدس في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم, وفي تاريخ المسلمين, وشوهوا قيادات إسلامية حكيمة، وزوروا أحداثاً، وحطموا دولاً ومجتمعات، واتخذوا لهم زعامات أظهروها في صور الأبطال أو المصلحين، أو أدعياء النبوة، حتى القرآن دسوا الشبهات في علومه ومعارفه، في نزوله وجمعه، في تفسيره ... الخ. لكن شيئاً واحداً مع كل هذه الظروف, وكل هذه الأحداث, وكل هذه القدرات والمحاولات, والمكر, والكيد، لم يستطيعوه، ألا وهو زيادة حرف, أو نقص حرف، فضلاً عن الكلمة, أو تقديم جملة على جملة، أو تغيير عبارة بأخرى في هذا القرآن. هذا لم يستطيعوه .. ولم يدركوه، ولو اجتمعوا له، كانت المطابع عندهم قبل أن يعرفها المسلمون بسنوات طوال، وكان عندهم من السلطة والقوة، ما يستطيعون به طبع مصاحف مزورة، وترويجها بين المسلمين قبل أن يعرفوا المطابع، أو في مجتمع لم يصل إليه المصحف، حاولوا ذلك لكن محاولاتهم كلها تبوء بالفشل، وتعود عليهم بالخسار المادي، والفكري، فقد كان المسلمون في هذه الناحية أقوى منهم، وإن كانوا أضعف في كل شيء، وما هذه القوة إلا من: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وأنى التفتنا يمنة أو يسرة، فلن نجد كتاباً يشارك القرآن في هذه الخاصية. دونكم التوراة والإنجيل، التحريف فيهما أشهر من أن يذكر، لم يحرفهما الخصوم، بل حرفهما أهلهما وبأيديهم. دونكم المؤلفات الهائلة التي ألفت بعد نزول القرآن بقرون وقرون، لا تجدون أبداً مخطوطتين لكتاب واحد يتطابقان تماماً، فلابد من الاختلاف في كلمة أو جملة، تصحيفاً أو تحريفاً، أو تغييراً أو تبديلاً، إن لم يكن هناك اختلاف في فصول أو أبواب، وإن لم يكن هناك نقصان من مخطوطة وزيادة في أخرى، ما الذي ميز القرآن الكريم عن هذا، والنساخ هم النساخ، لا تجد نسخة تختلف عن الأخرى، لا أقول في جملة، ولا في كلمة، ولا في حرف، ولكن في شكل لكلمة، إلا اختلاف في القراءات المشروعة، وليس هذا باختلاف، بل هو زيادة في الحفظ، فالحفظ للقراءات المتواترة، من حفظ القرآن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: 157

المبحث التاسع: أنه آخر الكتب المنزلة

المبحث التاسع: أنه آخر الكتب المنزلة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس كلهم، والقرآن أيضاً كذلك، فعن عمومية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158]، وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ: 28]، وعن عمومية القرآن الكريم قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19]. وإذا كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، والقرآن يخاطب الناس جميعاً، من كان في عهده صلى الله عليه وسلم ومن سيأتي من بعده، فإنه يظهر بهذا العموم أنها خاتمة الرسالات، وأنه خاتم الكتب المنزلة، فليست البشرية بحاجة إلى دين جديد ما دام هذا الدين يشملهم جميعاً، والقرآن يخاطبهم جميعاً، وهذا الزمخشري يقول في تفسير قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ: 28]، (إلا رسالة عامة لهم، محيطة بهم، لأنهم إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم) (¬1). هذا ما يظهر من عمومية الرسالة، فكيف إذا كان ختم النبوة قد وردت فيه النصوص الصحيحة والصريحة، قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40]. وتواترت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بأنه لا نبي بعده (¬2). وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فإن القرآن الذي أنزل عليه خاتم الكتب المنزلة. وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم, وختم الكتب بالقرآن الكريم، وختم الأمم بهذه الأمة، وختم الأديان بالإسلام، أمراً هيناً، بل هو أمر عظيم يحتاج إلى وقفات ووقفات. فكون القرآن الكريم خاتم الكتب السماوية، يعني أن القرآن حجة قائمة على كل من بلغه من الإنس والجن في كل زمان وفي كل مكان، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك في قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19]. ولهذا قال مقاتل بن سليمان رحمه الله تعالى: (ومن يبلغ القرآن من الجن والإنس فهو نذير لهم، يعني القرآن إلى يوم القيامة) (¬3)، وقال أبو السعود في تفسيره: (أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود, والأحمر, ومن الثقلين، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة، وهو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله، ومن سيوجد بعد إلى يوم القيامة) (¬4). ويعني ختم الكتب بالقرآن أيضاً كمال الدين، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]. نعم يعني كمال الدين، فليس من الحكمة أن تختم الأديان بدين ناقص، والله عز شأنه حكيم عليم. ¬

(¬1) ((تفسير الكشاف)) الزمخشري (2/ 7). (¬2) ((أصول الدين)) عبد القاهر البغدادي (ص: 163) و ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) ابن جزم (1/ 77)، و ((تفسير ابن كثير)) (3/ 513 - 514)، و ((الأزهار المتناثرة)) للسيوطي (ص: 36). (¬3) ((تفسير مقاتل)) (1/ 368)، و ((البغوي)) (2/ 89). (¬4) ((تفسير أبو السعود)) (2/ 87).

وتأمل أخي المسلم كمال هذا الدين، واستعرض موكب الأديان من قبله، منذ خلق آدم عليه السلام، إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، سترى أنبياء تترى، فإن تأملت وتدبرت، رأيت كل نبي إنما أرسل لقومه، وأن كل رسالة محدودة بزمن معين، فكل رسالة إنما هي لطائفة خاصة في بيئة خاصة، ومن ثم كانت كل رسالة محكومة بظروفها، ومتوازنة مع هذه الظروف، فكان لكل منها شريعة للحياة تناسب حال الجماعة, والزمان، والمكان، والعوامل المؤثرة في حياتها. حتى إذا ما أراد الله أن يختم الأديان كلها بدين واحد يجتمع عليه الناس كلهم، أرسل لهم جميعاً رسولاً، برسالة تخاطب الفطرة الإنسانية التي لا تختلف في بيئة أو في عصر عن عصر، لا تخضع لزمان معين، ولا تتقيد بظروف معينة، لأنها تخاطب في الإنسان ملكة لا تتغير ولا تتبدل، لا تتحور ولا تتطور: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ [الرُّوم: 30]. فجاء هذا الدين بكل ما تحتاجه البشرية. وبهذا كان كمال الدين، وبهذا كان إتمام النعمة، وهو الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، واصطفاه لهم من الدين. ويعني أيضاً وفاء الشريعة، وكمالها، وشمولها لحاجات البشر كلهم، في كل مكان، وفي كل عصر إلى يوم القيامة، ففي القرآن التفصيل: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام: 114]، فهو النظام الشامل الكامل لشؤون الحياة كلها، فلا يبتغي المؤمنون به بديلاً، ولا يرتضون إلا حكمه، ولا يقبلون إلا شريعته، ليس فيه نقص يستدعي الإكمال، ولا قصور يطلب الإضافة، ولا اعوجاج يحتاج إلى التعديل، ولا جمود يطلب التطوير، ولا البلى الذي يستدعي التجديد. بل هو الكتاب الكامل، الوافي، المستقيم، المتجدد في عطائه، الصالح لكل زمان ومكان، وهذا بعض ما يعنيه كونه آخر الكتب المنزلة. ويعني أيضاً حفظه عن التحريف، والتغيير، والتبديل، فكتاب لن ينزل من بعده كتاب حقه أن يخص بالحفظ فلا تطاله يد التحريف، ولا تناله يد التغيير, ولهذا تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، دون سائر الكتب السابقة، قال الزمخشري: (وهو حافظ – أي للقرآن – في كل وقت، من كل زيادة ونقصان، وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنه لم يتول حفظها، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار، فاختلفوا فيما بينهم بغياً، فكان التحريف، ولم يكل القرآن إلى غير حفظه) (¬1). ويعني كونه آخر الكتب المنزلة أن الدين الذي جاء به هو الدين الصحيح، الذي يجب أتباعه، والذي ينسخ الأديان كلها، فلا يبقى في الساحة سواه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85]، وقال سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران: 19]، وقال سبحانه: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]. ويعني كون القرآن آخر الكتب المنزلة، أن دينه دين خالد، وشريعته باقية، وأنها الرسالة الأخيرة للبشرية كلها، فمن بدلها، فقد ابتغى غير الإسلام ديناً: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، فلا مجال أبداً لمزاحمة هذا الدين بدين آخر، ولا مجال أبداً لإقصائه عن مكانه الذي خصه الله به، وما حفظ القرآن إلى يوم القيامة، إلا بقاء لهذا الدين إلى يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى متم نوره ولو كره الكافرون. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: 190 ¬

(¬1) ((الكشاف)) الزمخشري (2/ 311).

المبحث العاشر: هيمنته على الكتب السابقة

المبحث العاشر: هيمنته على الكتب السابقة أصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب؛ يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده قد هيمن فلان عليه. وتقول: هيمن فلان على فلان، إذا صار قريباً عليه؛ فهو مهيمن (¬1). ويسمى الحاكم على الناس والقائم بأمورهم: المهيمن (¬2). ولفظ مهيمن كان أصله (مؤيمن) بالهمزة، ثم قلبت الهمزة هاء لقرب مخرجها، كما تقلب في أرقت الماء؛ فيقال: هرقت الماء. ويقال: ماء مهراق، والأصل: ماء مراق (¬3). وأهل السنة والجماعة يؤمنون أن القرآن الكريم هو المهيمن على كل الكتب قبله؛ بمعنى: أنه أمين عليها، حافظ لها، وشاهد على أنها حق من عند الله تعالى، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما فيها من التحريف والتبديل، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، فصارت له الهيمنة عليها من كل وجه. نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام رحمه الله: (السلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب) (¬4). فهو الأمين والشاهد على ما بين يديه من الكتب، وهو أيضاً الحاكم على كل كتاب قبله بإجماع المسلمين. قال رحمه الله: ( ... إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن، وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن) (¬5). وقد بين رحمه الله السبب في احتلال القرآن هذه المنزلة العالية، والمرتبة الرفيعة بقوله: (فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بياناً وتفصيلاً، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضاً ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات) (¬6). ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: تواترت النصوص عن سلف هذه الأمة وخلفها على أن القرآن الكريم هو المؤتمن والشاهد والحاكم على ما بين يديه من الكتب. فقد روى الطبري رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسير قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 4]. قال: (المهيمن: الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله) (¬7). وروي عنه أيضاً أنه قال: (وَمُهَيْمِنًا أي: حاكماً على ما قبله من الكتب) (¬8). وقال قتادة رحمه الله: وَمُهَيْمِنًا أي: (أميناً وشاهداً على الكتب التي خلت قبله) (¬9). ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 344)، و ((فتح الباري)) (9/ 149). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 43). (¬3) انظر: ((تفسير غريب القرآن)) لابن قتبة (ص: 12). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 43). (¬5) ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 508)، وانظر كذلك (5/ 509). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (17/ 44). (¬7) ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 345). (¬8) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 92). (¬9) ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 345).

وعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: (القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب) (¬1). وروى الطبري عن ابن زيد في قوله: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ قال: (مصدقاً عليه، كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدق على ذلك، وكل شيء ذكر الله في القرآن فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق) (¬2). وجميع هذه الأقوال كما قال ابن كثير رحمه الله: (كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله) (¬3). وإنما احتل القرآن الكريم هذه المنزلة لكونه يستحيل أن يتطرق إليه التبديل والتحريف، ولا يمكن نسخه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ختم الله به الكتب. قال الفخر الرازي رحمه الله: (إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخاً البتة، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف على ما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق؛ صدق باقية أبداً) (¬4). مستند الإجماع في المسألة: لقد نص المولى جل جلاله في كتابه العزيز على أن هذا القرآن هو الأمين على ما سبقه من الكتب، وهو الشاهد والحاكم عليها فقال تبارك وتعالى في محكم التنزيل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48]. قال ابن كثير رحمه الله: (جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]) (¬5). فهو محفوظ بحفظ الله عز وجل إلى قيام الساعة، شاهد على هذه الكتب، مبين ما حرف منها، وحاكم بما أقره الله وأمر به من أحكامها، وناسخ ما نسخه الله منها، وهو أمين عليها في ذلك كله. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 748 أما الكتب السابقة فقد بعث الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام ومعه التوراة، فحرفها قومه، وبدلوا وغيروا، حتى أصبحت التوراة غير التوراة. وبعث سبحانه عيسى عليه السلام ومعه الإنجيل، فحرف كما حرفت, وبدل كما بدلت، حتى أصبح الإنجيل غير الإنجيل. وبعث الله أنبياء آخرين، وأنزل معهم الكتب، ولم تسلم مما أصاب أمثالها، إلا القرآن الكريم، فقد أبى الله سبحانه وتعالى إلا حفظه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 346)، و ((تفسير القرطبي)) (6/ 198). (¬2) ((تفسير الطبري)) م4 (6/ 346). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 92) وانظر كذلك: قول ابن قتيبة في ((تفسير غريب القرآن)) (ص: 11). (¬4) ((التفسير الكبير)) (12/ 11). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 92).

بل جعل القرآن مهيمناً على الكتب السابقة: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48]، فجاء القرآن بالعقيدة الإسلامية التي اتفق عليها الأنبياء كلهم، صافية نقية، ليكون ما جاء به القرآن حجة على الناس، وشاهداً على تحريف الأمم السابقة لما نزل عليهم من الكتب، ومصححاً لأغلاطهم، وفاضحاً لأباطيلهم: يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النساء: 171]، مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: 75]، ورد على اليهود فريتهم: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38]. ونعى عليهم عبادة غير الله: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ [الصَّفات: 125]، وأبطل زعمهم: وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64]. ورد على الفريقين عقيدتهم الباطلة: وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 30 - 31]. وأبطل زعم اليهود أنهم شعب الله المختار: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ [البقرة: 94 - 95]. ورد زعم اليهود والنصارى معاً: وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة: 18]. وقولهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 80]. وأنكر زعمهم قتل المسيح عليه السلام وصلبه: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 157 - 158].

وكشف ابتداعهم الرهبانية: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد: 27]. والقرآن حين يكذبهم، يتحداهم بالإتيان بالتوراة: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [آل عمران: 94]، والآيات في هذا المعنى كثيرة وكثيرة، كلها شاهدة على تحريف التوراة والإنجيل, ومثبتة الحق الذي يجب أتباعه، ودالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان تلقى هذه الأخبار من أهل الكتاب في الجزيرة كما زعم خصومه، لجاءت موافقة لمعتقداتهم، لكن القرآن من لدن حكيم عليم، أنزل هذا القرآن الكريم وجعله مهيمناً على ما بين يديه من الكتاب، يرجع إليه المحققون، وطالبوا الحقيقة، لمعرفة الخبر الصادق، والقصص الحق. وفي القرآن نصوص تؤكد هذه الحقيقة – هيمنة القرآن – وتدعو أهل الكتاب إلى أتباعه، والأخذ به، وتحذرهم من ضلالاتهم، وتحريفاتهم الباطلة: يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15]. وبين في موضع آخر أن من مقاصد القرآن الأولى أن يبين لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه فقال سبحانه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64]، وقال سبحانه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، هذا قبس من هيمنة القرآن الكريم على الكتب السابقة لم يجعله الله سبحانه وتعالى إلا لكتابه المبين. خصائص القرآن الكريم لفهد بن عبد الرحمن الرومي– ص: 194

الفصل الخامس: عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن

المبحث الأول: القرآن الكريم كلام الله تعالى القرآن الكريم كلام الله تعالى ... وأن إضافته إليه، إضافة حقيقية، من باب إضافة الكلام إلى قائله، فالله تعالى تكلم به، وهو الذي أنزله على رسوله، ليكون للعالمين نذيرا وهذه الحقيقة قد صرح بها القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6]، وقوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [يوسف: 2] وصرح بها صاحب الرسالة، ومبلغ القرآن الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: ((ما من الأنبياء نبي، إلا أعطي من الآيات، ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا، أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)) (¬1). وهذا القدر من الأدلة الشرعية كاف في حق من آمن بالله تعالى ربا، وبمحمد بن عبد الله رسولا، وبالإسلام دينا، أن يعرف مصدر القرآن الكريم، وأنه من الله تعالى، إذ الإيمان الصحيح يقتضي أن يصدق المؤمن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به، وقد أخبر أن هذا الكتاب من عند الله تعالى. أما غير المؤمن من الناس، ممن يشك في نسبة هذا القرآن إلى الله تعالى، وكونه من كلامه، فمثله: إما أن يضيف القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى بشر يعلمه القرآن، أو إلى جن يدرسه إياه. أما الأول: وهو كون القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لفرط ذكائه، ونفاذ بصيرته، وشفافية روحه، مما يجعله ينشئ بزعمهم مثل هذا الكلام البديع الرصين، فترده أدلة كثيرة، هذا طرف منها: 1 - أن هذا القرآن الذي أعجز البلغاء والفصحاء، قد قال صاحبه: إنه ليس من عندي، وإنما هو من عند غيري، فكيف ينسب له بعد ذلك؟ إذ أي مصلحة تكون لعاقل يرجو لنفسه الزعامة، ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات، لتأييد دعواه؛ ثم تجده بعد ذلك ينسب بضاعته إلى غيره، وينسلخ عنها انسلاخا، على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها، فيزداد بها رفعة، وعظمة شأن (¬2). 2 - أن الرجل مهما بلغ ذكاؤه، وصفت سريرته، أنى له أن يأتي بذكر لأحوال الأمم الغابرة، ومسائل العقائد والشرائع، وما في الجنة والنار من النعيم والعذاب، ثم يذكر لنا بعض ما سيقع في قابل الأيام والدهور، كل ذلك على نحو من التفصيل والتدقيق، مع تمام السبك، وقوة الأسلوب، ومن غير تضاد ولا اختلاف. يقول الباقلاني (رحمه الله): (ما تضمنه القرآن من قصص الأولين، وأخبار الماضين التي لا يعرفها إلا من أكثر ملاقاة الأمم، ودراسة الكتب، مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلو كتابا، ولا يخالط أهل السير) (¬3). 3 - قال تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 23 - 24] فكيف يجرؤ بشر على هذا التحدي العظيم؛ وقد علم ما عليه قومه من البيان والفصاحة؛ بل تحداهم: حاضرا ومستقبلا! لعمر الله، إنها لمخاطرة لا يقدم عليها عاقل يتصور ما يقول، فضلا عن نبي كريم يرجو لرسالته أن تنتصر، ولدعوته أن تنتشر (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (7274)، ومسلم (152). (¬2) انظر: ((النبأ العظيم)) د/ محمد عبد الله دراز (ص: 14، 15) – مطبعة السعادة 1389هـ - 1969م – مصر (بدون رقم الطبعة). (¬3) ((الانتصار لنقل القرآن)) (ص: 59). (¬4) انظر: ((النبأ العظيم)) دراز (ص: 36، 37).

4 - التناسب في جميع ما تضمنه القرآن من الأخبار، والعقائد، والأحكام من غير اختلاف ولا تعارض ولا تضاد، الأمر الذي لا ينتظر من بشر، أن يسلم كلامه من الاختلال والاختلاف، قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] (¬1). 5 - الاتفاق التام بين إشارات القرآن الكريم إلى بعض العلوم الكونية وبين معطيات العلم الحديث؛ الأمر الذي أثار دهشة كثير من الباحثين الغربيين المعاصرين، حيث تعرض القرآن الكريم إلى بعض العلوم الكونية وبين معطيات العلم الحديث؛ الأمر الذي أثار دهشة كثير من الباحثين الغربيين المعاصرين، حيث تعرض القرآن الكريم لقضايا علمية دقيقة – نحو ما يتعلق بعلم الأجنة – لم تكتشف وسائل معرفتها إلا بعد عصر نزول القرآن بعدة قرون (¬2). وأما الثاني: وهو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلم القرآن من غيره، فهذا الغير إما أن يكون إنسيا أو جنيا، والإنسي إما أن يكون من بني قومه أو من أهل الكتاب: أما كون النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلم القرآن عند بعض قومه، فهذا فاسد من وجهين: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ أميا، بين ناس أميين، لا يعرفون غير علم البيان، والفصاحة، وما يتصل بهما، وكانوا منعزلين بشركهم عن أهل الكتاب، قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49] ففي الآية إشارة واضحة إلى أن هذا النوع من العلم ما كان عند العرب، وليس لهم به دراية (¬3). 2 - لم يدع واحد من العرب – مع شدة تكذيبهم – نسبة هذا القرآن إلى نفسه، ثم إن الله تعالى قد تحدى به بلغاءهم، وفصحاءهم على أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يتعرض واحد منهم لذلك، اعترافا بالحق، وربئا بالنفس عن تعريضها للافتضاح؛ وهم أهل القدرة في فنون الكلام نظما ونثرا، وترغيبا وزجرا (¬4). أما كون المعلم من أهل الكتاب، فهذا يرده ما يلي: 1 - لم يذكر واحد من المصادر التاريخية جلوس النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي أحبار اليهود، أو رهبان النصارى، بغية التعلم والمدارسة (¬5). أما مقابلته بحيرا الراهب، فقد كانت قبل النبوة بفترة من الزمن، وكانت وجيزة في وقتها؛ لا يعقل أن يتلقى فيها كل هذا العلم، ثم إنها كانت بحضور عمه أبي طالب وغيره، ولو وجدوا في تلك المقابلة ما يبطل دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم النبوة لأفشوه إلى قريش، بل إن بحيرا لما لاحت له تباشير النبوة، همس بها على أبي طالب، حاثا له على المحافظة على ابن أخيه من يهود. وأما مقابلته صلى الله عليه وسلم ورقة بن نوفل – ابن عم زوجه خديجة رضي الله عنها -، وذلك بعد النبوة، فكانت لأجل اطمئنان زوجه عليه، وورقة كان شيخا كبيرا قد عمي، ولم يلبث أن توفي، وذلك قبل فترة الوحي؛ مما يحيل دعوى تعلم الرسول صلى الله عليه وسلم منه شيئا. ¬

(¬1) انظر: بيان هذا المعنى عند الشاطبي في ((الاعتصام)) (2/ 307) وما بعدها. (¬2) انظر: ((دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة)) للأستاذ: موريس بوكاي (ص: 150). (¬3) انظر: ((المعجزة الكبرى – القرآن –)) محمد أبو زهرة (ص: 310) دار الفكر العربي (بدون رقم الطبعة وتاريخها وبلدها). (¬4) انظر: ((التحرير والتنوير)) – محمد الطاهر بن عاشور (ص:82) دار الكتب الشرقية – تونس (بدون رقم الطبعة وتاريخها). (¬5) انظر: ((النبأ العظيم)) – دراز (ص: 50)، و ((فقه السيرة)) لمحمد الغزالي (ص: 68)، خرج أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني – دار الكتب الحديثة – الطبعة السابعة 1976م مصر.

2 - أن الله تعالى رد على الذين قالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] ذلك حين زعم المشركون في مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إلى بعض غلمان النصارى يتعلم منهم (¬1)، فرد الله عليهم بقوله: لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [النحل: 103]. 3 - أن القرآن الكريم قد شنع بأهل الكتاب ودحض شبهاتهم وأغاليطهم، ثم دعاهم إلى الإيمان بالرسول الكريم، والاستجابة للذكر الحكيم؛ قال تعالى: وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30] وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] وقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 59]، فكيف يعقل بعد ذلك أن يكون اليهود والنصارى مصدر القرآن ومنبعه، وهذه حالهم من الإعراض عنه والكفر به، وبمن أنزل عليه؟ أما أن يكون المعلم جنيا، فحال النبي صلى الله عليه وسلم بين قومه، ولبوثه فيهم عمرا طويلا، وهو أحسنهم خلقا؛ وأعظمهم عقلا؛ وأثبتهم نفسا؛ وأرسخهم فهما؛ كل ذلك وغيره يحيل أن يكون صلى الله عليه وسلم ملاذ الشياطين ومحل وساوسهم، بل الشياطين لأعجز من أن تأتي بهذا الكلام ... أما إضافة قريش القرآن إلى السحر والجن، فهذا حينما أعيتهم الحجة، وعجزوا عن الإتيان بمثله، على سبيل الجزم والإيقان. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن - بتصرف– 1/ 56 ¬

(¬1) انظر تفصيل هذه المسألة: ((الجامع لأحكام القرآن)) – القرطبي – (10/ 177، 178).

وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بأن القرآن كلام الله تعالى: - حروفه ومعانيه - منه بدأ وإليه يعود، منزل غير مخلوق، تكلم الله به حقاً، وأوحاه إلى جبريل؛ فنزل به جبريل - عليه السلام - على محمد صلى الله عليه وسلم. أنزله الحكيم الخبير بلسان عربي مبين، ونقل إلينا بالتواتر الذي لا يرقى إليه شك، ولا ريب، قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء:192 - 195] والقرآن الكريم: مكتوب في اللوح المحفوظ، وتحفظه الصدور، وتتلوه الألسن، ومكتوب في الصحف، قال الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]. وقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:77 - 79]. والقرآن الكريم: المعجزة الكبرى الخالدة لنبي الإسلام محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وهو آخر الكتب السماوية؛ لا ينسخ ولا يبدل، وقد تكفل الله بحفظه من أي تحريف، أو تبديل، أو زيادة، أو نقص إلى يوم يرفعه الله تعالى، وذلك قبل يوم القيامة. قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. وأهل السنة والجماعة: يكفرون من أنكر حرفاً منه أو زاد أو نقص، وعلى هذا فنحن نؤمن إيماناً جازماً بأن كل آية من آيات القرآن منزلة من عند الله، وقد نقلت إلينا بطريق التواتر القطعي. والقرآن الكريم: لم ينزل جملة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نزل منجماً، أي مفرقاً حسب الوقائع، أو جواباً عن أسئلة، أو حسب مقتضيات الأحوال في ثلاث وعشرين سنة. والقرآن الكريم: يحتوي على (114) سورة، (86) منها نزلت في مكة، و (28) منها نزلت في المدينة، وتسمى السور التي نزلت قبل الهجرة النبوية بالسور المكية، والسور التي نزلت بعد الهجرة بالسور المدنية، وفيه تسع وعشرون سورة افتتحت بالحروف المقطعة. وقد كتب القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبمرأى منه؛ حيث كان للوحي كتبة من خيرة الصحابة – رضي الله عنهم – يكتبون كل ما نزل من القرآن وبأمر من النبي صلى الله عليه وسلم ثم جمع في عهد أبي بكر بين دفتي المصحف، وفي عهد عثمان على حرف واحد؛ رضي الله تعالى: عنهم أجمعين. وأهل السنة والجماعة: يهتمون بتعليم القرآن وحفظه، وتلاوته، وتفسيره، والعمل به. قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]. ويتعبدون لله تعالى: بقراءته؛ لأن في قراءة كل حرف منه حسنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) (¬1). وأهل السنة والجماعة: لا يجوزون تفسير القرآن بالرأي المجرد؛ فإنه من القول على الله – عز وجل – بغير علم، ومن عمل الشيطان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:168 - 169]. بل يفسر القرآن بالقرآن وبالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين، ثم باللغة العربية التي نزل بها القرآن الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص 135 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2910). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصحح إسناده الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (901) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المبحث الثاني: كلام الله في كتابه هو الحروف والمعاني

المبحث الثاني: كلام الله في كتابه هو الحروف والمعاني قال العلامة حافظ الحكمي –رحمه الله في شرح قوله من منظومة (سلم الوصول): وَالْقَوْلُ في كِتَابِهِ المُفَصَّلْ ... بِأنَّهُ كَلامُهُ الْمُنَزَّلْ قال: (والقول) الذي نعتقده وندين به (في) شأن (كتابه المفصلْ) بسكون اللام للروي وهو القرآن وصفه الله تعالى بذلك فقال: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير [هود:1] وقال الله تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيَّا [فصلت:3] وقال الله تعالى: أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الذِّي نَزَّلَ إِلَيْكُمْ الكِتَابَ مُفَصَلا [الأنعام:114] وغير ذلك من الآيات (بأنه كلامه) حقيقة حروفه ومعانيه ليس كلامه الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله [التوبة:6] وقال الله تعالى: سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ الله قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِنْ قَبْل [الفتح:15] وروى ابن خزيمة عن نيار بن مكرم الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه قال: لما نزلت الَمِ. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيُغْلَبُون [الروم:1 - 2] إلى آخر الآيتين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: بسم الله الرحمن الرحيم الَمِ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيُغْلَبُون فِي بِضْعِ سِنِين [الروم:1 - 2] فقال رؤساء مشركي مكة: يا ابن أبي قحافة هذا مما أتى به صاحبك؟ قال لا والله, ولكنه كلام الله وقوله, وذكر الحديث (¬1). وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقبل المصحف ويقول: كلام ربي كلام ربي (¬2). وعن عمر رضي الله عنه قال: (إن هذا القرآن كلام الله فضعوه على مواضعه) (¬3). وقال خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تقرب إلى الله بشيء أحب إليه من كلامه) (¬4). وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (القرآن كلام الله, فمن رد منه شيئا فإنما يرد على الله) (¬5). وعنه رضي الله عنه قال: (إن أحسن الكلام كلام الله) (¬6) فهذه النصوص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن القرآن كلام الله تكلم به حقيقة وأنه هو الذي قال تبارك وتعالى: الَمِ, اَلَمِصَ, الَمِرَ, كَهَيَعِصَ, طَهَ, طَسِ, طَسِمِ, حَمِ, عِسِقَ وليس كلام الله المعاني دون الحروف ولا الحروف دون المعاني, بل حروفه ومعانيه عين كلام الله. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ بن أحمد الحكمي -1/ 325 ¬

(¬1) رواه ابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 404). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 140 - 141). عن عكرمة بن أبي جهل وليس عن ابن مسعود. (¬3) رواه أحمد في ((الزهد)) (ص35)، وعبد الله في ((السنة)) (1/ 136)، والآجري في ((الشريعة)) (ص77) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 592). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (10/ 510)، وأحمد في ((الزهد)) (ص35))، وعبد الله في ((السنة)) (1/ 137)، والآجري في ((الشريعة)) (ص77) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 588) وقال: هذا إسناد صحيح. (¬5) رواه الدارمي في ((الرد على الجهمية)) (ص171) وعبد الله في ((السنة)) (1/ 145 - 146) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 589) وفي سنده مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني وهو ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره. (¬6) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 146)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 589).

المبحث الثالث: القرآن ليس بمخلوق كما يقوله الزنادقة

المبحث الثالث: القرآن ليس بمخلوق كما يقوله الزنادقة القرآن (ليس بمخلوق) كما يقول الزنادقة من الحلولية والاتحادية والجهمية والمعتزلة وغيرهم تعالى الله عن أن يكون شيء من صفاته مخلوقاً قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى:52] وقال الله تعالى: أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْر [الأعراف:54] وقال الله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون [يس:82] فأخبر تعالى: أن الخلق غير الأمر وأن القرآن من أمره لا من خلقه وقال: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [النحل:40] فـ كنْ من كلامه الذي هو صفته ليس بمخلوق والشيء المراد المقول له (كن) مخلوق وقال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلَ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون [آل عمران:59] فعيسى وآدم مخلوقان بـ كن و (كن) قول الله صفة من صفاته وليس الشيء المخلوق هو كن ولكنه كان بقول الله له كن. وقد انعقد إجماع سلف الأمة الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون على تكفير من قال بخلق القرآن وذلك لأنه لا يخلو قوله من إحدى ثلاث: إما أن يقول إنه خلقه في ذاته أو في غيره أو منفصلا مستقلا وكل الثلاث كفر صريح, لأنه إن قال خلقه في ذاته فقد جعل ذاته محلا للمخلوقات, وإن قال إنه خلقه في غيره فهو كلام ذلك الغير فيكون القرآن على هذا كلام تالٍ له وهذا قول الوليد بن المغيرة فيما حكى الله عنه حيث قال الله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ [المدثر:18 - 29] الآيات. وإن قال إنه خلقه منفصلا مستقلا فهذا جحود لوجوده مطلقا إذ لا يعقل ولا يتصور كلام يقوم بدون متكلم كما لا يعقل سمع بدون سميع ولا بصر بدون بصير ولا علم بدون عالم ولا إرادة بدون مريد ولا حياة بدون حي إلى غير ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا, فهذه الثلاث لا خروج لزنديق منها ولا جواب له عنها فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ بن أحمد الحكمي -1/ 337

المبحث الرابع: أصل القول بخلق القرآن

المبحث الرابع: أصل القول بخلق القرآن وأول ما اشتهر القول بخلق القرآن في آخر عصر التابعين لما ظهر جهم بن صفوان شقيق إبليس لعنهما الله وكان ملحداً عنيداً وزنديقاً مبتغياً غير سبيل المؤمنين لم يثبت أن في السماء ربا ولا يصف الله تعالى بشيء مما وصف به نفسه وينتهي قوله إلى جحود الخالق عز وجل. ترك الصلاة أربعين يوما يزعم يرتاد دينا ولما ناظره بعض السمنية في معبوده قال قبحه الله: هو هذا الهواء في كل مكان وافتتح مرة سورة طه فلما أتى على هذه الآية الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قال: لو وجدت السبيل إلى حكها لحككتها, ثم قرأ حتى أتى آية أخرى فقال: ما كان أظرف محمدا حين قالها, ثم افتتح سورة القصص فلما أتى على ذكر موسى جمع يديه ورجليه ثم رفع المصحف ثم قال: أي شيء هذا ذكره ههنا فلم يتم ذكره, وذكره ههنا فلم يتم ذكره. وقد روى عنه غير هذا من الكفريات وهو أذل وأحقر من أن نشتغل بترجمته. وقد يسر الله تعالى ذبحه على يد سالم بن أحوز بأصبهان وقيل: بمرو, وهو يومئذ نائبها رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خيرا. وقد تلقى هذا القول عن الجعد بن درهم لكنه يشتهر في أيام الجعد كما اشتهر عن الجهم, فإن الجعد لما أظهر القول بخلق القرآن تطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة فلقيه الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه ولم يكن له كثير أتباع غيره, ثم يسر الله تعالى قتل الجعد على يد خالد بن عبدالله القسري الأمير, قتله يوم عيد الأضحى بالكوفة, وذلك لأن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر, روى ذلك البخاري في كتابه (خلق أفعال العباد) (¬1) , وهو مشهور في كتب التواريخ وذلك سنة أربع وعشرين ومائة. وقد أخذ الجعد بدعته هذه من بيان بن سمعان, وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم, وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى في ذلك سورة المعوذتين. ثم تقلد هذا المذهب المخذول عن الجهم بن غياث بن أبي كريمة، المريسي المتكلم, شيخ المعتزلة وأحد من أضل المأمون وجدد القول بخلق القرآن ويقال أن أباه كان يهوديا صباغا بالكوفة وروي عنه أقوال شنيعة في الدين من التجهم وغيره مات سنة ثماني عشرة ومائتان. ثم تقلد عن بشر ذلك المذهب الملعون قاضي المحنة أحمد بن أبي داود, وأعلن مذهب الجهمية وحمل السلطان على امتحان الناس بالقول بخلق القرآن وعلى أن الله لا يرى في الآخرة وكان بسببه ما كان على أهل الحديث والسنة من الحبس والضرب والقتل وغير ذلك, وقد ابتلاه الله تعالى: بالفالج قبل موته بأربع سنين حتى أهلكه الله تعالى: سنة أربعين ومائتين. ومن أراد الاطلاع على ذلك وتفاصيله فليقرأ كتب التواريخ يرى العجب. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ بن أحمد الحكمي -1/ 393 ¬

(¬1) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص29). وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص75): صحيح لغيره.

المبحث الخامس: ما قاله أئمة السنة في القرآن، وحكمهم على من قال بخلق القرآن

المبحث الخامس: ما قاله أئمة السنة في القرآن، وحكمهم على من قال بخلق القرآن قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كافر لأن القرآن من علم الله وفيه أسماء الله, وقال: إذا قال الرجل العلم مخلوق فهو كافر لأنه يزعم أنه لم يكن لله علم حتى خلقه وقال رحمه الله تعالى: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كافر لأن القرآن من علم الله (¬1) قال الله تعالى: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران:61] , وقال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَائَهُمْ بَعْدَ الذِّي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَالَكَ مِنَ الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير [البقرة:120] وقال الله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145] وقال الله تعالى: أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْر [الأعراف:54] وقال الله تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ [هود:17] قال أحمد: قال سعيد بن جبير: والأحزاب الملل كلها فَالنَّارُ مُوْعِدُه [هود:17] وقال الله تعالى: وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إليه أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ [الرعد:36] وقال الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ [الرعد:37] وقال رحمه الله تعالى: من قال ذاك القول لا يصلى خلفه الجمعة ولا غيرها فإن صلي خلفه أعاد الصلاة، يعني: من قال القرآن مخلوق (¬2) وقال رحمه الله تعالى: إذا كان القاضي جهميا فلا تشهد عنده (¬3) وقال إبراهيم بن طهمان: الجهمية كفار والقدرية كفار (¬4) وقال سليمان التيمي رحمه الله تعالى: ليس قوم أشد بُغضا للإسلام من الجهمية والقدرية فأما الجهمية فقد بارزوا الله وأما القدرية فإنهم قالوا في الله. وقال سلام بن أبي مطيع الجهمية كفار لا يصلى خلفهم (¬5) وقال خارجة: الجهمية كفار بلغوا نساءهم إنهن طوالق وأنهن لا يحللن لأزواجهن لا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم ثم تلا: طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى [طه:1 - 3] إلى قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] (¬6) وقال مالك رحمه الله تعالى: من قال القرآن مخلوق يوجع ضربا ويحبس حتى يتوب (¬7). وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: من زعم أن قول الله: يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النمل:9] مخلوق فهو كافر زنديق حلال دمه (¬8) ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 102 - 103). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 103). (¬3) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 103). (¬4) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 103 - 104)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 646). (¬5) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص34)، وعبد الله في ((السنة)) (1/ 105)، والدارمي في ((الرد على الجهمية)) (ص204 - 205). (¬6) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 105 - 106). (¬7) رواه أحمد في ((العلل)) (3/ 181)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 106 - 107). (¬8) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 107) ..

وقال أيضا: من قال إنّ قُلْ هُوَ الله أَحَدْ الله الصَّمَد [الإخلاص:1 - 2] مخلوق فهو كافر (¬1) وقال أبو يوسف القاضي: صنفان ما على وجه الأرض شر منهما الجهمية والمقاتلية (¬2). قلت: وأظنه يعني بالمقاتلية: أتباع مقاتل بن سليمان البلخي فإنه رماه الإمام أبو حنيفة بالتشبيه فإنه قال أفرط جهم في نفي التشبيه حتى قال إنه تعالى ليس بشيء وأفرط مقاتل في معنى الإثبات حتى جعله مثل خلقه وتابع أبا حنيفة على ذلك جماعة من أئمة الجرح والتعديل من أقرانه كأبي يوسف وغيره فمن بعدهم حتى قال ابن حبان: كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم وكان يشبه الرب بالمخلوق وكذبه وكيع وغيره والله أعلم بحاله. قال وكيع: مات مقاتل بن سليمان سنة خمسين ومائة. اهـ. وقال عبدالله بن المبارك: الجهمية كفار. (¬3) وقال: ليس تعبد الجهمية شيئا (¬4) وقال من قال القرآن مخلوق فهو زنديق (¬5) وقال: إنا نستجير أن نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستجير أن نحكي كلام الجهمية (¬6) وقال سفيان بن عيينة: القرآن كلام الله من قال مخلوق فهو كافر ومن شك في كفره فهو كافر (¬7) وقال: من قال القرآن مخلوق يحتاج أن يصلب على ذباب يعني: جبل (¬8) وقال عبدالله بن إدريس رحمه الله تعالى: وقد سئل ما تقول في الجهمية يصلى خلفهم؟ فقال: أمسلمون هؤلاء؟ أمسلمون هؤلاء؟ لا ولا كرامة لا يصلى خلفهم (¬9) وقال له رجل: يا أبا محمد إن قبلنا ناساً يقولون: القرآن مخلوق، فقال: من اليهود؟ قال: لا، قال: فمن النصارى؟ قال: لا، قال: فمن المجوس؟ قال: لا، قال: فمن؟ قال: من الموحدين؟ قال: كذبوا ليس هؤلاء بموحدين، هؤلاء زنادقة هؤلاء زنادقة. وقرأ ابن إدريس بسم الله الرحمن الرحيم فقال الله مخلوق؟ والرحمن مخلوق؟ والرحيم مخلوق؟ هؤلاء زنادقة (¬10) وسئل عن قوم يقولون: القرآن مخلوق؛ فاستشنع ذلك وقال سبحان الله شيء منه مخلوق؟ (¬11) وقال وكيع: فإني أستتيبه فإن تاب وإلا قتلته (¬12) وقال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أنه محدث ومن زعم أنه محدث فقد كفر. (¬13) وقيل له: إن فلانا يقول إن القرآن محدث فقال: سبحان الله هذا كفر. قال السويدي: وسألت وكيعا عن الصلاة خلف الجهمية فقال: لا تصل خلفهم (¬14) وقال: من زعم أن القرآن مخلوق؛ فقد زعم أنه محدث يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه (¬15) ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 107 - 108). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 108). (¬3) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 109). (¬4) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 109). (¬5) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 111). (¬6) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص31)، وعبد الله في ((السنة)) (1/ 111) واللفظ له، وابن بطة في ((الإبانة- كتاب الرد على الجهمية)) (2/ 97). (¬7) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص37)، وعبد الله في ((السنة)) (1/ 112). (¬8) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص37)، وعبد الله في ((السنة)) (1/ 112). (¬9) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 113). (¬10) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص30). (¬11) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 114). (¬12) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 114 - 115). (¬13) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 115)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1/ 608 - 609). (¬14) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 115). (¬15) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص34)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 317) ..

وقال زهير بن حرب: اختصمت أنا ومثنى فقال مثنى: القرآن مخلوق، وقلت أنا: كلام الله، فقال وكيع وأنا أسمع: هذا كفر، وقال: من قال: القرآن مخلوق هذا كفر؛ فقال المثنى: يا أبا سفيان قال الله تعالى: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ [الشعراء:5] فإيش هذا؟ فقال وكيع: من قال القرآن مخلوق هذا كفر (¬1) وقال: من قال: القرآن مخلوق؛ فهو كافر (¬2) وقال رحمه الله تعالى: القرآن كلام الله أنزله جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل صاحب هوى يعرف الله ويعرف من يعبد إلا الجهمية لا يدرون من يعبدون بشر المريسي وأصحابه (¬3) وقيل لوكيع في ذبائح الجهمية قال: لا تؤكل هم مرتدون (¬4) وقال: من قال: إن كلامه ليس منه فقد كفر، وقال: من قال: إن منه شيئاً مخلوقاً فقد كفر (¬5). وقال فطر بن حماد سألت معتمر بن سليمان فقلت: يا أبا محمد إمام لقوم يقول القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ فقال: ينبغي أن تضرب عنقه. قال فطر: وسألت حماد بن زيد فقلت: يا أبا إسماعيل إمام لنا يقول: القرآن مخلوق، أصلي خلفه؟ فقال: صل خلف مسلم أحبّ إليّ. وسألت يزيد بن زريع فقلت: يا أبا معاوية إمام يقول القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال: لا، ولا كرامة (¬6) وقال عبدالرحمن بن مهدي: من زعم أن الله لم يكلم موسى يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه (¬7) وقال مرة: لا أرى أن تستتيب الجهمية (¬8) وقال رحمه الله تعالى: لو كان لي من الأمر شيء لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد من الجهمية إلا سألته عن القرآن فإن قال: مخلوق ضربت رأسه ورميت به في الماء (¬9) وقال أبو بكر بن الأسود: لو أن رجلا جهميا مات وأنا أرثه ما استحللت أن آخذ من ميراثه (¬10) وقال أبو يوسف القاضي جيئوني بشاهدين يشهدان على المريسي والله لأملأن ظهره وبطنه بالسياط يقول في القرآن يعني: مخلوق (¬11) وقال يزيد بن هارون وذكر الجهمية فقال: هم والله زنادقة عليهم لعنة الله (¬12) وقال رحمه الله تعالى: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة من قال القرآن مخلوق فهو زنديق (¬13) وسئل عن الصلاة خلفهم قال: لا. وقال معاذ بن معاذ من قال القرآن مخلوق فهو كافر (¬14) وقال شبابة بن سوار: اجتمع رأيي ورأي أبي النضر هاشم بن قاسم وجماعة من الفقهاء على أن المريسي كافر جاحد نرى أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه (¬15) وكان أبو توبة الحلبي ونعيم بن حماد وإبراهيم بن مهدي يكفرون الجهمية وقال بشر بن الحارث: لا تجالسوهم ولا تكلموهم وإن مرضوا لا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم كيف يرجعون وأنتم تفعلون بهم هذا؟! (¬16) ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 116)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 317). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 116)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 257)، والآجري في ((الشريعة)) (ص78). (¬3) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 116). (¬4) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 117). (¬5) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 117). (¬6) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 118). (¬7) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 119 - 120). (¬8) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 120). (¬9) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 120). (¬10) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 121). (¬11) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 122 - 123). (¬12) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 121 - 122). (¬13) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 122). (¬14) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 123)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 260). (¬15) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 124)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 317 - 318). (¬16) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 125 - 126) ..

قال أبو الأسود النضر بن عبد الجبار: القرآن كلام الله ومن زعم أنه مخلوق فهو كافر هذا كلام الزنادقة (¬1) وقال عباد بن عوام: كلمت بشر المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا: ليس في السماء شيء (¬2) وقال عمرو بن الربيع بن طارق: القرآن كلام الله من زعم أنه مخلوق فهو كافر (¬3) وقال هارون أمير المؤمنين: بلغني أن بشراً المريسي يزعم أن القرآن مخلوق؛ فهو يعبد صنما (¬4) وقال يحيى بن معين رحمه الله تعالى: من قال القرآن مخلوق فهو كافر (¬5) وقال رجل لهيثم: إن فلانا يقول القرآن مخلوق؛ فقال: اذهب إليه فاقرأ عليه أول الحديد وآخر الحشر فإن زعم أنهما مخلوقتان فاضرب عنقه (¬6) وقال أبو هشام الغساني مثله (¬7) وقال أبو عبيد: من قال القرآن مخلوق فقد افترى على الله وقال عليه ما لم تقله اليهود والنصارى (¬8) وقال إسحاق بن البهلول لأنس بن عياض أبي ضمرة: أصلي خلف الجهمية قال: لا، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] (¬9) وسئل عيسى بن يونس رحمه الله تعالى: عمن يقول القرآن مخلوق؟ فقال: كافر أو كفر؛ فقيل له: تكفرهم بهذه الكلمة. قال: إن هذا أيسر أو أحسن ما يظهرون (¬10) وكان يحيى بن معين رحمه الله تعالى: يعيد صلاة الجمعة مذ أظهر عبدالله بن هارون المأمون ما أظهر يعني القول بخلق القرآن (¬11). وقال الحسين بن إبراهيم بن أشكاب وعاصم بن علي بن عاصم وهارون الفروي وعبد الوهاب الوراق وسفيان بن وكيع القرآن كلام الله وليس بمخلوق. وسئل جعفر بن محمد رحمه الله تعالى: عن القرآن فقال: ليس بخالق ولا بمخلوق ولكنه كلام الله (¬12). وروى عن أبيه علي بن الحسين أنه قال في القرآن: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله. (¬13) وقال الزهري سألت علي بن الحسين عن القرآن؟ فقال: كتاب الله وكلامه (¬14) وعن إبراهيم بن سعد وسعيد بن عبدالرحمن الجمحي ووهب بن جرير وأبي النضر هاشم بن القاسم وسليمان بن حرب قالوا: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. وقال سفيان بن عيينة: لا نحسن غير هذا القرآن كلام الله فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله [التوبة:6] يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] (¬15) وقال الإمام مالك بن أنس وجماعة من العلماء بالمدينة وذكروا القرآن فقالوا: كلام الله وهو منه وليس من الله شيء مخلوق (¬16) ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 126). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 126 - 127). (¬3) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 126). (¬4) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 127). (¬5) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 128). (¬6) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 128). (¬7) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 128). (¬8) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 129). (¬9) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 129). (¬10) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 130). (¬11) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 130). (¬12) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 151 - 152)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 237 - 238). (¬13) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 152 - 153)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 237). (¬14) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 153)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 237) .. (¬15) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 155)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 348). (¬16) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 249) ..

وقال حماد بن زيد رحمه الله تعالى: القرآن كلام الله أنزله جبريل من عند رب العالمين (¬1) وقال أبو بكر بن عياش: من زعم أن القرآن مخلوق فقد افترى على الله (¬2) وقال وكيع: القرآن من الله، منه خرج وإليه يعود (¬3) وقال يحيى بن سعيد: كيف يصنعون بقل هو الله أحد كيف يصنعون بهذه الآية إِنِّي أَنَا اللَّهُ [القصص:30] يكون مخلوقا؟ (¬4) وقال وهب بن جرير ومحمد بن يزيد الواسطي وابن أبي إدريس وأبو بكر بن أبي شيبة وأخوه عثمان بن أبي شيبة وأبو عمر الشيباني ويحيى بن أيوب وأبو الوليد وحجاج الأنماطي ويحيى بن معين وأبو خيثمة وإسحاق بن أبي إسرائيل وأبو معمر: القرآن كلام الله ليس بمخلوق (¬5) وقال أبو عمرو الشيباني لإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة وقال: القرآن مخلوق فقال الشيباني: خلقه قبل أن يتكلم به أو بعدما تكلم به؟ قال: فسكت (¬6) وقال حسن بن موسى الأشيب: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين [الفاتحة:5] فقال حسن مخلوق هذا؟ (¬7) وقال محمد بن سليمان: لو أن القرآن كلام الله غير مخلوق ما رأيت أحداً يقول القرآن مخلوق أعوذ بالله (¬8).اهـ. ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (2/ 485)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 348). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 157). (¬3) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 158). (¬4) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 159). (¬5) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 154 - 160). (¬6) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 160). (¬7) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 161). (¬8) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 161)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 266).

وقال الشافعي رحمه الله تعالى: في وصيته: القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال عفان بن مسلم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] الله لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّوم [البقرة:255] قُلْ هُوَ الله أَحُد [الإخلاص:1] أمخلوق هذا؟ أدركت شعبة وحماد بن سلمة وأصحاب الحسن يقولون: القرآن كلام الله ليس مخلوقا (¬1) وقال يحيى بن يحيى: من زعم أن من القرآن من أوله إلى آخره آية مخلوقة فهو كافر. وقال هشام بن عبيد الله القرآن كلام الله غير مخلوق؛ فقال له رجل أليس الله تعالى: يقول: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ [الأنبياء:2] فقال: محدث إلينا وليس عند الله محدث. وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي رحمه الله تعالى: ليس بين أهل العلم خلاف أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فكيف يكون شيء خرج من الرب عز وجل مخلوقا؟ (¬2) وقال أبو جعفر النفيلي: من قال: إن القرآن مخلوق؛ فهو كافر. فقيل: يا أبا جعفر الكفر كفران كفر النعمة وكفر بالرب عز وجل؟ قال: لا بل كفر بالرب عز وجل ما تقول فيمن يقول: الله أَحَد الله الصَّمَد [الإخلاص:1] مخلوق أليس كافر هو؟ (¬3) وقال عبدالله بن محمد العيشي: يستحيل في صفة الحكيم أن يخلق كلاما يدعي الربوبية يعني: قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا الله [طه:14] وقوله: أَنَا رَبُّك [طه:12] (¬4). قلت: والمعتزلة يقولون إن كلام الله لموسى خلقه في الشجرة فعلى هذا تكون الشجرة هي القائلة: إِنَّنِي أَنَا الله لاَ إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] قبحهم الله في الدنيا والآخرة. وقال محمد بن يحيى الذهلي: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع صفاته وحيث تصرف (¬5) وأما كلام البخاري رحمه الله تعالى ومتانته في هذه المسألة فأشهر من أن يحتاج إلى تعريف وله في ذلك كتاب (خلق أفعال العباد) وقد بوّب في (صحيحه) على جملة وافية تدل على غزارة علمه وجلالة شأنه. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: أدركنا العلماء في جميع الأمصار فكان من مذهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته والقدر خيره وشره من الله تعالى، وأن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه كما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علماً ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (¬6) وقال محمد بن أسلم الطوسي: القرآن كلام الله غير مخلوق أينما تلي وحيثما كتب لا يتغير ولا يتحول ولا يتبدل (¬7). ¬

(¬1) أورده الذهبي في ((العلو)) (ص166 - 167). وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص75): سنده قوي. (¬2) أورده الذهبي في ((العلو)) (ص179). وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص75): صحيح. (¬3) أورده الذهبي في ((العلو)) (ص181). وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص75): صحيح. (¬4) أورده الذهبي في ((العلو)) (ص181). (¬5) رواه الذهبي في ((العلو)) (ص186). (¬6) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 176 - 177)، وأورد شطره الثاني الذهبي في ((العلو)) (ص186). وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص75): صحيح. (¬7) رواه الذهبي في ((العلو)) (ص186). قال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص75): إسناده لا بأس به.

وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى: في كتاب (التوحيد) بعد تبويبه على تكليم الله موسى عليه الصلاة والسلام: وتكليم الله بالوحي وصفة نزول الوحي وتكليم الله عباده يوم القيامة وتقرير البحث في ذلك، ثم قال: باب ذكر البيان في كتاب ربنا المنزل على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الفرق بين كلام الله عز وجل الذي به يكون خلقه وبين خلقه الذي يكون بكلامه وقوله والدليل على نبذ قول الجهمية الذين يزعمون أن كلام الله تعالى: مخلوق جل ربنا وعز عن ذلك. قال الله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] ففرق الله تعالى: بين الخلق والأمر الذي به يخلق الخلق بواو الاستئناف وأعلمنا الله جل وعلا في محكم تنزيله أنه يخلق الخلق بكلامه وقوله: ِإنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [النحل:40] فأعلمنا جل وعلا أنه يكون كل مكون من خلقه بقوله كن فيكون وقوله كن هو كلامه الذي به يكون الخلق وكلامه عز وجل الذي به يكون الخلق غير الخلق الذي يكون مكونا بكلامه فافهم ولا تغلط ولا تغالط ومن عقل عن الله خطابه علم أن الله سبحانه لما أعلم عباده المؤمنين أنه يكون الشيء بقوله: كن أن القول الذي هو كن غير المكون بكن المقول له كن وعقل عن الله أن قوله كن لو كان خلقا على ما زعمت الجهمية المفترية على الله أنه إنما يخلق الخلق ويكونه بخلق لو كان قوله كن خلقا فيقال لهم يا جهلة فالقول الذي يكون به الخلق على زعمكم لو كان خلقا بم يكونه؟ أليس قول مقالتكم التي تزعمون أن قوله: كن إنما يخلقه بقول قلبه وهو عندكم خلقه وذلك القول يخلقه بقول قلبه وهو خلق حتى يصير إلى ما لا غاية له ولا عدد ولا أول, وفي هذا إبطال تكوين الخلق وإنشاء البرية وإحداث ما لم يكن قبل أن يحدث الله الشيء وينشئه, وهذا قول لا يتوهمه ذو لب لو تفكر فيه ووفق لإدراك الصواب والرشاد قال الله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54] فهل يتوهم مسلم أن الله تعالى: سخر الشمس والقمر والنجوم مسخرات بخلقه أليس مفهوما عند من يعقل عن الله خطابه أن الأمر الذي سخر به غير المسخر بالأمر وأن القول غير المقول له فتفهموا يا ذوي الحجا عن الله خطابه وعن النبي صلى الله عليه وسلم بيانه لا تصدوا عن سواء السبيل فتضلوا كما ضلت الجهمية عليهم لعائن الله فاسمعوا الآن الدليل الواضح البيّن غير المشكل من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل العدل موصولا إليه على الفرق بين خلق الله وبين كلام الله تعالى. ثم ساق الأحاديث في ذكر كلمات الله تعالى إلى الحديث: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) (¬1) ثم قال: أفليس العلم محيطا يا ذوي الحجا أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه هل سمعت عالماً يجيز أن يقول: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله أو يجيز أن يقول أعوذ بالصفا والمروة أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله؟ هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه ... ¬

(¬1) رواه مسلم (2708). من حديث خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها.

وقال أبو معاوية بن حازم الضرير رحمه الله تعالى: الكلام فيه بدعة وضلالة ما يكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعون ولا الصالحون رحمهم الله تعالى: يعني قول القرآن مخلوق (¬1). وذكر عند أبي نعيم هو الفضل بن دكين من يقول: القرآن مخلوق فقال: والله والله ما سمعت بشيء من هذا حتى خرج ذاك الخبيث جهم (¬2) وكلام أئمة السنة في هذا الباب يطول ذكره ولو أردنا استيعابه لطال الفصل. وقد تكرر نقل الإجماع منهم على إثبات ما أثبت الله عز وجل لنفسه وأثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة فمن بعدهم ونفي التكييف عنها لا سيما في مسألة العلو وفي هذه المسألة مسألة القرآن وتكليم الله تعالى موسى لأنها أول ما جحده الزنادقة قبحهم الله تعالى: وفي ذكر من سمينا كفاية ومن لم نسم منهم أضعاف ذلك ولم يختلف منهم اثنان في أن القرآن كلام الله تعالى: ليس بمخلوق من الله بدأ وإليه يعود, وتقلدوا كفر من قال بخلق القرآن ومنعوا الصلاة خلفه وأفتوا بضرب عنقه وبتحريم ميراثه على المسلمين وحرموا ذبيحته وجزموا بأنها ذبيحة مرتد لا تحل للمسلمين فانظر أيها المنصف أقوالهم ثم اعرضها على نصوص الكتاب والسنة هل تجدهم حادوا عنها قيد شبر أو قدموا عليها قول أحد من الناس كائنا من كان حاشا وكلا معاذ الله بل بها اقتدوا ومنها تضلعوا وبنورها استضاءوا وإياها اتبعوا فهداهم الله بذلك لما اختلفت فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. .. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ بن أحمد الحكمي -1/ 343 - 362 ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 172). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 172).

الفصل السادس: المخالفون في القرآن

تمهيد والمخالفون لأهل السنة في القرآن سبع طوائف ذكرهم شيخ الإسلام ابن تيمية في المنهاج وابن القيم في الصواعق معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 1/ 481

المبحث الأول: الاتحادية

المبحث الأول: الاتحادية القائلون بوحدة الوجود أن كل كلام في الوجود كلام الله نظمه ونثره وحقه وباطله سحره وكفره والسب والشتم والهجر والفحش وأضداده كله عين كلام الله تعالى القائم به كما قال عارفهم: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه وهذا المذهب مبني على أصلهم الذي أصلوه وهو أن الله سبحانه هو عين هذا الوجود فصفاته هي صفات الله وكلامه هو كلام الله وأصل هذا المذهب إنكار مسألة المباينة والعلو فإنهم لما أصلوا أن الله تعالى: غير مباين لهذا العالم المحسوس صاروا بين أمرين لا ثالث لهما إلا المكابرة أحدهما: أنه معدوم لا وجود له إذ لو كان موجوداً لكان إما داخل العالم وإما خارجاً عنه وهذا معلوم بالضرورة فإنه إذا كان قائما بنفسه فإما أن يكون مباينا للعالم أو محدثا له إما داخلا فيه وإما خارجا عنه الأمر الثاني: أن يكون هو عين هذا العالم فإنه يصح أن يقال فيه حينئذ أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباينا له ولا حلا فيه إذ هو عينه والشيء لا يباين نفسه ولا يحايثها فرأوا أن هذا خير من إنكار وجوده والحكم عليه بأنه معدوم ورأوا أن الفرار من هذا إلى إثبات موجود قائم بنفسه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا مباين له ولا محايث ولا فوقه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا من خلفه ولا أمامه فرارا إلى ما لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة ولا تأتي به شريعة ولا يمكن أن يقر برب هذا شأنه إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما: أن يكون ساريا فيه حالا فهو في كل مكان بذاته وهو قول جميع الجهمية الأقدمين. الوجه الثاني: أن يكون وجوده في الذهن لا في الخارج فيكون وجوده سبحانه وجودا عقليا إذ لو كان موجودا في الأعيان لكان إما عين هذا العالم أو غيره ولو كان غيره لكان إما بائنا عنه أو حالا فيه وكلاهما باطل فثبت أنه عين هذا العالم فله حينئذ كل اسم حسن وقبيح وكل صفة كمال ونقص وكل كلام حق وباطل نعوذ بالله من ذلك. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 1/ 481

المبحث الثاني: مذهب الفلاسفة

المبحث الثاني: مذهب الفلاسفة المتأخرين أتباع أرسطو وهم الذين يحكي ابن سينا والفارابي والطوسي قولهم: إن كلام الله فيض فاض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها فأوجب لها ذلك الفيض تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه ولهذه النفوس عندهم ثلاث قوى: قوة التصور وقوة التخيل وقوة التعبير فتدرك بقوة تصورها من المعاني ما يعجز عن غيرها وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس فتتصور المعقول صورا نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الآذان وهو عندهم كلام الله ولا حقيقة له في الخارج وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية قالوا وربما قويت هذه القوة على إسماع ذلك الخطاب لغيرها وتشكيل تلك الصورة العقلية لعين الرائي فيرى الملائكة ويسمع خطابهم وكل ذلك من الوهم والخيال لا في الخارج فهذا أصل هؤلاء في إثبات كلام الرب الذي عرفت به الرسل ودعت إليه وهو القائم بنفسه المباين لخلقه العالي فوق عرشه الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته العالم بجميع المعلومات القادر على كل شيء فهم أنكروا ذلك كله. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 1/ 482

المبحث الثالث: مذهب الجهمية

المبحث الثالث: مذهب الجهمية النفاة لصفات الرب تعالى: القائلين إن كلامه مخلوق ومن بعض مخلوقاته فلم يقم بذاته سبحانه فاتفقوا على هذا الأصل واختلفوا في فروعه قال الأشعري في كتاب (المقالات): اختلفت المعتزلة في كلام الله هل هو جسم أو ليس بجسم وفي خلقه على ستة أقاويل فالفرقة الأولى: يزعمون أن كلام الله جسم وأنه مخلوق وأنه لا شيء إلا الجسم والفرقة الثانية: زعموا أن كلام الخلق عرض وهو حركة لأنه لا عرض عندهم إلا الحركة وأن كلام الخالق جسم وأن ذلك الجسم صوت منقطع مؤلف مسموع وهو فعل الله وخلقه وهذا قول الهذيل وأصحابه وأحال النظام أن يكون كلام الله في أماكن كثيرة أو مكانين في وقت واحد وزعم أنه في المكان الذي خلق فيه والفرقة الثالثة: من المعتزلة تزعم أن القرآن مخلوق لله وأنه عرض وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد إذا تلاه تال فهو يوجد مع تلاوته وإذا كتبه وجد مع كتابته وإذا حفظه وجد مع حفظه وهو يوجد في الأماكن بالتلاوة والحفظ والكتابة ولا يجوز عليه الانتقال والزوال والفرقة الرابعة: يزعمون أن كلام الله عز وجل عرض وأنه مخلوق وأحالوا أن يوجد في مكانين في وقت واحد وزعموا أن المكان الذي خلقه الله تعالى فيه محال انتقاله وزواله منه ووجوده في غيره وهذا قول جعفر بن حرب وأكثر البغداديين. الفرقة الخامسة: أصحاب معمر يزعمون أن القرآن عرض والأعراض عندهم قسمان: قسم منهما يفعله الأحياء وقسم منهما يفعله الأموات ومحال أن يكون ما يفعله الأموات فعلا للأحياء والقرآن مفعول وهو عرض ومحال أن يكون الله فعله في الحقيقة لأنهم يحيلون أن تكون الأعراض فعلا لله وزعموا أن القرآن فعل للمحل الذي يسمع منه إذا سمع من الشجرة فهو فعل لها وحيث سمع فهو فعل المحل الذي حل فيه الفرقة السادسة: يزعمون أن كلام الله عرض مخلو وأنه يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد وهذا قول الإسكافي واختلفت المعتزلة في كلام الله هل يبقى فقالت فرقة منه: يبقى بعد خلقه وقالت فرقة أخرى: لا يبقى وإنما يوجد في الوقت الذي خلقه الله ثم يعدم بعد ذلك وهذا المذهب هو من فروع ذلك الأصل الباطل المخالف لجميع كتب الله ورسله ولصريح المعقول والفطر من جحد صفات الرب وتعطيل حقائق أسمائه وصفاته ونفي قيام الأفعال به فلما أصلوا أنه لا يقوم به وصف ولا فعل كان من فروع هذا الأصل أنه لم يتكلم بالقرآن ولا بغيره وأن القرآن مخلوق وطرد ذلك إنكار ربوبيته وإلهيته فإن ربوبيته سبحانه إنما تتحقق بكونه فعالا مدبرا متصرفا في خلقه يعلم ويقرر ويريد ويسمع ويبصر فإذا انتفت عنه صفة الكلام انتفى الأمر والنهي ولوازمهما وذلك ينفي حقيقة الإلهية فطرد ما أصلوه أن الله سبحانه ليس برب العالمين ولا إله فضلا عن أن يكون لا رب غيره ولا إله سواه. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 1/ 483

المبحث الرابع: مذهب الكلابية

المبحث الرابع: مذهب الكلابية أتباع عبدالله بن سعيد بن كلاب أن القرآن معنى قائم بالنفس لا يتعلق بالقدرة والمشيئة وأنه لازم ذات الرب كلزوم الحياة والعلم وأنه لا يسمع على الحقيقة والحروف والأصوات حكاية له دالة عليه وهي مخلوقة وهو أربعة معاني في نفسه: الأمر والنهي والخبر والاستفهام فهي أنواع لذلك المعنى القديم الذي لا يسمع وذلك المعنى هو المتلو وهذا المذهب أول من يعرف أنه قال به ابن كلاب وبناه على أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم والحروف والأصوات حادثة فلا يمكن أن تقوم بذات الرب والقرآن اسم لذلك المعنى وهو غير مخلوق. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 1/ 485

المبحث الخامس: مذهب الأشعري

المبحث الخامس: مذهب الأشعري ومن وافقه أنه معنى واحد قائم بذات الرب تعالى: لأنه ليس بحرف ولا صوت ولا ينقسم ولا له أبعاض ولا له أجزاء وهو عين الأمر وعين النهي وعين الخبر وعين الاستخبار الكل واحد وهو عين التوراة وعين الإنجيل وعين القرآن والزبور وكونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا صفات لذلك المعنى الواحد لا أنواع له فإنه لا ينقسم بنوع ولا جزء وكونه قرآنا وتوراة وإنجيلا تقسيم للعبارات عنه لا لذاته بل إذا عبر عن ذلك المعنى بالعربية كان قرآنا وإذا عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإذا عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا والمعنى واحد وهذه الألفاظ عبارة عنه ولا يسميها حكاية وهي خلق من المخلوقات وعنده لم يتكلم الله بهذا الكلام العربي ولا سمع من الله وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة ويجوز أن يرى ويشم ويذاق ويلمس ويدرك بالحواس الخمس إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود فكل وجود يصح تعلق الإدراكات كلها به كما قرره في مسألة رؤية من ليس في جهة الرائي وأنه يرى حقيقة وليس مقابلا للرائي هذا قولهم في الرؤية وذلك قولهم في الكلام. والبلية العظمى نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بهذا ودعا إليه الأمة وأنهم أهل الحق ومن عداهم أهل الباطل وجمهور العقلاء يقولون: إن تتصور هذا المذهب كاف في الجزم ببطلانه وهو لا يتصور إلا كما تصور المستحيلات الممتنعات وهذا المذهب مبني على مسألة إنكار قيام الأفعال والأمور الاختيارية بالرب تعالى: ويسمونها مسألة حلول الحوادث وحقيقتها إنكار أفعاله وربوبيته وإرادته ومشيئته. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 1/ 485

المبحث السادس: مذهب الكرامية

المبحث السادس: مذهب الكرامية وهو أنه متعلق بالمشيئة والقدرة قائم بذات الرب تعالى: وهو حروف وأصوات مسموعة وهو حادث بعد أن لم يكن فهو عندهم متكلم بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن فاعلا كما ألزموا به الكرامية في مسألة الكلام فهو لازم لهم في مسألة الفعل والكرامية أقرب إلى الصواب منهم فإنهم اثبتوا كلاما وفعلا حقيقة قائمين بذات المتكلم الفاعل وجعلوا لها فرارا من القول بحوادث لا أول لها ومنازعوهم أبطلوا حقيقة الكلام والفعل وقالوا لم يقم به فعل ولا كلام ألبتة وأما من أثبت منهم معنى قائما بنفسه سبحانه فلو كان ما أثبته مفعولا لكان من جنس الإرادة والعلم لم يكن خارجا عنهما فهم لم يثبتوا لله كلاما ولا فعلا وأما الكرامية فإنهم جعلوه متكلما بعد أن لم يكن متكلما كما جعله خصومهم فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 1/ 487

المبحث السابع: مذهب السالمية

المبحث السابع: مذهب السالمية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث إنه صفة قديمة قائمة بذات الرب تعالى: لم يزل ولا يزال لا يتعلق بقدرته ومشيئته ومع ذلك هو حروف وأصوات وسور وآيات سمعه جبريل منه وسمعه موسى بلا واسطة ويسمعه سبحانه من يشاء وإسماعه نوعان: بواسطة وبلا واسطة ومع ذلك فحروفه وكلماته لا يسبق بعضها بعضا بل هي مقترنة الباء من السين مع الميم في آن واحد ثم لم تكن معدومة في وقت من الأوقات ولا تعدم بل لم تزل قائمة بذاته سبحانه قيام صفات الحياة والسمع والبصر وجمهور العقلاء قالوا إن تصور هذا المذهب كاف في الجزم في بطلانه والبراهين العقلية والأدلة القطعية شاهدة ببطلان هذه المذاهب كلها وأنها مخالفة لصريح العقل والنقل والعجب إنها هي الدائرة بين فضلاء العالم لا يكادون يعرفون غيرها ثم ذكر رحمه الله تعالى: قول أتباع الرسل وأطال على ذلك ثم مسألة تكلم العباد بالقرآن وساق فيه كثيرا من كلام البخاري رحمه الله تعالى: في (صحيحه) وفي كتاب (خلق أفعال العباد) لأنه من أحسن الأئمة توضيحا وتفصيلا في هذه المسألة لما جرى عليه من المحنة في شأنها ثم ذكر الكلام على حروف المعجم وساق فيه أقوال الأئمة ثم ذكر اللفظية في أثناء ذلك والواقفة ثم ذكر فصلا في الكتابة له في الرق وغيره ثم فصلا في السماع ثم فصلا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في أول من أظهر إنكار أن الله سبحانه يتكلم بصوت في أثناء المئة الثالثة ابن كلاب, وأنكر عليه ذلك أئمة الحديث كأحمد والبخاري وغيرهما, وفي غضون هذه الفصول أبحاث نفيسة لا يستغنى عنها فلتراجع منه. ثم قال رحمه الله تعالى: فصل منشأ النزاع بين الطوائف أن الرب تعالى: هل يتكلم بمشيئته أم كلامه بغير مشيئته على قولين فقالت طائفة كلامه بغير مشيئته واختياره ثم انقسم هؤلاء أربع فرق قالت فرقة هو فيض فاض منه بواسطة العقل الفعال على نفس شريفة فتكلمت به كما يقول ابن سينا وأتباعه وينسبونه إلى أرسطو وفرقة قالت بل هو معنى قائم بذات الرب تعالى: هو به متكلم وهو قول الكلابية ومن تبعهم وانقسم هؤلاء فرقتين فرقة قالت هو معان متعددة في أنفسها أمر ونهي وخبر واستخبار ومعنى جامع لهذه الأربعة وفرقة قالت بل هو معنى واحد بالعين لا ينقسم ولا يتبعض وفرقة قالت كلامه هو هذه الحروف والأصوات خلقها خارجة عن ذاته فصار بها متكلما وهذا قول المعتزلة وهو في الأصل قول الجهمية تلقاه عنهم أهل الاعتزال فنسب إليهم وفرقة قالت يتكلم بقدرته ومشيئته كلاما قائما بذاته سبحانه كما يقوم به سائر أفعاله لكنه حادث النوع وعندهم أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا فقول هؤلاء في الفعل المتصل كقول أولئك في الفعل المنفصل وهذا قول الكرامية وفرقة قالت يتكلم بمشيئته وكلامه سبحانه هو الذي يتكلم به الناس كله حقه وباطله وصدقه وكذبه كما يقوله طوائف الاتحادية. وقال أهل الحديث والسنة إنه لم يزل سبحانه متكلما إذا شاء ويتكلم بمشيئته ولم تتحدد له هذه الصفة بل كونه متكلما بمشيئته هو من لوازم ذاته المقدسة وهو بائن عن خلقه بذاته وصفاته وكلامه ليس متحدا بهم ولا حالا فيهم واختلفت الفرق هل يسمع كلام الله على الحقيقة فقالت فرقة لا يسمع كلامه على الحقيقة إنما تسمع حكايته والعبارة عنه وهذا قول الكلابية ومن تبعهم وقالت بقية الطوائف بل يسمع كلامه حقيقة ثم اختلفوا فقالت فرقة يسمعه كل أحد من الله تعالى: وهذا قول الاتحادية وقالت فرقة بل لا يسمع إلا من غيره وعندهم أن موسى لم يسمع كلام الله منه فهذا قول الجهمية والمعتزلة وقال أهل السنة والحديث يسمع كلامه سبحانه منه تارة بلا واسطة كما سمعه موسى وجبريل وغيرهما وكما يكلم عبده يوم القيامة ويكلم أهل الجنة ويكلم الأنبياء في الموقف ويسمع من المبلغ عنه كما سمع الأنبياء الوحي من جبريل تبليغا عنه وكما سمع الصحابة القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله فسمعوا كلام الله بواسطة المبلغ وكذلك نسمع نحن بواسطة التالي فإذا قيل المسموع مخلوق أو غير مخلوق قيل إن أردت المسموع عن الله تعالى: فهو كلامه غير مخلوق وإن أردت المسموع من المبلغ ففيه تفصيل إن سألت عن الكلام المؤدى بذلك الصوت فهو غير مخلوق والذين قالوا إن الله يتكلم بصوت فرق أربعة فرقة قالت يتكلم بصوت مخلوق منفصل عنه وهم المعتزلة وفرقة قالت يتكلم بصوت قديم لم يزل ولا يزال وهم السالمية والاقترانية وفرقة قالت يتكلم بصوت حادث في ذاته بعد أن لم يكن وهم الكرامية, وقال أهل السنة والحديث: لم يزل الله تعالى: متكلما بصوت إذا شاء والذين قالوا لا يتكلم بصوت فرقتان أصحاب الفيض والقائلون إن الكلام معنى قائم بالنفس معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 1/ 488

الباب الثالث أهم الكتب المنزلة

الباب الثالث أهم الكتب المنزلة • أولا: مواضع الاتفاق. • ثانيا: مواضع الاختلاف.

أولا: مواضع الاتفاق

أولا: مواضع الاتفاق تتفق الكتب السماوية في أمور عديدة منها: 1 - وحدة المصدر: فمصدرها واحد؛ فهي منزلة من عند الله، قال تعالى: الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:1 - 4]. 2 - وحدة الغاية: فالكتب السماوية غايتها واحدة، فهي كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دين الإسلام؛ فالإسلام هو دين جميع الرسل، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36]. وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران: 19]. والإسلام هو الدين الذي أُمِر به إبراهيم عليه السلام إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة: 131]. وقال موسى عليه السلام لقومه: يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84]. والحواريون قالوا لعيسى عليه السلام: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52]. فالغاية إذاً هي الدعوة إلى دين الإسلام، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له. 3 - مسائل العقيدة: فالكتب اشتملت على الإيمان بالغيب، ومسائل العقيدة، كالإيمان بالرسل، والبعث والنشور، والإيمان باليوم الآخر إلى غير ذلك. فمسائل العقيدة من باب الأخبار التي لا تنسخ. 4 - القواعد العامة: فالكتب السماوية تقرر القواعد العامة، التي لابد أن تعيها البشرية؛ كقاعدة الثواب والعقاب، وهي أن الإنسان يحاسب بعمله، فيعاقب بذنوبه وأوزاره، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، ويثاب بسعيه، وليس له سعي غيره كما قال تعالى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم: 36_41]. ومن ذلك الحث على تزكية النفس، وبيان أن الفلاح الحقيقي لا يتحقق إلا بتزكية النفس بالطاعة لله، والعبودية له، وإيثار الآجل على العاجل. قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 14 - 19]. ومن تلك القواعد أن الذي يستحق وراثة الأرض هم عباد الله الصالحون؛ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105]. ومن ذلك أن العاقبة للتقوى وللمتقين، كما قال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132]، وقال: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128]. 5 - العدل والقسط: وهذا من مواطن الاتفاق؛ فجميع الأنبياء عليهم السلام حملوا ميزان العدل والقسط، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25]. 6 - محاربة الفساد والانحراف: وهذا ما اتفقت عليه الرسالات؛ سواء كان الفساد عقدياً أو خلقياً، أو انحرافاً عن الفطرة، أو عدواناً على البشر، أو تطفيفاً في الكيل والميزان، أو غير ذلك.

7 - الدعوة إلى مكارم الأخلاق: فالكتب كلها دعت إلى مكارم الأخلاق، كالعفو عن المسيء، وكالصبر على الأذى، وكالقول الحسن، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وإكرام الضيف، والتواضع، والعطف على المساكين، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق. 8 - كثير من العبادات: فكثير من العبادات التي نقوم بها كانت معروفة عند الرسل وأتباعهم، كالصلاة، والزكاة، قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ [الأنبياء: 73]. وإسماعيل عليه السلام وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم: 55]، وقال الله لموسى عليه السلام: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14]، وقال عيسى عليه السلام: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم: 31]. والصوم كذلك مفروض علينا كما هو مفروض على من قبلنا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183]. والحج كذلك، كما في قول الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحج: 27]. وقد جعل الله لكل أمة مناسكها وعبادتها، قال عز وجل: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج: 34]. رسائل في العقيدة لمحمد إبراهيم الحمد - ص 287

ثانيا: مواضع الاختلاف

ثانيا: مواضع الاختلاف تختلف الكتب السماوية في الشرائع، فشريعة عيسى تخالف شريعة موسى عليهما السلام في بعض الأمور، وشريعة محمد تخالف شريعة موسى وعيسى عليهما السلام في أمور. قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة: 48]. وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافاً كلياً؛ فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية، وقد مر بنا شيء من ذلك، فالاختلاف بينها إنما يكون في التفاصيل. فعدد الصلوات، وأركانها، وشروطها، ومقادير الزكاة، ومواضع النسك، ونحو ذلك قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يُحِل الله أمراً في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة يعلمها عز وجل ولا يلزم أن نعلمها، ومن الأمثلة على ذلك مايلي: 1 - الصوم: فقد كان الصائم يفطر في غروب الشمس، ويباح له الطعام، والشراب، والنكاح إلى طلوع الفجر ما لم ينم، فإن نام قبل الفجر حرم عليه ذلك كله إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فخفف الله عن هذه الأمة، وأحله من الغروب إلى الفجر، سواءً نام أم لم ينم، قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ [البقرة: 187]. 2 - ستر العورة حال الاغتسال: لم يكن واجباً عند بني إسرائيل، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: ((كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده)). (¬1) 3 - الأمور المحرمة: فمما أحله الله لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم الله هذا بعد ذلك. وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة. وقد حرَّم الله مثل هذا على بني إسرائيل في التوراة. وكذلك الجمع بين الأختين كان سائغاً،. ... ومما حرَّمه الله على اليهود ما قصه علينا في سورة الأنعام، قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام: 146]. ثم جاء عيسى عليه السلام فأحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم. وجاءت الشريعة الخاتمة لتكون القاعدة: إحلال الطيبات وتحريم، الخبائث. ومما تميزت به الشريعة الخاتمة أنها عامة لجميع الناس إلى قيام الساعة، بخلاف الشرائع الأخرى، فهي خاصة بقوم دون قوم، أو فترة دون فترة. رسائل في العقيدة لمحمد إبراهيم الحمد – بتصرف – ص 290 ¬

(¬1) رواه البخاري (278)، ومسلم (796)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الفصل الأول: التوراة

المبحث الأول تعريف التوراة التوراة: كلمة عبرانية تعني الشريعة أو الناموس، ويراد بها في اصطلاح اليهود: خمسة أسفار يعتقدون أن موسى عليه السلام كتبها بيده، ويسمونها "بنتاتوك" نسبة إلى (بنتا) وهي كلمة يونانية تعني خمسة، أي: الأسفار الخمسة، وهذه الأسفار هي: 1 - سفر التكوين: ويتحدث عن خلق السموات والأرض، وآدم، والأنبياء بعده إلى موت يوسف عليه السلام 2 - سفر الخروج: ويتحدث عن قصة بني إسرائيل من بعد موت يوسف عليه السلام إلى خروجهم من مصر، وما حدث لهم بعد الخروج مع موسى عليه السلام 3 - سفر اللاويين: وهو نسبة إلى لاوى بن يعقوب، الذي من نسله موسى وهارون عليهما السلام، وأولاد هارون هم الذين فيهم الكهانة، أي: القيام بالأمور الدينية، وهم المكلفون بالمحافظة على الشريعة وتعليمها الناس، ويتضمن هذا السفر أموراً تتعلق بهم وبعض الشعائر الدينية الأخرى. 4 - سفر العدد: وهو معنيٌّ بعدِّ بني إسرائيل، ويتضمن توجيهات، وحوادث حدثت من بني إسرائيل بعد الخروج. 5 - سفر التثنية: ويعني تكرير الشريعة، وإعادة الأوامر والنواهي عليهم مرة أخرى، وينتهي هذا السفر بذكر موت موسى عليه السلام وقبره، وقد يطلق النصارى اسم التوراة على جميع أسفار العهد القديم. أما في اصطلاح المسلمين فهي: الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه السلام نوراً وهدى لبني إسرائيل. أما الكتب الملحقة بالتوراة فهي: أربعة وثلاثون سفراً، حسب النسخة البروتستانتية، فيكون مجموعها مع التوراة تسعة وثلاثين سفراً، وهي التي تسمى العهد القديم لدى النصارى، ويمكن تقسيمها إلى خمسة أقسام: أولاً: الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ثانياً: الأسفار التاريخية، وهي ثلاثة عشر سفرا: 1 - يشوع 2 - القضاة 3 - راعوث 4 - صموئيل الأول 5 - صموئيل الثاني 6 - الملوك الأول 7 - الملوك الثاني 8 - أخبار الأيام الأول 9 - أخبار الأيام الثاني 10 - عزرا 11 - نحميا 12 - إستير 13 - يونان (يونس عليه السلام). وهذه الأسفار تحكي قصة بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام إلى ما بعد العودة من السبي البابلي إلى فلسطين، وإقامتهم للهيكل مرة أخرى بعد تدميره، ماعدا سفري أخبار الأيام الأول والثاني، فإنها تعيد قصة بني إسرائيل، وتبتدئ بذكر مواليد آدم على سبيل الاختصار إلى السنة الأولى لملك الفرس قورش، وكذلك سفر يونان (يونس عليه السلام) يحكي قصته مع أهل نينوى الذين أرسل إليهم. ثالثاً: أسفار الأنبياء وهي خمسة عشر سفراً: 1 - أشعيا 2 - إرميا 3 - حزقيال 4 - دانيال 5 - هوشع 6 - يوثيل 7 - عاموس 8 - عوبديا 9 - ميخا 10 - ناحوم 11 - حبقوق 12 - صفنيا 13 - حجى 14 - زكريا 15 - ملاخى. وهذه الأسفار يغلب عليها طابع الرؤى، والتنبؤات بما سيكون من حال بني إسرائيل، وحال الناس معهم، وفيها تهديدات لبني إسرائيل، ووعود بالعودة والنصر. والذين نسبت إليهم هذه الأسفار هم ممن كانوا زمن السبي إلى بابل وبعده. رابعاً: أسفار الحكمة والشعر (الأسفار الأدبية). وهي خمسة أسفار: 1 - أيوب 2 - الأمثال 3 - الجامعة 4 - نشيد الإنشاد 5 - مراثي إرميا. خامساً: سفر الابتهالات والأدعية سفر واحد، وهو سفر المزامير المنسوب إلى داود عليه السلام. هذه أسفار النسخة العبرانية المعتمدة لدى اليهود والبروتستانت من النصارى. أما النصارى الكاثوليك، والأرثوذكس فيعتمدون النسخة اليونانية، وهي تزيد على العبرانية بسبعة أسفار هي: سفر طوبيا، ويهوديت، والحكمة، ويشوع بن سيراخ، وباروخ، والمكابيين الأول والمكابيين الثاني. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 76

المبحث الثاني: تاريخ التوراة

المبحث الثاني: تاريخ التوراة إن كل كتاب يستمد قيمته من قيمة صاحبه، ولابد أن يثبت صحة نسبته إلى صاحبه، وإلا فإنه يفقد قيمته، والكتب المنزلة المقدسة تستمد قدسيتها من نسبتها إلى من جاءت من عنده، وهو الله عز وجل، ولابد لثبوت قدسيتها أن تثبت صحة نسبتها وسندها إلى الله عز وجل، وما لم يثبت ذلك فإنها لا تكون مقدسة، وغير واجبة القبول؛ إذ تكون عرضة للتحريف، والتبديل، والخطأ. فلهذا لابد لنا أن نتعرف على حال التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام، وهي أهم جزء في العهد القديم الذي بين يدي اليهود والنصارى من ناحية إسنادها فنقول: إن من نظر في التوراة والأسفار الملحقة بها يجد ذكراً محدوداً لأسفار موسى التي يسمونها الشريعة، أو سفر الرب، أو التوراة. ومن خلال هذه المعلومات نجد أن اليهود ذكروا: 1 - أن موسى عليه السلام دوَّن جميع الأحكام وكتبها، وهي أحكام أعطيها شفهيًّا وفي هذا قالوا في (سفر الخروج) (24/ 3): (فجاء موسى وحدث الشعب بجميع أقوال الرب وجميع الأحكام، فأجاب جميع الشعب بصوت واحد، وقالوا: كل الأقوال التي تكلم بها الرب نفعل. فكتب موسى جميع أقوال الرب ... ) ثم قالوا: (وأخذ كتاب العهد، وقرأ في مسامع الشعب فقالوا: كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له). 2 - أن موسى أُعطي شريعة مكتوبة بيد الله تعالى، وفي هذا قالوا في (سفر الخروج) (24/ 12) (وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل، وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة، والشريعة، والوصية التي كتبتها لتعليمهم). ثم ذكروا بعد هذا أن موسى عليه السلام مكث أربعين يوماً في الجبل، وذكروا شرائع كثيرة أعطيها، وتكلم الله بها معه، ثم في نهاية ذلك ذكروا إعطاءه الألواح، وفي هذا قالوا في (سفر الخروج) (31/ 18): (ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة، لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله). وفي أثناء غياب موسى عليه السلام عبد بنو إسرائيل العجل، فلما عاد موسى عليه السلام ورأى قومه يرقصون حول العجل ألقى الألواح فتكسرت، ثم إن الله سبحانه وتعالى فيما يذكر اليهود كتب له لوحين آخرين بدلاً عنها. 3 - ذكر اليهود أن موسى عليه السلام قبيل وفاته كتب التوراة، وأعطاها لحاملي التابوت، وفي هذا قالوا في (سفر التثنية) (31/ 9): (وكتب موسى هذه التوراة، وسلمها للكهنة من بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب، ولجميع شيوخ إسرائيل، وأمرهم موسى قائلاً: في نهاية السبع السنين في ميعاد سنة البراء في عيد المظال حينما يجيء جميع إسرائيل؛ لكي يظهروا أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره، تقرأ هذه التوراة، أمام كل إسرائيل في مسامعهم). ثم ذكر اليهود في خاتمة هذا السفر السبب الذي لأجله دوَّن موسى عليه السلام التوراة فقالوا في (سفر التثنية) (31/ 24): (فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها، أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون هناك شاهداً عليكم؛ لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هو ذا وأنا بعد حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي). 4 - ذكر اليهود في سفر يشوع أن يشوع (يوشع) كتب التوراة مرة أخرى على أحجار المذبح حسب وصية موسى عليه السلام، وفي هذا قالوا: (حينئذ بنى يشوع مذبحاً للرب إله إسرائيل في جبل عيبال ... وكتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى التي كتبها أمام بني إسرائيل ... وبعد ذلك قرأ جميع كلام التوراة البركة واللعنة، حسب كل ما كتب في سفر التوراة).

5 - انقطع بعد هذا ذكر التوراة وخبرها، فلا يذكر اليهود في كتابهم التوراة التي كتبها موسى، ولا ما كتبه يشوع على حجارة المذبح، وإنما ذكروا التابوت الذي وضع موسى عليه السلام فيه التوراة، وأن هذا التابوت استولى عليه الأعداء في زمن النبي صموئيل في قولهم، ثم أعيد إليهم بعد سبعة أشهر، فجعلوه في قرية يسمونها يعاريم. وبقى هناك فيما ذكروا عشرين عاماً إلى أن جاء داود عليه السلام فأصعده من هناك إلى أورشليم، وجعله في خيمة، ثم نقله سليمان عليه السلام إلى الهيكل الذي بناه، وجعله في قدس الأقداس فيما يقولون، وكانوا يستقبلونه في الصلاة. وقد ذكروا أن سليمان عليه السلام حين فتح التابوت لم يكن فيه سوى لوحي الحجر اللذين وضعهما موسى عليه السلام، فأين ذهبت نسخة التوراة التي نسخها موسى عليه السلام ووضعها في التابوت؟ هذا مالا يجد اليهود ولا النصارى جواباً له. 6 - بعد سليمان عليه السلام انقسمت دولة بني إسرائيل إلى قسمين: دولة إسرائيل في الشمال: وهي تحت حكم يربعام بن نباط، وعاصمتها نابلس. ودولة يهوذا في الجنوب، وهي تحت حكم رحبعام بن سليمان، وعاصمتها أورشليم. وذكر اليهود حادثة في زمن رحبعام، لها دلالتها المهمة: وهي أن رحبعام ترك شريعة الرب هو وكل إسرائيل، وذلك يعني انحرافهم عن الدين فهاجمهم فرعون مصر في ذلك الزمن، واستباح ديارهم، وفي هذا قالوا في (سفر الملوك الأول) (14/ 22): (وعمل يهوذا الشر في عيني الرب، وأغاروه أكثر من جميع ما عمل آباؤهم بخطاياهم التي أخطأوا بها، وبنوا لأنفسهم مرتفعات، وأنصاباً، وسواري على كل تل مرتفع، وتحت كل شجرة خضراء، وكان أيضاً مأبونون في الأرض فعلوا حسب كل أرجاس الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل. وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم، وأخذ جميع خزائن بيت الرب، وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شيء، وأخذ جميع أتراس الذهب التي عملها سليمان). وفي (سفر أخبار الأيام الثاني) (12/ 1) وصفوا شيشق، وما معه من قوة بما يلي: (وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر على أورشليم- لأنهم خانوا الرب- بألف ومائتي مركبة، وستين ألف فارس، ولم يكن عدد للشعب الذين جاؤوا معه من مصر، لوبيين وسكيين وكوشيين، وأخذ المدن الحصينة التي ليهوذا، وأتى إلى أورشليم ... ). فهذا النص فيه دلالة واضحة على أن عاصمة اليهود الدينية استباحها فرعون مصر، واستولى على ما فيها، وهذا يدل على أن اليهود فقدوا التوراة في هذه الحادثة حيث لم يشر كتابهم المقدس إليها بعد هذا إلا في زمن الملك يوشيا، أي: بعد ما يقارب ثلاثة قرون وزيادة، كما سيأتي بيانه في الفقرة التالية، كما أن التابوت ينتهي خبره بعد هذه الحادثة إلى زمن الملك يوشيا أيضاً، حيث طلب من اللاويين أن يجعلوا التابوت في البيت الذي بناه النبي سليمان عليه السلام، ثم ينقطع بعد هذا خبره إلى يومنا هذا، ولعله كان مما دمره بختنصر في غزوه لبيت المقدس. 7 - يزعم اليهود أن الملك يوشيا الذي تولى الملك في يهوذا بعد سليمان عليه السلام بما يقارب (340) عاماً، وقبيل غزو بختنصر لدولة يهوذا وتدميرها مرة أخرى وجد سفر الشريعة, وهذا نص كلامهم: (وفي السنة الثامنة عشرة للملك يوشيا، أرسل الملك شافان بن أصليا بن مشلام الكاتب إلى بيت الرب قائلاً:

اصعد إلى حلقيا الكاهن فيحسب الفضة المدخلة إلى بيت الرب التي جمعها حارسو الباب من الشعب فيدفعوها ليد عاملي الشغل الموكلين ببيت الرب ... فقال حلقيا الكاهن العظيم لشافان الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب، وسلم حلقيا السفر لشافان فقرأه، وجاء شافان الكاتب إلى الملك ورد على الملك جواباً .... وأخبر شافان الملك قائلاً: قد أعطاني حلقيا الكاهن سفراً، وقرأه شافان أمام الملك، فلما سمع الملك كلام سفر الشريعة مزق ثيابه، وأمر الملك حلقيا الكاهن، وأخيقام بن شافان .... قائلاً: اذهبوا اسألوا الرب لأجلي، ولأجل الشعب، ولأجل كل يهوذا من جهة كلام هذا السفر الذي وجد؛ لأنه عظيم، هو غضب الرب الذي اشتعل علينا من أجل أن آباءنا لم يسمعوا لكلام هذا السفر ليعملوا حسب كل ما هو مكتوب علينا. .. وأرسل الملك فجمعوا إليه كل شيوخ يهوذا وأورشليم وصعد الملك إلى بيت الرب، وجمع رجال يهوذا، وكل سكان أورشليم معه والكهنة والأنبياء، وكل الشعب من الصغير إلى الكبير، وقرأ في آذانهم كل كلام سفر الشريعة الذي وجد في بيت الرب). فهذا الخبر الذي ذكره اليهود فيه دلالة واضحة على أنهم كانوا قد فقدوا التوراة، وأنهم أيضاً ضيعوا أحكامها، ونسوا الشيء الكثير منها، وما وجدوه في الواقع ليس فيه أي دليل على أنه التوراة؛ إذ من المستبعد جدًّا أن يكون اليهود قد فقدوا التوراة كل هذه المدة الطويلة- أكثر من ثلاثة قرون- وهي موجودة في الهيكل مع أنه معبد عام، وقد تعاقب على رئاسته خلال تلك المدة الكثيرة من الكهنة، وهم يبحثون عنها كل تلك المدة ولا يجدونها مع ما لها من القداسة في نفوسهم ثم يجدها الكاهن حلقيا؟ هذا في الواقع مستبعد جدًّا، وليس بعيداً أن يكون الكاهن حلقيا كتبها من محفوظاته ومعلوماته، وزعم أنها سفر الشريعة؛ ليرضي بذلك الملك يوشيا، الذي كان له تدين ورغبة في استقامة الشعب. والله أعلم. 8 - بعد الملك يوشيا بخمس وعشرين سنة تقريباً- وذلك سنة (586) ق. م- هجم بختنصر الكلداني على دولة يهوذا ودمرها، ودمر الهيكل، وسبى بني إسرائيل، وفي هذا قالوا في كتابهم بعد ذكر مبررات التدمير من فساد بني إسرائيل وكفرهم: "فأصعد عليهم ملك الكلدانيين فقتل مختاريهم بالسيف في بيت مقدسهم، ولم يشفق على فتى، أو عذراء، ولا على شيخ أو أشيب بل دفع الجميع ليده، وجميع آنية بيت الله الكبيرة والصغيرة، وخزائن بيت الرب وخزائن الملك ورؤسائه أتى بها جميعا إلى بابل، وأحرقوا بيت الله، وهدموا سور أورشليم، وأحرقوا جميع قصورها بالنار، وأهلكوا جميع آنيتها الثمينة، وسبى الذين بقوا من السيف إلى بابل فكانوا له ولبنيه عبيداً إلى أن ملكت مملكة فارس". فيجمع الكُتَّاب هنا على أن التوراة فقدت من بني إسرائيل مرة أخرى بسبب هذا التدمير الشامل. 9 - يزعم اليهود أن عزرا الكاتب قد هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء. وعزرا هذا كان زمن السبي البابلي، ولما عاد بنو إسرائيل إلى أورشليم في زمن ملك الفرس جمعهم لقراءة ما كتب من شريعة موسى، وفي هذا قالوا: (اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء، وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إسرائيل، فأتى عزرا الكاتب بالشريعة أمام الجماعة من الرجال والنساء، وكل فاهم ما يسمع في اليوم الأول من الشهر السابع، وقرأ منها أمام الساحة التي أمام باب الماء من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء والفاهمين، وكانت آذان كل الشعب نحو سفر الشريعة).

فيظهر من هذا واضحاً أن عزرا قد كتب لهم التوراة، ولم يذكر اليهود من أين وصلت التوراة إليه، وبينه وبين موسى عليه السلام أكثر من ثمانية قرون؟ وقد فقدت التوراة قبل زمن عزرا قطعاً كما مرَّ ذكره. فعلى هذا يتبين أن التوراة التي كان عزرا يقرأها على الناس إما أن تكون مفتراة مكذوبة، دوَّنها عزرا من محفوظاته وما وصل إليه من مدونات ومعلومات، وليست توراة موسى، وبالتأكيد لا يوثق بحفظه ولا ما وصل إليه من أوراق وكتب؛ إذ إن ذلك يحتاج إلى إثبات السند المتصل منه إلى موسى عليه السلام، وهذا أبعد عليهم من السماء. وإما أن تكون معلومات متوارثة في الأحكام الواجب على بني إسرائيل التزامها، دوَّنها عزرا على أنها الفرائض التي أوجبها الله على بني إسرائيل، وزعم هو أو زعم كُتَّاب الكلام السابق أنها سفر شريعة موسى، وبين الأمرين كما بين السماء والأرض؛ إذ إن توراة موسى منزلة من عند الله، وما جمعه عزرا ودوَّنه لا يعدو أن يكون فهوماً واستنباطات بشرية يعتريها ما يعتري البشر من النقص والخلل، وهذا الاحتمال الأخير في رأيي أرجح من سابقه، وذلك لأن اليهود ذكروا في كتابهم عن عزرا قولهم: "لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء". فهذا يدل على أنه أخذ يجدُّ في الجمع والتتبع والعمل والتعليم. وهناك نص آخر يدل على أن بني إسرائيل قد أهملوا العمل بكثير من التعاليم من أيام يوشع بن نون، وفي هذا قالوا عن أحد أعيادهم التي عملوها بدعوة من عزرا: (وعمل كل الجماعة الراجعين من السبي مظال وسكنوا في المظال؛ لأنه لم يعمل بنو إسرائيل هكذا من أيام يشوع بن نون إلى ذلك اليوم، وكان فرح عظيما جدًّا). فهذا ينص صراحة على الإهمال للتعاليم، وعدم أدائها من زمن بعيد، فلا يمكن لرجل مهما أوتي من العلم جمع كل التعاليم الواجبة مع البعد الزمني، وكثرة التقلبات والانحرافات التي وقع فيها بنو إسرائيل، ومع ذلك فجمعه لا يعدو أن يكون عملاً بشريًّا لا يصح بأي حال نسبته إلى الله عز وجل. 10 - ذكر المؤرخون أن الحاكم اليوناني (بطليموس الثاني) الذي كان في الفترة من (282 - 247 - ق. م) طلب من اليعازار رئيس الكهان أن يرسل إليه اثنين وسبعين عالماً من علماء التوراة؛ لترجمة أسفار موسى الخمسة إلى اليونانية فنفذ الطلب، وكان اليعازار على رأس أولئك، وتمت المهمة خلال اثنين وسبعين يوماً، فكانت الترجمة المعروفة بـ (السبعينية) في اللغة اليونانية للأسفار الخمسة. وعن اليونانية ترجم العهد القديم إلى اللاتينية.

فهذه الترجمة للأسفار تمت بعد فترة طويلة جدًّا من وفاة موسى عليه السلام، إذ تقارب العشرة قرون، وكذلك بعد فترة طويلة من نسخة عزرا التي سبق ذكرها؛ إذ بين هذه الترجمة وتلك النسخة قرابة قرنين من الزمان، مما يجعل الكتاب الذي ترجم عنه إلى اليونانية لا سند له، فيكون المترجَم بالتالي لا قيمة له. كما أن هذه المعلومة لم يذكرها إلا رجل يوناني يسمى (أرستاي) في رسالة له لهذا ردها كثيرٌ من متأخري اليهود والنصارى، وإن كان المتقدمون قد قبلوها. كما ذكر ذلك الدبس في (تاريخ سورية). فهي معلومة لم يتوفر لها الإثباتات اللازمة، إضافة إلى غرابتها حيث زعم قائلها أن اليعازار أرسل اثنين وسبعين رجلاً من علماء اليهود، ستة من كل سبط من أسباطهم الاثني عشر، وأنهم جعلوا في أماكن منفرد بعضهم عن بعض، فكانت ترجماتهم متطابقة تماماً. فهذا الخبر لا يمكن قبوله وتصديقه، وذلك لأن مما هو متفق عليه عند اليهود أن عشرة أسباط من بني إسرائيل وهم الذين كانوا شعب دولة إسرائيل شمال دولة يهوذا قد سبوا من أيام الأشوريين في سنة (722) ق. م وانقرضوا حيث يوصفون بالأسباط العشرة الضائعة، وحسب الخبر المذكور هنا فإن اليعازار قد أحضر ستين عالماً منهم، وهذا مستبعد جدًّا. 11 - أن اليهود فقدوا المقدرة على فهم اللغة العبرية المدونة القديمة بعد اختلاطهم بالأمم، وذلك أن اللغة العبرية في أصلها بدون نقط ولا حركات، وهذا يسبب أخطاءً كثيرة في القراءة، فاهتدوا إلى وسيلة لإزالة هذا اللبس بإدخال النقط والحركات، والفواصل، واستمر هذا العمل من القرن السابع الميلادي إلى القرن العاشر الميلادي، فأخرجوا نسخة من التوراة باللغة العبرية على هذا النمط تسمى النسخة الماسورية، انتهوا منها في القرن العاشر الميلادي، وعن هذه النسخة- أي: العبرية- المعدلة نسخت جميع النسخ العبرية والمترجمة عنها. والسؤال المطروح هنا: أين النسخ الأصلية التي نقلت عنها النسخة الماسورية؟ الجواب عن ذلك: أنه لا يوجد بأيدي اليهود أو النصارى شيء من النسخ الأصلية سوى مخطوطات وادي قمران عند البحر الميت، والتي عثر عليها في الفترة من عام (1947) - (1956م) وهي مجموعات متكاملة للعهد القديم كتبت قبل الميلاد بثلاثة قرون، وأقربها عهداً ما كتب قبل الميلاد بقرن واحد، إلا أن هذه المخطوطات التي استولى على الجزء الأكبر منها كل من أمريكا، وبريطانيا، واليهود في فلسطين لم تكشف ولم تعلن حتى الآن، مما يجعل في الأذهان استفهامات عديدة حولها، وأنها تتضمن أمورا خطيرة، جعلت اليهود والنصارى يتفقون على عدم كشفها على غير عادتهم في الآثار التاريخية. ومن خلال هذا العرض التاريخي الموثق للتوراة يتبين ما يلي: 1 - أن التوراة التي أعطيها موسى عليه السلام مكتوبة، والتي دوَّنها، وكذلك التي دوَّنها يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام فقدت، إما قبل عهد سليمان عليه السلام، أو بعده مباشرة. 2 - أن اليهود زعموا أنهم عثروا على التوراة زمن الملك يوشيا، وهو ادعاء يحتاج إلى العديد من الإثباتات لاعتقاد صحته. 3 - أن اليهود فقدوا ما ادعوا أنهم وجدوه زمن الملك يوشيا، وذلك بسبب تدمير بيت المقدس وما أعقب ذلك من سبي اليهود وتهجيرهم. 4 - أن عزرا أعاد لهم التوراة وكتبها فيما زعم اليهود، وإذا قبلنا كلام اليهود هذا فإن ذلك لا يعدو أن يكون عملاً بشريًّا، وإذا كان عزرا نسبه إلى الله عز وجل فهو كاذب في ذلك؛ لأن التوراة لم يدَّعِ أحد لا من اليهود، ولا من النصارى، ولا من المسلمين أنها أنزلت مرتين مرة على موسى، ومرة على عزرا.

وقد يكون الذي ادَّعى أن تلك هي التوراة ألهمها عزرا هم الكتبة فيما بعد، فهم في هذا كاذبون؛ لأن عزرا لم يقل ذلك فيما نقلوا عنه. وأدلة بطلان ذلك ظاهرة من ناحية بُعد الزمان، وانقطاع السند، وفساد بني إسرائيل. 5 - أن نسخة عزرا وما دوَّنه عزرا لا يعلم على التحقيق مصيرها، وإنما بعد ذلك بما يقارب قرنين من الزمان كتبت النسخة السبعينية، ولم يذكر من أي نسخة ترجمت، وادعاء أنها من حفظ الكهنة بعيد جدًّا؛ إذ إن اليهود لا يحفظون كتابهم عن ظهر قلب، وليس فيهم من يدَّعي ذلك. 6 - أن النسخة العبرية، والتي تنتمي إلى النص الماسوري، لا تختلف عن الكتاب المترجم من ناحية أنها أخذت طريقة في الكتابة مغايرة للغة الأصلية التي كتب بها العهد القديم، مما يجعل ثبوت صحتها منوطاً بوجود النصوص الأصلية التي تتفق مع اللغة القديمة، حتى يمكن المقابلة عليها، وإلا تعتبر لا أصل لها يشهد لصحتها، فتكون بذلك مثلها مثل النسخة اليونانية. 7 - أن النص اليوناني والنص العبري للتوراة والعهد القديم لم يؤخذا من مصدر واحد، بل من مصدرين مختلفين يدل على هذا اختلافهما في عدد الأسفار، حيث إن اليونانية ستة وأربعون سفراً، وأما العبرية الماسورية فهي تسعة وثلاثون سفراً، كما أن بينهما اختلافات كثيرة وعديدة مما يدل على أنهما من مصدرين مختلفين. ومن خلال هذا يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن العهد القديم كتاب ليس له أي سند تاريخي يثبت تسلسل نقله، وأنه تعرض لفترات عديدة من الضياع، وأن أصله العبري لا وجود له بأيدي اليهود، مما يجعل المجال واسعاً للتحريف والتبديل. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 80

المبحث الثالث: تحريف التوراة

تمهيد: وقوع التحريف في الكتب المتقدمة على القرآن التحريف لغة: التغيير والتبديل، وتحريف الكلام عن مواضعه: تغييره (¬1). قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: (التحريف: الإمالة، وتحريف الكلام: أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين) (¬2). وقد بين ابن القيم رحمه الله كيفية التحريف في الكتب السابقة كما بينها الله عز وجل في القرآن الكريم بقوله: (وأما التحريف فقد أخبر سبحانه عنهم في مواضع متعددة، وكذلك لي اللسان بالكتاب ليحسبه السامع منه وما هو منه. فهذه خمسة أمور: أحدها: لبس الحق بالباطل، وهو خلطه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل. الثاني: كتمان الحق. الثالث: إخفاؤه، وهو قريب من كتمانه. الرابع: تحريف الكلم عن مواضعه، وهو نوعان: تحريف لفظه، وتحريف معناه. الخامس: لي اللسان به، ليلبس على السامع اللفظ المنزل بغيره) (¬3). وقد اختلفت أقوال الناس في وقوع التحريف في الكتب السابقة على ثلاثة أقوال (¬4). القول الأول: زعمت طائفة أنها بدلت كلها بجميع لغاتها، ومن هؤلاء من أسرف حتى قال: (إنه لا حرمة لها، وجوز الاستجمار بها من البول). وهذا القول باطل لا يقوله أحد من المسلمين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذا مما لا يقوله المسلمون، ولكن قد يقول بعضهم: إنه حرف بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ألفاظ بعض النسخ، فإن الجمهور الذين يقولون: إن بعض ألفاظها حرفت، منهم من يقول: كان من قبل المبعث، ومنهم من يقول: كان بعده، ومنهم من يثبت الأمرين أو يجوزهما، ولكن لا يقول: إنه حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة في مشارق الأرض ومغاربها) (¬5). القول الثاني: أن التبديل والتغيير وقع في المعاني لا في الألفاظ. وإلى هذا القول ذهب الإمام البخاري (¬6) رحمه الله، واختاره الرازي في تفسيره (¬7). وهذا القول لا يسلم له بإطلاق، بل لابد من التفصيل في ذلك. فأما القول: بأن التحريف قد وقع في معاني تلك الكتب؛ فهذا أمر مسلم به، وهو ما حكى عليه شيخ الإسلام رحمه الله الإجماع ... بل إن هذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى (¬8). وأما القول بعدم التحريف في ألفاظها فلا يسلم بذلك؛ لأنه قد وجد فيها من الألفاظ ما لا يجوز أن يكون من كلام الله عز وجل، إضافة إلى ما فيها من التناقض والتضارب في نصوصها، فلو كان وحياً من عند الله لما وجد فيها هذا التناقض والتضارب، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله في (كتاب الفصل) كثيراً من هذه التناقضات الظاهرة، والتي تؤكد وقوع التحريف في ألفاظها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (تحريفهم المعاني لا ينكر؛ بل هو موجود عندهم بكثرة ... ) (¬9). القول الثالث: أن التحريف قد وقع في اليسير منها، ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه. وقد رجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (¬10). وقد تكفل الله عز وجل بحفظ كتابه العزيز، أما ما سبقه من الكتب فقد استحفظها جل جلاله الربانيين والأحبار؛ فأحدثوا فيها كثيراً من التحريف والتغيير والتبديل، كما أخبرنا الله عنهم في أكثر من موضع من القرآن الكريم. نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام، مما سبق يتضح أن التحريف في الكتب السابقة على قسمين: الأول: التحريف في ألفاظها، وهذا قد وقع فيه الخلاف ... ¬

(¬1) ((مختار الصحاح)) (ص: 131). (¬2) ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 121). (¬3) ((هداية الحيارى)) (ص: 48). (¬4) انظر: ((الجواب الصحيح)) (2/ 418 - 427)، و ((إغاثة اللفهان)) (2/ 351 - 354)، و ((فتح القدير)) (15/ 505). (¬5) ((الجواب الصحيح)) (2/ 419). (¬6) ((فتح الباري)) (15/ 503). (¬7) ((التفسير الكبير)) (2/ 123). (¬8) انظر: ((الجواب الصحيح)) (2/ 407). (¬9) ((فتح الباري)) (15/ 505). (¬10) ((الجواب الصحيح)) (2/ 420).

الثاني: التحريف في معانيها وترجمتها، وهذا أمر مجمع عليه، وهو ما نقله شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة بقوله: (وأهل الكتاب اليهود والنصارى مع المسلمين متفقون على أن الكتب المتقدمة وقع التحريف بها؛ إما عمداً وإما خطأ: في ترجمتها، وفي تفسيرها، وشرحها، وتأويلها؛ وإنما تنازع الناس هل وقع التحريف في بعض ألفاظها) (¬1). وقال أيضاً: (والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها، وفي ترجمة بعضها، فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم، وكذلك في الإنجيل وغيره). وقال أيضا: (ولكن علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب متفقون على وقوع التحريف في المعاني والتفسير) (¬2). ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: إن المتأمل لأحوال اليهود والنصارى ومواقفهم مع كتب الله عز وجل يجد أنهم قد حرفوا كثيراً مما أنزل الله. قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75] ... قال: (يحرفونه أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه إلى غيره، فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرفوا وأنه بخلاف ما حرفوه إليه فقال: يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [البقرة: 75] يعني: من بعد ما عقلوا تأويله؛ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون) (¬3). وقال أيضا: (قال ابن زيد في قوله: يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ قال: التوراة التي أنزلها عليهم يحرفونها؛ يجعلون الحلال فيها حراماً، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً، والباطل فيها حقاً، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب؛ فهو فيه محق، وإن جاء أحد يسألهم شيئاً ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء؛ أمروه بالحق، فقال لهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 44]) (¬4). وقال البخاري رحمه الله: (يحرفون: يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل، ولكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله) (¬5). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (مراد البخاري بقوله: (يتأولونه) أنهم يحرفون المراد؛ بضرب من التأويل، كما لو كانت الكلمة بالعبرانية تحتمل معنيين قريب وبعيد، وكان المراد القريب؛ فإنهم يحملونها على البعيد، ونحو ذلك) (¬6). وقال شهاب الدين القرافي رحمه الله: (ومن طالع كتبهم وأناجيلهم وجد فيها من العجائب ما يقضي له بأن القوم تفرقت شرائعهم وأحكامهم، وأن القوم لا يلتزمون مذهباً. ¬

(¬1) ((الجواب الصحيح)) (5/ 123). (¬2) ((الجواب الصحيح)) (2/ 419). (¬3) ((تفسير الطبري)) م1 (1/ 485). (¬4) ((تفسير الطبري)) م1 (1/ 483، 484). (¬5) ((صحيح البخاري)) (6/ 2745). (¬6) ((فتح الباري)) (15/ 507).

والعجب أن أناجيلهم حكايات وتواريخ، وكلام كفرة وكهنة وتلامذة وغيرهم، حتى أني أحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن تاريخ الطبري عند المسلمين أصح نقلاً من الإنجيل، ويعتمد عليه العاقل أكثر، مع أن التاريخ لا يجوز – عند المسلمين – أن يبنى عليه شيء من أمر الدين، وإنما هو حكايات في المجالس، ويقولون مع ذلك: الإنجيل كتاب الله أنزله إلينا، وأمر السيد المسيح باتباعه، فليت شعري أين هذا الإنجيل المنزل من عند الله تعالى؟! وأين كلماته من بين هذه الكلمات؟!) (¬1). بل إن اليهود أنفسهم قد اتفقوا على وقوع التحريف في كتابهم؛ كما ذكر ذلك عنهم شهاب الدين القرافي رحمه الله حيث قال: (طائفة من اليهود يقال لهم السامرية، اتفق اليهود على أنهم حرفوا التوراة تحريفاً شديداً، والسامرية يدعون عليهم مثل ذلك التحريف، ولعل الفريقين صادقان، فأين حينئذ في التوراة شيء يوثق به مع تقابل هذه الدعاوى من فرق اليهود؟، فكفونا بأنفسهم عن أنفسهم) (¬2). ومن ذلك أيضاً أنهم يعترفون أن سبعين كاهناً منهم اجتمعوا على تبديل ثلاثة عشر حرفاً من التوراة، وقد نقل ذلك ابن القيم رحمه الله بقوله: (واليهود تقر أن السبعين كاهناً اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفاً من التوراة، وذلك بعد المسيح في عهد القياصرة الذي كانوا تحت قهرهم؛ حيث زال الملك عنهم ولم يبق لهم ملك يخافونه ويأخذ على أيديهم، ومن رضي بتبديل موضوع واحد من كتاب الله فلا يؤمن منه تحريف غيره، واليهود تقر أيضاً أن السامرة حرفوا مواضع من التوراة وبدلوها تبديلاً ظاهراً وزادوا ونقصوا، والسامرة تدعي ذلك عليهم) (¬3). أما النصارى فقد ذكر ابن حزم رحمه الله أنهم متفقون على أن هذه الأناجيل التي بين أيديهم عبارة عن تواريخ ألفها أصحابها في أزمان مختلفة حيث يقول: (النصارى لا يدعون أن الأناجيل منزلة من عند الله تعالى على المسيح، ولا أن المسيح عليه السلام أتاهم بها، بل كلهم أولهم عن آخرهم لا يختلفون في أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة) (¬4). أما ما يتعلق بالترجمة فإن التوراة قد ترجمت من العبرية إلى اليونانية والعربية، كما أن الأناجيل الأربعة قد كتبت بلغات متعددة، فإنجيل متى كتب بالعبرية، وأما مرقص ولوقا ويوحنا فقد كتبت أناجيلهم باليونانية (¬5)، ومعلوم أن التوراة والإنجيل إنما نزلت بلغة موسى وعيسى عليهما السلام وهي العبرية، ثم ترجمت بعد ذلك إلى غيرها من اللغات (¬6). (وإذا أخذنا في الحسبان الاعتبارات التي من الممكن أن تحول مسار واتجاه الترجمة؛ نخرج بنتيجة أن هذه الترجمة لا يمكن أن تكون مماثلة ومطابقة للأصل الذي نقلت منه، ومن هذه الاعتبارات ما يلي: 1 - إذا فقد الإيمان، وفقد الضمير الحي الذي يؤرق صاحبه عند المخالفة؛ عندئذ لا يستبعد حصول التجاوزات في الترجمة. 2 - تأثر الترجمة قوة وضعفاً بسبب قوة وضعف المترجم في معرفة وفهم اللغة المنقول منها والمنقول إليها. 3 - أن الترجمة تصبغ بصبغة المترجم؛ لأنه من غير المعقول أن يتخلى المترجم – حال الترجمة – عن عقيدته وماضيه وثقافته وتطلعاته، وهذه كلها أمور تدفع المترجم لأن يصوغ الترجمة بالصيغة التي تميل إليها نفسه. ¬

(¬1) ((الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة في الرد على اليهود والنصارى)) (ص: 51). (¬2) ((الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة في الرد على اليهود والنصارى)) (ص: 116). (¬3) ((هداية الحياري)) (ص: 101). (¬4) ((الفصل)) لابن حزم (1/ 251) باختصار. (¬5) ((الفصل)) لابن حزم (1/ 251، 252). (¬6) ((الجواب الصحيح)) (5/ 123).

4 - يكفي في عدم التماثل أنه ترجمة وليس أصلاً) (¬1). 5 - ومن المهم في ذلك أننا لا علم لنا بالأصل الذي ترجم. 6 - وكذلك فإنا لا نعرف المترجم، ومدى معرفته باللغة المترجم عنها، وكذلك باللغة المترجم إليها؛ لأن الضعف في واحدة منهما يفسد اللفظ والمعنى جميعاً. فإذا كان هذا صنيعهم في ألفاظ التوراة التي يزعمون أنها كلام الله، فكيف يؤمنون بعد ذلك في تفسيرهم لها وبيان معانيها، أو عند ترجمتها، لا شك أن العقل السليم يجزم بوقوع التغيير والتبديل في ذلك. مستند الإجماع في المسألة: لقد شهد الله جل جلاله في مواضع عديدة من القرآن الكريم على تحريف اليهود والنصارى لكتبهم التي أنزلها الله سبحانه وتعالى لأنبيائهم؛ فمن ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75]. وقوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [المائدة: 13]. ومعنى يحرفونه: أي يبدلون معناه، ويتأولونه على غير تأويله (¬2). قال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ قال: (قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحرام حلالاً والحلال حراماً اتباعاً لأهوائهم مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ أي عرفوه وعلموه وهذا توبيخ لهم) (¬3). ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 78]. ومن الأدلة المحسوسة على وقوع التحريف في كتبهم؛ إضافة إلى ما ذكره الله عز وجل عنهم في القرآن الكريم ما يلي: 1 - انقطاع السند، وعدم حصول التواتر في نقلها، فليس في أسفار اليهود وأناجيل النصارى ما تصح نسبته إلى أنبيائهم عليهم السلام. فالتوراة لم يتم تدوينها إلا بعد موسى عليه السلام، ثم إن نسخة التوراة الأصلية قد ضاعت أيام الغزو البابلي لليهود، كما شهد بذلك أهل العلم منهم، ثم أعادوا كتابتها مرة أخرى (¬4)، حتى جاء أحد ملوك الرومان وفتح فلسطين عام (161 ق. م) فأمر بإحراق كافة النسخ التي عثر عليها من التوراة، وكل من احتفظ بنسخة منها يقتل، وكان يجري البحث عنها شهرياً، واستمر الحال على ذلك مدة زادت على ثلاث سنوات ونصف (¬5). وأما الإنجيل فإن الذي بأيدي النصارى منه أربع كتب مختلفة؛ وهم جميعاً متفقون على أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال وهم: يوحنا ومتى ومرقس ولوقا (¬6)، ثم إن مرقس ولوقا لم يكونا من حواريي المسيح عليه السلام (¬7). 2 - التناقض الواضح والتعارض الفاضح بين نصوص التوراة، وكذلك الحال في نصوص الأناجيل (¬8)، ولو كانت كلام الله حقيقة لاستحال أن يلحق بها تناقض أو اختلاف، يقول المولى تبارك وتعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. 3 - شهادة بعض علماء اليهود والنصارى على وقوع التحريف في كتبهم؛ وخاصة من رجع منهم إلى الحق، واتبع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم (¬9). وفي هذه الأدلة أوضح دلالة على أن الكتب التي سبقت القرآن الكريم قد وقع فيها التغيير والتبديل، وأن أهل الكتاب قد غيروا وبدلوا عن علم وإصرار. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – بتصرف – ص: 758 ¬

(¬1) ((مسلمو أهل الكتاب وأثرهم في الدفاع عن القضايا القرآنية)) (2/ 684 - 685) باختصار. (¬2) انظر: ((تفسير الطبري)) م1 (1/ 485)، و ((تفسير القرطبي)) (5/ 233). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (2/ 6). (¬4) انظر: ((التوراة بين فقدان الأصل وتناقض النص)) (ص: 4، 5). (¬5) انظر: ((التوراة بين فقدان الأصل وتناقض النص)) (ص: 84، 85). (¬6) انظر: ((الفصل)) لابن حزم (1/ 251). (¬7) انظر: ((تخجيل من حرف التوراة والإنجيل)) (1/ 284). (¬8) انظر: ((التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث)) (ص: 55، 56)، و (ص: 130، 131)، و ((تخجيل من حرف التوراة والإنجيل)) (1/ 283) وما بعدها، ((التوراة بين فقدان الأصل وتناقض النص)) (ص: 1). (¬9) انظر: ((التوراة والأناجيل والقرآن الكريم)) (ص: 15)، و ((التوراة بين فقدان الأصل وتناقض النص)) (ص: 2).

المطلب الأول: أدلة التحريف من القرآن الكريم والتوراة

المطلب الأول: أدلة التحريف من القرآن الكريم والتوراة قد شهد الله عزَّ وجلَّ بتحريف اليهود لكتابهم، وأبان عن هذا في القرآن الكريم في مواضع عديدة، فمن ذلك قوله عز وجل: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75]. فهذا فيه دلالة على أنهم غيَّروا وبدَّلوا عن إصرار وعلم. وقوله عزَّ وجلَّ: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 79]. وقوله عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 78]. فهذا فيه دلالة على أنهم أدخلوا في كلام الله ما ليس منه، وافتروا على الله الكذب بأن نسبوا إليه سبحانه ما لم يقله وهم يعلمون ذلك؛ فجوراً منهم، وجرأة على الله تعالى وتقدس. وقوله عزَّ وجلَّ: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91]. فهذا فيه دلالة على أنهم قد أَخفَوا وكتموا ما عندهم من علم، وما أنزل الله عليهم من كتاب حسب أهوائهم. وقوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [المائدة: 13]. وفي هذه الآية دلالة واضحة على التحريف وعلى أنهم نسوا حظًّا، أي: نصيباً وجزءاً مما أنزل عليهم. وهذا جزاء من الله عزَّ وجلَّ لهم بسبب كفرهم وفسادهم وسابق تحريفهم ونقضهم للميثاق. كما ورد في كتابهم ما يتفق مع ما ذكره الله عز وجل عنهم، فمن ذلك ما ورد في (سفر إرميا) (8/ 8) مما ينسب إلى الله عزَّ وجلَّ القول: (كيف تقولون نحن حكماء، وشريعة الرب معنا، حقًّا إنه إلى الكذب حوَّلها قلم الكتبة الكاذب، خَزِىَ الحكماء ارتاعو وأُخِذُوا ها قد رفضوا كلمة الرب). فهذا النص من نبي من أنبيائهم الكبار على ما ذكروا وكان في عصر متأخر، قد عاصر انحرافاتهم، وذلك قبيل الغزو البابلي وسبي اليهود، وهو نص على تركهم لدين الله وتحريفهم لشريعته، وأن الكتبة الموكلون بالكتب المنزلة قد حوَّلوها إلى الكذب والزور. الأسفار المقدسة عند اليهود وأثرها في انحرافهم لمحمود عبد الرحمن قدح – مجلة الجامعة الإسلامية – عدد 111

المطلب الثاني: نقد التوراة المحرفة وما يتبعها من الأسفار

تمهيد: جاءت بعض آيات القرآن الكريم الصريحة في أن اليهود قد حرَّفوا التوراة وغيرها من كتب الله المنزلة على أنبيائه من بني إسرائيل، ولقد انطلق علماؤنا المسلمون من تلك الآيات وغيرها من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في نقدهم للتوراة وما يتبعها من الأسفار المقدسة عند اليهود، واستخرجوا منها الأدلة والشواهد على تحقيق ما ذكره الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم من وقوع التحريف والتبديل والكذب في كتبهم، ونستطيع أن نقرر بكل ثقة أن الأسبقية في نقد التوراة والأناجيل والكتب الأخرى المحرفة كان لعلمائنا المسلمين بهدي من القرآن الكريم الذي وضع أصول ذلك النقد الهادف إلى إظهار الحق وإزهاق الباطل، وقد تأثر أحبار اليهود والنصارى ومفكريهم بالمسلمين في دراساتهم النقدية للتوراة والأناجيل، ومن ثم تجرؤوا على المشاركة في تلك الدراسات النقدية لكتبهم المقدسة بعد أن تخلصوا من طغيان الكنيسة وسيطرتها، واستطاعوا إعلان نتائج دراساتهم التي سبقهم إلى كثير منها علماؤنا المسلمون بقرون عديدة. وفي هذه الدراسة الموجزة جدًّا سنحاول أن نبين الخطوط العريضة والعناوين الرئيسة في نقد أسفار العهد القديم وخاصة التوراة، وستتركز على ناحيتين: الأولى: نقد سند كتبهم المقدسة، وعدم صحة نسبتها إلى أنبيائهم، الثانية: نقد المتن، وبيان ما فيه من مواطن التحريف والتبديل والخطأ.

الفرع الأول: نقد السند

الفرع الأول: نقد السند لقد أرشدنا القرآن الكريم إلى طريقة المجادلة، والرد على دعاوى اليهود والنصارى، وبيان بطلانها، وهي مطالبتهم بالحجة والدليل على مزاعمهم، قال تعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين [البقرة: 111]. وبما أن اليهود وكذلك النصارى يزعمون أن التوراة الحالية كتبها موسى بيده وأن أسفارهم الأخرى كتبها أنبياؤهم أو أشخاص أوحي إليهم بها، فإنا نطالبهم بالأدلة والبراهين التي تثبت صحة نسبة التوراة المحرفة إلى موسى عليه الصلاة والسلام، وكذلك سائر أسفارهم المنسوبة إلى أنبيائهم قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ! [البقرة:111]. ومن الأدلة التي نطالبهم بها:- النسخة الأصلية للتوراة التي كتبها موسى عليه الصلاة والسلام، أو أملاها على غيره، وكذلك النسخ الأصلية لأسفارهم الأخرى. السند المتصل المتواتر بنقل الثقات العدول الذي يثبت سلامة النص الحالي لأسفارهم من التحريف والتبديل. وتأتي الإجابة لطلبنا من أحبار اليهود والنصارى وباحثيهم بأنهم لا يملكون النسخ الأصلية للتوراة أو غيرها من الأسفار، وأن أقدم مخطوطة لديهم لأسفارهم تعود إلى القرن الرابع الميلادي، علما بأن موسى عليه الصلاة والسلام قد عاش في القرن الرابع عشر قبل الميلاد على الأرجح، وآخر نبي من أنبيائهم في العهد القديم عاش في القرن الرابع قبل الميلاد. يقول مؤلفو (قاموس الكتاب المقدس): ولكن لا توجد لدينا الآن هذه المخطوطات الأصلية (للعهد القديم والجديد) التي دوَّنها كتبة الأسفار المقدسة. ويعلل اليهود والنصارى فقدان النسخ والسند لكتبهم المقدسة بكثرة حوادث الاضطهاد والنكبات التي نزلت بهم خلال تاريخهم الطويل. ومن تلك الحوادث: الغزو الآشوري عليهم في سنة (722) ق. م، ثم الغزو البابلي الشهير سنة (586) ق. م ونتج عنه تدمير الهيكل وأخذ بني إسرائيل سبياً إلى بابل، ثم الاضطهاد اليوناني ومن بعده الاضطهاد الروماني الذي استمر لعدة قرون، وقد نتج عن هذه الاضطهادات إحراق أسفارهم وإتلافها ومنع قراءتها وقتل أحبارهم وعلمائهم. ونضيف سبباً آخر مهمًّا لضياع أسفارهم، وانقطاع أسانيدهم، هو كثرة حوادث الردة والشرك في بني إسرائيل، وكفرهم بالله عزَّ وجلَّ، وإهمالهم للتوراة وغيرها، وهي مذكورة في أسفارهم المقدسة لديهم، ومنها ما ورد في (سفر القضاة) (2/ 11 - 15): (وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم، وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر، وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم، وسجدوا لها وأغاظوا الرب، تركوا الرب وعبدوا البعل وعشتاروت، فحمي الرب على إسرائيل فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم، ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم، حيثما خرجوا كانت يد الرب عليهم للشر، كما تكلم الرب وكما أقسم الرب لهم). وقد تكررت الردة والشرك بالله من بني إسرائيل مرات عديدة في عهد القضاة. ثم تكرر ذلك منهم في عهد الملوك، فقد ورد في (سفر الملوك) (12/ 28 - 33): (أن يربعام استشار الملك وعمل عجلي ذهب، وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم، هو ذا آلهتكم يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر. ووضع واحداً في بيت إيل، وجعل الآخر في دان، وكان هذا الأمر خطية، وكان الشعب يذهبون إلى أمام أحدهما حتى إلى دان ... ). وما ذكرناه مما يجعل كل عاقل منصف منهم يرتاب ويشك في صحة نسبة التوراة الحالية إلى موسى وسلامتها من التحريف والتبديل!!!

وكانت تلك الأسباب وغيرها قد دفعت بالكثيرين من محققي اليهود والنصارى إلى الاعتراف بأن أسفار العهد القديم مشكوك في أمر مؤلفيها، وإليك مختصرا لما يقوله محررو طبعة سنة (1971م) الإنجليزية من كتابهم المقدس لديهم، وهي آخر طبعة معدَّلة من كتابهم وآخر طبعة حتى الآن، يقول المحررون: - سفر التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية: مؤلفه موسى على الأغلب. - سفر يشوع: معظمه منسوب إلى يشوع. وتكرر منهم الشرك والردَّة عن دين الله الحق مرات عديدة في عهد الملوك. - انظر: (سفر الملوك الأول)، (الإصحاحات: 19،22)، و (سفر الملوك الثاني)، (الإصحاحات: 1/ 13،14،15،16،17،21،22،23،24). بل وصل بهم الكفر إلى حد وصف نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام بالكفر وعبادة غير الله، والعياذ بالله. - انظر: (سفر الملوك الأول)، (الإصحاح: 11). نقلاً من كتاب (التحريف في التوراة)، (ص: 3) د. محمد الخولي، ووجدت أيضاً تلك الاعترافات بجهالة مؤلفي أسفارهم في مقدمة الكتاب المقدس (المدخل) طبع المطبعة الكاثوليكية سنة (1988م) بلبنان، وفي كتاب (رسالة في اللاهوت والسياسة) - تأليف الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا، وكتاب (السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم)، و (قاموس الكتاب المقدس) في التعليق على تلك الأسفار. - سفر القضاة: مؤلفه صموئيل على الاحتمال. - سفر راعوث: مؤلفه غير محدد، ولكن ربما يكون صموئيل. - سفر صموئيل الأول: المؤلف مجهول. - سفر صموئيل الثاني: المؤلف مجهول. - سفر الملوك الأول: المؤلف مجهول. - سفر الملوك الثاني: المؤلف مجهول - سفر أخبار الأيام الأول: المؤلف مجهول، ولكن ربما جمعه وحرره عزرا. - سفر أخبار الأيام الثاني، المؤلف مجهول، ولكن ربما جمعه وحرره عزرا. - سفر عزرا: من المحتمل أن عزرا كتبه أو حرره. - سفر أستير: المؤلف مجهول. - سفر المزامير: المؤلف الرئيسي داود، لكن معه آخرون وبعضهم مجهولون. - سفر الأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد: المؤلف مجهول، ولكنها عادة تنسب إلى سليمان. - سفر إشعياء: ينسب معظمه إلى أشعيا، ولكن بعضه من المحتمل كتبه آخرون. - سفر يونان: المؤلف مجهول. - سفر حبقون: لا يعرف شيء عن مكان أو زمان ولادته. وبعد هذا الاعتراف منهم فإن الأمر لا يحتاج إلى زيادة تعليق منا. ومن الأدلة أيضاً على عدم الوثوق بالتوراة الحالية ما ورد في (سفر الملوك الثاني) (22/ 8 - 13) في عهد الملك يوشيا من ملوك مملكة يهوذا، أن التوراة قد فقدت وضاعت من بني إسرائيل سنوات عديدة، ثم ادعاء العثور عليها على يد الكاهن في الهيكل، ولا نسلم لهم بأن التوراة التي عثر عليها هي توراة موسى؛ إذ إن اتهام الكاهن بالتزوير قائم في مسايرته لرغبة الملك في العودة إلى التوحيد بعد ارتداد وكفر من سبقه من آبائه، إضافة إلى أن هذه النسخة من التوراة قد فقدت أيضاً في الغزو البابلي وحوادث الحروب الأخرى. ومن الأدلة القاطعة على عدم صحة نسبة التوراة الحالية إلى موسى عليه الصلاة والسلام نصوص التوراة نفسها، وإليك بعض الشواهد: - خاتمة التوراة في (سفر التثنية) (34/ 1 - 12) وفيه: "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ودفنه في الجواء ... ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم، وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته، فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يوماً، فكملت أيام بكاء مناحة موسى، ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة، إذ وضع موسى عليه يديه فسمع له بنو إسرائيل وعملوا كما أوصى الرب موسى، ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه ... " وبذلك ينتهي كتاب التوراة.

ولا أعتقد أن عاقلاً يجرؤ على القول أن كاتب هذا الكلام هو موسى عليه الصلاة والسلام!!! - إن بعض نصوص التوراة تتحدث عن موسى بضمير الغائب، وبصيغة لا يمكن التصديق بأن كاتبها هو موسى، ومن تلك النصوص: (تحدث الله مع موسى) (وكان الله مع موسى وجهاً لوجه) (وكان موسى رجلاً حليماً جدًّا أكثر من جميع الناس) (فسخط موسى على وكلاء الجيش) (موسى رجل الله) ونحو ذلك، فلو كان موسى كاتب تلك النصوص لقال مثلاً: كلمني الرب، تحدثت مع الله. ونحوه. - إن ملاحظة اللغات والأساليب التي كتبت بها التوراة وما تشتمل عليها من موضوعات وتشريعات وبيئات اجتماعية وسياسية وجغرافية تنعكس فيها، تظهر أنها قد ألفت في عصور لاحقة لعصر موسى، مما يثبت أن هذه الأسفار قد كتبت بأقلام اليهود التي تعكس أفكارهم ونظمهم المتعددة في مختلف أدوار تاريخهم الطويل، مثال ذلك: ورد في التوراة في (سفر التكوين) (14/ 14) أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تتبع أعداءه إلى (دان). وهي اسم مدينة لم تُسَمَّ بهذا الاسم إلا بعد موت يوشع بعد دخول بني إسرائيل فلسطين واستقرارهم بها، فقد ورد في (سفر القضاة) (18/ 29) (وسمّوا المدينة دان) باسم أبيهم الذي ولد لإسرائيل، وكان اسم المدينة قبل ذلك (لاييش) فكيف يذكر موسى - وهو يقص قصة إبراهيم- اسم مدينة لم تسمَّ بهذا الاسم إلا من بعده بزمن طويل جدًّا؟!! تلك بعض الملاحظات التي جعلت الفيلسوف اليهودي باروخ سبنوزا (ت1677م) يعلن صراحة قوله: (من هذه الملاحظات كلها يظهر واضحاً وضوح النهار أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة، بل كتبها شخص آخر عاش بعد موسى بقرون عديدة). اهـ أضف إلى ذلك أيضاً اختلاف فرق اليهود في قبول ورفض بعض أسفار العهد القديم، فطائفة السامرة من اليهود لا تعترف إلا بالتوراة الخمسة الأسفار، وتنكر ما عداها من الأسفار، وتقبل منها سفري يوشع والقضاة باعتبارهما أسفارا تاريخية فقط. ويخالفها جمهور اليهود الذين يقبلون أسفار العهد القديم المذكورة. ويختلف مع اليهود أيضاً طائفة الكاثوليك من النصارى في قبول ورفض بعض أسفار العهد القديم. الأسفار المقدسة عند اليهود وأثرها في انحرافهم لمحمود عبد الرحمن قدح – مجلة الجامعة الإسلامية – بتصرف – عدد 111

الفرع الثاني: نقد المتن

تمهيد قال الله عز وجل: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. وقال تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون [النحل: 90]. وقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58]. في ضوء هذه الآيات الكريمة- التي وضحت بعض خصائص الوحي الإلهي المنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - نبين بعض مواطن الاختلاف والتناقض والباطل الذي يدل على وقوع التحريف والتزوير في أسفار اليهود، ... ويمكننا تلخيص أبرز الانتقادات الموجهة إلى متن الأسفار في العناوين الرئيسة الآتية، وتندرج تحتها عشرات الأمثلة والشواهد، وسنكتفي بذكر بعضها الأسفار المقدسة عند اليهود وأثرها في انحرافهم عرض ونقد لمحمود عبد الرحمن قدح – مجلة الجامعة الإسلامية – عدد 111

أولا: الاختلاف في عدد الأسفار

أولاً: الاختلاف في عدد الأسفار مما هو معلوم أن بين يدي اليهود والنصارى ثلاث نسخ مشهورة من التوراة والعهد القديم. ومن هذه النسخ تتفرع سائر الترجمات تقريباً، وهي: 1 - النسخة العبرية وهي المقبولة والمعتبرة لدى اليهود وجمهور علماء البروتستانت النصارى، وهي مأخوذة من الماسورية وما ترجم عنها. 2 - النسخة اليونانية وهي المعتبرة لدى النصارى الكاثوليك والأرثوذكس، وهي التي تسمى السبعينية وما ترجم عنها. 3 - النسخة السامرية وهي المعتبرة والمقبولة لدى اليهود السامريين. وإذا عقدنا مقارنة بين النسخ الثلاث من ناحية عدد الأسفار نجد أن النسخة العبرية تسعة وثلاثون سفراً فقط. أما النسخة اليونانية فهي ستة وأربعون سفراً، حيث تزيد سبعة أسفار عن النسخة العبرية، ويعتبرها النصارى الكاثوليك والأرثوذكس مقدسة. أما النسخة السامريه فلا تضم إلا أسفار موسى الخمسة فقط، وقد يضمون إليها سفر يوشع فقط، وما عداه فلا يعترفون به ولا يعدونه مقدساً. فهذا الاختلاف الهائل بين النسخ لكتاب واحد، والكل يزعم أنه موحى به من قبل الله عزَّ وجلَّ، ويدَّعي أن كتابه هو الكتاب الحق وما عداه باطل، مع عدم القدرة على تقديم الدليل القاطع على صحة ما يدعيه، فذلك دليل على التحريف من قبل المتقدمين، وأن المتأخرين استلموا ما وصل إليهم بدون نظر في ثبوته أو عدم ثبوته، أو أن المتأخرين وصلتهم كتب عديدة ومتنوعة، فأدخلوا ما رأوا أنه مناسب وذو دلالات مهمة، وحذفوا ما رأوا عدم تناسبه مع ما يعتقدون أو يرون، بدون أن يكون لهم دليل صحيح على إضافة ما أضافوا من الأسفار، أو حذف ما حذفوا منها.

ثانيا: الاختلاف والتباين بين النسخ في المعلومات المدونة

ثانياً: الاختلاف والتباين بين النسخ في المعلومات المدونة إذا قارنا بين النسخ الثلاث فيما اتفقت في ذكره من أخبار وقصص نجد بينها تبايناً شديداً واختلافاً كبيراً، ومن الأمثلة على ذلك: 1 - أن اليهود ذكروا تاريخ مواليد بني آدم إلى نوح عليه السلام، ونصوا على عمر كل واحد منهم، وكذلك عمره حين ولد له أول مولود، وبعقد مقارنة بين أعمار من ذكروا حين ولد لهم أول مولود تتبين اختلافات واضحة بين النسخ الثلاث، فمن ذلك: الاسم العبرانية السامرية اليونانية آدم 130 130 230 شيث 105 105 205 آنوش 90 90 190 قينان 70 70 170 يارد 162 62 262 متوشالح 187 67 187 الزمان من خلق آدم إلى الطوفان. 1656 1307 2262 فهذه أمثلة تدل على تحريفهم وتبديلهم لكلام الله - إن ثبت أن ما سبق هو من كلام الله المنزل- حيث لا يمكن الجمع بين هذه الروايات المتناقضة.

ثالثا: الاختلاف بالمقارنة مع ما ذكروه في مواضع أخرى من كتابهم

ثالثاً: الاختلاف بالمقارنة مع ما ذكروه في مواضع أخرى من كتابهم 1 - ذكروا في سفر التكوين أن سفينة نوح استقرت بعد الطوفان على جبال أراراط بعد سبعة أشهر وسبعة عشر يوماً، ثم ذكروا أن رؤوس الجبال بعد الطوفان لم تظهر إلا في أول الشهر العاشر. وهذا نص كلامهم في (سفر التكوين) (8/ 4): (واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط، وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر، وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال). ففي هذا تناقض ظاهر، فكيف رست السفينة على الجبال بعد سبعة أشهر مع أن رؤوس الجبال لم تظهر إلا في أول الشهر العاشر؟! 2 - ذكروا أن الله أمر نوحاً أن يحمل في الفلك من كل جنس اثنين، فقالوا في (سفر التكوين) (6/ 19): (ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كلٍّ تدخل إلى الفلك؛ لاستبقائها معك، تكون ذكراً وأنثى من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها). وبعده مباشرة ذكروا أن الله أمره أن يأخذ من كل جنس سبعة سبعة ذكراً وأنثى، ماعدا البهائم غير الطاهرة فيأخذ اثنين. ففي (سفر التكوين) (7/ 2) قالوا: (من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكراً وأنثى، ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكراً وأنثى، ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكراً وأنثى؛ لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض). 3 - ذكروا في (سفر الخروج) (24/ 9) أن موسى وهارون وشيوخ إسرائيل رأوا الله، فقالوا: (ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل. ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل، فرأوا الله وأكلوا وشربوا). هكذا زعموا في هذا الموضع وفي (سفر التثنية) (44/ 12) زعموا أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام ممتنًا عليه وعلى بني إسرائيل: (فكلَّمكم الرب من وسط النار وأنتم سامعون صوت كلام، ولكن لم تروا صورة بل صوتاً ... فاحتفظوا جدًّا لأنفسكم، فإنكم لم تروا صورة ما ... ). فهذا فيه أنهم لم يروا الله عزَّ وجلَّ، وهذا الحق، فهم لم يروا الله عزَّ وجلَّ إلا أن فيه بيان تناقض كلامهم. 4 - قالوا في (سفر الخروج) (33/ 11) في كلام الله لموسى: (ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه). ففي هذا يزعمون أن الكلام يتم مقابلة مما يوحي بأن موسى عليه السلام يرى وجه الله تعالى حين يكلمه. وفي نص آخر بعد هذا يقولون: إن الله قال لموسى لما طلب أن يراه (سفر الخروج) (33/ 20) (لا تقدر أن ترى وجهي؛ لأن الإنسان لا يراني ويعيش). فهنا ذكروا أن الله تعالى نفى أن يستطيع موسى أو أي إنسان رؤية وجهه عزَّ وجلَّ. وفي هذا تناقض واضح مع ما قبله، ودليل على التحريف. والحق أن موسى عليه السلام لم يرَ الله عزَّ وجلَّ، كما ذكر ذلك ربنا جلَّ وعلا في القرآن الكريم حيث قال: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143]. 5 - أنهم ذكروا أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام كما في (سفر التكوين) (22/ 2): (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال). فلا شك أن هذا خطأ؛ لأن إسحاق عليه السلام لم يكن وحيد إبراهيم عليه السلام، بل الذي كان وحيده هو بكره إسماعيل عليه السلام، حيث نص اليهود في كتابهم على أن إسماعيل عليه السلام ولد قبل إسحاق عليه السلام، حيث ختن وعمره ثلاث عشرة سنة، ولم يكن إسحاق ولد بعد، وفي هذا قالوا في (سفر التكوين) (17/ 25): (وكان إسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته، في ذلك اليوم عينه ختن إبراهيم وإسماعيل ابنه). ثم ذكروا بعد ذلك بشارة الملائكة بإسحاق حين ضافوا إبراهيم عليه السلام، وهم في طريقهم إلى قوم لوط، والذي يبدو أن اليهود حسدوا أبا العرب إسماعيل عليه السلام على هذه المنقبة العظيمة فغيَّروا وحرَّفوا لأجل ذلك.

رابعا: الزيادة والإضافات:

رابعاً: الزيادة والإضافات: توجد في التوراة العديد من الجمل التي لا يمكن أن يصح نسبتها إلى موسى عليه السلام، ومن ذلك: 1 - أن الكتاب من أوله إلى آخره مليء بقولهم: (وقال الرب لموسى) , (وقال موسى للرب) (وحدَّث موسى الشعب). ونحو ذلك من العبارات التي تدل على الحكاية والرواية مما يقطع بأنها ليست من كلام موسى عليه السلام ولا من كلام الله عزَّ وجلَّ. 2 - جاء في (سفر التكوين) (36/ 31): (وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبل ما مَلَك ملكٌ لبني اسرائيل)، فهذه العبارة لا يمكن أيضا أن تكون من كلام موسى عليه السلام؛ إذ إن ملوك بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام بزمن طويل. 3 - جاء في (سفر التثنية) في آخره (34/ 5) حكاية وفاة موسى ودفنه فقالوا: (فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ودفنه في الجواء في أرض مؤاب، مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم). فهذا النص لا شك أنه أُدخل في الكتاب وليس منه؛ إذ ليس من المعقول أن يكتب موسى عليه السلام موته ودفنه، وأن إنساناً لا يعرف قبره إلى يوم كتابة ذلك الكلام. وببعض ما ذكرنا يستدل اللبيب والعاقل على أن اليهود لم يحافظوا على كلام الله وكتبه، بل ضيَّعوها وحرَّفوها، وغيَّروا فيها وبدَّلوا، وأضافوا وحذفوا حسب أهوائهم وشهواتهم وأغراضهم. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص: 96

خامسا: التنقص لله عز وجل وأنبيائه

1 - صفات الله عزَّ وجلَّ في التوراة المحرفة الله عز وجل له صفات الكمال المطلق التي لا تشوبها شائبة نقص، ولا شك أن موسى عليه السلام قد علَّم بني إسرائيل ذلك، كما أن التوراة المنزلة قد تضمنت ذلك، إلا أن بني إسرائيل قد كفروا وضلوا وانحرفوا عن دين الله عزَّ وجلَّ، فتكونت لديهم عقيدة منحرفة جعلتهم يقولون في الله قولاً عظيماً، ومن ذلك ما ذكره الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم من قوله عزَّ وجلَّ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة: 64]. وقال عزَّ وجلَّ: لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران: 181]. فهذا الكفر والوقاحة من اليهود أثر من آثار تحريفهم لكتابهم، حيث تضمن كتابهم المسمى التوراة، وكذلك الكتب الملحقة به كثيراً من الصفات التي لا يصح ولا يليق وصف الله عزَّ وجلَّ بها، وهي من أدل الأدلة على التحريف، فمن ذلك: وصفهم الله عزَّ وجلَّ بالتعب يزعم اليهود في كتابهم أن الله عز وجل تعب من خلق السموات والأرض، فاستراح في اليوم السابع، فقد ورد في (سفر التكوين) (2/ 2) ما نصه: (وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل). وفي (سفر الخروج) (31/ 17) قالوا: (لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفس). وقد ردَّ الله عزَّ وجلَّ عليهم وبيَّن بطلان قولهم هذا في قوله عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [ق: 38]. وصفهم الله عزَّ وجلَّ بالجهل

وصف اليهود الله عزَّ وجلَّ بالجهل في عدة مواطن من كتابهم، منها: قولهم في قصة آدم وحواء بعد أن أكلا من الشجرة كما في (سفر التكوين) (3/ 8): (وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت؛ لأني عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني فأكلت). فيتضح من كلامهم هذا أن الله عزَّ وجلَّ لم يعلم بآدم حين أكل من الشجرة، ولم يره حين أكل، بل لم يعلم بمكانه بعد أن اختبأ في الجنة. فهل يصحُّ أن يقول أحد: إن الله العليم بكل شيء، والذي لا يغيب عن سمعه وبصره شيء مهما خفي ودقَّ، يخفى عليه أمر آدم على هذه الحال التي ذكر اليهود؟ فلاشك أن ذلك من تحريفهم. ولو نظرنا في كلام الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم عن هذه الحادثة لوجدنا الفرق الشاسع بين التعبيرين ودلالتهما. ففي القرآن يقول الله عزَّ وجلَّ: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 19 - 23] ففي هذا النص الكريم ما يتناسب مع كمال علم الله وكمال سمعه وبصره، وأنه محيط بكل شيء، فحالما أكل آدم وزوجته من الشجرة ناداهما ربهما قائلاً: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف: 22] فلم يسأل آدم أين هو؟ ولا من أعلمه أنه عريان؟ وهل أكل من الشجرة؟ كما يزعم اليهود. كما أن جواب آدم في القرآن الكريم هو الجواب اللائق بالنبي الكريم، حيث اعتذر مباشرة بأنه معتدٍ في هذا الأكل، وسأل الله المغفرة والرحمة، وهذا هو اللائق بآدم العبد الصالح والنبي الكريم، لا ما ذكره اليهود من أنه ألقى باللائمة على زوجته، وحمَّلها وحدها المسئولية. ومن وصفهم الله عزَّ وجلَّ بالجهل أيضاً زعمهم أن الله عزَّ وجلَّ يجب أن توضع له علامة؛ ليستدل بها عليهم حيث قالوا: إن الله أمرهم قبل خروجهم من مصر أن يلطخوا أبوابهم: العتبة العليا والقائمتين بالدم، ويعللون ذلك بقولهم: (فان الربَّ يجتاز ليضرب المصريين فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب، ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب). (سفر الخروج) (12/ 23). وهذا باطل؛ فإن الله جلَّ وعلا عالم الغيب والشهادة يقول سبحانه عن نفسه: عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ: 3]. وصفهم الله عز وجل بالندم

يزعم اليهود أن الله عز وجل ندم على فعله، فمن ذلك قولهم في (سفر الخروج) (32/ 14): "فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه". وقد كذَّبهم الله في ذلك فقال جلَّ وعلا: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] وقال: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان: 77] وهل يندم إلا الغرُّ الجاهل بالعواقب؟ والله عزَّ وجلَّ منزه عن ذلك. وقد ورد في كتابهم أيضا ما يبين بطلان هذا الوصف وأن الله جلَّ وعلا لا يوصف به. جاء في (سفر العدد) (23/ 19): "ليس الله إنساناً فيكذب ولا ابن إنسان فيندم". وصفهم الله عزَّ وجلَّ وتعالى وتقدس بالبكاء وذرف الدموع وفي هذا يقولون في كتابهم أن الله قال لهم: (وإن لم تسمعوا- أي: كلامه وتطيعوه- فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء، وتبكي عيني بكاءً وتذرف الدموع؛ لأنه قد سبي قطيع الرب). (سفر إرميا) (13/ 17). وأيضاً قالوا بعد ذلك مثله في (سفر إرميا) (14/ 17): إن الله قال لهم: "لتذرف عيناي دموعاً ليلاً ونهاراً ولا تكفا؛ لأن العذراء بنت شعبي سحقت سحقاً عظيماً بضربة موجعة جدًّا". فهذا كله لاشك أنه من افتراءات اليهود على الله عزَّ وجلَّ ووقاحتهم في كلامهم عن الله سبحانه. وهو دليل واضح على التحريف والتلاعب بكلام الله وكتب الأنبياء وفق أهوائهم، لا يراعون في ذلك لله وقاراً، ولا لكلامه تعظيماً وإكباراً، سوى ما يتفق مع أمزجتهم وأهوائهم، فعليهم من الله ما يستحقون. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص: 105

2 - وصف اليهود للأنبياء عليهم السلام في التوراة المحرفة

2 - وصف اليهود للأنبياء عليهم السلام في التوراة المحرفة من يقرأ التوراة والكتب الملحقة بها يجد أن أنبياء الله والموكلين بهداية الناس وتعليمهم الهدى والخير لا يتمتعون بصفات الصالحين والأتقياء، بل يجد أن العهد القديم ينسب إليهم كثيراً من المخازي والقبائح التي يتنزه عنها كثير من الناس العاديين، فكيف يليق أن يُنسب شيء من ذلك إلى الأنبياء الذين قد اصطفاهم الله وخصَّهم بهذه المهمة العظيمة، وهي تبليغ دينه، والذين هم قدوة للصالحين، وأئمة في البرِّ والتُّقَى. ومما لاشك فيه أن الأنبياء عليهم السلام أكمل الناس ديناً وورعاً وتقوى، وأن الله اصطفاهم ورعاهم، وكمَّلهم وحفظهم، وعصمهم من القبائح والرذائل، هذه حقيقتهم بلا مراء ولا تردد، وما أضافه اليهود إليهم مما لا يليق نسبته إليهم هو محض افتراء وكذب، ودليل واضح على تحريفهم لكتبهم لأغراض في نفوسهم، غير مراعين حرمة لمقام النبوة، ولا لما جبل الله عليه أولئك الأنبياء عليهم السلام من الكمال البشري في خلْقهم وخُلقهِم. وإليك الأمثلة الدالة على تحريف اليهود لكتابهم بطعنهم في أنبياء الله عزَّ وجلَّ، ووصفهم بالصفات التي لا يجوز بحال نسبتها إليهم، فمن ذلك قولهم في: نوح عليه السلام زعم اليهود في كتابهم أن نوحاً عليه السلام، شرب الخمر وتعرَّى داخل خبائه، وفي هذا قالوا في (سفر التكوين) (9/ 20): (وابتدأ نوح يكون فلاحاً، وغرس كرماً وشرب من الخمر وتعرَّى داخل خبائه). هكذا وصفوا نبي الله نوحاً عليه السلام، وهو أول أنبياء الله إلى المشركين، والذي دعا قومه إلى دين الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، كما ذكر الله عزَّ وجلَّ حيث قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت: 14] وامتنَّ الله على بني إسرائيل أنهم ذرية ذلك العبد الصالح نوح عليه السلام، فقال جلَّ وعلا: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:2 - 3] فامتنَّ الله على بني إسرائيل بنسبتهم إلى ذلك العبد الصالح، واليهود يصفونه بتلك النقيصة، وما ذلك منهم إلَّا خدمة لأهوائهم وأغراضهم التي تتضح من بقية كلامهم في القصة نفسها، حيث يقولون بعد الكلام السابق في (سفر التكوين) (9/ 22): (فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجاً، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته). فيتضح من هذا النص أن مقصد اليهود منه لعن الكنعانيين الذين كانوا أعداءً لبني إسرائيل، كما أن فيه خطأً ظاهراً من ناحية أن حام هو الذي أبصر عورة أبيه حسب النص السابق، فلماذا يلعن ابنه كنعان، مع أن لحام أبناءً آخرين غير كنعان، فإن اليهود قالوا في (سفر التكوين) (10/ 6): (وبنو حام كوش ومصرايم ونوط وكنعان). فلماذا خص كنعان من بين إخوته؟ ما ذلك إلا لهدف خاص في نفوسهم، وهو لعن الكنعانيين أعدائهم، ولو كان بالافتراء على الله عزَّ وجلَّ وعلى نبيه نوح عليه السلام. لوط عليه السلام

ومن الأنبياء الذين افترى عليهم اليهود لوط عليه السلام، فقد افتروا عليه فرية عظمى، ورموه بشنيعة كبرى يترفع عنها أعظم الناس فساداً، حيث زعم اليهود أن لوطاً عليه السلام قد زنى بابنتيه الكبرى والصغرى بعد أن أنجاه الله من القرية التي كانت تعمل الخبائث، وأن البنتين أنجبتا من ذلك الزنى، وهذا محض افتراء وبهتان لنبي كريم ولبناته وأهل بيته الصالحين، وقد ذكر الله عز وجل لنا صلاح لوط عليه السلام وأهل بيته وطهارتهم على لسان أعدائه، فقال جلَّ وعلا: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: 56] ولو بحثنا عن سبب افتراء اليهود لهذه الفرية في كتابهم لوجدنا أنهم إنما قصدوا الطعن في أعدائهم المؤابيين والعمونيين من خلال هذه الفرية؛ لأنهم زعموا أن البنت الكبرى حملت من ذلك الزنى فأنجبت مؤاب، وهو أبو المؤابيين، وأن الصغرى حملت أيضاً من ذلك الزنى وأنجبت بني عمي، وهو أبو بني عمون، فلهذا السبب والهوى كذب اليهود على نبي الله ووصموه بهذه الفعلة الشنيعة، وفي ذلك أوضح دليل على التحريف. يعقوب عليه السلام زعموا أن يعقوب عليه السلام احتال لأخذ النبوة والبركة من أبيه إسحاق عليه السلام لنفسه، فذكروا أن إسحاق عليه السلام لما كبر وكف بصره دعا ابنه عيسو، وهو الأكبر، وحسب التقليد لديهم فإن البركة تكون للأكبر، وطلب منه أن يصطاد له جدياً ويطبخه حتى يباركه، فذهب عيسو للصيد كما أمره أبوه، إلا أن أمهما كانت تحب يعقوب- وهو الأصغر- أكثر من أخيه عيسو، وأرادت أن تكون البركة له، فدعته وأمرته أن يحضر جدياً فيطبخه، وأن يلبس ملابس أخيه، ويضع فوق يديه جلد جدي حتى يبدو جسمه بشعر مثل جسم أخيه عيسو، فيظن إسحاق عليه السلام أنه هو فيباركه، ففعل يعقوب عليه السلام ذلك ثم دخل على أبيه، ففي ذلك قالوا: (فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي. فقال: ها أنذا، من أنت؟ فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك قد فعلت كما كلمتني، قم اجلس وكلْ من صيدي؛ لكي تباركني نفسك. فقال إسحاق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا بني؟ فقال: إن الرب إلهك قد يسر لي. فقال إسحاق ليعقوب: تقدم لأجسك يا ابني أأنت هو ابني عيسو أم لا؟ فتقدم يعقوب إلى إسحاق أبيه فجسه، وقال: الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو. ولم يعرفه؛ لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه، فباركه وقال: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو. فقال: قدِّم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي. فقدم له فأكل وأحضر له خمراً فشرب، فقال له إسحاق أبوه: تقدَّم وقبِّلني يا ابني. فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه وباركه، وقال: انظر رائحة ابني كرائحة حقل، قد باركه الرب، فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر، ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، كن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين) (سفر التكوين) (27/ 18 - 29). وفاز يعقوب بالبركة بهذه الحيلة، وبعد أن جاء أخوه عيسو لم يكن أمامه إلا الصراخ والعويل لفوات البركة. وبهذا الكلام يصمون أباهم يعقوب عليه السلام بالكذب مراراً، وانتحال شخصية أخيه كيداً، وأخذ ما ليس له فيه حق احتيالاً، كما يصمون أباهم إسحاق عليه السلام بالجهل الشديد إلى حد التغفيل والغباء حيث لم يستطع أن يميز بين ولديه، وهو أمر مستبعد جدًّا أن يقع لأقل الناس إدراكاً وأشدهم تغفيلاً، فضلاً عن نبي الله إسحاق عليه السلام.

وهذا كله مما لا يليق وصف الأنبياء عليهم السلام به، كما أن النبوة ليست بيد إسحاق ولا بيد غيره من الأنبياء، بل هي محض تفضل من الله عز وجل. قال تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ. [الزخرف:32] وقال تعالى: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124]. ويتجلى في هذه القصة طرفاً من مكر اليهود وكيدهم، فإذا نظرنا إلى قصة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام نجد أنهم أغفلوا مسألة البكورية في استحقاق البركة، والتي يقصدون بها النبوة، وجعلوا البركة لإسحاق دون إسماعيل عليه السلام؛ لأن إسماعيل عندهم ابن جارية، ولما صار الأمر متعلقاً بعيسو ويعقوب، وعيسو هو الأكبر حسب كلامهم اخترعوا هذه القصة، حتى يبينوا أن يعقوب قد أخذ البركة دون أخيه عيسو. وأيضاً تلك البركة التي يزعمون أنها للأكبر لا نراها بَعْدُ في نبي آخر من أنبيائهم، حتى أن يعقوب عليه السلام لما بارك أبناءه عند موته جعل البركة العظمى ليوسف عليه السلام، وهو أصغر أبناء يعقوب، ما عدا شقيقه بنيامين فقد كان أصغر منه، وهكذا أيضاً بارك يعقوب أفرايم ومنسي ابني يوسف عليه السلام، فقد كان منسي هو البكر، فجعل يعقوب عليه السلام البركة الأهم لأفرايم- وهو الصغير- حيث وضع عليه يده اليمنى، فهذه قصة مخترعة مفتراة على نبي الله إسحاق ويعقوب عليهما السلام، لاشك في ذلك. هارون عليه السلام زعموا أن هارون عليه السلام هو الذي صنع لهم العجل ودعاهم إلى عبادته فقالوا في (سفر الخروج) (32/ 1): (ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا ... فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها .... فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلاً مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل). فهل يعقل أن نبيًّا أرسله الله لدعوة قومه إلى عبادة الله وحده يصنع لقومه عجلاً، ويدعوهم إلى عبادته؟! حاشا أنبياء الله من ذلك. وقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ في القرآن أن الذي صنع لهم العجل هو السامري، فقال عزَّ وجلَّ: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه: 85]. أما هارون عليه السلام فقد قام بواجبه من ناحية نهيهم عن عبادة العجل، قال جلَّ وعلا: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طه: 90]. داود عليه السلام زعموا أنه زنى بامرأة أحد جنوده، وحبلت من ذلك الزنى، ثم إنه تسبب في مقتل زوجها حيث أمر أن يُجعل في مقدمة الجيش حتى يعرِّضه للقتل، ثم بعد مقتل زوجها تزوَّجها ومات ذلك المولود الأول، ثم حبلت مرة أخرى، فأنجبت النبي سليمان عليه السلام. سليمان عليه السلام زعموا أن سليمان عليه السلام تزوَّج بنساء مشركات يعبدن الأصنام، ثم هو عبد الأصنام معهن وبنى للأصنام أيضاً معابد لعبادتها. ذلك كله محض افتراء وكذب، وهو من افتراءات اليهود على أنبياء الله تعالى وكذبهم عليهم، وأن هذا من أظهر أدلة تحريف الكتب الإلهية، والعبث فيها وفق أهوائهم ورغباتهم.

ولسائل أن يسأل لماذا طعن اليهود في أنبيائهم, وقد كان لأنبيائهم الدور الأكبر والفضل العظيم عليهم بعد فضل الله فيما نالوا من خير الدنيا وعزِّها في سابق حياتهم؟ إن هذا لسؤال محير!! إلا أنَّا إذا تصورنا أن هذه الكتب قد طالتها يد التحريف، ولا نعرف على التحقيق من الذي تولَّى تحريفها، ولا الزمان الذي حرِّفت فيه، إلا أننا نقطع حسب ما أوردوا في كتبهم أن بني إسرائيل انحرفوا عن دينهم انحرافات خطيرة وكثيرة، بل تركوا دينهم وعبدوا الأصنام والأوثان خاصة فيما قبل السبي، ولا نشك أن جزءاً كبيراً من التحريف كان في تلك الفترات، وهي التي لا يتورع أصحابها عن الافتراء على الله عزَّ وجلَّ وعلى أنبيائه عليهم السلام فتمَّت في ذلك الزمان التحريفات الكثيرة، أو كتابة كتب كاملة ونسبتها إلى نبي من الأنبياء، ثم إن المتأخرين منهم لم يكن لديهم الجرأة على تمحيص تلك النصوص، أو أنهم أيضاً اختلَّت موازينهم بسبب ذلك التحريف. ولكن السؤال لازال قائماً: لماذا حرَّف أولئك اليهود كلام الله، وطعنوا في أنبيائهم وأصحاب الفضل عليهم بهذه المطاعن؟ الذي يبدو لي أن أولئك المحرفين أرادوا أن يبرروا ما هم فيه من فساد وانحراف وفسق، فألصقوا أنواعاً من التُّهم بأنبيائهم حتى لو احتجَّ عليهم محتجٌّ بأمر من الأمور المتعلقة بانحرافهم احتجوا له بأن النبي الفلاني فعل كذا وفعل كذا، كذباً وزوراً. وأيضاً ليخدموا غرضاً في نفوسهم، كما سبق أن قلنا عن طعنهم في نبي الله نوح ولوط عليهما السلام. وهذا كله يكفي في التعبير عنه قول الله عز وجل: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُون [البقرة: 79]. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 110

الفصل الثاني: الإنجيل

الفصل الثاني: الإنجيل • المبحث الأول: إسناد وتاريخ الأناجيل الأربعة. • المبحث الثاني: تحريف الإنجيل.

المبحث الأول: إسناد وتاريخ الأناجيل الأربعة

المبحث الأول: إسناد وتاريخ الأناجيل الأربعة • تمهيد. • المطلب الأول: تاريخ الأناجيل الأربعة إجمالاً. • المطلب الثاني: تاريخ الأناجيل الأربعة وإنجيل برنابا تفصيلاً.

تمهيد

تمهيد الإنجيل كلمة يونانية تعني الخبر الطيب (البشارة). والإنجيل عند المسلمين: هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه السلام فيه هدى ونور، قال تعالى: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [المائدة: 46]. وقد دعا المسيح عليه السلام بني إسرائيل للأخذ بالإنجيل والإيمان به، فقد جاء في إنجيل مرقص (1/ 14): (وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل). وقد ذكر هذا الإنجيل أوائل النصارى، ودعوا إلى الإيمان به، وفي هذا يقول سفر (أعمال الرسل) (8/ 25) عن بطرس ويوحنا في دعوتهما للسامريين من اليهود: (وكما شهدا وتكلما بكلمة الرب رجعا إلى أورشليم، وبشَّرا بالإنجيل في قرى كثيرة للسامريين). وذكره بولس أيضاً في رسائله، مثل قوله في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي (2/ 2): (جاهرنا في إلهنا أن نكلمكم بإنجيل الله في جهاد كثير؛ لأن وعظنا ليس عن ضلال ولا عن دنس ولا بمكر، بل كما استحسنا من الله أن نؤتمن على الإنجيل هكذا نتكلم ... ثم يقول: ... فإنكم أيها الإخوة تذكرون تعبنا وكدنا إذ كنا نكرز لكم بإنجيل الله .. ). فإذاً الإنجيل كان كتاباً موجوداً ومعروفاً لدى النصارى الأوائل بأنه إنجيل الله أو إنجيل المسيح، إلا أن هذا الإنجيل لا نجده بين الأناجيل الموجودة بين يدي النصارى اليوم، فأين هو؟ على النصارى أن يجيبوا على هذا السؤال، أو يعترفوا بأنهم فقدوه في زمن مبكر من تاريخهم، ولعل هذا هو الأرجح؛ إذ يقول الله عز وجل: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:14]. وقد صار عند النصارى بدل الإنجيل الواحد أربعة أناجيل، يجعلونها في مقدمة كتابهم العهد الجديد، ولا ينسبون أيًّا منها إلى المسيح عليه السلام، وإنما هي منسوبة إلى متى ومرقص ولوقا ويوحنا - الذي يزعم النصارى أن اثنين منهم من الحواريين وهما متى ويوحنا، والآخران أحدهما مرقص تلميذ بطرس، والآخر لوقا تلميذ بولس في زعمهم. وهذه الأناجيل تحوي شيئاً من تاريخ عيسى عليه السلام حيث ذُكِرَ فيها ولادته، ثم تنقلاته في الدعوة، ثم نهايته بصلبه وقيامته في زعمهم، ثم صعوده إلى السماء. كما تحتوي على مواعظ منسوبة إليه وخطب، ومجادلات مع اليهود، ومعجزات كان يظهرها للناس دليلاً على صدقه في أنه مرسل من الله، فهذه الأناجيل أشبه ما تكون بكتب السيرة، إلا أن بينها اختلافات ليست قليلة، وبعضها اختلافات جوهرية لا يمكن التوفيق بينها إلا بالتعسف كما سيتبين. والقارئ لهذه الأناجيل الأربعة يستطيع بسهولة أن يدرك أن ما ورد فيها من دعوة وخطب ومواعظ ومجادلات تعود إلى مطلبين أساسيين، هما: 1 - الدعوة إلى التوبة والعمل بما جاء في الشريعة التي أنزلت على موسى عليه السلام. 2 - التبشير بقرب قيام مملكة الله التي يتحقق فيها العدل والمساواة. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف - ص 199

المطلب الأول: تاريخ الأناجيل الأربعة إجمالا

المطلب الأول: تاريخ الأناجيل الأربعة إجمالاً قبل الحديث عن تاريخ الأناجيل الأربعة لدى النصارى لا بد من بيان أن الكتب الدينية لها مكانة عظيمة لدى أتباعها، ولها دور خطير في الحياة؛ إذ يعتمد عليها في توضيح الطريق إلى سعادة الدنيا وفوز الآخرة. فلهذا يجب أن تكون الكتب ثابتة الإسناد إلى أصحابها الذين هم رسل الله، والمبلغون عن الله عزَّ وجلَّ، فإذا لم تكن كذلك فإنها تفقد قيمتها؛ إذ تكون عرضة للتحريف والتبديل من قبل أصحاب الأهواء والمقاصد الخبيثة، أو من قبل العوارض البشرية كالنسيان، وقلة العلم، والوهم ونحو ذلك. فصحة الإسناد بعدالة رواة الأخبار وضبطهم، وعدم انقطاعه، هو السبيل الذي يمكن به وصول هذه الكتب إلى الناس سليمة صحيحة كاملة، فيتعرَّف الناس على الحق من خلالها. وإذا نظرنا في كتب الحديث عند أهل الإسلام- والتي تتضمن أقوال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريرا ته وجميع ما يتعلق به- عرفنا الجهد العظيم الذي بذله أولئك الأئمة في المحافظة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سليماً صحيحاً، حيث يستطيع المسلم في القرن الخامس عشر الهجري أن يعرف صحة الحديث من عدمها. وإذا بحثنا في التاريخ لدى النصارى عن إسناد لهذه الأناجيل إلى من تنسب إليه لا نجد من ذلك شيئاً البتة لا قليلاً ولا كثيراً. ورسائل بولس، وكذلك الرسائل الأخرى، وأعمال الرسل ليس في شيء منها إشارة إلى واحد من هذه الكتب الأربعة، الأمر الذي يترتب عليه أن هذه الكتب لم تكن معروفة في ذلك الزمن، ولم يطَّلع عليها أحد منهم، وفي هذا دلالة قوية على أن نشأة هذه الكتب وظهورها كان متأخراً عن هذه الرسائل، بخلاف إنجيل الله أو إنجيل المسيح فقد ورد ذكره في كلام بولس مراراً عديدة، كما ورد ذكره في إنجيل مرقص، وأعمال الرسل مما يدل على وجوده وأنه معروف معلوم. وقد حاول النصارى أن يجدوا لهذه الكتب إسناداً أو إخباراً عنها في كلام متقدميهم يتفق مع الزمن الذي يزعمون أنها كتبت فيه، وهو الربع الأخير من القرن الأول الميلادي على أكثر تقدير. إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع، مما اضطرهم إلى الاعتراف بأن هذه الكتب لم تعرف إلا بعد موت من تنسب إليه بعشرات السنين، فتكون نسبتها إلى أولئك الناس نسبة لا تقوم على أدنى دليل، وإليك بعض كلام النصارى في هذا الأمر: يقول القس (فهيم عزيز) الأستاذ بكلية اللاهوت الإنجيلية: (لكن قانونية أسفار العهد الجديد لم تتم في وقت واحد ولم يكفها جيل أو جيلان، بل استمرت مدة طويلة، ولم تقف الكنائس المختلفة موقفاً موحداً من الأسفار المختلفة، بل اختلفت آراؤها من جهة بعض الأسفار، واستمرت في ذلك حقبة طويلة، فلهذا يلزم تتبع هذا التاريخ الطويل لقانونية أسفار العهد الجديد. الكنيسة الأولى: يوم الخمسين (100) م: من المعلوم جيداً أنه لم تكن في تلك الفترة كتب مقدسة تسمى العهد الجديد، ولكن الكنيسة لم تمكث بدون مصادر إلهية تستند عليها في كل شيء من وعظ وتعاليم وسلوك ومعاملات، وقد كان لها في هذا المجال ثلاثة مصادر). ثم ذكر أن المصادر الثلاثة هي: العهد القديم، المسيح، الرسل، ثم قال: (ثانياً: (100 - 170) م, ظهور الكتب القانونية في العهد الجديد: كانت أول مجموعة عرفتها الكنيسة من العهد الجديد هي مجموعة رسائل بولس. فهي أول ما جمع من كل كتب العهد الجديد، ولقد كتب بولس رسائله إلى كنائس وأفراد لظروف خاصة ومواقف محددة .. ).

ثم قال: (أما المجموعة الثانية: فهي مجموعة الأناجيل الأربعة، وقد ظهرت هذه المجموعة متأخرة بعض الوقت عن مجموعة كتابات بولس. ومع أن تاريخ اعتبارها كتباً قانونية مقدسة متساوية في ذلك مع كتب العهد القديم لا يزال مجهولاً، لكن الاقتباسات العديدة التي وجدت في كتابات آباء الكنيسة الرسوليين وشهاداتهم تلقي بعض الضوء على هذه الحقيقية الجوهرية في العصر المسيحي، ويلاحظ الدارس الأمور الآتية: أن بولس لم يشر في كتاباته إلى أي من الأناجيل المكتوبة، ولا إلى أي كتاب عن حياة المسيح أو أقواله .. ). ثم ذكر المصنف سبع نقاط أخرى أورد في بعضها اقتباسات لمتقدمين من النصارى تتوافق في بعضها مع ما ورد في بعض الأناجيل بدون النص على اسم الإنجيل. وأهم ما ذكره من الملاحظات هي قوله في الملاحظتين السابعة والثامنة: 7 - أما جاستن أو يوستينوس الشهيد الذي كان سامريًّا يونانيًّا، وتحوَّل إلى المسيحية، ودرس في روما، واستشهد حوالي (165) م، فيؤخذ من كتاباته أنه قد عرف الأناجيل الأربعة مرتبطة معاً، مع أنه لم يكشف النقاب عمن جمعها، ولا في أي مكان جمعت، وهو يصفها عندما يذكرها في دفاعه ضد الوثنيين بأنها الذكريات، ولكنه عندما كان يكتب للمسيحين كان يقول عن الرسل: (هم أولئك الذين كتبوا ذكرياتهم عن كل الأشياء التي تختص بيسوع المسيح المخلص). ثم يقول مرة أخرى: (الذكريات التي عملها الرسل التي تسمى الأناجيل). 8 - أما الشاهد الأخير فهو (الديا طسرن) الذي كتبه (تاتيان)، وأراد أن يجمع فيه الأناجيل الأربعة معاً في إنجيل واحد، وقد أضاف تاتيان هذا بضعة كلمات للمسيح لا توجد في هذه الأناجيل، ولكنها أخذت من كتب أبوكريفية أخرى، وهو بذلك يشهد أن الأربعة الأناجيل وجدت معاً، ولكن إضافاته مجرد اقتباسات لا تدلُّ على أنه كان يعتبر أن هناك كتباً أخرى تضارعها في سلطانها وقداستها. وبعد هذا النقل عن أحد القسس المتعمقين والمتخصصين في دراسات العهد الجديد، ننقل كلام مجموعة من المتخصصين النصارى عن أناجيلهم وذلك في المدخل إلى العهد الجديد قالوا في التعريف بتاريخ وقانونية العهد الجديد ما يلي: (لقد سيطرت على المسيحيين الأوائل فكرة تناقلتها الألسن شفاهاً - تعلن انتهاء هذا العالم سريعاً وعودة المسيح ثانية إلى الأرض؛ ليدين الناس، وكان من بين نتائج هذا المعتقد أن توقف التفكير في تأليف كتابات مسيحية تسجل أخبار المسيح وتعاليمه، فتأخر لذلك تأليف الأناجيل؛ إذ لم يشرع في تأليف أقدمها - وهو إنجيل مرقس الذي لم يكن قط من تلاميذ المسيح - إلا بعد بضع عشرات من السنين، لقد كانوا يؤمنون بنهاية العالم وعودة المسيح سريعاً إلى الأرض: قبل أن يكمل رسله التبشير في مدن إسرائيل، وهي عملية لا تستغرق أكثر من عدة أشهر أو بضع سنين على أكثر تقدير ..... الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان. متى (10/ 23). - وقبل أن يموت عدد من الذين وقفوا أمامه يستمعون إلى تعاليمه ومواعظه. وهي فترة يمكن تقديرها دون خطأ يذكر في حدود خمسين عاماً على أقصى تقدير: الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته. متى (16/ 28)

- وهو يعود ثانية إلى الأرض قبل أن يفنى ذلك الجيل الذي عاصر المسيح، وهي فترة لا تتجاوز أقصى ما قدرناه، أي: خمسين عاماً:. ...... الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله. متى (24/ 24). ومعلوم أن ذلك كله لم يحدث؛ إذ لا يزال الكون قائماً، وبنو آدم يعيشون في عالمهم الدنيوي حتى يأتي أمر الله، هذا - ولما بردت الحمية التي أثارتها فكرة عودة المسيح سريعاً إلى الأرض، ظهرت الحاجة ماسة إلى تدوين الذكريات عنه وعن تعاليمه، ومن هنا كانت النواة لتأليف أسفار- ما صار يعرف فيما بعد باسم - العهد الجديد، وهي الأسفار التي لم يعترف بشرعيتها إلا على مراحل وعلى امتداد أكثر من ثلاثة قرون. إن كلمة (قانون) اليونانية مثل كلمة (قاعدة) في العربية قابلة لمعنى مجازي يراد به قاعدة للسلوك أو قاعدة للإيمان، وقد استعملت هنا للدلالة على جدول رسمي للأسفار التي تعدها الكنيسة ملزمة للحياة وللإيمان. ولم تندرج هذه الكلمة بهذا المعنى في الأدب المسيحي إلا منذ القرن الرابع، كانت السلطة العليا في أمور الدين تتمثل عند مسيحي الجيل الأول في مرجعين. أولهما: العهد القديم، وكان الكتبة المسيحيون الأولون يستشهدون بجميع أجزائه على وجه التقريب استشهادهم بوحي الله. وأما المرجع الآخر الذي نما نموًّا سريعاً، فقد أجمعوا على تسميته: الرب. ولكن العهد القديم كان يتألف وحده من نصوص مكتوبة، وأما أقوال الرب وما كان يبشر به الرسل، فقد تناقلتها ألسنة الحفاظ مدة طويلة، ولم يشعر المسيحيون الأولون إلا بعد وفاة آخر الرسل بضرورة كل من: تدوين أهم ما علَّمه الرسل، وتولى حفظ ما كتبوه. ويبدو أن المسيحيين حتى ما يقرب من السنة (150) م, تدرجوا من حيث لم يشعروا بالأمر إلا قليلاً جدًّا إلى الشروع في إنشاء مجموعة جديدة من الأسفار المقدسة، وأغلب الظن أنهم جمعوا في بدء أمرهم رسائل بولس واستعملوها في حياتهم الكنسية، ولم تكن غايتهم قط أن يؤلفوا ملحقاً بالكتاب المقدس، بل كانوا يَدَعُون الأحداث توجِّههم، فقد كانت الوثائق البولسية مكتوبة، في حين أن التقليد الإنجيلي كان لا يزال في معظمه متناقلاً على ألسنة الحفاظ. ولا يظهر شأن الأناجيل طوال هذه المدة ظهوراً واضحاً كما يظهر شأن رسائل بولس.

أجل لم تخل مؤلفات الكتبة المسيحيين الأقدمين من شواهد مأخوذة من الأناجيل أو تلمح إليها، ولكنه يكاد أن يكون من العسير في كل مرة الجزم: هل الشواهد مأخوذة من نصوص مكتوبة كانت بين أيدي هؤلاء الكتبة، أم هل اكتفوا باستذكار أجزاء من التقليد الشفهي؟ ومهما يكن من أمر، فليس هناك قبل السنة (140) م, أي شهادة تثبت أن الناس عرفوا مجموعة من النصوص الإنجيلية المكتوبة، ولا يذكر أن لمؤلَفٍ من تلك المؤلفات صفة ما يلزم، فلم يظهر إلا في النصف الثاني من القرن الثاني شهادات ازدادت وضوحاً على مرِّ الزمن بأن هناك مجموعة من الأناجيل، وأن بها صفة ما يلزم، وقد جرى الاعتراف بتلك الصفة على نحو تدريجي. فيمكن القول أن الأناجيل الأربعة حظيت نحو السنة (170) م, بمقام الأدب القانوني، وإن لم تستعمل تلك اللفظة حتى ذلك الحين. لم يوضع (لم يستقر) الجدول التام للمؤلفات العائدة إلى القانون إلا على نحو تدرجي، وكلما تحقق شيء من الاتفاق، فهكذا يجدر بالذكر ما جرى بين السنة (150) م, والسنة (200) م, إذ حدد على نحو تدرجي أن سفر أعمال الرسل مؤلف قانوني، وقد حصل شيء من الإجماع على رسالة يوحنا الأولى. ولكن ما زال هناك شيء من التردد في بعض الأمور: فإلى جانب مؤلفات فيها من الوضوح الباطني ما جعل الكنيسة تتقبَّلها تقبُّلها لما لابد منه، هناك عدد كبير من المؤلفات الحائرة يذكرها بعض الآباء ذِكْرَهم لأسفار قانونية، في حين أن غيرهم ينظر إليها نظرته إلى مطالعة مفيدة ذلك شأن: الرسالة إلى العبرانيين، ورسالة بطرس الثانية، وكل من رسالة يعقوب ويهوذا. وهناك أيضاً مؤلفات جرت العادة أن يستشهد بها في ذلك الوقت على أنها من الكتاب المقدس، ومن ثم جزء من القانون، لم تبق زمناً على تلك الحال، بل أخرجت آخر الأمر من القانون، ذلك ما جرى لمؤلَّف: هرماس، وعنوانه (الراعي)، وللديداكي ورسالة إكليمنضس الأولى، ورسالة برنابا، ورؤيا بطرس، وكانت الرسالة إلى العبرانيين، والرؤيا، موضوع أشد المنازعات، وقد أنكرت صحة نسبتها إلى الرسل إنكاراً شديداً مدة طويلة. ولم تقبل من جهة أخرى إلا ببطء: رسالتا يوحنا الثانية والثالثة ورسالة بطرس الثانية، ورسالة يهوذا. ولا حاجة إلى أن نتتبع تتبعاً مفصلاً جميع مراحل هذا التطور الذي أدَّى خلال القرن الرابع إلى تأليف قانون هو في مجمله القانون الذي نعرفه اليوم). من خلال هذا البيان والنقل المطول عن النصارى أنفسهم في حديثهم عن كتبهم يتلخص لنا ما يلي: 1 - أن الله أنزل كتاباً على المسيح سماه الإنجيل، ودعا المسيح عليه السلام الناس إلى الإيمان به، وذكره أوائل النصارى، كما ذكره بولس في رسائله. 2 - أن النصارى لا يعرفون شيئاً عن مصير ذلك الإنجيل، ولا أين ذهب!!. 3 - أنه كانت هناك روايات شفوية ووثيقة مشتركة متداولة كان يتناقلها الحواريون ودعاة النصارى الأوائل، ويعتقد أنها كانت المصدر الأساسي لأوجه الاتفاق بين الأناجيل. وأرى أن تلك الروايات الشفوية لا يبعد أن يكون الإنجيل الأصلي من ضمنها، إلا أن النصارى لم يدوِّنوه مجموعة واحدة، كما أنهم لم يميزوه عن غيره من الروايات، مما جعله غير محدد، ولا يستطيع أحد الجزم والاعتقاد بشيء من النصوص أنها منه، وهذا تصديق قول الله عزَّ وجلَّ: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [المائدة:14].

4 - أن المتقدمين من النصارى لم يشيروا إلى الأناجيل الأربعة، ولم يذكروها ألبته، فبولس- على كثرة رسائله- لم يذكرها في رسائله أبداً، وكذلك لم يذكرها سفر أعمال الرسل الذي ذكر دعاة النصارى الأوائل، وهذا يدلُّ على أن هذه الكتب لم تكن موجودة في ذلك الزمن، وأنها أُلِّفت وكتبت بعد ذلك. 5 - أن أول من ذكر مجموعة من الكتب المدونة ذكراً صريحا هو جاستن الذي قتل عام (165) م، وهذا لا يدل صراحة على الأناجيل الأربعة نفسها، وأما أول محاولة للتعريف بها ونشرها فكانت عن طريق "تاتيان" الذي جمع الأناجيل الأربعة في كتاب واحد سماه (الدياطسرن) في الفترة من (166 - 170) م, وهذا هو التاريخ الذي يمكن أن يعزى إليه وجود هذه الكتب، وهو تاريخ متأخر جدًّا عن وفاة من تعزى إليهم هذه الكتب؛ إذ إنهم جميعاً ماتوا قبل نهاية القرن الأول، مما يدلُّ على أنهم برءاء منها، وأنها منحولة إليهم. 6 - أنه حتى بعد هذا التاريخ- وهو (170) م, إلى القرن الرابع الميلادي- لم تكن الأناجيل الأربعة وحدها هي الموجودة، بل كانت هناك أناجيل كثيرة موجودة منتشرة ربما تبلغ مائة إنجيل، ولم يكن لأيٍّ منها صفة الإلزام والقداسة، وذلك أمر تكون الأناجيل الأربعة معه عرضة للتحريف والتغيير خلال تلك الفترة أيضاً. 7 - أن النصارى لا يعرفون بالضبط تاريخ إعطاء هذه الكتب صفة الإلزام والقداسة، وإنما يرون أنه خلال القرن الرابع الميلادي أخذت كتبهم صفة القداسة بشكل متدرج، يعني: رويداً رويداً. 8 - أن النصارى لا يملكون السند لكتبهم، ولا يعرفون مصدرها الحقيقي، ولا تعدو أن تكون كتباً وجدوها منحولة إلى أولئك الناس الذين نُسبت إليهم فنسبوها إليهم، واعتقدوا صحة ذلك بدون دليل، وهذا أمر لا يمكن أن يعطي النفس البشرية القناعة المناسبة لما تراد له هذه الكتب في الأصل من تجنب سخط الله وبلوغ رضوانه. 9 - أننا نعجب غاية العجب من زعم النصارى: أن هذه الكتب حقيقية وصادقة، وتنقل بأمانة وإخلاص كلام المسيح، وتروي أخباره. كيف تجرؤوا على مثل هذا الكلام، وكيف قبله أتباعهم مع أنهم لا يملكون الدليل على ذلك، وكل دعوى عريت عن الدليل فهي باطله. قال الله عزَّ وجلَّ: قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:148]. وكل من تحدث في دين الله بلا علم فهو ضال مضل، قال عزَّ وجلَّ: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ [الحج:3]. وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:8 - 9]. ولأن دعاويهم عارية عن الدليل فهي نابعة من الهوى، فلهذا سمى الله عز وجل ما عند اليهود والنصارى من دين أهواء في قوله عزَّ وجلَّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120]. ولكن ذلك العجب يذهب، وتلك الدهشة تزول إذا علمنا أن للآباء والكبراء والسادة من أهل الضلالة الذين يسعون إلى المحافظة على مكاسبهم الدنيوية الدور الأكبر في إضلال العوام والدهماء الذين لا يستخدمون ما وهبهم الله من عقل وسمع وإدراك، وإنما يتابعون وينقادون انقياد الأعمى، وفي هذا يقول الله عزَّ وجلَّ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [المائدة:104]. وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:66 - 68]. والواجب على الإنسان أن لا يخضع للتقليد فيما تتعلق به نجاته وسعادته أو هلاكه وشقاوته، بل يتحقق من الأمر، ويتأكد من صحته، ويسأل الله الهداية والتسديد والرشد إلى أن يصل إلى الحق والنور الذي لن يخطئه بإذن الله تعالى إذا أخلص الطلب، واجتهد في الدعاء، وتحرَّر من الأهواء والتقليد والعصبية. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 203

المطلب الثاني: تاريخ الأناجيل الأربعة وإنجيل برنابا تفصيلا

المطلب الثاني: تاريخ الأناجيل الأربعة وإنجيل برنابا تفصيلاً • أولاً: إنجيل متى. • ثانياً: إنجيل مرقص. • ثالثاً: إنجيل لوقا. • رابعاً: إنجيل يوحنا. • خامسا: إنجيل برنابا.

أولا: إنجيل متى

أولاً: إنجيل متى يصدر النصارى كتابهم المقدس بهذا الإنجيل، فهو أول كتبهم في الترتيب، وهو أطولها؛ إذ يحوي ثمانية وعشرين إصحاحاً. ويزعم النصارى أن (متى) الذي ينسب الكتاب إليه هو أحد الحواريين، وكان قبل اتباعه للمسيح عشاراً (جابي ضرائب). إلا أن النصارى لم يستطيعوا أن يبرزوا لنا دليلاً يُعتمد عليه في صحة نسبة هذا الكتاب إلى (متى)، وأقدم من يعتمدون على قوله في نسبة الكتاب إلى (متى) أحد كتابهم، ويسمى (يوسابيوس القيصري) في كتابه (تاريخ الكنيسة) حيث نقل عن أسقف كان لهيرا بوليس سنة (130) م, يدعى (بابياس)، أنه قال: (إن متى كتب الأقوال باللغة العبرانية). وهذا القول ولدى جميع العقلاء لا يمكن أن يعتمد عليه في إثبات صحة نسبة الكتاب إلى "متى" الذي يزعمون أنه حواري. وذلك لأن "بابياس" المذكور هنا لم يكن سمع تلك التعاليم وتلك الكتب من أصحابها، بل كان يسمعها بواسطة، حيث يقول عن نفسه فيما ذكر عنه (يوسابيوس): (وكلما أتى واحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم؛ لأنني لا أعتقد أن ما تحصل عليه من الكتب يفيد بقدر ما يصل من الصوت الحي). فهو هنا لا يتحرى في النقل، ومما لاشك فيه أن أولئك الوسائط لابد أن تثبت عدالتهم، وإلا فلا يعتد بما يروونه ويقولونه. كما أن (يوسابيوس القيصري) قد طعن في بابياس نفسه حيث قال عن رواياته: (ويُدوِّنُ نفس الكاتب روايات أخرى يقول: إنها وصلته من التقليد غير المكتوب. وأمثالاً وتعاليم غريبة للمخلص وأموراً خرافية ... ). ثم قال عنه وعن آرائه: (وأظن أنه وصل إلى هذه الآراء بسبب إساءة فهمه للكتابات الرسولية، غير مدرك أن أقوالهم كانت مجازية؛ إذ يبدو أنه كان محدود الإدراك جدًّا كما يتبين من أبحاثه، وإليه يرجع السبب في أن كثيرين من آباء الكنيسة من بعده اعتنقوا نفس الآراء مستندين في ذلك على أقدمية الزمن الذي عاش فيه). فهذه طريقة (بابياس) في النقل حيث ينقل عن كل من اتبع المشايخ بدون تحر لمقدرة التلميذ على الحفظ والضبط للروايات والعدالة وما إلى ذلك من شروط صحة الخبر، كما أن (بابياس) نفسه ضعيف التمييز بين الأقوال محدود الإدراك جدًّا. فكيف تعتبر أقوال من هذه حاله في أخطر قضية، وهي الشهادة لكتاب بأنه كلام رب العالمين؟ كما أن في المقابل هناك عدة أدلة تدل على عدم صحة نسبة الإنجيل إلى (متى) الذي يزعمون أنه حواري وهي: 1 - أن النصارى لم ينقلوا الإنجيل بالسند، وقول (بابياس) السابق لم يعين فيه من هو (متى)، هل هو الحواري أم رجل آخر؟ كما أنه لم يعين الكتاب بل قال: (الأقوال). وأيضاً فقد ذكر أمراً آخر يختلف تماماً عما عليه إنجيل متى الموجود، وهو أنه قال: إنه كتبه باللغة العبرانية، مع أن النصارى يجمعون على أن: الكتاب لم يعرفوه إلا باللغة اليونانية، ولا يعرفون للكتاب نسخة عبرانية، بل الكثير منهم يرى أن: الكتاب يظهر من لغته أنه أول ما كتب إنما كتب باللغة اليونانية، وليس العبرانية، فهذا يدل على أن قول (بابياس) لا ينطبق على إنجيل متى الموجود بين يدي النصارى. كما أن هناك استفساراً آخر في حالة أن يكون الإنجيل مترجماً من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية، وهو: من هو مترجمه؟ وهذا أمر مهم؛ لأنه ما لم يعلم دين المترجم، وصدقه، وضبطه، وقوة معرفته باللغتين لا يمكن أن يعتمد على ترجمته. 2 - إن الدارسين لهذا الكتاب والباحثين من النصارى وغيرهم يرون أن كاتب هذا الإنجيل اعتمد كثيراً على إنجيل مرقص، ومرقص في كلام النصارى تلميذ بطرس، فهل من المعقول أن يعتمد أحد كبار الحواريين في زعمهم على تلميذ من تلاميذهم في الأمور التي هم شاهدوها وعاينوها وعايشوا أحداثها؟ هذا يدل على أن كاتبه غير (متى) الذي يزعمون أنه حواري، وأن دعوى النصارى أن كاتب الإنجيل هو متى الحواري دعوى عارية عن الدليل، وهي من باب الظن والتخمين الذي لا يغني من الحق شيئاً.

ثانيا: إنجيل مرقص

ثانياً: إنجيل مرقص هذا الإنجيل الثاني في ترتيب الأناجيل لدى النصارى، وهو أقصرها؛ إذ إنه يحوي ستة عشر إصحاحاً فقط. أما كاتب الإنجيل فهو في زعم النصارى رجل من أتباع الحواريين، والمعلومات عنه قليلة جدًّا وغامضة، ولا تتضح شخصيته وضوحاً يُطمئن النفس؛ إذ إن كل ما ورد عنه الإشارة إلى أن اسمه يوحنا، ويلقب مرقص، وأنه صاحَبَ بولس وبرنابا في دعوتهما، ثم افترق عنهما، ثم ذكر بولس في رسائله اسم مرقص ذكراً مقتضباً لا يعطي غناء في التعريف به، وورد ذكر اسمه مع بطرس حيث يقول عنه: (تسلم عليكم التي في بابل المختارة معكم ومرقص ابني). فهذه المعلومات يفهم منها أن الرجل مجهول؛ إذ إنها لم تعط تعريفاً بدينه، وعلمه، وأمانته، ونحو ذلك مما يجب توافر معرفته فيمن يكون واسطة لكتاب مقدس. أما الكتاب وهو الإنجيل: فأقدم المعلومات التي عزته إلى من يسمَّى مرقص ما نقله (يوسابيوس) في تاريخه الكنسي عن بابياس حيث قال: (ولقد قال الشيخ أيضاً: إن مرقص الذي صار مفسراً لبطرس قد كتب بكل دقة كل ما تذَكَّره من أقوال وأعمال الرب، ولكن ليس بالترتيب؛ لأنه لم يسمع الرب ولم يتبعه، ولكن كما قلت قبلاً عن بطرس الذي ذكر من تعاليم السيد ما يوافق حاجة السامعين، بدون أن يهدف إلى كتابة كل ما قاله الرب وعمله، وهكذا فصل مرقص أنه لم يعمل خطأً واحداً في كل ما ذكره وكتبه .. ). هذه أقدم شهادة لدى النصارى عن الكتاب والكاتب، فهي شهادة مطعون فيه، لمجهول الحال- وهو مرقص- عن أمر مجمل، حيث ذكر أنه كتب ما تذكر، ولم يفصل في المكتوب ما هو!! فهل تكفي هذه الشهادة في إثبات صحة الكتاب!!، لاشك أنها لا تكفي؛ فإن مثل هذه الأدلة والشواهد لو قدِّمت لدى قاض في قضية لم يقبلها ولم يحكم وفقها.

ثالثا: إنجيل لوقا

ثالثاً: إنجيل لوقا هذا الإنجيل الثالث في ترتيب النصارى لكتابهم، ويحوي أربعة وعشرين إصحاحاً. وكاتب الإنجيل في زعم النصارى هو أحد الوثنيين الذين آمنوا بالمسيح بعد رفعه، وكان رفيقاً لبولس (شاؤول اليهودي) حيث ذكره بولس في ثلاثة مواضع من رسائله، واصفاً إياه بأنه رفيقه. ولا يوجد لدى النصارى معلومات عنه سوى أنه أممي رافق بولس في بعض تنقلاته، حيث ورد اسمه في تلك الرحلات. فهو بذلك يعتبر شخصية مجهولة وغير معروفة ولا متميزة بعدالة وديانة، ومع هذا أيضاً لا يوجد لدى النصارى دليل يعتمد عليه في صحة نسبة الكتاب إليه. ولندرة المعلومات التي توثق نسبة الكتاب إلى لوقا المذكور يستشهد النصارى بكلام مجهول، حيث يقول القس (فهيم عزيز) في كتابه (المدخل إلى العهد الجديد) في استدلاله على صحة نسبة الكتاب إلى لوقا ما يلي: (هناك مقدمة كتبت لإنجيل لوقا فيما بين (160 - 180) , اسمها (ضد مارسيون) فيها يقول الكاتب عن لوقا: إنه من أنطاكية في سوريا، مهنته طبيب، وكان أعزب بدون زوجة، مات وهو في سن (84) في بواتييه ممتلئاً بروح القدس، وقد كتب إنجيله كله في المناطق التي تحيط بأخائيه؛ لكي يفسر للأمم القصة الصحيحة للعهد الجديد الإلهي .. ) ثم قال صاحب الكتاب معلقاً: (هذه مقتطقات عن هذه الشهادة التي لا يعرف كاتبها، وقد قبلها كثير من العلماء؛ لأنهم لم يجدوا من أتباع مارسيون من يكذبها، مما يدل على أنها تقليد كنسي قوي). بمثل هذه الشهادة المجهولة يثبت النصارى صحة كتابهم إلى ذلك الرجل المجهول لوقا، وهي لاشك شهادة لا قيمة لها ولا تفيد شيئاً، ويدل استدلالهم بها على أنهم لا يملكون أدلة على صحة نسبة الكتاب إلى من يسمونه (لوقا)، وذلك يبين لنا أن النصارى حين زعموا أن إنجيل لوقا كتاب صحيح وصادق، فإن ذلك مجرد دعوى بدون بينة.

رابعا: إنجيل يوحنا

رابعاً: إنجيل يوحنا هذا الإنجيل الرابع في ترتيب العهد الجديد، وهو إنجيل متميز عن الأناجيل الثلاثة قبله؛ إذ تلك متشابهة إلى حد كبير، أما هذا فإنه يختلف عنها؛ لأنه ركَّز على قضية واحدة، وهي إبراز دعوى ألوهية المسيح وبنوته لله- تعالى الله عن قولهم - بنظرة فلسفية لا تخفى على الناظر في الكتاب، لهذا يعتبر هو الكتاب الوحيد من بين الأناجيل الأربعة الذي صرَّح بهذا الأمر تصريحاً واضحاً. وإذا بحثنا في صحة نسبة الكتاب إلى يوحنا الذي يزعم النصارى أن الكتاب من تصنيفه نجده أقل كتبهم نصيباً من الصحة؛ لعدة أدلة أبرزها منكروا نسبة الكتاب إلى يوحنا الحواري وهي: 1 - أن بوليكاربوس الذي يقال: إنه كان تلميذاً ليوحنا. لم يشر إلى هذا الإنجيل عن شيخه يوحنا، مما يدلُّ على أنه لا يعرفه، وأن نسبته إلى شيخه غير صحيحة. 2 - أن الكتاب مملوء بالمصطلحات الفلسفية اليونانية التي تدلُّ على أن لكاتبه إلماماً بالفلسفة اليونانية، أما يوحنا فكما يذكر النصارى فقد كان يمتهن الصيد، مما يدلُّ على أنه بعيد عن الفلسفة ومصطلحاتها. 3 - أن النصارى الأوائل لم ينسبوا هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري المزعوم، وأن (يوسابيوس) الذي كان يسأل (بابياس) عن هذه الأمور يقول: (الواضح أن بابياس يذكر اثنين اسمهما يوحنا: الأول: الرسول وقد مات، والثاني: الشيخ وهو حيٌّ. ويلوح أنه هو الذي كتب الإنجيل). فلهذا يقول القس (فهيم عزيز) بناء على ذلك: (إن الكنيسة كانت بطيئه في قبولها لهذا الإنجيل). وبناءً على ذلك فمنذ نهاية القرن التاسع عشر ظهر الاعتراض على نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا بشكل واسع، ووصفته (دائرة المعارف الفرنسية) بأنه إنجيل مزور، وهذه الدائرة اشترك في تأليفها خمسمائة من علماء النصارى، ونص كلامهم: (أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولاشك كتاب مزور، أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما لبعض، وهما القديسان يوحنا ومتى، وقد ادَّعى هذا الكاتب المزور في متن الكتاب أنه الحواري الذي يحبه المسيح، فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها، وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري، ووضعت اسمه على الكتاب نصًّا، مع أن صاحبه غير يوحنا يقيناً، ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهودهم ليربطوا- ولو بأوهى رابطة- ذلك الرجل الفلسفي الذي ألَّف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليلي، فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى). نقول مع هذه الاعتراضات، ومع عدم وجود أدلة تثبت صحة نسبته إلى يوحنا الحواري المزعوم، فلا يجوز لعاقل أن يدعي صحة نسبته إلى يوحنا، فضلاً عن أن يزعم أنه كتاب مقدس موحى به من الله، فهذا فيه افتراء عظيم على الله عزَّ وجلَّ، وإضلال لعباد الله بالباطل. بعد هذا كله يتضح للناظر اللبيب أن النصارى- وكذلك اليهود من قبلهم- لا يملكون مستنداً صحيحاً لكتبهم يثبت صحة نسبتها إلى من ينسبونها إليه، وإن من المعلوم أن أي إنسان أراد أن يقاضي إنساناً آخر لدى محكمة فلا يمكن أن تنظر المحكمة في دعواه ما لم يقدم من الإثباتات الصحيحة ما يصح اعتباره دليلاً، والنصارى لم يقدِّموا لأنفسهم ولا لأهل ملتهم من المستندات والأدلة شيئاً يثبتون به صحة كتبهم، بل لا يعرفون طريقاً إلى شيء من المستندات الصحيحة، يقول الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه العظيم (إظهار الحق): (ولذلك طلبنا مراراً من علمائهم الفحول السند المتصل، فما قدروا عليه، واعتذر بعض القسيسين في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم، فقال: إن سبب فقدان السند عندنا وقوع المصائب والفتن على النصارى إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة). وفي هذا كفاية ودلالة على أن تلك الكتب التي تسمَّى الأناجيل كتب لا يملك أصحابها أي مستند يمكن الاعتماد عليه في صحة نسبتها إلى من ينسبونها إليه، فضلاً عن أن يصحَّ نسبتها إلى المسيح عليه السلام أو إلى الله عزَّ وجلَّ. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص: 217

خامسا: إنجيل برنابا

خامسا: إنجيل برنابا إنجيل برنابا لا يعتبر من الأناجيل القانونية لدى النصارى، ولا يعترفون به، ولأهمية ما يحتويه من معلومات، ولما بينه وبين الأناجيل الأربعة من تشابه في التعريف بالمسيح عليه السلام ودعوته نُعرِّف به هنا في نقاط مختصرة. أ- التعريف بـ (برنابا) برنابا: اسمه (يوسف) ويلقب ابن الوعظ، وهو لاوي قبرصي الجنسية، وهو خال (مرقس) صاحب الإنجيل فيما يقال، وكان من دعاة النصرانية الأوائل، ويظهر من إنجيله أن له مكانة لدى المسيح عليه السلام، والنصارى يرون أنه من الدعاة الذين لهم أثر ونشاط ظاهر، وكان من أعماله البارزه أنه باع حقله وأتى بقيمته من النقود ووضعها تحت تصرف الدعاة، وحين ادَّعى بولس (شاؤول اليهودي) الدخول في دين المسيح عليه السلام خاف منه الحواريون لما يعلمون من سابق عداوته، فشفع له برنابا عندهم فقبلوه ضمن جماعتهم، ثم اختلف معه بعد فترة من العمل في الدعوة سويا وانفصلا. ب- التعريف بإنجيله: أقدم خبر عن إنجيل برنابا كان قريباً من عام (492) م، وذلك حين أصدر البابا (جلاسيوس) الأول أمراً يحرم فيه مطالعة عدد من الكتب، كان منها كتاب يسمَّى (إنجيل برنابا) وهذا كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم يظهر له خبر بعد ذلك إلا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي حيث عثر أحد الرهبان اللاتينيين وهو (فرامرينو) على رسائل (لإريانوس) يندد فيها ببولس، وأسند (إريانوس) تنديده هذا إلى إنجيل برنابا. فحرص هذا الراهب على الاطِّلاع على هذا الإنجيل. واتفق أنه أصبح مقرباً للبابا (سكتس) الخامس، ودخل معه يوماً إلى مكتبته فأخذت البابا غفوة نام فيها، فأخذ (فرامرينو) يطالع في مكتبته رغبة في قطع الوقت، فوقعت يده على هذا الكتاب فوضعه في ثوبه وأخفاه، ثم أستأذن بعد أن أفاق البابا، وخرج فطالع الكتاب بشغف شديد، ثم أسلم على أثر ذلك- بيَّن هذه المعلومات المستشرق سايل في مقدمة ترجمته للقرآن الكريم- ثم في أوائل القرن الثامن عشر عام (1709) م, عثر (كريمر) أحد مستشارى ملك بروسيا على نسخة لإنجيل برنابا باللغة الايطالية، عند أحد وجهاء مدينة أمستردام- حيث كان يقيم وقتئذ - وأهداها (كريمر) إلى الأمير (إيوجين سافوي) لولعه بالعلوم والآثار التاريخية، ثم انتقلت تلك النسخة فيما بعد- وذلك عام (1738) م- مع جميع مكتبة ذلك الأمير إلى مكتبة البلاط الملكي في فينا، حيث هي موجودة الآن، ثم ترجمت إلى الإنجليزية، وعنها إلى العربية من قبل الدكتور خليل سعادة، وهو لبناني نصراني. وكان يوجد لهذا الكتاب نسخة أخرى بالأسبانية، يظن أنها منقولة عن الإيطالية عُثِرَ عليها في أوائل القرن الثامن عشر أيضاً، وكانت عند رجل يدعى الدكتور (هلم) أهداها إلى المستشرق (سايل)، ثم دفعها هذا بدوره إلى الدكتور (منكهوس) الذي ترجمها إلى الإنجليزية، ودفعها مع ترجمتها عام (1784) م, إلى الدكتور (هويت) أحد مشاهير الأساتذة في إكسفورد ببريطانيا، وعنده اختفت تلك النسخة مع ترجمتها. وقد أورد الدكتور (هويت) مقتطفات عديدة منها في دروسه، وقد اطَّلع على تلك المقتطفات خليل سعادة، مترجم كتاب إنجيل برنابا إلى العربية. وحين ظهر هذا الإنجيل أحدث دويًّا في الأوساط النصرانية لما فيه من المعلومات المضادة لعقائدهم، فحاولوا دفعه بوسائل كثيرة، ومما زعموه: أنه تأليف عربي مسلم، أو يهودي أندلسى تنصر ثم أسلم- وهذا في الواقع من التخرصات، ويدلُّ على بطلان تلك الدعاوى أمور منها: 1 - لماذا يؤلف رجل أسلم كتاباً للنصارى، ويفتري الكذب وهو قد دخل في الإسلام. 2 - أن في الكتاب معلومات غير موجودة في كتب اليهود والنصارى الآن.

3 - أن مترجم الكتاب إلى العربية- وهو خليل سعادة النصراني- قد وصف صاحب الإنجيل بأنه على إلمام واسع جدًّا بالعهد القديم والنصرانية أكثر ممن نذروا أنفسهم للدين النصراني وتفسيره وتعليمه، حتى إنه ليندر أن يكون فيهم من يقرب من إلمام صاحب هذا الإنجيل، فكيف يكون مسلماً وله هذا الإلمام الواسع؟! 4 - إن مما يدفع أن يكون صاحبه مسلم أن فيه أخطاء لا يمكن أن تقع من المسلم لبداهتها، ومنها قوله: إن السموات عشرة. وخلطه بين اسم ميخائيل وميكائيل، ويقول: أدريل بدل إسرافيل. وعلى كل حال فهذا كتاب ظهر في بلاد نصرانية، وبخط ولغة نصرانية، ولم يرد عن أحد المسلمين أنه اطَّلع على الكتاب مع سعة اطلاع علماء المسلمين، وحرصهم على الرد على النصارى، وهو لاشك مما يظهره الله عزَّ وجلَّ دليلاً للحق ودحراً للباطل وردًّا له. ج- أهم مبادئ إنجيل برنابا التي يختلف بها عن الأناجيل الأربعة: إن الذي جعل النصارى يحملون على هذا الإنجيل حملتهم، ويتنصلون منه، هو مخالفته لأناجيلهم المعتمدة وعقيدتهم في أخطر وأهم نقاطها، وهي:- أولاً: أنه صرح أن المسيح عليه السلام إنسان، وليس إله ولا ابن إله، وبيَّن أن سبب تأليف إنجيله هو رد هذه الفرية التي أطلقها بولس مع غيرها من الافتراءات، كترك الختان وإباحة أكل اللحوم النجسة، وفي هذا يقول في أول إنجيله: أيها الأعزاء، إن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام الأخيرة بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة، للتعليم والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثيرين بدعوى التقوى، مبشرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان الذي أمر الله به دائماً مجوزين كل لحم نجس، الذين ضلَّ في عدادهم أيضاً بولس، الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيته وسمعته أثناء معاشرتي ليسوع لكي تخلصوا، ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة الله. ثانياً: أنه نقل عن المسيح التصريح بأن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وليس إسحاق كما يزعم اليهود، وفي هذا يقول:- أجاب يعقوب: يا معلم قل لنا من صنع هذا العهد، فإن اليهود يقولون بإسحاق، والإسماعيليون يقولون بإسماعيل؟ أجاب يسوع: صدقوني؛ لأني أقول لكم الحق، إن العهد صنع بإسماعيل لا بإسحاق. حينئذ قال التلاميذ: يا معلم هكذا كتب في كتاب موسى أن العهد صنع بإسحاق. أجاب يسوع متأوهاً: هذا هو المكتوب، ولكن موسى لم يكتبه ولا يشوع، بل أحبارنا الذين لا يخافون الله. الحق أقول لكم: إنكم إذا أعملتم النظر في كلام الملاك جبريل تعلمون حديث كتبتنا وفقهائنا؛ لأن الملاك قال: يا إبراهيم، سيعلم العالم كله كيف يحبك الله، ولكن كيف يعلم العالم محبتك لله حقًّا، يجب عليك أن تفعل شيئاً لأجل محبة الله، أجاب إبراهيم: هاهو ذا عبد الله مستعد أن يفعل كل ما يريد الله، فكلَّم الله حينئذ إبراهيم قائلاً: خذ ابنك بكرك إسماعيل، واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة. فكيف يكون إسحاق البكر وهو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين؟ فقال حينئذ التلاميذ: إن خداع الفقهاء لجلي، لذلك قل لنا أنت الحق؛ لأننا نعلم أنك مرسل من الله". وذكر برنابا أيضاً أن المسيح خاطب رئيس كهنة اليهود قائلاً له: إن إبراهيم أحب الله حيث إنه لم يكتف بتحطيم الأصنام الباطلة تحطيماً ولا بهجر أبيه وأمه، ولكنه كان يريد أن يذبح ابنه طاعة لله. أجاب رئيس الكهنة: إنما أسألك هذا ولا أطلب قتلك، فقل لنا: من كان ابن إبراهيم هذا؟ أجاب يسوع: إن غيرة شرفك يا الله تؤججني ولا أقدر أن أسكت. الحق أقول: إن ابن إبراهيم هو إسماعيل الذي يجب أن يأتي من سلالته مسيا الموعود به إبراهيم أن به تتبارك كل قبائل الأرض.

فلما سمع هذا رئيس الكهنة حنق وصرخ: لنرجم هذا الفاجر؛ لأنه إسماعيلى، وقد جدف على موسى وعلى شريعة الله. ثالثاً:- أنه نقل عن المسيح التصريح بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم باسمه وذلك في مواطن عدة من كتابه منها: أن اليهود سألوا المسيح عليه السلام عن اسم النبي المنتظر فقال: فقال الكاهن حينئذ: ماذا يسمى مسيا، وما هي العلامة التي تعلن مجيئه؟ فأجاب يسوع: إن اسمه المبارك (محمد). حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: يا الله، أرسل لنا رسولك، يا محمد، تعال سريعاً لخلاص العالم. وأورد أيضاً برنابا حواراً تمَّ بينه وبين المسيح عليه السلام بعد أن رفع إلى السماء، ثم عاد مرة أخرى ليطمئن أمه وحوارييه بأنه لم يمت، ثم ارتفع مرة أخرى إلى السماء، وهذا نصه: (فقال حينئذ الذي يكتب: يا معلم إذا كان الله رحيماً فلماذا عذبنا بهذا المقدار بما جعلنا نعتقد أنك كنت ميتاً، ولقد بكتك أمك حتى أشرفت على الموت، وسمح الله أن يقع عليك عار القتل بين اللصوص على جبل الجمجمة وأنت قدوس الله؟ أجاب يسوع: صدقني يا برنابا إن الله يعاقب على كل خطيئة- مهما كانت طفيفة- عقاباً عظيماً؛ لأن الله يغضب من الخطيئة، فلذلك لما كانت أمي وتلاميذي الأمناء الذين كانوا معي أحبوني قليلاً حبًّا عالميًّا، أراد الله البر أن يعاقب على هذا الحب بالحزن الحاضر حتى لا يعاقب عليه بلهب الجحيم، فلماذا كان الناس قد دعوني الله وابن الله على أني كنت بريئاً في العالم، أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب؛ لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله). رابعاً: أن برنابا صرَّح أن المسيح لم يُصلب، وإنما رُفع إلى السماء، وأن الذي صلب هو يهوذا الإسخريوطي، وهو الذي وشى بالمسيح لدى اليهود، حيث أُلْقِي عليه شبه المسيح، فقبض عليه وصلب بدلاً عن المسيح عليه السلام. وهذا نص كلامه:- (ولما دنت الجنود مع يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع، سمع يسوع دنو جم غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفاً، وكان الأحد عشر نياماً، فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبِّح الله إلى الأبد. ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع، وكان التلاميذ كلهم نياماً. فأتى الله العجيب بأمر عجيب، فتغيَّر يهوذا في النطق وفي الوجه، فصار شبيها بيسوع حتى إننا اعتقدنا أنه يسوع، أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم، لذلك تعجبنا وأجبنا: أنت يا سيد هو معلمنا أنسيتنا الآن؟ أما هو فقال متبسماً: هل أنتم أغبياء حتى لا تعرفون يهوذا الإسخريوطي. وبينما كان يقول هذا دخلت الجنود وألقوا أيديهم على يهوذا؛ لأنه كان شبيهاً بيسوع من كل وجه). وبعد أن ذكر محاكمة يهوذا وجلده من قبل اليهود والوالي الروماني وهم يظنون أنه يسوع قال: (وأُسْلِمَ يهوذا للكتبة والفريسيين كأنه مجرم يستحق الموت، وحكموا عليه بالصلب وعلى لصين معه. فقادوه إلى جبل الجمجمة حيث اعتادوا شنق المجرمين، وهناك صلبوه عرياناً مبالغة في تحقيره). هذه أهم مبادئ هذا الكتاب الذي أحدث بمبادئه وقت ظهوره دويًّا لدى النصارى، أما نحن المسلمين فلا يقدم عندنا هذا الكتاب ولا يؤخر، فنحن مطمئنون لكتاب ربنا الذي بين أيدينا نعرف به الحق، وعلى ضوئه نقيس الحق. وهذا كتاب لا سند له ولا تاريخ، ثم هو من تأليف رجل ليس بمعصوم فقد يخطئ، ويضل، وينسى، وهذه لا تجعل لكتابه قيمة دينية عقائدية، وإنما تجعل له قيمة تاريخية وأدبية، والله أعلم. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص: 241

المبحث الثاني: تحريف الإنجيل

تمهيد إن الكتب المقدسة كتب معصومة عن الخطأ، محفوظة من الخلل والزلل؛ لأن المفترض فيها أن تكون من قبل رب العالمين الذي يعلم السرَّ وأخفى، وهو الحق لا يصدر منه إلا الحق جلَّ وعلا. والنصارى يسندون كتبهم إلى الله عزَّ وجلَّ عن طريق الإلهام إلى كتابها، والدارس لهذه الكتب يستطيع أن يتبين صدق هذه الدعوى من كذبها؛ إذ إن الحقَّ لا خفاء فيه. وقد سبق أن ذكرنا نبذة عن هذه الكتب من ناحية السند، حيث تبين أن النصارى لا يوجد عندهم دليل يثبت صحة نسبة كتبهم إلى أولئك الناس الذين نُسبت إليهم، فعليه لا يمكن اعتبارها كتباً صحيحة، ولا يجوز لعاقل أن ينسبها إلى أولئك الرجال، فضلاً عن أن ينسبها إلى الله عزَّ وجلَّ. ومما يؤكد عدم صحتها الاختلافات الكثيرة بينها، وكذلك الأغلاط العديدة فيها، وسنضرب لذلك أمثلة دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص: 227

فرع: الأمثلة على وقوع التحريف

أولا: الاختلافات إذا قارنا بين الأناجيل الأربعة نجد بينها اختلافات جوهرية تدل على خطأ كُتَّابها، وأنهم غير معصومين ولا ملهمين، وأن الله عزَّ وجلَّ بريء منها، ورسوله عيسى عليه السلام، ومن الأمثلة على ذلك: 1 - نسب المسيح عليه السلام إن مما يدهش له الإنسان أشدَّ الدهش أن النصارى لم يستطيعوا أن يضبطوا نسب المسيح عليه السلام، ولم يتفقوا عليه، فأعطاه كلٌّ من صاحب إنجيل متى وصاحب إنجيل لوقا نسباً مختلفاً عن الآخر، وإليك جدولاً بذلك يوضح الفرق بينهما: إنجيل لوقا إنجيل متى المسيح ابن المسيح ابن 1ـ يوسف 15ـ شمعي 29ـ اليعازر 1ـ يوسف 15ـ آمون 2ـ هالي 16ـ يوسف 30 ـ يوريم 2ـ يعقوب 16ـ منسى 3ـ متثاب 17ـ يهوذا 31ـ متثات 3ـ متان 17ـ حزقيا 4ـ لاوي 18ـ يوحنا 32ـ لاوي 4ـ اليعازر 18ـ أحاز 5ـ ملكي 19ـ ريسا 33 - شمعون 5ـ أليود 19ـ يوثام 6ـ ينا 20 - زربايل 34 - يهوذا 6ـ أخيم 20ـ عزيا 7 - يوسف 21ـ شألتئيل 35 ـ يوسف 7ـ صادوق 21ـ يورام 8ـ متاثيا 22ـ نيري 36ـ يونان 8ـ عازور 22ـ يهوشافاط 9ـ عاموص ـ 23 ـ ملكي 37ـ مليا 9ـ الياقيم 23ـ أسا 10ـ ناحوم 24ـ أدى 38ـ مليا 10ـ ابيهود 24ـ أبيا 11ـ حسلي 25ـ قصم 39 ـ مينان 11ـ زربابل 25ـ حبعام 12ـ نجاي 26ـ ألمودام 40 ـ متاثا 12ـ شألتئيل 26ـ سليمان 13ـ مآث 27ـ عير 41ـ تاثان 13 ـ يكنيا 27ـ داود 14ـ متاثيا 28ـ يوسى 42ـ داود 14ـ يوشيا ففي هذا النسب فوارق وأغلاط عدة هي: 1 - أن متى نسب المسيح إلى يوسف بن يعقوب، وجعله في النهاية من نسل سليمان بن داود عليهما السلام. أما لوقا فنسبه إلى يوسف بن هالي، وجعله في النهاية من نسل ناثان بن داود عليه السلام. 2 - أن متى جعل آباء المسيح إلى داود عليه السلام سبعة وعشرين أباً، أما لوقا فجعلهم اثنين وأربعين أباً، وهذا فرق كبير بينهما يدل على خطئهما أو خطأ أحدهما قطعاً. والنصارى يدَّعون أن أحد الإنجيلين كتب فيه نسب مريم، والآخر كتب فيه نسب يوسف، وهذا كلام باطل؛ إذ إن صاحب إنجيل متى (1/ 16) يقول: (يعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح). أما إنجيل لوقا (3/ 23) فيقول: (ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي). فكلاهما صرح بنسب يوسف. أما الأغلاط في هذا النسب فعديدة منها: 1 - أن نسبة المسيح عليه السلام إلى يوسف خطيب مريم في زعمهم خطأ فاحش، وفيه تصديق لطعن اليهود في مريم أم المسيح عليه السلام، وكان الواجب على النصارى أن ينسبوه إلى أمه مريم لا إلى رجل أجنبي عنه. خاصة وأن ولادته منها كانت معجزة عظيمة وآية باهرة، فنسبته إليها فيه إظهار لهذه المعجزة، وتأكيد لها وإعلان، أما نسبته إلى رجل وليس هو أبوه فيه إخفاء لهذه المعجزة واستحياء. والله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم صرَّح في مواطن عدة بنسبته إلى مريم الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17،72، 75]. عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [آل عمران: 45] , [النساء: 157،171].

2 - أن صاحب إنجيل متَّى أسقط أربعة آباء من سلسلة النسب: ثلاثة منهم على التوالي بين (عزيا ويورام) حيث النسب كما هو في أخبار الأيام الأول (3/ 11 - 13) (عزريا بن أمصيا بن يواش بن أخزيا بن يورام)،كما أسقط واحداً بين (يكنيا ويوشيا) وهو (يهو ياقيم) وسبب إسقاط اسم يهوياقيم بين يوشيا ويكنيا هو أن (يهوياقيم) هذا مَلَكَ دولة يهوذا بعد أبيه، إلا أنه كان عابدا للأوثان فكتب له (إرميا) يحذره من قبيح صنعه، ويبين له مغبة أفعاله، فأحرق (يهوياقيم) الكتاب ولم يرجع عن غيه، فقال عنه إرميا حسب كلامهم: (لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم مَلِكِ يهوذا لا يكون له جالس على كرسي داود، وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً) سفر إرميا (36/ 30). ومعنى هذا الكلام أنه لا يكون من نسله ملك، فأسقطه (متى) لهذا السبب، وعلل صاحب تفسير العهد الجديد ذلك التصرف بأن (متى) أراد أن يجعل كل مجموعه من النسب تحوي أربعة عشر اسماً. ونقول: إذا كانت هذه العلة التي لا معنى لها من أجلها حذف أربعة آباء من نسب المسيح، فذلك يعني أن الكاتب قد كتبه لخدمة أهداف في نفسه، وأنه لا يكتب ما علم وسمع مجرداً من الهوى والآراء الخاصة، ومن هنا يمكن أن ندرك كيفية تعامل النصارى الأوائل مع المعلومات الواردة إليهم، وأنهم يصوغونها وفق ما يرون ويعتقدون، لا وفق الحق مجرداً عن الهوى والآراء الخاصة. ولنا أن نبحث هنا عن السبب في هذا الخطأ الفاحش والاختلاف في نسب المسيح عليه السلام، فنقول: إن سبب خطأ النصارى في نسب المسيح عليه السلام أنهم نسبوه إلى رجل مغمور غير مشهور هو "يوسف النجار" خطيب مريم في زعمهم، فلهذا أخطؤوا في نسبه، فأعطاه (متَّى) نسباً ملوكيًّا، وأعطاه (لوقا) نسباً آخر غير معروف ولا معلوم. ولكن لماذا أعرض كُتَّاب النصارى عن مريم، ولم يعطوه نسبها، فيجعلونه كما هو الحق عيسى بن مريم بنت عمران؟. السبب في هذا ظاهر وهو: أن مريم بنت عمران امرأة عابدة مشهورة، تربَّت في بيت النبي زكريَّا عليه السلام، الذي كان من نسل هارون عليه السلام حيث كان كاهن بيت المقدس والمسؤول عن البخور عندهم هو زوج "أليصابات" خالة مريم، وهي من نسل هارون عليه السلام أيضاً، فتكون مريم من السبط نفسه، وهو سبط لاوي بن يعقوب عليه السلام، وذلك أن تشريع اليهود يأمرهم أن تتزوج المرأة من سبطها، ولا تتزوج من سبط أخر حتى تستمر الأموال في نفس السبط، ولا تنتقل إلى أسباط أخرى بواسطة الميراث. فلهذا تكون مريم من سبط زكريا عليه السلام وزوجته، وكذلك خطيبها المزعوم إن صحَّ كلامهم في ذلك يكون من السبط نفسه، وهو سبط لاوي الذي منه هارون عليه السلام، ومما يدلُّ على أن مريم من سبط هارون قول الله عزَّ وجلَّ: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28]. قال السدي: قيل لها: يَا أُخْتَ هَارُونَ. أي: أخي موسى؛ لأنها من نسله كما يقال للتميمي: يا أخا تميم. وللمضري: يا أخا مضر. وهذا الأمر فيما يبدو علمه كتَّاب الأناجيل فأزعجهم إزعاجاً شديداً؛ لأنهم يظنون أن المسيح لابد أن يكون من نسل داود عليه السلام فأعطوه ذلك النسب المخترع إلى داود عليه السلام، وذلك حتى ينطبق عليه ما يزعمه اليهود، وهو أن المسيح لابد أن يكون من نسل داود عليه السلام حتى يكون مسيحاً. والله أعلم.

3 - ذكر إنجيل متَّى (11/ 13) من كلام المسيح عن يوحنا المعمدان (يحيى عليه السلام) قوله: (لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبؤوا، وإن أردتم أن تقبلوا فهذا إيليا المزمع أن يأتي من له أذنان للسمع فليسمع). وورد في إنجيل متَّى أيضاً (17/ 1) أنهم سألوا المسيح عليه السلام فقال: (وسأله تلاميذه قائلين: فلماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً، فأجاب يسوع وقال لهم: إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء، ولكني أقول لكم: إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الإنسان أيضا سوف يتألم منهم، حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان). فالمسيح هنا يبين أن يحيى عليه السلام هو إيليا. ويخالف هذا قول يوحنا في إنجيله (1/ 19) حين جاء اليهود يسألون يحيى عن نفسه حيث قال: (أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت، فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح، فسألوه من أنت، إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب لا. فقالوا له: من أنت لنعطي جواباً للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية قَوِّمُوا طريق الرب كما قال إشعيا النبي). فهنا أنكر يحيى عليه السلام أن يكون هو إيليا، وهذا تناقض واضح. 4 - أن متى ذكر في إنجيله (20/ 29 - 34) أن عيسى عليه السلام لما خرج من أريحا قابله أعميان فطلبا منه أن يشفيهما من العمى فلمس عيونهما فشفيا. وقد ذكر هذه القصة مرقص في (10/ 46 - 52) وبين أن بارينماوس الأعمى ابن نيماوس هو الذي طلب ذلك فقط. 5 - أن مرقص ذكر في (6/ 8) أن عيسى عليه السلام أوصى حوارييه حين أرسلهم للدعوة في القرى بأن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط لا مزوداً، ولا خبزاً، ولا نحاساً، وذكر ذلك لوقا في (9/ 3) إلا أنه قال: إن عيسى عليه السلام أوصاهم وقال لهم: (لا تحملوا شيئاً للطريق لا عصا ولا مزوداً ولا خبزاً ولا فضة) ففي الأول أجاز لهم حمل العصا، والثاني نهاهم عن حمل العصا أيضاً. 6 - أن إنجيل متى ذكر فيه في (15/ 21) أن المرأة التي طلبت من المسيح شفاء ابنتها كانت كنعانية. وذكر القصة مرقص في إنجيله (7/ 24) ونص عبارته عن جنس المرأة: (وكانت المرأة أممية وفي جنسها فينيقيه سوريه). 7 - أن إنجيل متى ذكر أسماء تلاميذ عيسى الاثني عشر فقال (10/ 2): (وأما أسماء الاثني عشر رسولاً فهي هذه: الأول سمعان الذي يقال له: بطرس، وإندراوس أخوه، يعقوب بن زبدي، ويوحنا أخوه، فيلبس، وبرثولماوس، توما، ومتى العشار، يعقوب بن حلفى، ولباوس الملقب تداوس، سمعان القانوني، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه). وذكر مرقص في (3/ 16) الأسماء فوافق فيها متى، وخالفهما لوقا حيث حذف من قائمة متى (لباوس الملقب تداوس) ووضع بدلاً عنه (يهوذا أخا يعقوب). 8 - اختلافهم في الذين حضروا لمشاهدة قبر المسيح بعد دفنه المزعوم ووقت ذلك، حيث يقول متى (28/ 1): (وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدليه ومريم أخرى لتنظرا القبر). وفي إنجيل مرقص (16/ 1) يقول: (وبعد ما مضى السبت اشترت مريم المجدليه ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه، وباكراً جدًّا في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس). وفي إنجيل لوقا (24/ 1) يقول: (ثم في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهن أناس). وفي إنجيل يوحنا (20/ 1) يقول: (وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً والظلام باق، فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر). فهذه الاختلافات وغيرها كثير- ذكرها علماء الإسلام وغيرهم- تدلُّ دلالة واضحة على أن في الكتاب صنعة بشرية، وتحريف وتبديل. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 227

ثانيا: الأغلاط في الأناجيل

ثانيا: الأغلاط في الأناجيل كما بين الأناجيل اختلافات يوجد بها أغلاط وأخطاء كثيرة أيضاً، نذكر منها: 1 - قال متَّى في إنجيله (1/ 3) مستدلًّا للمسيح وولادته من مريم بنبوءة سابقة جاءت على لسان إشعيا: (وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه (عمانوئيل) الذي تفسيره الله معنا). وهذا غلط؛ لأن هذا اللفظ الذي ورد على لسان إشعياء لا ينطبق على المسيح، فإن له قصة تدل على المراد به، وهي: أن (رصين) ملك أرام، (وفقح بن رمليا) ملك إسرائيل، اتفقا على محاربة (آحاز بن يوثان) ملك يهوذا، فخاف منهما (آحاز) خوفاً شديداً، فأوحى الله إلى النبي إشعياء أن يقول لآحاز: بأن لا يخاف؛ لأنهما لا يستطيعان أن يفعلا به ما أرادا وأن ملكهما سيزول أيضاً، وبين له إشعياء آية لخراب ملكهما وزواله، أن امرأة شابه تحبل وتلد ابناً يسمى (عما نوئيل)، فتصبح أرض هذين الملكين خراباً قبل أن يميز ذلك الابن بين الخير والشر، ونص كلامه: (ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه (عمانوئيل) زبداً وعسلاً يأكل، متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير؛ لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تخلى الأرض التي أنت خاش من ملكيها) سفر إشعياء (7/ 14). وقد وقع ذلك فقد استولى (تغلث فلاسر) الثاني ملك آشور على بلاد سوريا، وقتل (رصين) ملكها، أما (فقح) فقتله في نفس السنة أحد أقربائه، وتولَّى الملك مكانه، كل ذلك حدث بعد هذه المقولة بما يقارب إحدى وعشرين سنة، أي: قبل ميلاد المسيح بما يقارب سبعة قرون. 2 - قال متى في إنجيله (27/ 51) بعد الصلب المزعوم للمسيح وإسلامه الروح: (وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تفتقت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين). فهذه الحكاية التي ذكرها متَّى لم يذكرها غيره من كتَّاب الأناجيل مما يدلُّ على أن كلامه لا حقيقة له؛ لأنها آية عظيمة تتوافر الهمم على نقلها. 3 - أنه ورد في إنجيل متَّى (12/ 40) وكذلك في (16/ 4) أن المسيح قال: إنه لن يعطي لليهود آية إلا آية يونان (يونس عليه السلام). ونصه: (لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال). وهذا غلط؛ لأن المسيح عليه السلام في زعمهم صلب ضحى يوم الجمعة، ومات بعد ست ساعات، أي: وقت العصر، ودفن قبيل غروب الشمس، وبقى في قبره تلك الليلة، ونهار السبت من الغد، وليلة الأحد، وفي صباح الأحد جاؤوا ولم يجدوه في قبره، مما يدل على أنه مكث في زعمهم ليلتين ويوماً واحداً فقط، فيكون كلام متَّى السابق غلط واضح. 4 - أن متَّى ذكر في مواضع من كتابه أن القيامة ستقوم على ذلك الجيل، ومن ذلك قوله في (16/ 27) على لسان المسيح: (فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله، الحق أقول لكم: إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته). كما ورد في الإنجيل نفسه (3/ 23) قولهم على لسان المسيح: (فإن الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان). فهذه النصوص تؤكد القيامة قبل موت الكثيرين من ذلك الجيل، وقبل أن يكمل الحواريون الدعوة في جميع مدن بني إسرائيل، وهذا أمر لم يتحقق، وله الآن ألفا سنة إلا قليلا مما يدلُّ على أنه غلط فاحش.

5 - جاء في إنجيل لوقا (1/ 30) في البشارة بالمسيح قوله: (ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية). وهذا خطأ بيِّن؛ لأن المسيح عليه السلام لم يكن ملكاً لليهود، ولا ملكاً على آل يعقوب، بل كان أكثرهم معادين له إلى أن رفع إلى السماء بسبب محاولتهم قتله. 6 - ورد في إنجيل مرقس (11/ 23): (فأجاب يسوع وقال لهم: ليكن لكم إيمان بالله؛ لأن الحق أقول لكم: إن من قال لهذا الجبل: انتقل وانطرح في البحر. ولا يشك في قلبه، بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له، لذلك أقول لكم: كل ما تطلبونه حينما تصلون، فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم). وورد أيضا في إنجيل مرقس (16/ 17): (وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيات، وإن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون). وفي إنجيل يوحنا (14/ 12): (الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها؛ لأني ماض إلى أبي، ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله). فهذه النصوص الثلاثة لاشك في أنها خطأ، فلا يستطيع النصارى أن يدعو ذلك لأنفسهم. كما أن عبارة إنجيل يوحنا فيها مغالات شديدة، حيث زعم أن من آمن بالمسيح يعمل أعظم من أعمال المسيح نفسه، وهذا من الترهات الفارغة. وبمجموع ما ذكر عن الأناجيل من ناحية تاريخها، ومتنها يتبين لنا أن هذه الكتب لا يمكن أن تكون هي الكتاب الذي أنزل الله عزَّ وجلَّ على عبده ورسوله المسيح عليه السلام، وأحسن أحوالها أن تكون متضمنة لبعض ما أنزل الله عزَّ وجلَّ على عيسى عليه السلام. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 237

الكتاب الخامس: الإيمان بالرسل

المبحث الأول: تعريف النبي النبي في لغة العرب مشتق من النبأ وهو الخبر، قال تعالى: عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيم [النبأ: 1 - 2]. وإنّما سمّي النبي نبيّاً لأنه مُخْبرٌ مُخْبَر، فهو مُخْبَر، أي: أنَّ الله أخبره، وأوحى إليه قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم: 3]، وهو مُخْبرٌ عن الله تعالى أمره ووحيه نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49] وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ [الحجر: 51]. وقيل: النبوة مشتقة من النَّبْوَة، وهي ما ارتفع من الأرض، وتطلق العرب لفظ النبي على علم من أعلام الأرض التي يهتدى بها، والمناسبة بين لفظ النبي والمعنى اللغوي، أنَّ النبي ذو رفعة وقدر عظيم في الدنيا والآخرة، فالأنبياء هم أشرف الخلق، وهم الأعلام التي يهتدي بها الناس فتصلح دنياهم وأخراهم (¬1). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 13 ¬

(¬1) انظر: ((لسان العرب)) (3/ 561، 573)، ((بصائر ذوي التمييز)) (5/ 14)، ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 49، 2/ 265).

المبحث الثاني: تعريف الرسول

المبحث الثاني: تعريف الرسول الإرسال في اللغة التوجيه، فإذا بعثت شخصاً في مهمة فهو رسولك، قال تعالى حاكياً قول ملكة سبأ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 35]، وقد يريدون بالرسول ذلك الشخص الذي يتابع أخبار الذي بعثه، أخذاً من قول العرب: (جاءت الإبلُ رَسَلاً) أي: متتابعة. وعلى ذلك فالرُّسل إنّما سمّوا بذلك لأنَّهم وُجّهوا من قبل الله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا [المؤمنون: 44]، وهم مبعوثون برسالة معينة مُكلَّفون بحملها وتبليغها ومتابعتها (¬1). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 13 ¬

(¬1) انظر: ((لسان العرب)) (2/ 1166 - 1167)، ((المصباح المنير)) (ص: 266).

المبحث الثالث: الفرق بين الرسول والنبي

المبحث الثالث: الفرق بين الرسول والنبي لا يصحُّ قول من ذهب إلى أنه لا فرق بين الرسول والنبي، ويدلُّ على بطلان هذا القول ما ورد في عدة الأنبياء والرسل، فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، وعدَّة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً (¬1)، ويدلّ على الفرق أيضاً ما ورد في كتاب الله من عطف النبي على الرسول وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ [الحج: 52]، ووصف بعض رسله بالنبوة والرسالة مما يدُل على أن الرسالة أمر زائد على النبوة، كقوله في حقِّ موسى عليه السلام: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىَ إِنّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً [مريم: 51]. والشائع عند العلماء أنَّ النبي أعم من الرسول، فالرسول هو من أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه ولم يؤمر بالبلاغ، وعلى ذلك فكلُّ رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً (¬2). وهذا الذي ذكروه هنا بعيد لأمور: الأول: أن الله نصَّ على أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل في قوله: وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ ... [الحج: 52]، فإذا كان الفارق بينهما هو الأمر بالبلاغ فالإرسال يقتضي من النبي البلاغ. الثاني: أنَّ ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى، والله لا ينزل وحيه ليكتم ويدفن في صدر واحد من الناس، ثمَّ يموت هذا العلم بموته. الثالث: قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه ابن عباس: ((عرضت عليَّ الأمم، فجعل يمرُّ النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد)) (¬3). فدلّ هذا على أنَّ الأنبياء مأمورون بالبلاغ، وأنَّهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم. والتعريف المختار أنَّ (الرسولَ مَنْ أُوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله) (¬4). وقد ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ)) كما ثبت في الحديث (¬5)، وأنبياء بني إسرائيل كلّهم مبعوثون بشريعة موسى: التوراة وكانوا مأمورين بإبلاغ قومهم وحي الله إليهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىَ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ أن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاّ تُقَاتِلُواْ ... [البقرة: 246] فالنبي كما يظهر من الآية يُوحَى إليه شيء يوجب على قومه أمراً، وهذا لا يكون إلا مع وجوب التبليغ. واعتبر في هذا بحال داود وسليمان وزكريا ويحي فهؤلاء جميعاً أنبياء، وقد كانوا يقومون بسياسة بني إسرائيل، والحكم بينهم وإبلاغهم الحق، والله أعلم بالصواب. الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 14 ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 265) (22342). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. والحديث ضعفه ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 140)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 164): مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف. (¬2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 167)، ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 49). (¬3) رواه البخاري (5752) واللفظ له، ومسلم (220). (¬4) ((تفسير الآلوسي)) (7/ 157). (¬5) رواه البخاري (3455). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الفصل الثاني: الإيمان بالرسل معناه وأهميته والصلة بينه وبين الإيمان بالله

المبحث الأول: معنى الإيمان بالرسل وأما الأنبياء والمرسلون، فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى: في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى: أرسل رسلاً سواهم وأنبياء، لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم. فعلينا الإيمان بهم جملة لأنه لم يأت في عددهم نص. وقد قال تعالى: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164] , وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]. وعلينا الإيمان بأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به، وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله، ولا يحل خلافه. قال تعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35]. فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [النحل:82] وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [التغابن:12]. وأما أولو العزم من الرسل. فقد قيل فيهم أقوال أحسنها: ما نقله البغوي وغيره عن ابن عباس وقتادة أنهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم. قال: وهم المذكورون في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]. وفي قوله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13] (¬1) وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالاً وتفصيلاً. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 2/ 423 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير البغوي)) (7/ 272).

فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. (الهداة) جمع هاد والمراد به هداية الدعوة والدلالة والإرشاد إلى سبيل الهدى كما قال تعالى: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ [الشورى: 52 – 53]. وأما هداية التوفيق والتسديد والتثبيت فليست إلا بيد الله عز وجل هو مقلب القلوب ومصرِّف الأمور ليس لملك مقرب، ولا لنبي مرسل تصريف في شيء منهما فضلاً عمن دونهما، ولذا قال تعالى: لنبيِّه صلى الله عليه وسلم لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [البقرة:272] وقال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]. والإيمان برسل الله عز وجل متلازم من كفر بواحد منهم فقد كفر بالله تعالى: وبجميع الرسل عليهم السلام كما قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء:150 – 152]، وقال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:136]، وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة:91]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف:6 – 7]، وقال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:81 – 82].

ومعنى الإيمان بالرسل هو التصديق الجازم بأن الله تعالى: بعث في كل أمةٍ رسولاً يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دونه، وأَنَّ جميعهم صادقون مصدقون بارُّون راشدون كرام بررة أتقياء أمناء هداة مهتدون، وبالبراهين الظاهرة والآيات الباهرة من ربهم مؤيدون، وأنهم بلَّغوا جميع ما أرسلهم الله به، لم يكتموا حرفاً ولم يغيروه ولم يزيدوا فيه من عند أنفسهم حرفاً ولم ينقصوه، فهل على الرسل إلا البلاغ المبين. وأنهم كلهم كانوا على الحق المبين، والهدى المستبين، وأن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً، وكلَّم موسى تكليماً، ورفع إدريس مكاناً عليا، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الله تعالى فضل بعضهم على بعض ورفع بعضهم على بعض درجات. وقد اتفقت دعوتهم من أولهم إلى آخرهم في أصل الدين وهو توحيد الله عز وجل بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ونفي ما يضاد ذلك أو ينافي كماله كما تقدم ذلك في تقرير توحيد الطلب والقصد. وأما فروع الشرائع من الفرائض والحلال والحرام فقد تختلف فيفرض على هؤلاء ما لا يفرض على هؤلاء ويُخفف على هؤلاء ما شدد على أولئك ويحرم على أمة ما يحل للأخرى وبالعكس لحكمة بالغة وغاية محمودة قضاها ربنا عز وجل ليبلوكم فيما آتاكم، وليبلوكم أيكم أحسن عملا. وقد ذكر الله تعالى في كتابه منهم: آدم ونوحا وإدريس وهودا وصالحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوطا وشعيبا ويونس وموسى وهارون وإلياس وزكريا ويحيى واليسع وذا الكفل وداود وسليمان وأيوب، وذكر الأسباط جملة، وعيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم، وقص علينا من أنبائهم ونبَّأنا من أخبارهم ما فيه كفاية وعبرة وموعظة إجمالاً وتفصيلاً ثم قال وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ [غافر:78] فنؤمن بجميعهم تفصيلاً فيما فصل وإجمالاً فيما أجمل. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 830

وأهل السنة والجماعة: يؤمنون ويعتقدون اعتقاداً جازماً بأن الله سبحانه أرسل إلى عباده رسلاً مبشرين ومنذرين، ودعاة إلى دين الحق، لهداية البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور. فكانت دعوتهم إنقاذاً للأمم من الشرك والوثنية، وتطهيراً للمجتمعات من التحلل والفساد، وأنهم بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وقد جاؤوا بمعجزات باهرات تدل على صدقهم، ومن كفر بواحد منهم؛ فقد كفر بالله تعالى: وبجميع الرسل عليهم السلام، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:150]. وقد بين الله الحكمة من بعثة الرسل الكرام، فقال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165]. ولقد أرسل الله رسلاً وأنبياء كثيرين منهم من ذكره لنا في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ومنهم من لم يخبرنا عنهم، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]. وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]. والمذكور من أسمائهم في القرآن الكريم خمسة وعشرون رسولاً ونبياً، وهم: أبو البشر آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، شعيب، أيوب، ذو الكفل، موسى، هارون، داود، سليمان، إلياس، اليسع، يونس، زكريا، يحيى، عيسى، ومحمد خاتم الأنبياء والرسل؛ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وأفضل أولي العزم نبي الإسلام، وخاتم الأنبياء والمرسلين ورسول رب العالمين؛ محمد بن عبدالله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله تبارك وتعالى: وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]. وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بهم جميعاً من سمى الله منهم ومن لم يسم، من أولهم آدم عليه السلام ... إلى آخرهم وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد بن عبدالله؛ صلى الله عليهم أجمعين. والإيمان بالرسل إيمان مجمل، والإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إيمان مفصل يقتضي ذلك منهم اتباعه فيما جاء به على وجه التفصيل. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص: 141

المبحث الثاني: أهمية الإيمان بالرسل

المبحث الثاني: أهمية الإيمان بالرسل الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، قال تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 84]. ومن لم يؤمن بالرسل ضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً [النساء: 136]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 15

المبحث الثالث: الصلة بين الإيمان بالله والإيمان بالرسل

المبحث الثالث: الصلة بين الإيمان بالله والإيمان بالرسل الذين يزعمون أنَّهم مؤمنون بالله ولكنّهم يكفرون بالرسل والكتب هؤلاء لا يقدرون الله حقَّ قدره، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91]. فالذين يقدرون الله حقَّ قدره، ويعلمون صفاته التي اتصف بها من العلم والحكمة والرحمة لا بدَّ أن يوقنوا بأنَّه أرسل الرسل وأنزل الكتب، لأن هذا مقتضى صفاته، فهو لم يخلق الخلق عبثاً، أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً [القيامة: 36]. ومن كفر بالرسل وهو يزعم أنَّه يؤمن بالله فهو عند الله كافر لا ينفعه إيمانه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً [النساء: 150 - 151]. فقد نصَّت الآية على كفر من زعم الإيمان بالله وكفر بالرسل وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، يقول القرطبي في هذه الآية: (نصّ سبحانه على أنَّ التفريق بين الله ورسله كفر، وإنَّما كان كفراً لأنَّ الله فرض على الناس أن يعبدوه بما شرعه على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردّوا عليهم شرائعهم، ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أُمروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية، وكذلك التفريق بين الله ورسله) (¬1). الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 16 ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (6/ 5).

المبحث الرابع: ما يجب علينا نحو الرسل

المبحث الرابع: ما يجب علينا نحو الرسل يجب على الأمة تجاه الرسل حقوق عظيمة بحسب ما أنزلهم الله من المنازل الرفيعة في الدين، وما رفعهم الله إليه من الدرجات السامية الجليلة عنده، وما شرفهم به من المهمات النبيلة, وما اصطفاهم به من تبليغ وحيه وشرعه لعامة خلقه. ومن هذه الحقوق: 1 - تصديقهم جميعًا فيما جاءوا به، وأنهم مرسلون من ربهم، مبلغون عن الله ما أمرهم الله بتبليغه لمن أرسلوا إليهم وعدم التفريق بينهم في ذلك. قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64]. وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [المائًدة: 92]. وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء: 150، 151]. فيجب تصديق الرسل فيما جاءوا به من الرسالات وهذا مقتضى الإيمان بهم. ومما يجب معرفته أنه لا يجوز لأحد من الثقلين متابعة أحدٍ من الرسل السابقين بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث للناس كافة، إذْ أن شريعته جاءت ناسخة لجميع شرائع الأنبياء قبله, فلا دين إلا ما بعثه الله به ولا متابعة إلا لهذا النبي الكريم. قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]. وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سبأ: 28]. وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا .. [الأعراف: 158]. 2 - موالاتهم جميعًا ومحبتهم والحذر من بغضهم وعداوتهم. قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 56]. وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71]. فتضمنت الآية وصف المؤمنين بموالاة بعضهم لبعض فدخل في ذلك رسل الله الذين هم أكمل المؤمنين إيمانًا, وعليه فإن موالاتهم ومحبتهم في قلوب المؤمنين هي أعظم من موالاة غيرهم من الخلق لعلو مكانتهم في الدين ورفعة درجاتهم في الإيمان. ولذا حذر الله من معاداة رسله وعطفها في الذكر على معاداة الله وملائكته, وقرن بينهما في العقوبة والجزاء. فقال عز من قائل: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 98].

3 - اعتقاد فضلهم على غيرهم من الناس، وأنه لا يبلغ منزلتهم أحد من الخلق مهما بلغ من الصلاح والتقوى, إذ الرسالة اصطفاء من الله يختص الله بها من يشاء من خلقه, ولا تنال بالاجتهاد والعمل. قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج: 75]. وقال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام: 83]. إلى أن قال بعد ذكر طائفة كبيرة من الأنبياء والمرسلين: وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام: 86] ........... كما دلت السنة أيضًا على أن منزلة الرسل لا يبلغها أحد من الخلق لما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (¬1) وفي رواية للبخاري: ((من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) (¬2). قال بعض شراح الحديث: (إنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجرًا أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئًا من حط مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته). وبيّن العلماء: (أن ما جرى ليونس صلى الله عليه وسلم لم يحطه من النبوة مثقال ذرة, وخص يونس بالذكر لما ذكر الله من قصته في القرآن الكريم كقوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 87، 88]. وقوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ... الآيات [الصافات: 139 - 148]). 4 - اعتقاد تفاضلهم فيما بينهم وأنهم ليسوا في درجة واحدة بل فضل الله بعضهم على بعض. قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقَرة: 253]. قال الطبري في تفسير الآية: (يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض، فكلمت بعضهم كموسى صلى الله عليه وسلم, ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة). فإنزال كل واحد منهم منزلته في الفضل والرفعة بحسب دلالات النصوص من جملة حقوقهم على الأمة. 5 - الصلاة والسلام عليهم فقد أمر الله الناس بذلك وأخبر الله بإبقائه الثناء الحسن على رسله وتسليم الأمم عليهم من بعدهم. قال تعالى عن نوح: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 78، 79]. وقال عن إبراهيم: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 108، 109]. وقال عن موسى وهارون: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات: 119، 120]. وقال تعالى: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181]. قال ابن كثير: (قوله تعالى سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79] مفسرًا لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه جميع الطوائف). وقد نقل الإمام النووي إجماع العلماء على جواز الصلاة على سائر الأنبياء واستحبابها. قال: (أجمعوا على الصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك أجمع من يعتد به على جوازها على سائر الأنبياء والملائكة استقلالاً, وأما غير الأنبياء فالجمهور على أنه لا يصلى عليهم ابتداء). فهذه طائفة مما يجب للرسل من حقوق على هذه الأمة مما دلت عليه النصوص وقرره أهل العلم. والله تعالى أعلم. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء - بتصرف – ص163 ¬

(¬1) رواه البخاري (2411)، ومسلم (167). (¬2) رواه البخاري (4604). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المبحث الخامس: وجوب الإيمان بجميع الرسل

المبحث الخامس: وجوب الإيمان بجميع الرسل الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل، قال تعالى: كَذّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105]، وقال: كَذّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123]، وقال: كذَّبت ثمود المرسلين [الشعراء: 141]، وقال: كَذّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 160]، ومن المعروف أنَّ كلَّ أمةٍ كذَّبت رسولها، إلا أن التكذيب برسول واحد يعدّ تكذيباً بالرسل كلِّهم، ذلك أنَّ الرسل حملة رسالة واحدة، ودعاة دين واحد، ومرسلهم واحد، فهم وحدة، يبشر المتقدم منهم بالمتأخر، ويصدق المتأخر المتقدم. ومن هنا كان الإيمان ببعض الرسل والكفر ببعض كفراً بهم جميعاً، وقد وسم الله من هذا حاله بالكفر إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً [النساء: 150 - 151]، وقد أمرنا الله بعدم التفريق بين الرسل والإيمان بهم جميعاً قُولُوَاْ آمَنّا بِاللهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ وَعِيسَىَ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]، ومن سار على هذا النهج فقد اهتدى فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ [البقرة: 137]، والذي يخالفه فقد ضلَّ وغوى وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 137]. وقد مدح الله رسول هذه الأمة والمؤمنين الذين تابعوه لإيمانهم بالرسل كلهم، ولعدم تفريقهم بينهم، قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285]. ووعد الله الذين لم يفرقوا بين الرسل بالمثوبة والأجر الكريم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 152]. وقد ذم الله أهل الكتاب لإيمانهم ببعض الرسل وكفرهم ببعض وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ [البقرة: 91]. فاليهود لا يؤمنون بعيسى ولا بمحمد، والنصارى لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 24

المبحث السادس: ثمرات الإيمان بالرسل

المبحث السادس: ثمرات الإيمان بالرسل ومن ثمرات الإيمان بالرسل: أولاً: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أرسل إليهم أولئك الرسل الكرام، للهداية والإرشاد. ثانياً: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى. ثالثاً: محبة الرسل، وتوقيرهم، والثناء عليهم بما يليق بهم، لأنهم رسل الله تعالى وخلاصة عبيده، قاموا لله بعبادته، وتبليغ رسالته، والنصح لعباده، والصبر على أذاهم عقيدة أهل السنة والجماعة لابن عثيمين - ص: 40.

الباب الثاني: عدد الأنبياء وطرق معرفتهم

الفصل الأول: الأنبياء والرسل جمّ غفير اقتضت حكمة الله تعالى في الأمم قبل هذه الأمّة أن يرسل في كلّ منها نذيراً، ولم يرسل رسولاً للبشرية كلّها إلاّ محمداً صلى الله عليه وسلم، واقتضى عدله ألاّ يعذب أحداً من الخلق إلاّ بعد أن تقوم عليه الحجة: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] من هنا كثر الأنبياء والرسل في تاريخ البشرية كثرة هائلة، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24]. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدّة الأنبياء والمرسلين، ((فعن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جمّاً غفيراً وقال مرة: خمسة عشر)) (¬1) وفي رواية أبي أمامة ((قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرُّسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غفيراً)) (¬2). من الأنبياء والرسل من لم يقصصهم الله علينا: وهذا العدد الكبير للأنبياء والرسل يدلنا على أنَّ الذين نعرف أسماءهم من الرسل والأنبياء قليل، وأنَّ هناك أعداداً كثيرة لا نعرفها، وقد صرّح القرآن بذلك في أكثر من موضع، قال تعالى: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164]، وقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّن لّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78]. فالذين أخبرنا الله بأسمائهم في كتابه أو أخبرنا بهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – لا يجوز أنّ نكذّبَ بهم، ومع ذلك فنؤمن أنَّ لله رسلاً وأنبياء لا نعلمهم. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 17 ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 178) (21586)، والحاكم (2/ 652)، والبيهقي (9/ 4) (18166). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 164): فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 309) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، والألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5669). (¬2) رواه أحمد (5/ 265) (22342). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. والحديث ضعفه ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 140)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 164): مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف.

الفصل الثاني: الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن

الفصل الثاني: الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن ذكر الله في كتابه خمسة وعشرين نبياً ورسولاً، فذكر في مواضع متفرقة آدم وهوداً وصالحاً وشعيباً وإسماعيل وإدريس وذا الكفل ومحمداً عليهم السلام. قال تعالى: إِنّ اللهَ اصْطَفَىَ آدَمَ ... [آل عمران: 33]، وقال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً [هود: 50]، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً [هود: 61]، وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً [هود: 84]، وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلّ مّنَ الصّابِرِينَ [الأنبياء: 85] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ... [الفتح: 29]. وذكر ثمانية عشر منهم في موضع واحد في سورة الأنعام وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام: 83 - 86]. أربعة من العرب: من هؤلاء الخمسة والعشرين أربعة من العرب، فقد جاء في حديث أبي ذر في ذكر الأنبياء والمرسلين: ((منهم أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر)) (¬1). ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل: العرب العاربة، وأمّا العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل (¬2)، وهود وصالح كانا من العرب العاربة. الأسباط: الأنبياء الذين سبق ذكرهم مذكورون في القرآن بأسمائهم، وهنا بعض الأنبياء أشار القرآن إلى نبوتهم، ولكننا لا نعرف أسماءهم، وهم الأسباط، والأسباط هم أولاد يعقوب، وقد كانوا اثني عشر رجلاً عرّفنا القرآن باسم واحد منهم وهو يوسف، والباقي وعددهم أحد عشر رجلاً لم يعرفنا الله بأسمائهم، ولكنه أخبرنا بأنّه أوحى إليهم، قال تعالى: قُولُوَاْ آمَنّا بِاللهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ [البقرة: 136]. وقال: أَمْ تَقُولُونَ أن إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ .. [البقرة: 140]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 18 ¬

(¬1) رواه ابن حبان (2/ 76) (361)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 166). وقال: تفرد به يحيى بن سعيد العبشمي عن ابن جريج، وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (2/ 388): [فيه] يحيى بن سعيد السعدي قال البيهقي: ضعيف وله طريق آخر، وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2122): ضعيف جداً. (¬2) ((البداية والنهاية)) (1/ 119 - 120).

الفصل الثالث: أنبياء مذكورون في السنة

الفصل الثالث: أنبياء مذكورون في السنة هناك أنبياء عرفناهم من السنة، ولم ينصّ القرآن على أسمائهم، وهم: 1 - شيث: يقول ابن كثير: (وكان نبيّاً بنصّ الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر مرفوعاً أنّه أنزل عليه خمسون صحيفة) (¬1). 2 - يوشع بن نون: روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غزا نبيٌّ من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولمّا يبنِ، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها، قال: فغزا، فأدنى للقرية حين صلاةِ العصر، أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهمَّ احبسها عليَّ شيئاً، فحسبت عليه حتى فتح الله عليه)) (¬2). والدليل على أنَّ هذا النبي هو يوشع قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الشمس لم تحبس إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس)) (¬3). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 21 ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (1/ 99). (¬2) رواه البخاري (3124)، ومسلم (1747) واللفظ له. (¬3) رواه أحمد (2/ 325) (8298). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الذهبي في ((ترتيب الموضوعات)) (106): صحيح، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 286): إسناده على شرط البخاري، وحسنه ابن الملقن في ((الإعلام)) (2/ 281)، وصححه ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 255).

الفصل الرابع: صالحون مختلف في نبوتهم

الفصل الرابع: صالحون مختلف في نبوتهم 1 - ذو القرنين: ذكر الله خبر ذي القرنين في آخر سورة الكهف، ومما أخبر الله به عنه أنه خاطبه قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف: 86]. فهل كان هذا الخطاب بواسطة نبيّ كان معه، أو كان هو نبيّاً؟ جزم الفخر الرازي بنبوته (¬1)، وقال ابن حجر: (وهذا مرويٌّ عن عبد الله بن عمرو، وعليه ظاهر القرآن) (¬2) ومن الذين نفوا نبوته عليُّ بن أبي طالب (¬3). 2 - تبع: ورد ذكر تبع في القرآن الكريم، قال تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبّعٍ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [الدخان: 37]، وقال: كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تّبّعٍ كُلّ كَذّبَ الرّسُلَ فَحَقّ وَعِيدِ [ق: 12 - 14]، فهل كان نبيّاً مرسلاً إلى قومه فكذبوه فأهلكهم الله؟ الله أعلم بذلك. الأفضل التوقف في أمر ذي القرنين وتُبّع: والأفضل أن يتوقف في إثبات النبوة لهذين، لأنه صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أدري أتُبّع نبيّاً أم لا، وما أدري ذا القرنين نبياً أم لا)) (¬4). فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري، فنحن أحرى بأن لا ندري. 3 - الخضر: الخضر هو العبد الصالح الذي رحل إليه موسى ليطلب منه علماً، وقد حدثنا الله عن خبرهما في سورة الكهف. وسياق القصة يدلّ على نبوته من وجوه (¬5): أحدها: قوله تعالى: فَوَجَدَا عَبْداً مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْماً [الكهف: 65]، والأظهر أنّ هذه الرحمة هي رحمة النبوة، وهذا العلم هو ما يوحى إليه به من قبل الله. الثاني: قول موسى له: هَلْ أَتّبِعُكَ عَلَىَ أَن تُعَلّمَنِ مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتّىَ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً [الكهف: 66 - 70] فلو كان غير نبيّ لم يكن معصوماً، ولم يكن لموسى – وهو نبيٌّ عظيم، ورسول كريم، واجب العصمة – كبيرُ رغبةٍ، ولا عظيم طلبة في علم وَليٍّ غير واجب العصمة، ولما عزم على الذهاب إليه، والتفتيش عنه، ولو أنَّه يمضي حقباً من الزمان، قيل: ثمانين سنة، ثمَّ لما اجتمع به، تواضع له، وعظّمه، واتبعه في صورة مستفيد منه، دلّ على أنه نبيٌّ مثله، يوحى إليه كما يوحى إليه، وقد خصّ من العلوم اللدنيَّة والأسرار النبويَّة بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم، نبيّ بني إسرائيل الكريم. الثالث: أنّ الخضر أقدم على قتل ذلك الغلام، وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام، وهذا دليل مستقلٌّ على نبوتَّه، وبرهان ظاهر على عصمته، لأنَّ الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده، لأنَّ خاطره ليس بواجب العصمة، إذ يجوز الخطأ عليه بالاتفاق، ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم علماً منه بأنّه إذا بلغ يكفر، ويحمل أبويه على الكفر لشّدة محبتهما له، فيتابعانه عليه، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته دلّ ذلك على نبوته وأنّه مؤيد من الله بعصمته. الرابع: أنّه لمَّا فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لموسى، ووضح له عن حقيقة أمره وجلاَّه، قال بعد ذلك كلّه: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82]، يعني ما فعلته من تلقاء نفسي، بل أمرت به، وأوحي إليّ فيه. الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 21 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (6/ 382). (¬2) ((فتح الباري)) (6/ 382). (¬3) رواه ابن أبى عاصم في ((السنة)) (2/ 597) (1318). (¬4) رواه الحاكم (1/ 92)، والبيهقي (8/ 329) (18050). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا أعلم له علة ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2217). (¬5) انظر: ((البداية والنهاية)) (1/ 326).

الفصل الخامس: لا تثبت النبوة إلا بالدليل

الفصل الخامس: لا تثبت النبوة إلاّ بالدليل يذكر علماء التفسير والسير أسماء كثير من الأنبياء نقلاً عن بني إسرائيل، أو اعتماداً على أقوال لم تثبت صحتها، فإن خالفت هذه النقول شيئاً مما ثبت عندنا من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم رفضناها، كقول الذين قالوا: (إنَّ الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى، وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين بعد عيسى) (¬1). نردّ هذّا كله، لأنَّه ثبت في الحديث الصحيح أنّه ليس بين عيسى ابن مريم وبين رسولنا صلوات الله وسلامه عليهما نبيٌّ (¬2).، فالرسل المذكورون في آية سورة يس إما رسل بعثوا قبل عيسى، وهذا هو الراجح، أو هم – كما يقول بعض المفسرين – مبعوثون من قبل عيسى وهذا بعيد، لأن الله أخبر أنّه مرسلهم، والرسول عند الإطلاق ينصرف إلى الاصطلاح المعروف، وما ورد من أنَّ خالد بن سنان نبي عربي ضيعه قومه فهو حديث لا يصحُّ، وهو مخالف لحديث صحيح أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أنَّ عدد الأنبياء الذين من العرب أربعة (¬3). أما ما ورد عن بني إسرائيل من أخبار بتسمية بعض الأنبياء مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة، فلا نكذَّبه، ولا نصدّق به، لأنَّ خبرهم يحتمل الصدق والكذب. الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 26 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (6/ 489). (¬2) رواه البخاري (3442)، ومسلم (2365) بلفظ: ((ليس بيني وبينه نبي)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه ابن حبان (2/ 76) (361)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 166). وقال: تفرد به يحيى بن سعيد العبشمي عن ابن جريج، وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (2/ 388): [فيه] يحيى بن سعيد السعدي قال البيهقي: ضعيف وله طريق آخر، وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2122): ضعيف جداً.

الفصل السادس: تفاضل الأنبياء

المبحث الأول: التفاضل بين الأنبياء والرسل يقول ابن كثير: (لا خلاف أن الرسول أفضل من بقية الأنبياء) (¬1). وقال السفاريني: (الرسول أفضل من النبي إجماعاً لتميزه بالرسالة التي هي أفضل من النبوة) (¬2). وقد بدأ الله بذكر الرسول قبل النبي في قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج: 52]. وقدم سبحانه الوصف بالرسالة على الوصف بالنبوة في قوله في كل من موسى وإسماعيل عليهما السلام: وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا [مريم: 51]. فلعل في هذه دلالة على فضل الرسول على النبي، إذا الترتيب كان قاضيا بتقديم النبي على الرسول، لأن النبوة تكون أولاً ثم الرسالة، ففي تقديمها على النبوة إفادة معنى. ودلل الماوردي على فضل الرسول فقال: (الرسول أعلى منزلة من النبي ولذلك سميت الملائكة رسلاً ولم يسموا أنبياء) (¬3). ولكن هذا الاستدلال على القول بتفضيل الملائكة على الأنبياء وهو مرجوح. كما سيأتي بيانه إن شاء الله. ومن أوجه فضل الرسل على الأنبياء: أن الرسالة في أصلها قدر زائد على النبوة فهي نبوة وزيادة، فالرسل ساووا الأنبياء في النبوة، وفضلوا عليهم بالرسالة – صلوات الله وسلامه على الجميع-، يقول القرطبي: (معلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل على غيره في الرسالة واستووا في النبوة). قال: (إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم وهذا مما لا خفاء فيه) (¬4). وفي قول القرطبي هذا وجه آخر من وجوه فضل الرسول على النبي وهو ما يلقاه الرسل دون الأنبياء من المنازعة مع أقوامهم، وذكر ابن القيم طبقات المكلفين فجعل الطبقة الأولى مرتبة أولي العزم من الرسل ثم الطبقة الثانية من عداهم من الرسل ثم قال: (الطبقة الثالثة الذين لم يرسلوا إلى أممهم وإنما كانت لهم النبوة دون الرسالة فاختصوا بإيحاء الله إليهم, وإرساله ملائكته إليهم، واختصت الرسل عنهم بإرسالهم إلى الأمة بدعوتهم إلى الله بشريعته وأمره واشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم) (¬5). ومن وجوه فضل الرسول على النبي: أن الرسالة تثمر هداية الكافرين وإزالة الشرك، أما النبوة فتثمر توجيه المؤمنين وصيانة أحكام الله فيهم، وهذا مستفاد مما ذكر من الفرق بين النبي والرسول أن النبي يبعث في مؤمنين, والرسول في كافرين، ولا شك أن هداية الكافر خير من تعليم المؤمن وفي كل خير، قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لما أمره بدعوة أهل خيبر إلى الإسلام: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)) (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 47). (¬2) ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 50). (¬3) ((أعلام النبوة)) (38). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (3/ 263). (¬5) ((طريق الهجرتين)) (ص: 350). (¬6) رواه البخاري (3009)، ومسلم (2406). من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

وهذا الإجماع المذكور على فضل الرسول على النبي واقع خلافاً للعز بن عبد السلام كما يقول السفاريني (¬1) فإن العز قال: (إن قيل أيهما أفضل النبوة أم الإرسال؟ فنقول: النبوة أفضل, لأن النبوة إخبار عما يستحقه الرب من صفات الجمال ونعوت الكمال، وهي متعلقة بالله من طرفيها، والإرسال دونها أمر بالإبلاغ إلى العباد، فهو متعلق بالله من أحد طرفيه وبالعباد من الطرف الآخر، ولا شك أن ما يتعلق بالله من طرفيه أفضل مما يتعلق به من أحد طرفيه، والنبوة سابقة على الإرسال فإن قول الله لموسى: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مقدم على قوله: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فجميع ما تحدث به قبل قوله: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ نبوة، وما أمره بعد ذلك من التبليغ فهو إرسال، والحاصل أن النبوة راجعة إلى التعريف بالإله وبما يجب له والإرسال إلى أمر الرسول بأن يبلغ عنه إلى عباده أو إلى بعض عباده ما أوجبه عليهم من معرفته, وطاعته, واجتناب معصيته، وكذلك الرسول عليه السلام لما قال له جبريل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى كان هذا نبوة، وكان ابتداء الرسالة حين جاء جبريل بـ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (¬2). ويظهر من كلام العز بن عبد السلام حصره سبب تفضيله النبي على الرسول في أمرين: الأول: أن النبوة متعلقة بالله من طرفيها، والإرسال متعلق بالله من أحد طرفيه وبالعباد من الطرف الآخر. الثاني: أن النبوة سابقة على الإرسال. أما الأول: فإنه لم يعين الطرفين ما هما على التحديد, إلا أنه بنى ذلك على تفريقه بين النبوة والرسالة بأن النبوة تعريف الله نبيه به سبحانه وبما يجب له, ومثاله في كلامه قول الله لموسى عليه السلام: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ , والرسالة الأمر بالتبليغ، ومثاله قوله سبحانه لموسى عليه السلام: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: قم فأنذر، فكان النبوة على هذا وحي خاص بالنبي لا يبلغه لغيره، والرسول من أمر بالتبليغ فرجع إلى قول من جعل الفرق بينهما أن النبي من أوحي إليه بوحي ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بوحي وأمر بتبليغه، وهو غير مسلم, فإن الإرسال ثابت لهما كما تقدم بيانه في مسألة الفرق، وثبوت الإرسال لهما يجعل النبوة متعلقة بالله وبالعباد كالرسالة, فيكون السبب المذكور في تفضيل النبي على الرسول منتقضاً. وأما الثاني: فإن سبق النبوة دليل على فضل الرسالة عليها لأنه لا يبلغ مرتبة الرسالة إلا من كان نبياً فهي مرتبة شريفة تفضل مرتبة النبوة، فلا يبلغ مبلغ الرسول إلا من كان نبياً أولاً. ونبوة الرسول تكون إعدادا له للقيام بأعباء الرسالة – وهذا مفهوم من كلام العز – فدل على فضل الرسالة على النبوة. وقد فهم السفاريني من كلام العز بن عبد السلام تخصيصه فضل النبوة على الرسالة في حال اجتماعهما في شخص واحد لا مطلقاً قال السفاريني: (الرسول أفضل من النبي إجماعاً، لتميزه بالرسالة التي هي أفضل من النبوة، على الأصح خلافاً لابن عبد السلام) إلى أن قال: (ثم أن محل الخلاف فيهما مع اتحاد محلهما وقيامهما معاً بشخص واحد, أما مع تعدد المحل فلا خلاف في أفضلية الرسالة على النبوة) (¬3). وقال في موضع آخر: (الرسالة أفضل من النبوة ولو في شخص واحد، خلافاً للعز بن عبد السلام في قوله أن نبوة النبي أفضل من رسالته لقصرها على الحق تعالى، إذ هي الإيحاء بما يتعلق بالباري جل شأنه من غير ارتباط له بالخلق، وأما مع تعدد المحل فلا خلاف في أفضلية الرسالة على النبوة ضرورة جمع الرسالة لها مع زيادة) قال: (على أن الصحيح المعتمد أفضلية الرسالة مطلقاً) (¬4). وليس في كلام العز الذي وجدته ونقلته إلا إطلاق تفضيل النبوة على الرسالة لا كما يذكر السفاريني إلا أن يكون وقف على غير ما وقفت عليه. هذا وقد جاء في كلام لابن حجر في ذكره وجوهاً في تعليل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عبادة من قول: ورسولك الذي أرسلت, ليقول: ونبيك الذي أرسلت في حديث الدعاء قبل النوم، وكان مما قاله: (أو لأن لفظ النبي أمدح من لفظ الرسول, لأنه مشترك في الإطلاق على كل من أرسل بخلاف لفظ النبي فإنه لا اشتراك فيه عرفاً) (¬5). وهذا في عرف اللغة لا في عرف الشرع، بل وصف الرسالة في عرف الشرع يستلزم وصف النبوة. فالصحيح أن الرسالة أفضل من النبوة، والرسول أفضل من النبي, فلفظ الرسول أمدح من لفظ النبي مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 124 ¬

(¬1) ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 50، 2/ 300). (¬2) ((قواعد الأحكام)) (237). (¬3) ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 50). (¬4) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 300). (¬5) ((فتح الباري)) (1/ 358).

المبحث الثاني: التفاضل بين الرسل

المبحث الثاني: التفاضل بين الرسل قال سبحانه وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 253]. فهذا نص في التفاضل بين الرسل خاصة من جملة الأنبياء، فقد ذكرهم الله عز وجل نصاً فقال: تِلْكَ الرُّسُلُ ثم ذكر سبحانه رسلاً مبيناً أوجه فضلهم. وقال سبحانه: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء: 55]. والرسل داخلون في هذا الإطلاق وهو إطلاق يفهم منه تفاضل الرسل فيما بينهم فإنه غير مانع من أن يكون الرسل من الأنبياء متفاضلين فيما بينهم. وأفضل الرسل أولوا العزم منهم، قال سبحانه وتعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ [الأحقاف: 35]. فامتدحهم الله عز وجل بالعزم, وخصهم بالذكر من بين رسله، وأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وقد فضله على جميع خلقه أن يقتدي بهم. يقول ابن تيمية رحمه الله: (أفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولو العزم) (¬1). وقال ابن كثير: (لا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء, وأن أولي العزم منهم أفضلهم) (¬2). ومعنى العزم الذي امتدحهم الله وفضله به: الحزم والصبر، فإن العزم في أصل اللغة دال على الصريمة والقطع واجتماع القلب على الشيء، وفي كتاب الله ما يدل على تفسير العزم بالصبر دلالة ظاهرة قال سبحانه: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186]. وقال سبحانه حاكياً قول لقمان لابنه: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان: 17]. وقال سبحانه: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 43]. وفي ذات الآية المذكورة فيها أولو العزم بهذه الصفة ذكر الصبر فقد أمر الله فيها نبيه بالصبر اقتداء بأولي العزم في صبرهم. والمقصود بالصبر، الصبر على أعباء الرسالة, وأمانة أدائها, وتحمل مشاقها، والصبر على أذى المرسل إليهم، مع الحزم في الدعوة وأداء الرسالة، ونحوه من المعاني. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص: 129 ¬

(¬1) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 7). (¬2) ((التفسير)) (3/ 47).

المبحث الثالث: أولو العزم

المطلب الأول: تعيين أولي العزم أولو العزم هم بعض الرسل لا كلهم كما نقل عن بعض السلف ممن حمل (من) الآية على التجنيس لا التبعيض (¬1). فإن خروج بعض الرسل من أن يكونوا معنيين في الآية ثابت في كتاب الله، فالله عز وجل أمر نبيه في هذه الآية بالاقتداء بأولي العزم، ونهاه في آية أخرى عن أن يكون كصاحب الحوت يونس عليه السلام إذ قال سبحانه: وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم: 48]. ويونس عليه السلام رسول، قال سبحانه: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 139]. وقال: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147]. وقيل: أولو العزم هم كل الأنبياء عدا يونس عليه السلام (¬2) وهو مرجوح بأمرين ورد الدليل بهما: الأول: أن الآية نص في أنهم من الرسل لا من الأنبياء غير الرسل. الثاني: أن الله نفى العزم عن آدم عليه السلام وهو نبي, ولم يستثنه أصحاب هذا القول قال سبحانه: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115]. وما من شك أن الله لم يرسل رسولاً إلا وهو ذو عزم وجد في طاعة الله فيما ائتمنه عليه، ولكن خص هؤلاء بالذكر والتفضيل لأنهم أعظم وأكمل عزماً من غيرهم، والله أعلم. وقد اختلفت الأقوال في تعيين أولي العزم من هم (¬3). ويمكن تصنيفها إلى قسمين: الأول: قول من جعل التعيين بالصفة لا بالتسمية: كقول من قال: إنهم الذين امتحنوا في ذات الله في الدنيا بالمحن فلم تزدهم المحن إلا جداً في أمر الله (¬4). وقول من قال: إنهم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة، وهو مروي عن الشعبي ومجاهد والسدي وغيرهم (¬5). وقول من قال: إنهم الذين لم تصبهم فتنة من الأنبياء، وهو مروي عن الحسن (¬6). وقول من قال: إنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد والشعبي (¬7). ولم تذكر للقائلين بما تقدم أدلة لما قالوه. والثاني: قول من جعل التعيين بالتسمية، وهي أقوال: فقيل: هم الثمانية عشر المذكورين في سورة الأنعام الآيات 84 – 86 لقوله سبحانه في عقب ذكرهم أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام: 90]. وهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط (¬8). وهو قول يضعفه أمران: أحدهما: أن فيهم أنبياء ليسوا برسل كزكريا ويحيى وهما من أنبياء بني إسرائيل، وأولوا العزم رسل. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (26/ 24) و ((تفسير البغوي)) (4/ 176) و ((زاد المسير)) (7/ 392) و ((تفسير ابن كثير)) (4/ 173). (¬2) ((تفسير البغوي)) (4/ 176) و ((زاد المسير)) (7/ 392) ((تفسير القرطبي)) (16/ 220). (¬3) ((تفسير الطبري)) (26/ 24) و ((تفسير البغوي)) (4/ 176) و ((زاد المسير)) (7/ 392) و ((تفسير ابن كثير)) (4/ 173) و ((تفسير القرطبي)) (16/ 220) و ((الدر المنثور)) (6/ 45) وغيرها. (¬4) ((تفسير الطبري)) (26/ 24). (¬5) ((تفسير البغوي)) (4/ 176) و ((تفسير القرطبي)) (16/ 220) و ((زاد المسير)) (7/ 392). (¬6) ((زاد المسير)) (7/ 392). (¬7) ((تفسير البغوي)) (4/ 176) و ((تفسير القرطبي)) (16/ 220) و ((زاد المسير)) (7/ 392). (¬8) ((تفسير البغوي)) (4/ 176) و ((تفسير القرطبي)) (16/ 220) و ((زاد المسير)) (7/ 392).

ثانيهما: أنهم لم يخصوا تعييناً في أمره سبحانه نبيه بالاقتداء بهم، فقد قال سبحانه بعد أن ذكرهم وقبل الأمر بالاقتداء وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فهو أمر بالاقتداء بهدي الأنبياء جملة، قال ابن كثير في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (أولئك: يعني الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه) (¬1). وقيل: هم ستة: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وهم المذكورون على النسق في سورتي الأعراف والشعراء (¬2). وقيل غير ذلك (¬3)، ولكن الأشهر المتداول في كتب العلم أنهم خمسة وهم: محمد، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وهم الخمسة المذكورون نصاً في قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب: 7] , وفي قوله سبحانه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] فقد خصهم الله عز وجل بالذكر في هاتين الآيتين من بين الأنبياء، وهو تنبيه إلى فضلهم بين سائر الأنبياء، وقد خصهم سبحانه بالذكر في ذكره أعظم الأمور وأفضلها وأغلظها، وهو الميثاق الذي قال فيه: وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب: 7] , والوصايا التي شرعها لخلقه، وذلك ما أخذ على جميع النبيين وبعث به جميع النبيين، وهو العهد الذي بين الله وخلقه، وهو إقامة دين الله, وعدم التفرق فيه, وإسلام الوجه له سبحانه, والدعوة إلى ذلك, والمجاهدة فيه والموالاة فيه والبراءة فيه، وهؤلاء الخمسة صلوات الله وسلامه عليهم أكمل وأعظم من قام بهذا الميثاق، ولذا خصوا بالذكر، وهم الذين تفزع الأمم إليهم في الموقف يوم القيامة بعد أبيهم آدم فيتراجعونها حتى تنتهي إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما في حديث الشفاعة (¬4). والقول بأنهم هم أولو العزم، مروي عن ابن عباس وغيره من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: خيار ولد آدم خمسة نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم وصلى الله وسلم عليهم أجمعين (¬5). قال أبو حاتم في آية الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ: (أجمل النبيين ثم قال: وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فأفردهم تفضيلاً لهم على سائر الأنبياء) (¬6). يقول ابن القيم في بيان طبقات المكلفين: (الطبقة الأولى وهي العليا على الإطلاق مرتبة الرسالة فأكرم الخلق وأخصهم بالزلفى لديه رسله) قال: (وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم المذكورين في قوله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وهؤلاء هم الطبقة العليا في الخلائق وعليهم تدور الشفاعة حتى يردوها إلى خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم) قال: (الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل على مراتبه من تفضيلهم بعضهم على بعض) (¬7) .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص: 131 ¬

(¬1) ((التفسير)) (2/ 156) و ((زاد المسير)) (7/ 392). (¬2) ((تفسير البغوي)) (4/ 176) و ((تفسير القرطبي)) (16/ 220). (¬3) ((تفسير البغوي)) (4/ 176) و ((تفسير القرطبي)) (16/ 220) و ((الدر المنثور)) (6/ 45). (¬4) حديث الشفاعة رواه البخاري (4712)، ومسلم (194). (¬5) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (8/ 258)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (62/ 271). قال الهيثمي: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. (¬6) ((كتاب النخل)) (ص: 40). (¬7) ((طريق الهجرتين)) (249).

المطلب الثاني: تفاضل أولي العزم

المطلب الثاني: تفاضل أولي العزم وقد ذكر الله عز وجل أولي العزم في آيتي الأحزاب والشورى المذكورتين، وقد بدأ سبحانه في الآيتين بذكر الطرفين أول الرسل وخاتمهم، وذكر بعدهما الثلاثة مبتدأ بإبراهيم, ثم موسى, ثم عيسى, بحسب ترتيب وجودهم عليهم الصلاة والسلام، وقد بدأ سبحانه في آية الأحزاب بذكر محمد صلى الله عليه وسلم لشرفه وفضله عليهم وذلك لأن في الآية ذكر للنبيين في الجملة تعميماً ثم خص سبحانه أفضلهم بالذكر بعد دخولهم في العموم فناسب لذلك الابتداء بذكر محمد صلى الله عليه وسلم لكونه أفضل هؤلاء المفضلين، وفي الآية ذكر للميثاق المأخوذ على النبيين فهي متعلقة بالأنبياء خاصة ولذلك قدم محمد صلى الله عليه وسلم في الذكر للوجه المذكور قال سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7]. أما آية الشورى فمتعلقة بالشريعة التي بعثوا بها. ولذا بدأ سبحانه بنوح قبل محمد عليهما الصلاة والسلام، لأن الآية في ذكر دين الإسلام وما وصى الله به الرسل، فناسب ذلك أن يبدأ بنوح، لأن رسالته أول الرسالات، ففيه بيان جلي أن أول رسالات الرسل أوصت بما شرع لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من الدين، فهو دين أصيل مستقيم لا عوج فيه ولا اضطراب، ثم ذكر سبحانه من بين من توسطوا بين محمد ونوح أشهر أصحاب الشرائع وأفضلهم (¬1). قال سبحانه شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا [الشورى: 13]. فمحمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل أولي العزم بلا خلاف، يقول ابن كثير: (لا خلاف أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم ثم بعده إبراهيم, ثم موسى, ثم عيسى عليهم السلام على المشهور) (¬2). يعني ابن كثير أن نوحاً آخرهم في ترتيبهم في الفضل، وقوله: (على المشهور) كأنه إشارة إلى وجود خلاف في ترتيبهم في الفضل بعد محمد صلى الله عليه وسلم, وقد قطع بأن إبراهيم بعده في الفضل في موضع آخر فقال في إبراهيم: (هو أشرف أولي العزم بعد محمد صلى الله عليه وسلم) (¬3). وقد نص السفاريني على اختلاف العلماء في من يلي النبي صلى الله عليه وسلم في الفضيلة منهم، وذكر أن المشهور أنه إبراهيم، قال: (وقد اختلف العلماء في من يلي النبي صلى الله عليه وسلم في الفضيلة منهم، والمشهور واختاره ابن حجر في شرح البخاري أنه إبراهيم خليل الرحمن، لما ورد أن إبراهيم عليه السلام خير البرية، خص منه محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع، فيكون أفضل من موسى وعيسى ونوح عليهم السلام، والثلاثة بعد إبراهيم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين، قال الحافظ ابن حجر ولم أقف على نقل أيهم أفضل, والذي ينقدح في النفس تفضيل موسى فعيسى فنوح عليهم الصلاة والسلام) (¬4). وذكر السيوطي أن الإجماع منقول على تقديم إبراهيم عليه السلام، فبعد أن ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله على الإطلاق قال: (فخليله إبراهيم يليه في التفضيل، فهو أفضل الخلق بعده، نقل بعضهم الإجماع على ذلك، وفي الصحيح خير البرية إبراهيم خص منه النبي صلى الله عليه وسلم فبقي على عمومه) قال السيوطي: (فموسى وعيسى ونوح الثلاثة بعد إبراهيم أفضل من سائر الأنبياء ولم أقف على نقل أيهم أفضل) (¬5). ¬

(¬1) ((الأنموذج الجليل)) (2/ 77) و ((فتح الرحمن)) (458) و ((روح المعاني)) (21/ 154). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (5/ 88). (¬3) ((البداية والنهاية)) (1/ 170). (¬4) ((اللوامع)) (2/ 300). (¬5) ((إتمام الدراية)) (17) بهامش مفتاح العلوم.

وتعقب المناوي السيوطي في كلامه هذا فقال: (وفاته – (يعني وفات السيوطي) – أن الفخر الرازي حكى الإجماع على تقديم موسى وعيسى على نوح فإنه قال في أسرار التنزيل: لا نزاع في أن أفضل الأنبياء والرسل هؤلاء الأربعة محمد وإبراهيم وموسى وعيسى) (¬1). والحاصل أن النص دال على تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم والإجماع منعقد عليه. وكذا يدل النص على أن إبراهيم يليه في التفضيل لحديث أنس قال: ((قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك إبراهيم)) (¬2). وقال السيوطي وابن حجر – كما نقله السفاريني عنه - أنهما لم يقفا على نقل أي الثلاثة أفضل بعد إبراهيم عليه السلام، ولكن النقل دال على تقديم موسى على عيسى عليهما السلام, ففي أحاديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعيسى في السماء الثانية, ومر بموسى في رواية في السادسة، وفي أخرى في السابعة (¬3)، يعني في منزلة أعلى من منزلة عيسى عليهم الصلاة والسلام، فموسى أفضل من عيسى، فبقي ترتيب نوح عليه السلام هل هو مقدم عليهما أم مؤخر عنهما أم هو بينهما؟ ولا نقل يدل على شيء من ذلك وليس الأمر مورد اجتهاد, وغاية ما يستطيعه من اجتهد بتأخير نوح الاستدلال بنصوص غاية ما فيها إثبات منقبة لكل واحد منهم من غير تخيير بين المناقب. وتقديم أحدهما عليه أو تأخيره عنه – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – بتفضيل منقبة على أخرى مما لا يقبل اجتهاداً حتى يقوم عليه دليل، لأن ثبوت منقبة لا يستلزم التفضيل بها حتى يرد النص بالتفضيل، فالواجب اعتقاده فضل نوح عليه السلام بعد إبراهيم على الجملة من غير تعيين ترتيبه مع موسى وعيسى عليهم السلام، فيكون حاصل القول في تفاضل أولي العزم أن أفضلهم محمد ثم يليه إبراهيم ثم نوح وموسى وعيسى. وموسى أفضل من عيسى عليهم الصلاة والسلام أجمعين، والله أعلم. هذا الذي أراه – والله ورسوله بريئان من خطأي – أنه لا يفاضل بين نوح وكل من موسى وعيسى لعدم ورود نص في ذلك، ولكن المشهور بين أهل العلم - على قول ابن كثير المتقدم – تقديم موسى بعد إبراهيم، وإن صح قول الرازي الذي نقله المناوي عنه ... أن لا نزاع في تأخير نوح عن الأربعة أولي العزم الباقين، وإن صح كون ذلك إجماعاً فبها ونعمت, وإلا فالرأي عندي ما ذكرته، والله أعلم .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص: 136 ¬

(¬1) ((فيض القدير)) (3/ 464). (¬2) رواه مسلم (2369). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) ليس هناك من الروايات والأحاديث الصحيحة ما يفيد بأن موسى في السماء السابعة إنما هو في السماء السادسة وإبراهيم هو الذي في السابعة. والحديث رواه البخاري (3035)، ومسلم (164). من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه.

المطلب الثالث: بعض خصائص أولي العزم

المطلب الثالث: بعض خصائص أولي العزم أما إبراهيم عليه السلام فمن فضائله وخصائصه عليه السلام أنه خليل الرحمن لم يشاركه في الخلة إلا محمد صلى الله عليهما وسلم، قال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء: 125]. وقد جعله الله عز وجل إماماً للناس يقتدون به ويهتدون بهديه، قال سبحانه: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]. وقال سبحانه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120]. وقال سبحانه: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة: 130]. وقد أجرى الله على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً لناس ومثابة وأمناً وعهد الله إليه ولابنه تبعاً له تطهير البيت للطائفين, والعاكفين, والركع, والسجود. وأمر سبحانه المؤمنين باتخاذ مقامه مصلى قال سبحانه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125]. وقال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]. وقد حصر الله النبوة والكتاب من بعده في ذريته عليه السلام، قال سبحانه: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27]. فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته، وهو عليه السلام أول من يكسى يوم القيامة كما في المتفق عليه من حديث ابن عباس قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: ((إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً – كما بدأنا أول خلق نعيده – الآية وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم)) (¬1). وقد جمع الله له منزلتين عظيمتين, قال سبحانه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا [مريم: 41] فجمع له بين الصديقية والنبوة، وفضائله أكثر من أن تحصر عليه السلام, وما علمناه غيض من فيض مما جهلناه في إبراهيم عليه السلام. وأما نوح – عليه السلام – فقد جاهد في الله حق جهاده وهو أول رسول بعث في الناس بعد اختلافهم على دينهم, واجتيال الشيطان لهم، وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً باذلاً وسعه في الدعوة إلى الله ليلاً ونهاراً, سراً وجهاراً، صابراً على أذى قومه، لا تثنيه عن الدعوة إلى ربه سفاهاتهم وتعدياتهم، قال سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 14 - 15]. ¬

(¬1) رواه البخاري (3349)، ومسلم (2860).

وقال سبحانه في نوح: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح: 5 - 10]. وقال سبحانه عن قوم نوح: قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [هود: 32 - 33]. وأما موسى عليه السلام فهو كليم الله اشتهر من بين الأنبياء بهذه الحلية قال سبحانه: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164]. وقال سبحانه: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 143 - 144]. وقد ورد ذكر تكليم الله موسى في مواضع من كتاب الله. وهو عليه السلام المعني في قوله سبحانه: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ في قول كافة المفسرين، وقد ثبت تكليم الله آدم عليه السلام في كتاب الله، في نحو قوله سبحانه: قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ [البقرة: 33]. وقوله: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ [البقرة: 35]. وقوله: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه: 117]. وما بعدها، وظاهر هذا أنه كان كفاحاً بغير واسطة الملك (¬1). وفي حديث أبي ذر في عدد الأنبياء والرسل المتقدم ذكره أنه سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي مكلم هو؟ فقال: ((نعم نبي مكلم)) (¬2). قال ابن عطية: (وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة فعلى هذا تبقى خاصية موسى) (¬3). وقد حمل بعضهم قوله سبحانه في سورة النجم: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى على أن الله أوحى إلى محمد ليلة المعراج كفاحاً بلا واسطة (¬4) فيكون تكليماً، وحمله آخرون على أن الله أوحى إلى محمد بواسطة جبريل (¬5) ¬

(¬1) ((أضواء البيان)) (1/ 194). (¬2) رواه أحمد (5/ 178) (21586)، والطبراني (8/ 217) (7871). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 164): فيه المسعودى وهو ثقة ولكنه اختلط، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 309) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، والألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5669). (¬3) ((المحرر الوجيز)) (2/ 271). (¬4) ((تفسير الطبري)) (27و28) و ((زاد المسير)) (8/ 67) وو ((تفسير ابن كثير)) (4/ 250) و ((الدر المنثور)) (6/ 123). (¬5) ((تفسير الطبري)) (22/ 506) ..

فلا يكون تكليماً، قال ابن كثير: (وكلا المعنيين صحيح) (¬1) كأنه يرى أن الأمرين قد وقعا وهو قد قال في قوله سبحانه: مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ في آية البقرة ما نصه: (يعني موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم وكذلك آدم) (¬2). وإن صح تكليم الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج قد يتأول أنه وقع في السماء, فتبقى خاصية موسى عليه السلام. ومر من فضائله – عليه السلام – كونه في السماء السادسة، وقد آتاه الله عز وجل تسع آيات بينات إلى فرعون وقومه ظهرت بهن حجته وقامت بينته أيده الله بهن قال سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء: 101]. وقال عز وجل: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [النمل: 12]. وأما عيسى عليه السلام فاختص من بين سائر الخلق بأنه ولد لأم من غير أب، وإنما نفخ جبريل في درع جيب مريم فحملت بعيسى عليه السلام وتكلم في المهد وآتاه الله من البينات ما فضله به في قوله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 253]. وقد حكى الله كلام عيسى في المهد فكان مما قاله وتظهر فيه من فضائله عليه السلام غرر: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 30 - 33]. وقد قال سبحانه في ذكر ولادة عيسى عليه السلام: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [مريم:16 - 22]. وكان من الآيات التي آتاها الله عيسى عليه السلام ما ذكره سبحانه في قوله: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [المائدة: 110]. وقد رفعه الله عز وجل إليه، فهو حي في السماء وهو في الثانية كما في أحاديث الإسراء، قال سبحانه في تكذيب اليهود في دعواهم قتله عليه السلام: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء: 157 - 158]. وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم إذ ليس في الأنبياء حي إلا هو. وسينزل عليه السلام في آخر الزمان كما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وهذا من خصائصه عليه السلام، قال سبحانه: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 159]. وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بنزول عيسى عليه السلام قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم ((كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم)) (¬4). وأجمعت الأمة على نزوله عليه السلام آخر الزمان (¬5). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 141 ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 250). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 250). (¬3) رواه البخاري (2222)، ومسلم (155). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (3449)، ومسلم (155). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((البحر المحيط)) (2/ 473) و ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 94).

المبحث الرابع: تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق

المبحث الرابع: تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء على الإطلاق بل هو خير الخلائق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاءت في ذلك نصوص لا تحصى كثرة فيما أوحاه الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وفيما كتب وروي من أقوال الأئمة المهديين من السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين. قال سبحانه وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة: 253]. والمعنى بقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس والشعبي ومجاهد وغيرهم (¬1). قال الزمخشري في هذه الجملة من الآية: (أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة) قال: (والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد) إلى أن قال: (وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه, والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه) (¬2). وقد خص سبحانه في الآية بالذكر من وجوه التفضيل، التفضيل بالآيات فقال: مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ , وقال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ قال الزمخشري: (وهذا دليل بين أن من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره، ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها، كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع) (¬3). وذهب بعض المفسرين إلى احتمال أن يراد بقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ محمد وغيره على الإجمال (¬4). إلا أنه (يتعين أن يكون المراد من البعض هنا واحداًَ من الرسل معيناً لا طائفة، وتكون الدرجات مراتب من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد، لأنه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مجملاً، ومن الدرجات درجات بينهم، لصار الكلام تكرار مع قوله فضلنا بعضهم على بعض، ولأنه لو أريد بعض فضل على بعض لقال: ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ (¬5). بعد قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ [الأنعام: 165]. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (3/ 2)). و ((تفسير البغوي)) (1/ 236) و) و ((تفسير القرطبي)) (3/ 264) و ((الدر المنثور)) (1/ 322). (¬2) ((الكشاف)) (1/ 151). (¬3) ((الكشاف)) (1/ 151). (¬4) ((المحرر الوجيز)) (2/ 271) و ((زاد المسير)) (1/ 301) وغيرهما. (¬5) ((ما بين القوسين بنصه من التحرير والتنوير)) (3/ 6).

وقال سبحانه: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء: 55]. ذكر المفسرون أن الآية في محاجة اليهود وأن المعنى: وإنكم لم تنكروا تفضيل النبيين فكيف تنكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). وقال الزمخشري: (قوله: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا دلالة على وجه تفضيله، وهو أنه خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم لأن ذلك مكتوب في زبور داود وقال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وهم محمد وأمته) (¬2). وقد احتج العلماء – كما يقول الخازن – بقوله تعالى في الأنعام: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام: 90] لكون النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء لأن ما تفرق في الأنبياء من خصال الفضل اجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة)) (¬4). وفي رواية من حديث أبي هريرة: ((فضلت على الأنبياء بست)) (¬5). فذكر أربعاً من الخمس المتقدمة إلا الشفاعة وزاد خصلتين هما: ((أعطيت جوامع الكلم)) و ((ختم بي النبيون)) فتحصل من الروايتين سبع خصال. ومن حديث حذيفة: ((فضلنا على الناس بثلاث)) (¬6). وفي روايات أن الخصائص أربع وروايات أنها اثنتين، ويتحصل من مجموع الروايات جملة من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي فضل بها على الأنبياء تزيد كثيراً على ما حدد في كل رواية من عدد، ذكر ابن حجر أنه ينتظم من الروايات سبع عشرة خصلة قال: (ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع) ونقل عن بعض أهل العلم أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة (¬7). وأما اختلاف الروايات في تحديد العدد فإنه لا تعارض فيه، يقول ابن حجر في ذلك: (وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولاً على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجه يدفع هذا الإشكال من أصله) (¬8). وفي أحاديث الشفاعة من بيان فضله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء ما هو ظاهر، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنه يرغب إليه فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه الصلاة والسلام (¬9). وقال صلى الله عليه وسلم: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)) (¬10). وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً)) (¬11) وقال: ((لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد)) (¬12). ¬

(¬1) ((تفسير البغوي)) (3/ 120)). و ((تفسير الرازي)) (20/ 23) و) و ((تفسير القرطبي)) (1/ 278) و ((تيسير الكريم الرحمن)) (4/ 143). (¬2) ((الكشاف)) (2/ 364). (¬3) ((تفسير الخازن)) (2/ 157). (¬4) رواه البخاري (438)، ومسلم (521). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (523). (¬6) رواه مسلم (522). (¬7) ((فتح الباري)) (1/ 439). (¬8) ((فتح الباري)) (1/ 436). (¬9) الحديث رواه مسلم (820). (¬10) رواه مسلم (197). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬11) رواه مسلم (196). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬12) رواه مسلم (196). من حديث أنس رضي الله عنه.

ولقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع, وأول مشفع)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) (¬2). ومن حديث أبي بكر الصديق في الشفاعة أن عيسى عليه السلام يقول للناس إذا أتوه يستشفعونه: ((انطلقوا إلى سيد ولد آدم)) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء شفاعته: ((رب خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) (¬4). وفي معنى ((ولا فخر)) قال ابن الجوزي: (قال ابن الأنباري: المعنى لا أتبجح بهذه الأوصاف وإنما أقولها شكراً لربي ومنبهاً أمتي على إنعامه علي، وقال ابن عقيل: إنما نفي الفخر الذي هو الكبر الواقع في النفس المنهي عنه الذي قيل فيه: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] ولم ينف فخر التجمل بما ذكره من النعم التي بمثلها يفتخر، ومثله قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] يعني الأشرين، ولم يرد الفرح بنعمة الله تعالى) (¬5) وقد قال سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] فأمره سبحانه بالفرح بفضله. وظاهر من النصوص أوجه تفضيله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء فبعثه إلى الناس كافة، وشريعته أكمل الشرائع، وهو أعظم الناس أمة، وختم الله به النبوات، إلى غير ذلك من معجزاته عليه الصلاة والسلام فهو أكثر الأنبياء آيات، وقد ذكر أن آياته صلى الله عليه وسلم تبلغ ألفاً أو أكثر (¬6). وقد نحى بعض أهل العلم إلى المفاضلة بين معجزاته صلى الله عليه وسلم ومعجزات الأنبياء مبيناً في كل معجزة لنبي أن نبينا أوتي خيراً منها (¬7). ولقد أجمعت الأمة على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق (¬8). وهو في كلام الأئمة سلفاً وخلفاً كثير، فمن ذلك ما نقل من عقيدة الإمام أحمد إمام أهل السنة أنه (كان يعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل, وخاتم الأنبياء, والشهيد على الجميع) (¬9). وأنه كان يقول: (إن بعض النبيين أفضل من بعض ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم) (¬10). وعقد النووي في شرح صحيح الإمام مسلم باباً قال: (باب تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق) (¬11). ¬

(¬1) رواه مسلم (2278). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2278). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه أحمد (1/ 4) (15) واللفظ له، وابن حبان (14/ 393) (6476)، وأبو يعلى (1/ 56) (56)، وابن أبي عاصم (751). قال ابن القيم في ((حادي الأرواح)) (255): متواتر، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 377): رجاله ثقات، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 29). (¬4) رواه الترمذي (3148)، ابن ماجه (3496) واللفظ له. من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬5) ((صفة الصفوة)) (1/ 183) ((فيض القدير)) (3/ 42). (¬6) ((دلائل النبوة للبيهقي)) (5/ 500) و ((الكشاف)) (1/ 151). (¬7) كما فعل أبو نعيم في ((الدلائل)) من (ص 537 - 564). (¬8) ((تفسير الرازي)) (6/ 195) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 47) و ((الشفا)) (1/ 226). (¬9) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 279). (¬10) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 306). (¬11) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (15/ 37).

وعقد الآجري باباً في كتابه (الشريعة) فقال: (باب ذكر ما فضل الله عز وجل به نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا من الكرامات على جميع الأنبياء) (¬1) وقال الحافظ عبد الغني المقدسي في عقيدته: (فصل: ونعتقد أن محمداً المصطفى خير الخلائق وأفضلهم وأكرمهم على الله عز وجل وأعلاهم درجة وأقربهم إلى الله وسيلة) (¬2). ومما ينبغي أن يعلم ما اختص به بعض الأنبياء من الفضائل لا يقتضي أفضليته على صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون – صلوات الله وسلامه عليهم-، فإن المفضول يجوز أن يختص بما ليس للفاضل من غير أن يفضله بما اختص به، وقد وقع نحو هذا في نبينا صلى الله عليه وسلم وبعض أتباعه من الصحابة رضوان الله عليهم وهم دون الأنبياء في الفضل، فهذا عمر رضي الله عنه أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان ينفر منه قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك)) (¬3)، وعرض له صلى الله عليه وسلم الشيطان في صلاته ولم ينفر منه كما في حديث أبي هريرة (¬4) قال القرافي في هذا: (وأين عمر من النبي عليه السلام، غير أنه لا يجوز أن يحصل للمفضول ما لا يحصل للفاضل) قال: (ومن ذلك أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أفضل من الملائكة على الصحيح، وقد حصل للملائكة المواظبة على العبادة مع جميع الأنفاس، يلهم أحدهم التسبيح كما يلهم أحدنا النفس إلى غير ذلك من الفضائل والمزايا التي لم تحصل للبشر، ومع ذلك فالأنبياء أفضل منهم لأن المجموع الحاصل للأنبياء من المزايا والمحاسن أعظم من المجموع الحاصل للملائكة, فمن استقرى هذا وجده كثيراً) إلى أن قال: (فعلى هذه القاعدة تخرجت الإقامة والأذان وأن من خواصهما التي جعل الله تعالى لهما أن الشيطان ينفر منهما دون الصلاة, وأن الصلاة أفضل منهما, ولا تناقض في ذلك بسبب أن المفضول يجوز أن يختص بما ليس للفاضل) (¬5). فالحاصل أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلائق ولا يلتفت إلى غير هذا، ولقد زعم قوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أفضل من إبراهيم ولا من نوح ولا من آدم عليهم السلام لأن الثلاثة آباؤه، وامتنعوا من تفضيل الابن على الأب، وفضلوه على كل نبي لم يكن أبا له (¬6). قال البغدادي: (وقياسهم يقتضي أن لا يكون أفضل من إدريس ولا من إسماعيل لأنهم أبواه) (¬7) ولم ينصوا عليهما، فهم ينطقون عن جهل وسفه، وكذا يقتضي قياسهم أن يكون الأب الكافر المخلد في النار خير من الابن المؤمن المخلد في الجنة كمن نزل فيهم قوله سبحانه: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22]. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 147 ¬

(¬1) ((الشريعة)) (ص: 498). (¬2) ((عقيدة الحافظ المقدسي، ضمن المجموعة العلمية السعودية)) (ص: 52). (¬3) رواه البخاري (3294)، ومسلم (2396). من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. (¬4) الحديث رواه البخاري (3423) بلفظ: ((إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي*ص: 35* فرددته خاسئا)). (¬5) ((الفروق)) (2/ 144). (¬6) ((أصول الدين)) (165). (¬7) ((أصول الدين)) (165).

المبحث الخامس: توجيه النهي الوارد في التفضيل بين الأنبياء

المبحث الخامس: توجيه النهي الوارد في التفضيل بين الأنبياء لابد من اعتقاد التفاضل بين الأنبياء واعتقاد فضل الرسل على الأنبياء وفضل أولي العزم على بقية الرسل وفضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، لقيام الأدلة الشرعية الصريحة الصحيحة على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن التفضيل بين الأنبياء، ونهيه عن تفضيله خاصة على بعض الأنبياء، وفي هذا إشكال يظهر لناظره ويزول لمتأمله، وقد خرج العلماء وجوهاً من القول في توجيه ذلك النهي. أما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيروا بين الأنبياء)) , وفي رواية ((لا تفضلوا بين الأنبياء)) وهو واقع في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي، فقال: يا أبا القاسم، ضرب وجهي رجل من أصحابك، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث، على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء .. )) الحديث (¬1)، وفي رواية: ((لا تخيروني بين الأنبياء)) (¬2) وفي رواية: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)) (¬3) , وروى القصة أبو هريرة بنحوه إلا أنه قال: ((لا تخيروني على موسى)) (¬4) وفي حديث ثان قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (¬5) إلا أن النهي في هذا الحديث يحتمل التأويل على وجهين: الأول: أن يكون المراد بقوله (أنا): رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، قال الخطابي: (وهذا أولى الوجهين وأشبههما بمعنى الحديث، فقد جاء من غير هذا الطريق أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (¬6) فعم الأنبياء كلهم فدخل هو في جملتهم) (¬7). الثاني: أن يكون إنما أراد صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا ينبغي لعبد)): من سواه من الناس، أي لا ينبغي للعبد القائل أن يقول ذلك (¬8). وقد دل على أن هذا هو الأولى في معنى الحديث جملة من ألفاظ الحديث في عدد من رواياته في الصحيحين، ففي رواية: ((لا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متى)) (¬9) وفي رواية: ((من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) (¬10) فلا يصح مع قوله: ((فقد كذب)) أن يكون المراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية يقول صلى الله عليه وسلم: ((قال – يعني الله تبارك وتعالى – لا ينبغي لعبد لي (وفي لفظ: لعبدي) أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (¬11). فقوله: ((لعبد لي)) يمنع أن يكون المراد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة. ¬

(¬1) رواه البخاري (2412) ومسلم (163)، (2374). (¬2) رواه البخاري (6916). (¬3) رواه البخاري (3414)، ومسلم (159). (¬4) رواه البخاري (2411)، ومسلم (160). (¬5) رواه البخاري (2411)، ومسلم (167). (¬6) رواه أبو داود (4670) من حديث عبد الله بن جعفر وسكت عنه، وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 196): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5821). (¬7) ((معالم السنن)) للخطابي (3/ 146). (¬8) ((معالم السنن)) (3/ 146) و ((فتح الباري)) (8/ 267) و ((تحفة الأحوذي)) (1/ 542 و 9/ 119). (¬9) رواه البخاري (3414)، ومسلم (2373). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬10) رواه البخاري (4604). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬11) رواه مسلم (2376). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والحاصل أن في الحديثين ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء، وعن تفضيله على موسى ويونس خاصة - على حمل الحديث في يونس على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المراد – وهو صلى الله عليه وسلم أفضل منهما ومن سائر الأنبياء وجميع الخلق قطعاً كما تقدمت الدلائل عليه من الكتاب والسنة والإجماع، وفي هذا إشكال ظاهر، وقد وجه العلماء ذلك النهي لإزالة الإشكال في أقوال متعددة، منها: 1 - أن النهي ورد قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم وأفضل الأنبياء فلما علم أخبر به، وأن النهي عن التفضيل منسوخ بالقرآن (¬1). إلا أن في هذا القول نظر كما يقول ابن كثير، قال: (لأن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة (¬2)، وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخراً، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا والله أعلم) (¬3)، وهو كما قال، بل والقول بالنسخ مردود، فإن التفاضل بين الأنبياء ,وفضل أولى العزم من الرسل منهم, وتفضيله صلى الله عليه وسلم على يونس، كل ذلك قد ورد في الآيات المكية في سورة الإسراء, والأحقاف, والقلم, وقصة حديث أبي سعيد وأبي هريرة وقعت في المدينة، وكذلك الحديث الآخر في يونس عليه السلام ورد من رواية أبي هريرة وابن عباس، وابن عباس على سبيل المثال، من صغار الصحابة توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقد ورد أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود. 2 - أن النهي من باب التواضع وهضم النفس ونفي الكبر والعجب (¬4). قال القاضي عياض: (وهذا لا يسلم من الاعتراض) (¬5). وهذا التوجيه لا يتناسب مع قوله صلى الله عليه وسلم ((فقد كذب)) في رواية: ((من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) إن حمل الحديث على أن المراد بقوله ((أنا)) رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬6). فإذا حمل على أن المراد به من سواه صلى الله عليه وسلم، فإن لهذا التوجيه وجهه، خاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوصى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)) (¬7). ويكون مناسباً أيضاً مع قوله: ((ولا فخر)) في حديث ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) المتقدم ذكره. 3 - أن النهي عن تعيين المفضول، أما تفضيل بعضهم على بعض في الجملة دون تعيين المفضول فهو دلالة النصوص، قاله ابن عطية (¬8) واستشهد له بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم)) بإطلاق دون تعيين. ونقل القرطبي قول من قال: (إن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي، اجتناباً لما نهي عنه، وتأدباً به, وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل) (¬9). ¬

(¬1) ((الشفا)) (1/ 226) و ((تفسير القرطبي)) (3/ 262) و ((شرح النووي لمسلم)) (14/ 38) و ((فتاوى النووي)) (196) و ((فتح الباري)) (6/ 452) و ((تفسير ابن كثير)) (1/ 305/). (¬2) يعني حديث قصة لطم الأنصاري لليهودي المتقدم ذكرها. (¬3) ((البداية والنهاية)) (1/ 285). (¬4) ((تأويل مختلف الحديث)) (79) ((الشفا)) (1/ 227) و ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (14/ 38) و ((تفسير القرطبي)) (3/ 262) و ((تفسير ابن كثير)) (1/ 305) و ((فتح الباري)) (6/ 452) و ((معالم السنن بهامش المختصر)) (7/ 41). (¬5) ((الشفا)) (1/ 227). (¬6) ((تحفة الأحوذي)) (9/ 119). (¬7) رواه مسلم (2865). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه. (¬8) ((المحرر الوجيز)) (1/ 331 - 332). (¬9) ((تفسير القرطبي)) (3/ 262).

إلا أن في هذا التوجيه نظراً, فالله عز وجل لما أخبر أنه فضل بعض النبيين على بعض في آية الإسراء، وبعض الرسل على بعض في آية البقرة، جعل يعين في الآيتين بعض المتفاضلين ويذكر بعض الوجوه التي فضلوا بها، فعمم ثم خص كما هو ظاهر من لفظ الآيتين وقد تقدم ذكرهما مراراً (¬1). وقد عين الله عز وجل أولي العزم بالذكر وفضلهم على بقية الأنبياء – كما تقدم -، والرسل أفضل من الأنبياء كما دل عليه الدليل واتفق عليه العلماء، فالرسول أفضل من النبي وفي هذا تعيين كما هو ظاهر، أما الإجمال في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم)) فهو دال على التعيين أيضاً، إذ ثبوت كونه صلى الله عليه وسلم أفضل من الأنبياء جملة دليل كونه أفضل من كل واحد منهم مفصلاً، هذا مع قيام دليل على التعيين فلقد استدل العلماء بقوله تعالى: وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من يونس، وهذا شاهد على التعيين، فالمراد بالنهي إذاً غير هذا الوجه. 4 - أن المراد بالنهي المنع من التفضيل من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها فهم متساوون فيها, وإنما التفاضل بالخصائص والمحن ونحوها (¬2). قال القرطبي: (وهذا قول حسن فإنه جمع بين الآيات والأحاديث من غير نسخ) (¬3). وقال ابن قتيبة في حديث ((لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى)): (ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أكثر عملاً مني, ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم مني محنة) (¬4). 5 - أن المراد بالنهي منع التفضيل من عند أنفسنا لأن مقام التفضيل إنما هو إلى الله (¬5)، وروي عن أحمد بن حنبل – رحمه الله – أنه كان يمنع من المفاضلة بين الأنبياء مع قوله بأن بعضهم أفضل من بعض وأن محمداً أفضلهم, لكنه يقول ليس تعيين التفضيل إلى أحد منا (¬6). 6 - أن المراد بالنهي منع التفضيل بمجرد الآراء والعصبية (¬7). وهذا قد يؤول إلى سابقه. 7 - أن المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى الخصومة والتشاجر (¬8). وذلك في مثل الحال التي تحاكم فيها اليهودي مع الأنصاري عند النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة فهذا التوجيه ملائم لسبب ورود الحديث. 8 – أن المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى توهم النقص في المفضول, أو الغض منه, والإزراء به (¬9). قال الخطابي في النهي الوارد: (معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم, ويفرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه قد فاضل بينهم) (¬10). وممن قال بهذا التوجيه ابن تيمية رحمه الله وعليه حمل حديث أبي سعيد وأبي هريرة المذكور (¬11). وهو لائق بحديث: ((ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)). ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (3/ 264). (¬2) ((الشفا)) (1/ 227) و ((تفسير القرطبي)) (3/ 262) و ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (14/ 38) و ((فتاوى النووي)) (196) و ((عون المعبود)) (12/ 425). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (3/ 262). (¬4) ((تأويل مختلف الحديث)) (79). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 305) و ((عون المعبود)) (12/ 424). (¬6) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 306). (¬7) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 305). (¬8) ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (14/ 38) و ((فتاوى النووي)) (196) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 305). (¬9) ((الشفا)) (1/ 227) و ((تفسير القرطبي)) (3/ 262) و ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (14/ 38) و ((فتاوى النووي)) (196). (¬10) ((معالم السنن – بهامش مختصر سنن أبي داود)) (7/ 38). (¬11) ((الفتاوى)) (14/ 436).

فقد ذكر أهل العلم أنه إنما خص يونس عليه السلام بالذكر لما يخشى على من سمع ما قصه الله علينا من شأنه وما كان من قلة صبره، ونهي نبينا عليهما الصلاة والسلام عن أن يكون مثله، من أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ صلى الله عليه وسلم في ذكر فضل يونس عليه السلام لسد هذه الذريعة (¬1). إلا أن هناك من خرج بهذه العلة للنهي عن حدها فأطلق حكم النهي لمطلق هذه العلة، فجعل النهي مطلقاً لهذه العلة، فقال كما نقل القرطبي: (لا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي، لما يتوهم من النقص في المفضول، لأن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون, فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي، اجتناباً لما نهي عنه, وتأدباً به وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل) (¬2). وظاهر هذا الكلام أن المراد من النهي – عند قائله – هو منع تعيين المفضول، لا تفضيل بعض النبيين على بعض في الجملة كما في آخر النقل، ... ، ثم جعل العلة من عدم تعيين المفضول هي دفع توهم نقص المفضول كما في أول النقل، وظاهر هذا جعل تعيين المفضول موهماً نقصه، هكذا بهذا الإطلاق وهو خطأ، ويكفي في الجواب عن القول بألا يقال النبي أفضل من الأنبياء أن يورد حديث أبي هريرة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فضلت على الأنبياء بست)) الحديث (¬3) .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 158 ¬

(¬1) ((الشفا)) (1/ 227) و ((معالم السنن – بهامش المختصر)) (7/ 41) و ((فتح الباري)) (6/ 452). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (3/ 262). (¬3) رواه البخاري (523).

المبحث السادس: الأنبياء أفضل البشر

المبحث السادس: الأنبياء أفضل البشر الأنبياء هم أفضل البشر على الإطلاق، هذه هي دلالة الكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح. أما الكتاب: فقد قال سبحانه وتعالى مبيناً مراتب أوليائه: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]. فالله قد رتب عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب وبدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد شق عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة يرفع مع النبيين في الدرجات العلا فتكون منزلتهم دون منزلته فلا يصلون إليه ولا يرونه ولا يجالسونه، فنزلت الآية (¬1) مبينة أن من أطاع الله ورسوله يكون من نعيمه في الجنة أن يتمكن من مجالسة الأنبياء ورؤيتهم وزيارتهم، فلا يفوته ذلك ولذلك قال سبحانه: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم وقال: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وهذه المعية والرفقة لا تعني تساويهم في الدرجة، بل هم متفاوتون، لكنهم يتزاورون ويتجالسون ويأنسون بقربهم كما كانوا في الدنيا، وهذا بفضل الله لاتباعهم الأنبياء, واقتدائهم بهم. فالآية نص في تفضيل الأنبياء على البشر فهم أفضل أولياء الله وأرفعهم درجة على الإطلاق. وذكر سبحانه جملة من الأنبياء في آيات من سورة الأنعام ثم قال في آخرها: وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام: 86]. قال ابن سعدي في تفسير الآية: (وكلاًّ من هؤلاء الأنبياء والمرسلين فضلنا على العالمين، لأن درجات الفضائل أربع وهي التي ذكرها الله بقوله: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا فهؤلاء من الدرجة العليا) (¬2). وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33]. قال الرازي مبيناً وجه الترابط بين هذه الآية والآيات قبلها: (اعلم أنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم) (¬3). وقال في معرض تفسيره للآية: (بين تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين) (¬4). فالآية في ذكر الأنبياء خاصة وإن قيل في تفسير لفظ (الآل) فيها بأن المقصود به سائر المؤمنين من ذرية إبراهيم, وعمران, أنبياء وغير أنبياء، ويشهد لتخصيصها الأنبياء فقط, وأنهم هم المعنيون بتفضيلهم على العالمين دون غيرهم أمور: 1 - قوله سبحانه: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى والمراد الاصطفاء بالنبوة كما قاله الحسن وغيره (¬5). وكذا قد ورد الاصطفاء مراداً به الاصطفاء بالنبوة في عدد من آيات الكتاب عند ذكر النبيين، كقوله سبحانه: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75]. وقوله في موسى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي [الأعراف: 144]. وقوله: وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (5/ 104) و ((حلية الأولياء)) (4/ 240 و8/ 125) و ((أسباب النزول للواحدي)) (ص: 94) و ((الدر المنثور)) (2/ 182) و ((لباب النقول – بهامش الجلاليين -)) (ص: 174). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن)) (2/ 200). (¬3) ((تفسير الرازي)) (8/ 19). (¬4) ((تفسير الرازي)) (8/ 20). (¬5) ((تفسير الطبري)) (3/ 157).

2 - أنه قد أطلق سبحانه وتعالى وصف الاصطفاء وعنى به الرسل خاصة في قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل: 59]. والرسل هم المصطفون من عباد الله الذين سلم عليهم في العالمين كما بينه سبحانه في كتابه جملة وتفصيلاً كقوله سبحانه: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 181]. فقوله: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ كقوله: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى وقال سبحانه: سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79]. وقال: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 108 - 109]. وقال: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات: 119 - 120]. فكما أطلق سبحانه الاصطفاء في آية النمل وهو مقيد في الاصطفاء بالنبوة فكذا في آية آل عمران هذه. 3 - أن الله قد ذكر في الآية النبيين آدم ونوحاً ثم ذكر آل إبراهيم وآل عمران وفيه إشارة إلى أن المراد بالآل الأنبياء خاصة من ذرية إبراهيم, وذرية عمران, لا عامة المؤمنين. 4 - أن الله قد ذكر آل إبراهيم وآل عمران لأن الأنبياء بعد إبراهيم لم يكونوا إلا من ذريتهما، فجمع ذكرهم في لفظ الآل، وهو سبحانه قد ذكر آل إبراهيم، وآل عمران فقط، ويكون في المؤمنين من ليس من ذريتهم، مما يشهد بأن الآية خاصة بالنبيين. 5 - أن قوله سبحانه: عَلَى الْعَالَمِينَ شاهد على أن المراد بالآية الأنبياء من سائر المؤمنين، ذلك أن اصطفاء المؤمنين وتفضيلهم على الكافرين أمر ظاهر ظهوراً يستغنى به عن الذكر، فكيف بتفضيل النبيين واصطفائهم على الكافرين، والنبيون معنيون في الآية بلا خلاف، فأن يكون المراد اصطفاء النبيين وتفضيلهم على سائر المؤمنين أولى، والله أعلم. هذا، وقد قال بعض المفسرين بأن المراد بآل إبراهيم وآل عمران الأنبياء منهم، وقال بعضهم أن المراد بآل إبراهيم – إبراهيم نفسه (¬1). والحاصل فإن الآية نص في تفضيل الأنبياء على البشر سواء كانت في الأنبياء خاصة وهو الأظهر، أو كانت فيهم وفي أتباعهم من المؤمنين عامة، فإنه إذا كان المؤمنون أفضل البشر قد اصطفاهم الله على العالمين فالأنبياء هم الأفضل إطلاقاً بطريق الأولى. أما السنة: فمن أدلتها على أن الأنبياء أفضل البشر: قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أشد الناس بلاء قال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) (¬2). وهذا صريح في أن الأنبياء أمثل البشر. ¬

(¬1) ((زاد المسير)) (1/ 374). (¬2) رواه الترمذي (2398)، وابن ماجه (3265)، وأحمد (1/ 173) (1494)، والدارمي (2/ 412) (2783)، وابن حبان (7/ 161) (2901)، والحاكم (1/ 100). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (832) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 97)، وقال ابن القيم في ((طريق الهجرتين)) (226): ثابت، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 167) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح.

وقال صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين)) (¬1). وفي هذا الاستثناء الدليل على أن الأنبياء أفضل الأولين والآخرين. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين)) (¬2). واستدل ابن تيمية رحمه الله على فضل الأنبياء على سائر الناس بحديث: ((ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصديق)) (¬3). أما الإجماع: فقد قال ابن تيمية رحمه الله: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء) (¬4). وقال: (الأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون, والشهداء, والصالحون) (¬5). وذكر رحمه الله أن تفضيل بعض الفرق غير النبي على النبي مخالف لإجماع الأمة (¬6). أما النظر الصحيح: فإن العقل يقضي بكون الأنبياء خير الخلق وأفضلهم، لأنهم رسل الله, والواسطة بينه وبين خلقه في تبليغهم شرعه ومراده من عباده، وشرف الرسول من شرف المرسل وشرف الرسالة، وهم المصطفون من عباد الله, اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم ولا يختار سبحانه من الخلق إلا أكرمهم عليه وأفضلهم عنده وأكملهم لديه، قال ابن القيم رحمه الله: (ويكفي في فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً، ومنهم من رفعه مكاناً عليًّا على سائرهم درجات، ولم يجعل لعباده وصولاً إليه إلا من طريقهم، ولا دخولاً إلى جنته إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً منهم بكرامة إلا على أيديهم, فهم أقرب الخلق إليه وسيلة, وأرفعهم عنده درجة, وأحبهم إليه وأكرمهم عليه، وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على أيديهم, وبهم عرف الله, وبهم عبد وأطيع, وبهم حصلت محابه تعالى في الأرض) (¬7). ¬

(¬1) رواه الترمذي (3665)، وابن ماجه (95)، وأحمد (1/ 80) (602). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. والحديث روي من طرق عن أنس بن مالك، وأبي جحيفة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم. (¬2) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (10/ 18). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. والحديث صحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (905) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال الهيثمي: رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف. (¬3) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1/ 152)، وابن أبي عاصم (2/ 576) (1224)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 325)، والخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (12/ 438)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/ 208). (¬4) ((الفتاوى)) (11/ 221). (¬5) ((منهاج السنة)) (2/ 417). (¬6) ((الفتاوى)) (11/ 364). (¬7) ((طريق الهجرتين)) (350).

وأعلى منازل الخلق في تحقيق العبودية لله عز وجل، ولقد حقق الأنبياء عبوديتهم لله فكانوا عباد الله المخلصين الذين بين سبحانه أنهم هم الذين ينجون من السيئات التي يزينها الشيطان، قال الشيطان – فبما حكاه الله -: رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 39 - 40]. وقال: فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82]. وقد قال الله في حق يوسف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24]. فالأنبياء من المخلصين الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه فحققوا العبودية له سبحانه ولذلك نعتهم الله بالعبودية التي حققوها فكانوا خير الخلق فيها وبها، قال سبحانه: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ [ص: 45 - 47]. وقال سبحانه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 17] وقال عن سليمان: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30] وعن أيوب: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 44] وعن نوح: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 30]. ونعت سبحانه خير خلقه بالعبودية في المقامات الشريفة فقال في الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] وقال في الدعوة: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: 9]. وقال في الوحي: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم: 10]. ولقد قام صلى الله عليه وسلم يصلي لله حتى تورمت قدماه، وتفطرتا، فقيل له: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) (¬1). فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد حققوا العبودية لله فهم أتم الخلق عبودية لله ولذلك فهم أكمل الخلق وأفضلهم. وقد اتضح في المبحثين السابقين أمران ظاهرا الدلالة على أفضلية الأنبياء على البشر وهما: أولاً: أن الأنبياء كانوا خيار أقوامهم قبل نبواتهم فقد عصمهم الله عما يصغر أقدراهم. ثانياً: أن النبوة اختيار من الله واصطفاء لا تبلغ بكسب ولا بغيره. فجمع الله للأنبياء الفضل من أطرافه ميزهم على خلقه من قبل النبوة, ثم زادهم فضلاً عليهم بالنبوة، فلا يبلغ أحد منزلتهم. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 177 ¬

(¬1) رواه البخاري (1130)، ومسلم (2819). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

الباب الثالث: وظائف الرسل وحاجة البشرية إلى الرسل

المبحث الأول: البلاغ المبين الرسل سفراء الله إلى عباده، وحملة وحيه، ومهمتهم الأولى هي إبلاغ هذه الأمانة التي تحملوها إلى عباد الله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67]، والبلاغ يحتاج إلى الشجاعة وعدم خشية الناس، وهو يبلغهم ما يخالف معتقداتهم، ويأمرهم بما يستنكرونه، وينهاهم عمّا ألفوه، الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللهَ [الأحزاب: 39]. والبلاغ يكون بتلاوة النصوص التي أوحاها الله من غير نقصان ولا زيادة اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت: 45]، كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة: 151]، فإذا كان الموحى به ليس نصاً يتلى، فيكون البلاغ ببيان الأوامر والنواهي والمعاني والعلوم التي أوحاها الله من غير تبديل ولا تغيير. ومن البلاغ أن يوضح الرسول الوحي الذي أنزله الله لعباده، لأنّه أقدر من غيره على التعرف على معانيه ومراميه، وأعرف من غيره بمراد الله من وحيه، وفي ذلك يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ [النحل: 44]. والبيان من الرسول للوحي الإلهي قد يكون بالقول، فقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أموراً كثيرة استشكلها أصحابه، كما بين المراد من الظلم في قوله تعالى: الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، فقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن المراد به الشرك، لا ظلم النفس بالذنوب. وكما بيّن الرسول – صلى الله عليه وسلم – الآيات المجملة في الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك بقوله. وكما يكون البيان بالقول يكون بالفعل، فقد كانت أفعال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة والصدقة والحج وغير ذلك بياناً لكثير من النصوص القرآنية. وعندما يتولى الناس، ويعرضون عن دعوة الرسل، فإن الرسل لا يملكون غير البلاغ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران: 20]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 43

والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله عز وجل، لم يقل شيئاً من رأيه فيما يتعلق بالتبليغ، بل ليس عليه إلا بلاغ الرسالة من الله إلى الناس، وتلاوة آياته على الناس، وتعليمهم الحكمة والتبيان، وذلك معنى كونه صلى الله عليه وسلم رسول الله فأمره ونهيه تبليغ لأمره ونهيه، وأخباره وقصصه تبليغ لما قصه الله وأخبر به، ولذا كان طاعته طاعة لله عز وجل، ومعصيته معصية لله عز وجل، وتكذيبه تكذيباً لإخبار الله عز وجل في أنه رسوله. قال الله تبارك وتعالى وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء: 79 – 80]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأنفال:20 – 21]، وقال تعالى: وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [المائدة:92]، وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ [الشورى:48]، وقال تعالى: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7]، وقال تعالى: إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ [فاطر:23]، وقال قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [ص:65]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إليه وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6]، وقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وقال تعالى: قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:22 – 23] وقال وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى [الأعلى:9 – 10]، وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:21 – 22]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر:7] وغير ذلك من الآيات وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:3 – 5] وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عن أبي أمامة رضي الله عنه أَنَّه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليدخلن الجنَّةَ بشفاعةِ رجلٍ ليس بنبيٍّ مثل الحيين – أو مثل أحد الحيين – ربيعة ومضر))، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ وما ربيعة من مضر؟ قال: ((إِنَّما أقولُ ما أقول)) (¬1)، ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 257) (22269)، والطبراني (8/ 143). قال البوصيري في ((إتحاف المهرة)) (8/ 74): رواه أحمد بن منيع وأحمد بن حنبل بسندٍ واحدٍ رواته ثقات .. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 381): رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجال أحمد وأحد أسانيد الطبراني رجالهم رجال الصحيح غير عبدالرحمن بن ميسرة وهو ثقة. وحسنه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2178).

وله عن عبدالله بن عمر وقال كُنْتُ أكتبُ كلَّ شيءٍ أسمعه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أريدُ حفظه، فنهتني قريشٌ فقالوا: إِنَّك تكتبُ كلَّ شيءٍ تسمعه من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتكلَّم في الغضب والرِّضا، فأمسكتُ عن الكتاب حتى ذكرت ذلك لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اكتُبْ فوالذي نفسي بيده ما خرج منِّي إلاّ الحق)) (¬1) وله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا أقول إلا حقاً)). قال بعض أصحابه فإِنَّك تداعبنا، قال: ((إِنِّي لا أقولُ إلاّ حقّاً)) (¬2) وللبزار عنه رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أخبرتكم أَنَّه من عند الله فهو الذي لا شك فيه)) (¬3) وغير ذلك من الأحاديث، ويكفي في ذلك قول الله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44 - 46] الآيات. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 1289 وأما الرسل فقد تبين أنهم هم الوسائط بيننا وبين الله عز وجل، في أمره ونهيه ووعده ووعيده وخبره، فعلينا أن نصدقهم في كل ما أخبروا به، ونطيعهم فيما أوجبوا وأمروا، وعلينا أن نصدق بجميع أنبياء الله عز وجل، لا نفرق بين أحد منهم، ومن سبَّ واحدا منهم كان كافراً مرتداً مباح الدم. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - ص 240 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3646)، وأحمد (2/ 162) (6510)، والحاكم (1/ 105 - 106). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: رواة هذا الحديث قد احتجا بهم عن آخرهم غير الوليد هذا وأظنه الوليد بن أبي الوليد الشامي فإنه الوليد بن عبدالله وقد علمت على أبيه الكتبة فإن كان كذلك فقد احتج مسلم به. وقال الذهبي في ((التلخيص)): إن كان الوليد هو ابن أبي الوليد الشامي فهو على شرط مسلم. وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1532). (¬2) رواه الترمذي (1990)، وأحمد (2/ 340) (8462). قال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 547) وابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 367) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4270) إسناده صالح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه البزار في ((كشف الأستار)) (203)، وابن حبان (5/ 465). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 184): رواه البزار وفيه أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر وبقية رجاله رجال الصحيح، وعبد الله بن صالح مختلف فيه. قال شعيب الأرناؤوط محقق ((صحيح ابن حبان)): إسناده قوي على شرط مسلم.

المبحث الثاني: الدعوة إلى الله

تمهيد لا تقف مهمّة الرسل عند حدّ بيان الحقِّ وإبلاغه، بل عليهم دعوة الناس إلى الأخذ بدعوتهم، والاستجابة لها، وتحقيقها في أنفسهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، وهم في ذلك ينطلقون من منطلق واحد، فهم يقولون للناس: أنتم عباد الله، والله ربكم وإلهكم، والله أرسلنا لنعرفكم كيف تعبدونه، ولأننا رسل الله مبعوثون من عنده، فيجب عليكم أن تطيعونا وتتبعونا، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. وكل رسول قال لقومه: فَاتّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء: 108، 126، 144، 150، 163، 179]. وقد بذل الرسل في سبيل دعوة الناس إلى الله جهوداً عظيمة، وحسبك في هذا أن تقرأ سورة نوح لترى الجهد الذي بذله على مدار تسعمائة وخمسين عاماً، فقد دعاهم ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، واستعمل أساليب الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وحاول أن يفتح عقولهم، وأن يوجهها إلى ما في الكون من آيات، ولكنهم أعرضوا، قَالَ نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عَصَوْنِي وَاتّبَعُواْ مَن لّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَسَاراً [نوح: 21]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 45

المطلب الأول: دعوة الرسل

المطلب الأول: دعوة الرّسُل النظر في دعوة الرسل مجال خصب يدلنا على مدى صدقهم، فقد جاءت الرسل بمنهج متكامل لإصلاح الإنسان، ولإصلاح المجتمع الإنساني، ودين كهذا يقول الذين جاؤوا به إنّه منزل من عند الله لا بدّ أن يكون في غاية الكمال، خالياً من النقائص والعيوب، لا يتعارض مع فطرة الإنسان، وسنن الكون، وقد وجهنا القرآن إلى هذا النوع من الاستدلال، فقال: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. فكونه وحدة متكاملة يصدق بعضه بعضاً، لا تناقض فيه ولا اختلاف – دليل واضح على صدق الذي جاء به. والنظر في المقاصد التي تدعو إليها الرسل، والفضائل والقيم التي يُنادون بها كلُّ ذلك من أعظم الأدلة على صدقهم، وقد قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]. ولقد ألَّف العلماء مؤلفات في بيان كمال هذا الدين وشموله وبيان حكمة التشريع، وبيان القواعد والأسس التي تجعل هذا الدين بناء محكماً، يردد الناس النظر فيه فلا يجدون فيه عيباً ولا نقصاً. وقد ميز الله البشر بالعقل، وأودع عقولهم إدراك قبح القبيح، وإدراك حسن الحسن، إلاّ أنّ رحمته جلّ وعلا اقتضت ألاّ يعذب خلقه على تركهم الحسن وفعلهم القبيح ما لم يُقِم عليهم الحجةَ بإرسال الرسل. (وقد سئل أعرابيّ: بم عرفت أنّ محمداً رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به) (¬1). وهذا الذي استدل به الأعرابي في غاية الجودة، فإن الرسل جاءت من عند الله بعلوم وشرائع يعلم العاقل المنصف عند التأمل فيها أنّه لا يمكن أن تكون آراء البشر ولا أفكارهم. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 202 ¬

(¬1) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 6 - 7).

المطلب الثاني: دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والناظر في دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يكون مكابراً أعظم المكابرة إن لم يعتبر ولم يؤمن، فنبينا عليه السلام جاء بهذا القرآن الذي عجزت الإنس والجنُّ عن الإتيان بمثله، وقد حوى من الأخبار الماضية والآتية، والعلوم المختلفة ما يخضع له المنصف، ويجعله يسبح بحمد الله طويلاً. هذا الكتاب وتلك العلوم تصل إلينا على يد رجل أميّ، لم يمسك بالقلم يوماً، ولم يكن يقرأ ما سطره العلماء والكتاب من قبل وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48]. ليس أمراً عادياً أن يتحول رجل أميّ بين عشية وضحاها إلى معلم بشرية، يبذل العلم للناس، ويقوّم علوم السابقين، ويبين ما فيها من تحريف وتغير. لقد كان هذا الدليل يجول في نفوس أهل مكة، فهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيهم بما أتاهم به، ويعلمون أُميته، ولذلك لم يكن منهم إلا التمحل وجحود الحقّ بعد معرفته فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] لقد وصلت بهم السفاهة إلى الزعم بأن الذي يأتي محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا العلم حداد رومي كان بمكة، وإنه لفرية مضحكة لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [النحل: 103]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 203

المطلب الثالث: مثال يوضح دور الرسل

المطلب الثالث: مثال يوضح دور الرسل وقد ضربت الملائكة للرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً يوضح دوره، ويبين وظيفته، فعن جابر بن عبد الله قال: ((جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم فقال بعضهم إنه نائم. وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا. فقال بعضهم إنه نائم. وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا أولوها له يفقهها فقال بعضهم إنه نائم. وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا فالدار الجنة، والداعي محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن أطاع محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقد عصى الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الناس)) (¬1). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 45 ¬

(¬1) رواه البخاري (7281).

المبحث الثالث: التبشير والإنذار

المبحث الثالث: التبشير والإنذار ودعوة الرسل إلى الله تقترن دائماً بالتبشير والإنذار، ولأنَّ ارتباط الدعوة إلى الله بالتبشير والإنذار وثيق جداً فقد قصر القرآن مهمة الرسل عليهما في بعض آياته وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ [الكهف: 56]، وقد ضرب الرسول – صلى الله عليه وسلم – لنفسه مثلاً في هذا، فقال: ((إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعينيَّ، وإني أنا النذير العُريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذَّبته طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني، فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب بما جئت به من الحق)) (¬1). وتبشير الرسل وإنذارهم دنيوي وأخروي، فهم في الدنيا يبشرون الطائعين بالحياة الطيبة، مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97]. فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَىَ [طه: 123]، ويعدونهم بالعزّ والتمكين والأمن وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور: 55]. ويخوِّفون العصاة بالشقاء الدنيوي وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه: 124] ويحذرونهم العذاب والهلاك الدنيوي فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13]، وفي الآخرة يبشرون الطائعين بالجنة ونعيمها وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء: 13]. ويخوفون المجرمين والعصاة عذاب الله في الآخرة، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 14]. ¬

(¬1) رواه البخاري (7283)، ومسلم (2283). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

ومن يطالع دعوات الرسل يجد أنّ دعوتهم قد اصطبغت بالتبشير والإنذار، ويبدو أنّ التبشير والإنذار على النحو الذي جاءت به الرسل هو مفتاح النفس الإنسانية، فالنفس الإنسانية مطبوعة على طلب الخير لذاتها، ودفع الشر عنها، فإذا بصّر الرسل النفوس بالخير العظيم الذي يحصِّلونه من وراء الإيمان والأعمال الصالحة فإن النفوس تشتاق إلى تحصيل ذلك الخير، وعندما تُبيَّن لها الأضرار العظيمة التي تصيب الإنسان من وراء الكفر والضلال فإنّ النفوس تهرب من هذه الأعمال، ونعيم الله المبشر به نعيم يستعذبه القلب، وتلذُّه النفس، ويهيم به الخيال، اسمع إلى قوله تعالى يصف نعيم المؤمنين في جنات النعيم: عَلَىَ سُرُرٍ مّوْضُونَةٍ مّتّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ لاّ يُصَدّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مّمّا يَتَخَيّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لأصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 15 - 38]. وانظر إلى عذاب الكفرة في دار الشقاء وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ لاّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة: 41 - 45] ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 51 - 56]. وحسبك أن تطالع كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري وتقرأ منه على إخوانك ومن تدعوهم إلى الله، ثم انظر أثر هذا في نفسك وفي نفوس السامعين. إن بعض الذين لم يفقهوا دعوة الإسلام يعيبون على دعاة الإسلام أخذهم بالإنذار والتبشير، ويقولون: فلان واعظ، ويعيبون عليهم عدم فلسفتهم للأمور التي يدعون إليها، ويطالبون الدعاة بالكف عن طريقة الوعظ وتخويف النّاس وترغيبهم، وهؤلاء بحاجة إلى أن يراجعوا أنفسهم، وينظروا في موقفهم هذا، في ضوء نصوص القرآن وأحاديث الرسول التي تبين أسلوب الدعوة، وتوضيح مهمة الرسل الكرام. الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 47

المبحث الرابع: إصلاح النفوس وتزكيتها

المبحث الرابع: إصلاح النفوس وتزكيتها الله رحيم بعباده، ومن رحمته أن يحي نفوسهم بوحيه، وينيرها بنوره، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52]. والله يخرج الناس بهذا الوحي الإلهي من الظلمات إلى النور، ظلمات الكفر والشرك والجهل إلى نور الإسلام والحق: اللهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ [البقرة: 257]، وقد أرسل اللهُ رسله بهديه ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ [إبراهيم: 5]، وبدون هذا النور تعمى القلوب فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]، وعماها ضلالها عن الحق، وتركها لما ينفعها وإقبالها على ما يضرها وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ [الفرقان: 55]. وإخراج الرسل الناس من الظلمات إلى النور لا يتحقق إلاّ بتعليمهم تعاليم ربهم وتزكية نفوسهم بتعريفهم بربهم وأسمائه وصفاته، وتعريفهم بملائكته وكتبه ورسله، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، ودلالتهم على السبيل التي توصلهم إلى محبته، وتعريفهم بعبادته هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ [الجمعة: 2] رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة: 129]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 50

المبحث الخامس: تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة

المبحث الخامس: تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة كان الناس في أول الخلق على الفطرة السليمة، يعبدون الله وحده، ولا يشركون به أحداً، فلمّا تفرقوا واختلفوا أرسل الله الرسل ليعيدوا الناس إلى جادة الصواب، وينتشلوهم من الضلال، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة: 213]. أي: كان الناس أمّة واحدة على التوحيد والإيمان وعبادة الله فاختلفوا فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين. وقد كان كلُّ رسول يدعو قومه إلى الصراط المستقيم، ويبينه لهم ويهديهم إليه، وهذا أمر متفق عليه بين الرسل جميعاً، ثم كُلُّ رسول يقوِّم الانحراف الحادث في عصره ومصره، فالانحراف عن الصراط المستقيم لا يحصره ضابط وهو يتمثل في أشكال مختلفة، وكلُّ رسول يُعنى بتقويم الانحراف الموجود في عصره، فنوح أنكر على قومه عبادة الأصنام، وكذلك إبراهيم، وهود أنكر على قومه الاستعلاء في الأرض والتجبّر فيها، وصالح أنكر عليهم الإفساد في الأرض واتباع المفسدين، ولوط حارب جريمة اللواط التي استشرت في قومه، وشعيب قاوم في قومه جريمة التطفيف في المكيال والميزان، وهكذا، فكل هذه الجرائم وغيرها التي ارتكبتها الأمم خروج عن الصراط المستقيم وانحراف عنه، والرّسل يبينون هذا الصراط ويحاربون الخروج عليه بأيّ شكل من الأشكال كان. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 51

المبحث السادس: إقامة الحجة

المبحث السادس: إقامة الحجّة لا أحد أحبّ إليه العذر من الله تعالى، فالله جلّ وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب كي لا يبقى للناس حجّة في يوم القيامة، رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]، ولو لم يرسل الله إلى الناس لجاؤوا يوم القيامة يخاصمون الله – جل وعلا – ويقولون: كيف تعذبنا وتدخلنا النار، وأنت لم ترسل إلينا من يبلغنا مرادك منّا، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه: 134]، أي: لو أهلكهم الله بعذاب جزاء كفرهم قبل أن يرسل إليهم رسولاً لقالوا: هلا أرسلت إلينا رسولا كي نعرف مرادك، ونتبع آياتك، ونسير على النهج الذي تريد؟ وفي يوم القيامة عندما يجمع الله الأولين والآخرين يأتي الله لكل أمة برسولها ليشهد عليها بأنّه بلغها رسالة ربه، وأقام عليها الحجّة فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 41 - 42]. وقال في آية أخرى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ [النحل: 89]. ولذلك فإن الذين يرفضون اتبّاع الرسل، ويعرضون عن هديهم – لا يملكون إلاّ الاعتراف بظلمهم إذا وقع بهم العذاب في الدنيا وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11 - 15]. وفي يوم القيامة عندما يساقون إلى المصير الرهيب، وقبل أن يلقوا في الجحيم يسألون عن ذنبهم فيعترفون تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 8 - 11]. وعندما يضجّون في النَّار بعد أن يُحيط بهم العذاب من كل جانب، وينادون ويصرخون تقول لهم خزنة النار: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ بَلَىَ قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ [غافر: 50]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 52

المبحث السابع: سياسة الأمة

المبحث السابع: سياسة الأمة الذين يستجيبون للرسل يُكونّون جماعة وأمة، وهؤلاء يحتاجون إلى من يسوسهم ويقودهم ويدبر أمورهم، والرُّسل يقومون بهذه المهمة في حال حياتهم، فهم يحكمون بين الناس بحكم الله فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ [المائدة: 48]. ونادى ربُّ العزة داود قائلاً: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26]، وأنبياء بني إسرائيل كانوا يسوسون أمتهم بالتوراة، وفي الحديث ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ)) (¬1) وقال الله عن التوراة: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة: 44]. فالرسل وأتباعهم من بعدهم يحكمون بين الناس، ويقودون الأمة في السلم والحرب، ويلون شؤون القضاء، ويقومون على رعاية مصالح الناس، وهم في كلّ ذلك عاملون بطاعة الله، وطاعتهم في ذلك كلّه طاعة لله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80]. ولن يصل العبد إلى نيل رضوان الله ومحبته إلا بهذه الطاعة قُلْ أن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31]. ولذا فإنّ شعار المسلم الذي يعلنه دائماً هو السمع والطاعة إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور: 51]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 54 ¬

(¬1) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الفصل الثاني: حاجة البشرية إلى الرسل والرسالات

تمهيد: إذا كان الناس في القديم يجادلون الرسل، ويرفضون علومهم، ويعرضون عنهم فإن البشر اليوم في القرن العشرين – حيث بلغت البشرية ذروة التقدم المادي، فغاصت في أعماق البحار، وانطلقت بعيداً في أجواز الفضاء، وفجرت الذرة، وكشفت كثيراً من القوى الكونية الكامنة في هذا الوجود – أشدُّ جدالاً للرسل، وأكثر رفضاً لعلومهم، وأعظم إعراضاً عنهم، وحال البشر اليوم من الرسل وتعاليمهم كحال الحمر المستنفرة حين ترى الأسد فتفرّ لا تلوي على شيء، قال تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: 49 - 51]. والبشر – اليوم – يأبون أكثر من قبل التسليم للرسل وتعاليمهم اغتراراً بعلومهم، واستكباراً عن متابعة رجال عاشوا في عصور متقدمة على عصورهم ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن: 6]. واليوم ينفخ شياطين الإنس في عقول البشر يدعونهم إلى التمرد على الله وعلى شريعة الله، ورفض تعاليم الرسل، بحجة أنَّ في شريعة الله حجراً على عقولهم، وتوقيفاً لركب الحياة، وتجميداً للحضارة والرقي ّ، وقد أقامت الدول اليوم نظمها وقوانينها وتشريعاتها على رفض تعاليم الرسل، بل إنَّ بعض الدول تضع الإلحاد مبدأ دستورياً، وهو الذي يسمى بالعلمانية، وكثير من الدول التي تتحكم في رقاب المسلمين تسير على هذا النهج، وقد ترضي عوامّ الناس بأن تضع مادة في دستورها تقول: دين الدولة الإسلام، ثمَّ تهدم هذه المادة بالموادّ السابقة واللاحقة، والتشريعات التي تحكم العباد. فهل صحيح أنَّ البشرية بلغت – اليوم – مبلغاً يجعلها تستغني عن الرسل وتعاليم الرسل؟ وهل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيداً عن منهج الرسل؟ يكفي في الإجابة أن ننظر في حال تلك الدول التي نسميها متقدمة متحضرة كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين – لنعلم مدى الشقاء الذي يغشاهم، نحن لا ننكر أنَّهم بلغوا في التقدّم المادي شأواً بعيداً، ولكنّهم في الجانب الآخر الذي جاء الرسل وجاءت تعاليمهم لإصلاحه انحدروا انحداراً بعيداً. لا ينكر أحد أنَّ الهموم والأوجاع النفسية والعقد النفسية – اليوم – سمة العالم المتحضر، الإنسان في العالم المتحضر اليوم فقد إنسانيته، خسر نفسه، ولذلك فإن الشباب هناك يتمردون، يتمردون على القيم والأخلاق والأوضاع والقوانين، أخذوا يرفضون حياتهم التي يعيشونها، وأخذوا يتبعون كل ناعق من الشرق أو الغرب يلوِّح لهم بفلسفة أو دروشة أو سفسطة يظنون فيه هناءهم، لقد تحوّل عالم الغرب إلى عالم تنخر الجريمة عظامه، وتقوده الانحرافات والضياع، لقد زلزلت الفضائح أركان الدول الكبرى، والخافي أعظم وأكثر من البادي، إن الذين يسمّون – اليوم – بالعالم المتحضر يخربون بيوتهم بأيديهم، حضارتهم تقتلهم، حضارتهم تفرز سموماً تسري فيهم فتقتل الأفراد، وتفرق المجتمعات، الذين نسميهم اليوم بالعالم المتحضر كالطائر الجبّار الذي يريد أن يحلق في أجواز الفضاء بجناح واحد. إننا بحاجة إلى الرسل وتعاليمهم لصلاح قلوبنا، وإنارة نفوسنا، وهداية عقولنا ... ونحن بحاجة إلى الرسل كي نعرف وجهتنا في الحياة، وعلاقتنا بالحياة وخالق الحياة. نحن بحاجة إلى الرسل كيلا ننحرف أو نزيغ فنقع في المستنقع الآسن. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 29

المبحث الأول: كلام ابن القيم في حاجة البشرية إلى الرسل

المبحث الأول: كلام ابن القيم في حاجة البشرية إلى الرسل يقول ابن القيم مبيناً حاجة العباد إلى الرسل وتعاليمهم: (ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلاّ على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلاّ من جهتهم، ولا يُنال رضا الله البتة إلاّ على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلاّ هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح، الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأيّ ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير. وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحسُّ بهذا إلاّ قلبٌّ حيٌّ. ما لجرح بميت إيلام (¬1) وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه، وأحبَّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقلٍّ، ومستكثر، ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو فضل عظيم) (¬2). الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 31 ¬

(¬1) عجز بيت للمتنبي وصدره: من يهن يسهل الهوان عليه وهو في ديوانه: (4/ 277) من قصيدة يمدح بها أبا الحسن علي بن أحمد المري الخراساني. (¬2) ((زاد المعاد)) (1/ 15).

المبحث الثاني: كلام ابن تيمية في حاجة البشرية إلى الرسل

المبحث الثاني: كلام ابن تيمية في حاجة البشرية إلى الرسل وممن جلى هذه المسألة وبينها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: (الرسالة ضرورية للعباد، لا بدَّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأيُّ صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام: 122]، فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وأمّا الكافر فميت القلب في الظلمات). وبين رحمه الله تعالى: (أن الله سمّى رسالته روحاً، والروح إذا عدم فقدت الحياة، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52]، فذكر هنا الأصلين، وهما: الروح، والنور، فالروح الحياة، والنور النور) وبين رحمه الله تعالى: (أن الله يضرب الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونوراً لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض، وبالنَّار التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ [الرعد: 17]. يقول شيخ الإسلام رحمه الله معقباً على الآية: (فشبه العلم بالماء المنزل من السماء لأن به حياة القلوب، كما أنَّ بالماء حياة الأبدان، وشبّه القلوب بالأودية، لأنّها محلّ العلم، كما أنَّ الأودية محل الماء، فقلب يسع علماً كثيراً، وواد يسع ماءً كثيراً، وقلب يسع علماً قليلاً، وواد يسع ماءً قليلاً، وأخبر تعالى أنَّه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء، وأنّه يذهب جفاءً، أي: يرمى به، ويخفى، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاءً، ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس، وقال: وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ [الرعد: 17]. فهذا المثل الآخر وهو الناري، فالأول للحياة، والثاني للضياء. وبين رحمه الله أن لهذين المثالين نظيراً وهما المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [البقرة: 17 - 19].

وبعد أن بيَّن الشيخ رحمه الله وصف المؤمن، بين وصف الكافر، فقال: (وأمّا الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حيّ، وإن كانت حياته حياة بهيمية، فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها الإيمان، وبها حصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، فإنّ الله – سبحانه – جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعاً بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه). ثم بيّن رحمه الله هذه الأصول التي أشار إليها هنا فقال: (فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهي القصص التي قصّها الله على عباده والأمثال التي ضربها لهم. والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه. والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنّة والنار والثواب والعقاب). ثم بيّن أنَّ (على هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلاّ من جهة الرسل، فإنَّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض، وتنزيل الدواء عليه) (¬1). مقارنة بين حاجة العباد إلى علم الرسل وعلم الطب: عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم (مفتاح دار السعادة) مقارنة بيّن فيها أنّ حاجة الناس إلى الشريعة أعظم من حاجتهم إلى علم الطب مع شدّة حاجة الناس إليه لصلاح أبدانهم، فحاجتهم إلى الرسالة أعظم من حاجتهم إلى غيرها من العلوم، قال: (حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية، فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أنَّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأمَّا أهل البدو كلهم، وأهل الكفور كلّهم، وعامة بني آدم – لا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحُّ أبدانا، وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بالطبيب، ولعّل أعمارهم متقاربة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم، واجتناب ما يضرهم، وجعل لكلّ قوم عادة وعرفاً في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إنَّ كثيراً من أصول الطب إنما أخذت من عوائد الناس، وعرفهم وتجاربهم. وأمّا الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضا الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية، فمبناها على الوحي المحض، والحاجة إلى التنفس فضلاً عن الطعام والشراب، لأنّ غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن، وتعطل الروح عنه، وأما ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك الأبد، وشتان بين هذا وهلاك البدن بالموت، فليس النّاس قطّ إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك ألبتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلاّ بالعبور على هذا الجسم) (¬2). الرسل والرسالات لعمر الأشقر – ص: 31 ¬

(¬1) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (19/ 93 - 96). (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 2).

الفصل الثالث: الوحي

المبحث الأول: النبّوة منحة إلهيّة النبوة منحة إلهية، لا تنال بمجرد التشهي والرغبة، ولا تنال بالمجاهدة والمعاناة، وقد كذّب الفلاسفة الذين زعموا أن النبوة تنال بمجرد الكسب بالجدّ والاجتهاد، وتكلّف أنواع العبادات، واقتحام أشقّ الطاعات، والدأب في تهذيب النفوس، وتنقية الخواطر، وتطهير الأخلاق، ورياضة النفس والبدن (¬1). وقد بيّن الله في أكثر من آية أنّ النبوة نعمة ربانية إلهية، قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا [مريم: 58]، وحكى الله قول يعقوب لابنه يوسف: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبّكَ [يوسف: 6]، وقال الله لموسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف: 144]. وقد طمع أمية بن أبي الصَّلت في أن يكون نبي هذه الأمة، وقال الكثير من الشعر متوجهاً به إلى الله، وداعياً إليه، ولكنه لم يحصل على مراده، وصدق الله إذ يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124]. وعندما اقترح المشركون أن يختار الله لأمر النبوة والرسالة أحد الرجلين العظيمين في مكة والطائف عروة بن مسعود الثقفي أو الوليد بن المغيرة، أنكر الله ذلك القول، وبين أنّ هذا مستنكر، فهو الإله العظيم الذي قسم بينهم أرزاقهم في الدنيا، أفيجوز لهم أن يتدخلوا في تحديد المستحقِّ لرحمة النبوة والرسالة؟ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىَ رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا .. [الزخرف: 31 - 32]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 59 ¬

(¬1) انظر: ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (2/ 267).

المبحث الثاني: طريق إعلام الله أنبياءه ورسله

المبحث الثاني: طريق إعلام الله أنبياءه ورسله تعريف الوحي: سمى الله الطريق الذي يعلم الله به أنبياءَه ورسله وحياً، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً [النساء: 163]. والوحي في اللغة: الإعلام الخفّي السريع مهما اختلفت أسبابه (¬1)، فقد يكون بالإلهام كوحي الله إلى الحواريين: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أن آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي [المائدة: 111] وكوحي الله لأم موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7]، ويأتي بمعنى الإيماء والإشارة، فقد سمّى القرآن إشارة زكريا إلى قومه وحياً فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً [مريم: 11]. وأكثر ما وردت كلمة (وحي) في القرآن الكريم بمعنى إخبار وإعلام الله من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، بطريقة سرّية خفيّة، غير معتادة للبشر. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 61 ¬

(¬1) انظر: ((فتح الباري)) (1/ 9))، ((المصباح المنير)) (651، 652).

المبحث الثالث: مقامات وحي الله إلى رسله

المبحث الثالث: مقامات وحي الله إلى رسله للوحي الذي يعلم الله به رسله وأنبياءَه مقامات، قال الله تعالى مبيِّناً هذه المقامات: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنّهُ عَلِيّ حَكِيمٌ ٌ [الشورى: 51]. فالمقامات ثلاثة: الأولى: الإلقاء في روع النبي الموحى إليه، بحيث لا يمتري النبي في أنّ هذا الذي ألقي في قلبه من الله تعالى، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((إنّ روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب)) (¬1). وذهب ابن الجوزي إلى أن المراد بالوحي في قوله: إِلاّ وَحْياً الوحي في المنام (¬2). رؤيا الأنبياء: وهذا الذي فسّر به ابن الجوزي المقام الأول داخل في الوحي بلا شّك، فإنّ رؤيا الأنبياء حقٌ، ولذلك فإنَّ خليل الرحمن إبراهيم بادر إلى ذبح ولده عندما رأى في المنام أنّه يذبحه، وعدّ هذه الرؤيا أمراً إلهياً، قال تعالى في إبراهيم وابنه إسماعيل: فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَبُنَيّ إِنِّي أَرَىَ فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىَ قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصّابِرِينَ فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَآ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 102 - 105]. وفي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: ((أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في المنام، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)) (¬3). المقام الثاني: تكليم الله لرسله من وراء حجاب: وذلك كما كلَّم الله تعالى موسى عليه السلام، وذكر الله ذلك في أكثر من موضع في كتابه: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143]، فَلَمّآ أَتَاهَا نُودِيَ يَمُوسَىَ إِنّيَ أَنَاْ رَبّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىَ إِنّنِي أَنَا اللهُ لآ إِلَهَ إِلآ أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصّلاَةَ لِذِكْرِيَ [طه: 11 - 14]، وممن كلّمه الله آدم عليه السلام قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ .. [البقرة: 33]، وكلّم الله عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم عندما عرج به إلى السماء. المقام الثالث: الوحي إلى الرسول بواسطة الملك: وهذا هو الذي يفقه من قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ [الشورى: 51] وهذا الرسول هو جبريل، وقد يكون غيره وذلك في أحوال قليلة (¬4). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 62 ¬

(¬1) رواه الطبراني (8/ 166) (7710). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2085) وعزاه لابن حبان. (¬2) ((زاد المسير)) (7/ 297). (¬3) رواه البخاري (3)، ومسلم (160). (¬4) انظر: ((عالم الملائكة)) لعمر الأشقر (ص: 40).

المبحث الرابع: صفة مجيء الملك إلى الرسول

المبحث الرابع: صفة مجيء الملك إلى الرسول بالتأمل في النصوص في هذا الموضوع نجد أنّ للملك ثلاثة أحوال (¬1): الأول: أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلقه الله عليها، ولم يحدث هذا لرسولنا صلى الله عليه وسلم إلا مرتين. الثاني: أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس، فيذهب عنه وقد وعى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال. الثالث: أن يتمثل له الملك رجلاً فيكلّمه ويخاطبه ويعي عنه قوله، وهذه أخف الأحوال على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حدث هذا من جبريل في اللقاء الأول عندما فجأه في غار حراء. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 64 ¬

(¬1) انظر: ((عالم الملائكة)) لعمر الأشقر (ص: 40).

المبحث الخامس: بشائر الوحي

المبحث الخامس: بشائر الوحي كان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل معاينته للملك، يرى ضوءاً، ويسمع صوتاً، ولكنه لا يرى الملك الذي يحدث الضوء، ولا يرى مخاطبه والهاتف به، روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: ((مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة، يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئاً، وثمان سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشراً)) (¬1). قال النووي: (يسمع الصوت ويرى الضوء) قال القاضي: (أي: صوت الهاتف من الملائكة، ويرى الضوء، أي: نور الملائكة، ونور آيات الله، حتى رأى الملك بعينيه، وشافهه بوحي الله) (¬2). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 64 ¬

(¬1) رواه مسلم (123). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (15/ 104).

المبحث السادس: أثر الملك في الرسول

المبحث السادس: أثر الملك في الرسول من المزاعم التي يدعيها المكذبون بالرسل أن ما كان يصيب الرسول صلى الله عليه وسلم إنّما هو نوع من الصرع، أو اتصال من الشياطين به، وكذبوا في دعواهم، فالأمران مختلفان، فالذي يصيبه الصرع يصفرُّ لونه، ويخفُّ وزنه، ويفقد اتزانه، وكذلك الذي يصيبه الشيطان، وقد يتكلم الشيطان على لسانه، ويخاطب الحاضرين، وعندما يفيق من غيبوبته لا يدري ولا يذكر شيئاً ممّا خاطب به الشيطان الحاضرين على لسانه، أمّا الرسول صلى الله عليه وسلم فإن اتصال الملك به نماء في جسده، وإشراق في وجهه، ثمّ إن الجالسين لا يسمعون كلاماً، إنما يسمعون دوياً كدويّ النحل عند وجهه (¬1)، ويقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وقد وعى كلّ ما أخبر به الملك، فيكون هو الذي يخبر أصحابه بما أوحي إليه. فقد أخبرتنا عائشة – رضي الله عنها وعن أبيها – ((أنها رأت الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً)) (¬2). وفي رواية عنها: ((إن كان لينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغداة الباردة، ثم تفيض جبهته عرقاً)) (¬3). وأخبرتنا ((أنّ ناقته عندما كان يوحى إليه وهو فوقها يضرب حزامها وتكاد تبرك به من ثقله فوقها)) (¬4) ويذكر أحد الصحابة ((أنّ فخذه كانت تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل إليه، فكادت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم حين الإنزال إليه ترض فخذ الصحابي)) (¬5). وهذا يعلى بن أمّية يحدثنا عن مشاهدة تنزُّل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان يتمنى قبل ذلك أن يراه في تلك الحال، قال: ((فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمّر الوجه، وهو يغطُّ، ثمّ سُرِّي عنه)) (¬6). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 65 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3173)، وأحمد (1/ 34) (223)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (1/ 450) (1439)، والحاكم (2/ 425). من حديث عمر رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (3/ 154)، وصححه ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (3/ 311)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 32) كما قال ذلك في المقدمة. (¬2) رواه البخاري (2). (¬3) رواه مسلم (2333). (¬4) ذكره ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 21) وقال: زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في ((الدلائل)): (وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه). (¬5) رواه البخاري (2832). من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. بلفظ: ((فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه)). (¬6) رواه البخاري (1536)، ومسلم (1180).

المبحث السابع: هل يمكن أن يستغني العقل عن الوحي

المبحث السابع: هل يمكن أن يستغني العقل عن الوحي يزعم الناس في عالم اليوم أنّه يمكنهم الاستغناء عن الرسل والرسالات بالعقول التي وهبهم الله إياها، ولذلك نراهم يسنُّون القوانين، ويحلُّون ويحرمون، ويخططون ويوجهون، ومستندهم في ذلك كلّه أن عقولهم تستحسن ذلك أو تقبحه، وترضى به أو ترفضه، وهؤلاء لهم سلف قالوا مثل مقالتهم هذه (فالبراهمة – وهم طائفة من المجوس – زعموا أن إرسال الرسل عبث، لا يليق بالحكيم، لإغناء العقل عن الرسل، لأنّ ما جاءت به الرسل إن كان موافقاً للعقل حسناً عنده فهو يفعله، وإن لم يأت به، وإن كان مخالفاً قبيحاً – فإن احتاج إليه فعله وإلاّ تركه) (¬1). ولا يجوز في مجال الحجاج والنزاع أن يبادر المسلم إلى إنكار قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح، (فإنّ الله قد فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح، وركب في عقولهم إدراك ذلك، والتمييز بين النوعين، كما فطرهم على الفرق بين النافع والضار والملائم لهم والمنافر، وركب في حواسهم إدراك ذلك، والتمييز بين أنواعه. والفطرة الأولى: (وهي فطرته العباد على الفرق بين الحسن والقبيح) هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات، وأما الفطرة الثانية (وهي فطرته للعباد على الفرق بين النافع والضار .. ) فمشتركة بين أصناف الحيوان) (¬2) والذي ينبغي أن ينازع فيه أمور: الأول: أنّ هناك أموراً هي مصلحة للإنسان لا يستطيع الإنسان إدراكها بمجرد عقله، لأنها غير داخلة في مجال العقل ودائرته، (فمن أين للعقل معرفة الله – تعالى – بأسمائه وصفاته .. ؟ ومن أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده؟ ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعدّ لأوليائه، وما أعدّ لأعدائه، ومقادير الثواب والعقاب، وكيفيتهما، ودرجاتهما؟ ومن أين له معرفة الغيب الذي لم يُظهِر اللهُ عليه أحداً من خلقه إلاّ من ارتضاه من رسله إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل، وبلغته عن الله، وليس في العقل طريق إلى معرفته) (¬3). الثاني: أن الذي يدرك العقل حسنه أو قبحه يدركه على سبيل الإجمال، ولا يستطيع أن يدرك تفاصيل ما جاء به الشرع، وإن أدركت التفاصيل فهو إدراك لبعض الجزئيات وليس إدراكاً كلياً شاملاً: (فالعقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلاً أو ظلماً فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كلّ فعل وعقد) (¬4). الثالث: أن العقول قد تحار في الفعل الواحد، فقد يكون الفعل مشتملاً على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أو مصلحته، فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك، وتأتي الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من حيث هو مفسدة في حقّه، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة، والمفسدة الراجحة (¬5). وفي هذا يقول ابن تيمية: (الأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم يجيئوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول) (¬6). الرابع: ما يتوصل إليه العقل وإن كان صحيحاً، فإنه ليس إلا فرضيات، قد تجرفها الآراء المتناقضة، والمذاهب الملحدة. ولو استطاعت البقاء فإنها – في غيبة الوحي – ستكون تخمينات شتى، يلتبس فيها الحق بالباطل. ¬

(¬1) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 256). (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 116). (¬3) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 117). (¬4) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 117). (¬5) ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 117). (¬6) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (2/ 312).

بطلان قول البراهمة: والبراهمة الذين يزعمون أنّ العقل يغني عن الوحي لا نحتاج إلى إيراد الحجج لإبطال قولهم، وكل ما نفعله أن نوجه الأنظار إلى ما قادتهم إليه عقولهم التي زعموا أنهم يستغنون بها عن الوحي، هذا زعيم من زعمائهم في القرن العشرين يقول مفاخراً (¬1): (عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً، لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع). ولقد قاده عقله إلى تفضيل أمّه البقرة على أمّه التي ولدته: (وأمي البقرة تفضل أمّي الحقيقية من عدة وجوه، فالأمّ الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين، وتتطلب منّا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكنّ أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً، ولا تطلب منّا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي .. ) ومضى عابد البقر يقارن بين أمّه البقرة وأمّه الحقيقية مورداً الحجج والبراهين على أفضلية أمّه البقرة على أمّه الحقيقية إلى أن قال: (إنّ ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعدّ نفسي واحداً من هؤلاء الملايين). وقد قرأت منذ مدة في مجلة العربي التي تصدر في الكويت عن معبد فخم مكسو بالرخام الأبيض ترسل إليه الهدايا والألطاف – من شتى أنحاء الهند، بقي أن تعلم أنّ الآلهة التي تقدم لها القرابين وترسل لها النذور في ذلك المعبد الفخم إنّما هي الفئران. هذه بعض الترهات التي هدتهم إليها عقولهم التي زعموا أنّ فيها غنية عن الوحي الإلهي. مجالات العقل: إن الذين يريدون أن يستغنوا عن الوحي بالعقل يظلمون العقل ظلماً كبيراً، ويبددون طاقة العقل في غير مجالها، (إن للعقل اختصاصه وميدانه وطاقته، فإذا اشتغل خارج اختصاصه جانبه الصواب، وحالفه الشطط والتخبط، وإذا أجري في غير ميدانه كبا وتعثر، وإذا كلف فوق طاقته كان نصيبه العجز والكلال. إن العالم المادي المحسوس أو عالم الطبيعة هو ميدان العقل الفسيح الذي يصول فيه ويجول، فيستخرج مكنوناته، ويربط بين أسبابه وعلله، ومقدماته ونتائجه، فيكشف ويخترع، ويتبحّر في العلوم النافعة في مختلف ميادين الحياة، وتسير عجلة التقدم البشري إلى أمام. أما إذا كلف النظر خارج اختصاصه أعني ما وراء الطبيعة فإنه يرجع بعد طول البحث والعناء بما لا يروي غليلاً ولا يشفي عليلاً، بل يرجع بسخافات وشطحات) (¬2). موقع العقل من الوحي: يزعم كثير من الناس أن الوحي يلغي العقل ويطمس نوره، ويورثه البلادة والخمول، وهذا زعم كاذب، ليس له من الصحة نصيب، فالوحي الإلهي وجّه العقول إلى النظر في الكون والتدبر فيه، وحث الإنسان على استعمار هذه الأرض، واستثمارها، وفي مجال العلوم المنزلة من الله وظيفة العقل أن ينظر فيها، ليستوثق من صحة نسبتها إلى الله تعالى، فإن تبين له صحة ذلك فعليه أن يستوعب وحي الله إليه، ويستخدم العقل الذي وهبه الله إياه في فهم وتدبر الوحي، ثم يجتهد في التطبيق والتنفيذ. والوحي مع العقل كنور الشمس أو الضوء مع العين، فإذا حجب الوحي عن العقل لم ينتفع الإنسان بعقله، كما أنّ المبصر لا ينتفع بعينه إذا عاش في ظلمة، فإذا أشرقت الشمس، وانتشر ضوؤها انتفع بناظريه، وكذلك أصحاب العقول إذا أشرق الوحي على عقولهم وقلوبهم أبصرت واهتدت فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 35 ¬

(¬1) هو زعيم الهند غاندي، انظر أقواله في كتاب ((مقارنة الأديان)) (4/ 32). وانظر: ((نظرات في النبوة)) (ص: 27). (¬2) ((نظرات في النبوة)) (ص: 17).

الباب الرابع: صفات الرسل وهل هم معصومون؟

تمهيد جاءت حكمة العليم الخبير أن يكون الرسل الذين يرسلهم إلى البشر من البشر أنفسهم قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف: 110]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 69

المطلب الأول: أهلية البشر لتحمل الرسالة

المطلب الأول: أهلية البشر لتحمّل الرسالة الذين يستعظمون ويستبعدون اختيار الله بعض البشر لتحمّل الرسالة لا يقدرون الإنسان قدره، فالإنسان مؤهل لتحمّل الأمانة العظمى، أمانة الله التي أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها، إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب: 72]. والذين استعظموا اختيار الله البشر رسلاً نظروا إلى المظهر الخارجي للإنسان، نظروا إليه على أنه جسد يأكل ويشرب وينام، ويمشي في الأرض لتلبية حاجاته وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 7]، ولم ينظروا إلى جوهر الإنسان، وهو تلك الروح التي هي نفخة من روح الله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 29]. وبهذه الروح تميز الإنسان، وصار إنساناً، واستخلف في الأرض، وقد أودعه الله الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته، فلا عجب أن يختار الله واحداً من هذا الجنس، صاحب استعداد للتلقي، فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلّما غام عليهم الطريق، وما يقدم به إليهم العون كلّما كانوا بحاجة إلى العون (¬1) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نّحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَكِنّ اللهَ يَمُنّ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم: 11]. ثمَّ إنّ الرسل يُعدّون إعداداً خاصّاً لتحمُّل النبوة والرسالة، ويصنعون صنعاً فريداً وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41]، واعتبر هذا بحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كيف رعاه الله وحاطه بعنايته على الرغم من يتمه وفقره أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىَ وَوَجَدَكَ ضَآلًّا فَهَدَىَ وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىَ [الضحى: 6 - 8]، وقد زكّاه وطهّره، وأذهب عنه رجس الشيطان، وأخرج منه حظّ الشيطان منذ كان صغيراً، فعن أنس بن مالك ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشقّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثمّ غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه (¬2)، يعني ظئره، فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللّون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره)) (¬3). وحدث قريب من هذا عندما جاءه جبريل يهيئه للرحلة الكبرى للعروج به إلى السماوات العلى، ففي حديث الإسراء: ((فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم، ففرج صدري، ثمّ غسله من ماء زمزم، ثمّ جاء بطست من مذهب ممتلئ حكمة وإيماناً، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه)) متفق عليه (¬4). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 69 ¬

(¬1) انظر: ((في ظلال القرآن)) (19/ 2552). (¬2) المقصود: أمه من الرضاع، وهي حليمة السعدية. (¬3) رواه مسلم (261). (¬4) رواه البخاري (349)، ومسلم (263) واللفظ له.

المطلب الثاني: لم لم يكن الرسل ملائكة؟

المطلب الثاني: لِمَ لَمْ يكن الرسل ملائكة؟ لقد كثر اعتراض أعداء الرسل على بعثة الرسل من البشر، وكان هذا الأمر من أعظم ما صدّ الناس عن الإيمان، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً [الإسراء: 94] وعدّوا اتباع الرسل بسبب كونهم بشراً فيما جاؤوا به من عقائد وشرائع أمراً قبيحاً، وعدُّوه خسراناً مبيناً وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنّكُمْ إِذاً لّخَاسِرُونَ [المؤمنون: 34]، فَقَالُوَاْ أَبَشَراً مّنّا وَاحِداً نّتّبِعُهُ إِنّآ إِذاً لّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ [القمر: 24]، وقد اقترح أعداء الرسل أن يكون الرسل الذين يبعثون إليهم من الملائكة يعاينونهم ويشاهدونهم، أو على الأقل يبعث مع الرسول البشري رسولاً من الملائكة، وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [الفرقان: 21]، وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: 7]. وعندما نتأمل النصوص القرآنية يمكننا أن نرّد على هذه الشبهة من وجوه: الأول: أن الله اختارهم بشراً لا ملائكة لأنّه أعظم في الابتلاء والاختبار، ففي الحديث القدسي الذي يرويه مسلم في صحيحه: ((إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)) (¬1). الثاني: أن في هذا إكراماً لمن سبقت لهم منه الحسنى، فإن اختيار الله لبعض عباده ليكونوا رسلاً تكريم وتفضيل لهم، أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا .. [مريم: 58]. الثالث: أنّ البشر أقدر على القيادة والتوجيه، وهم الذين يصلحون قدوة وأسوة، يقول سيد قطب رحمه الله في هذا: (وإنها لحكمة تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر، واحد من البشر يحسّ بإحساسهم، ويتذوق مواجدهم، ويعاني تجاربهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم. .، ومن ثمّ يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو في قوتهم واستعلائهم، ويسير بهم خطوة خطوة، وهو يفهم بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم، لأنّه في النهاية واحد منهم، يرتاد بهم الطريق إلى الله، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق. وهم من جانبهم يجدون فيه القدرة الممكنة، لأنّه بشر مثلهم، يتسامى بهم رويداً رويداً، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أنّ الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم، فيكون بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم، ينقلونها سطراً سطراً، ويحققونها معنى معنى، وهم يرونها بينهم، فتهفوا نفوسهم إلى تقليدها، لأنها ممثلة في إنسان) (¬2). الرابع: صعوبة رؤية الملائكة، فالكفار عندما يقترحون رؤية الملائكة، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك. ¬

(¬1) رواه مسلم (2865). (¬2) ((في ظلال القرآن)) (19/ 2553).

فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع كونه أفضل الخلق، وهو على جانب عظيم من القوة الجسمية والنفسية عندما رأى جبريل على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني من اتصال الوحي به شدّة، ولذلك قال في الردّ عليهم: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان: 22]، ذلك أنّ الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب، فلو قُدِّر أنهم رأوا الملائكة لكان ذلك اليوم يوم هلاكهم. فكان إرسال الرسل من البشر ضرورياً كي يتمكنوا من مخاطبتهم والفقه عنهم، والفهم منهم، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة لما أمكنهم ذلك. وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً [الإسراء: 94 - 95] فلو كان سكان الأرض ملائكة لأرسل الله إليهم رسولاً من جنسهم، أما وأن الذين يسكنون الأرض بشر فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: 164]. وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهولة فيقتضي هذا – لو شاء الله أن يرسل ملكاً رسولاً إلى البشر – أن يجعله رجلاً وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] فالله يخبر أنه (لو بعث رسولاً ملكياً، لكان على هيئة رجل، ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس الأمر عليهم) (¬1). والتباس الأمر عليهم بسبب كونه في صورة رجل، فلا يستطيعون أن يتحققوا من كونه ملكاً، وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة من إرسال الرسل من الملائكة على هذا النحو، بل إرسالهم من الملائكة على هذا النحو لا يحقق الغرض المطلوب، لكون الرسول الملك لا يستطيع أن يحس بإحساس البشر وعواطفهم وانفعالاتهم وإن تشكل بأشكالهم. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 70 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 9).

المطلب الثالث: مقتضى بشرية الأنبياء والرسل

المطلب الثالث: مقتضى بشرية الأنبياء والرسل مقتضى كون الرسل بشراً أن يتصفوا بالصفات التي لا تنفك البشرية عنها، وهي: أولاً: يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون ويولد لهم: الرسل والأنبياء يحتاجون لما يحتاج إليه البشر من الطعام والشراب، ويحدِثونَ كما يحدث البشر، لأنّ ذلك من لوازم الطعام والشراب، وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ [الأنبياء: 7 - 8]. ومن ذلك أنهم ولدوا كما ولد البشر، لهم آباء وأمهات، وأعمام وعمات، وأخوال وخالات، يتزوجون ويولد لهم، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرّيّةً [الرعد: 38]. ويصيبهم ما يصيب البشر من أعراض، فهم ينامون ويقومون، ويصحون ويمرضون، ويأتي عليهم ما يأتي على البشر وهو الموت، فقد جاء في ذكر إبراهيم خليل الرحمن لربه: وَالّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالّذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ [الشعراء: 79 - 81]. وقال الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مّيّتُونَ [الزمر: 30]، وقال مبيناً أنّ هذه سنته في الرسل كلهم: وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144] وقد جاء في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كان بشراً من البشر: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه)) (¬1). وقد صح أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأمّ سُلَيم: ((يا أم سُلَيم، أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيّما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها طَهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة)) (¬2). ثانياً: تعرض الأنبياء للبلاء: ومن مقتضى بشرية الرسل أنّهم يتعرضون للابتلاء كما يتعرض البشر، فقد يسجنون كما سجن يوسف قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ [يوسف: 33]، وذكر الله أنه فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف: 42]، وقد يصيبهم قومهم بالأذى وقد يدمونهم، كما أصابوا الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد فأدموه، وكسروا رباعيته، وقد يخرجونهم من ديارهم كما هاجر إبراهيم من العراق إلى الشام، وكما هاجر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وقد يقتلونهم أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة: 87] وقد يصابون بالأمراض، كما ابتلى الله نبيّه أيوب فصبر، وقد صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أن نبيّ الله أيوب لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه .. )) (¬3). ¬

(¬1) رواه أحمد (6/ 256) (26237)، وأبو يعلى (8/ 286) (4873)، وابن حبان (12/ 488) (5675). من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5760)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند. (¬2) رواه مسلم (2603). (¬3) رواه أبو يعلى (6/ 299) (3617)، وابن حبان (7/ 157) (2898)، والحاكم (2/ 635)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 374)، والضياء (7/ 184) (2617). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال الضياء: إسناده صحيح.

وكان من ابتلائه أن ذهب أهله وماله، وكان ذا مال وولد كثير، وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىَ لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 83 - 84]. والأنبياء لا يصابون بالبلاء فحسب، بل هم أشدُّ الناس بلاءً، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: ((قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)) (¬1). ((ودخل أبو سعيد الخدري على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضع يده على الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد حرّه بين يديه فوق اللحاف، فقال: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك، يُضّعَّف علينا البلاء، ويُضَعَّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة التي يُحَوِّيها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء)) (¬2). ثالثاً: اشتغال الأنبياء بأعمال البشر: ومن مقتضى بشريتهم أنهم قد يقومون بالأعمال والأشغال التي يمارسها البشر، فمن ذلك اشتغال الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجارة، قبل البعثة، ومن ذلك رعي الأنبياء للغنم، فقد روى جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: ((كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكَبَاث وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالأسود منه، فإنّه أطيبه، قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: وهل من نبي إلا وقد رعاها)) رواه البخاري في صحيحه (¬3). ومن الأنبياء الذين نصّ القرآن على أنهم رعوا الغنم نبيّ الله موسى عليه السلام، فقد عمل في ذلك عدةّ سنوات، فقد قال له العبد الصالح: إِنّيَ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيّ هَاتَيْنِ عَلَىَ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيّ وَاللهُ عَلَىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص: 27 - 28] قال ابن حجر: (والذي قاله الأئمة أن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتعتاد قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها إلى سياسة الأمم) (¬4). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2398)، وابن ماجه (3265)، وأحمد (1/ 173) (1494)، والدارمي (2/ 412) (2783)، وابن حبان (7/ 161) (2901)، والحاكم (1/ 100). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (832) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 97)، وقال ابن القيم في ((طريق الهجرتين)) (226): ثابت، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 167) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬2) رواه ابن ماجه (3266)، وأبو يعلى (2/ 312) (1045)، والحاكم (1/ 99). وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال البوصيري (2/ 286): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه على شرط مسلم الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (144). (¬3) رواه البخاري (3406). ورواه مسلم (2050). (¬4) ((فتح الباري)) (6/ 439).

ومن الأنبياء الذي عملوا بأعمال البشر داود عليه السلام، فقد كان حدّاداً يصنع الدروع، قال تعالى: وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء: 80]، كان حداداً، وفي نفس الوقت كان ملكاً، وكان يأكل مما تصنعه يداه. ونبي الله زكريا كان يعمل نجاراً، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان زكريا يعمل نجاراً)) (¬1). رابعاً: ليس فيهم شيء من خصائص الألوهية والملائكية: ومقتضى كونهم بشراً أنهم ليسوا بآلهة، وليس فيهم من صفات الألوهية شيء، ولذلك فإنّ الرسل يتبرَّؤون من الحول والطول ويعتصمون بالله الواحد الأحد، ولا يَدَّعون شيئاً من صفات الله تعالى، قال تعالى مبيناً براءة عيسى مما نسب إليه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 116 - 117]. هذه مقالة عيسى في الموقف الجامع في يوم الحشر الأكبر، وهي مقولة صدق تنفي تلك الأكاذيب والترهات التي وصف بها النصارى عبد الله ورسوله عيسى فطائفة قالت: الله هو المسيح ابن مريم حلّ في بطن مريم لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 72]، وأخرى قالت: هو ثالث ثلاثة لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73] وطائفة ثالثة قالوا: هو ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً [مريم: 88 - 89]. لقد غلا النصارى في عيسى غلواً عظيماً، وهم بمقالتهم الغالية هذه يسبُّون الله أعظم سبّ وأقبحه، فهم يزعمون: (أنّ ربَّ العالمين نزل عن كرسي عظمته، فالتحم ببطن أنثى، وأقام هناك مدةً من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء، تحت ملتقى الأعكان، ثمّ خرج صبياً رضيعاً يشبُّ شيئاً فشيئاً، ويبكي، ويأكل، ويشرب، ويبول، ويتقلب مع الصبيان، ثمّ أودع المكتب بين صبيان اليهود، يتعلم ما ينبغي للإنسان، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثمّ جعل اليهود يطردونه من مكان إلى مكان، ثمّ قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذلّ والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثمّ ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله والأيمان، ثمّ أركبوه ذلك المركب الذي تقشعرُّ منه القلوب مع الأبدان، ثمّ شدّت بالحبال يده مع الرجلين، ثمّ خالطهما تلك المسامير، التي تكسر العظام، وتمزق اللحمان، وهو يستغيث، ويقول: ارحموني، فلا يرحمه منهم إنسان، هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي، الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، ثمّ مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوّان، ثمّ قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان) (¬2). فأيّ سبّ أعظم من هذا السبّ الذي نسبوه إلى الباري جل وعلا! وأي ضلال أعظم من هذا الضلال!. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 74 ¬

(¬1) رواه مسلم (2379) بلفظ: ((كان زكريّاء نجاراً)). (¬2) ((هداية الحيارى)) (ص: 3 - 4).

المطلب الرابع: الكمال البشري

المطلب الرابع: الكمال البشري لا شكّ أن البشر يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً كبيراً في الخَلْق والخُلُق، والمواهب، فمن البشر القبيح والجميل وبين ذلك، ومنهم الأعمى والأعور والمبصر بعينه، والمبصرون يتفاوتون في جمال عيونهم وفي قوة أبصارهم، ومنهم الأصم والسميع وبين ذلك، ومنهم ساقط المروءة، ومنهم ذو المروءة والهمة العالية. ولا شكّ أن الأنبياء والرسل يمثلون الكمال الإنساني في أرقى صوره، ذلك أنّ الله اختارهم واصطفاهم لنفسه، فلا بدّ أن يختار أطهر البشر قلوباً، وأزكاهم أخلاقاً، وأجودهم قريحة، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124]. والكمال البشري يتحقق فيما يأتي: - الكمال في الخلقة الظاهرة: لقد حذرنا الله تعلى من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب: 69]. وقد بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إيذاء بني إسرائيل لموسى كان باتهامهم إياه بعيب خلقي في جسده، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ موسى كان رجلاً حيياً ستَّيراً لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلاّ من عيب بجلده: إما برص، وإمّا أُدْرة، وإمّا آفة، وإنّ الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثمّ اغتسل، فلمّا فرغ، أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنّ الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل فرأوه عرياناً، أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ بثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إنّ بالحجر لندباً من أثر ضربه، ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فذلك قوله: يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً [الأحزاب: 69])) (¬1). قال ابن حجر العسقلاني معقباً على الحديث: (وفيه أن الأنبياء في خَلقهم وخُلُقهم، على غاية الكمال، وأن من نسب نبيّاً إلى نقص في خلقته فقد آذاه، ويخشى على فاعله الكفر) (¬2). - الصور الظاهرة مختلفة: ليس معنى كون الرسل أكمل الناس أجساماً أنهم على صفة واحدة صورة واحدة، فالكمال الذي يدهش ويعجب متنوع وذلك من بديع صنع الواحد الأحد وكمال قدرته. وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأنبياء والرسل، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ليلة أسري بي رأيت موسى، وإذا هو رجل ضَرْبٌ من الرجال، كأنه من رجال شَنوءة)) (¬3). وقال في عيسى: ((ورأيت عيسى، فإذا هو رجل ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس)) (¬4). وقال فيه أيضاً: (ليس بيني وبينه نبيٌّ، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع، إلى الحمرة والبياض، ينزل بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (3404)، ومسلم (339). (¬2) ((فتح الباري)) (6/ 438). (¬3) رواه البخاري (3394)، ومسلم بنحوه (168). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (3394)، ومسلم (168). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه أبو داود (4324)، وأحمد (2/ 437) (9630)، وابن حبان (15/ 233)، والحاكم (2/ 651). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

وقد وصف لنا الصحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قولهم: (كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، ليس بجعد قَطِطٍ، ولا سَبْطٍ رَجِلٍ) (¬1)، وقالوا فيه: (كان أحسن الناس. . ربعة، إلى الطول ما هو، بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العينين، أهدب الأشفار، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس له أخمص، إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة) (¬2). وكان الرسول أشبه الناس بنبي الله إبراهيم كما أخبرنا عليه السلام بذلك (¬3). - الكمال في الأخلاق: لقد بلغ الأنبياء في هذا مبلغاً عظيماً، وقد استحقوا أن يثني عليهم ربّ الكائنات فقد أثنى الله على خليله إبراهيم عليه السلام فقال: إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّاهٌ مّنِيبٌ [هود: 75]. وقالت ابنة العبد الصالح تصف موسى: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26]. وأثنى الله على إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد، وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً [مريم: 54]. وأثنى الله – جلّ جلاله، وتقدست أسماؤه – على خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثناءً عطراً، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]. فقد وصف الله – سبحانه – خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنّه عظيم، وأكّد ذلك بثلاثة مؤكدات: أكّد ذلك بالإقسام عليه بنون والقلم وما يسطرون، وتصديره بإنّ، وإدخال اللام على الخبر. ومن خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم الذي نوَّه الله به ما جبله عليه من الرحمة والرأفة لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]. وقد كان لهذه الأخلاق أثر كبير في هداية الناس وتربيتهم، هذا صفوان بن أميّة يقول: (والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض خلق الله إليّ، فما زال يعطيني حتى إنّه من أحبِّ الناس إليّ) (¬4). وفي صحيح مسلم عن أنس ((أنّ رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم، أسلموا، فوالله إن محمداً ليعطي عطاءً، ما يخاف الفقر)) (¬5). ولو لم يتصف الرسل بهذا الكمال الذي حباهم الله به لما انقاد الناس إليهم، ذلك أن الناس لا ينقادون عن رضاً وطواعية لمن كثرت نقائصه، وقلت فضائله. - خير الناس نسباً: الرسل ذوو أنساب كريمة، فجميع الرسل بعد نوح من ذريته، وجميع الرسل بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ .. [الحديد: 26]. ولذلك فإنّ الله – سبحانه – يصطفي لرسالته من كان خيار قومه في النسب، وفي الحديث الذي يرويه البخاري، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت منه)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (3547)، ومسلم (2347). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (1/ 275)، والبزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (8/ 283). وقال: رجاله وثقوا، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4633). (¬3) رواه البخاري (3394)، ومسلم (168). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (2313). (¬5) رواه مسلم (2312). (¬6) رواه البخاري (3557). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي مسند أحمد وسنن الترمذي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إنّ الله – تعالى – خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثمّ جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثمّ جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً)) (¬1). وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)) (¬2). - أحرار بعيدون عن الرق: ومن صفات الكمال أنّ الأنبياء لا يكونون أرقاء. يقول السفاريني في هذا: (الرق وصف نقص لا يليق بمقام النبوة، والنبي يكون داعياً للناس آناء الليل وأطراف النهار، والرقيق لا يتيسر له ذلك، وأيضاً الرقّيَّة وصف نقص يأنف الناس ويستنكفون من اتباع من اتصف بها، وأن يكون إماماً لهم وقدوة، وهي أثر الكفر، والأنبياء منزهون عن ذلك) (¬3). - التفرد في المواهب والقدرات: الأنبياء أُعطوا العقول الراجحة، والذكاء الفذ، واللسان المبين، والبديهة الحاضرة، وغير ذلك من المواهب والقدرات التي لا بدّ منها لتحمل الرسالة ثم إبلاغها ومتابعة الذين تقبلوها بالتوجيه والتربية. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ما يُلقى إليه ولا ينسى منه كلمة سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى [الأعلى: 6]. وقد كانوا يعرضون دين الله للمعارضين ويفحمونهم في معرض الحجاج، وفي هذا المجال أسكت إبراهيم خصمه فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ [البقرة: 258]، وقال الله معقباً على محاججة إبراهيم لقومه: وَتِلْكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىَ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ [الأنعام: 83]. وموسى كان يجيب فرعون على البديهة حتى انقطع، فانتقل إلى التهديد بالقوة قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ قَالَ إِنّ رَسُولَكُمُ الّذِيَ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأجْعَلَنّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 23 - 29]. - الكمال في تحقيق العبودية: ¬

(¬1) رواه الترمذي (3608)، وأحمد (1/ 210) (1788). من حديث المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1472). (¬2) رواه مسلم (2276). (¬3) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 265).

بيّنا الكمال الذي حبا الله به رسله في صورهم الظاهرة، وأخلاقهم الباطنة، والمواهب والسجايا التي أعطاهم إياها في ذوات أنفسهم، وهناك نوع آخر من الكمال وفق الله رسله وأنبياءه لتحصيله، وهو تحقيق العبودية لله في أنفسهم. فكلّما كان الإنسان أكثر تحقيقاً للعبودية لله تعالى، كلَّما كان أكثر رقيّاً في سلّم الكمال الإنساني، وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية لله كلما هبط وانحدر. والرسل حازوا السبق في هذا الميدان، فقد كانت حياتهم انطلاقة جادة في تحقيق هذه العبودية، وهذا خاتم الرسل وسيد المرسلين يثني عليه ربّه في أشرف المقامات بالعبودية، فيصفه بها في مقام الوحي فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ [النجم: 10]، وفي مقام إنزال الكتاب تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1]، وفي مقام الدعوة وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19]، وفي مقام الإسراء سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ .. [الإسراء: 1] وبهذه العبودية التامة استحق صلوات الله وسلامه عليه التقديم على الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك فإن المسيح عليه السلام يقول للناس إذا طلبوا منه الشفاعة بعد طلبها من الرسل من قبله: ((ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) (¬1). وإليك صورة من صور هذه العبودية ترويها لنا أمّنا عائشة – رضي الله عنها – قالت رضي الله عنها وعن أبيها: ((قلت: يا رسول الله، كُلْ – جعلني الله فداك – متكئاً، فإنّه أهون عليك، فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض، وقال: بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)) رواه البغوي في (شرح السنة)، وابن سعد، والإمام أحمد في (الزهد) (¬2). - الذكورة: ومن الكمال الذي حباهم به أنه اختار جميع الرسل الذين أرسلهم من الرجال، ولم يبعث الله رسولاً من النساء يدلُّ على ذلك صيغة الحصر التي وردت في قوله تعالى: وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 7]. الحكمة من كون الرسل رجالاً: كان الرسل من الرجال دون النساء لحكم يقتضيها المقام فمن ذلك: 1 - أنّ الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة، ومخاطبة الرجال والنساء، ومقابلة الناس في السرّ والعلانية، والتنقل في فجاج الأرض، ومواجهة المكذبين ومحاججتهم ومخاصمتهم، وإعداد الجيوش وقيادتها، والاصطلاء بنارها، وكل هذا يناسب الرجال دون النساء. 2 - الرسالة تقتضي قوامة الرسول على من يتابعه، فهو في أتباعه الآمر الناهي، وهو فيهم الحاكم والقاضي، ولو كانت الموكلة بذلك امرأة لَمْ يتم ذلك لها على الوجه الأكمل، ولاستنكف أقوام من الاتباع والطاعة. 3 - الذكورة أكمل كما بينا آنفاً، ولذلك جعل الله القوامة للرجال على النساء الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء: 34] وأخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنّ النساء ناقصات عقل ودين. 4 - المرأة يطرأ عليها ما يعطلها عن كثير من الوظائف والمهمات، كالحيض والحمل والولادة والنفاس، وتصاحب ذلك اضطرابات نفسية وآلام وأوجاع، عدا ما يتطلبه الوليد من عناية، وكل ذلك مانع من القيام بأعباء الرسالة وتكاليفها. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 78 ¬

(¬1) رواه البخاري (6565). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (1/ 381)، والبغوي في ((شرح السنة)) (11/ 287)، ورواه أبو يعلى (8/ 318) (4920)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (4/ 74). قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 194): حسن غريب، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 22): رواه أبو يعلى وإسناده حسن، وحسن سنده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/ 17)، وصححه الألباني ((صحيح الجامع)) (7).

المبحث الثاني: نبوة النساء

المبحث الثاني: نبوّة النساء ذهب بعض العلماء إلى أنّ الله أنعم على بعض النساء بالنبوة، فمن هؤلاء أبو الحسن الأشعري والقرطبي وابن حزم (¬1). والذين يقولون بنبوة النساء متفقون على نبوة مريم، ومنهم من ينسب النبوة إلى غيرها، ويعدّون من النساء النبيات: حواء وسارة وأمّ موسى وهاجر وآسية. وهؤلاء عندما اعترض عليهم بالآية التي تحصر الرسالة في الرجال دون النساء، قالوا: نحن لا نخالف في ذلك، فالرسالة للرجال، أمّا النبوة فلا يشملها النصُّ القرآني، وليس في نبوة النساء تلك المحذورات التي عددتموها فيما لو كان من النساء رسول، لأنَّ النبوة قد تكون قاصرة على صاحبها، يعمل بها، ولا يحتاج إلى أن يبلغها إلى الآخرين. أدلتهم: وحجّة هؤلاء أن القرآن أخبر بأن الله تعالى أوحى إلى بعض النساء، فمن ذلك أنه أوحى إلى أمّ موسى: وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّ مُوسَىَ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيَ إِنّا رَآدّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]، وأرسل جبريل إلى مريم فخاطبها فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لِأهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً .. [مريم: 17 - 19] وخاطبتها الملائكة قائلة: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ .. [آل عمران: 42 - 43]. فأبو الحسن الأشعري يرى أنّ كلَّ من جاءه الملك عن الله – تعالى – بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام فهو نبي (¬2)، وقد تحقق في أمّ موسى ومريم شيء من هذا، وفي غيرهما أيضاً، فقد تحقق في حواء وسارة وهاجر وآسية بنصّ القرآن. واستدلوا أيضاً باصطفاء الله لمريم على العالمين وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 42] وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون)) (¬3). قالوا: الذي يبلغ مرتبة الكمال هم الأنبياء. الردّ عليهم: وهذا الذي ذكروه لا ينهض لإثبات نبوة النساء، والرد عليهم من وجوه: الأول: أنّا لا نسلم لهم أن النبي غير مأمور بالتبليغ والتوجيه ومخالطة الناس، والذي اخترناه أن لا فرق بين النبي والرسول في هذا، وأنَّ الفرق واقع في كون النبي مرسل بتشريع رسول سابق. وإذا كان الأمر كذلك فالمحذورات التي قيلت في إرسال رسول من النساء قائمة في بعث نبي من النساء، وهي محذورات كثيرة تجعل المرأة لا تستطيع القيام بحقّ النبوة. ¬

(¬1) انظر: ((فتح الباري)) (6/ 447 - 448، 473)، ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (2/ 266). (¬2) ((فتح الباري)) (6/ 447). (¬3) رواه البخاري (3769)، ومسلم (2431). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

الثاني: قد يكون وحي الله إلى هؤلاء النسوة أم موسى وآسية. . إنّما وقع مناماً، فقد علمنا أنّ من الوحي ما يكون مناماً، وهذا يقع لغير الأنبياء. الثالث: لا نسلم لهم قولهم: إن كل من خاطبته الملائكة فهو نبي، ففي الحديث أن الله أرسل ملكاً لرجل يزور أخاً له في الله في قرية أخرى، فسأله عن سبب زيارته له، فلمّا أخبره أنه يحبّه في الله، أعلمه أنَّ الله قد بعثه إليه ليخبره أنه يحبّه، وقصة الأقرع والأبرص والأعمى معروفة، وقد جاء جبريل يعلم الصحابة أمر دينهم بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يشاهدونه ويسمعونه. الرابع: أنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – توقف في نبوة ذي القرنين مع إخبار القرآن بأنّ الله أوحى إليه قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف: 86]. الخامس: لا حجّة لهم في النصوص الدالة على اصطفاء الله لمريم، فالله قد صرح بأنّه اصطفى غير الأنبياء: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر: 32]، واصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ومن آلهما من ليس بنبيّ جزماً إِنّ اللهَ اصْطَفَىَ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33]. السادس: لا يلزم من لفظ الكمال الوارد في الحديث الذي احتجوا به النبوة، لأنّه يطلق لتمام الشيء، وتناهيه في بابه، فالمراد بلوغ النساء الكاملات النهاية في جميع الفضائل التي للنساء، وعلى ذلك فالكمال هنا غير كمال الأنبياء. السابع: ورد في بعض الأحاديث النصّ على أن خديجة من الكاملات (¬1) وهذا يبين أن الكمال هنا ليس كمال النبوة. الثامن: ورد في بعض الأحاديث أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلاّ ما كان من مريم ابنة عمران (¬2)، وهذا يبطل القول بنبوة من عدا مريم كأم موسى وآسية، لأنّ فاطمة ليست بنبيّة جزماً وقد نصَّ الحديث على أنها أفضل من غيرها، فلو كانت أم موسى وآسية نبيتان لكانتا أفضل من فاطمة. التاسع: وصف مريم بأنها صديقة في مقام الثناء عليها والإخبار بفضلها، قال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة: 75] فلو كان هناك وصفاً أعلى من ذلك لوصفها به، ولم يأت في نصّ قرآني ولا في حديث نبويّ صحيح إخبار بنبوة واحدة من النساء. وقد نقل القاضي عياض عن جمهور الفقهاء أنّ مريم ليست بنبيّة (¬3)، وذكر النووي في (الأذكار) عن إمام الحرمين أنّه نقل الإجماع على أنّ مريم ليست نبيّة (¬4)، ونسبه في (شرح المهذب) لجماعة، وجاء عن الحسن البصري: ليس في النساء نبيّة ولا في الجنّ (¬5). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 86 ¬

(¬1) رواه ابن مردويه كما في ((البداية والنهاية)) لابن كثير (3/ 127). من حديث قرة بن إياس المزني. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده. (¬2) رواه أحمد (3/ 80) (11773). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 515): إسناده حسن، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3181). (¬3) ((إكمال المعلم)) (7/ 223). (¬4) ((الأذكار)) (ص: 119). (¬5) ((فتح الباري)) (6/ 471، 473).

المبحث الثالث: أمور تفرد بها الأنبياء

المطلب الأول: الوحي خصّ الله الأنبياء دون سائر البشر بوحيه إليهم، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110]. وهذا الوحي يقتضي عدة أمور يفارقون بها الناس، فمن ذلك تكليم الله بعضهم، واتصالهم ببعض الملائكة، وتعريف الله لهم شيئاً من الغيوب الماضية أو الآتية، وإطلاع الله لهم على شيء من عالم الغيب. فمن ذلك الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، والعروج به إلى السماوات العُلى، ورؤيته للملائكة والأنبياء، وإطلاعه على الجنّة والنار، ومن ذلك سماعه للمعذبين في قبورهم، وفي الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)) (¬1). وعن أيوب قال ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس فسمع صوتاً، فقال: يهود تعذب في قبورها)) (¬2). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 90 ¬

(¬1) رواه مسلم (2868). (¬2) رواه البخاري (1375)، ومسلم (2689) واللفظ له.

المطلب الثاني: الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم

المطلب الثاني: الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ومما اختصهم الله تعالى به أنّ أعينهم تنام وقلوبهم لا تنام، فعن أنس في حديث الإسراء: ((والنبي نائمة عيناه، ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم)) رواه البخاري في صحيحه (¬1)، وهذا وإن كان من قول أنس إلا أن مثله لا يقال من قبل الرأي كما يقول ابن حجر (¬2)، وقد ورد هذا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صحّ عنه أنّه قال: ((إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا)) (¬3)، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: ((إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي)) (¬4). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 90 ¬

(¬1) رواه البخاري (3570). (¬2) ((فتح الباري)) (6/ 579). (¬3) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (1/ 171). عن عطاء مرسلاً. قال العظيم آبادي في ((عون المعبود)) (1/ 175): مرسل، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2287). (¬4) رواه البخاري (1147)، ومسلم (738).

المطلب الثالث: تخيير الأنبياء عند الموت

المطلب الثالث: تخيير الأنبياء عند الموت مما تفرد به الأنبياء أنّهم يخيَّرون بين الدنيا والآخرة، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من نبي يمرض إلاّ خيّر بين الدنيا والآخرة، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحّة شديدة، فسمعته يقول: مع الَّذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشُّهداء والصَّالحين [النساء: 69] فعلمت أنه خيَّر)) (¬1). وقد سبق أن أوردنا حديث تخيير ملك الموت لموسى وضرب موسى لملك الموت وقلع عينه (¬2). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 91 ¬

(¬1) رواه البخاري (4586). (¬2) انظر كتاب ((عالم الملائكة)) لعمر الأشقر.

المطلب الرابع: لا يقبر نبي إلا حيث يموت

المطلب الرابع: لا يقبر نبي إلا حيث يموت ممّا خص به الأنبياء بعد موتهم أمور تتعلق بهم في القبر، منها: الأول: أنّه لا يقبر نبيٌّ إلاّ في الموضع الذي مات فيه، ففي الحديث: ((لم يقبر نبيٌّ إلا حيث يموت)) (¬1) ولهذا فإنّ الصحابة – رضوان الله عليهم – دفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة حيث قبض. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 91 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 7) (27). من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5201).

المطلب الخامس: لا تأكل الأرض أجسادهم

المطلب الخامس: لا تأكل الأرض أجسادهم ومن إكرام الله لأنبيائه ورسله أنّ الأرض لا تأكل أجسادهم، فمهما طال الزمان وتقادم العهد تبقى أجسادهم محفوظة من البلى، ففي الحديث ((إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) (¬1). ويذكر أهل التاريخ قصة فيها عجب وغرابة، روى ابن كثير في (البداية والنهاية) عن يونس بن بكير قال: ((لما فتحنا تستر (مدينة في فارس) وجدنا في مال بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أوّل رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا. فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيركم وأموركم ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلّها، لنعميه على الناس فلا ينبشونه. قلت: فما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. قلت: من كنتم تظنون بالرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. قلت: مذ كم وجدتموه؟ قال: قد مات منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما تغير منه شيء؟ قال: لا إلاّ شعرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا يبليها الأرض، ولا تأكلها السباع)). قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية (¬2). ويبدو أن هذا من أنبياء بني إسرائيل، وقد ظنَّ الصحابة أنّه دانيال، لأنّ دانيال أخذه ملك الفرس، فأقام عنده مسجوناً، ويبدو أنَّ تقدير الذين وجدوه لم يكن صواباً، فإنّ دانيال كان قبل الإسلام بثمانمائة سنة، فإن كان تقديرهم صواباً فليس بنبي؛ لأنّه لا نبي بين عيسى ورسولنا محمد عليهما الصلاة والسلام، فيكون عبداً صالحاً ليس بنبي، وكونه نبياً أرجح، لأنّ الذين تحفظ أجسادهم هم الأنبياء دون غيرهم، ويرجح هذا أيضاً ذلك الكتاب الذي وجد عند رأسه، لا شكّ أنه كتاب نبيّ، فالأمور الغيبيّة التي تضمنها لا تكون إلا وحياً سماوياً، وترجيحنا لكونه من بني إسرائيل لأمرين: الأول: ظن الصحابة أنّه دانيال، ويكونون قد علموا ذلك من قرائن لم تذكر. والثاني: الكتاب الذي وجد عند رأسه، ويبدو أنه كان مكتوباً بالعبرانية، لأنّ الذي ترجمه هو أبيّ بن كعب، وقد كان قبل إسلامه يهودياً. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 92 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1047)، والنسائي (3/ 91)، وابن ماجه (1636)، وأحمد (4/ 8) (16207)، وابن حبان (3/ 190)، والحاكم (1/ 413). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال النووي في ((المجموع)) (4/ 548): إسناده صحيح. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 94) - كما أشار لذلك في المقدمة - وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) ((البداية والنهاية)) (2/ 40). ورواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (1/ 381).

المطلب السادس: أحياء في قبورهم

المطلب السادس: أحياء في قبورهم صحَّ عن النبي أنّ ((الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)) (¬1)، وروي أيضاً أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((مررت على موسى ليلة أسري به عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره)) (¬2). وروى مسلم عن أبي هريرة في قصة الإسراء: ((وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي. .، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي، وإذا إبراهيم قائم يصلي)) (¬3). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 93 ¬

(¬1) [4897])) رواه أبو يعلى (6/ 147)، والبيهقي في ((حياة الأنبياء)) (ص: 70). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 214): رجال أبي يعلى ثقات, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 561): فيه يحيى بن أبي كثير وهو من رجال الصحيح عن المستلم بن سعيد، وقد وثقه أحمد وابن حبان عن الحجاج الأسود وهو ابن أبي زياد البصري وقد وثقه أحمد وابن معين عن ثابت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2790). (¬2) رواه مسلم (2375). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (172).

الفصل الثاني: عصمة الرسل

المبحث الأول: العصمة في التحمل وفي التبليغ اتفقت الأمة على أنَّ الرسل معصومون في تحمّل الرسالة (¬1)، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلاّ شيئاً قد نُسخ، وقد تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقرئه فلا ينسى شيئاً مما أوحاه إليه، إلا شيئاً أراد الله أن ينسيه إياه: سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىَ إِلاّ مَا شَآءَ اللهُ [الأعلى: 6 - 7]، وتكفل له بأن يجمعه في صدره: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 16 - 18] وهم معصومون في التبليغ، فالرسل لا يكتمون شيئاً ممّا أوحاه الله إليهم، ذلك أن الكتمان خيانة، والرسل يستحيل أن يكونوا كذلك، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] ولو حدث شيء من الكتمان أو التغيير لما أوحاه الله، فإن عقاب الله يحلّ بذلك الكاتم المغيّر وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44 - 46]. ومن العصمة ألاّ ينسوا شيئاً مما أوحاه الله إليهم، وبذلك لا يضيع شيء من الوحي، وعدم النسيان في التبليغ داخل في قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىَ [الأعلى: 6] وما يدل على عصمته في التبليغ قوله تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ [النجم: 3 - 4]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 97 كماتجب عصمتهم عن أي شيء يخل بالتبليغ: ككتمان الرسالة، والكذب في دعواها، والجهل بأي حكم أنزل عليهم، والشك فيه، والتقصير في تبليغه؛ وتصور الشيطان لهم في صورة الملك، وتلبيسه عليهم في أول الرسالة فيما بعدها، وتسلطه على خواطرهم بالوساوس؛ وتعمد الكذب في أي خبر أخبروا به عن الله تعالى؛ وتعمد بيان أي حكم شرعي على خلاف ما أنزل عليهم: سواء أكان ذلك البيان بالقول أم بالفعل؛ وسواء أكان ذلك القول خبراً أم غيره. فذلك كله: قد انعقد الإجماع من أهل الشرائع على وجوب عصمتهم منه -: لدلالة المعجزات التي أظهرها الله على أيديهم (القائمة مقام قوله تعالى: صدق رسلي في كل ما يبلغون عني) عليه. فإنه لو جاز عليهم شيء من ذلك: لأدى إلى إبطال دلالتها. وهو محال. وقد أمر الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزل عليه؛ وبين أنه إن قصر في شيء منه لم يكن مبلغاً رسالته؛ وبين أيضاً أنه قد عصمه من جميع خلقه, ومن أن يهموا بإضلاله، وأن يمنعوه عن أدائها؛ وأنه لو اختلق شيئاً عليه لأهلكه، وأنزل أشد العقاب به. ثم: إنه تعالى – مع ذلك – قد شهد له بالبلاغ والصدق, وأنه مستمسك بما أمره به، وأنه يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه بذلك، وبين أنه متمسك بالتبليغ مهما حصل له. ¬

(¬1) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/ 291)، و ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (2/ 304).

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]. وقال تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]. وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 38 - 47]. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى: 52 - 53] .. وقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157]. وقال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4]. وقال تعالى – في آخر زمنه صلى الله عليه وسلم -: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3]. حجية السنة لعبد الغني عبد الخالق – ص: 96 الغاية من عصمة الأنبياء لكي يكون الناس على يقين من دين الله، فيدينون بدين الأنبياء، وهذا لا ينافي وقوعهم في أخطاء من صغائر الذنوب، فيغفر الله لهم ولا يقرون على ذلك الخطأ، كما قال تعالى: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه: 121] ثم بعد ذلك اجتباه وهدى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه: 122]. ... قال - شيخ الإسلام - رحمه الله: (فإن أهل السنة متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى، وهذا هو مقصود الرسالة) (¬1). ذكر من نقل الإجماع من أهل العلم أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: لما كان الشرع لا يعرف إلا عن طريق الأنبياء .. ولا يمكن تحقيق شرع الله ودينه الذي ارتضاه إلا عن طريقهم وأتباعهم، كان لزاماً أن يكون الأنبياء معصومين عن الخطأ، وذلك حتى لا يقتدي بهم على الخطأ. ¬

(¬1) ((منهاج السنة)) (1/ 470).

قال ابن حزم – رحمه الله -: (ذهبت جميع أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة .. أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلاً معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة .. ونقول إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد ويقع منهم أيضاً قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب به منه فيوافق خلاف مراد الله تعالى إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين) (¬1). وقال ابن حزم أيضاً: (والأنبياء عليهم السلام، لا يعصون الله تعالى لا بكبيرة ولا صغيرة على سبيل العمد، لأنهم معصومون، والناس مأمورون بالاقتداء بهم، ولا يجوز الأمر بالاقتداء بمن يعصي) (¬2). ذكر مستند الإجماع على عصمة الأنبياء: مسألة العصمة للأنبياء تعلم من دين الإسلام بالضرورة، وذلك أن الله عز وجل جعل دينه المقبول عنده هو ما شرعه الأنبياء وأمروا به، كما قال تعالى: آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ [البقرة: 285]. وقال تعالى: قُولُوا آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ البقرة: 136 - 137. وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ [النساء: 80] الآية. فلو كان الأنبياء غير معصومين فيما يبلغونه من شرع الله لما ذكر الله عز وجل هذا الثناء على المؤمنين بإيمانهم برسل الله وطاعتهم لهم، بل قد يكون هذا الثناء والخبر غشا وعدم تبيين للناس وقد قال تعالى: يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء: 26]. بل حكم الله على من آمن بمثل ما آمن به الأنبياء بالاهتداء .. ولو كانوا غير معصومين لما حكم لمن آمن بمثل ما آمنوا به بذلك، وأظهر من هذا كله أن جعل من يطيعهم فقد أطاع الله، وهذا لا يمكن إلا لمعصوم، ولو كانوا غير معصومين لكان في ذلك هدم للدين ونزع لجذوره، ولهذا يعبر شيخ الإسلام –رحمه الله- عن عصمة الأنبياء بأنها مقصود الرسالة (¬3)، فلن يستقيم للدين أمره وللرسالة مقصودها إلا بعصمة الأنبياء فيما يبلغونه من شرع الله، وسواء قلنا العصمة ابتداء أو عدم إقرار الأنبياء على خطأ في التبليغ؛ فالمقصود أنهم معصومون فيما يبلغونه من شرع الله، وسواء قلنا العصمة ابتداء أو عدم إقرار الأنبياء على خطأ في التبليغ؛ فالمقصود أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله، ولهذا وجب أتباعهم وعدم مخالفتهم، وهذه لا تكون إلا للمعصوم من الخطأ. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 777 ¬

(¬1) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 2). (¬2) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص: 229). (¬3) ((منهاج السنة)) (1/ 470).

المبحث الثاني: العصمة من الصغائر

المبحث الثاني: العصمة من الصغائر ذهب أكثر علماء الإسلام إلى أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر، وقال ابن تيمية: (القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أنّ هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلاّ ما يوافق هذا القول .. ) (¬1). الأدلة: وقد استدل جماهير العلماء على دعواهم بأدلة: 1 - معصية آدم بأكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى - فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى - إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى - فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى - فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه: 116 - 121]. والآية في غاية الوضوح والدلالة على المراد، فقد صرحت بعصيان آدم ربه. 2 - ونوح دعا ربه في ابنه الكافر وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود: 45]، فلامه ربه على مقالته هذه، وأعلمه أنّه ليس من أهله، وأن هذا منه عمل غير صالح قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46] فاستغفر ربّه من ذنبه وتاب وأناب قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47]. والآية صريحة في كون ما وقع منه كان ذنباً يحتاج إلى مغفرة وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي .. . 3 - وموسى أراد نصرة الذي من شيعته، فوكز خصمه فقضى عليه قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص: 15 - 16]، فقد اعترف موسى بظلمه لنفسه، وطلب من الله أن يغفر له، وأخبر الله بأنه غفر له. ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 319).

4 - وداود عليه السلام تسّرع في الحكم قبل سماع قول الخصم الثاني، فأسرع إلى التوبة فغفر الله له ذنبه فَاسْتَغْفَرَ رَبّهُ وَخَرّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ [ص: 24 - 25]. 5 - ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عاتبه ربه في أمور يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التحريم: 1] نزلت بسبب تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم العسل على نفسه، أو تحريم مارية القبطية. وعاتبه ربه بسبب عبوسه في وجه الأعمى ابن أم مكتوم، وانشغاله عنه بطواغيت الكفر يدعوهم إلى الله، والإقبال على الأعمى الراغب فيما عند الله هو الذي كان ينبغي أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى .. [عبس: 1 - 4]. وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر الفدية فأنزل الله تعالى: لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68]. هذه أمثلة اكتفينا بذكرها عن غيرها، وإلاّ فقد ورد في القرآن مغاضبة يونس لقومه، وخروجه من قومه من غير إذن من ربه، وما صنعه أولاد يعقوب بأخيهم يوسف في إلقائه في غيابة الجبِّ، ثم أوحى الله إليهم وجعلهم أنبياء. القائلون بعصمة الأنبياء من الصغائر: يستعظم بعض الباحثين أن ينسب إلى الأنبياء صغائر الذنوب التي أخبرت نصوص الكتاب والسنة بوقوعها منهم، ويذهب هؤلاء إلى تهويل الأمر، ويزعمون أنّ القول بوقوع مثل هذا منهم فيه طعن بالرسل والأنبياء، ثم يتحملون في تأويل النصوص، وهو تأويل يصل إلى درجة تحريف آيات الكتاب كما يقول ابن تيمية (¬1). وكان الأحرى بهم تفهم الأمر على حقيقته، وتقديس نصوص الكتاب والسنة، واستمداد العقيدة في هذا الأمر وفي كل أمر من القرآن وأحاديث الرسول، وبذلك نحكمها في كل أمر، وهذا هو الذي أمرنا به، أمّا هذا التأويل، والتحريف بعد تصريح الكتاب بوقوع مثل ذلك منهم فإنّه تحكيم للهوى، ونعوذ بالله من ذلك. وقد انتشرت هذه التأويلات عند الكتاب المحدثين، وهي تأويلات فاسدة من جنس تأويلات الباطنية والجهمية، كما يقول ابن تيمية (¬2). شبهتان (¬3): الذين منعوا من وقوع الصغائر من الأنبياء أوردوا شبهتين: الأولى: أن الله أمر باتباع الرسل والتأسي بهم لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، وهذا شأن كل رسول، والأمر باتباع الرسول يستلزم أن تكون اعتقاداته وأفعاله وأقواله جميعها طاعات لا محالة، لأنه لو جاز أن يقع من الرسول معصية لله تعالى لحصل تناقض في واقع الحال، إذ يقتضي أن يجتمع في هذه المعصية التي وقعت من الرسول الأمر باتباعها وفعلها من حيث كوننا مأمورين بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، والنهي عن موافقتها من حيث كونها معصية منهي عنها، وهذا تناقض، فلا يمكن أن يأمر الله عبداً بشيء في حال أنه ينهاه عنه. ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/ 313). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/ 313). (¬3) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/ 293 - 313)، و (15/ 150).

وقولهم هذا يكون صحيحاً، لو بقيت معصية الرسول خافية غير ظاهرة، بحيث تختلط علينا الطاعة بالمعصية، أمّا وأنّ الله ينبه رسله وأنبياؤه إلى ما وقع منهم من مخالفات ويوفقهم إلى التوبة منها، من غير تأخير فإنّ ما أوردوه لا يصلح دليلاً بل يكون التأسي بهم في هذا منصباً على الإسراع في التوبة عند وقوع المعصية، وعدم التسويف في هذا، تأسياً بالرسل والأنبياء الكرام في مبادرتهم بالتوبة من غير تأخير. الثانية: أنّ هؤلاء توهموا أن الذنوب تنافي الكمال، وأنها تكون نقصاً وإن تاب التائب منها، وهذا غير صحيح، فإنّ التوبة تغفر الحوبة، ولا تنافي الكمال، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم، بل إنّ العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته من معصيته خيراً منه قبل وقوع المعصية، وذلك لما يكون في قلبه من الندم والخوف والخشية من الله تعالى، ولما يجهد به نفسه من الاستغفار والدعاء، ولما يقوم به من صالح الأعمال، يرجو بذلك أن تمحو الصالحات السيئات، وقد قال بعض السلف: (كان داود عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة) (¬1)، وقال آخر: (لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه) (¬2). وقد ثبت في الصحاح ((أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلته ناقته بأرض فلاة، وعليها طعامه وشرابه، فنام نومة فقام فوجد راحلته فوق رأسه فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) (¬3). وفي الكتاب الكريم: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] وقال تعالى مبيناً مثوبة التائبين: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ... [الفرقان: 70]. وفي يوم القيامة ((يدني الله المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) (¬4). ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار منه، يدلنا على هذا أن القرآن لم يذكر ذنوب الأنبياء إلا مقرونة بالتوبة والاستغفار، فآدم وزوجه عصيا فبادرا إلى التوبة قائلين: ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] وما كادت ضربة موسى تسقط القبطي قتيلاً حتى سارع طالباً الغفران والرحمة قائلاً: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16]. وداود ما كاد يشعر بخطيئته حتى خرّ راكعاً مستغفراً فَاسْتَغْفَرَ رَبّهُ وَخَرّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص: 24]. فالأنبياء لا يقرون على الذنب، ولا يؤخرون التوبة، فالله عصمهم من ذلك، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها. وبذلك انهارت هاتان الشبهتان، ولم يثبتا في مجال الحجاج والنقاش، وحسبنا بالأدلة الواضحة البينة التي تهدي للتي هي أقوم. السبب في عصمة الأنبياء مما عصموا منه وعدم عصمتهم مما لم يعصموا منه: الرسل والأنبياء بشر من البشر، عصمهم الله في تحمل الرسالة وتبليغها، فلا ينسون شيئاً، ولا ينقصون شيئاً، وبذلك يصل الوحي الذي أنزله الله إلى الذين أرسلوا إليهم كاملاً وافياً، كما أراده الله جلّ وعلا، وهذه العصمة لا تلازمهم في كلّ أمورهم فقد تقع منهم المخالفة الصغيرة، بحكم كونهم بشراً، ولكنّ رحمة الله تتداركهم، فينبههم الله إلى خطئهم، ويوفقهم للتوبة والأوبة إليه. يقول الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر: (إنّ الوحي لا يلازم الأنبياء في كلّ عمل يصدر عنهم، وفي كلِّ قول يبدر منهم، فهم عرضة للخطأ، يمتازون عن سائر البشر بأنّ الله لا يقرّهم على الخطأ بعد صدوره، ويعاتبهم عليه أحياناً) (¬5). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 107 ¬

(¬1) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/ 45). (¬2) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/ 294). (¬3) رواه البخاري (6308)، ومسلم (2744). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (2441)، ومسلم (2768). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬5) انظر: مقدمة كتاب ((حياة محمد لهيكل)) بقلم الشيخ المراغي (ص: 11).

المبحث الثالث: تكريم الأنبياء وتوقيرهم

المبحث الثالث: تكريم الأنبياء وتوقيرهم هذه الصغائر التي تقع من الأنبياء لا يجوز أن تتخذ سبيلاً للطعن فيهم، والإزراء عليهم، فهي أمور صغيرة ومعدودة غفرها الله لهم، وتجاوز عنها، وطهرهم منها، وعلى المسلم أن يأخذ العبرة والعظة لنفسه من هذه، فإذا كان الرسل الكرام الذين اختارهم الله واصطفاهم عاتبهم الله ولامهم على أمور كهذه، فإنّه يجب أن نكون على حذر وتخوف من ذنوبنا وآثامنا، وعلينا أن نتأسى بالرسل والأنبياء في المسارعة إلى التوبة والأوبة إلى الله، وكثرة التوجه إليه واستغفاره. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 112

المبحث الرابع: أمور لا تنافي العصمة

المبحث الرابع: أمور لا تنافي العصمة - الأعراض البشرية الجبلية لا تنافي العصمة: فإبراهيم عليه السلام أوجس في نفسه خيفة عندما رأى أيدي ضيوفه لا تمتد إلى الطعام الذي قدمه لهم، ولم يكن يعلم أنهم ملائكة تشكلوا في صور البشر فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] - عدم صبر موسى عليه السلام على تصرفات العبد الصالح: وموسى وعد الخضر بأن يصبر في صحبته له، فلا يسأله عن أمر يفعله العبد الصالح حتى يحدث له منه ذكراً، ولكنه لم يتمالك نفسه، إذ رأى تصرفات غريبة، فكان في كل مرّة يسأل أو يعترض أو يوجه، وفي كل مرّة يذكّره العبد الصالح ويقول له: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف: 75]. وعندما كشف له عن سر أفعاله قال له: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف: 82]. 3 - تصرفات موسى عليه السلام عندما رأى قومه يعبدون العجل: وغضب موسى غضباً شديداً، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح وفي نسختها هدى – عندما عاد إلى قومه بعد أن تمّ ميقات ربه، فوجدهم يعبدون العجل، وَلَمّا رَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ أن الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ [الأعراف: 150] وفي الحديث: ((ليس الخبر كالمعاينة، إنَّ الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلمّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت)) (¬1). - نسيان آدم وجحوده: ومن ذلك نسيان آدم عليه السلام وجحوده، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كلٍّ منهم وبيصاً من نور، ثمّ عرضهم على آدم، فقال: أي ربِّ مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي ربّ من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك، يقال له داود، فقال: ربِّ كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي ربِّ زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم، جاءه ملك الموت، فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة، قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته)) (¬2). - نبي يحرق قرية النمل: ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 271) (2447)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 12) (25)، وابن حبان (14/ 96) (6213)، والحاكم (2/ 351). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 158): رواه أحمد والبزار والطبراني في ((الكبير)) و ((الأوسط)) ورجاله رجال الصحيح وصححه ابن حبان، وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/ 139): له شاهد. (¬2) رواه الترمذي (3076)، والحاكم (2/ 640). قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (2/ 333).

ومن ذلك ما وقع من نبي من الأنبياء غضب إذ قرصته نملة، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فعاتبه الله على ذلك، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثمّ أمر ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلاّ نملة واحدة)) (¬1). - نسيان نبينا صلى الله عليه وسلم وصلاته الظهر ركعتين: ومن ذلك نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم في غير البلاغ، وفي غير أمور التشريع، فمن ذلك ما رواه ابن سيرين عن أبي هريرة قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إحدى صلاتي العشيّ، فصلى ركعتين، ثمّ سلّم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنّه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبّك بين أصابعه، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه. وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس، ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدم فصلّى ما ترك، ثمّ سلّم، ثمّ كبّر، وسجد مثل سجوده أو أطول، ثمّ رفع رأسه وكبّر، وسجد مثل سجوده أو أطول، ثمّ رفع رأسه وكبّر، فربما سألوه، ثمّ سلّم، فيقول: أنبئت أنّ عمران بن حصين، قال: ثمّ سلّم)) متفق عليه (¬2). وليس لمسلم فيه وضع اليد على اليد ولا التشبيك. وفي رواية، قال: ((بينما أنا أصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر سلّم من ركعتين، فقام رجل من بني سليم، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟)) وساق الحديث، رواه أحمد ومسلم (¬3). وهذا يدل على أنّ القصة كانت بحضرته وبعد إسلامه. وفي رواية متفق عليها لما قال: ((لم أنس ولم تقصر، قال: بلى، قد نسيت)) (¬4) وهذا يدل على أن ذا اليدين تكّلم بعدما علم عدم النسخ كلاماً ليس بجواب سؤال (¬5). وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بطروء النسيان عليه كعادة البشر، ففي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ولكنّي إنّما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) (¬6) قال هذا بعد نسيانه في إحدى الصلوات. أمّا الحديث الذي يروى بلفظ: ((إني لا أنسى، ولكن أُنسَّى لأسنّ)) (¬7) فلا يجوز أن يعارض به الحديث السابق، لأنّ هذا الحديث – كما يقول ابن حجر – لا أصل له، فإنّه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد (¬8). - مدى العصمة في إصابة الحق في القضاء: ¬

(¬1) رواه البخاري (3319)، ومسلم (2241). (¬2) رواه البخاري (482)، ومسلم (573). (¬3) رواه مسلم (573)، وأحمد (2/ 423) (9458). (¬4) رواه البخاري (1229)، ومسلم (573). (¬5) انظر: ((نيل الأوطار)) (3/ 114). (¬6) رواه البخاري (401)، ومسلم (572). (¬7) ((موطأ مالك)) (2/ 138). قال: ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/ 7): لا يعرف بهذا اللفظ في الموطأ وهو غير مسند، وقال ابن العربي في ((القبس)) (1/ 354): لم يصح سنده، وقال ابن الملقن في ((الإعلام)) (3/ 272): منقطع الإسناد، وقال العراقي في ((طرح التثريب)) (3/ 9): لا أصل له. (¬8) انظر: ((نيل الأوطار)) (3/ 117).

الأنبياء والرسل يجتهدون في حكم ما يعرض عليهم من وقائع، ويحكمون وفق ما يبدو لهم، فهم لا يعلمون الغيب، وقد يخطئون في إصابة الحق، فمن ذلك عدم إصابة نبي الله داود في الحكم، وتوفيق الله لابنه سليمان في تلك المسألة. فعن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنّما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى)) (¬1). وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضية وجلاّها، فقد روت أمُّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: إنّما أنا بشر، وإنّه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها)) (¬2). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 99 وبشرية الأنبياء وحصول المرض والجوع والنسيان عليهم كما يحصل ويقع لسائر البشر من الأمور الظاهرة المعروفة عند كافة الناس، وما نقل شيخ الإسلام وغيره الإجماع على ذلك إلا لوجود أولئك الذين يرفعون من قدر المخلوق نبياً كان أو غيره ويعظمونه حتى يعدلوا به الرب عز وجل أو يلحقوا به بعض صفاته تعالى؛ ولهذا اضطر شيخ الإسلام وغيره على نقل الإجماع في بشرية الأنبياء وحصول المرض والجوع ونحو ذلك عليهم، وهذا مثل ما قاله الإمام الدارمي في كتابه الرد على الجهمية مبيناً اضطراره إلى الكلام في المسائل البديهية حيث قال: (باب الإيمان بالعرش وهو أحد ما أنكرته المعطلة ثم قال: وما ظننا أن نضطر إلى الاحتجاج على أحد ممن يدعي الإسلام في إثبات العرش والإيمان به، حتى ابتلينا بهذه العصابة الملحدة في آيات الله، فشغلونا بالاحتجاج لما لم تختلف فيه الأمم قبلنا، وإلى الله نشكو ما أوهت هذه العصابة من عرى الإسلام وإليه نلجأ، وبه نستعين) (¬3). نص كلام شيخ الإسلام في المسألة: قال – رحمه الله -: (والأنبياء يجوز عليهم المرض والجوع والنسيان ونحو ذلك بالإجماع) (¬4). ذكر من نقل الإجماع من أهل العلم أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: كون الأنبياء بشراً ويحصل لهم ما يحصل للبشر من المرض والجوع والنسيان فيه رفعة لشأنهم وقدرهم .. وذلك لأنهم مع وجود هذه الصفات فهم محققون لعبودية الله عز وجل غاية التحقيق وأعلاه .. ولأن هذه المسألة من المسلمات عند المسلمين وذلك بنص القرآن: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف: 110] لم أقف على من تعرض لها ممن جمع في معتقد أهل السنة إلا ما كان من ابن حزم فقد قال –رحمه الله-: (وأن جميع النبيين وعيسى ومحمداً عليهم السلام عبيد لله تعالى مخلوقون، ناس كسائر الناس) (¬5). وكونهم بشراً وأناساً يؤكد وقوع المرض والجوع والنسيان عليهم كوقوعه على غيرهم من سائر البشر. ذكر مستند الإجماع على جواز المرض والجوع والنسيان ونحو ذلك على الأنبياء: ¬

(¬1) رواه البخاري (2428). (¬2) رواه البخاري (2458)، ومسلم (1713). (¬3) ((الرد على الجهمية)) (ص: 12). (¬4) ((الرد على البكري)) (1/ 306). (¬5) ((المحلى)) (1/ 10).

الأنبياء إنما هم بشر كسائر البشر يحصل لهم ما يحصل للبشر فيمرضون ويجوعون وينسون ونحو ذلك، قال تعالى: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم: 11] وقال تعالى عن أيوب عليه السلام: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 14]، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83]. وأخبر الله عز وجل أن للأنبياء أزواجاً وذرية كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد: 38] بل إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20]، وأخبر الله عز وجل عن آدم عليه السلام أنه نسي، فقال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115]، وقال تعالى عن موسى عليه السلام وغلامه فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا [الكهف: 61]، فكل هذه الصفات تبين بشرية الأنبياء، وأنهم يجوز عليهم ما يجوز على سائر البشر، وإنما يوحى إليهم كما قال تعالى على لسان نبيه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف: 110] ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون)) (¬1). المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 777 ¬

(¬1) رواه مسلم (572) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

الباب الخامس: دلائل النبوة

تمهيد: الأنبياء الذين ابتعثهم الله إلى عباده يقولون للناس: نحن مرسلون من عند الله، وعليكم أن تصدقونا فيما نخبركم به، كما يجب عليكم أن تطيعونا بفعل ما نأمركم به، وترك ما ننهاكم عنه، وقد أخبر الله في سورة الشعراء أن نوحاً خاطب قومه قائلاً: أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء: 106 - 108]. وبهذا القول نفسه خاطب رسل الله: هود، وصالح، ولوط، وشعيب، أقوامهم، بل هي مقالة ودعوة كل رسول لقومه. فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ أن يقيم الله الدلائل والحجج والبراهين المبينة صدق الرسل في دعواهم أنهم رسل الله كي تقوم الحجة على الناس، ولا يبقى لأحد عذر في عدم تصديقهم وطاعتهم لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ [الحديد: 25] أي: بالدلائل والآيات البينات التي تدلُّ على صدقهم. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 119

الفصل الأول: الآيات والمعجزات

المبحث الأول: تعريف الآية والمعجزة الآية – في لغة العرب – العلامة الدالة على الشيء، والمراد بها هنا: ما يجريه الله على أيدي رسله وأنبيائه من أمور خارقة للسنن الكونية المعتادة التي لا قدرة للبشر على الإتيان بمثلها، كتحويل العصا إلى أفعى تتحرك وتسعى، فتكون هذه الآية الخارقة للسنة الكونية المعتادة دليلاً غير قابل للنقض والإبطال، يدلُّ على صدقهم فيما جاؤوا به. وقد تتابع العلماء على تسمية هذه الآيات بالمعجزات، والمعجزة – في اللغة – اسم فاعل مأخوذ من العجز الذي هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبير (¬1). ويعرّف الفخر الرازي المعجزة في العرف: بأنّها أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة (¬2). ويعرفها ابن حمدان الحنبلي بأنَّها ما خرق العادة من قول أو فعل إذا وافق دعوى الرسالة وقارنها وطابقها على جهة التحدي ابتداءً بحيث لا يقدر أحدٌ على مثلها، ولا على ما يقاربها (¬3). وعلى ذلك فإنّ الأمور التالية لا تعدّ من باب المعجزات: 1 - الخوارق التي تعطى للأنبياء وليس مقصوداً بها التحدي، كنبع الماء من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكثيره الطعام القليل، وتسبيح الحصا في كفّه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وما أشبه ذلك. 2 - الخوارق التي أعطاها الله لغير الأنبياء ويسميها المتأخرون كرامات. والذين فرقوا هذا التفريق هم العلماء المتأخرون، أمّا المعجزة في اللغة وفي عرف العلماء المتقدمين كالإمام أحمد فإنّها تشمل ذلك كله (¬4). وقد أطلقنا عليها اسم (الآية) كما جاء بذلك القرآن الكريم، وهو اسم شامل لكل ما أعطاه الله لأنبيائه للدلالة على صدقهم سواءً أقصد به التحدي أم لم يقصد. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 121 ¬

(¬1) ((بصائر ذوي التمييز)) (1/ 65). (¬2) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 289 - 290). (¬3) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 289 - 290). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 311)، و ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 290).

المبحث الثاني: أنواع الآيات

المبحث الثاني: أنواع الآيات إذا استقرأنا الآيات والمعجزات التي أعطاها الله لرسله وأنبيائه نجدها تندرج تحت ثلاثة أمور: العلم، والقدرة، والغنى (¬1). فالإخبار بالمغيبات الماضية والآتية، كإخبار عيسى قومه بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم، وإخبار رسولنا صلى الله عليه وسلم بأخبار الأمم السابقة، وإخباره بالفتن وأشراط الساعة التي ستأتي في المستقبل – كل ذلك من باب العلم. وتحويل العصا أفعى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وشقّ القمر وما أشبه هذا – من باب القدرة. وعصمة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الناس، وحمايته له ممن أراد به سوءاً، ومواصلته للصيام مع عدم تأثير ذلك على حيويته ونشاطه من باب الغنى. وهذه الأمور الثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، التي ترجع إليها المعجزات لا ينبغي أن تكون على وجه الكمال إلاّ لله تعالى، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من دعوى هذه الأمور قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام: 50]. فالرسول صلى الله عليه وسلم يبرأ من دعوى علم الغيب، وملك خزائن الأرض، ومن كونه مَلَكاً مستغنياً عن الطعام والشراب والمال. والرسل ينالون من هذه الثلاثة المخالفة للعادة المطردة، أو لعادة أغلب الناس بقدر ما يعطيهم الله تعالى، فيعلمون من الله ما علمهم إيّاه، ويقدرون على ما أقدرهم عليه، ويستغنون بما أغناهم به. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 123 ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 312 - 313).

المبحث الثالث: أمثلة من آيات الرسل

المطلب الأول: آية نبي الله صالح دعا صالح قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النمل: 45]، فكذبوه وطلبوا منه آية تدل على صدقه قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: 153 - 154]. يقول ابن كثير: (ذكر المفسرون أنّ ثمود اجتمعوا يوماً في ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح، فدعاهم إلى الله، وذكرهم، وحذّرهم، ووعظهم، وأمرهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة – وأشاروا إلى صخرة هناك – ناقة، من صفتها كيت وكيت، وذكروا أوصافاً سموها، ونعتوها، وتعنتوا فيها، وأن تكون عشراء طويلة، من صفتها كذا وكذا. فقال لهم نبيهم صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئت به، وتصدقوني بما أرسلت به؟ قالوا: نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثمّ قام إلى مصلاه فصلّى لله – عز وجل – ما قدّر له، ثم دعا ربّه – عزّ وجل – أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوا، أو على الصفة التي نعتوا. فلما عاينوها كذلك رأوا أمراً عظيماً، ومنظراً هائلاً، وقدرة باهرة، ودليلاً قاطعاً، وبرهاناً ساطعاً، فآمن كثير منهم، واستمرَّ أكثرهم على كفرهم (¬1)، وقد ذكر الله استجابته لطلبهم الآية قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [الشعراء: 155]، قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ) [الأعراف: 73]، وقد أخبر الله أنها كانت آية واضحة بينة لا خفاء فيها، ولذا سماها مبصرة وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء: 59]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 125 ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (1/ 134).

المطلب الثاني: معجزة إبراهيم عليه السلام

المطلب الثاني: معجزة إبراهيم عليه السلام حطّم إبراهيم آلهة قومه التي كانوا يعبدونها، فأشعلوا له النار، ورموه فيها، فأمر الله جل وعلا النار ألا تصيبه بأذى وأن تكون عليه برداً وسلاماً قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء: 68 - 70]. ومن الآيات التي أجراها على يد إبراهيم إحياء الموتى، وقد قصّ الله علينا خبر ذلك: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [البقرة: 260]. فأمره بذبح هذه الطيور، ثم تقطيعها، وتفريقها على عدة جبال، ثم دعاها فلبت النداء، واجتمعت الأجزاء المتفرقة، والتحمت كما كانت من قبل، ودبت فيها الحياة، وطارت محلقة في الفضاء، فسبحان الله ما أعظم شأنه، وأجلَّ قدرته. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 127

المطلب الثالث: آيات نبي الله موسى عليه السلام

المطلب الثالث: آيات نبي الله موسى عليه السلام أعطى الله موسى تسع آيات بينات وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء: 101]. 1 - وأعظم هذه الآيات وأكبرها العصا التي كانت تتحول إلى حيّة عظيمة عندما يلقيها على الأرض وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى [طه: 17 - 21]. وكان من شأن هذه العصا أن ابتلعت عشرات من الحبال والعصي التي جاء بها فرعون ليغالبوا موسى، قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 65 - 69]. وعندما عاين السحرة ما فعلته حيَّة موسى، علموا أنَّ هذا ليس من صنع البشر، إنما هو من صنع الله خالق البشر، فلم يتمالكوا أن خروا أمام الجموع ساجدين لله ربِّ العالمين فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه: 70]. 2 - ومن الآيات التي أرسل بها موسى ما ذكره الله في قوله: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى [طه: 22]، كان يدخل يده في جيبه (درع قميصه)، ثم ينزعها، فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء، أي: من غير برص، ولا بهق. وذكر الله سبع آيات في سورة الأعراف، فقد ذكر الله أنه أصابهم: 3 - بالسنين، وهي ما أصابهم من الجدب والقحط، بسبب قلة مياه النيل، وانحباس المطر عن أرض مصر. 4 - نقص الثمرات ذلك أن الأرض تمنع خيرها، وما يخرج يصاب بالآفات والجوائح. 5 - الطوفان الذي يتلف المزارع ويهدم المدن والقرى. 6 - الجراد الذي لا يدع خضراء ولا يابسة. 7 - القمّل، وهي حشرة تؤذي الناس في أجسادهم. 8 - الضفادع التي نغصت عليهم عيشتهم لكثرتها. 9 - الدم الذي يصيب طعامهم وشرابهم. وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ - فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ [الأعراف: 130 - 133]. آيات أخرى: هذه الآيات التسع التي أرسل بها موسى إلى فرعون، وإلاّ فالآيات التي أجراها الله على يد موسى أكثر من ذلك، فمن ذلك ضرب موسى البحر بعصاه وانفلاقه، ومن هذا ضربه الحجر فينفلق عن اثنتي عشرة عيناً، وإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل في صحراء سيناء، وغير ذلك من الآيات. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 128

المطلب الرابع: معجزات نبي الله عيسى عليه السلام

المطلب الرابع: معجزات نبي الله عيسى عليه السلام من معجزاته التي أخبرنا الله بها أنّه كان يصنع من الطين ما يشبه الطيور ثمَّ ينفخ فيها فتصبح طيوراً بإذن الله وقدرته، ويمسح الأكمه فيبرأ بإذن الله، ويمسح الأبرص فيذهب الله عنه برصه، ويمرُّ على الموتى فيناديهم فيحييهم الله تعالى، وقد حكى القرآن لنا هذا في قوله تعالى مخاطباً عيسى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي [المائدة: 110]. ومن آياته تلك المائدة التي أنزلها الله من السماء عندما طلب الحواريون من عيسى إنزالها، وكانت على الحال التي طلبها عيسى عيداً لأولهم وآخرهم إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 112 - 115]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 130

المبحث الرابع: معجزات خاتم الأنبياء والمرسلين

المطلب الأول: القرآن القرآن الذي تحدى الله به أفصح الأمم وأبلغها وأقدرها على المنطق وأكثرها فيه اتساعاً وأطولها فيه باعاً وأكملها على أضربه وأنواعه اطلاعاً، مع عظم محادَّتهم له ومشاقتهم فيه وشدة حرصهم على رده، وهو ينادي عليهم بأبلغ عبارة وأوجزها، وأمتنها وأجزلها أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ [الطور:33 - 34]، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23 - 24]. ثم نادى عليهم بالعجز عن ذلك فلا يقدر أحد منهم على شيء منه لا مجتمعين ولا متفرقين، لا في زمن واحد ولا في أزمان، فقال تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، وغير ذلك من الآيات. ولهذا لما أراد مسيلمة الكذاب معارضته مكابرة ومباهاته مع علمه أَنَّه لا يقدر على شيء ألبتة فلما فعل ذلك جعل الله تعالى: كلامه أسمج ما يسمع وأركّ ما ينطق به، وصار أضحوكة للصبيان في كل زمان ومكان، حتى إنَّه لا يشبه كلام العقلاء ولا المجانين ولا النِّساء ولا المخنثين، وصار كذبهُ معلوماً عند كل أحد، ووسمه الله عز وجل على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم باسم الكذّاب فلا يسمى إلا به، ولا يعرف إلاّ به، حتى صار أشهر من عليه العلم، بل لا علم له غيره أبداً، ويروى أَّن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيُّها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إِنِّي فتحتُ المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرتُ فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحدٌ أَنْ يأتي بهذا، قلت: وهذا الذي قاله الفيلسوف مقدار فهمه ومبلغ علمه، وإلاّ فبلاغةُ القرآن فوق ما يصف الواصفون، وكيف يقدر البشر أَنْ يصفوا صفات مَنْ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 1282

المطلب الثاني: انشقاق القمر

المطلب الثاني: انشقاق القمر قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] الآيات، وفي (الصحيحين) عن أنس رضي الله عنه قال: ((سأَل أهل مكة أَنْ يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر)) (¬1) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((انشقَّ القمرُ على عهد رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقةٌ فوق الجبل وفرقةٌ دونه، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اشهدوا)) (¬2) زاد في رواية: ((ونحنُ مع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم)) (¬3) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص1282 ¬

(¬1) رواه البخاري (3637)، ومسلم (2802). (¬2) رواه البخاري (4864). (¬3) رواه البخاري (4865).

المطلب الثالث: حنين الجذع إليه صلى الله عليه وسلم

المطلب الثالث: حنين الجذع إليه صلى الله عليه وسلم كما في (الصحيح) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ((إِنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالتْ امرأةٌ مِنَ الأنصار أو رجل: يا رسولَ اللهِ ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إِنْ شِئْتُمْ، فجعلوا له منبراً، فلمَّا كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلةُ صياح الصبيِّ، ثم نزل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فضمَّها إليه تئن أنين الصبيِّ الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها)) (¬1) وفي رواية: ((قال فلما صُنِعَ له المنبر وكان عليه فسمعنا من ذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتى جاء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فسكنت)) (¬2). فيا حامداً معنى بصورة عاقلٍ ... أَمالك من قلب شهيدٍ ولا سمْع يحنُّ إليه الجذعُ شوقاً وما لنا ... أَلسنا بذاك الشَّوْقِ أولى مِنَ الجذعِ @ معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص1282 ¬

(¬1) رواه البخاري (3584). (¬2) رواه البخاري (3585).

المطلب الرابع: تسبيح الطعام وتكثير القليل بإذن الله عز وجل، ونبع الماء من أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم

المطلب الرابع: تسبيح الطعام وتكثير القليل بإذن الله عز وجل، ونبع الماء من أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم كما في (الصحيح) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((كُنَّا نعدُّ الآيات بركة، وأَنْتُم تعدُّونها تخويفاً. كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماءٍ، فجاءوا بإناءٍ فيه ماء قليل، فأَدخل يده في الإناء ثم قال: حيّ على الطهور المبارك والبركة من اللهِ عز وجل، فلقد رأيتُ الماءَ ينبع مِنْ بين أصابع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولقد كُنَّا نسمعُ تسبيح الطعام وهو يؤكل)) (¬1). وعن أنس رضي الله عنه قال: ((أُتي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بإناءٍ وهو بالزوراء فوضع يده في الإناء فجعل الماءُ ينبعُ مِنْ أصابعه فتوضَّأَ القوم، قال وكانوا ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة)) (¬2). وعن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((عطش الناس يوم الحديبية والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم بين يده ركوة فتوضَّأَ، فجهش الناس نحوه فقال: مالكم؟ قالوا: ليس عندنا ما نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك. فوضع يده في الرَّكوة فجعل الماء يفورُ بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضَّأنَا. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كُنَّا خمس عشرة مائة)) (¬3). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((كُنَّا يوم الحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنَزحناها حتى لم نترك فيها قطرة، فجلس النَّبيّ صلى الله عليه وسلم على شفير البئر فدعا بماء فمضمض ومجَّ في البئر فمكثنا غير بعيدٍ، ثم استقينا حتى روينا وروت أو صدرت ركائبنا)) (¬4). وعن أنس بن مالك قال: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيءٍ؟ قالت: نعم فأخرجتْ أقراصاً من شعيرٍ ثم أخرَجَتْ خماراً لها فلفَّت الخبز ببعضه ثم دسَّته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال فذهبتُ به فوجدتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس فقمتُ عليهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرسلك أبو طلحة؟ فقلتُ: نعم. قال: بطعامٍ؟ قلت: نعم. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا، فانطلق وانطلقتُ بين أيديهم حتى جئت ُ أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أُمَّ سليم، قد جاء رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هلمَّ يا أُمَّ سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ففت وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيه ما شاءَ اللهُ أَنْ يقول ثم قال: ائذن لعشرة، فأَذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا ثم قال: ائذن لعشرة، فأَكل القوم كلُّهم حتى شبعوا، والقومُ سبعون أو ثمانون رجلاً)) (¬5). وعن جابر رضي الله عنه أَنَّ أباه توفي وعليه دين، قال ((فأتيتُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: إنَّ أبي ترك ديْناً وليس عندي إلا ما يخرج نخلهُ ولا يبلغ ما يُخْرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكيلا يفحش علي الغرماء، فمشى حول بيدر من بيادر التمر، فدعا ثم آخر ثم جلس عليه فقال: انزعوه فأوفاهم الذي لهم وبقي مثل ما أعطاهم)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (3579). (¬2) رواه البخاري (3572). (¬3) رواه البخاري (3576). (¬4) رواه البخاري (3577). (¬5) رواه البخاري (3578)، ومسلم (2040). (¬6) رواه البخاري (3580).

وفي حديث أبي قتادة الطويل في تلك الغزوة: ((ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيءٌ من ماء فتوضّأً منها وضوءاً دون وضوء، قال وبقي منها شيء من ماءٍ، ثم قال لأبي قتادة: احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ)) الحديث، إلى أَنْ قال: ((فانتهينا إلى الناس حين امتدَّ النهار وحمي كل شيء وهم يقولون: يا رسولَ اللهِ هلكنا عطشاً فقال: لا هلك عليكم – ثم قال – اطلقوا لي غمري قال ودعا بالميضأة فجعل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أَنْ رأى الناس ماءً في الميضأة تكابوا عليها، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أحسنوا الملء كلكم سيروى. قال: ففعلوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم صب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: اشربْ فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسولَ اللهِ، قال: إِنَّ ساقي القوم آخرهم شرباً قال فشربْتُ وشرب رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال فأتى الناس الماء جامين رواء)) (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّه كان يقول: ((والله الذي لا إله إلا هو إِنْ كُنْتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإِنْ كنت لأَشُدَّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدتُ يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية مِنْ كتاب الله ما سألته إلاّ ليشبعني فمرَّ ولم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمرَّ ولم يفعل، ثم مرّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسَّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال: (أبا هر) قلتُ: لبيك يا رسولَ اللهِ. قال: (الحق) ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأَذن لي فدخل فوجد لبناً في قدح فقال: (مِنْ أين هذا اللبن؟) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: (أبا هر) قلت: لبيك يا رسولَ اللهِ، قال: (الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي)، قال: وأَهل الصُّفَّةِ أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مالٍ ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأَشركهم فيها، فساءني ذلك فقلتُ: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أَحقُّ أَنْ أُصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنتُ أَنا أعطيهم، وما عسى أَنْ يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتُهم فدعوتُهم، فأَقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: (أبا هر) قلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: (خذ فأعطهم) قال: فأخذتُ القدح فجعلتُ أُعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد عليّ القدح، فأُعطي الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرُدُّ عليّ القدح، حتى انتهيتُ إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد روى القوم كلُّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إِليّ فتبسَّم فقال: (يا أبا هر) قلت: لبيك يا رسولَ اللهِ قال: (بقيتُ أَنا وأَنت) قلت: صدقْتَ يا رسولَ اللهِ، قال: (اقعد فاشرب) فقعدتُ فشربْتُ، فما زال يقول اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مسلكاً، قال: (فأرني) فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة)) (¬2). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 1282 ¬

(¬1) رواه مسلم (681). (¬2) رواه البخاري (6452).

المطلب الخامس: الإسراء والمعراج

المطلب الخامس: الإسراء والمعراج (المعراج: مفعال، من العروج، أي الآلة التي يعرج فيها، أي يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لا يعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته. وقوله: وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة - اختلف الناس في الإسراء. فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه. لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم. فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين: (أن) ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج إلى السماء، وذهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال. فما أراد أن الإسراء مناماً، وإنما أراد أن الروح ذاتها أسري بها، ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت. وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة، ومرة مناماً. وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: ثم استيقظت، وبين سائر الروايات. وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين، مرة قبل الوحي، ومرة بعده. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحي، ومرتين بعده. وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة، للتوفيق!! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة، بعد البعثة، قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر. قال شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة يفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها إلى خمس؟! وقد غلط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد (المسند) منه، ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص. ولم يسرد الحديث. وأجاد رحمه الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله. وكان من حديث الإسراء: أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة، على الصحيح، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكباً على البراق، صحبه جبرائيل عليه السلام، فنزل هناك، صلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد. وقد قيل: أنه نزل بيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك ألبتة. ثم عرج من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبرائيل، ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، ثم عرج (به) إلى السماء الثانية.

فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما، فسلم عليهما، فردا عليه السلام، ورحبا به، وأقرا بنبوته ثم عرج (به) إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج (به) إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج (به) إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار، جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال؟ بخمسين صلاة، فقال: (إن) أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم، إن شئت، فعلا به جبرائيل حتى أتى به (إلى) الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه - هذا لفظ البخاري في (صحيحه) وفي بعض الطرق - فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى، حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ، نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي (¬1). وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه، وقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:11 - 13]، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي (جبرائيل)، رآه مرتين على صورته التي خلق عليها (¬2). وأما قوله تعالى: في سورة النجم: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8]، فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبرائيل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما، فإنه قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5 - 8]. فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تعالى: وتدليه. وأما الذي في سورة النجم: أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبرائيل، رآه مرتين، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة، قوله تعالى:: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح. فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر. ¬

(¬1) رواه البخاري (3878، 7517). (¬2) رواه البخاري (4855). من حديث عائشة رضي الله عنها.

فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب - والله أعلم -: أن ذلك كان إظهاراً لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن اطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس، فأخبرهم بنعته. وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى: من وجوه، لمن تدبره، وبالله التوفيق شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي-1/ 270 قال الشيخ حافظ الحكمي-رحمه الله تعالى- في شرح منظومة سلم الوصول بَعْدَ خَمْسِينَ مِنَ الأَعْوَامِ ... مَضَتْ لِعُمْرِ سَيِّدِ الأَنَامِ أَسرَى بِهِ اللهُ إليه فِي الظُّلَمْ ... وَفَرَضَ الْخَمْسَ عَلَيْهِ وَحَتَمْ

وكان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والمعراج من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى ثم إلى حيث شاء الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى في ذكر الإسراء: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الإسراء:1]. وقال تبارك وتعالى في ذكر المعراج: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:13 - 18]. وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب حديث الإسراء وقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] حدَّثنا يحيى بن بكير حدَّثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب حدَّثني أبو سلمة بن عبدالرحمن سمعتُ جابرَ بن عبدالله رضي الله عنهما قال سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((لما كذبني قريش، قُمْتُ في الحجر فجلا اللهُ لي بيت المقْدِسِ، فطفقت أُخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)) (¬1). باب المعراج. حدثنا هديةُ بن خالد حدثنا همام بن يحيى حدَّثنا قتادةُ عن أنس بن مالك عن مالك ابن صعصعة رضي الله عنهما أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حدثهم عَنْ ليلة أسري به قال: ((بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعاً إذ أتاني آتٍ، فقد قال وسمعته يقول، فشقَّ ما بين هذه إلى هذه)) فقلتُ للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به؟ قال من ثغرةِ نحره إلى شعرته. وسمعتُه يقول: مِنْ قَصَّهِ إلى شِعْرَتِهِ ((فاستخرج قلبي. ثم أتيتُ بطست من ذهب مملوءة إيماناً فغسل قلبي، ثم حُشي، ثم أعيد. ثم أتيت بدابةٍ دون البغل وفوق الحمار أبيض)) فقال الجارود: هو البراقُ يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم ((يضع خطوَه عند أقصى طرفه، فحُملت عليه، فانطلق بي جبريل حتَّى أتى السَّماءَ الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء، ففتح فلما خلصتُ فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه فردَّ السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنَّبيّ الصَّالح. ثم صعِدَ حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء. ففتح فلما خَلَصتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما. فسلمت فردَّا ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنَّبيّ الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء ففتح فلما خَلَصتُ فإذا يوسف، قال هذا يوسف فسلّم عليه، فسلمتُ عليه فردّ ثم قال: مرحباً بالأَخِ الصَّالح والنَّبيّ الصالح. ثم صَعِدَ بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أوقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء. فلما خَلَصْتُ فإذا إدريس، قال هذا إدريس فسلِّم عليه، فسلمتُ عليه فرد ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنَّبيّ الصالح. ¬

(¬1) رواه البخاري (3886)، ومسلم (162) مختصرا.

ثم صَعِد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء. فلما خَلَصْتُ فإذا هارون، قال هذا هارون فسَلِّمْ عليه، فسلمتُ عليه فرد ثم قال: مرحباً بالأخِ الصَّالح والنَّبيّ الصالح، ثم صَعِدَ بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أوقد أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء فلما خلصتُ فإذا موسى، قال هذا موسى فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصَّالح والنَّبيّ الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها مِنْ أُمَّتي. ثم صعِدَ بي إلى السَّابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن مَعَك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرْحباً به فِنِعْمَ المجيءُ جاء فلما خلصتُ فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك فسلِّم عليه، فسلمتُ عليه فردَّ علي السلام قال: مرحباً بالابن الصالح والنَّبيّ الصالح. ثم رُفِعَتْ إِليَّ سِدْرَةُ المنتهى فإذا نبقُها مثلُ قِلال هَجَر، وإذ ورقها مثل آذانِ الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهرانِ باطنان ونهرانِ ظاهرانِ، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيلُ والفرات، ثم رُفع لي البيتُ المعمور ثم أتيت بإناءٍ من خمر وإناءٍ من لبنٍ وإناء من عسلٍ، فأخذتُ اللَّبن فقال: هي الفطرة أَنْتَ عليها وأُمَّتُكَ، ثم فُرِضَتْ عليَّ الصلوات خمسين صلاةً كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إنَّ أُمتك لا تستطيع خمسين صلاة كلَّ يوم، وإِنِّي والله قد جربت الناس قبلك وعالجتُ بني إسرائيل أَشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف لأُمَّتك، فرجعت فوضع عنِّي عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعتُ فوضع عني عشراً فرجعتُ إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عنِّي عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فَأُمِرْتُ بعشرِ صلواتٍ كُلَّ يومٍ، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأُمِرْتُ بخمس صلواتٍ كُلَّ يومٍ. فرجعت إلى موسى فقال: بما أُمرت؟ قلت أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إنَّ أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإِنِّي قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أَشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأُمَّتِكَ، قال: سألتُ ربِّي حتى استحييتُ ولكني أرضى وأسلم، قال فلما تجاوزتُ ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخفَّفْتُ عن عبادي)) (¬1). قلت: وقوله في هذه الرواية عن إدريس مرحباً بالأخ الصالح هذا قد يشكل، لأن إدريس من آبائه، والمعنى والله أعلم على ما في الحديث ((نحن معاشر الأنبياء أبناء علات)) (¬2) إلخ. وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدَّثنا عبدُ العزيز بنُ عبدالله حدَّثني سليمان عن شريك بن عبدالله أَنَّه قال: سمعتُ ابن مالك – يعني أنساً رضي الله عنه – يقول ليلةَ أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة: ((إِنَّه جاءَه ثلاثةُ نفرٍ قبل أَنْ يوحى إليه وهو نائمٌ في المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أَتوه ليلةً أخرى فيما يرى قلبُهُ وتنامُ عينه ولا ينام قلْبُهُ. ¬

(¬1) رواه البخاري (3887). (¬2) رواه البخاري (3442)، ومسلم (2365) بدون لفظ: ((نحن معاشر)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. فلم يكلِّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئْرِ زمزم فتولاه منهم جبريلُ فشقَّ جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى أفرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه. ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشو إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده – يعني عروق حلقه. ثم أَطبقه. ثم عرج به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: مَنْ هذا؟ فقال: جبريل. قالوا: ومَنْ معك؟ قال: محمد، قال: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: فمرحباً به وأهلاً، فيستبشر أهل السماءِ لا يعلم أهل السماء بما يريدُ اللهُ به في الأرضِ حتى يعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبريل: هذا أبوكَ فسلِّم عليه، فسلَّم وردَّ عليه آدم وقال: مرحباً وأهلاً يا بنيَّ نعم الابن أَنْتَ، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات. ثم مضى به في السماءِ فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خَبَّأَ لك ربُّكَ. ثم عرج إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحباً به وأهلاً. ثم عُرِجَ به إلى السماء الثالثة وقالوا مثل ما قالت الأولى والثانية، ثم عُرِجَ به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك، ثم عُرِجَ به إلى السماء الخامسة فقالوا له مثل ذلك، ثم عُرِجَ به إلى السادسة فقالوا له مثل ذلك، ثم عُرِجَ به إلى السماءِ السابعة فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سمَّاهم فأوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمَهُ وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى ربِّ لم أظن أَنْ يرفع عليّ أحدٌ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا اللهُ تعالى: حتى جاء سِدْرَةِ المنتهى ودنا الجبَّارُ ربُّ العزَّةِ فتدلّى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى اللهُ فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أُمَّتِكَ كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربَّكَ؟ قال: عهد إلي خمسين صلاة كلَّ يوم وليلة، قال: إِنَّ أُمَّتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفِّف عنك ربُّك وعنهم، فالتفتَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأَنَّه يستشيرُهُ في ذلك، فأشار إليه جبريل أَنْ نعم إِنْ شِئْتَ، فعلا به إلى الجبار فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنَّا فإِنَّ أُمَّتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربِّه حتَّى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عِنْد الخمس فقال: يا محمد واللهِ لقد راودتُ بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه فأُمَّتكَ أضعفُ أَجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً، فارجع فليخفِّف عنك ربُّكَ، كل ذلك يلتفت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال: يا ربِّ إِنَّ أُمَّتي ضعفاء أجسامهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفِّف عنَّا. فقال الجبَّارُ: يا محمد، قال: لبَّيْكَ وسعديك، قال: إِنَّه لا يبدل القول لديّ، كما فرضتُ عليك في أُمِّ الكتاب.

قال: فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أُمِّ الكتاب وهي خمسٌ عليك، فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفَّف عنَّا، أعطانا بكل حَسَنَةٍ عشر أمثالها، قال موسى: قد واللهِ راودتُ بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارْجع إلى ربِّك فليخفِّف عنك أيضاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا موسى قَدْ والله استحييتُ مِنْ ربِّي مما اختلفت إليه. قال: فاهبط باسْمِ اللهِ. قال واستيقظ وهو في المسجد الحرام)) (¬1). ورواه مسلم بعد حديث ثابت البناني أصله وقال نحو حديث ثابت البناني وقدم فيه شيئاً وأَخَّر وزاد ونقص، وهذا السياق روايته لحديث ثابت قال رحمه الله تعالى: حدَّثنا شيبانُ بنُ فروخ حدَّثنا حمادُ بنُ سلمة حدَّثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((أتيت بالبراقِ، وهو دابة أبيض طويل فوقَ الحمار ودون البَغْلِ يضع حافرَهُ عند منتهى طرفه، قال فركبته حتى أتيت بيتَ المقدس. قال فربطته بالحلقَةِ التي يربط بها الأنبياءُ. قال ثم دخلتُ المسجد فصلَّيْتُ فيه ركعتين ثم خرجْتُ، فجاءني جبريلُ عليه السلام بإِناءٍ مِنْ خمرٍ وإِناءٍ مِنْ لبنٍ فاخترتُ اللَّبن فقال جبريلُ عليه السلام: اخترتَ الفطرة. ثم عُرِجَ بنا إلى السماء فاسْتفتح جبريل فقيل: مَنْ أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحَّب بي ودعا لي بخير، ثم عُرج بنا إلى السَّماء الثانية فاستفتح جبريلُ عليه السلام، فقيل: من أَنْتَ؟ قال: جبريل، قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا صلواتُ اللهِ عليهما وسلامُهُ، فرحَّبا ودعوا لي بخير، ثم عُرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أَنْتَ؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أَنا بيوسف عليه السلام إذ هو قد أعطي شَطْرَ الحسن فرحَّب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السَّماءِ الرابعة فاستفتح جبريلُ عليه السلام، قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (7517).

قال: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح الباب فإذا أنا بإدريس عليه السلام فرحَّب ودعا لي بخير، قال الله عز وجل وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً [مريم:57] ثم عُرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريلُ، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون عليه السلام، فرحَّب ودعا لي بخير، ثم عُرِجَ بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريلُ عليه السلام، وقيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بموسى عليه السلام فرحَّب بي ودعا لي بخير، ثم عُرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهرهُ إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سِدْرَةِ المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا تمرها كالقلال، قال فلما غشيها مِنْ أَمر الله ما غشي تغيَّرت فما أحدٌ مِنْ خلق الله يستطيع أَنْ ينعتها مِنْ حسنها، فأَوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنَزلت إلى موسى عليه السلام فقال: ما فرض ربُّك على أُمَّتِك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربِّك فاسأَله التخفيف فإِنَّ أُمَّتك لا يطيقون ذلك فإِنِّي قد بلوتُ بني إسرائيل وخبرتهم. قال فرجعتُ إلى ربِّي فقلت: يا ربِّ خَفِّفْ عن أُمَّتي، فحَطَّ عني خمساً، فرجعتُ إلى موسى فقلت: حطَّ عنِّي خمساً، قال: إِنَّ أُمَّتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف. قال فلم أزل أرجع بين ربِّي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد إِنَّهنَّ خمس صلوات كل يومٍ وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة، ومن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنة، فإِنْ عملها كتبت له عشراً. ومن همَّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئةً واحدة. قال فنَزلتُ حتى انتهيتُ إلى موسى عليه السلام فأخْبرتُهُ، فقال: ارجع إلى ربِّك فاسأله التخفيف، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجعتُ إلى ربِّي حتى استحييتُ منه)) (¬1). وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب كيف فُرِضت الصلاة في الإسراء. حدَّثنا يحيى بن بكير قال حدَّثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدِّث أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((فُرِجَ عن سقف بيتي وأنا بمكَّة فنَزل جبريلُ ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطسْتٍ من ذهب مُمتلئ حكمةً وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فخرج بي إلى السماء الدنيا. فلمَّا جاءت السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: جبريلُ، قال: هل معك أحدٌ؟ قال: نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أُرسل إليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجلٌ قاعد على يمينه أَسْوِدَةٌ وعلى يساره أَسوِدةٌ، إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قِبَلَ يساره بكى، فقال مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، حتى عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح. ¬

(¬1) رواه البخاري (3878)، ومسلم (162).

قال أنس فذكر أَنَّه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم، ولم يثبت كيف منازلهم غير أَنَّه ذكر أَنَّه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة، قال أنس: فلما مرَّ جبريلُ بالنَّبيّ صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحباً بالنبيِّ الصالح والأخ الصالح، فقلت: مَنْ هذا؟ قال: هذا إدريس، ثم مررت بموسى فقال: مرحباً بالنبيِّ الصالح والأخِ الصالح، قلت: مَنْ هذا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى فقال: مرحباً بالنبيِّ الصالح، والأخ الصالح، قلت: مَنْ هذا؟ قال: هذا عيسى، ثم مررتُ بإبراهيم فقال: مرحباً بالنَّبيِّ الصالح والابن الصالح. قلت: مَنْ هذا؟ قال: هذا إبراهيم عليه السلام. قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أَنَّ ابْنَ عباس وأبا حبَّة الأنصاري كانا يقولان: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثم عُرج بي حتى ظهرت لمستوىً أسمع فيه صريف الأقلام)) قال ابن حزم وأنس بن مالك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ففرض اللهُ على أُمَّتي خمسين صلاة، فرجعتُ بذلك حتى مررتُ على موسى فقال: ما فرض اللهُ لك على أُمَّتك؟ قلتُ: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربِّك فإِنَّ أُمَّتك لا تطيق ذلك، فراجعتُ فوضع شطرها، فرجعتُ إليه فقال: ارجع إلى ربك فإِنَّ أُمَّتك لا تطيق ذلك، فراجعته فقال: هي خمسٌ وهي خمسون لا يبدَّلُ القول لديَّ، فرجعتُ إلى موسى فقال: راجع ربَّك، فقلتُ: استحييت من ربِّي ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سِدْرَةِ المنتهى وغشيها ألوانٌ لا أدري ما هي، ثم أُدخلتُ الجنة فإذا فيها جبال اللؤلؤ وإذا ترابُها المسك)). وافقه عليه مسلم رحمه الله تعالى (¬1). وله عن مُرَّة عن عبدالله قال: ((لما أُسري برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيُقْبض منها، وإليها ينتهي ما يُهبْط من فوقها فيُقبض منها، قال إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:16] قال فراشٌ من ذهب، قال فأُعطي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمنْ لم يشركُ بالله مِن أمته شيئاً المقحمات)) (¬2). وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لقد رأيتُني في الحجر وقريشٌ تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكُربْتُ كربة ما كُربْتُ مثلها قط، قال فرفعه الله لي أنظر إليه: ما يسألوني عن شيء إلا أَنبأْتُهُم به)) (¬3) الحديث. وهذا الذي ذكرنا من حديث أنس وجابر ومالك بن صعصعة وأبي ذر وابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وأبي حبة هي من أصح ما ورد وأقواه وأجوده وأسنده وأشهره وأظهره لاتّفاق الشيخين على إخراجهما، وعن هؤلاء روايات أخر لم نذكرها استغناء عنها بما في (الصحيحين). وفي الباب أحاديث أخر عن جماعة من الصحابة منهم من لم نذكر: عمر بن الخطاب وعلي وأبو سعيد وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبدالرحمن بن قرظ وأبو ليلى وعبد الله بن عمرو وحذيفة وبريدة وأبو أيوب وأبو أمامة وسمرة بن جندب وأبو الحمأ وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتا أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. ثم الذي دلت عليه الآيات والأحاديث أَنَّ الإسراء والمعراج كانا يقظة لا مناماً، ولا ينافي ذلك ما ذكر في بعض الروايات في قوله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم)) (¬4) ¬

(¬1) رواه البخاري (349)، ومسلم (163). (¬2) رواه مسلم (173). (¬3) رواه مسلم (172). (¬4) رواه البخاري (3207)، ومسلم (164) ..

فإن ذلك عند أول ما أتياه ولا يدل على أَنَّه استمر نائماً، ولذا كانت رؤيا الأنبياء وحْياً، ولكن في سياق الأحاديث من ركوبه ونزوله وربطه وصلاته وصعوده وهبوطه وغير ذلك ما يدل على أنه أُسري بروحه وجسده يقظة لا مناماً، وكذا لا ينافي ذلك رواية شريك: ((فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام)) (¬1) فإن رواية شريك فيها أوهام كثيرة تخالف رواية الجمهور عن أنس في أكثر من عشرة مواضع سردها في الفتح، وسياقه يدل على أّنَّه بالمعنى، وصرَّح في مواضع كثيرة أَنَّه لم يثبتها، وتصريح الآية سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] شامل للروح والجسد، وكذلك قوله تعالى: في سورة النجم وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى [النجم:13 - 14] جعل رؤية النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل عند سدرة المنتهى مقابلاً لرؤيته إياه في الأبطح، وهي رؤية عين حقيقة لا مناماً. ولو كان الإسراء والمعراج بروحه في المنام لم تكن معجزة ولا كان لتكذيب قريش بها وقولهم كُنَّا نضربُ أكبادَ الإِبل إلى بيت المقدس شهراً ذهاباً وشهراً إياباً، ومحمدٌ يزعم أّنَّه أُسري به إليه وأصبح فينا، إلى آخر تكذيبهم واستهزائهم به صلى الله عليه وسلم، لو كان ذلك رؤيا مناما لم يستبعدوه ولم يكن لردهم عليه معنى، لأنَّ الإنسان قد يرى في منامه ما هو أبعد من بيت المقدس ولا يكذبه أحد استبعاداً لرؤياه، وإنما قصَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرى حقيقة يقظة لا مناماً فكذَّبوه واستهزؤوا به استبعاداً لذلك واستعظاماً له، مع نوع مكابرة لقلة علمهم بقدرة الله عز وجل وأَنَّ الله يفعل ما يريد، ولهذا لما قالوا للصديق وأخبروه الخبر قال: إنْ كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدقه بذلك؟ قال: نعم، إِنِّي لأُصدقه فيما هو أبعد من ذلك في خبر السماء يأتيه بكرةً وعشياً. أو كما قال. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 1236 ¬

(¬1) رواه البخاري (7517) بلفظ: (واستيقظ وهو في المسجد الحرام).

المطلب السادس: كف الأعداء عنه

المطلب السادس: كف الأعداء عنه ومن ذلك استجابة الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم عندما كان مهاجراً، وأدركه سراقة ابن مالك، فارتطمت بسراقة فرسه إلى بطنها في أرض صلبة، فقال سراقة: إني أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعوا لي، فالله لكما أن أردّ عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحداً إلاّ قال: كفيتم، ما هاهنا، فلا يلقى أحداً إلاّ ردّه. متفق عليه (¬1). وفي معركة حنين انهزم المسلمون وثبت الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلّة من المؤمنين أولئك الذين بايعوا تحت الشجرة، فلّما حمى الوطيس، أخذ صلوات الله وسلامه عليه حصيات، فرمى بهنَّ وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا وربِّ محمد يقول العباس راوي الحديث: فوالله ما هو إلاّ أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدّهم كليلاً، وأمرهم مدبراً (¬2). وفي رواية سلمة بن الأكوع، قال: ((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فولّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثمَّ قبض قبضة من تراب الأرض، ثمَّ استقبل به وجوههم، فقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنساناً إلاّ ملأ الله عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين)) (¬3). ومن ذلك ما رواه أبو هريرة ((أن أبا جهل حلف باللات والعزى أنه لو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد حيث مجامع قريش أن يطأ على رقبته، أو ليعفرن وجهه في التراب، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً، أراد أن يفعل ما أقسم عليه، فلما اقترب منه ما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي يديه، فقيل له: مالك؟ فقال: إنَّ بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)) (¬4). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 140 ¬

(¬1) رواه البخاري (3615)، ومسلم (2009). من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (1775). من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (1777) مختصراً. (¬4) رواه مسلم (2797).

المطلب السابع: إجابة دعوته

المطلب السابع: إجابة دعوته اهتداء أم أبي هريرة بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة قال: كنت أدعو أميَّ إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال: ((اللهمَّ اهد أم أبي هريرة " فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما جئت، فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف مردود فسمعَتْ أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضة تحريك الماء، قال: فاغتسلَتْ، ولبسَتْ درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله فأتيته، وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال خيراً)) (¬1). أصبح بدعوته فارساً: عن جرير بن عبد الله، قال: ((قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تُريحني من ذي الخلَصةِ؟ فقلت: بلى. فانطلقتُ في خمسين ومائة فارسٍ من أحمسَ، وكانوا أصحابَ خيل وكنتُ لا أثبُتُ على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال: اللهم ثبته، واجعلهُ هادياً مهدياً. قال: فما وقعتُ عن فرس بعدُ. قال: وكان ذو الخلَصة بيتاً باليمن لخَثْعَم وبجيلة فيه نُصُبٌ تُعبَد، يقال له: الكعبة. قال: فأتاها فحرَّقها بالنار وكسرها)) (¬2). إغاثة الله الناس بدعائه: وعن أنس بن مالك قال: ((أصابت الناس سنةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطبُ في يوم الجمعة، قام أعرابيٌ فقالَ: يا رسول الله هَلَكَ المالُ، وجاعَ العيالُ، فادعُ الله لنا. فرفعَ يديه، وما نرى في السماء قَزَعةً، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثارَ السحابُ أمثالَ الجبالِ، ثم لم ينزلْ عن منبره حتى رأيتُ المطرَ يتحادرُ على لحيته، فمُطِرنا يومنا ذلك، ومن الغدِ، والذي يليه حتى الجمعةِ الأخرى، وقام ذلك الأعرابي – أو قال غيره – فقال: يا رسول الله تهدَّمَ البناء وغرقَ المالُ، فادعُ الله لنا. فرفعَ يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا " فما يُشيرُ بيده إلى ناحيةٍ من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينةُ مثلَ الجوبة، وسال الوادي قناةُ شهراً، ولم يجئ أحدٌ من ناحيةٍ إلا حدّث بالجود)) (¬3). وفي رواية قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام، والجبال، والآجام، والظراب، والأودية ومنابت الشجر قال: فأقلعَتْ وخرجنا نمشي في الشمس)) (¬4). أصابت الدعوة يد مستكبر: وعن سلمة بن الأكوع ((أنَّ رجلاً أكل عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كُل بيمينك قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت ما مَنَعَه إلا الكبرُ. قال: فما رفعها إلى فيه)) (¬5). د- بركة دعوة الرسول الله صلى الله عليه وسلم تصيب بعير جابر: وعن جابر قال: ((غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاحق بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضحٍ لنا قد أعيا، فلا يكادُ يسيرُ فقال لي: ما لبعيرك؟ قال: قلت: عيي، قال: فتخلف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإبلِ قدّامها يسيرُ. فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتُك. قال: أَفتبيعُنيه؟ قال: فاستحييت، ولم يكن لنا ناضحٌ غيره، قال: فقلت: نعم، قال: فبعنيه فبعته إياه على أن لي فقار ظهره إلى المدينة،. . قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، غدوت عليه بالبعير، فأعطاني ثمنه وردَّه عليَّ)) (¬6). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 142 ¬

(¬1) رواه مسلم (4491). (¬2) رواه البخاري (4356). ومسلم (2476). (¬3) رواه البخاري (933) واللفظ له، ومسلم (897). (¬4) رواه البخاري (1013). (¬5) رواه مسلم (2021). (¬6) رواه البخاري (2967).

المطلب الثامن: إبراء المرضى

المطلب الثامن: إبراء المرضى إبراؤه من كسرت رجله: عن البراء بن عازب قال: ((بعثَ النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً إلى أبي رافعٍ، فدخل عليه عبد الله بن عتيك ليلاً وهو نائم فقتله (¬1)، فقال عبد الله بن عتيكٍ: فوضعتُ السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتحُ الأبواب باباً فباباً، حتى انتهيتُ إلى درجة له فوضعت رجلي، وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامةٍ فانطلقت إلى أصحابي، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: ابسط رجلك فبسطت رجلي، فمسحها فكأنها لم أشتكِها قطُّ)) (¬2). إبراؤه عين علي بن أبي طالب: وعن سهل بن سعدٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتحُ الله على يديه، يحبُّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناسُ غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها فقال: أين عليُّ بنُ أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق رسول الله في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الراية، فقال عليٌّ: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: انفُذْ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجبُ عليهم من حقِّ الله فيه، فوالله لأن يهدي اللهُ بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لكَ حمرُ النعم)) (¬3). ساق سلمة بن الأكوع: وعن يزيد بن أبي عبيد قال: ((رأيت أثر ضربةٍ في ساق سلمة فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربةٌ أصابتني يوم خيبر، فقال الناسُ: أصيب سلمة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة)) (¬4). إخراجه الجن من المصروع: وعن يعلى بن مرة الثقفي قال: ((سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا بماءٍ، فأتتهُ امرأةٌ بابن لها به جنةٌ، فأخذَ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخرِهِ ثم قال: اخرج فإني محمد رسول الله ثم سرنا، فلما رجعنا مررنا بذلك الماء، فسألها عن الصبي، فقالت: والذي بَعَثَك بالحقِّ ما رأينا منه ريباً بعدك)) (¬5). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 145 ¬

(¬1) رواه البخاري (4038). (¬2) رواه البخاري مختصراً (4039). (¬3) رواه البخاري (4210)، ومسلم (2406). (¬4) رواه البخاري (4206). (¬5) رواه أحمد (4/ 173) (17601)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (6/ 24). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 145): طريقه جيد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 346) كما قال ذلك في المقدمة.

المطلب التاسع: إخباره بالأمور الغيبية

المطلب التاسع: إخباره بالأمور الغيبية فمن ذلك إخباره عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإخباره عن الملائكة وصفاتهم، وإخباره عن عالم الجن، وعن الجنة والنار، ومن ذلك إخباره عن الحوادث التي وقعت، كما أخبر عن آدم ونوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرسل، وما جرى بينهم وبين أقوامهم، وهو حديث فيه تفصيل وبيان، ومثل هذا لا يتأتى من رجل أمي لم يكن كاتباً ولا قارئاً، ولم يخالط الذين درسوا تاريخ الأمم وعرفوا أخبارها، ثم هو يأتي بأخبار لم يبلغها علم الأمم، وأخبار يكتمها علماء أهل الكتاب، ويصحح لهم كثيراً مما عندهم، وكل ذلك دليل على أنه إنما جاء بهذه العلوم من العليم الخبير، تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ [هود: 49]. وقد أشار القرآن إلى هذا الدليل في عدة مواضع، فمن ذلك قوله في سياق قصة مريم: وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44]. وفي سياق قصة موسى، قال: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 46]. وقد كان يخبر الأخبار المغيبة التي وقعت في حينها، فقد أخبر باستشهاد قادة المسلمين الثلاثة في معركة مؤتة، وباستلام خالد بن الوليد الراية من بعدهم في اليوم الذي وقع فيه الحدث، رواه البخاري (¬1). وعندما توفي النجاشي أخبر بوفاته في اليوم نفسه الذي توفي فيه، وكذلك عندما توفي كسرى. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 147 ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (4262). من حديث أنس رضي الله عنه.

المطلب العاشر: انقياد الشجر وتسليمه وكلامه

المطلب العاشر: انقياد الشجر وتسليمه وكلامه عن جابر قال ((سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفيح واسعاً، فذهب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فلم ير شيئاً يستَتِرُ به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش، الذي يصانع قائدَه، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصنٍ من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف (الوسط) مما بينهما قال: التئما علي بإذن الله فالتأمتا، فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتةٌ، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، وإذا بالشجرتين قد افترقتا فقامت كل واحدةٍ منهما على ساقٍ)) (¬1). وعن يعلى بن مُرة الثقفي قال: ((سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا منزلاً، فنام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت شجرةٌ تشقُّ الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرتُ له فقال: هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُذن لها)) (¬2). وعن أنس قال: ((جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزينٌ، قد تخضب بالدم من فعل أهل مكة، فقال: يا رسول الله، هل تحبُّ أن نريك آية؟ قال: نعم. فنظر إلى شجرةٍ من ورائه فقال: ادعُ بها. فدعا بها فجاءت فقامت بين يديه، فقال: مرها فلترجع فأمرها فرجعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي حسبي)) (¬3). وعن ابن عباس قال: ((جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بمَ أعرفُ أنك نبيٌّ؟ قال: إن دعوت هذا العذقَ من هذه النخلة يشهدُ أني رسول الله فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزلُ من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ارجع فعاد، فأسلم الأعرابي)) (¬4). وعن معن بن عبد الرحمن قال (سمعت أبي قال: سألتُ مسروقاً: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجنِّ ليلة استمعوا القرآن قال: حدثني أبوك – يعني عبد الله بن مسعود – أنه قال: آذنت بهم شجرةٌ) (¬5). وعن ابن عمر قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي، فلما دنا قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: تشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأنَ محمداً عبدهُ ورسوله؟ قال: ومَن يشهدُ على ما تقولُ؟ قال: هذه السَّلَمة، فدعاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو بشاطئ الوادي، فأقبلت تخدُّ الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فشهدت ثلاثاً أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها)) (¬6). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 150 ¬

(¬1) رواه مسلم (3012). (¬2) رواه أحمد (4/ 173) (17601)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (6/ 24). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 145): طريقه جيد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 346) كما قال ذلك في المقدمة. (¬3) رواه أحمد (3/ 113) (12133)، والدارمي (1/ 26) (23). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 128): إسناده على شرط مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 347) كما قال ذلك في المقدمة، وصحح إسناده الألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5867). (¬4) رواه الترمذي (3628). وقال: حسن غريب صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) دون قوله: ((فأسلم الأعرابي)). (¬5) رواه البخاري (3859)، ومسلم (450). (¬6) رواه الدارمي (1/ 17) (8)، وابن حبان (14/ 434) (6505)، والطبراني (12/ 431) (13616). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 130): إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 295): رجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده السيوطي في ((الخصائص الكبرى)) (2/ 36).

المطلب الحادي عشر: تسليم الحجر

المطلب الحادي عشر: تسليم الحجر عن جابر بن سَمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرفُ حجراً بمكةَ كان يسلمُ عليَّ قبل أن أبعثَ إني لأعرفُهُ الآن)) (¬1). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 152 ¬

(¬1) رواه مسلم (2277).

المطلب الثاني عشر: شكوى البعير

المطلب الثاني عشر: شكوى البعير عن يعلى بن مرة الثقفي قال: ((بينما نحنُ نسيرُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مررنا ببعيرٍ يُسنَى عليه، فلما رآه البعيرُ جرجَرَ، فوضع جرانه، فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين صاحبُ هذا البعير؟ فجاءه فقال: بِعْنِيهِ فقال: بل نهبُهُ لكَ يا رسول الله، وإنه لأهلِ بيتٍ ما لهم معيشةٌ غيرُهُ. قال: أما إذ ذكرتَ هذا من أمره، فإنه شكا كثرةَ العمل، وقلةَ العلفِ، فأحسنوا إليه)) (¬1). وعن عبد الله بن جعفر قال: ((أردفني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسرَّ إليَّ حديثاً لا أُحدثُ به أحداً من الناس، وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجتِهِ هدفٌ أو حائشُ نخلٍ. فدخلَ حائطاً لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفراه فسَكَنَ فقال: مَن ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاءه فتىً من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تُجيعه وتُدئبُهُ)) (¬2). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 152 ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 173) (17601)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (6/ 24). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 145): طريقه جيد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 346) كما قال ذلك في المقدمة. (¬2) رواه أبو داود (2549)، وأحمد (1/ 204) (1745)، والحاكم (2/ 109). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال ابن الملقن في ((تحفة المحتاج)) (2/ 438): سنده في مسلم، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 247): أصله في مسلم.

الفصل الثاني: بشارات الأمم السابقة

تمهيد: قال تعالى: أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 197] فالآية تبين أنَّ من الآيات البينات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق ما جاء به – علم بني إسرائيل بذلك، وهو علم مسجل محفوظ مكتوب في كتبهم التي يتداولونها، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 162

المبحث الأول: القرآن يتحدث عن بشارات الأنبياء السابقين بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم:

تمهيد حكى الله سبحانه في القرآن الكريم ما تتضمنه الكتب المنزلة والرسل المرسلة من التبشير بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما يغني عن جميع ما ذكرناه من نصوص تلك الكتب, وإنما أردنا بالنقل منها إلزام الحجة وتكميل الفائدة لمن كان في قلبه ريب, وفي صدره حرج, فمن ذلك قوله سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ [الأعراف: 175]. وقال عز وجل: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة: 146] وقال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144] وقال سبحانه: وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة: 89] وقال سبحانه: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام: 114] وقال سبحانه: كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد: 43] وقال تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 197] وقال سبحانه: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً [الإسراء: 107 - 108] وقال سبحانه: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ [يونس: 94] وهذا بعض ما اشتمل عليه الكتاب العزيز, وفي الأحاديث ما يؤيد ذلك ويؤكده, فمن ذلك ما رواه ابن اسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل بعثته, فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه, فقال معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلم: يا معشر اليهود, اتقوا الله وأسلموا, فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك, وتخبرونا أنه مبعوث, وتصفونه بصفته, فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه, وما هو بالذي كنا نذكره لكم. فأنزل الله عز وجل: فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة: 89]) (¬1). ¬

(¬1) رواه ابن إسحاق في ((سيرة ابن هشام)) (1/ 547).

وروى ابن اسحاق نحو هذه القصة التي هي سبب نزول هذه الآية من طرق, ومنها أنه قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصاري قال حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت الأنصاري قال: (والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان سنين, أعقل كلما سمعت, إذ سمعت يهودياً يقول على أطم يثرب فصرخ: يا معشر اليهود, فلما اجتمعوا عليه قالوا: مالك وتلك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يبعث الليلة) (¬1) ومن ذلك ما كان من خروج زيد بن عمرو بن نفيل وسؤاله لأهل الكتاب وإخبارهم عن أن نبياً يبعث في العرب فرجع, وأدرك النبي قبل أن يبعث, ومات قبل البعثة وهذا الحديث في البخاري وغيره (¬2). وأخرج البيهقي بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك: ((أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض, فأتاه النبي يعوده, فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا يهودي: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة صفتي ومخرجي؟ قال: لا. قال الفتى: بلى والله يا رسول الله إنا نجد في التوراة نعتك, ومخرجك, وإني أشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله, فقال: أقيموا هذا من عند رأسه, ولوا أخاكم)) (¬3). وثبت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل ملك الروم عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (إن يكن ما تقوله حقاً إنه نبي, وقد كنت أعلم أنه خارج, ولم أكن أظنه منكم, ولو أعلم أني أخلص إليه لأحسنت لقاءه, ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) (¬4). وفي البخاري حكاية عن هرقل هذا إنه كان حزاء ينظر في النجوم, فنظر, فقال: (إن ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: يختتن اليهود, فلا يهمك شأنهم, وابعث إلى من في مملكتك من اليهود فيقتلونهم, ثم وجد إنساناً من العرب فقال: انظروا أفختتن هو؟ فنظروا فإذا هو مختتن, وسأله عن العرب فقال: يختتنون) (¬5). وفيه أيضاً وكان برومية صاحب لهرقل كان هرقل نظيره في العلم, فأرسل إليه, وسار إلى حمص, فلم يرم حمص, حتى أتى كتاب من صاحبه يوافق رأيه على خروج النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذا ما ثبت في كتب السير والحديث من إسلام النجاشي, وتصديقه بالنبي وهو في الحبشة لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما وصل إليه بعض أصحابه, وسمع ما تلوه عليه من القرآن, فآمن وصدق. وثبت في الصحيح أن ورقة بن نوفل الذي دار في طلب الدين, وسأل طوائف أهل الكتاب, لما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى من نزول جبريل عليه في غار حراء وما قال له فقال ورقة: ((هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى, ليتني كنت جذعاً أدرك إذ يخرجك قومك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي, وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي)) (¬6). ¬

(¬1) رواه ابن إسحاق في ((سيرة ابن هشام)) (1/ 159). (¬2) الحديث رواه البخاري (3827). (¬3) رواه البيهقي (6/ 206) (12518). قال ابن تيمية في ((الجواب الصحيح)) (5/ 172): إسناده صحيح. (¬4) رواه البخاري (4553)، ومسلم (1773). (¬5) رواه البخاري (7). (¬6) رواه البخاري (4953)، ومسلم (160).

ومن هذا ما رواه ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: (هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابني سعية وأسد بن عبيد نفر من هذيل لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير كانوا فوق ذلك؟ قلت: لا, قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان, فأقام عندنا, والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس خيراً منه, فقدم علينا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنين, وكنا إذا قحطنا, أو قل علينا المطر نقول: يا ابن الهيبان, أخرج فاستق لنا, فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة, فنقول: كم؟ فيقول: صاع من تمر, أو مدين من شعير, فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه, فيستقي, فوالله ما نقوم من مجلسه حتى تمر السحاب, وقد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة, فحضرته الوفاة, فاجتمعنا إليه, فقال: يا معشر يهود, ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم. قال: فإنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه, هذه البلاد مهاجره, فاتبعوه ولا تسبقن إليه إذا خرج يا معشر يهود, فإنه يبعث بسفك الدماء, وسبي الذراري والنساء, فمن يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات, فلما كان الليلة التي فتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شباناً أحداثاً: يا معشر يهود, والله إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان, فقالوا: ما هو به, قالوا: بلى والله إنه بصفته. ثم نزلوا فأسلموا, وخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم, فلما فتح الحصن رد ذلك عليهم) (¬1). وأخرج البخاري في تاريخه والبيهقي في دلائل النبوة عن محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: (سمعت أبي جبير يقول لما بعث الله نبيه وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام, فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم. قالوا: تعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم. قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديراً لهم فيه تماثيل وصور, قالوا لي: أنظر هل ترى صورة هذا الذي بعث فيكم؟ فنظرت فلم أر صورته, قلت: لا أرى صورته. فأدخلوني ديراً أكبر من ذلك الدير, فيه صور أكثر مما في ذلك الدير, فقالوا لي: أنظر هل ترى صورته؟ فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصورته, وإذا أنه بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب رسول الله, فقالوا لي: انظر هل ترى صفته؟ قلت: نعم. قالوا: هو هذا, وأشاروا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: اللهم نعم. قالوا: أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه؟ قلت: نعم. قالوا تشهد أن هذا هو صاحبكم, وأن هذا الخليفة من بعده) (¬2) ....... ¬

(¬1) رواه ابن إسحاق في ((سيرة ابن هشام)) (1/ 213). (¬2) رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (1/ 384)

وأمثال هذا كثيرة جداً يطول المقام ببسط بعضها فضلاً عن كلها, وفي القرآن الكريم من دلائل إثبات النبوات على العموم, وإثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم على الخصوص ما لا يخفى على من يعرف القرآن, ويفهم كلام العرب, فإنه مصرح بثبوت جميع الأنبياء من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم, وفيه ذكر كل واحد منهم بصفته, وإلى من أرسل, وفي أي زمان كان, مع تقديم المتقدم, وتأخير المتأخر, وذكر ما وقع لكل واحد منهم, من إجابة قومه له, وامتناعهم عليه, وردهم لما جاء به, وما وقع بينه وبينهم من المقاولة, والمحاولة, والمقاتلة. ومن نظر في التوراة وما اشتملت عليه من حكاية حال الأنبياء من لدن آدم إلى موسى وجد القرآن موافقاً لما فيها غير مخالف لها, وهكذا ما اشتملت عليه التوراة مما اتفق لموسى وبني إسرائيل في مصر مع فرعون, وما كان من تلك الحوادث من الآيات البينات التي جاء بها, ومن تلك العقوبات التي عوقب بها فرعون وقومه, ثم ما كان من بني إسرائيل مع موسى من بعد خروجهم من مصر إلى عند موت موسى مع طول تلك المدة, وكثرة تلك الحوادث.

فإن القرآن حكى ذلك كما هو, وذكره بصفته من غير مخالفة, ثم ما كان من الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى إلى عند قيام المسيح فإن القرآن الكريم حكى قصصهم, وما جرى لهم, وما قالوه لقومهم, وما قاله قومهم لهم, وما وقع بينهم من الحوادث, وكان ما حكاه القرآن موافقاً لما في كتب نبوة أولئك الأنبياء من غير مخالفة, ثم هكذا ما حكاه القرآن عن نبوة المسيح, وما جرى له, وأحواله وحوادثه, فإنه موافق لما اشتمل عليه الإنجيل من غير مخالفة, ومعلوم لكل عاقل يعرف أحوال نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب, وكان منذ ولد إلى أن بعثه الله عز وجل بين قومه, وهم قوم مشركون لا يعرفون شيئاً من أحوال الأنبياء, ولا يدرون بشيء من الشرائع, ولا يخالطون أحداً من اليهود والنصارى, ولا يعرفون شيئاً من شرائعهم, وإن عرفوا فرداً منها فليس ذلك إلا في مثل ما هو متقرر بينهم يعملون به في عباداتهم ومعاملاتهم باعتبار ما يشتهر عنهم في ذلك كما يبلغ بعض أنواع العالم عن البعض الآخر, فإنه قد يبلغهم بعض ما يتمسكون به في دينهم باعتبار اشتهار ذلك عنهم, وأما العلم بأحوال الأنبياء وما جاءوا به, وإلى من بعثهم الله, وما قالوا لقومهم, وما أجابوهم به, وما جرى بينهم من الحوادث كلياتها وجزئياتها, وفي أي عصر كان كل واحد منهم, وإلى من بعثه الله, وكون هذا النبي كان متقدماً على هذا, وهذا كان متأخراً عن هذا, مع كثرة عددهم, وطول مددهم, واختلاف أنواع قومهم, واختلاف ألسنتهم, وتباين لغاتهم, فهذا أمر لا يحيط بعلمه إلا الله عز وجل, ولولا اشتمال التوراة على حكاية أحوال من قبل موسى من الأنبياء لانقطع علم ذلك عن البشر, ولم يبق لأحد منهم طريق إليه البتة, فلما جاءنا هذا النبي العربي الأمي المبعوث من بين طائفة مشركة, تعبد الأوثان, وتكفر بجميع الأديان, قد دبروا دنياهم بأمور جاهلية تلقاها الآخر عن الأول, وسمعها اللاحق من السابق, لا يرجع شيء منها إلى ملة من الملل الدينية, ولا إلى كتاب من الكتب المنزلة, ولا إلى رسول من الأنبياء المرسلة, بل غاية علمهم, ونهاية ما لديهم ما يجري بين أسلافهم من المقاولة والمقاتلة, وما يحفظونه من شعر شعرائهم, وخطب خطبائهم, وبلاغات بلغائهم, وجود أجوادهم, وإقدام أهل الجرأة والجسارة منهم, لا يلتفتون مع ذلك إلى دين, ولا يقبلون على شيء من أعمال الآخرة, ولا يشتغلون بأمر من الأمور التي يشتغل بها أهل الملل, فإن راموا مطلباً من مطالب الدنيا, ورغبوا في أمر من أمورها, قصدوا أصنامهم, وطلبوا حصولها منها, وقربوا إليها بعض أموالهم ليبلغوا بذلك إلى مقاصدهم ومطالبهم, وكان هذا النبي العربي الأمي لا يعلم إلا بما يعلمون, ولا يدري إلا بما يدرون, بل قد يعلم الواحد منهم, المتمكن من قراءة الكتب وكتابة المقروء بغير ما يعلمه هذا النبي, فبينما هو على هذه الصفة بين هؤلاء القوم البالغين في الجهالة إلى هذا الحد جاءنا بهذا الكتاب العظيم الحاكي لما ذكرناه من تفاصيل أحوال الأنبياء وقصصهم, وما جرى لهم مع قومهم على أكمل حال, وأتم وجه, ووجدناه موافقاً لما في تلك الكتب غير مخالف لشيء منها, كان هذا من أعظم الأدلة الدالة على ثبوت نبوته على الخصوص, وثبوت نبوة من قبله من الأنبياء على العموم, ومثل دلالة هذا الدليل لا يتيسر لجاحد ولا لمكابر ولا لزنديق مارق أن يقدح فيها بقادح, أو يعارضها بشبهة من الشبه كائنة ما كانت, إن كان ممن يعقل ويفهم, ويدري بما يوجبه العقل من قبول الأدلة الصحيحة التي لا تقابل بالرد, ولا تدفع بالمعارضة, ولا تقبل التشكيك, ولا تحتمل الشبهة, ومع هذا فقد كان النبي الأمي المبعوث بين هؤلاء يصرح بين ظهرانيهم ببطلان ما هم

عليه, ويزيف ما هم فيه أبلغ تزييف, ويقدح فيه أعظم قدح, ويبين لهم أنهم أعداء الله, وأنهم مستحقون لغضبه وسخطه وعقوبته, وأنهم ليسوا على شيء, فبهذا السبب صاروا جميعا أعداء له يطعنون عليه بالمطاعن التي يعلمون أنه منزه عنها, مبرأ منها, كقولهم إنه كذاب, وإنه مجنون, وإنه ساحر, فلو علموا أنه تعلم من أحد من أهل الكتاب أو أخذ عن فرد من أفرادهم لجاءوا بهذا المطعن بادئ بدء, وجعلوه عنواناً لتلك المطاعن الكاذبة, بل لو وجدوا إلى ذلك سبيلا ًلعولوا عليه ولم يحتاجوا إلى غيره, فلما لم يأتوا بذلك, ولا تكلموا به, ولا وجدوا إليه سبيلاً علم كل عاقل أنه لم يتعلم من أحد من اليهود ولا من النصارى, ولا من غير هاتين الطائفتين, إذ لم يطعن عليه بذلك هؤلاء الذين هم قومه وقد ولد بينهم, وعاش في ديارهم يخالطهم ويخالطونه, ويواصلهم, ويعرفون جميع أحواله, ولا سيما من كان من قرابته منهم الذين صاروا له بعد البعثة أشد الأعداء, وأعظم الخصوم, كأبي لهب وأمثاله, فإنه لا شك ولا ريب أنه لا يخفى عليهم ما هو دون هذا من أحواله, وأيضاً لو كان قد تعلم من أحد من أهل الكتاب لم يخف ذلك على أهل الكتاب الذين صرح لهم بأنهم إن لم يؤمنوا به فهم من أعداء الله, ومن المستحقين لسخطه وعقوبته, وأنهم على ضلالة, وأنهم قد غيروا كتابهم وحرفوه وبدلوه, وأنهم أحقاء بلعنة الله وغضبه, فلو كان له معلم منهم أو من أمثالهم من أهل الكتاب لجعلوا هذا المطعن عليه مقدماً على كل مطعن يطعنونه به من تلك المطاعن الكاذبة, بل كان هذا المطعن مستغنياً عن كل ما طعنوا به عليه, لأن مسافته قريبة, وتأثيره ظاهر, وقبول عقول العامة له من أهل الكتاب ومن المشركين أيسر من قبولها لتلك المطاعن الكاذبة التي جاءوا بها, هذا معلوم لكل عاقل لا يشك فيه شاك, ولا يتلعثم عنده متلعثم, ولا يكابره فيه مكابر, فلما لم يطعن عليه أحد منهم بشيء من ذلك علمنا علماً يقيناً انتفاء ذلك, وأنه لم يتعلم من أحد منهم, وإذا تقرر هذا البرهان الذي هو أوضح من شمس النهار, أنه لم يكن له معلم من اليهود ولا من النصارى, ولا من غيرهم ممن له علم بأحوال الأنبياء فلم يبق إلا أن يكون اطلع بنفسه منفرداً عن الناس على مثل التوراة, والزبور, والإنجيل, ونحو ذلك من كتب الأنبياء, وقد علمنا علما يقينياً بأنه كان أمياً لا يقرأ المكتوب, ولا يكتب المقروء, ثبت هذا بالنقل المتواتر عن أصحابه, مع عدم مخالفة المخالفين له في ذلك, فإنه لم يسمع عن واحد منهم أنه نسب إليه أنه يقدر على قراءة المكتوب, أو كتابة المقروء, وحينئذ انتفت هذه الطريقة أعني كونه اطلع على الكتب المتقدمة بنفسه منفرداً عن الناس, وإنما قلنا منفرداً عن الناس لأنا لو فرضنا قدرته على ذلك في محضر أحد من الناس لم يخف ذلك على أتباعه ولا على أعدائه, فإذا انتفت قدرته على قراءة المكتوب من حيث كونه أمياً, وانتفى اطلاع أحد من الناس على شيء من ذلك علمنا أنه لم يأخذ شيئاً من ذلك لا بطريق التعليم, ولا بطريق المباشرة منه لتلك الكتب, ولم يسمع عن أحد لا من أتباعه ولا من أعدائه أنه كان بمكة من يعرف أحوال الأنبياء وقصصهم وما جاءوا به من الشرائع, ولا كان بمكة من كتب الله سبحانه المنزلة على رسله شيء, ولا كانت قريش ممن يرغب إلى ذلك أو يطلبه أو يحرص على معرفته, ومع هذا فقد كان أعداؤه من كفار قريش معترفون بصدقه, ويقرون بأنهم لم يجربوا عليه كذباً. وفي حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما في قصة سؤال هرقل لأبي سفيان أنه قال له (فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا) (¬1) وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود (أن سعد بن معاذ لما قال لأمية بن خلف أن النبي ذكر أنه سيقتل, فقال ذلك لامرأته, فقالت: والله ما يكذب محمد, وعزم على ألا يخرج خوفاً من هذا) (¬2). وأخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس أن النبي قال لقريش: ((لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم, ما جربنا عليك إلا صدقاً)) (¬3). وأخرج البخاري في تاريخه, وأبو زرعة في دلائله, وابن اسحق أن أبا طالب لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكف عن قريش فقال: ((والله ما أقدر على أن أدع ما بعثت به, فقال أبو طالب لقريش: والله ما كذب قط, فارجعوا راشدين)) (¬4). وأخرج ابن مردويه في كتاب التفسير, وأبو يعلى الموصلي في مسنده, وعبد بن حميد أن عتبة بن ربيعة قال لقريش: (وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب) الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - بتصرف - 1/ 521 ¬

(¬1) رواه البخاري (7)، ومسلم (1773). (¬2) رواه البخاري (3632). (¬3) رواه البخاري (4770)، ومسلم (208) (¬4) رواه البخاري في ((التاريخ الكبير)) (7/ 50)

المطلب الأول: دعوة إبراهيم

المطلب الأول: دعوة إبراهيم عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإنَّ آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري، دعوةُ إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، أنه خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام)) رواه في (شرح السنة) (¬1). وقد أخبرنا الله أنَّ خليل الرحمن إبراهيم وابنه إسماعيل كان يبنيان البيت الحرام ويدعوان، ومن دعائهما ما قصه علينا في سورة البقرة وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [البقرة: 127 - 129]. وقد استجاب الله دعاء خليله إبراهيم وابنه نبيّ الله إسماعيل، وكان محمد صلى الله عليه وسلم هو تأويل تلك الاستجابة. ولا تزال التوراة الموجودة اليوم – على الرغم مما أصابها من تحريف – تحمل شيئاً من هذه البشارة، فنجد فيها أنَّ الله استجاب دعاء إبراهيم في إسماعيل، فقد ورد في التوراة في سفر التكوين في الإصحاح السابع عشر فقرة (20): (وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثره كثيراً جداً، اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمّة عظيمة كبيرة). وهذا النصُّ ورد في التوراة السامرية بألفاظ قريبة جداً مما أثبتناه هنا، والترجمة الحرفية للتوراة العبرانية لهذا النص: وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأكثره (بمأد مأد) (¬2). وقد ذكر ابن القيم أنَّ بعض نسخ التوراة القديمة أوردت النص كما أثبتناه هنا. ودلالة هذه البشارة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه: الأول: أنَّ الأمة العظيمة عند الله لا بدَّ أن تكون مسلمة، ولم توجد هذه الأمّة من نسل إسماعيل إلاّ بعد بعثة الرسول وانتشار المسلمين في المشارق والمغارب. الثاني: النصّ العبراني (مأد مأد) صريح في اسم الرسول صلى الله عليه وسلم فالمترجمون ترجموه (جداً جداً أو كثيراً كثيراً) والصواب هو: محمد، لأنها تلفظ بالعبراني (مؤد مؤد) واللفظ العبراني قريب من العربي. الثالث: قوله: اثني عشر رئيساً يلد، هذا موافق لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيلي أمر هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 163 ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 128) (17203)، والبزار (10/ 135)، وابن حبان (14/ 312) (6404)، والطبراني (18/ 253) (15341)، والحاكم (2/ 656)، والبغوي في ((شرح السنة)) (13/ 207). قال البزار: لا نعلمه يروى بإسناد متصل أحسن من هذا الإسناد، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 226): أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان. (¬2) ((نبوة محمد من الشك إلى اليقين)) (ص: 250)، ((محمد نبي الإسلام)) (ص: 3).

المطلب الثاني: بشارة موسى

المطلب الثاني: بشارة موسى لقد جاء بني إسرائيل الخبرُ اليقين بالنبيِّ الأميّ، على يد نبي الله موسى منذ أمد بعيد، جاءهم الخبر اليقين ببعثه، وبصفاته، ونهج رسالته، وبخصائص ملته، فهو النبي الأمي، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحلُّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، يضع عن من يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به، وأتباع هذا النبي يتقون ربهم، ويخرجون زكاة أموالهم ويؤمنون بآيات الله. . وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي، ويعظمونه ويوقرونه وينصرونه ويؤيدونه ويتبعون النور الذي أنزل معه (أولئك هم المفلحون). قال تعالى: عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبي الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156 - 157]. بقية هذه البشارة في التوراة: وقد بقي من هذه البشارة بقية في التوراة، ففي سفر التثنية، الإصحاح (18) فقرة 18 - 19 قال الله لموسى: (أقيم لهم أي لبني إسرائيل نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع كلامي الذي يتكلّم به باسمي أنا أطالبه). ودلالة هذه البشارة على رسولنا صلى الله عليه وسلم بيَّنه، ذلك أنّه من بني إسماعيل وهم إخوة بني إسرائيل، فجدُّهم هو إسحاق، وإسماعيل وإسحاق أخوان، ثم هو أوسط العرب نسباً، وقوله: مثلك، أي: صاحب شريعة مثل موسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الله كلامه في فمه حيث كان أميّاً لا يقرأ من الصحف، ولكنَّ الله يوحي إليه كلامه، فيحفظه ويرتله، وهو الرسول المرسل إلى الناس كافة، وبنو إسرائيل مطالبون باتباعه وترك شريعتهم لشريعته، ومن لم يفعل فإنَّ الله معذبه (ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه). ومما يعرفنا أنَّ هذه البشارة هي بقية البشارة العظيمة التي أوحى الله بها إلى موسى، وأخبرنا بها القرآن الكريم، أن هذه البشارة وردت في موقف معين، فعندما اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات الله أخذتهم الرجفة، وذلك بسبب طلبهم رؤية الله جلَّ وعلا، فدعا موسى ربَّه وتوسل إليه، فبعثهم الله من بعد موتهم، قال الله بعد توسل موسى ودعائه عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ .. الآيات. وإذا رجعت إلى التوراة في سفر الخروج تجد أنَّ هذه البشارة إنما أوحى الله بها إلى موسى بعد ذهابه لميقات الله، وتتحدث التوراة عن شيء قريب من الرجفة (وكل الشعب سمع الأصوات وصوت البوق، ونظروا الشهب والجبل دخاناً ونظر كل القوم وتشردوا ووقفوا من بعد .. ) سفر الخروج، الإصحاح (20) فقرة: 18. (وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق، وصوت البوق والجبل يدخن، ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد .. ). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 165

المطلب الثالث: بشارة عيسى

المطلب الثالث: بشارة عيسى وأخبرنا الله – سبحانه – أن عيسى بشر برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصف: 6]. وأحمد من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب)) (¬1). مثلان في التوراة والإنجيل: ضرب الله في التوراة والإنجيل مثلين لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29]. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 167 ¬

(¬1) رواه البخاري (4896)، ومسلم (2354).

المبحث الثاني: بشائر التوراة وأسفار الأنبياء

المبحث الثاني: بشائر التوراة وأسفار الأنبياء التوراة التي بين أيدي الناس اليوم محرَّفة مغيرة يدلك على ذلك هذا الاختلاف الذي تجده في أمور كثيرة بين نسخها وطبعاتها، فهناك ثلاث نسخ للتوراة: العبرانية، واليونانية، والسامرية، وكلُّ قوم يدَّعون أن نسختهم هي الصحيحة، وهناك فروق واضحة بين طبعات التوراة وترجماتها. وقد أدى هذا التحريف إلى ذهاب كثير من البشارات أو طمس معالمها، ومع ذلك فقد بقي من هذه البشارات شيء كثير، ولا تخفى هذه البشارات على من يتأملها، ويعرضها على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم متجرداً من الهوى. 1 - ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في التوراة: لقد صرح بعض هذه البشارات باسم محمد صلى الله عليه وسلم وقد اطلع بعض علماء المسلمين على هذه النصوص، ولكنَّ التحريف المستمر لهذا الكتاب أتى على هذه النصوص، فمن ذلك ما ورد في سفر أشعيا (¬1): (إني جعلت أمرك محمداً، يا محمد يا قدوس الربّ، اسمك موجود من الأبد) (¬2). وقوله إن اسم محمد موجود من الأبد موافق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إني مكتوب عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته)) (¬3). وفي التوراة العبرانية في الإصحاح الثالث من سفر حبقوق: (وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، ملك بيمينه رقاب الأمم). وفي النسخة المطبوعة في لندن قديماً سنة 1848، والأخرى المطبوعة في بيروت سنة 1884، والنسخ القديمة تجد في سفر حبقوق النص في غاية الصراحة والوضوح: (لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، امتلأت الأرض من حمده،. . زجرك في الأنهار، واحتدام صوتك في البحار، يا محمد ادن، لقد رأتك الجبال فارتاعت). 2 - ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر يتعلق به: وفي بعض الأحيان يذكر مكان مبعثه، ففي سفر التثنية الإصحاح الثالث والثلاثون، فقرة (2): (جاء الربّ من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران " وسيناء هي الموضع الذي كلّم الله فيه موسى، وساعير الموضع الذي أوحى الله فيه لعيسى، وفاران هي جبال مكة، حيث أوحى الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكون جبال فاران هي مكة، دلت عليه نصوص من التوراة. وقد جمع الله هذه الأماكن المقدسة في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 1 - 3] وذكرت التوراة مكان الوحي إليه، ففي سفر أشعيا الإصحاح (21) فقرة: (13) وحي من جهة بلاد العرب في الوعر). وقد كان بدء الوحي في بلاد العرب في الوعر في غار حراء. وفي هذا الموضع من التوراة فقرة: (14) حديث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى الجهة التي هاجر إليها (هاتوا ماءً لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزة، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب) وتيماء من أعمال المدينة المنورة، وإذا نظرت في النص ظهر لك بوضوح أنه يتحدث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) ((الجواب الصحيح)) (3/ 326). (¬2) ((محمد نبي الإسلام)) (ص: 18). (¬3) رواه أحمد (4/ 128) (17203)، والبزار (10/ 135)، وابن حبان (14/ 312) (6404)، والطبراني (18/ 253) (15341)، والحاكم (2/ 656)، والبغوي في ((شرح السنة)) (13/ 207). قال البزار: لا نعلمه يروى بإسناد متصل أحسن من هذا الإسناد، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 226): أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان.

وتكملة النص السابق فقرة: (16) يقول: (فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية قسى أبطال بني قيدار تقلّ، لأنَّ الربّ إله إسرائيل قد تكلم). وهذا النص يتحدث عن معركة بدر، فإنّه بعد سنة كسنة الأجير من الهجرة كانت وقعة بدر، وفنى مجد قيدار، وقيدار من أولاد إسماعيل، وأبناؤه أهل مكة، وقد قلت قسى أبناء قيدار بعد غزوة بدر. 3 - إشارة التوراة إلى معلم من معالم مهاجر الرسول: وأشارت بعض نصوص التوراة إلى مكان هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سفر أشعيا الإصحاح (42) فقرة: (11) (لترفع البريّة ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا الربَّ مجداً .. ). وقيدار أحد أبناء إسماعيل كما جاء في سفر التكوين إصحاح (25) عدد (13). وسالع جبل سلع في المدينة المنورة. والترنم والهتاف ذلك الأذان الذي كان ولا يزال يشقُّ أجواز الفضاء كلّ يوم خمس مرات، وذلك التكبير والتحميد في الأعياد وفي أطراف النهار وآناء الليل كانت تهتف به الأفواه الطاهرة من أهل المدينة الطيبة الرابضة بجانب سلع. 4 - إشارة التوراة إلى أمور جرت على يديه صلى الله عليه وسلم: وقد تذكر النصوص انتشار دعوته وبعض ما يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سفر حبقوق الإصحاح الثالث فقرة: (3 - 6): (الله جاء من تيمان، والقدوس من جبال فاران، سلاه جلاله غطى السماوات والأرض، امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع، وهناك استنارت قدرته، قدامه ذهب الوبا، وعند رجليه خرجت الحمّى، وقف وقاس الأرض، نظر، فرجفت الأمم، ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القدم). ففي هذه البشارة إخبار بالنصر العظيم الذي حازه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وإخبار بانتشار دعوته في شتى بقاع الأرض، وبأن الجبال الدهرية وهي الدول القويّة ذات المجد القديم ستدك، وآكام القدم وهي الدول الأقل ستخسف، وقد تحقق ذلك كله، وأشارت هذه البشارة إلى أمرين يدركهما من كان عليماً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره، وهما: لمعان كالنور له من يده، وذهاب الوبا من قدامه، وخروج الحمّى من عند رجليه. 5 - اللمعان والنور الذي شعَّ من يده: يقول النص: (وكان لمعان كالنور، له من يده، وشعاع، وهناك استنارت قدرته) ثم يقول: (وقف وقاس الأرض نظر، فرجفت الأمم .. ) والذي يبدو لي أنَّ هذا النص يتحدث عن حادثة بعينها، وهي ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، عندما أعجزت صخرة الصحابة أثناء حفر الخندق، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فضربها ضربة عظيمة أسقطت ثلثها، وخرج منها نور فكبر الرسول صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه، ثمَّ الثانية فالثالثة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى بالنور الأول قصور الشام، وبالنور الثاني قصور فارس، وبالنور الثالث أبواب صنعاء.

وروى النسائي وأحمد بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال: ((لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول فقال: باسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثمَّ ضرب الثانية فقطع الثالث الآخر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثمَّ ضرب الثالثة، وقال: باسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة)) (¬1). وفي رواية الطبراني: ((فضرب الصخرة وبرق منها برقة فكبّر، وكبّر، المسلمون))، وفيه ((إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم .. )) (¬2). تأمل النص الذي أوردناه مرة أخرى (لمعان كالنور له من يده، وشعاع، وهناك استنارت قدرته .. وقف وقاس الأرض نظر .. ). وتأمل في الأحاديث التي أوردناها أليست هذه الواقعة تأويل لتلك البشارة؟ 6 - ذهاب الوبا وخروج الحمى: تقول هذه البشارة: (قدامه ذهب الوبا، وعند رجليه خرجت الحمّى)، وهذه – والله – بشارة صريحة لا تحتمل تأويلاً، فالمدينة قبل مجيء الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت معروفة بالحمّى، وفي الحديث عن ابن عباس ((أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما قدموا مكة للعمرة – وهي العمرة المعروفة بعمرة القضاء – قال المشركون: إنّه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمّى يثرب)) رواه البخاري (¬3). وقد أصابت هذه الحمّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول قدومهم المدينة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه كي يذهب الحمّى. عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وعُك أبو بكر وبلال. قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تَجِدُك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كلُّ امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ... والموتُ أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى يرفع رأسه ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة ... بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ وهل أرِدَنْ يوماً مياهَ مَجَنَّةٍ ... وهل يَبدُوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اللَّهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ، وصَحِّحْها، وبارك لنا في صاعها ومدِّها، وانقل حمّاها، فاجعلها في الجحفة)) رواه البخاري (¬4) وزاد البخاري في آخر كتاب الحج: ((ثم يقول بلال: اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء)) (¬5). ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 303) (18716)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 269) (8858)، وأبو يعلى (3/ 244) (1685). والحديث صحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (510) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، قال الهيثمى (6/ 133): فيه ميمون أبو عبد الله، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعه، وبقية رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 458): إسناده حسن. (¬2) رواه بنحوه الطبراني (11/ 376) (12081). (¬3) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 469). (¬4) رواه البخاري (3926)، ومسلم (1376). (¬5) رواه البخاري (1889).

إذن كانت يثرب موبُوْءَة بالحمى، لا يكاد يدخلها أحد إلاّ أصابته. وقد استجاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فنقل عنها الحمى، وصحَّحَها، ومنع عن المدينة الطاعون، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل عليه السلام بالحمّى والطاعون، فأمسكت الحمّى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام)) (¬1). وإمساكه الحمّى بالمدينة لعله في بداية الأمر، ثمَّ أمر بإرسالها إلى الجحفة، أو أن المراد بإمساكها بالمدينة المنطقة التي فيها المدينة، ذلك أن الجحفة تقع قرب المدينة، وعلى كلّ فالبشارة واضحة وقعت كما أخبرت التوراة. 7 - بشارات جامعة: وفي بعض الأحيان تكون البشارات جامعة تذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ووحي الله إليه، وأخبار أمته، وما ينزل إليه عليهم من نصره، وإمدادهم بالملائكة، وشيئاً مما يعطيه الله لرسوله كالعروج به إلى السماء ونحو ذلك، فمن ذلك ما ورد في بشائر دانيال. قال دانيال (¬2) يهدد اليهود، ويصف لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم: (إن الله يظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبياً، ومنزل عليهم كتاباً، ومملكهم رقابكم، يقهرونكم ويذلونكم بالحق، ويخرج رجال قيدار في جماعات الشعوب، معهم الملائكة على خيل بيض، فيحيطون بكم، وتكون عاقبتكم النار، نعوذ بالله من النار). وأبناء قيدار بن إسماعيل، قد انتشروا في الأرض، واستولوا على الشام والجزيرة ومصر والعراق، وقد تواترت الآثار أن الملائكة كانت تنزل على الخيل البيض كما نزلت يوم بدر والأحزاب، وقال دانيال مصرحاً باسم محمد صلى الله عليه وسلم: (ستنزع في قسيّك إغراقاً، وترتوي السهام بأمرك يا محمد). وقال دانيال أيضاً: (سألت الله وتضرعت إليه أن يبيّن لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم، ويردّ إليهم ملكهم، ويبعث فيهم الأنبياء، أو يجعل ذلك في غيرهم؟ فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه، فقال: السلام عليكم يا دانيال، إن الله يقول: إنّ بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي، وعبدوا من دوني آلهة أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل، ومن بعد الصدق إلى الكذب. فصلَّت عليهم بخت نصّر، فقتل رجالهم، وسبى ذراريهم، وهدم مساجدهم، وحرق كتبهم، وكذلك فعل من بعده بهم، وأنا غير راض عنهم، ولا مقيلهم عثرات، فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول، وأختم ذلك عليهم باللعن والسخط، فلا يزالون ملعونين، عليهم الذلة والمسكنة، حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملاكي وبشرها، وأوحي إلى ذلك النبي، وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البرَّ شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إلي، وأرقيه من سماء إلى سماء، حتى يعلو، فأدنيه، وأسلِّم عليه، وأوحي إليه، ثمَّ أردّه إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظاً لما استودع، صادقاً فيما أخبر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن عاداه، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رأى من آياتي، فيكذبونه، ويؤذونه). ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 81) (20786)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 292). وقال: رواة أحمد ثقات مشهورون، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 313): رجال أحمد ثقات، وحسنه ابن حجر في ((بذل الماعون)) (33). (¬2) انظر: ((الجواب الصحيح)) (3/ 331، 4/ 3).

يقول ابن تيمية: (ثمَّ سرد دانيال قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أمته بالنفخة، وانقضاء الدنيا). ثم قال: (وهذه البشارة الآن عند اليهود والنصارى يقرؤونها، ويقولون: لم يظهر صاحبها بعد). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 168 والكلام في تبشير نبينا محمد بمن تقدمه من الأنبياء حتى يتضح لك أن هذه سنة الله عز وجل في أنبيائه عليهم السلام فمن ذلك ما ثبت في التوراة في الفصل السابع عشر من السفر الأول منها قال الله سبحانه لإبراهيم: (وقد سمعت قولك في إسماعيل وها أنا مبارك فيه وأثمره وأكثره بمأذ مأذ) انتهى. قوله بمأذ مأذ هو اسم محمد بالعبرانية وهذا صريح في البشارة بنبينا محمد وفي الفصل الثالث والثلاثين من السفر الخامس من التوراة ما لفظه: (يا الله الذي تجلى نوره من طور سينا, وأشرق نوره من جبل سيعير, ولوح به من جبل فاران, وأتى ربوة القدس بشريعة نور من يمينه لهم) انتهى. هذا نص التوراة المعربة تعريباً صحيحاً, وقد حكى هذا اللفظ من نقل عن التوراة بمخالفة لما هنا يسيرة: (هكذا جاء الله من طور سيناء, وأشرق من ساعير, واستعلن من جبال فاران). وفي لفظ: (تجلى الله من طور سيناء أو مجيئه من طور سيناء) الخ. قال جماعة من العلماء: (إن معنى تجلى نور الله سبحانه من طور سيناء, أو مجيئه من طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء, ومعنى إشراقه من جبل سيعير إنزاله الإنجيل على المسيح وكان المسيح من سيعير أو ساعير وهي أرض الخليل من قرية منها تدعى ناصرة وباسمها سمي أتباعه نصارى, ومعنى لوح به من جبل فاران أو استعلن من جبل فاران إنزاله القرآن على محمد وجبال فاران هي جبال مكة بلا خلاف بين علماء المسلمين وأهل الكتاب). ومما يؤيد هذا ما في التوراة في السفر الأول منها ما لفظه: (وغدا إبراهيم فأخذ الغلام يعني إسماعيل وأخذ خبزاً وسقاء من ماء ودفعه إلى هاجر, وحمله عليها وقال لها اذهبي فانطلقت هاجر فظلت سبعاً, ونفذ الماء الذي كان معها, فطرحت الغلام تحت شجرة وجلست مقابلته على مقدار رمية سهم لئلا تبصر الغلام حين يموت, ورفعت صوتها بالبكاء, وسمع الله صوت الغلام فدعا ملك الله هاجر وقال لها: مالك يا هاجر, لا تخشي فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو, فقومي فاحملي الغلام وشدي يديك به فإني جاعله لأمة عظيمة, وفتح الله عينيها فبصرت بئر ماء, فسقت الغلام, وملأت سقاها, وكان الله مع الغلام, فربي وسكن في برية فاران). انتهى. ولا خلاف أن إسماعيل سكن أرض مكة فعلم أنها فاران, وقد حكى الله سبحانه في القرآن الكريم ما يفيد هذا فقال حاكياً عن إبراهيم: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37] ولا خلاف في أن المراد بهذا الوادي أرض مكة, وفي الأحاديث الصحيحة الحاكية لقصة إبراهيم مع هاجر وولدها إسماعيل ما يفيد هذا ويوضحه, ومما يؤيد هذه البشارة المذكور في كتاب نبوة النبي شمعون ولفظه: (جاء الله من جبال فاران, وامتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته) ومثل ذلك البشارة المذكورة في نبوة النبي حبقوق ولفظه: (جاء الله من التيمن, وظهر القدس على جبال فاران, وامتلأت الأرض من تحميد أحمد, وملك يمينه رفات الأمم, وأنارت الأرض لنوره, وحملت خيله في البحر). انتهى. وفي هذا التصريح بجبال فاران مع التصريح باسم نبينا محمد بقوله: (وامتلأت الأرض من تحميد أحمد) تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب.

ومن البشارات بنبينا محمد في الزبور لداود عليه السلام ما لفظه (إن ربنا عظيم محمود جدا ومحمد قد عم الأرض كلها فرحاً). انتهى. ففي هذا التصريح باسمه, ومن ذلك قوله فيه: (بارك عليك إلى الأبد, ويقلد أبونا الجبار السيف, لأن البهاء لوجهك, والحمد الغالب عليك, اركب كلمة الحق, وسمت التأله, فإن ناموسك وشرائعك معروفة بهيبة يمينك, وسهامك مسنونة, والأمم يخرون تحتك). انتهى. وهذه صفات نبينا فإنه لم يبعث نبي هذه صفته بعد داود سواه, ومثل هذا قوله في موضع آخر: (ويجوز من البحر إلى البحر, ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض, وتخزى أهل الجزائر بين يديه, ويلحس أعداؤه التراب, ويسجد له ملوك الفرس, وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد, ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه, وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له, ويرأف بالمساكين والضعفاء, ويصلي عليه ويبارك في كل حين). انتهى. وهذه الصفات أيضاً ليست لأحد من الأنبياء غيره, فإنه لم يملك أحد منهم من البحر إلى البحر, ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض كما ذلك معلوم لكل أحد, بل الذي انتشرت شريعته, وبلغت سيوف أمته إلى هذا المقدار هو نبينا صلى الله عليه وسلم, وهكذا قوله: (ويسجد له ملوك الفرس) فإنه لم يفتح الفرس, ويستعبد أهلها, ويضرب عليهم الجزية إلا أمة نبينا, وهكذا قوله: (وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد) فإنها لم تدن الأمم كلها لغيره, وهكذا قوله: (ويصلى عليه ويبارك في كل حين) فإن هذا يختص بنبينا لاستمرار ذلك له في كل وقت, ووقوع الأمر القرآني به, ولم يكن ذلك لغيره من الأنبياء, ومن البشارات ما ذكره أشعيا في كتاب نبوته من التبشير براكب الحمار, وراكب الجمل, ولا شك أن راكب الحمار هو المسيح, وراكب الجمل هو نبينا صلى الله عليه وسلم. وفي نبوة أشعيا أيضاً قوله: (إني جعلت أمرك يا محمد يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد) انتهى. وهذا تصريح باسم نبينا صلى الله عليه وسلم, ومثل هذا قول حبقوق النبي في كتاب نبوته: (أضاءت السماء من بهاء محمد, وامتلأت الأرض من شعاع منظره) وكذا قوله في موضع آخر من كتاب نبوته: (وتنزع في مسيك إعراقاً ونزعاً, وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء) فإن هذا تصريح أوضح من الشمس, ومن البشارات قول حزقيال النبي في كتاب نبوته مهدداً لليهود: (وأن الله يظهرهم عليكم, وباعث فيهم نبياً, وينزل عليهم كتاباً, ويملكهم رقابكم, فيقهرونكم, ويذلونكم بالحق, ويخرج رجال بني قيذار في جماعات الشعوب, معهم ملائكة على خيل بيض) انتهى. ففي هذا التصريح ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم وقهر أمته للأمم, فإن قيذار هو ابن إسماعيل بن إبراهيم بلا خلاف, ولم يبعث الله فيهم نبياً إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم, وهذا معلوم لكل أحد لا يخالف فيه مخالف, ولا ينكره منكر. ومن البشارات ما في كتاب نبوة دانيال النبي, فإنه صرح فيها باسم النبي بمثل ما تقدم في نبوة حبقوق فقال: (ستنزع في مسيك إعراقاً, وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء) انتهى.

وفي موضع آخر من كتابه هذا التصريح ببعثة نبينا فقال بعد ذكر التبشير بالمسيح ما لفظه: (حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر, وأرسلت إليها ملائكة فبشروها, فأوحى إلى ذلك النبي, وأعلمه السماء, وأزينه بالتقوى, وأجعل البر شعاره, والتقوى جهده, والصدق قوله, والوفاء طبيعته, والقصد سيرته, والرشد سنته, بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب, وناسخ لبعض ما فيها, أسري به إلي, وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو, فأدنيه, وأسلم عليه, وأوحي إليه, ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة, حافظاً لما استودع, صادعاً بما أمر, يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة, لا فظ, ولا غليظ, ولا صخاب في الأسواق, رؤوف بمن والاه, رحيم بمن آمن به حتى على من عاداه) انتهى. ولا ريب أن هذه صفات نبينا صلى الله عليه وسلم, وأنه لم يبعث الله نبياً من بني إسماعيل سواه, ومثل هذه الصفات ما في حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري وغيره (أنه قيل له: أخبرنا ببعض صفة رسول الله في التوراة, قال: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً, ومبشراً, ونذيراً, وحرزاً للأميين. أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل, لست بفظ, ولا غليظ, ولا صخاب بالأسواق, ولا يجزي بالسيئة السيئة, ولكن يجزي السيئة بالحسنة, ويعفو ويغفر, ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء, فأفتح به أعيناً عمياء, وآذاناً صماً, وقلوبا غلفاً بأن يقولوا: لا إله إلا الله). قيل: قد يراد بلفظ التوراة جنس الكتب المتقدمة من التوراة, والزبور, والإنجيل, وسائر كتب أنبياء بني إسرائيل, فعلى هذا يكون المراد بقول عبد الله بن عمرو: (إنه لموصوف في التوراة) هذه الصفات المذكورة في نبوة دانيال, ولا مانع من أن تكون هذه الصفات كانت موجودة في التوراة فحذفتها اليهود, فما ذلك بأول تحريف وتبديل وتغيير منهم الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - 1/ 510

المبحث الثالث: بشارات من الإنجيل

المبحث الثالث: بشارات من الإنجيل وفي إنجيل متى الإصحاح (11) عدد (14) (وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي، من له أذنان للسمع فليسمع). وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس بينه وبين عيسى نبي، فيكون إيلياء الذي بشر به عيسى هو محمداً صلى الله عليه وسلم. وإيليا بحساب الجمل الذي أغرمت به اليهود يساوي محمداً. وفي إنجيل يوحنا إصحاح (14) عدد (15) (إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد، وفي اللغات الأجنبية (فيعطيكم باركليتوس) ليمكث معكم إلى الأبد) والمعنى الحرفي لكلمة (باركليتوس) اليونانية هو أحمد، وهو من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1). وفي إصحاح يوحنا (15) عدد (26) (ومتى جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من الآب روح الحقّ الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي) (ويشهد لي) لأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم شهد للمسيح بالنبوة والرسالة، وروح الحقّ كناية عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والمعاني الواردة في هذه الترجمة الحديث ليست دقيقة، لأن أصلها باليونانية، وهي اللغة التي ترجمت منها هذه الأناجيل – مكتوبة (بيركليتوس) وفي التراجم العربية المطبوعة سنة 1821، سنة 1831، سنة 1844، في لندن تجدها (فارقليط) وهي أقرب إلى العبارة اليونانية المشار إليها (¬2)، أمّا ترجمتها في الطبعات الحديثة إلى المعزي فهو من التحريف الذي ذم الله أهل الكتاب به يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [النساء: 46]. ويلاحظ أن هناك جملة ساقطة قبل الجملة الواردة في عدد (26) من هذا الإصحاح سقطت من الطبعات الحديثة، لكنها واردة صراحة في الطبعات القديمة للإنجيل، ونص هذه الجملة: (فلو قد جاء المنحمنا الذي يرسله الله إليكم) ومعنى المنحمنا الحرفي باللغة السريانية محمد (¬3) (¬4). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 174 وجاء في (إنجيل متى) في الإصحاح الحادي والعشرين: (42 قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هوذا قد صار رأس الزاوية، من قِبَل الرب كان هذا هو عجيب في أعيننا. 43 لذلك أقول لكم إنَّ ملكوت الله يُنزع منكم، ويعطى لأمة تعمل أثماره. 44 ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه). وهذا الحجر إنما هو سيدنا محمد، جاء في (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)) (¬5). قال ابن القيم (¬6): (وتأمل قوله المسيح في البشارة الأخرى: ألم تر إلى الحجر الذي أخره البناؤون صار رأساً للزاوية، كيف تجده مطابقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأتمها إلا موضع لبنة منها، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها، ويقولون: هلاّ وضعت تلك اللبنة فكنت أنا تلك اللبنة)) (¬7). ¬

(¬1) ((محمد نبي الإسلام)) (ص: 36). (¬2) ((محمد نبي الإسلام)) (ص: 38). (¬3) ((محمد نبي الإسلام)) (ص: 39). (¬4) انظر: ((الجواب الصحيح)) (4/ 6). (¬5) رواه البخاري (3534)، ومسلم (2287). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. ورواه البخاري (3535)، ومسلم (2286) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) ((هداية الحيارى)) (ص: 381 - 382). (¬7) رواه البخاري (3535)، ومسلم (2286) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وتأمل قول المسيح في هذه البشارة: إن ذلك عجيب في أعيننا. وتأمل قوله فيها: (إن ملكوت الله سيؤخذ منكم، ويدفع إلى آخر) كيف تجده مطابقاً لقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105]، وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ [النور: 55]. ونحو هذا النص ما جاء في (إنجيل متى) في الإصحاح الثامن: (11 وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان). وهذه بشارة تشير إلى ظهور أمة الإسلام التي تأتي من المشارق والمغارب، وتكون مرضية عند الله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. جاء في (الفارق): (أيها المسيحي إذا أنصفت تحكم بأن هؤلاء الذين سيأتون من مشارق الأرض ومغاربها هم الأمة المحمدية، لأنكم مخاطبون حاضرون إذ ذاك، والمسيح سلام الله عليه يخبر عن قوم سيأتون في مستقبل الزمن، وقد أخرجكم بقوله: وأما بنو الملكوت) (¬1). ونحو ذلك ما جاء في (إنجيل يوحنا) في الإصحاح الرابع: (20 - 24 قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني، أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون لله). وهذا النص يشير إلى ظهور الدين الجديد، وإنّه سيتحول مركزه عن أورشليم ويشير إلى تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المعظمة، قبلة أصحاب الدين الجديد، ويصدقه قوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144]. فقد كان المسلمون أول الأمر يتجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، ثم نزلت الآية بوجوب توجههم إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة. - من إنجيل لوقا (¬2): ذكر صاحب كتاب (الإنجيل والصليب) أنه جاء في (إنجيل لوقا) 2: 14 (الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد). ولكن المترجمين ترجموها في الإنجيل هكذا: (الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة). ومؤلف الكتاب يرى أن الترجمة الصحيحة ما ذكره هو. يقول المؤلف أنّ ثمة كلمتين وردتا في اللغة الأصلية لم يدرك أحد ما تحتويان عليه من المعاني تماماً، فلم تترجم هاتان الكلمتان كما يجب في الترجمة القديمة من السريانية. هاتان الكلمتان هما: أيريني – التي يترجمونها: السلامة. وأيودكيا – التي يترجمونها: حسن الرضا. فالأولى من الكلمتين اللتين هما موضوع بحثنا الآن هي (أيريني)، فقد ترجمت بكلمات (سلامة) (مسالمة) (سلام). ¬

(¬1) ((الفارق)) (ص: 54). (¬2) ((نبوة محمد من الشك إلى اليقين)) (ص: 300).

والمؤلف يرى أن ترجمتها الصحيحة (إسلام) فيقول في ص: 40: (ومن المعلوم أن لفظ (إسلام) يفيد معاني واسعة جداً، ويشتمل على ما تشتمل عليه ألفاظ (السلم، السلام) (الصلح، المسالمة) (الأمن، الراحة). . وتتضمن معنى زائداً وتأويلاً آخر أكثر وأعم وأشمل وأقوى مادة ومعنى، ولكن قول الملائكة: (على الأرض سلام) لا يصح أن يكون بمعنى الصلح العام والمسالمة، لأنّ جميع الكائنات وعلى الأخص الحيَّة منها، ولا سيما النوع البشري الموجود على كرة الأرض دارنا الصغيرة هي بمقتضى السنن الطبيعة والنواميس الاجتماعية خاضعة للوقائع والفجائع الوخيمة كالاختلافات والمحاربات والمنازعات .. ، فمن المحال أن يعيش الناس على وجه الأرض بالصلح والمسالمة). ثم يستشهد بقول المسيح: (ما جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً) (متى 10: 34). ويستشهد بقول آخر للمسيح: (جئت لألقي ناراً على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟ أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً على الأرض؟ كلا أقول لكم بل انقساماً) (لوقا: 12: 49 - 53). وعلى هذا فالترجمة لا تنطبق ورسالة المسيح وأقواله والصواب (وعلى الأرض إسلام). (انظر البحث من ص38 - 44). كما يرى أن (أيادوكيا) بمعنى (أحمد) لا (المسرة أو حسن الرضا) كما يترجمها القسس، وذلك لأنه لا يقال في اليونانية لحسن الرضا (أيودوكيا) بل يقال: (ثليما). ويقول: إن كلمة (دوكوته)، هي بمعنى (الحمد، الاشتهاء، الشوق، الرغبة، بيان الفكر). وها هي ذي الصفات المشتقة من هذا الفعل (دوكسا) وهي (حمد، محمود، ممدوح، نفيس، مشتهى، مرغوب، مجيد). واستشهد بأمثلة كثيرة من اليونانية لذلك. وقال: إنهم يترجمون (محمديتو) في (أشعيا 64: 11) بـ (اندوكساهيمون)، ويترجمون الصفات منها (محمد، أحمد، أمجد، ممدوح، محتشم، ذو الشوكة) بـ (ايندكسوس). واستدل بهذا التحقيق النفيس أن الترجمة الحقيقية الصحيحة لما ذكره لوقا هي (أحمد، محمد) لا (المسرة)، فتكون الترجمة الصحيحة لعبارة الإنجيل: (الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد) (¬1). - بشارات إنجيل برنابا: هذا الإنجيل مليء بالبشارات الصريحة بالرسول المصطفى المختار، ومما ورد فيه (ص161): (قال الله اصبر يا محمد. .) وفي (ص162) (إن اسمه المبارك محمد. .) (ص162): (يا الله أرسل لنا رسولك، يا محمد تعال سريعاً لخلاص العالم). رأي في إنجيل برنابا: لا شكّ أن هذا الإنجيل من الأناجيل التي كانت معروفة قديماً، وقد ورد ذكره في كتب القرن الثاني والثالث للميلاد، ثمّ لم يرد له ذكر بعد ذلك، إلى أن عثر على نسخة منه في أوائل القرن الثامن عشر الهجري، ولا تزال هذه النسخة في مكتبة بلاط (فيّنا). وعندما نشر هذا الكتاب أحدث ضجّة – كبرى في ذلك الوقت – في أوربا في نوادي العلم والدين، وقد طبعت ترجمة هذا الكتاب مرتين باللغة العربية، الطبعة الثانية نشرتها دار القلم بالكويت. ¬

(¬1) انظر كتاب (الإنجيل والصليب) للأب عبدالأحد داود (ص: 34 - 35).

وقد اطلعت على هذا الكتاب، وأمعنت النظر فيه، فتبين لي فيه رأي لم أجد أحداً قد تنبه إليه، تبين لي أن هذا الكتاب وإن كان له أصل فقد لعبت فيه يد مسلم، فأدخلت فيه ما ليس منه، والذي جعلني أذهب هذا المذهب ليست تلك التعليقات العربية التي وجدت على هامش النسخة الأصلية الموجودة في (فينّا)، وإنّما تلك المبالغات التي وصف بها الإنجيل الرسول صلى الله عليه وسلم، نحن نصدّق أن يبشر الإنجيل بالرسول صلى الله عليه وسلم ولكننا نستبعد كل البعد أن يكون قد شاع بين أهل الكتاب تلك الخرافات التي شاعت بين المسلمين بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم، فنجد في هذا الإنجيل أنّ الله أعطى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كل شيء، وخلق من أجله كل شيء، وجعله قبل كل شيء، انظر ص (91، 93، 110)، وفي ص (111) يقول حاكياً كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رب اذكر أنك لما خلقتني قلت: إنّك أردت أن تخلق العالم والجنة والملائكة – والناس حبّاً فيّ ليمجدوك بي أنا عبدك). وفي ص (161)، اصبر يا محمد، لأجلك أريد أن أخلق الجنّة والعالم وجمّاً غفيراً من الخلائق التي أهبها لك. .). وفي ص (266) (هذا هو الذي لأجله خلق الله كل شيء). وفي ص (152) يقول: (ولذلك لما خلق الله قبل كل شيء رسوله). هذه الأقوال بدون شكّ غير صحيحة، وهي تناقض الحقّ الذي بين أيدينا، فالله خلق البشر والملائكة والجنَّ لعبادته وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. وأول المخلوقات القلم كما في الحديث ((أول ما خلق الله القلم)) (¬1) وهذه الأقوال التي فيها غلو شاعت بين المسلمين، وصاغوها أحاديث نسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة حديث ((لولاك لما خلقت الأفلاك)) (¬2) (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة حديث رقم 282) وحديث ((كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)) (¬3) (حديث رقم 302، 303) وحديث: ((كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث)) (¬4) (كتاب الفوائد المجموعة للشوكاني ص326). وحديث: ((لقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك علي ومنزلتك عندي، ولولاك يا محمد ما خلقت الدنيا)) (¬5) (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة: ص325). وفي هذا المصدر ص337 حديث يقول: ((خلقني الله من نوره وخلق أبا بكر من نوري)) (¬6). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2155). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 95) - كما أشار لذلك في المقدمة - وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) ذكره الصغاني في ((الموضوعات)) (52)، وملا على القاري في ((الأسرار المرفوعة)) (288) وقال: قيل لا أصل له أو بأصله موضوع. (¬3) ذكره الصغاني في ((الدر الملتقط)) (43)، وقال: ليس بحديث وهذا كلام عطاء بن أبي رباح. وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (2/ 147): لا أصل له بل هو باطل. (¬4) رواه ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/ 417). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: [فيه] سعد بن بشير لعله يهم في الشيء بعد الشيء ويغلط والغالب على حديثه الاستقامة والغالب عليه الصدق، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 298): [روي] عن قتادة ذكر لنا أن رسول الله .. وهذا أثبت وأصح. (¬5) رواه ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 288 - 289). من حديث سلمان رضي الله عنه. وقال: هذا حديث موضوع لا شك فيه. (¬6) رواه أبو نعيم في ((الأمالي)) كما في ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (1/ 166). قال الذهبي: خبر كذب. ثم قال: قال أبو نعيم: هذا باطل مخالف كتاب الله.

وإذا أنت قارنت بين ما نقلته عن إنجيل برنابا وهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة أدركت أن الذي أدخل هذه الأوصاف كان من هذا النوع الذي عشعشت أمثال هذه الأحاديث المكذوبة في ذهنه. وهناك أمور منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم زوراً، لأنها تخالف الحقَّ الذي في أيدينا، فمن ذلك ما ورد (ص209) من (أن الجحيم ترتعد لحضور الرسول عليه السلام، فيمكث بلا مكابدة عقاب مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمشاهدة الجحيم). فهذا مخالف لصريح القرآن لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:75]. ومن ذلك نقل هذا الكتاب عن عيسى قوله في (ص92): (لست أهلاً أن أحل رباطات جرموق أو سيور حذاء رسول الله) ويقول قريباً من هذا في ص (96) وص (160)، ومثل هذا بعيد أن يصدر عن رسول من أولي العزم من الرسل. ومع ذلك فقد وصف الكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور فيها تحقير له، ففي ص (108) يصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّه سيكون كالمخبول، وفي ص (105) يقول: (إن الله سيجرد رسوله محمد في يوم القيامة من الذاكرة). الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 178 ومن البشارات به في الإنجيل ما في الفصل الخامس عشر من الإنجيل الذي جمعه يوحنا: (أن الفارقليط روح الحق الذي يرسله الله هو يعلم كل شيء). انتهى. وفي موضع آخر منه: (والفارقليط روح القدس الذي يرسله الله هو يعلم كل شيء, وهو يذكركم ما قلت لكم) , وفي موضع آخر منه: (إذا جاء الفارقليط الذي أرسله الله روح الحق الذي هو يشهد لي, قلت لكم هذا حتى إذا كان يؤمنون به ولا يشكون فيه). وفي الفصل السادس عشر منه: لكني أقول لكم الحق: (إنه خير لكم أن أنطلق, لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط, فإذا انطلقت أرسلته إليكم, فهو يوبخ العالم على الخطيئة, وعلى البر, وعلى الحكم, أما على الخطيئة فإنهم لم يؤمنوا بي, وأما على البر فإني منطلق ولستم تروني, وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم يدان, وأن لي كلاماً كثيراً لستم تطيقون كله الآن, لكن إذا جاء روح الحق ذاك فهو يرشدكم إلى جميع الحق, لأنه ليس ينطق من عنده, بل يتكلم بما يسمع, ويخبركم بكل ما يأتي). انتهى. وقد تكرر ذكر الفارقليط في الإنجيل, وأنذر به المسيح, وبشر به قومه في غير موضع منه, وقد اختلفوا في المراد فالفارقليط في لغتهم على أقوال, وذهب الأكثر من النصارى إنه المخلص, وقالوا: هو مشتق من الفاروق, أو من فارق, قالوا ومعنى ليط كلمة تزاد كما يقال رجل هو, وحجر هو, وعالم هو, وجاهل هو. وقد تقرر أنه لا نبي بعد المسيح غير نبينا صلى الله عليه وسلم, وهذه البشارات قد تضمنت أنه سيأتي بعد المسيح نبي يخلص تلك الأمة مما هم فيه, ويوبخهم على الخطية, ويتكلم بما يسمع, ويخبر بكل ما يأتي, ولم يكن هذا لأحد بعد المسيح غير نبينا صلى الله عليه وسلم, ومما يدل على أن المراد بالفارقليط هو نبينا صلى الله عليه وسلم أنه وقع الحذف بهذا اللفظ من بعض نسخ الإنجيل مع ثبوته في غالبها, وليس ذلك إلا تغييراً وتبديلاً من النصارى لما يعلمونه من أن المراد بهذا اللفظ هو التبشير بنبي يأتي بعد المسيح, وأنها ستقوم بذلك الحجة عليهم, فحذفوا هذا اللفظ لهذه العلة, وقد حكى الله سبحانه في القرآن العظيم أن المسيح بشر بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] وفي الإنجيل الذي جمعه يوحنا أن المسيح قال: (أركون العالم سيأتي, وليس لي شيء) وهذا اللفظ فيه أعظم بشارة بنبينا محمد, فإن الأركون في لغة النصارى العظيم القدر, ولم يأت بعد المسيح من هو بهذه الصفة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم, فإنه جعله أركون العالم, وقال عن نفسه ليس له من الأمر شيء, فدل هذا على أنه سيأتي بعده عظيم من عظماء العالم, يكون منه الإصدار والإيراد, والحل والعقد في الدين وإثبات الشرائع, وأن المسيح بالنسبة إليه كمن ليس له شيء, وهذا إنما يكون تبشيراً بمن هو أعظم من المبشر به أعني المسيح عليه السلام, ولا يصح حمله على رجل عظيم القدر في الدنيا, أو في الملك, أو غير ذلك, لأن الأنبياء لا يبشرون بمن هو كذلك ويجعلونه أركون العالم, ويجعلون الأمر إليه, وينفون الأمر عن أنفسهم, فإن هذا لا يكون أبداً من الأنبياء, ولا يصح نسبته إليهم, ولا صدوره منهم قط بلا خلاف بين أهل الملل, ولا يمكن أن يدعي مدع أنه جاء بعد المسيح من هو بهذه الصفة غير نبينا صلى الله عليه وسلم, فإن الحواريين إنما دانوا بدينه, ودعوا الناس إلى شريعته, ولم يستقل أحد منهم بشيء من جهة نفسه قط, ومن جاء بعدهم من أتباع المسيح فهو دونهم بمراحل. الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - 1/ 518

المبحث الرابع: شيوع هذه البشارات قبل البعثة

المبحث الرابع: شيوع هذه البشارات قبل البعثة لقد كانت هذه البشارات منتشرة قبل البعثة النبوية، فلم يكن أهل الكتاب يكتمونها في ذلك الوقت، بل كانوا يذيعونها، ويزعمون أنهم سيتابعون صاحبها عندما يبعث، وقد حفظ لنا المسلمون بعض هذه البشارات، ونقل لنا الأنصار من أهل المدينة أحاديث اليهود قبل البعثة عن هذه البشارات، وقد تعرف بعض أهل الكتاب على الرسول صلى الله عليه وسلم في صغره، وانتفع بعض أهل الكتاب بهذه البشارات وآمنوا. 1 - صفة رسولنا صلى الله عليه وسلم في التوراة: روى البخاري في صحيحه عن عطاء بن يسار، قال: ((لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة، قال: أجل، والله إنّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، يَا أَيُّهَا النبي إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45]، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق السخب: الصياح، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولا يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح أعينا عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غلفاً)) (¬1) (1). وروى الدارمي عن عطاء عن ابن سلام ونحوه (¬2) وعن كعب – وهو من علماء اليهود الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم – قال: ((نجد مكتوباً في التوراة محمد رسول الله عبدي المختار، لا فظٌّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام، وأمته الحمّادون، يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كلّ منزلة، ويكبرونه على كل شرف، رعاة للشمس، يصلُّون الصلاة إذا جاء وقتها، يتأزرون على أنصافهم، ويتوضؤون على أطرافهم، مناديهم ينادي في جوّ السماء، صفهم في القتال، وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دويٌّ كدوي النحل)) قال التبريزي: هذا لفظ المصابيح، ورواه الدارمي مع تغيير (¬3) يسير. أين هذه البشارة في التوراة: ¬

(¬1) رواه البخاري (2125). (¬2) رواه الدارمي (1/ 16) (6). (¬3) رواه الدارمي (1/ 17) (7).

وهذه البشارة ليست موجودة في التوراة المنتشرة اليوم بين اليهود والنصارى، فإن كان المراد بالتوراة التوراة المعينة فتكون هذه البشارة مما أخفته اليهود، وقد تكون مخفية عندهم مما لا يطلع عليه إلاّ أحبارهم، إلاّ أنه قد تطلق التوراة ولا يراد بها توراة موسى، بل يراد بها الكتب المنزلة من عند الله، وقد يطلق على الكتب المنزلة اسم القرآن، كما في الحديث الصحيح ((خفّف على داود القرآن، فكان ما بين أن يسرج دابته على أن يركبها يقرأ القرآن)) (¬1) والمراد به قرآنه وهو الزبور. وجاء في بعض البشارات عن هذه الأمة (أناجيلهم في صدورهم) (¬2) فسمى القرآن إنجيلاً، وعلى ذلك فهذه البشارة موجودة عندهم في نبوة أشعيا، فقد جاء فيها: (عبدي الذي سرّت به نفسي، أنزل عليه وحيي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، والآذان الصمّ، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطيه أحداً، يحمد الله حمداً جديداً، يأتي من أقصى الأرض، وتفرح البريّة وسكانها، يهللون على كلِّ شرف، ويكبرونه على كل رابية، لا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى مشقح، ولا يذلّ الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوّي الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا ينطفي، أثر سلطانه على كتفيه) (¬3). 2 - خبر ابن الهيبان: ومما حفظته لنا كتب السنة عن علماء اليهود قبل الإسلام أن رجلاً من اليهود كان يدعى ابن الهيبان قدم المدينة ونزل في يهود بني قريظة قبل الإسلام بسنين، قال راوي القصة: ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا بين مخرجكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر، أو مدّين من شعير، قال: فنخرجها ثمَّ يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا، فيستسقي لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقي، وقد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً. قال: ثَمَّ حضرته الوفاة عندنا، فلمّا عرف أنّه ميت قال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: الله أعلم. قال: فإني إنّما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعثه الله، وقد أظلّكم زمانه، فلا تسبقّن إليه يا معشر يهود، فإنّه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري، فيمن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه، وفد انتفع بوصية ابن الهيبان مجموعة من شباب يهود بني قريظة، وهم ثعلبة بن سعيه، وأسيد بن سعيه، وأسد بن عبيد، فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم – لما حاصر بني قريظة – قال هؤلاء الفتية وكانوا شباباً أحداثاً: يا بني قريظة، والله إنّه للنبي الذي عهد إليكم ابن الهيبان، قالوا: ليس به، قالوا: بلى، إنّه لهو صفته، فنزلوا، فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم ورحالهم (¬4). 3 - خبر يوشع: وروى أبو نعيم في دلائل النبوة بإسناده عن محمد بن سلمة، قال: ((لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد، يقال له: يوشع، فسمعته يقول – وإني لغلام في إزار – قد أظلَّكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثمّ أشار بيده إلى بيت الله، فمن أدركه فليصدّقه، فبعث رسول الله فأسلمنا وهو بين أظهرنا، ولم يسلم حسداً وبغياً)) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (3417). (¬2) رواه الطبراني (10/ 89) (10046). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 274): فيه من لم أعرفهم، وضعفه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (3770). (¬3) ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/ 281). (¬4) ((البداية والنهاية)) (1/ 310). (¬5) ((البداية والنهاية)) (2/ 309).

4 - خبر عبد الله بن سلام: وقد كان عبد الله بن سلام سيد اليهود وأعلمهم وابن سيدهم وأعلمهم، قال: ((لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت بقباء مسراً صامتاً عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلمّا قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبّرت، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، قال: قلت لها: أي عمّة، والله هو أخو موسى بن عمران، وعلى دينه بعث بما بعث به. قال: فقالت: يا ابن أخي أهو الذي كنّا نخبر أنّه يبعث مع الساعة؟ قال: قلت: نعم، قالت: فذاك إذاً)) (¬1). وقد ذكر البخاري قصة مجيء عبد الله بن سلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإسلامه وطلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل إلى اليهود ويسألهم عنه بل أن يعلموا بإسلامه، فلما جاؤوا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنّكم لتعلمون أنّي رسول الله حقاً، وأنّي جئتكم بحقٍّ، فأسلموا. قالوا: ما نعلمه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، (قالها ثلاث مرات) قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أفرأيتم إن أسلم، قالوا: حاش لله ما كان ليسلم (سألهم ذلك ثلاثاً، ويرددون عليه بالجواب نفسه)، قال: يا ابن سلام، اخرج عليهم "، فخرج، فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو، إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله، وأنّه جاء بالحق. فقالوا: كذبت. فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬2). 5 - شهادة غلام يهودي: وروى أنس بن مالك ((أنَّ غلاماً يهودياً كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة صفتي ومخرجي؟ قال: لا. قال الفتى: بلى والله يا رسول الله، إنّا لنجد في التوراة نعتك ومخرجك، وإنّي أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك رسول الله)) رواه البيهقي بإسناد صحيح (¬3). 6 - فراسة راهب: وقد تعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الرهبان وهو صغير، عندما كان في تجارة مع عمّه أبي طالب إلى الشام، روى أبو موسى قال: ((خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلمّا أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلّوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، قال: فهم يحلّون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. ¬

(¬1) ((السيرة النبوية)) لابن هشام (1/ 516)، و ((البداية والنهاية)) (3/ 211). (¬2) رواه البخاري (3911). (¬3) ((الجواب الصحيح)) (3/ 287).

فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلاّ خرّ ساجداً، ولا يسجدان إلاّ لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثمَّ رجع فصنع لهم طعاماً، فلمّا أتاهم به، وكان هو في رعية الإبل، فقال: أرسلوا إليه، فأقبل عليه غمامة تظلّه، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلمّا جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه)) (¬1). 7 - معرفة علماء اليهود بموعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم: عندما اقترب موعد خروج المصطفى صلى الله عليه وسلم علم أهل الكتاب بذلك بأمارات كانت عندهم، فقد روى أبو زرعة بإسناد صحيح عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة ((أن الرسول صلى الله عليه وسلم التقى بزيد بن عمرو بن نفيل قبل البعثة، وكان مما أخبر به زيد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رحل في طلب الدين الحق دين التوحيد فقال له حبر في الشام: إنك لتسأل عن دين ما نعلم عليه أحداً يعبد الله به إلاّ شيخ بالجزيرة. قال فخرجت: فقدمت عليه، فأخبرته بالذي خرجت له، فقال: إن كلّ من رأيت في ضلالة، ممنّ أنت؟ قلت: أنا من أهل بيت الله، ومن أهل الشوك والقرظ. فقال: إنه قد خرج في بلدك نبيّ، أو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه، فرجعت فلم أحسّ شيئاً بعد)) (¬2). كان زيد يحدّث بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ولم يكن يعلم أنَّ الذي يحدثه هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ظهر نجمه، ومات زيد قبل البعثة بسنوات. وقد سبق ذكر خبر ابن الهيبان، الذي خرج من الشام إلى المدينة، فقد قال لليهود عندما حضرته الوفاة: (إنّما أخرجني توقع خروج نبيّ قد أظلّ زمانه، هذه البلاد مهاجره) (¬3). وفي صحيح البخاري: (كان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل سُقُفاً على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حزّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختانِ قد ظهر. وقال هرقل في آخر كلامه: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر) (¬4) الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص 189 - 196 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3620)، والحاكم (2/ 672). قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال السيوطي في ((الخصائص الكبرى)) (1/ 83): لها شواهد تقضي بصحتها، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) وقال: لكن ذكر بلال فيه منكر كما قيل. (¬2) ((الجواب الصحيح)) (3/ 285). (¬3) رواه البيهقي (9/ 114) (18726). وقال إسناده غير قوي. (¬4) رواه البخاري (7). من حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه.

الكتاب السادس: الإيمان باليوم الآخر

تمهيد: إن الإيمان بالبعث أمر معلوم من الدين بالضرورة، ومنكره خارج عن الإسلام. ولقد خص ذكر اليوم الآخر بمزيد من العناية والتعظيم لشأنه في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع على ذلك المسلمون ..... - عناية الكتاب والسنة بالإيمان باليوم الآخر: إن المتتبع لطريقة القرآن الكريم في مجادلة خصوم العقيدة؛ يجد أن الاهتمام باليوم الآخر أخذ قسطاً واسعاً من تلك الحجج والبراهين الدامغة لمنكري اليوم الآخر، وكذا في السنة المطهرة، ويتمثل ذلك فيما يلي: 1 - ربط الله تعالى الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر: كما قال تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ، وكذا قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62]، فنحن نرى كيف ربط الله تعالى الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر, وجعله في المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله. فلا إيمان إذاً للشخص وإن قال أنه مؤمن بالله حتى يؤمن باليوم الآخر كإيمانه بالله تعالى، وإن المفرق بينهما لا حظَّ له من الإيمان وإن ادعاه، وقد كان كثير من الكفار يؤمنون بالله ولكنهم يجحدون اليوم الآخر؛ فلم ينفعهم ذلك الإيمان, وأباح الله للمؤمنين دماءهم وأموالهم لأنهم كفار. ويتمثل كذلك ربط الإيمان بالله باليوم الآخر من السنة المطهرة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم)) (¬1)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) (¬3). 2 - الإكثار من ذكره في القرآن الكريم وفي السنة النبوية: فقلما تخلو سورة من سور القرآن عن التحدث عنه وتقريبه إلى الأذهان بشتى الأساليب، من إقامة للحجة والبرهان، أو من ضرب الأمثال، كالاستدلال بالنشأة الأولى، وكذا خلق السموات والأرض, وإحياء الأرض بعد موتها - على الإعادة، وما إلى ذلك من المسالك التي سلكها القرآن الكريم ... 3 - كثرة الأسماء التي جاءت له في القرآن الكريم: فقد وردت أسماء كثيرة وكلها تبين ما سيقع في هذا اليوم من أهوال (¬4). ومعلوم من أساليب العرب أنهم يكثرون الأسماء للشيء إذا كان ذا أهمية وشأن، وقد نزل القرآن بلغتهم. ولتلك العناية أسباب نذكرها فيما يلي: بعض أسباب العناية باليوم الآخر: ¬

(¬1) رواه البخاري (1088)، ومسلم (1399) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6018)، ومسلم (47). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (76). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((العقائد الإسلامية)) (ص: 261).

لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في وقت انمحت فيه كثير من الأمور التعبدية، وجهلت فيه على الخصوص عقيدة الإيمان باليوم الآخر، فلم تعد على ذلك الوضوح الذي كان في زمن الأنبياء، بل صارت بتطاول الزمن عقيدة محرفة بعيدة عن الصواب والواقع، فلم تبق من معالم الإيمان باليوم الآخر إلا بقايا رسوم؛ هي إلى الاندثار أقرب منها إلى التماسك، ليس عند جهة أو قوم بل في كل بقاع الأرض, وعند كل أمة عربية أو غير عربية، اللهم إلا ما ورد عن أناس بخصوصهم من العرب بقوا على الحنفية ملة إبراهيم. فالعرب منهم مشركون ينكرون اليوم الآخر أساساً، وأهل الكتاب من يهود ونصارى –وإن كانوا يؤمنون باليوم الآخر عموماً – لكنهم على جهل كبير بحقيقته, وما ينبغي اعتقاده فيه، وغير هؤلاء وثنيون أو مجوس لا يؤمنون به مطلقاً عند بعضهم، وعند بعضهم الآخر يؤمنون أن هناك عودة للروح، لكنه لا يمت إلى الإيمان باليوم الآخر كما جاءت به الأنبياء بأي صلة، كما هو الحال عند الهنود والبوذيين وغيرهم من الفرق الضالة. وعلى هذا فمن أسباب تلك العناية ما يلي: 1 - إنكار المشركين لليوم الآخر أشد الإنكار، ونسبة ما يشاهد من الإحياء والإماتة إلى الدهر، دون أن يكون هناك تنظيم لهذا التغير المستمر أو هدف من وراء هذا الخلق: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24]. فكان من الأمور البديهية أن ينزل القرآن بتلك الحجج القوية ليشد من أزر الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة ذلك السيل الجارف من الجحود لليوم الآخر. 2 - فإن أهل الكتاب وإن كانوا يؤمنون باليوم الآخر لكنهم لم يكونوا على العقيدة الصحيحة فيه، فقد حرفوه وبلغوا به منتهى الفساد، وحتى صاروا فيه كالوثنيين من هنود وبوذيين، وذلك من ناحية أن الهنود يعتقدون في كرشنة أنه هو المخلص لهم من الآلام (¬1). والنصارى – بخصوصهم – يعتقدون في عيسى أنه هو المخلص لأمته من عقوبة الخطايا في الآخرة؛ فالكل في الجنة والنعيم (¬2). وأما اليهود فقد اختلفوا في الإيمان باليوم الآخر، وحتى نفس هذا الاختلاف بعيد كل البعد عن حقيقة اليوم الآخر. 3 - ومن الأسباب التي جعلت القرآن الكريم يهتم باليوم الآخر ذلك الاهتمام الشديد، هو التأكيد على أن هذه الحياة إنما جعلت لهدف أعلى وغاية سامية، فلولا أن هناك يوماً يجازى فيه المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته؛ لما كان هناك فرق بين عمل الخير وعمل الشر، ولا كانت هناك فضائل ولا رذائل، فالحياة فوضى, والمصير مجهول, ولا وازع نفسي, ولا ضمير حي. إذاً فلا عجب إن رأينا الإسلام يهتم بذكر اليوم الآخر, ويحث على الإيمان به, ويجعله من أهم القضايا الأساسية التي لا يمكن أن يسمى الشخص مؤمناً إلا إذا جاء بها, معتقداً صحتها في قرارة نفسه. فالإسلام خاتم الديانات ورسوله خاتم المرسلين، ولا عجب كذلك حينما نرى ونقرأ حقائق وتفاصيل عن اليوم الآخر لم تكن معلومة عند أهل الديانات السابقة. وهذا هو الذي حمل بعض الفلاسفة ومن سار على طريقهم على القول بأنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (¬3)، ... ولأن تلك التفاصيل لم تكن معلومة لدى الكفار من قريش وغيرهم؛ نرى أن الإسلام قد سلك مسالك شتى وطرقاً متعددة في إقناع الكفار بالإيمان باليوم الآخر، مبيناً أن هذا الكون لابد وأن ينتهي ويزول كل أثر له، وأنه لم يخلق عبثاً دون حساب وجزاء. الحياة الآخرة لغالب عواجي – بتصرف - 1/ 73 ¬

(¬1) انظر: ((الديانات القديمة)) لأبي زهرة (ص: 30). (¬2) انظر: ((الديانات القديمة)) لأبي زهرة (ص: 30). (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 457).

الباب الأول: القيامة الصغرى

تمهيد ويدخل في الإيمان باليوم الآخر (الإيمان بالموت) الذي هو المفضي بالعبد إلى منازل الآخرة، وهو ساعة كل إنسان بخصوصه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ..... : ((إنْ يعش هذا لَمْ يُدْرِكْهُ الهرم قامَتْ عليكم ساعَتُكُمْ)) (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – بتصرف - ص 860 ¬

(¬1) رواه البخاري (6511)، ومسلم (2952). من حديث عائشة رضي الله عنها.

المبحث الأول: تعريف الاحتضار

المبحث الأول: تعريف الاحتضار الحضور: نقيض المغيب والغيبة، يقال: حَضَر الرجل يَحْضُرُ حُضُوراً وحِضَارة، ويعدّى فيقال: حَضَرَه، يَحْضُرُهُ، وأحْضَرَ الشيء وأَحْضَرَه إياه، وكان ذلك بِحَضْرَةِ فلان وحِضْرَته وحُضْرَتِهِ، وحَضَرِه ومَحْضَرِه، وكلّمته بِحَضْرَةِ فُلان وبمَحْضَرٍ منه، أي بمشهد منه. وحَضْرَةُ الرجل: قُرْبه وفِناؤه، والحَضْرة: قرب الشيء، يقال: أُكْرِم فلانُ بِحَضْرة فلان وبمَحْضَرِه، ويقال: حَضَرَت الصَلاة. ورجل حَضِرٌ وحَضُرٌ: يتحيّن طعام الناس حتى يَحْضُرَه، تقول العرب: اللبن مُحْتضِرٌ ومَحْضُوْرٌ فَغَطِّه: أي كثير الآفة، يعني يحتضره الجنّ والدواب وغيرها. وقوله تعالى: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 98] أي: أعوذ بك من حضور الشياطين في شيء من أمري (¬1). وحضره الهمُّ واحْتضره وتَحَضّرَه إذا نزل به. وحُضِر المريض واحْتُضِرَ إذا نزل به الموت (¬2). نخلص مما سبق إلى أن الاحتضار هو حضور الموت ونزوله بالعبد. أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 ص 71 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 247). (¬2) انظر: ((لسان العرب)) (1/ 658، 659).

المبحث الثاني: حضور ملائكة الموت

المبحث الثاني: حضُور ملائكة الموت إذا حان الأجل وشارفت حياة الإنسان على المغيب أرسل الله رسل الموت لسلِّ الروح المدبِّرة للجسد والمحركة له، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61]، وملائكة الموت تأتي المؤمن في صورة حسنة جميلة، وتأتي الكافر والمنافق في صورة مخيفة، ففي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ بصره، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة -وفي رواية: المطمئنة- اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، فيأخذها ... وإن العبد الكافر -وفي رواية الفاجر- إذا كان في انقطاع من الآخرة، وإقبال من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة -غلاظ شداد- سود الوجوه، معهم المسوح -من النار- فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود -الكثير الشعب- من الصوف المبلول، -فتقطع معها العروق والعصب-)) (¬1). وما يحدث للميت حال موته لا نشاهده ولا نراه، وإن كنا نرى آثاره، وقد حدثنا ربنا تبارك وتعالى عن حال المحتضر فقال: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ - وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ - وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ [الواقعة: 83 - 85]: والمتحدث عنه في الآية الروح عندما تبلغ الحلقوم في حال الاحتضار، ومن حوله ينظرون إلى ما يعانيه من سكرات الموت، وإن كانوا لا يرون ملائكة الرحمن التي تسلُّ روحه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ [الواقعة: 85] كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61]. وقال في الآية الأخرى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 26 - 30] والتي تبلغ التراقي هي الروح، والتراقي جمع ترقوة وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق (¬2). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557)، والحاكم (1/ 93)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 355). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الطبري في ((مسند عمر)) (2/ 491): إسناده صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا جميعا بالمنهال بن عمرو وزاذان أبي عمر الكندي، وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة وقمع للمبتدعة ولم يخرجاه بطوله وله شواهد على شرطهما، وصحح إسناده البيهقي، وقال الهيثمي (3/ 52): رجاله رجال الصحيح. (¬2) انظر: ((تفسير البغوي)) (8/ 285)، ((تفسير الرازي)) (30/ 204)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 281).

وقد صرح الحديث بأن ملك الموت يبشر المؤمن بالمغفرة من الله والرضوان، ويبشر الكافر أو الفاجر بسخط الله وغضبه، وهذا قد صرحت به نصوص كثيرة في كتاب الله، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت: 30 - 32]. وهذا التنزُّل – كما قال طائفة من أئمة التفسير منهم مجاهد والسدي – إنما يكون حالة الاحتضار (¬1)، ولا شك أن الإنسان في حالة الاحتضار يكون في موقف صعب، يخاف فيه من المستقبل الآتي، كما يخاف على من خلَّف بعده، فتأتي الملائكة لتؤمنه مما يخاف ويحزن، وتُطَمئِنُ قلبه، وتقول له: لا تخف من المستقبل الآتي في البرزخ والآخرة، ولا تحزن على ما خلفت من أهل وولد أو دَيْنٍ، وتبشره بالبشرى العظيمة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت: 31]، وما دام العبد قد تولى الله وحده، فإن الله يتولاه دائماً، وخاصة في المواقف الصعبة، ومن أشقها هذا الموقف، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت: 31]. أما الكفرة الفجرة فإن الملائكة تتنزل عليهم بنقيض ذلك إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 97]، وقد نزلت هذه الآية كما أخرج البخاري عن ابن عباس في فريق أسلم، ولكنه لم يهاجر فأدركه الموت، أو قتل في صفوف الأعداء (¬2)، فإن الملائكة تقرِّع هؤلاء في حال الاحتضار وتوبخهم، وتبشرهم بالنار. وقد حدثنا ربنا عن توفي الملائكة للكفرة في معركة بدر فقال: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [الأنفال: 50 - 51]. قال ابن كثير في تفسير الآيات: (ولو ترى يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً فظيعاً منكراً، إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون ذوقوا عذاب الحريق) (¬3). وقد أشار المفسر المدقق العلامة ابن كثير إلى أن هذا وإن كان في وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر، ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر، بل قال: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ .. (¬4). وهذا الذي قاله ابن كثير صحيح يدل عليه أكثر من آية في كتاب الله تعالى، كقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [الأعراف: 37]، وقوله: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 28]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد: 25 - 27]. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 19 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (21/ 466). (¬2) رواه البخاري (4596). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 76). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 77).

المبحث الثالث: مع ملك الموت ملائكة يعاونونه في قبض الروح

المبحث الثالث: مع ملك الموت ملائكة يعاونونه في قبض الروح إذا حان أجل العبد وأراد الله تعالى قبض روحه أرسل إليه ملك الموت ومعه ملائكة يعاونونه على قبض روح ذلك العبد، قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61]، فقوله: حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي احتضر وحان أجله، تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا أي ملائكة موكلون بذلك، روى ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس وغير واحد قولهم: إن لملك الموت أعواناً من الملائكة يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم (¬1). يقول الطبري: (يقول تعالى ذكره: إن ربكم يحفظكم ... إلى أن يحضركم الموت، وينْزل بكم أمر الله وإذا جاء ذلك أحدكم توفاه أملاكنا الموكلون بقبض الأرواح ورسلنا المرسلون به وهم لا يفرطون في ذلك، فيضيعونه؛ فإن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت فكيف قيل تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا والرسل جملة، وهو واحد، أو ليس قد قال يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11]، قيل جائز أن يكون الله تعالى أعان ملك الموت بأعوان من عنده، فيتولون ذلك بأمر ملك الموت، فيكون التوفي مضافاً، وإن كان ذلك من فعل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت؛ إذ كان فعلهم ما فعلوا من ذلك بأمره، كما يضاف قتل من قتل أعوان السلطان، وجلد من جلدوه بأمر السلطان إلى السلطان، وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه، ولا وليه بيده) (¬2). فالمتأمل في نصوص القرآن الكريم يدرك أن الله سبحانه وتعالى أسند التوفي للملائكة كما في قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النحل: 28]، وقوله: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ [سورة النحل: 32]، وقوله تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا، وغيرها من الآيات، وأسنده في آية أخرى لملك الموت، قال تعالى: قل يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، وأسنده سبحانه في آية أخرى إليه جل وعلا، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42]، ولا معارضة بين الآيات المذكورة، فإسناد التوفي إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته وإذنه كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً [آل عمران: 145]، وإسناده لملك الموت؛ لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وإسناده للملائكة؛ لأن لملك الموت أعواناً من الملائكة ينْزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم؛ فيأخذها ملك الموت) (¬3). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 ص 71 ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 267). (¬2) ((تفسير الطبري)) (11/ 409 - 410) (¬3) انظر: ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)) (3/ 267)، و ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) (ص: 236).

المبحث الرابع: حضور الشيطان عند الموت

المبحث الرابع: حضور الشيطان عند الموت إذا حضر الموت كان الشيطان حريصاً على الإنسان حتى لا يفلت منه، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة، فليمط ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة)) (¬1). وقد ذكر علماؤنا أن الشيطان يأتي الإنسان في تلك اللحظات الحرجة في صورة أبيه أو أمه أو غيرهم ممن هو شفيق عليه ناصح له، ويدعوه إلى اتباع اليهودية أو النصرانية أو غيرها من المبادئ المعارضة للإسلام، فهناك يزيغ الله من كتبت له الشقاوة (¬2)، وهو معنى قوله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8]. وقد حدث عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قال: (حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي خرقة لأشد لحييه، فكان يغرق، ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، فعل هذا مراراً، فقلت له: يا أبت أي شيء يبدو منك؟ قال: إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله، يقول: يا أحمد فتني، وأنا أقول: لا بعد، لا بعد، حتى أموت) (¬3). وقال القرطبي: سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي، يقول: (حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد القرطبي بقرطبة، وقد احتضر، فقيل له: لا إله إلا الله، فكان يقول: لا، لا، فلما أفاق، ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي، يقول أحدهما: مت يهودياً فإنه خير الأديان، والآخر يقول: مت نصرانياً فإنه خير الأديان، فكنت أقول لهما: لا، لا ... ) (¬4). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر- ص: 29 وقد استدل بعض العلماء بهذا الحديث – حديث جابر بن عبد الله - على حضور الشيطان عند المحتضر؛ لإغوائه وافتتانه، كما استدلوا أيضاً بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) (¬5). قال ابن دقيق العيد ت 702هـ: (فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، ويجوز أن يراد بها فتنة القبر) (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (2033). (¬2) انظر: ((التذكرة)) (ص: 33). (¬3) ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 499). (¬4) انظر: ((التذكرة)) (ص: 33). (¬5) رواه البخاري (1377)، ومسلم (588). (¬6) انظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 319).

كما قد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية بحديث الاستعاذة من فتنة المحيا والممات على حضور الشيطان عند المحتضر لإغوائه، وأنه قد يعرض الأديان على بعض العباد، حيث قال رحمه الله: (أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمراً عاماً لكل أحد، ولا هو أيضاً منتفياً عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا، منها ما في الحديث الصحيح ((أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) (¬1)، ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((الأعمال بخواتيمها)) (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) (¬3) ... ، ولهذا يقال: إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك، لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ملك زاداً أو راحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً)) (¬4) ... ) (¬5). وقال في موضع آخر: (وأما عرض الأديان وقت الموت فيبتلى به بعض الناس دون بعض ... ) (¬6). وذكر ابن حجر أن الأكثر والأغلب في سوء الخاتمة أنه لا يقع إلا لمن في طويته فساد أو ارتياب، ويكثر وقوعه للمصرّ على الكبائر والمجترئ على العظائم، إذ يهجم عليه الموت بغتة فيصطلمه (¬7) الشيطان عند تلك الصدمة، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته (¬8). ويدل على حضور الشيطان عند المحتضر قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 97، 98]، فالمعنى: أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمرٍ من أموري كائناً ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن، أو عند حضور الموت، أو غير ذلك من جميع الشؤون في جميع الأوقات (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (1377)، ومسلم (588). (¬2) رواه البخاري (6493). من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (7454)، ومسلم (2643). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬4) رواه الترمذي (812)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 430). من حديث علي رضي الله عنه. قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله مجهول والحارث يضعف، وقال ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (11/ 81): روي موقوفاً وهو أصلح رواية، وقال السيوطي في ((النكت على الموضوعات)) (129): له شواهد، وقال ابن همات في ((التنكيت والإفادة)) (116): بشواهده لا ينزل عن درجة الحسن، وحسنه لغيره الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (5/ 8). (¬5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 255، 256). (¬6) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (14/ 202). (¬7) الاصطلام: الاستئصال والهلاك والقطع. انظر: ((لسان العرب)) (2/ 469). (¬8) انظر: ((فتح الباري)) (11/ 489، 490). (¬9) انظر: ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)) (5/ 819).

وتحدث أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مفلح المقدسي عن حضور الشيطان عند المحتضر تحت عنوان (الفصل الثاني والعشرون في اجتهاد الشيطان على المؤمن عند الموت)، واستشهد بما رواه النسائي وأبو داود بسنديهما عن أبي اليسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((اللهم إني أعوذ بك من التردّي، والهدم، والغرق، والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً)) (¬1). فقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت))، قال الخطابي ت388هـ في شرحه: (هو أن يستولي عليه عند مفارقة الدنيا، فيضله، ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله، أو يؤيسه من رحمة الله، أو يكره له الموت ويؤسفه على حياة الدنيا، فلا يرضى بما قضاه الله عليه من الفناء والنقلة إلى الدار الآخرة، فيختم له، ويلقى الله وهو ساخط عليه) (¬2). ويقول ابن الجوزي ت597هـ: (وقد يتعرض إبليس للمريض فيؤذيه في دينه ودنياه، وقد يستولي على الإنسان فيضله في اعتقاده، وربما حال بينه وبين التوبة ... وربما جاء الاعتراض على المقدر؛ فينبغي للمؤمن أن يعلم أن تلك الساعة هي مصدوقة للحرب، وحين يحمى الوطيس فينبغي أن يتجلد، ويستعين بالله على العدو) (¬3). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - ص 123 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1552)، والنسائي (8/ 283)، وأحمد (3/ 427) (15562)، والطبراني (19/ 170) (381). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 23) كما قال ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) ((معالم السنن)) (2/ 194). (¬3) ((الثبات عند الممات)) (ص: 41، 42).

الفصل الثاني: الإيمان بالموت

المبحث الأول: تحتم الموت على من كان في الدنيا من المخلوقات إن الموت واقع حتما ... على من كان في الدنيا من أهل السموات والأرض من الإنس والجن والملائكة وغيرهم من المخلوقات قال الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] وقال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26 - 27] وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] وقال تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30 - 31] وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34 – 35]، وقال تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:56 - 57]، وقال تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11] وفي (الصحيح) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((أعوذُ بعزَّتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أَنْتَ الحيُّ الذي لا يموت، والجِنُّ والإِنسُ يَمُوتُونَ)) (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 860 ¬

(¬1) رواه مسلم (2717).

المبحث الثاني: الإيمان بأن الأجل محدود

المبحث الثاني: الإيمان بأن الأجل محدود إنَّ كلًّا له أجلٌ محدود وأمدٌ ممدود ينتهي إليه لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، وقد علم الله تعالى: جميع ذلك بعلمه الذي هو صفته، وجرى به القلم بأمره يوم خلقه، ثم كتبه الملك على كل أحد في بطن أمه بأمر ربه عز وجل عند تخليق النطفة في عينه في أي مكان يكون وفي أي زمان فلا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يغير ولا يبدل عما سبق به علم الله تعالى: وجرى به قضاؤه وقدره، وأنَّ كُلَّ إنسانٍ مات أو قتل أو حرق أو غرق أو بأَيِّ حتف هلك بأجله لم يستأخر عنه ولم يستقدم طرفة عين، وأن ذلك السبب الذي كان هو فيه حتفه هو الذي قدره الله تعالى: عليه وقضاه عليه وأمضاه فيه ولم يكن له بد منه ولا محيص عنه ولا مفر له ولا مهرب ولا فكاك ولا خلاص، وأنى وكيف وإلى أين ولات حين مناص، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145] الآية. وقال تعالى: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154] الآيات. وقال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78] وقال تعالى: حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:61 – 62] وقال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] في مواضع من القرآن، وقال تعالى: كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى [الرعد:2] وقال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى [طه:129] وقال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8] وقال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إليه مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام:60] وغيرها من الآيات. وروى مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى: في (صحيحه) عن المعرور بن سويد عن عبدالله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة رضي الله عنها: اللَّهُمَّ مَتِّعني بزوجي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّكِ سألتِ الله تعالى: لآجالٍ مضروبةٍ وآثارٍ موطوءةٍ وأرزاقٍ مقسومةٍ لا يعجل شيء منها قبل حله ولا يؤخر منها يوماً بعد حله، ولو سألت الله تعالى: أنْ يعافيك من عذابٍ في النار وعذابٍ في القبر لكانَ خيراً لكِ)) (¬1). ¬

(¬1) رواه مسلم (2663) (33).

وفي رواية: ((قد سألتِ الله لآجالٍ مضروبةٍ وأيام معدودةٍ وأرزاقٍ مقسومةٍ لَنْ يعجل شيئاً قبل حله أو يؤخر شيئاً عن حله، ولو كُنتِ سألتِ الله تعالى: أن يعيذكِ من عذابٍ في النار أو عذابٍ في القبر كانَ خيراً وأفضل)) (¬1) وفي أخرى ((وآثارٍ مبلوغةٍ)) (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11] يقول: ((ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله تعالى: وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11] يقول كل ذلك في كتاب عنده)) (¬3). وهكذا قال الضحاك بن مزاحم. وأما حديث أنس في (الصحيحين) وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ سَرَّهُ أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه)) (¬4) فإنه يفسر بحديث أبي الدرداء رضي الله عنه عند ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى: قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال: ((إنَّ الله تعالى: لا يؤخِّر نفساً إذا جاء أجلها، وإنّما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادةُ العمر)) (¬5) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 861 ¬

(¬1) رواه مسلم (2663) (32). (¬2) رواه مسلم (2663) (33م). (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (20/ 447)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3175). (¬4) رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557). (¬5) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3174)، والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 343)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/ 285). وقال: سليمان بن عطاء في بعض أحاديثه بعض الإنكار. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 196 - 197): رواه الطبراني في ((الأوسط)) فيه سليمان بن عطاء وهو ضعيف. وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 297): وهذا الحديث ينبغي أن يكشف عن إسناده ففيه نكارة وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في (الصحيحين) وغيرهما بخلافه. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1543): منكر.

المبحث الثالث: الإيمان بأن الأجل لا يعلمه أحد إلا الله

المبحث الثالث: الإيمان بأن الأجل لا يعلمه أحد إلا الله الإيمان بأن ذلك الأجل المحتوم والحد المرسوم لانتهاء كل عمر إليه لا اطلاع لنا عليه ولا علم لنا به وأنَّ ذلك من مفاتح الغيب التي استأثر الله تعالى: بعلمها عن جميع خلقه فلا يعلمها إلا هو كما قال تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام:59] الآية. وقال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] الآية. ... وفي الحديث المشهور عند أحمد والترمذي وغيرهما عن جماعة من الصحابة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله تعالى: قَبْضَ روحِ عبدٍ بأرضٍ جعل له فيها – أو قال: بها – حاجةً)) (¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي –بتصرف- – 2/ 863 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2147)، وأحمد (3/ 429) (15578)، والحاكم (1/ 102). من حديث أبي عزة رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ورواته عن آخرهم ثقات ... فإني سمعت علي بن عمر الحافظ يقول: يلزم البخاري ومسلماً إخراج حديث أبي المليح عن أبي عزة فقد احتج البخاري بحديث أبي المليح عن بريدة وحديث أبي عزة رواه جماعة من الثقات الحفاظ. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المبحث الرابع: الإكثار من ذكر الموت

المبحث الرابع: الإكثار من ذكر الموت ذكر العبد الموت وجعله على باله وهو المفضي به إلى أعماله وإلى الحسن والقبيح من أقواله وأفعاله وإلى الجزاء الأوفى من الحكم العدل في شرعه وقدره وقضائه ووعده ووعيده فلا يعاقب أحداً بذنب غيره ولا يهضمه ذرة من حسن أعماله. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي والنسائي وابن حبان وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هادم اللَّذات)) الموت (¬1). وقال البخاري رحمه الله تعالى: في كتاب الرقاق من (صحيحه): باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (كُنْ في الدنيا كأَنَّك غريب أو عابر سبيل) ... عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أَخَذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كُنْ في الدنيا كأنَّك غريب أو عابرُ سبيل)) وكان ابنُ عمر رضي الله عنهما يقول: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساءَ. وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتِك)) (¬2) ثم قال: باب في الأمل وطوله وقول الله تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] بمزحزحه بمباعده. وقال تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3]، وقال علي رضي الله عنه: (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون. فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل) (¬3). عن ربيع بن خُثيم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: خَطَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطّاً مربعاً وخط خطّاً في الوسط خارجاً منه وخطّ خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: ((هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به أو قد أحاط به. وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأهُ هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا)) (¬4)، ... عن أنس رضي الله عنه قال: خَطَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطوطاً فقال: ((هذا الأملُ، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءَهُ الخط الأقرب)) (¬5) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - بتصرف – 2/ 865 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2307)، والنسائي (4/ 4)، وابن ماجه (4258)، وأحمد (2/ 292) (7912)، وابن حبان (7/ 259)، والحاكم (4/ 357). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال النووي في ((المجموع)) (5/ 105): إسناده صحيح كلها على شرط البخاري ومسلم. وقال الحافظ في ((بلوغ المرام)) (ص150): صححه ابن حبان. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬2) رواه البخاري (6416). (¬3) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (6417) , ورواه موصولاً ابن أبي شيبة (7/ 100)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 76)، وابن أبي الدنيا - مرفوعاً - في ((قصر الأمل)) (2). قال أبو نعيم: رواه الثوري وجماعة عن زبيد مثله عن علي مرسلاً، ثم قال: أفادني هذا الحديث الدارقطني عن شيخي لم أكتبه إلا من هذا الوجه. وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 23): وصله ابن أبي الدنيا. وقال في ((تغليق التعليق)) (5/ 158 - 160): ووقع لنا من وجه آخر ... فيه ضعف وانقطاع، والصواب الموقوف. (¬4) رواه البخاري (6417). (¬5) رواه البخاري (6418).

المبحث الخامس: التأهب للموت قبل نزوله

المبحث الخامس: التأهب للموت قبل نزوله والمبادرة بالعمل الصالح والسعي النافع قبل دهوم البلاء وحلوله، وهو - المقصود الأعظم - إذ هو الفيصل بين هذه الدار وبين دار القرار وهو الفصل بين ساعة العمل والجزاء عليه، والحد الفارق بين أوان تقديم الزاد والقدوم عليه، إذ ليس بعده لأحد من مستعتب ولا اعتذار، ولا زيادة في الحسنات ولا نقص من السيئات، ولا حيلة ولا افتداء ولا درهم ولا دينار ولا مقعد ولا منْزل إلا القبر وهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إلى يوم البعث والجزاء وجمع الأوَّلين والآخرين وأهل السموات والأرضين والموقف الطويل بين يدي القويِّ المتين، يوم يقوم الناس لرب العالمين الحكيم العليم المقسط العدل الحكيم الذي لا يحيف ولا يجور ولا يظلم مثقال ذرة إن ربي على صراط مستقيم، ثم إما نعيم مقيم في جنات النعيم، وإما عذاب أليم في نار الجحيم، وإنَّ لكل ظاعن مقراً ولكل نبأ مستقراً وسوف تعلمون، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99 – 100] الآيات، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] الآيات، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9 – 11] وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ [الشورى:44] وهذا سؤالهم الرجعة عند الاحتضار، وكذلك يسألون الرجعة عند معاينة العذاب يوم القيامة كما قال تعالى: وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ [إبراهيم:44] الآيات.

وكذلك يسألون الرجعة إذا وقفوا على النار ورأوا ما فيها من عظيم الأهوال وشديد الأنكال والمقامع والأغلال والسلاسل الطوال وما لا يصفه عقل ولا يعبر عنه مقال ولا يغني بالخبر عنه ضرب الأمثال كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27 – 28] الآيات، وكذلك يسألون الرجعة إذا وقفوا على ربهم وعرضوا عليه وهم ناكسو رؤوسهم بين يديه كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] الآيات، وكذلك يسألون الرجعة وهم في غمرات الجحيم وعذابها الأليم كما قال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] الآيات، وقال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ [غافر:11] وغيرها من الآيات. ويجمع كل ذلك قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأعراف:53] وغيرها من الآيات. وقال قتادة في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [المؤمنون:99] , قال كان العلاء بن زياد يقول: لينَزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة ربه تعالى. وقال قتادة: والله ما تمنى إلاّ أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((إذا وضع – يعني الكافر – في قبره فيرى مقعده من النار قال فيقول: ربِّ ارجعون أتوبُ وأعملُ صالحاً، قال فيقال: قد عُمِّرت ما كنت معمراً. قال فيضيق عليه قبرُه ويلتئِمُ فهو كالمنهوشِ ينام أو يفزع تهوي إليه هوام الأرض وحيَّاتها وعقاربها)) (¬1). وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أَنَّ الله هداني، فتكون عليه حسرة. قال: وكلُّ أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أَنَّ الله هداني قال فيكون لهم الشكر)) (¬2) ... وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم ((بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها)) الحديث (¬3). ¬

(¬1) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 494). (¬2) رواه أحمد (2/ 512) (10660)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 447)، والحاكم (2/ 473). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 399): رواه كله أحمد ورجاله رجال الصحيح. وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) للألباني (2034). (¬3) رواه مسلم (2947).

وفي (صحيح البخاري) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصِّحةُ والفراغ)) (¬1). وللحاكم عنه رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ وهو يعظه: ((اغتنم خَمْساً قبل خَمْس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) (¬2) , يعني: أن هذه الخمس أيام الشباب والصحة والغنى والفراغ والحياة هي أيام العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد، فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها، ولا ينفعه التمني للأعمال، بعد التفريط منه والإهمال، في زمن الفرصة والإمهال، فإن بعد كل شباب هرماً، وبعد كل صحة سقماً، وبعد كل غنىً فقراً، وبعد كل فراغ شغلاً، وبعد كل حياة موتاً، فمن فرط في العمل أيام الشباب لم يدركه في أيام الهرم، ومن فرط فيه في أوقات الصحة لم يدركه في أوقات السقم، ومن فرط فيه في حالة الغنى فلم ينل القرب التي لم تنل إلاّ بالغنى لم يدركه في حالة الفقر، ومن فرط فيه في ساعة الفراغ لم يدركه عند مجيء الشواغل، ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات، فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات، ويطلب الكرة وهيهات، وحيل بينه وبين ذلك وعظمت حسراته حين لا مدفع للحسرات. ولقد حثَّنا الله عز وجل أعظم الحث وحضنا أشد الحضَّ ودعانا إلى اغتنام الفرص في زمن المهلة وأخبرنا أن من فرط في ذلك تمناه وقد حيل بينه وبينه إذ يقول تعالى: في محكم كتابه داعياً عباده إلى بابه يا من يسمع صريح خطابه ويتأمل لطيف عتابه قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:53 – 59] , الآيات. وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [الروم:43] الآيات. وقال تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ [الشورى:47] الآيات. وغيرها. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 867 ¬

(¬1) رواه البخاري (6412). (¬2) رواه الحاكم (4/ 341). وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (1077): صحيح.

الفصل الثالث: سكرات الموت

المطلب الأول: تعريف السكرات السكرات جمع سَكْرة، ... والسَّكْرَانُ: خلاف الصاحي، والسُّكْرُ: نقيض الصَّحْوِ، وقولهم: ذهب بين الصحوة والسكرة إنما هو بين أن يعقل ولا يعقل. وسكرة الموت: شدّته، وسكرة الميت غشيته التي تدل الإنسان على أنه ميّت (¬1). قال الراغب الأصفهاني ت 502هـ: (السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل في الشراب المسكر، ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس، والغشي الناشئ عن الألم وهو المراد هنا) (¬2). فالمراد بالسكرات، إذاً، شدائد الموت وأهواله وكربه التي تصيب المحتضر، بسبب نزع الروح. أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - بتصرف - ص 76 ¬

(¬1) انظر: ((لسان العرب)) (2/ 170، 171). (¬2) انظر: ((مفردات القرآن)) (ص: 236)، و ((فتح الباري)) (11/ 362).

المطلب الثاني: تعريف الغمرات

المطلب الثاني: تعريف الغمرات الغمرات جمع غَمْرَة، وهي الشدة، وغَمْرةُ كل شيء: مُنْهَمَكه وشدّته ... قال الطبري ت310هـ: (والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه، وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء، فيغطيها) (¬1). وغمرات الموت سكراته التي تغمر المحتضر، أي تغطي عقله وتستره، فيصاب بالغمرة والإغماء (¬2). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - بتصرف -ص 76 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (7/ 182، 183). (¬2) انظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (ص: 678).

المبحث الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت

المبحث الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت أولاً: الأدلة من كتاب الله تعالى: ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، القرآن العظيم، سكرات الموت وشدائده في أكثر من آية، منها: 1 - قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الأنعام: 93]. قال الطبري في تفسير هذه الآية: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين ... ، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت، ونزل بهم أمر الله، وحان فناء آجالهم ... ، والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه) (¬1)، ثم روى عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ. أنه قال: سكرات الموت (¬2). يقول السعدي ت 1376هـ: (ولما ذم الظالمين ذكر ما أعد لهم من العقوبة حال الاحتضار، ويوم القيامة فقال: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت أي: شدائده وأهواله الفظيعة، وكربه الشنيعة، لرأيت أمراً هائلاً، وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها، وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب ... ) (¬3). 2 - قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب: 18، 19]. 3 - وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةُ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونُ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فِإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد: 20، 21] فقوله تعالى في الآية الأولى رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ يعني ينظرون إليك يا محمد صلى الله عليه وسلم تدور أعينهم خوفاً من القتل وفراراً منه كالذي يغشى عليه من الموت، أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت النازل به وما يعانيه من سكرات وكرب (¬4). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ: (من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع؛ فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره، ولا يطرف، فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل) (¬5). 4 - قوله تعالى وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19]. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (7/ 182). (¬2) ((تفسير الطبري)) (7/ 183). (¬3) ((تفسير السعدي)) (ص: 227). (¬4) انظر: ((تفسير الطبري)) (21/ 89). (¬5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (28/ 456).

والمراد بسكرة الموت شدته وغمرته وغلبته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، ومعنى (بالحق) أي من أمر الآخرة، فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه، بمعنى أنه عند الموت يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث، والوعد والوعيد، وقيل الحق هو الموت، فيكون المعنى: وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت، كما قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود (وجاءت سكرة الحق بالموت) (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ... وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أي جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل، ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت؛ فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد: إن الموت باطل حتى يقال جاءت بالحق) (¬2). 5 - قوله تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة: 83 - 87] هذا دليل على سكرات الموت (¬3)؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: مهلاً إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجسادكم، أيها الناس، حلاقيكم، ومن حضرهم منكم من أهليهم حينئذ إليهم ينظر، ونحن أقرب إليه بالعلم والقدرة والرؤية منكم، ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين وغير مجزيين ترجعون تلك النفوس التي بلغت الحلقوم عند سكرات الموت إلى مقرها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين بأنكم غير مربوبين ولا مجزيين، ولن ترجعونها فبطل زعمكم (¬4). قال ابن كثير ت774هـ في تفسير هذه الآيات: يقول تعالى فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ أي الروح الْحُلْقُومَ أي الحلق، وذلك حين الاحتضار، كما قال تعالى: كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 26 - 30]؛ ولهذا قال هاهنا وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ أي: إلى المحتضر، وما يكابده من سكرات الموت وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي بملائكتنا وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي: ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 61، 62]، وقوله تعالى: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الجسد، إن كنتم غير مدينين) (¬5). 6 - وقد روى ابن كثير ت774هـ عن جماعة من السلف أن المراد بقوله تعالى وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات: 1، 2]: الملائكة حين تنْزع أرواح بني آدم، فمنهم من تؤخذ روحه بعسر، فتغرق في نزعها، ومنهم من تؤخذ روحه بسهولة، وكأنما حلته من نشاط (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (26/ 100، 101)، ((فتح القدير)) (5/ 75). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 265). (¬3) انظر: ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (1/ 41). (¬4) انظر: ((تفسير الطبري)) (27/ 120، 121)، ((تفسير البغوي)) (4/ 290، 291). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 301). (¬6) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 468).

وقال ابن تيمية ت728هـ: (وأما وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا فهي الملائكة القابضة للأرواح، وهذا يتضمن الجزاء، وهو من أعظم المقسم عليه) (¬1). وقال البغوي ت516هـ: ( ... وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا: يعني الملائكة تنْزع أرواح الكفار من أجسادهم، كما يغرق النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المدّ، وقال ابن مسعود: ينْزعها ملك الموت من تحت كل شعرة ومن الأظافر وأصول القدمين، ويرددها في جسده بعدما ينْزعها حتى إذا كادت تخرج ردها في جسده بعدما ينْزعها، فهذا عمله بالكفار ... ، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا هي الملائكة تنشط نفس المؤمن، أي تحل حلاً رفيقاً فتقبضها، كما ينشط العقال من يد البعير، أي يحل برفق) (¬2)، وروي في تفسيرها غير ذلك (¬3). 7 - قوله تعالى كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (¬4). دلت هذه الآية على سكرة الموت؛ فقوله كَلا إِذَا بَلَغَتِ أي النفس التَّرَاقِيَ فحشرج بها عند سكرات الموت، والتراقي جمع الترقوة، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق، فدل ذلك على الإشراف على الموت، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ أي: قال من حضره هل من طبيب يرقيه ويداويه، فيشفيه برقيته أو دوائه، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ أي أيقن الذي بلغت روحه التراقي أنه مفارق الدنيا، حيث تتابعت عليه الشدائد، فلا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه، واجتمع فيه الحياة والموت، والتفت ساقاه (¬5). يقول السعدي في تفسير هذه الآيات: (يعظ تعالى عباده بذكر المحتضر حال السياق، وأنه إذا بلغت روحه التراقي، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، فحينئذ يشتد الكرب، ويطلب كل وسيلة وسبب يظن أن يحصل به الشفاء والراحة؛ ولهذا قال: وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ أي: من يرقيه، من الرقية؛ لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فتعلقوا بالأسباب الإلهية، ولكن القضاء والقدر إذا حتم وجاء فلا مرد له، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ للدنيا، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، أي: اجتمعت الشدائد، والتفت، وعظم الأمر، وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح من البدن، الذي ألفته، ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى؛ ليجازيها بأعمالها ويقررها بفعلها، فهذا الزجر الذي ذكره الله يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها عما فيه هلاكها، ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات لا يزال مستمراً على غيه وكفره وعناده) (¬6) ثانيا: الأدلة على سكرات الموت من السنة والأثر: ثبتت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على أن للموت سكرات، ومن ذلك: 1 - ما أخرجه البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه رَكْوَة، أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده)) (¬7). ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (13/ 320). (¬2) ((تفسير البغوي)) (4/ 441). (¬3) انظر: ((تفسير الطبري)) (30/ 18 - 20)، و ((تفسير البغوي)) (4/ 441، 442). (¬4) سورة القيامة، الآية 26 - 30. (¬5) انظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 424، 425)، ((تفسير الطبري)) (29/ 121). (¬6) ((تفسير السعدي)) (ص: 833). (¬7) رواه البخاري (6510).

2 - وعن أنس رضي الله عنه قال: ((لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه فقالت فاطمة: وا كرب أباه، فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة -رضي الله عنها-: يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب)) (¬1) 3 - ما أخرجه البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((مات النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬2). 4 - ما رواه الترمذي بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت ((ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬3). قال أبو حامد الغزالي ت505هـ: (اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيقاً بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده، لا سيما وهو في كل نفس بصدده ... ، واعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها إما بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النَزع على شدة ما هم فيه. فأما القياس: الذي يشهد له فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم، فإذا كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح، فمهما أصاب العضو، جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم، يتفرق على اللحم والدم وسائر الأجزاء، فلا يصيب الروح إلا بعض الألم؛ فإن كان من الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره فما أعظم ذلك الألم وما أشده، والنَزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه، حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم ... ، فألم النَزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه؛ فإنه المنْزوع المجذوب من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب، وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة من العرق إلى القدم، ... فلا تسل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب عرقاً واحداً لكان ألمه عظيماً، فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم، لا من عرق واحد، بل من جميع العروق، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها) (¬4). أخرج ابن أبي الدنيا عن شداد ابن أوس ـ رضي الله عنه ـ قال: ((الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمنين، والموت أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت نُشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت، ما انتفعوا بعيش، ولا لذوا بنوم)) (¬5). وأخرج ابن سعد عن عوانة بن الحكم قال: (كان عمرو بن العاص يقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلما نزل به قال له ابنه عبد الله: يا أبتِ إنك كنت تقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه؟ فصف لنا الموت قال: يا بنيّ الموت أجل من أن يوصف، ولكن سأصف لك منه شيئاً، أجدني كأن على عنقي جبال رضوى، وأجدني كأن في جوفي الشوك، وأجدني كأن نفسي تخرج من ثقب إبرة (¬6). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - ص 77 ¬

(¬1) رواه البخاري (4462) بلفظ: ((أطابت أنفسكم)) بدلاً من ((أطابت نفوسكم)). (¬2) رواه البخاري (4446). (¬3) رواه الترمذي (979). حسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 168) كما قال ذلك في المقدمة، وقال المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (3/ 415): الظاهر أنه حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) انظر: ((الموت)): (ص65 - 67)، ونقله ابن الجوزي في: ((الثبات عند الممات)) (ص61 - 63). (¬5) ((الموت)) (ص: 69). (¬6) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 260). وانظر: ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 75)، و ((فتح الباري)) (8/ 346).

المبحث الثالث: سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات

المبحث الثالث: سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات كل المخلوقات تجد سكرات الموت ويشهد لهذا عموم قوله تعالى كل نفس ذائقة الموت [آل عمران: 185]، وقوله صلى الله عليه وسلم ((إن للموت سكرات)) (¬1)، لكن تختلف المخلوقات في درجة إحساسها بالسكرات (¬2). فالعبد المؤمن تخرج روحه بسهولة ويسر، ودليل ذلك ما ورد في حديث البراء بن عازب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن وفاة المؤمن: ((ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة وفي رواية: المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، فيأخذها ... )) (¬3). أما الكافر فإن روحه تخرج بشدة وصعوبة يتعذب بها، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن وفاة الكافر وفي رواية الفاجر: ((ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب)) (¬4). هذا بالجملة وإلا فإنه قد تشتد السكرات على بعض الصالحين؛ لتكفير ذنوبهم، ولرفع درجاتهم، كما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم حيث عانى من شدة سكرات الموت، كما في صحيح البخاري ... قال ابن حجر: وفي الحديث ((لا إله إلا الله إن للموت سكرات)): أن شدة الموت لا تدل على نقص في المرتبة، بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته، وإما تكفير لسيئاته) (¬5). وقد ترجم ابن ماجه ت275هـ في سننه بعنوان: (باب ما جاء في المؤمن يؤجر في النَزْع)، وساق تحته قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يموت بعرق الجبين)) (¬6). كما قد جاء في حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: ((الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (4449). من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (1/ 50، 51). (¬3) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557)، والحاكم (1/ 93)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 355). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الطبري في ((مسند عمر)) (2/ 491): إسناده صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا جميعا بالمنهال بن عمرو وزاذان أبي عمر الكندي، وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة وقمع للمبتدعة ولم يخرجاه بطوله وله شواهد على شرطهما، وصحح إسناده البيهقي، وقال الهيثمي (3/ 52): رجاله رجال الصحيح. (¬4) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557)، والحاكم (1/ 93)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 355). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الطبري في ((مسند عمر)) (2/ 491): إسناده صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا جميعا بالمنهال بن عمرو وزاذان أبي عمر الكندي، وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة وقمع للمبتدعة ولم يخرجاه بطوله وله شواهد على شرطهما، وصحح إسناده البيهقي، وقال الهيثمي (3/ 52): رجاله رجال الصحيح. (¬5) ((فتح الباري)) (11/ 363). (¬6) رواه ابن ماجه (1197). وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 183) كما قال ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬7) رواه ابن ماجه (2278). بلفظ: ((ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرصة)). قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح.

وهذا يدل على أن الأصل تخفيف نزع روح المؤمن، إلا أنها قد تشدّد على من أراد الله سبحانه وتعالى من المؤمنين؛ تكفيراً لسيئاتهم، أو رفعاً لدرجاتهم؛ قال القرطبي في معرض حديثه عن سكرات الموت: قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين والأولياء فما لنا عن ذكره مشغولين؟ وعن الاستعداد له متخلفين؟ قالوا وما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شدائد الموت وسكراته فله فائدتان: أحدهما: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن، وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقاً، ويرى سهولة خروج روحه، فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى، وتهوينه على بعضهم قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه ويقاسيه الميت مطلقاً لإخبار الصادقين عنه، ما خلا الشهيد قتيل الكفار .... الثانية: ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء أحباب الله وأنبياؤه ورسله، فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة؟ وهو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين. فالجواب: أن ((أشد الناس بلاءً في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) (¬1) كما قال نبينا عليه السلام ... فأحب الله أن يبتليهم تكميلاً لفضائلهم لديه، ورفعة لدرجاتهم عنده، وليس ذلك في حقهم نقصاً ولا عذاباً، بل هو .. كمال رفعة، مع رضاهم بجميل ما يجري الله عليهم، فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد، مع إمكان التخفيف والتهوين عليهم، ليرفع منازلهم، ويعظم أجورهم قبل موتهم، كما ابتلى إبراهيم بالنار، وموسى بالخوف والأسفار وعيسى بالصحارى والقفار، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالفقر في الدنيا ومقاتلة الكفار، كل ذلك لرفعة في أحوالهم وكمال في درجاتهم. ولا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخلطين؛ فإن ذلك عقوبة لهم، ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا) (¬2). فشدة السكرات تخفف من الذنوب، وكل ما يصيب الإنسان من مرض أو شدة أو هم أو غم حتى الشوكة تصيبه فإنها كفارة لذنوبه، ثم إن صبر واحتسب كان له مع التكفير أجر ذلك الصبر الذي قابل به هذه المصيبة التي لحقت به، ولا فرق في ذلك بين ما يكون عند الموت، وما يكون قبله، فالمصائب كفارات لذنوب المؤمن، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها))، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يهمّه إلا كفر به من سيئاته))، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - ص 86 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2398) , وأحمد (1/ 172) (1481)، و (1/ 180) (1555) , والحاكم (1/ 99). من حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه, بلفظ: ((أي الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه ..... )). قال الترمذي: حسن صحيح, وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 116): له شاهد, وصححه الزرقاني في ((مختصر المقاصد)) (102) , وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 52): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (992). (¬2) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (1/ 48 - 50).

المبحث الرابع: من يخفف عنه سكرات الموت

المبحث الرابع: من يخفف عنه سكرات الموت أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشهيد الذي يسقط في المعركة تخفف عنه سكرات الموت، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة)) رواه الترمذي والنسائي والدارمي (¬1)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص26 ¬

(¬1) رواه الترمذي (1668)، والنسائي (6/ 36)، والدارمي (1/ 179) (2452). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 291): ثابت مشهور من حديث القعقاع عن أبي صالح، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح.

الفصل الرابع: حال الإنسان عند الاحتضار

المبحث الأول: سؤال الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار الكافرون والمفرّطون في أمر الله تعالى يسألون الله عز وجل حال الاحتضار الرجعة إلى الحياة الدنيا؛ ليصلحوا ما كان أفسدوه في مدة حياتهم، قال تعالى عنهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99، 100]. فالكافرون يسألون الرجعة عند الاحتضار؛ ليسلموا، والعصاة ليتوبوا ويعملوا صالحاً، فلا يجابون إلى ذلك، كما قال تعالى كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وكَلا حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه، وقوله: إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا أي لابد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ولو رُدّ لما عمل صالحاً ولكن يكذب في مقالته. يقول الطبري في تفسيره للآية السابقة: (يقول تعالى ذكره حتى إذا جاء أحد هؤلاء المشركين الموت، وعاين نزول أمر الله به، قال لعظيم ما يعاين، مما يقدم عليه من عذاب الله تندماً على ما فات، وتلهفاً على ما فرط فيه قبل ذلك من طاعة الله ومسألته للإقالة: رَبِّ ارْجِعُونِ إلى الدنيا فرّدوني إليها، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا، يقول: كي أعمل صالحاً فِيمَا تَرَكْتُ قبل اليوم، من العمل، فضيّعته، وفرطت فيه) (¬1). ويقول السعدي: (يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ذلك ليقول: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ من العمل، وفرطت في جنب الله، كَلَّا أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون إِنَّهَا أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا أي مجرد قول اللسان لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضاً غير صادق في ذلك؛ فإنه لو رُدّ لعاد لما نُهِي عنه) (¬2). ويدل على سؤال الرجعة وتمنيها حين الاحتضار قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9 - 11]. فكل مفرّط يندم عند الاحتضار، ويتحسر على ما فرّط في وقت الإمكان، ويسأل الرجعة إلى الدنيا، ولو لمدة يسيرة، ليستعتب ويستدرك ما فاته وما فرّط فيه، ويتصدق ويكون من الصالحين، لكن هيهات فهذا السؤال والتمني قد فات وقته ولا يمكن تداركه؛ ولهذا قال تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 11] أي لا يؤخر أحداً بعد حلول أجله، وهو سبحانه أعلم وأخبر بمن يكون صادقاً في قوله وسؤاله ممن لو رُدّ لعاد إلى شر مما كان عليه (¬3) ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (18/ 40). (¬2) ((تفسير السعدي)) (ص: 508). (¬3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 373)، و ((تفسير السعدي)) (ص: 802).

قال أبو جعفر الطبري في تفسير هذه الآية: (يقول تعالى ذكره وَأَنْفِقُوا أيها المؤمنون بالله ورسوله، من الأموال التي رزقناكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ إذا نزل به الموت: يا رب هلا أخرتني، فتمهل لي في الأجل إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ يقول فأزكي مالي، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أعمل بطاعتك وأؤدي فرائضك، وقيل: عني بقوله وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وأحج بيتك الحرام) (¬1). وفي موضع آخر من كتاب الله تعالى يخبر جل وعلا عن حال الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب وحلول الأجل أنهم يسألون الرجعة وتأخير الأجل؛ نادمين على ما فعلوا، قال تعالى مخبراً عنهم: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: 44]؛ وهذا كله أمل في التخلص من العذاب الأليم وإلا فهم كاذبون في وعودهم؛ ولهذا يوبخون بأن يقال لهم أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ [إبراهيم: 44، 45]، فهم يوبخون بتذكيرهم بكذبهم حين أقسموا أنهم لن يزولوا عن الدنيا إلى الآخرة، وهم يرون ويعلمون ما أحل بالأمم المكذبة قبلهم وما نزل بهم من العقوبات ولكنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا، بل أعرضوا واستمروا على باطلهم وظلمهم حتى وصلوا إلى اليوم الذي لا ينفع فيه اعتذار ولا تقبل فيه توبة (¬2). قال الشنقيطي ت1393هـ: (قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا .. [المؤمنون: 99 - 100] وما تضمنته الآية الكريمة من أن الكافر والمفرّط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة؛ ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط، وأنهما لا يجابان إلى ذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو كَلا، جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله تعالى وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الآية، وقوله تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم: 44] إلى غير ذلك من الآيات، وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم؛ فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة، ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا الظاهر أن لعل فيه للتعليل أي ارجعون لأجل أن أعمل صالحاً، وقيل: هي للترجي والتوقع؛ لأنه غير جازم بأنه إذا رُدّ للدنيا عمل صالحاً، والأول أظهر، والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج، الذي كان قد فرّط فيه، والصلوات والزكاة، ونحو ذلك، والعلم عند الله تعالى، وقوله كَلا كلمة زجر، وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح)) (¬3). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - ص 120 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (28/ 76). (¬2) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 522 - 523)، و ((تفسير السعدي)) (ص: 381 - 382). (¬3) ((أضواء البيان)) (5/ 821، 822).

المبحث الثاني: انقطاع التوبة بحضور الموت

المبحث الثاني: انقطاع التوبة بحضور الموت أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون فإنه تعالى يقبل توبتهم، حيث قال سبحانه إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 17] وغيرها من الآيات الكثيرة، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه ((لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم)) (¬1)، وعن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) (¬2)، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) (¬3)، وغيرها من الأحاديث الشريفة، فالنصوص الشرعية التي تحث على التوبة كثيرة جداً، إلا أنها غير مقبولة عند الله تعالى إلا حين تتوفر شروطها التي ذكرها العلماء استقراءً من نصوص كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الشروط: 1 - أن تكون التوبة خالصة لوجه الله تعالى، فلا يراد بها الدنيا أو مدح الناس وثناؤهم. 2 - الإقلاع عن المعصية. 3 - الندم على فعلها. 4 - العزم على عدم العودة إليها. 5 - إرجاع الحقوق إلى أصحابها، إن كانت المعصية حقوقاً للآخرين. 6 - أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت (¬4). والذي يعنينا من هذه الشروط في هذا المبحث هو أن التوبة لا بد أن تكون قبل حضور الموت (¬5) لقوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 17، 18]. ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (4248). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 330): هذا إسناد حسن، وقال محمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (2/ 456): إسناده جيد، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬2) رواه ابن ماجه (3446)، والطبراني (10/ 150) (10303)، والبيهقي (10/ 154) (21070). قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 117): [رواته] كلهم ثقات وأبو عبيدة هو ابن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 203): رجاله رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، وقال السخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (1/ 87): رجال سنده ثقات ولولا الإرسال الذي فيه لكان صحيحاً، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه الترمذي (2499) , وابن ماجه (4251) , والحاكم (4/ 272). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (439): إسناده قوي. وحسّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬4) انظر: ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (1/ 85). (¬5) انظر: ((فتح الباري)) (11/ 487).

يقول الطبري: (ما التوبة على الله لأحد من خلقه إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة، ثم يتوبون من قريب، يقول: ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه، والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العودة إلى مثله قبل نزول الموت بهم، وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره، فقال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ... ، تأويله يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى، ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغم الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة؛ لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف وعزم فيه على ترك المعاودة، وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة، وأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً، وبغم الحشرجة مغموراً فلا أخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوباً؛ ولذلك قال من قال: إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه؛ فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأديب فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب) (¬1). فهذه الآية تدل على قبول الله تعالى للتوبة قبل حضور الموت، أما إذا حضر موته وغرغرت روحه فليس توبته معتبرة حينئذ ولا مقبولة، قال ابن كثير في تفسيره للآيتين السابقتين: (يقول سبحانه وتعالى إنما يقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو بعد معاينة الملك يقبض روحه قبل الغرغرة ... ، فقد دلت الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة ... ، وأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وخرجت الروح من الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة من الغلاصم، فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص) (¬2). وهذا مثل قوله تعالى عن فرعون: ... حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 90، 91]. ففرعون كفر بالله تعالى وكذّب رسوله عليه الصلاة والسلام، وأساء إلى نفسه أيام حياته وفي صحته بتماديه في طغيانه ومعصية ربه، فلما حل به سخط الله ونزل عليه عقابه، فزع إليه مستجيراً به من عذابه الواقع به، وناداه وقد علته أمواج البحر، وغشيته كرب الموت قائلاً: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ له المنقادين بالذلة والعبودية، فقال سبحانه وتعالى معرفاً فرعون قبح صنيعه في حياته: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ آلآن تقر بالعبودية وتستسلم له بالذلة وتخلص له الألوهية، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك، وكنت من الصادين عن سبيله، فهلا وأنت في مهل وباب التوبة لك منفتح أقررت بما أنت به الآن مقر (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (4/ 202، 205، 206). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 439، 440). (¬3) انظر: ((تفسير الطبري)) (11/ 113).

قال السعدي: (حتى إذا أدرك فرعون الغرق وجزم بهلاكه قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وهو الله الحق، الذي لا إله إلا هو وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى، قال الله تعالى، مبيناً أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له آلآنَ تؤمن، وتقر برسول الله وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي: بارزت بالمعاصي والكفر والتكذيب وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم؛ لأن إيمانهم صار إيماناً مشاهداً كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع إنما هو الإيمان بالغيب) (¬1). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ .. [النساء: 17] الآية ... وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله فلما أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال الله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وهذا استفهام إنكار بين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها ... ومثله قوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: 83 - 85] الآية، بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده كفرعون وغيره) (¬2). وقبول التوبة قبل حضور الموت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمهم الله وإنما صحت منه التوبة في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار، والمبادرة في الصحة أفضل وألحق لأمله في العمل الصالح والبعد كل البعد عن الموت، وأما ما كان قبل الموت فهو قريب) (¬3). وقد أخبر الله تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر بأنهم لما رأوا وقوع عذاب الله بهم وحّدوا الله عز وجل وكفروا بالطاغوت فلم يقبل الله منهم توبتهم، قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84، 85]، فهذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وهذه سنة الله وعادته أن المكذبين حين ينْزل بهم بأس الله وعقابه إذا آمنوا كان إيمانهم غير صحيح ولا مقبولاً؛ لأنه إيمان ضرورة قد اضطروا إليه، وإيمان مشاهدة، وإنما الإيمان المقبول المنجي هو الإيمان الاختياري، الذي يكون إيماناً بالغيب، وذلك قبل وجود قرائن العذاب (¬4). ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (ص: 328، 329). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (18/ 190، 191). (¬3) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (1/ 85). (¬4) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 91)، و ((تفسير السعدي)) (ص: 690).

يقول الطبري: (لم يك ينفعهم تصديقهم في الدنيا بتوحيد الله عند معاينة عقابه قد نزل، وعذابه قد حل؛ لأنهم صدقوا حين لا ينفع التصديق مصدقا؛ إذ كان قد مضى حكم الله في السابق من علمه أن من تاب بعد نزول العذاب من الله على تكذيبه لم تنفعه توبته) (¬1). ويشهد لهذا الشرط المهم من شروط قبول التوبة ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) (¬2)، أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك فلا توبة حينئذ (¬3). وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران: 90]، قال بعض العلماء بأن المراد: إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، فلن تقبل توبتهم، فيكون مثل قوله تعالى في الآية السابقة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء: 18]، وتقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا (¬4). وروى الطبري ت310هـ بسنده عن الحسن البصري ت110هـ قوله في هذه الآية هم اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت (¬5). وقال ابن تيمية: (قال الأكثرون ... لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت ... ، قلت: وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفراً بعد كفر، فقوله ثم ازدادوا بمنْزلة قول القائل: ثم أصروا على الكفر، واستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم، ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وهي التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب، ورجع عن كفره، فلم يزدد بل نقص، بخلاف المصر إلى حين المعاينة، فما بقي له زمان يقع لنقص كفره فضلاً عن هدمه) (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (24/ 58). (¬2) رواه الترمذي (3537)، وابن ماجه (3449) - قال المزي: وقع عند ابن ماجه عبدالله بن عمرو وهو وهج والصواب عن عبدالله بن عمر بن الخطاب-، وأحمد (2/ 132) (6160)، وابن حبان (2/ 394) (628)، والحاكم (4/ 286). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/ 207): مرسل حسن، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 449) كما قال ذلك في المقدمة. (¬3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 91). (¬4) انظر: ((أضواء البيان)) (1/ 343). (¬5) انظر: ((تفسير الطبري)) (3/ 243). (¬6) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (16/ 29).

أما ما ثبت ((أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل - فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله)) (¬1) الحديث، فقد قال ابن حجر: بأنه صلى الله عليه وسلم لقن عمه الشهادة قبل أن يدخل في الغرغرة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أحاج لك بها عند الله كأنه عليه الصلاة والسلام فهم من امتناع أبي طالب من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه؛ لوقوعه عند الموت؛ أو لكونه لم يتمكن من سائر الأعمال الصالحة كالصلاة وغيرها، فلذلك ذكر له المحاججة، وأما لفظ (الشهادة) فيحتمل أنه يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذ لم يحضر حينئذ أحد من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم فطيب قلبه بأن يشهد له بها فينفعه، وهذا يدل على أن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت حتى يصل إلى المعاينة فلا يقبل، كما يدل هذا الحديث على أن الكافر إذا شهد شهادة الحق قبل المعاينة وتحقق الموت نجا من العذاب؛ لأن الإسلام يجب ما قبله (¬2). ونقل ابن حجر عن الكرماني قوله بأن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الشهادة على عمه كان عند حضور علامات الوفاة، وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم، ثم قال ابن حجر: (ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة، لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد، ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه، وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، ولهذا قال: أجادل لك بها وأشفع لك ... ، ويؤيد الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد، وقال هو على ملة عبد المطلب ومات على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الشفاعة له، بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة لغيره، وكان ذلك من الخصائص في حقه) (¬3)، يشير في هذا إلى ما ثبت أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أغنيت عن عمّك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك. قال صلى الله عليه وسلم: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)) (¬4). وقال ابن بطال ت449هـ: (فإن قال قائل: فأي محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله به الجنة؟ فالجواب: أنه يحتمل وجوهاً من التأويل: أحدها: أن يكون ظن عليه السلام أن عمه اعتقد أن من آمن في مثل حاله لا ينفعه إيمانه؛ إذ لم يقارنه عمل سواه من صلاة وصيام وزكاة وحج وشرائط الإسلام كلها، فأعلمه عليه السلام أن من قال: لا إله إلا الله عند موته أنه يدخل في جملة المؤمنين، وإن تعرى من عمل سواها. ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة، وأيقن بالموت، وصار في حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذي قال فيه: هو على ملة عبد المطلب، عند خروج نفسه، فرجا له عليه السلام إن قال: لا إله إلا الله، وأيقن بنبوته أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله في أن يتجاوز عنه، ويتقبل منه إيمانه في تلك الحال، ويكون ذلك خاصاً لأبي طالب وحده؛ لمكانه من الحماية والمدافعة عن النبي عليه السلام ... ¬

(¬1) رواه البخاري (3884). من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((فتح الباري)) (7/ 195، 196). (¬3) ((فتح الباري)) (8/ 506، 507). (¬4) رواه البخاري (3883)، ومسلم (209).

ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن أبا طالب كان ممن عاين براهين النبي عليه السلام وصدق معجزاته، ولم يشك في صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ... ، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باؤوا بإثمهم على تكذيب النبي عليه السلام، فرجا له عليه السلام المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله، حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته وإثم من اقتدى به في ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه بقوله: ((أحاج لك بها عند الله)) لئلا يتردد في الإيمان، ولا يتوقف عليه؛ لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته، وتورطه في أنه كان مضلاً لغيره. وقيل: إن قوله: ((أحاج لك بها عند الله) كقوله: ((أشهد لك بها عند الله)) (¬1)، لأن الشهادة المرجحة له في طلب حقه؛ ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث في هذا الباب بلفظ (الشهادة)) (¬2) لأنه أقرب للتأويل، وذكر قوله ((أحاج لك بها عند الله)) في قصة أبي طالب في كتاب مبعث النبي عليه السلام، لاحتمالها التأويل) (¬3). ونص بعض أهل العلم على أن الخبر الذي فيه حضور أبي طالب الوفاة مطابق لقوله تعالى: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [النساء: 18]، وبالتالي فإن الأوضح أن يقال بأن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب، واستدل من قال بهذا القول بأمرين: الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((كلمة أحاج لك بها عند الله))، ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: تخرجك من النار. الثاني: أنه سبحانه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب (¬4). هذه أقوال بعض أهل العلم في قصة أبي طالب، ولعل الأقرب أن تكون خاصة به، وعلى كل الأحوال فإن مما لا خلاف فيه أن الذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على المعاصي حتى إذا حضر أحدهم الموت، وحشرج بنفسه، وعاين الملائكة قد أقبلوا عليه لقبض روحه، وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته قال: إِنِّي تُبْتُ الآنَ فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة؛ لأنه قال ما قال في غير حال توبة (¬5). فإن قيل: هل تصح توبة من حكم عليه بالقتل، أو حضر في مكان يحترق أو كان في طائرة حدث فيها خلل وبدأت تهوي إلى الأرض، ونحو هذه الحالات. فإنه يقال: نعم تصح توبة هؤلاء؛ لأنهم ربما ينجون من الموت، فمن هوت به الطائرة، أو كان في بيت يحترق، فربما ينجو، وكذلك من حكم عليه بالقتل فربما يرفع القتل عنه (¬6). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - ص 108 ¬

(¬1) جزء من حديث رواه البخاري (1360)، ومسلم (24). من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه. (¬2) أي: في باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، من كتاب الجنائز. (¬3) ((شرح صحيح البخاري)) (3/ 344 - 346). (¬4) انظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (1/ 354). (¬5) انظر: ((تفسير الطبري)) (4/ 205، 206). (¬6) انظر: ((فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين)) (2/ 990).

المبحث الثالث: فرح المؤمن بلقاء ربه

المبحث الثالث: فرح المؤمن بلقاء ربه إذا جاءت ملائكة الرحمن العبد المؤمن بالبشرى من الله ظهر عليه الفرح والسرور، أما الكافر والفاجر فإنه يظهر عليه الضيق والحزن والتعب، ومن ثم فإن العبد المؤمن في حال الاحتضار يشتاق إلى لقاء الله، والعبد الكافر أو الفاجر يكره لقاء الله تعالى، فقد روى أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه)) (¬1) ولذلك فإن العبد الصالح يطالب حامليه بالإسراع به إلى القبر شوقاً منه إلى النعيم، بينما العبد الطالح ينادي بالويل من المصير الذاهب إليه، ففي صحيح البخاري وسنن النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق)) (¬2). ولكن هذا ليس لازماً لكل أحد كما يقول ابن تيمية، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا (¬3)، وقد ذكر الشيخ ابن تيمية أن الشيطان أحرص ما يكون على إغواء الإنسان وقت موته، لأنه وقت الحاجة، واستدل بالحديث الذي في الصحيح: ((الأعمال بخواتيمها)) (¬4)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها)) (¬5)، ولهذا روي: ((أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت، يقول لأعوانه: دونكم هذا فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبداً)) (¬6). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص: 28 ¬

(¬1) رواه البخاري (6507). (¬2) رواه البخاري (1316)، والنسائي (4/ 41). (¬3) الحديث رواه البخاري (1377)، ومسلم (588). (¬4) رواه البخاري (6493). من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (7454)، ومسلم (2643). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬6) ذكره ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (4/ 256). ولم أقف عليه.

وقد جاء صريحاً في كتاب الله تعالى أن الملائكة تتنْزل على المؤمنين بعدم الخوف والحزن، والبشرى بالجنة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصّلت: 30 - 32]، أي إن الذين أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم تتنّزل عليهم الملائكة عند الموت والاحتضار قائلين لهم أَلا تَخَافُوا مما تقدمون عليه من عمل الآخرة وَلا تَحْزَنُوا على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين؛ فإنا نخلفكم فيه وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير، ذكر هذا ابن كثير ثم روى عن زيد بن أسلم قوله: بأن البشرى تكون عند الموت وفي القبر وحين البعث (¬1). ثم علّق ابن كثير على رأي زيد بقوله: (وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جداً، وهو الواقع) (¬2). وقوله تعالى نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ (أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم: أي قرناؤكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم) (¬3). وذكر الطبري في تفسيره أن تنَزل الملائكة عليهم، في الآية، معناه أن الملائكة تتهبط عليهم عند نزول الموت بهم قائلة لهم: لا تخافوا ما تقدمون عليه من بعد مماتكم، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم (¬4). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد ذكروا أن هذا التنَزل عند الموت) (¬5). وقال الله تعالى سبحانه وتعالى في بشارة المؤمنين: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 62 - 64]. فالله جل وعلا يخبر في هذه الآيات عن أوليائه بأنه لا خوف عليهم فيما يستقبلونه أمامهم من الأهوال والمخاوف؛ ولا هم يحزنون على ما أسلفوا؛ لأنهم لم يسلفوا إلا الأعمال الصالحة؛ لذلك كانت لهم البشارة، في الدنيا بالثناء الحسن والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، ولطف الله بهم وتيسيرهم لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفهم عن مساوئها، ولهم البشارة في الآخرة، وأولها البشارة عند قبض أرواحهم، وفي القبر، ثم دخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم (¬6). ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 3376) عن زيد بن أسلم، رضي الله عنه، يا أيتها النفس المطمئنة قال: بشرت بالجنة عند الموت، وعند البعث، ويوم الجمع. (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 100 - 101). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 101). (¬4) انظر: ((تفسير الطبري)) (24/ 74). (¬5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 268). (¬6) انظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، و ((تفسير ابن كثير)) (2/ 405).

قال الطبري: (إن الله تعالى ذكره أخبر أن لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله ... ، ومنها بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل ... ، وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه أن لهم البشرى في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فالجنة، وأما قوله: لا تبديل لكلمات الله؛ فإن معناه أن الله لا خلف لوعده، ولا تغيير لقوله عما قال، ولكنه يمضي لخلقه مواعيده، وينجزها لهم) (¬1). وقال ابن تيمية: (وقد فَسّر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى في الدنيا بنوعين: أحدهما: ثناء المثنين عليه. الثاني: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له، فقيل: ((يا رسول الله الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن)) (¬2)، وقال البراء بن عازب: ((سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له)) (¬3) (¬4). وأخبر الله سبحانه وتعالى عن حال المؤمنين عند الاحتضار أنهم طيبون، أي مخلصون من الشرك والدنس، وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم، وتبشرهم بالجنة، حيث قال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32]. قال الشنقيطي ت1393هـ: (ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم، ويجتنبون نواهيه، تتوفاهم الملائكة: أي يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين: أي طاهرين من الشرك والمعاصي ـ على أصح التفسيرات ـ ويبشرونهم بالجنة، ويسلّمون عليهم ... ، والبشارة عند الموت وعند الجنة من باب واحد؛ لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة، ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، ويقولون لهم سلام عليكم ادخلوا الجنة: أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلّم عليهم، ولم تبشرهم)) (¬5). وقال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] ففي هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه يثبت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات والشهوات، بالهداية إلى اليقين وتقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على التوحيد، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح، ويضل الله الظالمين عن الصواب في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (11/ 96). (¬2) رواه مسلم (2642). من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. (¬3) رواه الترمذي (2275)، وابن ماجه (3160)، وأحمد (5/ 315) (22740)، والحاكم (2/ 370). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في ((الكافي الشاف)) (144): رجاله ثقات إلا أنه معلول فإن أبا سلمة لم يسمع من عبادة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/ 8)، و (14/ 200). (¬5) ((أضواء البيان)) (3/ 266).

قال البغوي ت516هـ: (قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ: كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يعني قبل الموت وَفِي الآخِرَةِ يعني في القبر، هذا قول أكثر المفسرين، وقيل: في الحياة الدنيا عند السؤال في القبر، وفي الآخرة عند البعث، والأول أصح) (¬1). وروى النسائي ت303هـ بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضياً عنك، إلى روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً، حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض!، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهب به إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله ـ عز وجل ـ؛ فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح! حتى يأتون به أرواح الكفار)) (¬2). وفي سنن ابن ماجه ت 275هـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيّب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فلا يفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك أبواب السماء فيرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر)) (¬3) ... وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن ينْزل به الموت، ويعاين ما يعاين، فودّ لو خرجت ـ يعني نفسه ـ والله يحب لقاءه. فإذا كان عدواً لله نزل به الموت وعاين ما عاين؛ فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبداً، والله يبغض لقاءه ... )) (¬4). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - بتصرف - ص 98 ¬

(¬1) ((تفسير البغوي)) (3/ 33). (¬2) رواه النسائي (4/ 8)، وابن حبان (7/ 284) (3014)، والحاكم (1/ 504). وقال: سنده صحيح، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 212): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬3) رواه ابن ماجه (3456)، وأحمد (2/ 364) (8754)، والطبري في ((مسند عمر)) (2/ 503). وقال: إسناده صحيح، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 333): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال الذهبي في ((العرش)) (29): صحيح على شرط الشيخين. (¬4) رواه البزار (1/ 413)، والطبري في ((مسند عمر)) (2/ 502). وقال: إسناده صحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 55): رجاله ثقات خلا سعيد بن بحر القراطيسي فإني لم أعرفه، وقال السيوطي في ((شرح الصدور)) (134): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2628).

المبحث الرابع: تخيير الأنبياء عند الموت

المبحث الرابع: تخيير الأنبياء عند الموت روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة. وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بُحّة شديدة فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69]، فعلمت أنه خُيّر)) (¬1). وعنها رضي الله عنها قالت: ((كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه، وأخذته بُحّة، يقول: مع الذين أنعم الله عليهم الآية، فظننت أنه خيّر)) (¬2). وفي رواية عنها قالت: ((لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم المرض الذي مات فيه جعل يقول: في الرفيق الأعلى)) (¬3). وفي رواية أخرى قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يُحيّا، أو يُخيّر فلما اشتكى وحضره القبض ـ ورأسه على فخذ عائشة ـ غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى. فقلت: إذاً لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدّثنا وهو صحيح)) (¬4). فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم ((ما من نبي يمرض إلا خُيّر بين الدنيا والآخرة)): أي خيره الله تعالى بين الإقامة في الدنيا والموت؛ لتكون وفادته على الله وفادة محب مخلص مبادر، ولتقاصُر المؤمن عن يقين النبي صلى الله عليه وسلم تولى الله الخيرة في لقائه؛ لأنه وليه، ألا ترى إلى خبر ((ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن)) (¬5)، ففي ضمن ذلك اختيار الله للمؤمن لقاءه؛ لأنه وليه، يختار له فيما لا يصل إليه إدراكه ... ) (¬6). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خيّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر)) (¬7). قال ابن حجر: (فهم عائشة من قوله صلى الله عليه وسلم: ((في الرفيق الأعلى)) أنه خيّر، نظير فهم أبيها رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم ((إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده)) (¬8) أن العبد المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى) (¬9). وقال بدر الدين العيني ت855هـ: ((قول (خُيّر) على صيغة المجهول: أي خيّر بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة صلى الله عليه وسلم)) (¬10). هذه الأحاديث الصحيحة تدل على أنه ما من نبي يمرض إلا خُيّر بين البقاء في الحياة الدنيا والموت. ¬

(¬1) رواه البخاري (4586). (¬2) رواه البخاري (4435). (¬3) رواه البخاري (4436). (¬4) رواه البخاري (4437). (¬5) رواه البخاري (6502). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. بلفظ: ((وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن)). (¬6) ((فيض القدير)) (5/ 501). (¬7) رواه البخاري (3654). (¬8) رواه البخاري (3904)، ومسلم (2382). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬9) ((فتح الباري)) (7/ 13). (¬10) ((عمدة القاري)) (18/ 178).

وقد ثبت أن ملك الموت عليه السلام جاء إلى موسى عليه السلام فخيره بين الموت والحياة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((جاء ملك الموت إلى موسى، فقال له أجب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله عز وجل، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فردّ إليه عينه، قال: ارجع إلى عبدي فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرةٍ فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، قال: ربّ أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)) (¬1). هذا الحديث ثابت، وقد أنكره بعض المبتدعة قائلين: إن كان موسى عليه السلام عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فلماذا لم تقتص له من فقء عينه؟ قال بعض أهل العلم: إن الله لم يبعث ملك الموت لموسى، وهو يريد قبض روحه حينئذٍ، وإنّما بعثه إليه اختباراً، فلطمه موسى عليه السلام لأنه رأى آدمياً داخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، فقد جاء في رواية ((كان ملك الموت يأتي الناس عياناً فأتى موسى فلطمه ... )) (¬2)، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة البشر فلم يعرفاهم ابتداء، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذنه، كما جاء في الحديث: ((من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه)) (¬3)، وعلى فرض أنه عرفه فلا دليل على مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر، ولا دليل على أن ملك الموت طلب القصاص من موسى فلم يقتص له، ثم رد الله عين ملك الموت ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله فلهذا استسلم حينئذ (¬4). ونقل النووي أنه لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة امتحاناً للملطوم (¬5). وقال ابن حجر: (وقال غيره -أي غير النووي-: إنما لطمه؛ لأنه جاء لقبض روحه من قبل أن يخيره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخير، فلهذا لما خيره في المرة الثانية أذعن، قيل: وهذا أولى الأقوال بالصواب، وفيه نظر؛ لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لم أقدم ملك الموت على قبض نبي الله وأخل بالشرط؟ فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحاناً، وزعم بعضهم أن معنى قوله (فقأ عينه) أي أبطل حجته، وهو مردود بقوله في نفس الحديث (فرد الله عينه)، وبقوله (لطمه وصكّه) وغير ذلك من قرائن السياق ... ، ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية؛ ليرجع إلى موسى على كمال الصورة، فيكون ذلك أقوى في اعتباره) (¬6). وكذا ذكر المناوي ت1031هـ أن موسى عليه السلام لطم موسى عليه الصلاة والسلام لما جاءه؛ لكونه لم يخير قبل ذلك (¬7). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - ص 143 ¬

(¬1) رواه البخاري (3407)، ومسلم (2372). (¬2) رواه أحمد (2/ 533) (10917)، والحاكم (2/ 632). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 207): رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح. والحديث أصله في الصحيحين. (¬3) رواه مسلم (2158). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) انظر: ((شرح السنة)) (5/ 266، 267)، و ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (15/ 129)، و ((فتح الباري)) (6/ 442)، و ((البداية والنهاية)) (1/ 296). (¬5) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (15/ 129). (¬6) ((فتح الباري)) (6/ 442، 443). (¬7) انظر: ((فيض القدير)) (5/ 501).

المبحث الخامس: حال الكفار عند الموت

المبحث الخامس: حال الكفار عند الموت أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن حال توفي الملائكة الكفارَ، وذلك بأن الملائكة يضربون وجوه الكفار وأدبارهم، ويبشرونهم بعذاب الحريق، قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال: 50، 51]. قال ابن كثير: (يقول تعالى ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فظيعاً منكراً؛ إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون: لهم: ذوقوا عذاب الحريق) (¬1). وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 27، 28]، أي كيف حال الكفار إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعاصت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة وهم باسطوا أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم، يقولون لهم أخرجوا أنفسكم (¬2). والخبر الوارد في سورة الأنفال نزل في وصف وفاة الكفار يوم بدر إلا أنه وصف عام لوفاة الكفار في كل وقت، قال ابن كثير في تفسيره للآية السابقة: (وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر؛ ولهذا لم يخصصه الله تعالى بأهل بدر، بل قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال: 50 - 51]. وفي سورة القتال (محمد) مثلها، ... وفي سورة الأنعام قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الأنعام: 93]، أي باسطوا أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم؛ إذ استصعبت أنفسهم وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً، وذلك إذا بشروهم بالعذاب والغضب من الله، كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتفرق في بدنه، فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود من الصوف المبلول، فتخرج معها العروق والعصب؛ ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم ذوقوا عذاب الحريق) (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 305). (¬2) انظر: ((تفسير الطبرى)) (7/ 182)، و ((تفسير ابن كثير)) (4/ 182). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 305).

ويشهد له قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف: 37]، ففي هذه الآية يخبر سبحانه وتعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبض أرواحهم ويقولون لهم: أين الذين كنتم تشركون بهم في الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله ادعوهم يخلصونكم مما أنتم فيه الآن من الفزع والموت الواقع بكم، قالوا: ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ولا ضرهم، وأقروا واعترفوا على أنفسهم بالكفر والضلال (¬1). وكذلك قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل: 28، 29]. فالله سبحانه وتعالى يخبر في هذه الآية أن المشركين الظالمين لأنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة يظهرون السمع والطاعة قائلين مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ فقال الله مكذباً لهم بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي بئس المقيل والمقام من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها؛ فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم (¬2). فقوله تعالى فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي: الاستسلام والخضوع، والمعنى أنهم أظهروا الطاعة والانقياد، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق، فالمشركون في الدنيا يشاقون الرسل ويخالفونهم ويعادونهم؛ فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم وخضعوا وانقادوا، وذلك عندما يعاينون الموت أو يوم القيامة، ولكن لا ينفعهم ذلك؛ لأن الانقياد عند معاينة الموت لا ينفع (¬3). وقد توعد الله تعالى في كتابه العزيز من تركوا الهجرة مع قدرتهم عليها حتى ماتوا بأن الملائكة الذين يقبضون أرواحهم يوبخونهم توبيخاً عظيماً، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا [النساء: 97، 98]. ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) (8/ 127)، و ((تفسير ابن كثير)) (2/ 23). (¬2) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 548). (¬3) انظر: ((أضواء البيان)) (3/ 259، 260).

قال الطبري في تفسير هذه الآية: (إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة ظالمي أنفسهم، يعني مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه ... ، قالت الملائكة لهم فِيمَ كُنْتُمْ في أي شيء كنتم من دينكم، قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ يعني قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: كنا مستضعفين في الأرض، يستضعفنا أهل الشرك بالله، في أرضنا وبلادنا ... معذرة ضعيفة وحجة واهية، قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم .. ، وذُكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم، التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله، خبراً عنهم: قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ ... ) (¬1). وقال السعدي: (قوله فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ... فيه ذكر بيان السبب الموجب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه، وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع، وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من أكبر الكبائر) (¬2). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - ص 91 وقد جاء صريحاً في كتاب الله تعالى أن الملائكة تبشر الكافر بالعذاب، قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93]. أي: أن الملائكة يبسطون أيديهم بالضرب والعذاب للملائكة حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم؛ وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم فتتفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي اليوم تهانون غاية الإهانة بسبب تكذيبكم على الله واستكباركم على اتباع آياته والانقياد لرسله (¬3). يقول الطبري في تفسير هذه الآية: (وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عما تقول رسل الله التي تقبض أرواح هؤلاء الكفار لها، يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها أخرجوا أنفسكم إلى سخط الله ولعنته؛ فإنكم اليوم تثابون على كفركم بالله، وقيلكم عليه الباطل وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوح إليكم شيئاً، وإنذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً، واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله والانقياد لطاعته، عذاب الهون وهو عذاب جهنم الذي يهينهم فيذلهم حتى يعرفوا صغار أنفسهم وذلتها) (¬4). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (5/ 147، 148)، وانظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 469). (¬2) ((أضواء البيان)) (ص: 159، 160). (¬3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 149). (¬4) ((تفسير الطبري)) (7/ 183).

ويقول ابن القيم: (فقول الملائكة: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ المراد به عذاب البرزخ، الذي أوله يوم القبض والموت) (¬1). وأخبر سبحانه وتعالى عن حالهم حين الاحتضار، في سورة أخرى، بقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال: 50 - 51] فالله جل وعلا يخاطب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قائلاً له: (ولو تعاين يا محمد حين يتوفى الملائكة أرواح الكفار فتنْزعها من أجسادهم، تضرب الوجوه منهم والأستاه، ويقولون لهم ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم .. ، ذوقوا عذاب الله الذي يحرقكم، هذا العذاب لكم بما قدمت أيديكم، أي بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار، واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم، فذوقوا اليوم العذاب، وفي معادكم عذاب الحريق) (¬2). يقول ابن القيم: (فهذه الإذاقة هي في البرزخ وأولها حين الوفاة؛ فإنه معطوف على قوله يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف مقولة لدلالة الكلام عليه كنظائره، وكلاهما واقع وقت الوفاة) (¬3). والأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على بشارة الملائكة الكفار بالعذاب، وحزنهم بذلك كثيرة ... أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد 124 - ص 106 ¬

(¬1) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 72). (¬2) ((تفسير الطبري)) (10/ 16، 17). (¬3) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 72).

المبحث السادس: حال الروح بعد فراق البدن

المبحث السادس: حال الروح بعد فراق البدن عن أبي هريرة عند مسلم قال: ((إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان – يُصعدانها. قال حماد: فذكر من طيب ريحها، وذكر المسك قال: ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عز وجل، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل ". قال: " وإنّ الكافر إذا خرجت روحه – قال حماد: وذكر من نتنها، وذكر لعناً – ويقول أهل السماء: روح خبيثة من قبل الأرض، قال: فيقال: انطلقوا به آخر الأجل)) (¬1). وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء التكريم الذي يكون لروح العبد الصالح بعد خروجها من جسده، حيث تصلي ملائكة الله على تلك الروح الطيبة، وتفتح له أبواب السماء، وتجعل في كفن من الجنة وحنوط من الجنة، وتخرج منها روائح طيبة عطرة تفوق رائحة المسك، ثم تأخذها الملائكة في رحلة علوية كريمة، وتفتح لها أبواب السماء، أما الروح الخبيثة، فتلعنها ملائكة السماء عند خروجها، وتغلق أبواب السماء دونها، ويدعو كل فريق من ملائكة الرحمن على باب ألا تعرج من قبلهم وتجعل تلك الروح الخبيثة في حنوط من النار وكفن من النار، وتفوح منها الروائح الخبيثة التي تؤذي ملائكة الرحمن. ويعرج بها إلى السماء فلا تفتح لها أبواب السماء، فتلقى روحه من شاهق، ففي حديث البراء بن عازب الذي يصف الرسول صلى الله عليه وسلم فيه رحلة الإنسان من الموت إلى البرزخ قال: ((حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج من قبلهم، فإذا أخذها (يعني ملك الموت) لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها، فلا يمرون – يعني – بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان – بأحسن أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ - كِتَابٌ مَّرْقُومٌ - يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين: 19 - 21]، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. .)). وتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح الخبيثة التي نزعت من العبد الكافر أو الفاجر، فقال عنها بعد نزعها: فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن لا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40]. ¬

(¬1) رواه مسلم (2872).

فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى ثم يقول: أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء، طرحاً (حتى تقع في جسده)، ثم قرأ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31]، فتعاد روحه إلى جسده)) (¬1). وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً، قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، وربّ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقول: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى فإذا كان الرجل السُّوءُ: قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغسّاق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لَكِ أبواب السماء، فيرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر. .. )) (¬2). القيامةالصغرى لعمر الأشقر - ص 37 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 50): هو في (الصحيح) وغيره باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه ابن ماجه (3456)، وأحمد (2/ 364) (8754)، والطبري في ((مسند عمر)) (2/ 503). وقال: إسناده صحيح، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 333): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال الذهبي في ((العرش)) (29): صحيح على شرط الشيخين.

الفصل الخامس: أهوال القبور

المبحث الأول: هول القبر وفظاعته روى هانئ مولى عثمان بن عفان، قال: ((كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى، حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه)) أخرجه الترمذي (¬1)، ولما كان ما بعد القبر أيسر منه لمن نجا فإن العبد المؤمن إذا رأى في قبره ما أعد الله له من نعيم يقول: ((رب عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي)) (¬2) والعبد الكافر الفاجر إذا رأى ما أعد الله له من العذاب الشديد فإنه يقول على الرغم مما هو فيه من عذاب: ((رب لا تقم الساعة)) (¬3)، لأن الآتي أشدُّ وأفظع. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 41 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2308)، وابن ماجه (3461)، وأحمد (1/ 63) (454)، والحاكم (4/ 366). قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث هشام بن يوسف، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 192). (¬2) جزء من حديث رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 295) (18637). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 50): هو في (الصحيح) وغيره باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬3) جزء من حديث رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 295) (18637). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 50): هو في (الصحيح) وغيره باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

المبحث الثاني: ظلمة القبر

المبحث الثاني: ظلمة القبر ((ماتت امرأة كانت تَقُمُّ المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ففقدها الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنها ماتت من الليل، ودفنوها، وكرهوا إيقاظه، فطلب من أصحابه أن يدلوه على قبرها، فجاء إلى قبرها فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم)) (¬1). القيامة الصغرى لعمر الأشقر - ص 42 ¬

(¬1) رواه البخاري (458)، ومسلم.

المبحث الثالث: ضمة القبرة

المبحث الثالث: ضمَّة القبرة عندما يوضع الميت في القبر فإنه يضمه ضمة لا ينجو منها أحد كبيراً كان أو صغيراً، صالحاً أو طالحاً، فقد جاء في الأحاديث أن القبر ضم سعد بن معاذ، وهو الذي تحرك لموته العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، ففي (سنن النسائي) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه)) (¬1). وفي (مسند الإمام أحمد) عن ابن عمر أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياً منها نجا سعد بن معاذ)) رواه أحمد في مسنده (¬2). وفي (معجمي الطبراني الكبير والأوسط) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لو نجا أحد من ضمة القبر، لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضمَّ ضمة، ثم رخي عنه)) (¬3). ومما يدل على أن ضمة القبر لازمة لكل إنسان أن الصبيان لا ينجون منها، ففي (معجم الطبراني الكبير) عن أبي أيوب الأنصاري بإسناد صحيح وهو في (معجمه الأوسط)، وفي (الكامل) لابن عدي عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أفلت أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي)) (¬4). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 43 ¬

(¬1) رواه النسائي (4/ 100)، والطبراني (6/ 10) (5340). قال النووي في ((الخلاصة)) (2/ 1042): إسناده صحيح، وقال السيوطي في ((اللآلئ المصنوعة)) (1/ 436): أصله صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬2) (6/ 98) (24707)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 358) (396). من حديث عائشة رضي الله عنها وليس من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الهيثمى (3/ 46): رواه أحمد عن نافع عن عائشة وعن نافع عن إنسان عن عائشة، وكلا الطريقين رجالها رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2180). (¬3) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (10/ 334) (10849)، وفي ((المعجم الأوسط)) (6/ 349) (6593). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 49): رجاله موثقون، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5306). (¬4) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (4/ 121) (3859)، وفي ((المعجم الأوسط)) (3/ 146) (2753)، وابن عدي في ((الكامل)) (2/ 322). وقال: [فيه] ثمامة بن عبد الله عن أنس وهو صالح فيما يرويه عنه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 50): رجاله موثقون، وقال ابن حجر في ((المطالب العالية)) (5/ 97): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5307).

المبحث الرابع: فتنة القبر

المطلب الأول: كيف تكون فتنة القبر؟ إذا وضع العبد في قبره جاءته ملائكة على صورة منكرة، ففي سنن الترمذي ((إذا قبر الميت – أو قال: أحدكم – أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، فيقولان، ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول، هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. . وإن كان منافقاً، قال: سمعت الناس يقولون قولاً، فقلت مثله، لا أدري ... )) (¬1). وجاء في الحديث الذي يرويه البراء بن عازب عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [إبراهيم: 27]، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، وقال في العبد الكافر أو الفاجر: ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد، فيقول: هاه، هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، قال: فيقولان: لا دريت ولا تلوت فينادي منادي أن كذب عبدي)) (¬2). وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم، إذا انصرفوا: أتاه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟ فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله .. ، وأما الكافر أو المنافق، وفي رواية: وأما الكافر والمنافق – فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت، ولا تليت .. )) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (¬3). ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم في أول الأمر أن هذه الأمة تفتن في قبورها، ثم أوحى الله له بهذا العلم، فقد حدث عروة بن الزبير عن خالته عائشة، قالت: ((دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي امرأة من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنما تفتن اليهود. قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شعرت أنه أوحي إليَّ أنَّكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد: يستعيذ من عذاب القبر)) (¬4). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 44 ¬

(¬1) رواه الترمذي (1071). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: حسن غريب، وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 119) رجاله رجال مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 115) كما قال ذلك في المقدمة. (¬2) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 50): هو في (الصحيح) وغيره باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (1374)، ومسلم (2870)، وأبو داود (2897)، والنسائي (4/ 97). (¬4) رواه مسلم (584).

المطلب الثاني: هل يفتن الكافر في قبره؟

المطلب الثاني: هل يفتن الكافر في قبره؟ دلت الأحاديث ... على أن الكفار يفتنون في قبورهم، وقد خالف في ذلك الحكيم الترمذي وابن عبد البرّ والسيوطي (¬1)، واحتج الحكيم الترمذي على عدم السؤال بأن الأمم الماضية إن رفضت الاستجابة لرسلها عوجلت بالعذاب، بخلاف هذه الأمة، فقد أمسك عنها العذاب، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيف، فمن دخل في الإسلام مخافة القتل، ثم نافق عذب في قبره، وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن الله لم يهلك مكذبي الأمم بعد نزول التوراة (¬2)، واحتج ابن عبد البرّ بقوله عليه السلام في الحديث الصحيح: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها)) (¬3)، ومنهم من يرويه: تسأل، والأحاديث الصحيحة ترد هذا الفهم، وتدل على أن هذا ليس خاصاً بالمؤمنين، وليس خاصاً بهذه الأمة (¬4). وقد ذهب إلى أن السؤال عام عبد الحق الإشبيلي، وابن القيم، والقرطبي، والسفاريني وغيرهم (¬5). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 46 ¬

(¬1) انظر: ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (2/ 10). (¬2) انظر: ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (2/ 10). (¬3) رواه مسلم (2867). من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. (¬4) ((التمهيد)) (22/ 253). (¬5) انظر: ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (2/ 10)، و ((التذكرة)) للقرطبي (ص: 147).

المطلب الثالث: هل يفتن غير المكلفين؟

المطلب الثالث: هل يفتن غير المكلفين؟ الفتنة عامة لجميع المكلفين إلا النبيين فقد اختلف فيهم (¬1)، وإلا الشهداء والمرابطين ونحوهم. ممن جاءت النصوص دالة على نجاتهم من الفتنة ... واختلف في غير المكلفين من الصبيان والمجانين، فذهب جمع من العلماء إلى أنهم لا يفتنون، منهم: القاضي أبو يعلى وابن عقيل، ووجهة نظر هؤلاء أن المحنة تكون لمن كلف، أما من رفع عنه القلم فلا يدخل في المحنة، إذ لا معنى لسؤاله عن شيء لم يكلف به. وقال آخرون: بل يفتنون. وهذا قول أبي الحكيم الهمداني، وأبي الحسن بن عبدوس، ونقله عن أصحاب الشافعي، وقد روى مالك وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على الطفل، فقال: ((اللهم قه عذاب القبر وفتنة القبر)) (¬2) وهذا القول موافق لقول من قال: إنهم يمتحنون في الآخرة، وأنهم مكلفون يوم القيامة، كما هو قول أكثر أهل العلم وأهل السنة من أهل الحديث والكلام، وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد (¬3). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 47 ¬

(¬1) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 257). (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 257 - 277).

الفصل السادس: عذاب القبر ونعيمه

المبحث الأول: أحاديث عذاب القبر ونعيمه متواترة يقول شارح الطحاوية: (وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، بل إن الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عودة الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا) (¬1). وقال في موضع آخر: (واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وما ورد من إجلاسه، واختلاف أضلاعه ونحو ذلك، فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير) (¬2). وأنكرت الملاحدة ومن تمذهب بمذهب الفلاسفة من الإسلاميين عذاب القبر، وقالوا: ليس له حقيقة، واحتجوا لذلك بأنهم يفتحون القبور فلا يرون شيئاً مما أخبرت به النصوص (¬3). وأنكره أيضاً الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمرو وبشر المريسي، وخالفهم جميع أهل السنة، وأكثر المعتزلة (¬4). وهؤلاء كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وقد ظن هؤلاء أن أبصارهم يمكن أن ترى كل شيء، وأن أسماعهم يمكن أن تسمع كل شيء، ونحن اليوم نعلم من أسرار الكون ما كانت أسماعنا وأبصارنا عاجزة عن سماعه ورؤيته، ومن آمن بالله صدَّق خبره. وقد وردت إشارات في القرآن تدل على عذاب القبر، وقد ترجم البخاري في كتاب الجنائز لعذاب القبر، فقال: باب ما جاء في عذاب القبر، وساق في الترجمة قوله تعالى: إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعام: 93]، وقوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة: 101]. وقوله تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ - النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 45 - 46]. والآية الأولى التي ساقها البخاري إنما هي في تعذيب الملائكة الكفار في حال الاحتضار ... ، والآية الثانية تدل على أن هناك عذابين سيصيبان المنافقين قبل عذاب يوم القيامة، العذاب الأول ما يصيبهم الله به في الدنيا إما بعقاب من عنده وإما بأيدي المؤمنين، والعذاب الثاني عذاب القبر، قال الحسن البصري: سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ [التوبة: 101]: (عذاب الدنيا، وعذاب القبر) (¬5)، وقال الطبري: (والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل أحد ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل والإذلال أو غير ذلك) (¬6). ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 276). (¬2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 268). (¬3) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (ص: 125). (¬4) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 233). (¬5) رواه الطبري في تفسيره (14/ 443). (¬6) انظر: ((تفسير الطبري)) (14/ 442).

والآية الثالثة حجة واضحة لأهل السنة الذين أثبتوا عذاب القبر، فإن الحق تبارك وتعالى قرر أن آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً، وهذا قبل يوم القيامة، لأنه قال بعد ذلك: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46]، قال القرطبي: (الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر) (¬1). ومن الإشارات القرآنية الواضحة الدالة على فتنة القبر وعذابه قوله تبارك وتعالى: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم: 27] ففي الحديث الذي يرويه البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقعد المؤمن في قبره أتى ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم: 27]، وفي رواية أخرى: وزاد: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ [إبراهيم: 27] نزلت في عذاب القبر)) (¬2). وقد روت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها: ((أن اليهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال: نعم، عذاب القبر. قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى إلا تعوذ من عذاب القبر)) (¬3). زاد غندر: ((عذاب القبر حق)) رواه البخاري (¬4). وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((دخلت عليَّ عجوزان من عُجُز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتهما، ولم أنعم أن أصدقهما، فخرجتا، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا عليَّ، فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقتا، إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم " قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر)) (¬5). ولعظم هذا الأمر وخطورته كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه لأصحابه، بل وخطب فيهم مرة به، ففي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: قالت: ((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة " رواه البخاري (¬6). والنسائي، وزاد النسائي: ((حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكنت ضجتهم، قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله لك، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر قوله؟ قال: قد أوحى إلي: أنكم تفتنون في القبور قريباً من فتنة الدجال)) (¬7). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 48 ¬

(¬1) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 233). (¬2) رواه البخاري (1369). (¬3) رواه البخاري (1372). (¬4) رواه البخاري (1373). (¬5) رواه مسلم (586). ورواه البخاري (6366). (¬6) رواه البخاري (1373). (¬7) رواه النسائي (4/ 103). وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).

المبحث الثاني: سماع الرسول صلى الله عليه وسلم أصوات المعذبين

المبحث الثاني: سماع الرسول صلى الله عليه وسلم أصوات المعذبين وقد أعطى الله رسوله القدرة على سماع المعذبين في قبورهم، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة له، ونحن معه، إذ حادت به، فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)) (¬1). وفي صحيح البخاري ومسلم وسنن النسائي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس، فسمع صوتاً، فقال: يهود تعذب في قبورها)) (¬2). ويدل على سماع الرسول صلى الله عليه وسلم للمعذبين في قبورهم الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير .. )) الحديث (¬3). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 52 ¬

(¬1) رواه مسلم (2867). (¬2) رواه البخاري (1375)، ومسلم (2869)، والنسائي (4/ 102). (¬3) رواه البخاري (6055)، ومسلم (292).

المبحث الثالث: سماع غير الرسول صلى الله عليه وسلم أصوات المعذبين

المبحث الثالث: سماع غير الرسول صلى الله عليه وسلم أصوات المعذبين لم يزل بعض الناس يتحدثون عن سماعهم أو رؤيتهم للمعذبين في قبورهم، ومن هؤلاء ثقات أعلام لا مطعن في دينهم وأمانتهم، يقول ابن تيمية في ذلك: (قد يكشف لكثير من أبناء زماننا يقظة ومناماً، ويعلمون ذلك ويتحققونه، وعندنا من ذلك أمور كثيرة) (¬1). وقال في موضع آخر في معرض رده على المكذبين بعذاب القبر: (وإذا عرف أن النائم يكون نائماً وتقعد روحه وتقوم وتمشي، وتذهب وتتكلم وتفعل أفعالاً وأموراً بباطن بدنه مع روحه، ويحصل لبدنه وروحه بها نعيم وعذاب، مع أن جسده مضطجع، وعينيه مغمضة، وفمه مطبق، وأعضاؤه ساكنة، وقد يتحرك لقوة الحركة الداخلة، وقد يقوم ويمشي ويتكلم ويصيح، لقوة الأمر في باطنه، كان هذا مما يعتبر به أمر الميت في قبره، فإن روحه تقعد، وتجلس، وتسأل، وتنعم، وتعذب، وتصيح وذلك متصل ببدنه، مع كونه مضطجعاً في قبره، وقد يقوى ذلك حتى يظهر ذلك في بدنه، وقد يرى خارجاً من قبره، والعذاب عليه، وملائكة العذاب موكلة به، فيتحرك بدنه، ويمشي ويخرج من قبره، وقد سمع غير واحد أصوات المعذبين في قبورهم، وقد شوهد من يخرج من قبره وهو معذب، ومن يقعد بدنه أيضاً إذا قوي الأمر، لكن ليس هذا لازماً في حق كل ميت، كما أن قعود بدن النائم لما يراه، ليس لازماً لكل نائم، بل هو بحسب قوة الأمر) (¬2). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 53 ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (24/ 376). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (5/ 525).

المبحث الرابع: صفة نعيم القبر وعذابه

المبحث الرابع: صفة نعيم القبر وعذابه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب أن الملائكة تسأل العبد المؤمن في قبره فيحسن الإجابة وعند ذاك: ((ينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، قال: ويأتيه (وفي رواية: يمثل له) رجل حسن الوجه حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، (أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم) هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: (وأنت فبشرك الله بخير) من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح (فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً)، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة، قال: ربِّ عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن)) (¬1). وذكر صلوات الله عليه وسلامه أن العبد الكافر أو الفاجر بعد أن يسيء الإجابة ((ينادي منادٍ في السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه (وفي رواية: ويمثل له) رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: (وأنت فبشرك الله بالشر)، من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، (فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله)، (فجزاك الله شراً، ثم يقيض الله له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة، لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار)، فيقول: رب لا تقم الساعة)) (¬2). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 300). من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال البيهقي: هذا حديث صحيح الإسناد. وحسنه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 280)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 116) كما أشار لذلك في مقدمته، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 295) (18637). من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 50): هو في (الصحيح) وغيره باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

وفي حديث أنس: أن العبد المؤمن إذا أجاب الإجابة الصادقة في قبره، ((يقال له: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً، قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره)) وذكر في حديث أنس أن الكافر والمنافق بعد أن يجيب في قبره تلك الإجابة الكاذبة، يقال له: ((لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين)) أخرجه البخاري ومسلم (¬1)، ولفظ الحديث للبخاري، ولمسلم: ((إن العبد إذا وضع في قبره))، ثم ذكر نحواً مما تقدم إلى قوله: ((وذكر لنا: أنه يفسح فيه سبعين ذراعاً، ويملأ عليه خضراً إلى يوم تبعثون)) (¬2)، وفي رواية لأبي داود أن العبد المؤمن بعد أن يسأل ويجيب: ((ينطلق به إلى بيت كان له في النار، فيقول له: هذا كان لك، ولكن الله عصمك، فأبدلك به بيتاً في الجنة، فيراه، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن)) (¬3). وهذا الذي أشارت إليه الأحاديث من أنَّ كل إنسان يعرض عليه مقعده بعد أن يسأل في قبره مستمر طيلة بقائه في القبر، وقد صرح بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)) (¬4). وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملكين يقولان للعبد المؤمن بعد أن يجيب الإجابة السديدة: ((قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم، فيقول، أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وأنهما يقولان للمنافق: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)) (¬5). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 54 قال الإمام الطحاوي: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم. والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران). قال الشارح: قال تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45 - 46]. وقال تعالى: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الطور:45 - 47] ,. وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر، لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا، أو المراد أعم من ذلك. ¬

(¬1) رواه البخاري (1374)، ومسلم (2870). (¬2) رواه مسلم (2870). (¬3) رواه أبو داود (4751). وسكت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) رواه البخاري (1379)، ومسلم (2866). (¬5) رواه الترمذي (1071). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: حسن غريب، وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 119) رجاله رجال مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 115) كما قال ذلك في المقدمة.

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وهو يلحد له، فقال: ((أعوذ بالله من عذاب القبر، ثلاث مرات، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه الملائكة، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها، يعني على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب، أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت، فوجهك الوجه

(الذي) يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول رب لا تقم الساعة)) (¬1). وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من (الصحيح). فذكر البخاري رحمه الله عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبدالله ورسوله، فيقول له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعا. قال قتادة: وروي لنا أنه يفسح له في قبره)) (¬2) وذكر الحديث. وفي (الصحيحين) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة، فشقها نصفين، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)) (¬3). وفي (صحيح أبي حاتم) عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا قبر أحدكم، أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، وللآخر: النكير)) (¬4) وذكر الحديث إلخ. وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا تتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذا الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول. فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 2/ 572 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 50): هو في (الصحيح) وغيره باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (1374)، ومسلم (2870). (¬3) رواه البخاري (1361)، ومسلم (292). (¬4) رواه ابن حبان (7/ 386). والحديث رواه الترمذي (1071). وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 115): - كما أشار لذلك في مقدمته - والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((صحيح ابن حبان)): إسناده قوي.

المبحث الخامس: أسباب عذاب القبر

تمهيد قال القرطبي: (قال أبو محمد عبد الحق: اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين، ولا موقوفاً على المنافقين، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين، وكل على حاله من عمله، وما استوجبه من خطيئته وزلله) (¬1)، والأدلة على أن المؤمن قد يعذب في قبره بسبب ذنوبه كثيرة ... (الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور على قسمين: مجمل ومفصّل، أمّا المجمل فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره وارتكابهم معاصيه) (¬2). أما المفصل فإن النصوص ذكرت منه الكثير، وسنشير إلى ما اطلعنا على ذكره في الأحاديث القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر – بتصرف - ص 56 ¬

(¬1) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (ص: 146). (¬2) ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (2/ 17).

المطلب الأول: من أسباب عذاب القبر عدم الاستتار من البول، والنميمة

المطلب الأول: من أسباب عذاب القبر عدم الاستتار من البول، والنميمة روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أمّا أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، ثم قال: ثم أخذ عوداً رطباً فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر، ثم قال: لعله يخفف عنهما، ما لم ييبسا)) (¬1). وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخلت عليَّ امرأة من اليهود، فقالت: إن عذاب القبر من البول، فقلت: كذبت، فقالت: بلى، إنا لنقرض منه الجلد والثوب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وقد ارتفعت أصواتنا، فقال: ما هذا؟ فأخبرته بما قالت فقال: صدقت. قالت: فما صلى بعد يومئذ إلا قال دبر كل صلاة: ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أعذني من حرّ النار وعذاب القبر)) (¬2). وهذا الذي أشار إليه الحديث من أن بني إسرائيل كانوا يقرضون من البول الجلد والثوب – هو من الدين الذي شرعه الله لهم، ولذلك لما نهاهم عن فعل ذلك أحدهم عذب في قبره بسبب نهيه، ففي حديث عبد الرحمن بن حسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل، كانوا إذا أصابهم البول قطعوا ما أصابه البول منهم، فنهاهم عن ذلك، فعذب في قبره)) (¬3). وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عامة عذاب القبر من البول، فقد روى أنس رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه)) (¬4)، ورواه ابن عباس بلفظ: ((عامة عذاب القبر من البول، فتنزهوا منه)) (¬5) ورواه أبو هريرة بلفظ: ((أكثر عذاب القبر من البول)) (¬6). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 57 ¬

(¬1) رواه البخاري (218)، ومسلم (292). (¬2) رواه النسائي (3/ 72). وضعف إسناده الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬3) رواه أبو داود (22)، والنسائي (1/ 26)، وابن ماجه (281)، وأحمد (4/ 196) (17793)، وابن حبان (7/ 397) (3127)، والحاكم (1/ 294). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ومن شرط الشيخين، وصححه النووي في ((الخلاصة)) (1/ 158)، والعيني في ((عمدة القاري)) (8/ 211). (¬4) رواه الدارقطني (1/ 311). وقال: المحفوظ مرسل، وقال الذهبي في ((تنقيح التحقيق)) (1/ 129): إسناده وسط، وحسن إسناده ابن الملقن في ((تحفة المحتاج)) (1/ 217)، وابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 57). (¬5) رواه عبد بن حميد (ص: 215)، والبزار (11/ 170)، والطبراني (11/ 79) (11104)، والدارقطني (1/ 315)، والحاكم (1/ 293). قال البزار: روي من غير وجه بألفاظ مختلفة، وصححه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (13/ 189)، وقال الدارقطني: لا بأس به. (¬6) رواه ابن ماجه (283)، وأحمد (2/ 389) (9047)، والدارقطني (1/ 314)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 114). قال الدارقطني: صحيح، وقال المنذري: صحيح على شرط الشيخين، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 60): هذا إسناد صحيح رجاله عن آخرهم محتج بهم في الصحيحين.

المطلب الثاني: الغلول

المطلب الثاني: الغلول ومن الذنوب التي يعذب صاحبها في القبر الغلول، وقد صح في ذلك أكثر من حديث، فعن أبي هريرة، قال: ((أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً يقال له: مِدْعم، فبينما مدعم يحط رحلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه سهم عائر، فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً. فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " شراك من نار أو شراكان من نار)) متفق عليه (¬1). وعن عبد الله بن عمرو قال: ((كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كَرْكرة، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلّها)) رواه البخاري (¬2). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 58 ¬

(¬1) رواه البخاري (6707)، ومسلم (115). (¬2) رواه البخاري (3074).

المطلب الثالث: الكذب، هجر القرآن، الزنا، الربا

المطلب الثالث: الكذب، هجر القرآن، الزنا، الربا أرى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنواعاً مما يعذب به بعض العصاة، ففي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال: فإن رأى أحد قصها، فيقول ما شاء الله. فسألنا يوماً فقال: هل رأى أحدكم منكم رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس، ورجل قائم بيده كلوب من حديد – قال بعض أصحابنا عن موسى: كلوب من حديد يدخله في شدقه – حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله. قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه. قلت: من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته ناراً، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة. فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، على وسط النهر رجل بين يديه حجارة – قال يزيد ووهب بن جرير عن جرير بن حازم: وعلى شط النهر رجل – فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان. فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل، فيها شيوخ وشباب. قلت: طَوَّفتماني الليلة فأخبراني عما رأيتُ. قالا: نعم. أما الذي رأيته يُشَقُّ شِدْقُه فكذاب يحدّث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يُفعل به إلى يوم القيامة. والذي رأيته في الثقب فهم الزناة. والذي رأيته في النهر آكلوا الربا. والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله أولاد الناس. والذي يوقد النار مالك خازن النار. والدار الأولى التي دخلت عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدارُ الشهداء. وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك. فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب، قالا: ذاك منزلك. قلت: دعاني أدخل منزلي. قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملت أتيت منزلك)) (¬1). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 59 ¬

(¬1) رواه البخاري (1386).

المطلب الرابع: حبس المدين في قبره بدينه

المطلب الرابع: حبس المدين في قبره بدينه ومما يضر الميت في قبره ما عليه من دين، فعن سعد بن الأطول رضي الله عنه: ((أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، قال: فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن أخاك محبوس بدينه، فاذهب فاقض عنه، فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت، قلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة، وليست لها بيِّنه، قال: أعطها فإنها محقة. وفي رواية: صادقة)) (¬1). فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الصحابي محبوس بسبب دينه، ويمكن أن يُفسّر هذا الحبس الحديث الآخر حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنه مأسور بدينه عن الجنة))، ففي الحديث الذي يرويه سمرة بن جندب ((أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، (وفي رواية صلى الصبح)، فلما انصرف قال: أهاهنا من آل فلان أحد؟ (فسكت القوم، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا)، فقال ذلك مراراً، (ثلاث لا يجيبه أحد)، (فقال رجل: هو ذا)، قال: فقام رجل يجر إزاره من مؤخر الناس، (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟) أما إني لم أنوِّه باسمك إلا لخير، إن فلاناً – لرجل منهم – مأسور بدينه (عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله)، فلو رأيت أهله ومن يتحرَّون أمره قاموا فقضوا عنه، (حتى ما أحد يطلبه بشيء)) (¬2). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 61 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (1988) وأحمد (4/ 136) (17266)، وأبو يعلى (3/ 80) (1510)، والطبراني (6/ 46) (5466)، والبيهقي (10/ 142) (20286). قال البوصيري (3/ 71): ليس لسعد هذا عند ابن ماجه سوى هذا الحديث وليس له شيء في الكتب الخمسة وإسناد حديثه صحيح، وقال الهيثمى (4/ 129): فيه عبد الملك بن أبى جعفر وقد ذكره ابن حبان في الثقات ولم أجد من ترجمه، وقال الشوكاني في ((السيل الجرار)) (4/ 495): إسناده رجاله ثقات. (¬2) رواه أبو داود (3341)، والنسائي (7/ 315)، وأحمد (5/ 20) (20244)، والطبراني (7/ 179) (6771). والحديث سكت عنه أبو دواد، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أي داود)).

المطلب الخامس: عذاب الميت ببكاء الحي

المطلب الخامس: عذاب الميت ببكاء الحي ((عندما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه صهيب يبكي، يقول: وا أخاه، واصاحباه، فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت يُعَذَّب ببعض بكاء أهله عليه)) (¬1). وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث، ففي (صحيح البخاري) ((أن ابن عباس ذكر لعائشة ما قاله عمر بعد وفاته، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، حسبكم القرآن وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18])) (¬2)، وقد أولت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أكثر من تأويل، ورد ذلك عنها في الصحاح والسنن (¬3). وها هنا أمران: الأول هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟ قال القرطبي: (إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً، ولم يسمع بعضاً بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح) (¬4). الثاني: كيف يعذب ببكاء أهله عليه، وليس ذلك من فعله، والله يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18]. للعلماء في ذلك أجوبة أحسنها ما قاله البخاري في ترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته، قال رحمه الله تعالى: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته) لقول الله تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته)) (¬5) فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] وممن ذهب هذا المذهب الترمذي رحمه الله، فإنه روى حديث عمر رضي الله عنه بلفظ: ((الميت يعذب ببكاء أهله عليه)) (¬6) ثم قال: (قال أبو عيسى (هو الترمذي): حديث عمر حديث حسن صحيح، وقد كره قوم من أهل العلم البكاء على الميت، قالوا: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وذهبوا إلى هذا الحديث، وقال ابن المبارك: أرجو إن كان ينهاهم في حياته، أن لا يكون عليه من ذلك شيء) (¬7). وهذا الفقه للحديث هو مذهب القرطبي رضي الله عنه، فإنه قال: (قال بعض العلماء أو أكثرهم: إنما يعذب الميت ببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره، كما قال: إذ أنا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد وكذلك إذا وصى به) (¬8). (وقد كان النواح ولطم الخدود وشق الجيوب من شأن أهل الجاهلية، وكانوا يوصون أهاليهم بالبكاء، والنوح عليهم، وإشاعة النعي في الأحياء، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم، وموجوداً في أشعارهم كثيراً، فالميت تلزمه العقوبة في ذلك لما تقدم إليهم في وقت حياته) كذا قال ابن الأثير (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (1286)، ومسلم (927). (¬2) رواه البخاري (1286). (¬3) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 152). (¬4) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 154). (¬5) رواه البخاري (893) مسندا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬6) رواه الترمذي (1002). وقال: حديث عمر حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬7) ((سنن الترمذي)) (3/ 326). (¬8) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (ص: 102). (¬9) ((جامع الأصول في أحاديث الرسول)) (ص: 102).

وينبغي أن ينبه هنا إلى لفظ البخاري، فقد جاء فيه: ((يعذب ببعض بكاء أهله عليه)) (¬1). ولا يعذب بكل البكاء، فالبكاء الذي تدمع فيه العين، ولا شق، ولا لطم معه لا يؤاخذ صاحبه به، وقد جاءت في ذلك نصوص كثيرة. وقد تعرض العلامة ابن تيمية للمسألة وضعف مذهب البخاري والقرطبي وابن عبدالبرَّ ومن سلك مسلكهم في فقه الأحاديث التي أخبرت أن الميت يعذب ببكاء الحي، فقد قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر النصوص الواردة في ذلك: (وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، فهو مخالف لقوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18]، ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة. فمنهم من غلَّط الرواة لها، كعمر بن الخطاب وغيره، وهذه طريقة عائشة والشافعي، وغيرهما. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه، وهو قول طائفة كالمزني، وغيره. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كان عادتهم، فيعذب على ترك النهي عن المنكر، وهو اختيار طائفة منهم جدي أبو البركات، وكل هذه الأقوال ضعيفة جداً) (¬2) وقد رد قول الذين ردوا هذه الأحاديث بنوع من التأويل، فقال: (والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو موسى الأشعري وغيرهم، لا ترد بمثل هذا، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئاً) (¬3). ثم بين رحمه الله تعالى أن عائشة وقعت في مثل ما فرت منه، قال: (وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين – وهي الصادقة فيما نقلته – فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه)) (¬4)، وهذا موافق لحديث عمر، فإنه إذا جاز أن يزيده عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله، ولهذا رد الشافعي في (مختلف الحديث) هذا الحديث نظراً إلى المعنى، وقال الأشبه روايتها الأخرى: ((إنهم يبكون عليه، وإنه ليعذب في قبره)) (¬5) (¬6). ورد قول الذين ظنوا أن الحديث يفيد معاقبة الإنسان بذنب غيره، فقال: (والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه، ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره، وأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، واعتقد هؤلاء أن الإنسان يعاقب بذنب غيره، فجوزوا أن يدخل أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم) (¬7) وبعد أن أطال النفس في هذه المسألة: مسألة دخول أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم، وأن هذا ليس بصواب من القول، وأن الحق أن الله لا يعذب إلا من عصاه، وأن الذين لم يبتلوا يمتحنون في عرصات القيامة، قال: (وأما تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه، بل قال: (يعذب)، والعذاب أعمُّ من العقاب، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السفر قطعة من العذاب، يمْنَعُ أحدكم طعامه وشرابه)) (¬8)، فسمى السفر عذاباً، وليس هو عقاباً. ¬

(¬1) الحديث لفظه لمسلم (927)، ورواه البخاري (1286) بلفظ: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 370). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 370). (¬4) رواه مسلم (929). (¬5) رواه مسلم (931). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 371). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 371). (¬8) رواه البخاري (1804)، ومسلم (1927). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها، مثل الأصوات الهائلة، والأرواح الخبيثة، والصور القبيحة، فهو يتعذب بسماع هذا وشَمِّ هذا، ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملاً له عوقب عليه، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة، وإن لم تكن النياحة عملاً له، يعاقب عليه؟ والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس، ويتألم برؤية بعضهم، وبسماع كلامهم، ولهذا أفتى القاضي أبو يعلى بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها، كما جاءت بذلك الآثار، فتعذبهم بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم، ثم النياحة سبب العذاب) (¬1). وهذا الفقه الذي صار إليه الشيخ العلامة جاءت بعض الأحاديث دالة عليه، فعن النعمان بن بشير، قال: ((أغمي على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه، واكذا، واكذا، تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي، أنت كذلك؟! فلما مات لم تبك عليه)) (¬2)، بل إن هذا المعنى ورد صريحاً في الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ميت يموت، فيقوم باكيه، فيقول: واجبلاه! واسيداه! أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهزانه: أهكذا كنت)) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب (¬3)، وقال الحافظ في (التلخيص) بعد سياقه لهذا الحديث: (ورواه الحاكم وصححه، وشاهده في الصحيح عن النعمان بن بشير) (¬4). وينبغي أن ينبه هنا أنه ليس كل ميت يناح عليه يعذب بالنياح عليه، فقد يندفع حكم السبب بما يعارضه – كما يقول ابن تيمية – كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة، والأرواح والصور الخبيثة. ثم ذكر أن أحاديث الوعيد يذكر فيها السبب، وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك، إما بتوبة مقبولة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بشفاعة شفيع مطاع، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته. وبين في خاتمة كلامه أن ما يصيب الميت المؤمن من عذاب في قبره بما نيح عليه يكفر الله به عن سيئاته (¬5). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 62 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 371). (¬2) رواه البخاري (4268). (¬3) رواه الترمذي (1003). وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/ 385)، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/ 140): ورواه الحاكم وصححه وشاهده في الصحيح عن النعمان بن بشير، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (2/ 140). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 375).

المطلب السادس: عذاب الذي يأخذ القرآن ويرفضه، والنائم عن الصلاة المكتوبة

المطلب السادس: عذاب الذي يأخذ القرآن ويرفضه، والنائم عن الصلاة المكتوبة حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه بطوله، وفيه ((. .. وأنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر، فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى)) ثم جاء البيان في آخر الحديث بقول الملكين للرسول صلى الله عليه وسلم: ((أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة)) (¬1)، وفي رواية ((فيفعل به إلى يوم القيامة)) (¬2). القبر عذابه ونعيمه لحسين العواشيه -ص 25 - 27 ¬

(¬1) رواه البخاري (7047). (¬2) رواه البخاري (1386).

المبحث السادس: الذين يعصمون من فتنة القبر وعذابه

المبحث السادس: الذين يعصمون من فتنة القبر وعذابه بعض المؤمنين من الذين قاموا بأعمال جليلة، أو أصيبوا بمصائب كبيرة يأمنون فتنة القبر وعذابه، فمن هؤلاء: 1 - الشهيد: فقد روى المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده في الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه)) رواه الترمذي وابن ماجه (¬1). وروى النسائي في سننه عن راشد بن سعد بن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)) (¬2). 2 - الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فقد روى فضالة بن عبيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله؟ فإنه ينمي له عمله يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر)) رواه الترمذي وأبو داود (¬3). 3 - الذي يموت يوم الجمعة، ففي الحديث عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)) رواه أحمد والترمذي (¬4)، والحديث صحيح بمجموع طرقه أو حسن. - الذي يموت بداء البطن، وقد ثبت في حديث يرويه عبد الله بن يسار، قال: ((كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً توفي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره؟ فقال الآخر: بلى)) وفي رواية: ((صدقت)) (¬5). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 71 ¬

(¬1) رواه الترمذي (1663)، وابن ماجه (2274). قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وحسنه ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 161)، وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 16) كما قال هذا في المقدمة. (¬2) رواه النسائي (4/ 99). وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬3) رواه أبو داود (2500)، والترمذي (1621)، والحاكم (2/ 88). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 113)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (12/ 429): ثابت وله شواهد. (¬4) رواه الترمذي (1074)، وأحمد (2/ 169) (6582). وقال الترمذي: غريب وليس إسناده متصل، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) رواه النسائي (4/ 98)، وأحمد (4/ 262) (18336)، والطبراني (4/ 190) (4104). وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي))، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (454)، وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن يسار - وهو الجهني - فقد روى له أبو داود والنسائي وهو ثقة.

الفصل السابع: الروح والنفس

تمهيد: لا بدَّ للباحث في أمر الإنسان بعد موته من إعطاء فكرة عن الروح التي تنعم أو تعذب بعد موتها، ما هي؟ وهل لها كيفية تعلم؟ وهل هي جزء من البدن، أم شيء آخر غير البدن؟ فإن كانت غيره فأين مسكنها فيه؟ وهل هي مخلوقة؟ وهل هي واحدة في الإنسان أم متعددة؟ وهل تموت الأرواح، وكيف موتها؟ وأين مستقرها في البرزخ، وهل تعلم الأرواح شيئاً عما يجري في الدنيا من البرزخ؟ يقول ابن تيمية: (والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت) (¬1)، وقد أخطأ الذين فرقوا بين الروح والنفس واعتقدوا أنهما أمران مختلفان، ومن تأمل ... علم أن النفس هي التي تقبضها الملائكة، وتصعد بها إلى السماء، وتعود بها إلى الجسد، وتسأل، وتنعم وتعذب، وهي الروح أيضاً التي إذا خرجت من الجسد تبعها البصر كما ثبت في الأحاديث. وهذا المخلوق الذي تكون به الحياة، وتفقد الحياة بفقده يسمى روحاً ونفساً، ولا يمنع هذا أن تطلق كل من الروح والنفس إطلاقات أخرى، يقول ابن تيمية: (لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان: فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق، وهو الذي تسميه الأطباء الروح، ويسمى الروح الحيواني، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس، ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه، وقد يراد بلفظ النفس الدم الذي يكون في الحيوان، كقول الفقهاء: " ماله نفس سائلة، وما ليس له نفس سائلة " فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح) (¬2). وتطلق الروح أيضاً على جبرائيل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193]، وتطلق على القرآن وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52]. ويلاحظ شارح الطحاوية أن الروح والنفس وإن أطلقا على تلك اللطيفة الربانية، إلا أن (غالب ما يسمى نفساً إذا كانت الروح متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها) (¬3). ويقول ابن تيمية في هذا: (لكن تسمى نفساً باعتبار تدبيره للبدن، وتسمى روحاً باعتبار لطفه، ولهذا يسمى الريح روحاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الريح من روح الله)) (¬4) أي: من الروح التي خلقها الله (¬5). لما كنت الروح مخلوقة من جنس لا نظير له في عالم الموجودات فإننا لا نستطيع أن نعرف صفاتها، فقد عرفنا الله أنها تصعد وتهبط، وتسمع وتبصر وتتكلم إلى غير ذلك، إلا أن هذه الصفات مخالفة لصفات الأجسام المعروفة، فليس صعودها وهبوطها وسمعها وبصرها وقيامها وقعودها من جنس ما نعرفه ونعلمه، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروح يصعد بها إلى السماوات العلى، ثم تعاد إلى القبر، ساعة من الزمن، وقد أخبرنا أنها تنعم أو تعذّب في القبر، ولا شك أن هذا النعيم على نحو مخالف لما نعلمه ونعرفه. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - بتصرف- ص 85 ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (9/ 289). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (9/ 292). (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 444). (¬4) رواه أبو داود (5097)، وأحمد (2/ 267) (7619)، وابن حبان (3/ 287) (1007)، والحاكم (4/ 318). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسن إسناده النووي في ((المجموع)) (5/ 97)، وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (4/ 272): حسن صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا ثابت بن قيس. (¬5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (9/ 290).

المبحث الأول: استقلال الروح عن البدن

المبحث الأول: استقلال الروح عن البدن و (يرى فريق من أهل الكلام المبتدع المحدث من الجهمية والمعتزلة أن الروح جزء من أجزاء البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن) (¬1). (والفلاسفة المشاؤون يقرون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن، لكن يصفون النفس بصفات باطلة فيدعون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلاً، والعقل عندهم مجرد عن المادة وعلائق المادة، والمادة عندهم هي الجسم، والعقل عندهم قائم بنفسه، لا يوصف بحركة ولا سكون، ولا يتجدد له أحوال البتة) (¬2). وقد تخبط هؤلاء وهؤلاء في مقالاتهم في الروح، فأهل الكلام المبتدع المذموم الذين قالوا: إن الروح هي الحياة أو المزاج أو نفس البدن، أنكر كثير منهم عذاب القبر، فليس هناك روح تنعم أو تعذب بعد الموت في البرزخ. ورفضوا النصوص التي أثبتت ذلك. والفلاسفة الذين زعموا أن الروح إذا فارقت البدن تصبح عقلاً، قالوا: (إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال لا علوم ولا تصورات، ولا سمع ولا بصر، ولا إرادات، ولا فرح ولا سرور، ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث، بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلاً وأبداً، كما يزعمونه في العقل والنفس) (¬3). (وفريق من الفلاسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له، ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض) (¬4). والسبب الذي أوقع كلا الفريقين في هذا الخطأ أنهم اعتمدوا على عقولهم وما وضعوه من مقاييس في البحث عن أمر غيبي، فالفريق الأول أنكر وجود روح مستقلة عن البدن، وهذا تكذيب للنصوص المتواترة، وإنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة، والفلاسفة المشاؤون ومن سلك سبيلهم أثبتوا وجود الروح مستقلة عن البدن، ولكن لما كانت هذه الروح (ليست من جنس هذا البدن، ولا جنس العناصر والمولدات منها، بل هي جنس آخر مخالف لهذه الأجناس) (¬5) صعب عليهم تعريفها وتصورها، وضاقت تعبيراتهم ومقاييسهم عن حدها وتصورها. وقد هدى الله الذين استجابوا لله ورسوله، وآمنوا بما أخبرهم به، فعلموا أن (الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي هذا الجسم اللطيف متشابكاً بهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح) (¬6). وقد سقنا في تضاعيف بحثنا كثيراً من الأدلة التي تثبت أن الروح شيء مستقل عن البدن، كقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر: 42]، وقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال: 50]، وقوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [الأنعام: 93]، وقوله: كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 26 - 30]، وقوله: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ [الواقعة: 83 - 84]، فالذي يمسك، وتتوفاه الملائكة، ويبلغ الحلقوم، ويبلغ التراقي، ويساق لا بد أن يكون شيئاً حقيقياً مخالفاً للجسد. وقد سقنا الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ملك الموت يقبض الروح، وأنَّ الملائكة تضع تلك الروح في كفن من الجنة أو النار بحسب فلاحها أو فسادها، وأنَّه يذهب بها في رحلة علوية سماوية، حيث تفتح لها أبواب السماء إن كانت صالحة، وتغلق دونها إن كانت طالحة، وأنها تعاد إلى الجسد، وتسأل وتعذب أو تنعم، وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، وأرواح المؤمنين طير يعلق في شجر الجنة، وأن الروح إذا قبض تبعه البصر، إلى غير ذلك من النصوص الدالة في مجموعها دلالة قاطعة على أن الأرواح شيء آخر غير الأبدان، وأنها تبقى بعد مفارقة البدن. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 88 ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 31). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (9/ 272). (¬3) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (9/ 273). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 31). (¬5) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 32). (¬6) ((الروح)) لابن القيم (ص/178 - 179).

المبحث الثاني: مسكن الروح في الجسد

المبحث الثاني: مسكن الروح في الجسد الروح تسري في بدن الإنسان كله، يقول ابن تيمية: (لا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة) (¬1). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 92 ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (9/ 302 - 303).

المبحث الثالث: الروح مخلوقة

المبحث الثالث: الروح مخلوقة ذهب فريق من الفلاسفة إلى أن الروح غير مخلوقة، بل هي قديمة أزلية، ولكنها ليست من ذات الرب، ومقالتهم في الروح هي مقالتهم في العقول والنفوس الملكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة. وذهب صنف آخر من زنادقة هذه الأمة وضُلالها من المتكلمة والمتصوفة والمحدثة إلى أن الروح من ذات الله، وهؤلاء – كما يقول ابن تيمية – أشرُّ قولاً من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت، وهو روحه، ونصف ناسوت، وهو جسده: نصفه رب ونصفه عبد (¬1). والحق الذي لا ينبغي أن يخالف فيه أن الروح مخلوقة مبتدعة، ويدل على ذلك أمور: 1 - الإجماع: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (روح الآدمي مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم. وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال في (كتاب اللقط) لما تكلم على خلق الروح، قال: النسم الأرواح، قال: وأجمع الناس أن الله خالق الجثة وبارئ النسمة، أي: الروح. وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة، قال: هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب، إلى أن قال: والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة. وصنف الحافظ أبو عبد الله بن منده في ذلك كتاباً كبيراً في (الروح والنفس) وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئاً كثيراً، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى، وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في عيسى ابن مريم، لا سيما في روح غيره كما ذكره أحمد في كتابه في (الرد على الزنادقة والجهمية) (¬2). 2 - الكتاب والسنة: الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على خلقها كثيرة، مثل قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16]، [الزمر: 62]، يقول شارح الطحاوية عقب استدلاله بهذه الآية: (فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما) (¬3) ومن ذلك قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا [الإنسان: 1]، وقوله جل وعلا لزكريا: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم: 9]، والإنسان اسم لروح الإنسان وبدنه، وخطاب الله لزكريا لروحه وبدنه. ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 221 - 222). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 216 - 217). (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 442).

يقول ابن تيمية: (الإنسان عبارة عن البدن والروح معاً، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح، كما قال أبو الدرداء: (إنما بدني مطيتي، فإن رفقت بها بلغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغني)، وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس، قال: (لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن: أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح: أنت أمرتني، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول: إنما مثلكما كمثل مقعد وأعمى دخلا بستاناً، فرأى المقعد فيه ثمراً معلقاً، فقال للأعمى: إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى: لكني أستطيع النهوض إليه، ولكني لا أراه، فقال المقعد: تعال فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمرة، قال المَلَكُ: فعلى أيهما العقوبة؟ قالا: عليهما جميعاً، قال: فكذلك أنتما) (¬1). 3 - ذكرنا في بحثنا هذا كثيراً من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرواح تقبض، وتوضع في كفن وحنوط تأتي بهما الملائكة، ويصعد بها، وتنعم وتعذب، وتمسك في النوم، وترسل، وكل هذا شأن المخلوق المحدث. 4 - لو لم تكن مخلوقة مربوبة لما أقرت بالربوبية، وقد قال الله للأرواح حين أخذ الميثاق على العباد، وهم في عالم الذرّ، ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى (¬2)، وذلك ما قرره الحق في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ... [الأعراف: 172]، وما دام هو ربهم فإنهم مربوبون مخلوقون. 5 - لو لم تكن الأرواح مخلوقة فإن النصارى لا لوم عليهم في عبادتهم عيسى، ولا في قولهم: إنه ابن الله، أو هو الله. - لو كانت الروح غير مخلوقة فإنها لا تدخل النار ولا تعذب، ولا تحجب عن الله، ولا تغيب عن البدن، ولا يملكها ملك الموت، ولما كانت صورة توصف، ولم تحاسب ولم تعذب، ولم تتعبد ولم تخف، ولم ترج، ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ، وأرواح الكفار سود مثل الفحم (¬3). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 93 ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 222 - 223). (¬2) رواه أحمد (1/ 272) (2455)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 347) (11191)، والحاكم (1/ 80). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وقال: صحيح الإسناد، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 83): إسناده جيد قوي على شرط مسلم، وقال الهيثمي (7/ 28): رجاله رجال الصحيح. (¬3) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 220).

المبحث الرابع: شبهات الذين زعموا أن الروح غير مخلوقة

المبحث الرابع: شبهات الذين زعموا أن الروح غير مخلوقة الذين قالوا: إن الروح غير مخلوقة احتجوا بمثل قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85]، والجواب عن هذا من وجوه: الأول: أن الروح هنا ليست روح الآدمي، وإنما هو اسم ملك، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا [النبأ: 38]، وقال: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 4]، وقال: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم [القدر: 4] وهذا قول معروف مشهور عند علماء السلف في تفسير الآية (¬1). الثاني: وإذا قلنا: إن المراد بالروح هنا روح الآدمي – كما هو قول جمع من علماء السلف في الآية – فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة، وأنها جزء من ذات الله تعالى كما يقال هذه الخرقة من هذا الثواب، بل المراد أنها تنسب إلى الله، لأنها بأمره تكونت، أو لأنها بكلمته كانت، والأمر في القرآن يذكر ويراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى، وهو المأمور به، كقوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] أي: المأمور به، ويمكن أن يقال أيضاً: إن لفظة مِنْ في قوله: مِنْ أَمْرِ رَبِّي لابتداء الغاية، ومعلوم أن (من) تأتي لبيان الجنس، كقولهم: باب من حديد، وتأتي لابتداء الغاية، كقولهم: خرجت من مكة، فقوله: مِنْ أَمْرِ رَبِّي ليس نصاً في أن الروح بعض الأمر ومن جنسه، بل هي لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله: وَرُوحٌ مِّنْهُ حيث قال: وَرُوحٌ مِّنْهُ يقول: من أمره كان الروح، كقوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: 13]، ونظير هذا أيضاً قوله تعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: 53]. فإذا كانت المسخرات والنعم من الله، ولم تكن بعض ذاته، بل منه صدرت، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح وَرُوحٌ مِّنْهُ، أنها بعض ذاته (¬2). الشبهة الثانية: قوله تعالى في آدم: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر: 29]، وقوله في عيسى: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا [الأنبياء: 91]، قالوا: فقد أضاف الله الروح إلى نفسه، وقد أجاب عن هذه الشبهة شارح الطحاوية فقال: (ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة، والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذا وجهه ويده سبحانه. والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح كقوله: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس: 13] وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان: 1] وقوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ... [الحج: 26] فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكن إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً، يتميز بها المضاف إلى غيره) (¬3). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 97 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (24/ 176). (¬2) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 226 - 235). (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 442).

المبحث الخامس: هل تموت النفوس

المبحث الخامس: هل تموت النفوس يقول ابن تيمية: (والأرواح مخلوقة بلا شك، وهي لا تعدم ولا تفنى، ولكن موتها بمفارقة الأبدان، وعند النفخة الثانية تعاد الأرواح إلى الأبدان) (¬1). وقد تعرَّض شارح الطحاوية لهذه المسألة، فقال: (واختلف الناس هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة: تموت لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت، .. وإذا كانت الملائكة تموت، فالنفوس البشرية أولى بالموت، وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب، .. وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [الدخان: 56]، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد) (¬2). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 101 ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 279). (¬2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 446).

المبحث السادس: مستقر الأرواح في البرزخ، وهل العذاب على الروح أم على البدن؟

المطلب الأول: مستقر الأرواح في البرزخ أرواح العباد في البرزخ متفاوتة في منازلها، وقد استقرأنا النصوص الواردة في ذلك فأفادتنا التقسيم التالي: أولاً: أرواح الأنبياء، وهذه تكون في خير المنازل في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى، وقد سمعت السيدة عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر لحظات حياته يقول: ((اللهمَّ الرفيق الأعلى)) (¬1). الثاني: أرواح الشهداء، وهؤلاء أحياء عند ربهم يرزقون، قال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 16]، وقد سأل مسروق عبد الله بن مسعود عن هذه الآية، فقال: ((إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: " أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)) رواه مسلم في صحيحه (¬2). وهذه أرواح بعض الشهداء لا كل الشهداء، لأن منهم من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه، كما في المسند عن عبد الله بن جحش: ((أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولّى، قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً)) (¬3). الثالث: أرواح المؤمنين الصالحين: تكون طيوراً تعلق في شجر الجنة، ففي الحديث الذي يرويه عبد الرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما نسمة المسلم طير يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده إلى يوم القيامة)) رواه أحمد (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (4463)، ومسلم (2444). (¬2) رواه مسلم (1887). (¬3) رواه أحمد (4/ 350) (19100). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 130): فيه أبو كثير وهو مستور وبقية رجاله ثقات. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (5/ 19): إسناده جيد. (¬4) رواه أحمد (3/ 455) (15814). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2/ 694)، وشعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط الشيخين.

والفرق بين أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء، أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرض، أما أرواح المؤمنين فإنها في أجواف طير يعلق ثمر الجنة ولا ينتقل في أرجائها. وكون أرواح المؤمنين في أجواف طير يعلق شجر الجنة لا يشكل عليه الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه ((أن الملائكة تقبض روح العبد المؤمن، وترقى به إلى السماء، فتقول الملائكة: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه كان في غم الدنيا، فيقول: قد مات، أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية)) (¬1)، فإن روح المؤمن تلتقي بأرواح المؤمنين في الجنة. الرابع: أرواح العصاة: ... أن الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق يعذب بكلوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يشدخ رأسه بصخرة، والزناة والزواني يعذبون في ثقب مثل التنور، ضيق أعلاه، وأسفله واسع، توقد النار من تحته، والمرابي يسبح في بحر من دم، وعلى الشط من يلقمه حجارة (¬2). وقد ذكرنا الأحاديث التي تتحدث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله، والذي يمشي بالنميمة بين الناس، والذي غلَّ من الغنيمة ونحو ذلك. الخامس: أرواح الكفار: في حديث أبي هريرة عند النسائي بعد وصف حال المؤمن إلى أن يبلغ مستقره في الجنة، ذكر حال الكافر، وما يلاقيه عند النزع، وبعد أن تقبض روحه ((تخرج منه كأنتن ريح، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار)) (¬3). إشكال وجوابُه: قد يقال: سقت من النصوص ما يدل على أن الأرواح تعاد إلى الأبدان، ثم تُسأل، وبعد ذلك ينعم المؤمن، ويعذب الكافر، فكيف تقول بعد ذلك: إن نسم المؤمنين في الجنة، ونسم الكفار في النار؟ حاول ابن حزم أن يضعف الأحاديث التي تذكر إعادة الروح إلى البدن في القبر، ولكن ليس الأمر كذلك، فإن ما ضعفه ابن حزم وهو حديث زاذان عن البراء حديث صحيح، وهناك أحاديث كثيرة صحيحة متواترة تدل على عود الروح إلى البدن كما يقول ابن تيمية (¬4). وفي التوفيق بين النصوص يقول ابن تيمية: (وأرواح المؤمنين في الجنة، وإن كانت مع ذلك قد تعاد إلى البدن، كما أنها قد تكون في البدن، ويعرج بها إلى السماء كما في حال النوم، أما كونها في الجنة ففيه أحاديث عامة، وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء، واحتجوا بالأحاديث المأثورة العامة وأحاديث خاصة في النوم وغيره) (¬5). ¬

(¬1) رواه النسائي (4/ 8)، وابن حبان (7/ 284) (3014)، والحاكم (1/ 504). وقال: سنده صحيح، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 212): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬2) الحديث رواه البخاري (7074). من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. (¬3) رواه النسائي (4/ 8)، وابن حبان (7/ 284) (3014)، والحاكم (1/ 504). وقال: سنده صحيح، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 212): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 446). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 447).

ثم ذكر بعض هذه الأحاديث التي سقناها من قبل، وأورد حديث أبي هريرة الذي رواه ابن حبان وغيره، والذي يذكر فيه أن المؤمن يرى بعد السؤال مقعده من الجنة، ومقعده من النار لو كان كافراً، قال: ((ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه، ويعاد جسده كما بدئ، وتجعل نسمته في نسم طيب، وهي طير تعلق في شجر الجنة)) (¬1)، وفي لفظ: ((وهو طير يعلق في شجر الجنة)) (¬2)، وفي لفظ: ((ثم يعاد جسده إلى ما بدئ منه)) (¬3) فالروح – كما يدل عليه الحديث تعاد إلى الجسد بعد الرحلة إلى السماء، ثم تسأل، ثم تكون طيراً يعلق بشجر الجنة إلى أن يبعث العباد، ومع كونها في الجنة فإنه يبقى لها تعلق بالجسد، كحال الإنسان في النوم، فإنها تجول في ملكوت السماوات والأرض، مع أن لها تعلق بالجسد، وفقه هذا مبني على معرفة أن الروح مخالفة للأجساد وللمعهود من حال المخلوقات الدنيوية، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أن مستقر أرواح المؤمنين الجنة: (ومع ذلك تتصل بالبدن متى شاء الله تعالى، وهي في تلك بمنزلة نزول الملك، وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم) (¬4). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 102 - 106 وقد اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة: فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار، وقيل: إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها. وقيل: على أفنية قبورهم. وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة، تذهب حيث شاءت. وقالت طائفة: بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل، ولم يزيدوا على ذلك. وقيل: إن أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت! وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكافرين في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس! وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكافرين ببئر برهوت. وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله. قال ابن حزم وغيره: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم. وعن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش، تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض. وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن، كحياته وإدراكه! وقولهم مخالف للكتاب والسنة. وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح! وهذا قول التناسخية منكري المعاد، وهو قول خارج عن أهل الإسلام كلهم. ... ¬

(¬1) رواه الترمذي (1071)، وابن حبان (7/ 380) (3113). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: حسن غريب، وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 119) رجاله رجال مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 115) كما قال ذلك في المقدمة. (¬2) رواه الترمذي (1071)، وابن حبان (7/ 380) (3113). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: حسن غريب، وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 119) رجاله رجال مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 115) كما قال ذلك في المقدمة. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (16/ 596 - 597). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (24/ 365).

ويتلخص من أدلتها: أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، فمنها: أرواح في أعلى عليين، في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وهم متفاوتون في منازلهم. ومنها أرواح في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء، لا كلهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه. كما في (المسند) عن عبدالله بن جحش: ((أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى، قال: إلا الدين، سارني به جبرائيل آنفا)) (¬1). ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة)) (¬2) ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كل ذلك تشهد له السنة، والله أعلم. وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره، في قوله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وقوله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [البقرة:154] فهي: أن الله تعالى: جعل أرواحهم في أجواف طير خضر. كما في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أصيب إخوانكم، يعني يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مظلة في ظل العرش)) الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود (¬3)، وبمعناه في حديث ابن مسعود رواه مسلم (¬4). فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه، أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان، أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها. ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير، أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير. وتأمل لفظ الحديثين، ففي (الموطأ) أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)) (¬5). فقوله نسمة المؤمن تعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال: هي في جوف طير خضر، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم، فلهم نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، والله أعلم. وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، كما روي في (السنن) (¬6). وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة، والله أعلم. وكأنه - والله أعلم - كلما كانت الشهادة أكمل، والشهيد أفضل، كان بقاء جسده أطول. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - بتصرف - 2/ 582 ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 139) (17292)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3/ 23) والطبراني (19/ 247). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 127): رواه أحمد وفيه أبو كثير وهو مستور وبقية رجاله موثقون. وقال الألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (453): صحيح. (¬2) رواه بنحوه أحمد (5/ 11) (20136)، والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 244). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 129): رواه الطبراني في ((الأوسط)) وفيه أسلم بن سهل الواسطي قال الذهبي: لينه الدارقطني، وهذه عبارة سهلة في التضعيف وبقية رجاله ثقات. وقال الألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (455): صحيح. (¬3) رواه أبو داود (2520)، وأحمد (1/ 265) (2388)، والحاكم (2/ 97). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. (¬4) انظر: صحيح مسلم (1887). (¬5) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 337) بلفظ: (طير) بدلاً من (طائر). والحديث رواه النسائي (4/ 108)، وابن ماجه (4271)، وأحمد (3/ 455) (15816). قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/ 614)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 125)، وابن حجر في ((توالي التأسيس)) (1/ 203)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬6) الحديث روي في ((السنن)) بلفظ: ((إن الله عزوجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء)). رواه أبو داود (1047)، والنسائي (3/ 91)، وابن ماجه (1636). قال الحاكم (1/ 413): هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

المطلب الثاني: هل العذاب في البرزخ على الروح أم على البدن أم على كليهما؟

المطلب الثاني: هل العذاب في البرزخ على الروح أم على البدن أم على كليهما؟ الفِرَقُ الإسلامية في هذا الموضوع على أقوال (¬1): الأول: مذهب أهل السنة والجماعة أن الروح منفصلة عن الجسد، ومتصلة به، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما يكون للروح مفردة عن البدن). الثاني: قول كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين ينكرون النعيم والعذاب في البرزخ مطلقاً، والسِّر في ذلك أنهم ينكرون وجود روح مستقلة عن الجسد، فالروح عندهم هي الحياة، ولا تبقى الروح في نظرهم بعد الموت، فلا نعيم ولا عذاب حتى يبعث الله العباد، قال بذلك بعض المعتزلة والأشاعرة كالقاضي أبي بكر، وهذا قول باطل لا شك في بطلانه خالفه أبو المعالي الجويني، وقد نقل غير واحد من أهل السنة الإجماع على أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة. الثالث: قول الفلاسفة الذين يرون أن النعيم والعذاب على الروح وحدها، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وقد قال بهذا القول من أهل السنة ابن ميسرة، وابن حزم. الرابع: قول من قال من علماء الكلام: إن الذي ينعم ويعذب في القبر البدن وحده، وقال بذلك طائفة من أهل الحديث منهم ابن الزاغوني (¬2). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 107 وليس السؤال في القبر للروح وحدها، كما قال ابن حزم وغيره، وأفسد منه قول من قال: إنه للبدن بلا روح! والأحاديث الصحيحة ترد القولين. وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعاً، باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به. واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب أو غرق في البحر- وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور. وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك - فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله. بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد. والله المستعان. فالحاصل أن الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم - صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً. فإذا تأملت هذا المعنى حق التأمل، ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم. ويجب أن يعلم أن النار التي في القبر والنعيم، ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها، وإن كان الله تعالى: يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بها. بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفن أحدهما إلى جنب صاحبه، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حر ناره، ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه. وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما. وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير. وإذا شاء الله أن يطلع على ذلك بعض عباده أطلعه وغيبه عن غيره، ولو اطلع الله على ذلك العباد كلهم لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس، كما في (الصحيح) عنه صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)) (¬3). ولما كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 2/ 579 ¬

(¬1) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 262 - 282). (¬2) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 262 - 282). (¬3) رواه مسلم (2867).

المبحث السابع: هل يعلم الإنسان شيئا عن أحوال الدنيا بعد موته

المبحث السابع: هل يعلم الإنسان شيئاً عن أحوال الدنيا بعد موته ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الميت يسمع قرع نعال أصحابه، بعد وضعه في قبره، حال انصرافهم، فعن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم .. )) (¬1) ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام من معركة بدر على قتلى بدر من المشركين، فنادى رجالاً منهم، فقال: ((يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! كيف يسمعوا أنى يجيبوا وقد جيفوا؟! قال: والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا، ثم أمر بهم فسحبوا، فألقوا في قليب بدر)) (¬2). وقد ساق ابن تيمية جملة من الأحاديث التي تدل على أن الموتى يسمعون، ثم قال: (فهذه النصوص وأمثالها تُبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائماً، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي، فإنه يسمع أحياناً خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له) (¬3)، وقد أجاب شيخ الإسلام على إشكال من يقول: إن الله نفى السماع عن الميت في قوله: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل: 80]، وكيف تزعمون أن الموتى يسمعون؟ فقال: وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل: 80]، فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفقه المعنى، فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى، فإنه لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أمر به، ونهى عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب، وفهم المعنى، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ [الأنفال: 23] (¬4). وقد جاءت النصوص دالة أيضاً على أن الميت مع سماعه يتكلم، فإن منكراً ونكيراً يسألانه، فالمؤمن يوفق للجواب الحق، والكافر والمنافق يضل عن الجواب، ويتكلم أيضاً في غير سؤال منكر ونكير، وكل هذا مخالف لما عهده أهل الدنيا من كلام، فإن الذي يسأل ويتكلم الروح، وهي التي تجيب وتقعد وتعذب وتنعم، وإن كان لها نوع اتصال بالجسد القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 109 ¬

(¬1) رواه البخاري (1374)، ومسلم (2870). (¬2) رواه مسلم (2874). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (5/ 364). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (5/ 364).

المبحث الثامن: التفاضل في البرزخ

المبحث الثامن: التفاضل في البرزخ والمؤمنون يتفاضلون في البرزخ, وتتفاوت درجاتهم تفاوتاً عظيماً، وأفضلهم درجة في البرزخ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم, فأرواح الأنبياء في أعلى عليين، في الملأ الأعلى، ويدل على ذلك حديث الإسراء والمعراج المخرج في الصحيحين ... وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم التقى بالأنبياء في السموات على اختلاف منازلهم فيها، وأنه رأى موسى قائماً يصلي, ورأى عيسى قائماً يصلي, ورأى إبراهيم قائماً يصلي, ورأى إبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور (¬1). وفي أحاديث الإسراء والمعراج دلالتان: الأولى: أن الأنبياء أفضل المؤمنين حياة في البرزخ. الثانية: أن الأنبياء متفاضلون في حياتهم البرزخية. وقد ورد في الأنبياء قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) (¬2) ومن تفاضل المؤمنين في البرزخ ما ثبت في فضل الشهداء من قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قوله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169]. فقال صلى الله عليه وسلم: ((أرواحهم في جوف طير خضر. لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت. ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطلع إليهم ربهم اطلاعة. فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب, نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة)) (¬4). فالشهيد اختص بحياة في البرزخ امتاز بها عن غيره من المؤمنين، قال شارح الطحاوية في الشهداء: (فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم, وإن كان الميت أعلى درجة منهم، فلهم نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه) (¬5). إلا الشهيد يتساوى مع بقية المؤمنين في المؤاخذة بالدين, وإن كان يمتاز في سوى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (162). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه أبو داود (1047)، والنسائي (3/ 91)، وابن ماجه (1636)، وأحمد (4/ 8) (16207)، وابن حبان (3/ 190)، والحاكم (1/ 413). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال النووي في ((المجموع)) (4/ 548): إسناده صحيح. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 94) - كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) رواه مسلم (1887). (¬4) رواه البخاري (2817)، ومسلم (1877). (¬5) ((شرح الطحاوية)) (396). (¬6) رواه مسلم (1886). من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.

فمن المؤمنين طائفة يحبسون في البرزخ عن الجنة وهم المحبوسون بدين عليهم حتى يؤدى، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة – وفي رواية صلى الصبح – فلما انصرف قال: أهاهنا من آل فلان أحد؟ قالوا: نعم، قال: ((إن فلاناً – لرجل منهم – مأسور بدينه عن الجنة – (وفي رواية محتبس على باب الجنة في دين عليه) – فإن شئتم فافدوه, وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله)) (¬1). ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 20) (20235)، والطبراني (7/ 178) (6750)، والحاكم (2/ 30)، والبيهقي (6/ 76) (11192). من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (26): على الوجه الأول صحيح على شرط الشيخين وعلى الوجه الثاني صحيح.

وفي هذا الحديث دلالة على أن في المؤمنين في البرزخ من يحبس على باب الجنة حتى يزول سبب الحبس، وهو دال على أن فيهم من يدخل الجنة، وهناك أحاديث تدل على أن في المؤمنين من يعذب في البرزخ بذنوب ارتكبوها, وفيها دلالة على تفاوت هؤلاء في العذاب على تفاوتهم فيما آتوا من الذنوب، وهي أحاديث يطول حصرها جداً, ومن أمثلتها قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إنه أتاني الليلة آتيان، وأنهما ابتعثاني، وأنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة, وإذا هو يهوى بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتهدهد الحجر ههنا, فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصبح رأسه كما كان، ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى. قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، قال: فانطلقنا, فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه, وربما قال أبو رجاء: فيشق - قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل التنور - قال: وأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر- حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم - وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر فاه فألقمه حجراً، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلاً مرآة، وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط، قال: قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة، لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي: ارق فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها، فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن, وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صعداً، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله، قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجبا، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه، يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة، الذي عند النار يحشها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة. قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شطراً منهم حسناً وشطراً منهم قبيحاً، فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، تجاوز الله عنهم)) (¬1). ففي الحديث أن من المؤمنين في البرزخ من يثلغ رأسه أي يشدخ بالحجر، وأن منهم من يكون في تنور الزناة والزواني، وأن منهم من يكون في نهر الدم يسبح فيه ويلقم بالحجارة، ذلك لمعاصي أتوها، وأن منهم من يكون شطره حسناً وشطره الآخر قبيحاً لخلطه عملا صالحاً وآخر سيئاً. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 386 ¬

(¬1) رواه البخاري (7047). من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.

الباب الثاني: أشراط الساعة

المبحث الأول: معنى الأشراط والعلامات لغة الأشراط جمع شرط بالتحريك، والشرط العلامة، وأشراط الساعة أي علاماتها، وأشراط الشيء أوائله، ومنه شُرَط السلطان وهم نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من مجموع جنده. الأشراط في اللغة هي علامات الشيء المتقدمة عليه والدالة عليه، ومما يدل على تسمية هذه الأشراط في السنة بالعلامات ما جاء في حديث جبريل المشهور عند النسائي، قال: ((يا محمد، أخبرني متى الساعة؟ قال: فنكس، فلم يجبه شيئا ثم أعاد فلم يجبه شيئا ثم أعاد فلم يجبه شيئا ورفع رأسه فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن لها علامات تعرف بها ... )) (¬1) الحديث والساعة: هي جزء من أجزاء الليل أو النهار وجمعها ساعات وساع. والساعة: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، وقد سميت بذلك لسرعة الحساب فيها، أو لأنها تفاجئ الناس في ساعة فيموت الخلق كلهم بصيحة واحدة. أشراط الساعة لعبد الله بن سليمان الغفيلي - ص42 ¬

(¬1) رواه النسائي (8/ 101). من حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما. قال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. والحديث رواه أصحاب (السنن)، وأصله في (الصحيحين).

المبحث الثاني: معنى الأشراط والعلامات شرعا

المبحث الثاني: معنى الأشراط والعلامات شرعا هي العلامات التي تسبق يوم القيامة وتدل على قدومها. يقول الحليمي: أما انتهاء الحياة الأولى فإن لها مقدمات تسمى أشراط الساعة وهي أعلامها. ويقول البيهقي في تحديد المراد من الأشراط: أي: ما يتقدمها من العلامات الدالة على قرب حينها. ويقول الحافظ ابن حجر المراد بالأشراط: العلامات التي يعقبها قيام الساعة. أشراط الساعة لعبد الله بن سليمان الغفيلي - ص42

الفصل الثاني: علامات الساعة الصغرى

المطلب الأول: بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أخبر صلى الله عليه وسلم أن بعثته دليل على قرب الساعة, وأنه نبي الساعة, ففي الحديث عن سهل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بأصبعيه فيمدهما)) (¬1). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت أنا والساعة كهاتين، قال: وضم السبابة والوسطى)) (¬2). وعن قيس بن أبي حازم عن أبي جبيرة مرفوعاً ((بعثت في نسم الساعة)) (¬3). فأول أشراط الساعة بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم, فهو النبي الأخير فلا يليه نبي آخر, وإنما تليه القيامة كما يلي السبابة الوسطى, وليس بينهما أصبع آخر، أو كما يفضل إحداهما الأخرى (¬4)، ويدل على ذلك رواية الترمذي ((بعثت أنا والساعة كهاتين – وأشار أبو داود بالسبابة والوسطى – فما فضل إحداهما على الأخرى)) (¬5). وفي رواية مسلم: قال شعبة: وسمعت قتادة يقول: (في قصصه كفضل إحداهما على الأخرى فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة) (¬6). قال القرطبي: (أولها النبي صلى الله عليه وسلم, لأنه نبي آخر الزمان, وقد بعث وليس بينه وبين القيامة نبي) (¬7). قال تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40]. أشراط الساعة ليوسف الوابل - 64 ¬

(¬1) رواه البخاري (6503). (¬2) رواه البخاري (6504)، ومسلم (2951) واللفظ له. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في ((الأهوال)) (5)، والبزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (10/ 562)، والدولابي في ((الكنى والأسماء)) (1/ 23)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 161). قال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (2/ 359): رواه البزار في مسنده وسكت عنه، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (808): إسناده صحيح رجاله ثقات. (¬4) انظر: ((التذكرة)) (ص: 710)، و ((فتح الباري)) (11/ 349)، و ((تحفة الأحوذي شرح الترمذي)) (6/ 460). (¬5) رواه الترمذي (2214). وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألباني: صحيح. (¬6) رواه مسلم بعد حديث (2951). (¬7) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (ص: 710).

المطلب الثاني: موت النبي صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: موت النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة موت النبي صلى الله عليه وسلم, ففي الحديث عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي)) (¬1) الحديث. فقد كان موت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم المصائب التي وقعت على المسلمين, فقد أظلمت الدنيا في عيون الصحابة رضي الله عنهم عندما مات عليه الصلاة والسلام. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا) (¬2). قال ابن حجر: (يريد أنهم وجدوها تغيرت عما عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرقة، لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأديب) (¬3). فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء كما في جواب أم أيمن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهم عندما زاراها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم, فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: (ما يبكيك ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم, ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها) (¬4). فقد مات عليه الصلاة والسلام كما يموت الناس لأن الله تعالى لم يكتب الخلود في هذه الحياة الدنيا لأحد من الخلق, بل هي دار ممر لا دار مقر كما قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 34 - 35]. إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أن الموت حق, وأن كل نفس ذائقة الموت، حتى ولو كان سيد الخلق وإمام المتقين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وكان موته كما قال القرطبي: (أول أمر دهم الإسلام .. ثم بعده موت عمر فبموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه) (¬5). أشراط الساعة ليوسف الوابل - 64 ¬

(¬1) رواه البخاري (3176). (¬2) رواه الترمذي (3618)، وابن ماجه (1332)، وأحمد (3/ 268) (13857). قال الترمذي: غريب صحيح، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (5/ 239): إسناده على شرط الصحيحين. وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) ((فتح الباري)) (8/ 149). (¬4) رواه مسلم (2454). (¬5) ((التذكرة)) (ص: 711).

المطلب الثالث: انشقاق القمر

المطلب الثالث: انشقاق القمر اتفق العلماء على أن القمر قد انشق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن انشقاقه إحدى المعجزات الباهرة، وقد صرح القرآن بهذا في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ [القمر:1 - 2] القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 141

المطلب الرابع: نار الحجاز التي أضاءت أعناق الإبل ببصرى

المطلب الرابع: نار الحجاز التي أضاءت أعناق الإبل ببصرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء أعناق الإبل ببصرى)) (¬1). وقد ظهرت هذه النار في منتصف القرن السابع الهجري في عام أربع وخمسين وستمائة، وكانت ناراً عظيمة أفاض العلماء ممن عاصر ظهورها ومن بعدهم في وصفها. قال النووي: (خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة, وكانت ناراً عظيمة جداً من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة، تواتر العلم بها عند جميع الشام وسائر البلدان، وأخبرني من حضرها من أهل المدينة) (¬2). ونقل ابن كثير أن غير واحد من الأعراب ممن كان بحاضرة بصرى، شاهدوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز (¬3). وذكر القرطبي ظهور هذه النار وأفاض في وصفها في كتابه (التذكرة) (¬4)، فذكر أنها رؤيت من مكة ومن جبال بصرى. وقال ابن حجر: (والذي ظهر لي أن النار المذكورة ... هي التي ظهرت بنواحي المدينة كما فهمه القرطبي وغيره) (¬5). أشراط الساعة ليوسف الوابل-92 ¬

(¬1) رواه البخاري (7118)، ومسلم (2902). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (18/ 28). (¬3) ((البداية والنهاية)) (6/ 285). (¬4) ((التذكرة)) (636). (¬5) ((فتح الباري)) (13/ 79).

المطلب الخامس: فتح بيت المقدس

المطلب الخامس: فتح بيت المقدس ومن أشراط الساعة فتح بيت المقدس, فقد جاء في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعدد ستاً بين يدي الساعة)) فذكر منها ((فتح بيت المقدس)) (¬1). ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تم فتح بيت المقدس سنة ست عشرة من الهجرة كما ذهب إلى ذلك أئمة السير، فقد ذهب عمر رضي الله عنه بنفسه, وصالح أهلها, وفتحها, وطهرها من اليهود والنصارى, وبنى بها مسجداً في قبلة بيت المقدس (¬2). روى الإمام أحمد من طريق عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب الأحبار: (أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك! فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم إلى القبلة فصلى, ثم جاء فبسط رداءه, فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس) (¬3). أشراط الساعة ليوسف الوابل – ص: 68 ¬

(¬1) رواه البخاري (3176). (¬2) ((البداية والنهاية)) (7/ 55 - 57). (¬3) رواه أحمد (1/ 38) (261). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 60): إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 9): رواه أحمد وفيه عيسى بن سنان القسملي وثقة ابن حبان وغيره وضعفه أحمد وغيره وبقية رجاله ثقات، وحسن إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 136).

المطلب السادس: طاعون عمواس

المطلب السادس: طاعون عمواس جاء في حديث عوف بن مالك ... قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعدد ستاً بين يدي الساعة)) فذكر منها ((ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم)) (¬1). قال ابن حجر: (يقال أن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس في خلافة عمر، وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس) (¬2). ففي سنة ثمان عشرة للهجرة على المشهور الذي عليه الجمهور (¬3) وقع طاعون في كورة عمواس, ثم انتشر في أرض الشام, فمات فيه خلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم، ومن غيرهم، قيل: بلغ عدد من مات فيه – خمسة وعشرون ألفا من المسلمين، ومات فيه من المشهورين أبو عبيدة عامر الجراح أمين هذه الأمة رضي الله عنه (¬4). أشراط الساعة ليوسف الوابل- 68 ¬

(¬1) رواه البخاري (3176). (¬2) ((فتح الباري)) (6/ 278). (¬3) ((البداية والنهاية)) (7/ 90). (¬4) ((معجم البلدان)) (4/ 157)، و ((البداية والنهاية)) ((7/ 94).

المطلب السابع: توقف الجزية والخراج

المطلب السابع: توقف الجزية والخراج وهما من أهم مصادر بيت مال المسلمين وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سيتوقف وسيفقد المسلمون بسبب ذلك موردا إسلاميا هاما ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مدها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودينارها وعدتم من حيث بدأتم وعدتم من حيث بدأتم))، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه (¬1). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 154 ¬

(¬1) رواه مسلم (2896).

المبحث الثاني: العلامات التي وقعت وهي مستمرة أو وقعت مرة ويمكن أن تتكرر

المطلب الأول: الفتوحات والحروب قد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر الصحابة بما سيكون من الفتوحات والانتصارات التي سيجريها الله على أيديهم أو على أيدي من بعدهم حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بفتح فارس والروم وزوال ملك كسرى وقيصر، وغزو الهند ثم فتح القسطنطينية وفتح روما وقتال الترك. قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله)) (¬1)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى بن مريم عليه السلام)) (¬2)، وفي الحديث الصحيح عن أبي قبيل قال: كنا عند عبدالله بن عمرو بن العاص وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبدالله بصندوق له حلق قال: فأخرج منه كتابا قال: فقال عبدالله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولا أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدينة هرقل تفتح أولا يعني القسطنطينية)) (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الكفر)) (¬4). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك ... )) (¬5). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 157 ¬

(¬1) رواه البخاري (3618). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه النسائي (6/ 42)، وأحمد (5/ 278) (22449). من حديث ثوبان رضي الله عنه. قال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (3/ 1579): صالح. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. (¬3) رواه أحمد (2/ 176) (6645)، والدارمي (1/ 137)، والحاكم (4/ 468). من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (4): وهو كما قالا. (¬4) رواه أحمد (4/ 103) (16998)، والحاكم (4/ 477). من حديث تميم الداري رضي الله عنه. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 14): ورجال أحمد رجال الصحيح. وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) للألباني (3). (¬5) رواه البخاري (2928) واللفظ له، ومسلم (2912) بلفظ: (يقاتل المسلمون). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المطلب الثاني: خروج الدجالين أدعياء النبوة

المطلب الثاني: خروج الدجالين أدعياء النبوة ومن العلامات التي ظهرت خروج الكذابين الذين يدعون النبوة, وهم قريب من ثلاثين كذاباً, وقد خرج بعضهم في الزمن النبوي وفي عهد الصحابة, ولا يزالون يظهرون, وليس التحديد في الأحاديث مراداً به كل من ادعى النبوة مطلقاً, فإنهم كثير لا يحصون, وإنما المراد من قامت له شوكة, وكثر أتباعه, واشتهر بين الناس (¬1). ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين. كلهم يزعم أنه رسول الله)) (¬2). وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى يعبدوا الأوثان، وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي)) (¬3). والأحاديث في ظهور هؤلاء الدجاجلة كثيرة, وفي بعضها وقع أنهم ثلاثون بالجزم كما في حديث ثوبان, وفي بعضها أنهم قريب من الثلاثين كما في حديث الصحيحين, ولعل رواية ثوبان على طريقة جبر الكسر (¬4). وممن ظهر من هؤلاء الثلاثين مسيلمة الكذاب, فادعى النبوة في آخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم, وكاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه مسيلمة الكذاب وقد كثر أتباعه, وعظم شره على المسلمين حتى قضى عليه الصحابة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في معركة اليمامة المشهورة. وظهر كذلك الأسود العنسي في اليمن وادعى النبوة, فقتله الصحابة قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم, وظهرت سجاح وادعت النبوة, وتزوجها مسيلمة ثم لما قتل رجعت إلى الإسلام. وتنبأ أيضاً طليحة بن خويلد الأسدي, ثم تاب ورجع إلى الإسلام وحسن إسلامه. ثم ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي, وأظهر محبة أهل البيت, والمطالبة بدم الحسين, وكثر أتباعه فتغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير, ثم أغواه الشيطان فادعى النبوة ونزول جبريل عليه (¬5). والذي يقوي أنه من الدجالين ما رواه أبو داود بعد سياقة لحديث أبي هريرة الذي في الصحيحين في ذكر الكذابين عن إبراهيم النخعي أنه قال لعبيدة السلماني: أترى هذا منهم – يعني المختار؟ قال: فقال عبيدة: أما أنه من الرؤوس) (¬6). ومنهم الحارث الكذاب خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل وخرج في خلافة بني العباس جماعة (¬7). وظهر في العصر الحديث ميرزا أحمد القادياني بالهند وادعى النبوة, وأنه المسيح المنتظر, وأن عيسى ليس بحي في السماء, إلى غير ذلك من الإدعاءات الباطلة, وصار له أتباع وأنصار, وانبرى له كثير من العلماء, فردوا عليه وبينوا أنه أحد الدجالين. ولا يزال خروج هؤلاء الكذابين واحداً بعد الآخر حتى يظهر آخرهم الأعور الدجال. فقد روى الإمام أحمد عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم كسفت الشمس على عهده: ((وأنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً آخرهم الأعور الكذاب)) (¬8). ومن هؤلاء الكذابين أربع نسوة, فقد روى الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في أمتي كذابون ودجالون سبعة وعشرون منهم أربع نسوة, وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي)) (¬9). أشراط الساعة ليوسف الوابل- 89 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (6/ 617). (¬2) رواه البخاري (3609)، ومسلم (157). (¬3) رواه أبو داود (4252)، والترمذي (2219). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (906)، وقال السخاوي في ((البلدانيات)) (105): صحيح. (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 87). (¬5) ((فتح الباري)) (6/ 617). (¬6) رواه أبو داود بعد حديث (4334). قال الألباني في ((ضعيف سنن أبو داود)): ضعيف مقطوع. (¬7) ((فتح الباري)) (6/ 617). (¬8) رواه أحمد (5/ 16) (20190) بلفظ: ((الدجال)) بدلاً من ((الكذاب)). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 344): رجال أحمد رجال الصحيح غير ثعلبة بن عباد وثقه ابن حبان. (¬9) رواه أحمد (5/ 396) (23406). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 93): أخرجه أحمد عن حذيفة بسند جيد.

المطلب الثالث: ظهور الفتن

المطلب الثالث: ظهور الفتن الفتن: جمع فتنة, وهي الابتلاء والامتحان والاختبار, ثم كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه, ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه, كالإثم, والكفر, والقتل, والتحريق وغير ذلك من الأمور المكروهة (¬1). وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة ظهور الفتن العظيمة التي يلتبس فيها الحق بالباطل فتزلزل الإيمان حتى يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً, ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً. كلما ظهرت فتنة قال المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، ويظهر غيرها فيقول هذه هذه, ولا تزال الفتن تظهر في الناس إلى أن تقوم الساعة. ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً, ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً, القاعد فيها خير من القائم, والقائم فيها خير من الماشي, والماشي فيها خير من الساعي, فكسروا قسيكم, وقطعوا أوتاركم, واضربوا سيوفكم الحجارة, فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم)) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم في (المستدرك) (¬2). وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً, أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً, يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (¬3). وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: ((استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً، يقول: سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات - يريد أزواجه لكي يصلين - رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) (¬4). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة, فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم. وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها. وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها. وتجيء الفتنة فيرقق بعضها بعضاً. وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر)) رواه مسلم (¬5). وأحاديث الفتن كثيرة جداً فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الفتن, وأمر بالتعوذ منها, وأخبر أن آخر هذه الأمة سيصيبها بلاء وفتن عظيمة, وليس هنالك عاصم منها إلا الإيمان بالله, واليوم الآخر, ولزوم جماعة المسلمين, وهم أهل السنة وإن قلُّوا, والابتعاد عن الفتن والتعوذ منها, فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) رواه مسلم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه (¬6). ظهور الفتن من المشرق: ¬

(¬1) انظر: ((لسان العرب)) (13/ 317) مادة (فتن). (¬2) رواه أبو داود (4259)، وابن ماجه (3215)، وأحمد (4/ 408) (19677)، والحاكم (4/ 440). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (909) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (101). (¬3) رواه مسلم (118). (¬4) رواه البخاري (7069). (¬5) رواه مسلم (1844). (¬6) رواه مسلم (2867).

أكثر الفتن التي ظهرت في المسلمين كان منبعها من المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان. وهذا مطابق لما أخبر به نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم, فقد جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: ((ألا أن الفتنة هاهنا, ألا أن الفتنة هاهنا, من حيث يطلع قرن الشيطان)) رواه الشيخان (¬1) وفي رواية لمسلم أنه قال: ((رأس الكفر من هاهنا, من حيث يطلع قرن الشيطان)) (¬2) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا, وبارك لنا في شامنا ويمننا, فقال رجل من القوم: يا نبي الله, وفي عراقنا، قال: أن بها قرن الشيطان, وتهيج الفتن, وأن الجفاء بالمشرق)) (¬3). قال ابن حجر: (وأول الفتن كان منبعها من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة) (¬4). فمن العراق ظهر الخوارج, والشيعة الروافض, والباطنية, والقدرية, والجهمية, والمعتزلة، وأكثر مقالات الكفر كان منشؤها من المشرق من جهة الفرس المجوس كالزردشتية, والمانوية, والمزدكية, والهندوسية, والبوذية، وأخيراً وليس آخراً القاديانية, والبهائية إلى غير ذلك من المذاهب الهدامة. وأيضاً فإن ظهور التتار في القرن السابع الهجري كان من المشرق, وقد حدث على أيديهم من الدمار والقتل والشر العظيم ما هو مدون في كتب التاريخ، وإلى اليوم لا يزال المشرق منبعاً للفتن, والشرور, والبدع, والخرافات, والإلحاد, فالشيوعية الملحدة مركزها روسيا والصين الشيوعية وهما في المشرق، وسيكون ظهور الدجال, ويأجوج ومأجوج من جهة المشرق، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. أشراط الساعة ليوسف الوابل- 72 ¬

(¬1) رواه البخاري (3279)، ومسلم (2905). (¬2) رواه مسلم (2905). (¬3) رواه الطبراني (12/ 84) (12583)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 214). وقال: رواته ثقات، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 308): رواه الطبراني في ((الكبير)) ورجاله ثقات، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (1204). (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 47).

المطلب الرابع: إسناد الأمر إلى غير أهله

المطلب الرابع: إسناد الأمر إلى غير أهله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال ((أين السائل عن الساعة)). قال: ها أنا يا رسول الله قال: ((فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)). قال كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) (¬1) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 178 ¬

(¬1) رواه البخاري (59).

المطلب الخامس: اتباع سنن الأمم الماضية

المطلب الخامس: اتباع سنن الأمم الماضية ومن الفتن العظيمة اتباع سنن اليهود والنصارى وتقليدهم, فقد قلد بعض المسلمين الكفار, وتشبهوا بهم, وتخلقوا بأخلاقهم, وأعجبوا بهم, وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم, ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر, وذراعاً بذراع. فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك)) رواه البخاري (¬1). وفي رواية عن أبي سعيد: ((قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن)) رواه البخاري ومسلم (¬2). قال ابن بطال: (أُعْلِمَ صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور, والبدع والأهواء, كما وقع للأمم قبلهم. وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر, والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس, وأن الدين إنما يبقى قائماً عند خاصة من الناس) (¬3). وقال ابن حجر: (وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم وسيقع بقية ذلك) (¬4). وفي هذا الزمن كثر في المسلمين من يتشبه بالكفار من شرقيين وغربيين, فتشبه رجالنا برجالهم, ونساءنا بنسائهم, وافتتنوا بهم حتى أدى الأمر ببعض الناس أن خرجوا عن الإسلام, واعتقدوا أنه لا يتم لهم تقدم وحضارة إلا بنبذ كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, ومن عرف الإسلام الصحيح عرف ما وصل إليه المسلمون في القرون الأخيرة من بعد عن تعاليم الإسلام, وانحراف عن عقيدته, فلم يبق عند بعضهم من الإسلام إلا اسمه, فقد حكموا قوانين الكفار, وابتعدوا عن شريعة الله, وليس هناك أبلغ مما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في اتباعهم ومحاكاتهم للكفار فقال: ((شبراً بشبر, وذراعاً بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)) (¬5). قال النووي: (والمراد بالشبر والذراع وجحر الضب التمثيل بشدة الموافقة لهم, والمراد الموافقة في المعاصي والمخالفات, لا في الكفر وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم) (¬6) هذا والفتن ليس لها حصر ففتنة النساء، وفتنة المال, وحب الشهوات, وحب السلطان, والسيادة والزعامة, كلها فتن ربما تهلك الإنسان وتعصف به إلى مهاوي الردى نسأل الله العافية والسلامة. أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 87 ¬

(¬1) رواه البخاري (7319). (¬2) رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669). (¬3) ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 366)، ((فتح الباري)) (13/ 301). (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 301). (¬5) رواه البخاري (7320). (¬6) ((شرح النووي لمسلم)) (16/ 219).

المطلب السادس: ولادة الأمة ربتها وتطاول الحفاة العراة رعاة الشاة في البنيان

المطلب السادس: ولادة الأمة ربتها وتطاول الحفاة العراة رعاة الشاة في البنيان عن أبي هريرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث)). قال ما الإسلام؟ قال ((الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان)). قال ما الإحسان؟ قال ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). قال متى الساعة؟ قال ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله)). ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عنده علم الساعة الآية ثم أدبر فقال ((ردوه)) فلم يروا شيئا فقال: ((هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم)) (¬1). والمراد بقوله: (أن تلد الأمة ربها) أي: سيدتها ومالكتها. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 183 ¬

(¬1) رواه البخاري (50)، ومسلم (9).

المطلب السابع: استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة

المطلب السابع: استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض, حتى يهم رب المال من يقبله منه صدقة، ويدعى إليه الرجل فيقول: لا أرب لي فيه)) (¬1). وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثم لا يجد أحداً يأخذها منه)) (¬2). أشراط الساعة ليوسف الوابل- ص: 69 ¬

(¬1) رواه البخاري (1412)، ومسلم (157). (¬2) رواه البخاري (1414)، ومسلم (1012).

المطلب الثامن: تداعي الأمم على الأمة الإسلامية

المطلب الثامن: تداعي الأمم على الأمة الإسلامية عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)). فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)). فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) (¬1) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 185 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4297)، وأحمد (5/ 278) (22450) بلفظ: (حب الحياة). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

المطلب التاسع: ضياع الأمانة

المطلب التاسع: ضياع الأمانة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) (¬1). وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم كيف ترفع الأمانة من القلوب, وأنه لا يبقى منها في القلب إلا أثرها. روى حذيفة رضي الله عنه قال: ((حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة. وحدثنا عن رفعها قال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله, وما أظرفه, وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلماً ردَّه عليَّ الإسلام، وإن كان نصرانياً ردَّه عليَّ ساعيه، فأما اليوم: فما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً)) (¬2). ففي هذا الحديث بيان أن الأمانة سترفع من القلوب، حتى يصير الرجل خائناً بعد أن كان أميناً، وهذا إنما يقع لمن ذهبت خشيته, وضعف إيمانه, وخالط أهل الخيانة فيصير خائناً، لأن القرين يقتدي بقرينه. ومن مظاهر تضييع الأمانة إسناد أمور الناس من إمارة وخلافة وقضاء ووظائف على اختلافها إلى غير أهلها القادرين على تسييرها والمحافظة عليها، لأن في ذلك تضييعاً لحقوق الناس، واستخفافاً بمصالحهم, وإيغاراً لصدورهم، وإثارة للفتن بينهم. فإذا ضيع من يتولى أمر الناس الأمانة، والناس تبع لمن يتولى أمرهم، كانوا مثله في تضييع الأمانة، فصلاح حال الولاة صلاح لحال الرعية, وفساده فساد لهم، ثم أن إسناد الأمر إلى غير أهله دليل واضح على عدم اكتراث الناس بدينهم, حتى أنهم ليولون أمرهم من لا يهتم بدينه وهذا إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم, ولهذا ذكر البخاري رحمه الله حديث أبي هريرة الماضي في كتاب العلم إشارة إلى هذا. قال ابن حجر: (ومناسبة هذا المتن لكتاب العلم أن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط) (¬3) وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ستكون هناك سنون خداعة, تنعكس فيها الأمور, يكذب فيها الصادق, ويصدق فيها الكاذب، ويخون الأمين, ويؤتمن الخائن. أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 99 ¬

(¬1) رواه البخاري (59). (¬2) رواه البخاري (7086)، ومسلم (143). (¬3) ((فتح الباري)) (1/ 143).

المطلب العاشر: قبض العلم وظهور الجهل

المطلب العاشر: قبض العلم وظهور الجهل ومن أشراطها قبض العلم, وفشو الجهل، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل)) (¬1). وروى البخاري عن شقيق قال: كنت مع عبد الله وأبي موسى فقالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل, ويرفع العلم)) (¬2). وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقي الشح، ويكثر الهرج)) (¬3). قال ابن بطال: (وجميع ما تضمنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عياناً, فقد نقص العلم, وظهر الجهل, وألقي الشح في القلوب, وعمت الفتن, وكثر القتل) (¬4) وعقب على ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: (الذي يظهر أن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله، والمراد من الحديث استحكام ذلك حتى لا يبقى بما يقابله إلا النادر, وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم, فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم, لأنهم يكونون حينئذ معمورين في أولئك) (¬5). وقبض العلم يكون بقبض العلماء, ففي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) (¬6). قال النووي: (هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه ولكن معناه: أن يموت حملته, ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالاتهم, فيَضِلُّون ويُضِلِّون) (¬7) والمراد بالعلم هنا علم الكتاب والسنة وهو العلم الموروث عن الأنبياء عليهم السلام, فإن العلماء هم ورثة الأنبياء وبذهابهم يذهب العلم وتموت السنن وتظهر البدع ويعم الجهل، وأما علم الدنيا فإنه في زيادة وليس هو المراد في الأحاديث، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)). والعلماء الحقيقيون هم الذين يعملون بعلمهم, ويوجهون الأمة ويدلونها على طريق الحق والهدى, فإن العلم بدون عمل لا فائدة فيه, بل يكون وبالاً على صاحبه، وقد جاء في رواية للبخاري ((وينقص العمل)) (¬8). قال الإمام مؤرخ الإسلام الذهبي بعد ذكره لطائفة من العلماء: (وما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وأما اليوم فما بقي من العلوم القليلة إلا القليل في أناس قليل ما أقل من يعمل منهم بذلك القليل فحسبنا الله ونعم الوكيل) (¬9) وإذا كان هذا في عصر الذهبي فما بالك بزمننا هذا؟ فإنه كلما بعد الزمان من عهد النبوة كلما قل العلم وكثر الجهل, فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلم هذه الأمة ثم التابعين, ثم تابعيهم, وهم خير القرون كما قال صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم)) (¬10). ¬

(¬1) رواه البخاري (80)، ومسلم (2671). (¬2) رواه البخاري (7062). (¬3) رواه مسلم (157). (¬4) ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 13)، و ((فتح الباري)) (13/ 16). (¬5) ((فتح الباري)) (13/ 16). (¬6) رواه البخاري (100)، ومسلم (2673). (¬7) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/ 223). (¬8) رواها البخاري (6037). (¬9) ((تذكرة الحفاظ)) (3/ 1031). (¬10) رواه البخاري (3651)، ومسلم (2533).

ولا يزال العلم ينقص والجهل يكثر حتى لا يعرف الناس فرائض الإسلام, فقد روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة, ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية, وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله, فنحن نقولها. فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة, ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة, ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة, تنجيهم من النار ثلاثاً)) (¬1). وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((لينزعن القرآن من بين أظهركم يسري عليه ليلاً فيذهب من أجواف الرجال فلا يبقى في الأرض منه شيء)) (¬2). قال ابن تيمية: (يسري به في آخر الزمان من المصاحف والصدور فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف) (¬3). وأعظم من هذا أن لا يذكر اسم الله تعالى في الأرض كما في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله)) (¬4). قال ابن كثير: (في معنى هذا الحديث قولان: أحدهما: أن معناه أن أحداً لا ينكر منكراً, ولا يزجر أحداً إذا رآه قد تعاطى منكراً، وعبر عن ذلك بقوله ((حتى لا يقال: الله الله))، كما ... في حديث عبد الله بن عمرو ((فيبقى فيها عجاجة لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً)) (¬5). والقول الثاني: حتى لا يذكر الله في الأرض, ولا يعرف اسمه فيها, وذلك عند فساد الزمان، ودمار نوع الإنسان، وكثرة الكفر والفسوق والعصيان" (¬6). أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 102 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (3289)، والحاكم (4/ 587)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 356) (2028). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (4/ 94): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 19): إسناده قوي. (¬2) رواه الطبراني (9/ 141) (8719)، وعبدالرزاق في ((المصنف)) (3/ 363). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 332): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 19): إسناده صحيح لكنه موقوف. (¬3) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 198). (¬4) رواه مسلم (148). (¬5) رواه أحمد (2/ 210) (6964). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 16): رواه أحمد مرفوعاً وموقوفاً ورجالهما رجال الصحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (11/ 161). (¬6) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 122 - 123).

المطلب الحادي عشر: الخسف والقذف والمسخ

المطلب الحادي عشر: الخسف والقذف والمسخ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث)) (¬1). وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بين يدي الساعة مسخ وخسف وقذف)) (¬2). وقد جاء الخبر أن الزنادقة والقدرية يقع عليهم المسخ والقذف، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه سيكون في أمتي مسخ وقذف، وهو في الزندقية والقدرية)) (¬3). وفي رواية للترمذي: ((في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر)) (¬4). وعن عبد الرحمن بن صحار العبدي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يخسف بقبائل, فيقال: من بقي من بني فلان؟ قال: فعرفت حين قال: قبائل أنها العرب, لأن العجم تنسب إلى قراها)) (¬5). وعن محمد بن إبراهيم التيمي قال: سمعت بقيرة امرأة القعقاع بن أبي حدرد تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: ((إذا سمعتم بجيش قد خسف به قريباً فقد أظلت الساعة)) (¬6). والخسف قد وجد في مواضع في الشرق والغرب (¬7) قبل عصرنا هذا، ووقع في هذا الزمن كثير من الخسوفات في أماكن متفرقة من الأرض, وهي نذير بين يدي عذاب شديد, وتخويف من الله لعباده، وعقوبة لأهل البدع والمعاصي, كي يعتبر الناس ويرجعوا إلى ربهم ويعلموا أن الساعة قد أزفت، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2185)، وقال: غريب من حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه و [فيه] عبد الله بن عمر تكلم فيه يحيى بن سعيد من قبل حفظه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه ابن ماجه (3296). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 310): حديث عبد الله ورجال إسناده ثقات. إلا أنه منقطع. سيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق ابن شهاب. قاله الإمام أحمد. وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه أحمد (2/ 136) (6208). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 206): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده السيوطي في ((الخصائص الكبرى)) (2/ 148)، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (9/ 74). (¬4) رواه الترمذي (2152). وقال: حسن صحيح غريب، وقال ابن القيم في ((تهذيب السنن)) (12/ 455): أجود ما في الباب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) رواه أحمد (3/ 483) (15998)، والحاكم (4/ 492). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 18): رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى والبزار ورجاله ثقات، وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/ 142)، والسفاريني في ((شرح ثلاثيات المسند)) (1/ 290). (¬6) رواه أحمد (6/ 378) (27173). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 12): رواه أحمد والطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس وبقية رجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (618). (¬7) انظر: ((فتح الباري)) (13/ 84)، و ((عون المعبود)) (11/ 429).

وقد جاء الوعيد للعصاة من أهل المعازف وشاربي الخمور بالخسف والمسخ والقذف، روى الترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف. فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف, وشربت الخمور)) (¬1). وروى ابن ماجة عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها, يعزف على رؤوسهم بالمعازف, يخسف الله بهم الأرض, ويجعل منهم القردة والخنازير)) (¬2). والمسخ يكون حقيقياً، ويكون معنوياً، فقد فسر الحافظ ابن كثير رحمه الله (المسخ) في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة: 65]. بأنه مسخ حقيقي وليس مسخاً معنوياً فقط، وهذا القول هو الراجح, وهو ما ذهب إليه ابن عباس وغيره من أئمة التفسير (¬3). وذهب مجاهد وأبو العالية وقتادة إلى أن المسخ كان معنوياً وأنه كان لقلوبهم ولم يمسخوا قردة (¬4) ونقل ابن حجر عن ابن العربي القولين ورجح الأول (¬5) ورجح رشيد رضا في تفسيره القول الثاني، وهو أنه كان مسخاً في أخلاقهم (¬6). واستبعد ابن كثير ما روي عن مجاهد وقال: (أنه قول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وغيره) (¬7). ثم قال بعد سياقه لطائفة من كلام العلماء: والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد - رحمه الله – من أن مسخهم إنما كان معنوياً لا صورياً بل الصحيح أنه معنوي صوري والله أعلم (¬8). وإذا كان المسخ يحتمل أن يكون معنوياً فإن كثيراً من المستحلين للمعاصي قد مسخت قلوبهم فأصبحوا لا يفرقون بين الحلال والحرام, ولا بين المعروف والمنكر, مثلهم في ذلك كمثل القردة والخنازير – نسأل الله العافية والسلامة – وسيقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من المسخ سواء كان معنوياً أو صورياً. أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 133 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2212). وقال: غريب، وحسنه لغيره الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (8/ 262)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه ابن ماجه (3263)، والبيهقي (10/ 221) (21517). وقال بعده: ولهذا شواهد من حديث علي وعمران بن حصين وعبد الله بن بسر وسهل بن سعد وأنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصحح إسناده ابن القيم في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 509)، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) ((تفسير الطبري)) (2/ 170)، ((تفسير الماوردي)) (1/ 135)، ((تفسير ابن كثير)) (1/ 150). (¬4) ((تفسير الطبري)) (2/ 172 - 173)، ((تفسير ابن كثير)) (1/ 150). (¬5) ((فتح الباري)) (10/ 56). (¬6) ((تفسير المنار)) (1/ 343). (¬7) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 151). (¬8) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 153).

المطلب الثاني عشر: انتشار الزنا

المطلب الثاني عشر: انتشار الزنا ومن العلامات التي ظهرت فشو الزنا وكثرته بين الناس, فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك من أشراط الساعة:- ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة (فذكر منها) ويظهر الزنا)) (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((سيأتي على الناس سنوات خداعات (فذكر الحديث وفيه) وتشيع فيها الفاحشة)) (¬2). وأعظم من ذلك استحلال الزنا. فقد ثبت في الصحيح عن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير)) (¬3)، وفي آخر الزمان بعد ذهاب المؤمنين يبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر, كما جاء في حديث النواس رضي الله عنه ((ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر, فعليهم تقوم الساعة)) (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذ من يقول لو واريتها وراء هذا الحائط)) (¬5). قال القرطبي في كتابه (المفهم) على حديث أنس السابق: (في هذا الحديث علم من أعلم النبوة إذ أخبر عن أمور ستقع فوقعت خصوصاً في هذه الأزمان) (¬6). وإذا كان هذا في زمان القرطبي فهو في زماننا هذا أكثر ظهوراً لعظم غلبة الجهل وانتشار الفساد بين الناس. أشراط الساعة ليوسف الوابل-107 ¬

(¬1) رواه البخاري (80)، ومسلم (2671). (¬2) رواه ابن ماجه (3277)، والحاكم (4/ 557) واللفظ له. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري عن المقبري غريب جدا، وقال الذهبي: صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه البخاري (5590). (¬4) رواه مسلم (2937). (¬5) رواه أبو يعلى (11/ 43) (6183). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 334): رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. (¬6) ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (22/ 61)، ((فتح الباري)) (1/ 179).

المطلب الثالث عشر: انتشار الربا

المطلب الثالث عشر: انتشار الربا ومنها ظهور الربا وانتشاره بين الناس, وعدم المبالاة بأكل الحرام، ففي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بين يدي الساعة يظهر الربا)) (¬1). وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأتين على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام)) (¬2). وهذه الأحاديث تنطبق على كثير من المسلمين في هذا الزمن, فتجدهم لا يتحرون الحلال في المكاسب, بل يجمعون المال من الحلال والحرام وأغلب ذلك بدخول الربا في معاملات الناس، فقد انتشرت المصارف المتعاملة بالربا, ووقع كثير من الناس في هذا البلاء العظيم. ومن فقه الإمام البخاري رحمه الله أنه أورد حديث أبي هريرة السابق في باب قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 130] ليبين أن أكل الأضعاف المضاعفة من الربا يكون بالتوسع فيه عند عدم مبالاة الناس بطرق جمع المال, وعدم التمييز بين الحلال والحرام. أشراط الساعة ليوسف الوابل-108 ¬

(¬1) رواه الطبراني (7/ 349) (7695)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 7). وقال: رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 121): رواه الطبراني في ((الأوسط)) ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3415): رجال إسناده رجال الصحيح غير أبي حمزة الكوفي وهو حسن الحديث. (¬2) رواه البخاري (2083).

المطلب الرابع عشر: ظهور المعازف واستحلالها

المطلب الرابع عشر: ظهور المعازف واستحلالها عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ، قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات)) (¬1). وهذه العلامة قد وقع شيء كبير منها في العصور السابقة, وهي الآن أكثر ظهوراً, فقد ظهرت المعازف في هذا الزمن وانتشرت انتشاراً عظيماً, وكثر المغنون والمغنيات وهم المشار إليهم في هذا الحديث بـ " القينات" وأعظم من ذلك استحلال كثير من الناس للمعازف, وقد جاء الوعيد لمن فعل ذلك بالمسخ, والقذف, والخسف كما في الحديث السابق, ولما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله قال: قال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد - ثم ساق السند إلى أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم - يعني الفقير - لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)) (¬2). وقد زعم ابن حزم أن هذا الحديث منقطع لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد, ورد عليه العلامة ابن القيم, وبيَّن أنَّ ما قاله ابن حزم باطل من ستة وجوه (¬3): 1 - أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا روى عنه معنعناً حمل على الاتصال اتفاقاً لحصول المعاصرة والسماع فإذا قال: (قال هشام) لم يكن فرق بينه وبين قوله: (عن هشام) أصلاً. 2 - أن الثقات الأثبات قد رووه عن هشام موصولاً، قال الإسماعيلي في صحيحه: (أخبرني الحسن حدثنا هشام بن عمار) بإسناده ومتنه. 3 - أنه قد صح من غير حديث هشام, فرواه الإسماعيلي وعثمان بن أبي شيبة بسندين آخرين إلى أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. 4 - أن البخاري لو لم يلق هشاماً ولم يسمع منه فإدخاله هذا الحديث في صحيحه وجزمه به يدل على أنه ثابت عنده عن هشام ولم يذكر الواسطة بينه وبين هشام إما لشهرتهم, وإما لكثرتهم فهو معروف مشهور عن هشام. 5 - أن البخاري إذا قال في صحيحه: (قال فلان) فالمراد أن الحديث صحيح عنده. 6 - أن البخاري ذكر هذا الحديث محتجاً به, مدخلاً له في صحيحه أصلاً لا استشهاداً فالحديث صحيح بلا ريب. وقال ابن الصلاح ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر أو أبي مالك فذكره ثم قال: – والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح, والبخاري رحمه الله قد يفعل مثل ذلك لكون ذلك الحديث معروفاً من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه. وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسنداً متصلاً وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع والله أعلم (¬4). أشراط الساعة ليوسف الوابل- ص: 109 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (3297)، والطبراني (6/ 150) (5820). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 13): فيه عبد الله بن أبي الزناد وفيه ضعف وبقية رجال إحدى الطريقين رجال الصحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) رواه البخاري (5590). (¬3) ((تهذيب السنن)) (5/ 270). (¬4) ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 36).

المطلب الخامس عشر: كثرة شرب الخمر واستحلالها

المطلب الخامس عشر: كثرة شرب الخمر واستحلالها ظهر في هذه الأمة شرب الخمر وتسميتها بغير اسمها, والأدهى من ذلك استحلال بعض الناس لها، وهذا من أمارات الساعة، فقد روى الإمام مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أشراط الساعة)) وذكر منها ((ويشرب الخمر)) (¬1) ومضى ذكر بعض الأحاديث في الكلام على المعازف وفيها أنه سيكون من هذه الأمة من يستحل شرب الخمر. ومنها ما رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه)) (¬2). فقد أطلق على الخمر أسماء كثيرة, حتى سميت بالمشروبات الروحية ونحو ذلك, والأحاديث في بيان أن هذه الأمة سيفشو فيها شرب الخمر, وأن فيهم من يستحلها ويغير اسمها، وفسر ابن العربي استحلال الخمر بتفسيرين: الأول: اعتقاد حل شربها. الثاني: أن يكون المراد بذلك الاسترسال في شربها كالاسترسال في الحلال. وذكر أنه سمع ورأى من يفعل ذلك (¬3)، وهو في زمننا هذا أكثر, فقد فتن بعض الناس بشربها, وأعظم من ذلك بيعها جهاراً وشربها علانية في بعض البلدان الإسلامية، وانتشار المخدرات انتشاراً عظيماً لم يسبق له مثيل مما ينذر بخطر عظيم، وفساد كبير، والأمر لله من قبل ومن بعد. أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 112 ¬

(¬1) رواه مسلم (2671). ورواه البخاري (80). (¬2) رواه ابن ماجه (2746)، وأحمد (5/ 318) (22761) واللفظ له. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 78): رواه أحمد وفيه ثابت بن السمط وهو مستور وبقية رجاله ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) ((فتح الباري)) (10/ 55).

المطلب السادس عشر: زخرفة المساجد والتباهي بها

المطلب السادس عشر: زخرفة المساجد والتباهي بها ومنها زخرفة المساجد ونقشها والتفاخر بها فقد روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)) (¬1) وفي رواية للنسائي وابن خزيمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ومن أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد)) (¬2). قال البخاري: (قال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً, فالتباهي بها العناية بزخرفتها) (¬3). قال ابن عباس: (لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى) (¬4). وقد نهى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن زخرفة المساجد لأن ذلك يشغل الناس عن صلاتهم. وقال عندما أمر بتجديد المسجد النبوي (أكِنَّ الناسَ من المطر, وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) (¬5). ورحم الله عمر فإن الناس لم يأخذوا بوصيته, ولم يقتصروا على التحمير والتصفير. بل تعدوا ذلك إلى نقش المساجد كما ينقش الثوب، وتباهى الملوك والخلفاء في بناء المساجد وتزويقها حتى أتوا في ذلك بالعجب, ولا زالت هذه المساجد قائمة حتى الآن كما في الشام ومصر وبلاد المغرب والأندلس وغيرها. وحتى الآن لا يزال المسلمون يتباهون في زخرفة المساجد. ولا شك أن زخرفة المساجد علامة على الترف والتبذير، وعمارتها إنما تكون بالطاعة والذكر فيها, ويكفي الناس ما يكنهم من الحر والقر والمطر، وقد جاء الوعيد بالدمار إذا زخرفت المساجد وحليت المصاحف, فقد روى الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (إذا زخرفتم مساجدكم, وحليتم مصاحفكم, فالدمار عليكم) (¬6)، قال المناوي: (فزخرفة المساجد, وتحلية المصاحف منهي عنها, لأن ذلك يشغل القلب, ويلهي عن الخشوع والتدبر والحضور مع الله تعالى، والذي عليه الشافعية أن تزويق المسجد ولو الكعبة بذهب أو فضة حرام مطلقاً وبغيرهما مكروه) (¬7). أشراط الساعة ليوسف الوابل- ص: 113 ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 134) (12402)، ورواه أبو داود (449) وسكت عنه. وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (181) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه النووي في ((الخلاصة)) (1/ 305)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (114). (¬2) رواه النسائي (2/ 32)، ابن خزيمة (2/ 282) (1323). والحديث حسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 336) كما قال ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬3) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (446)، ووصله أبو يعلى في مسنده (5/ 199) (2817)، وانظر ((تغليق التعليق)) لابن حجر (2/ 236). (¬4) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (446)، ووصله ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/ 238). (¬5) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (446). (¬6) رواه الحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (3/ 256). وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (585). (¬7) ((فيض القدير)) (1/ 367).

المطلب السابع عشر: تقارب الزمن

المطلب السابع عشر: تقارب الزمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى .. يتقارب الزمان)) (¬1). وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة)) (¬2). وللعلماء أقوال في المراد بتقارب الزمان منها: 1 - أن المراد بذلك قلة البركة في الزمان (¬3). قال ابن حجر: (وقد وجد في زماننا هذا, فإننا نجد من سرعة مر الأيام ما لم يكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا) (¬4). 2 - أن المراد بذلك هو ما يكون في زمان المهدي وعيسى عليه السلام من استلذاذ الناس للعيش وتوفر الأمن وغلبة العدل وذلك أن الناس يستقصرون أيام الرخاء وأن طالت, وتطول عليهم مدة الشدة وأن قصرت (¬5). 3 - أن المراد تقارب أحوال أهله في قلة الدين حتى لا يكون منهم من يأمر بمعروف وينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله وذلك عند ترك طلب العلم خاصة والرضى بالجهل, وذلك لأن الناس لا يتساوون في العلم, فدرجات العلم تتفاوت كما قال تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (¬6) [يوسف: 76] وإنما يتساوون إذا كانوا جهالاً. 4 - أن المراد تقارب أهل الزمان بسبب توفر وسائل الاتصالات والمراكب الأرضية والجوية السريعة التي قربت البعيد (¬7). 5 - أن المراد بذلك هو قصر الزمان وسرعته سرعة حقيقية وذلك في آخر الزمان, وهذا لم يقع إلى الآن ويؤيد ذلك ما جاء أن أيام الدجال تطول حتى يكون اليوم كالسنة وكالشهر وكالجمعة في الطول، فكما أن الأيام تطول فإنها تقصر (¬8) وذلك لاختلال نظام العالم وقرب زوال الدنيا. قال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان قصره على ما وقع في حديث ((لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر)) وعلى هذا فالقصر يحتمل أن يكون حسياً ويحتمل أن يكون معنوياً، أما الحسي فلم يظهر بعد ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة. وأما المعنوي فله مدة منذ ظهر يعرف ذلك أهل العلم الديني ومن له فطنة من أهل السبب الدنيوي، فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك, ويشكون ذلك ولا يدرون العلة فيه، ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك الأقوات ففيها من الحرام المحض ومن الشبه ما لا يخفى، حتى أن كثيراً من الناس لا يتوقف في شيء ومهما قدر على تحصيل شيء هجم عليه ولا يبالي. والواقع أن البركة في الزمان وفي الرزق وفي النبت إنما يكون من طريق قوة الإيمان, واتباع الأمر, واجتناب النهي, والشاهد لذلك قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96] (¬9). أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 120 ¬

(¬1) رواه البخاري (6037)، ومسلم (157). (¬2) رواه أحمد (2/ 537) (10956). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط مسلم، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1460). (¬3) ((معالم السنن بهامش مختصر سنن أبي داود للمنذري)) (6/ 141) ((جامع الأصول لابن الأثير)) (10/ 409) ((فتح الباري)) (13/ 16). (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 16). (¬5) ((فتح الباري)) (13/ 16). (¬6) ((مختصر سنن أبي داود للمنذري)) (6/ 142). (¬7) ((اتحاف الجماعة)) (1/ 497)، ((والعقائد الإسلامية)) (247) لسيد سابق. (¬8) ((مختصر سنن أبي داود للمنذري)) (6/ 142) ((جامع الأصول)) (10/ 409) تحقيق عبد القادر الأرناؤوط. (¬9) ((فتح الباري)) (13/ 17).

المطلب الثامن عشر: كثرة شهادة الزور وكتمان شهادة الحق

المطلب الثامن عشر: كثرة شهادة الزور وكتمان شهادة الحق جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن بين يدي الساعة ... شهادة الزور وكتمان شهادة الحق)) (¬1). وشهادة الزور هي الكذب متعمداً في الشهادة، فكما أن شهادة الزور سبب لإبطال الحق، فكذلك كتمان الشهادة سبب لإبطال الحق. قال الله تعالى: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة: 283]. وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. ثلاثاً الإشراك بالله، وعقوق الوالدين, وشهادة الزور, أو قول الزور وكان متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته يسكت)) (¬2). وما أكثر شهادة الزور وكتمان شهادة الحق في هذا الزمن، ولعظم خطرها قرنها النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك وعقوق الوالدين، فإن شهادة الزور سبب للظلم والجور وضياع حقوق الناس في الأموال والأعراض، وظهورها دليل على ضعف الإيمان وعدم الخوف من الرحمن. أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 150 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 407) (3870). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 332): رجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (5/ 333)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (647) وقال: على شرط مسلم. (¬2) رواه البخاري (2654)، ومسلم (87).

المبحث الثالث: العلامات التي لم تقع بعد

المطلب الأول: عودة جزيرة العرب جنات وأنهاراً عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه وحتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا)) (¬1) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 195 ¬

(¬1) رواه مسلم (157).

المطلب الثاني: انتفاخ الأهلة

المطلب الثاني: انتفاخ الأهلة من الأدلة على اقتراب الساعة أن يرى الهلال عند بدو ظهوره كبيرا حتى يقال ساعة خروجه إنه لليلتين أو ثلاثة فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة)) (¬1) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 196 ¬

(¬1) رواه الطبراني (10/ 198). وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (5898): صحيح. وانظر كلامه في ((السلسلة الصحيحة)) (2292).

المطلب الثالث: تكليم السباع والجماد الإنس

المطلب الثالث: تكليم السباع والجماد الإنس عن أبي سعيد الخدري قال: عدا الذئب على شاة فأخذها فطلبه الراعي فانتزعها منه فأقعى الذئب على ذنبه قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي. فقال: يا عجبي ذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الإنس. فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي: الصلاة جامعة ثم خرج فقال للراعي: ((أخبرهم)). فأخبرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده)) (¬1) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 197 ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 83) (11809). وروى الترمذي - طرف من آخره - (2181)، والحاكم (4/ 414). قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل، والقاسم بن الفضل ثقة مأمون عند أهل الحديث وثقه يحيى بن سعيد القطان، وعبدالرحمن بن مهدي. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 291): عند الترمذي طرف من آخره - ثم قال: رواه أحمد والبزار بنحوه باختصار ورجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (122): وهذا سند صحيح رجاله ثقات رجال مسلم غير القاسم هذا وهو ثقة اتفاقاً، وأخرج له مسلم في (المقدمة).

المطلب الرابع: انحسار الفرات عن جبل من ذهب

المطلب الرابع: انحسار الفرات عن جبل من ذهب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب. يقتتل الناس عليه. فيقتل من كل مائة، تسعة وتسعون. ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو)) (¬1). وليس المقصود بهذا الجبل من ذهب (النفط) (البترول الأسود) كما يرى ذلك أبو عبية في تعليقه على النهاية في الفتن لابن كثير (¬2) وذلك من وجوه: 1 - أن النص جاء فيه (جبل من ذهب) والبترول ليس بذهب على الحقيقة فإن الذهب هو المعدن المعروف. 2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن ماء النهر ينحسر عن جبل من ذهب فيراه الناس، والنفط أو (البترول) يستخرج من باطن الأرض بالآلات من مسافات بعيدة. 3 - أن النبي صلى الله عليه وسلم خص الفرات بهذا دون غيره من البحار والأنهار، والنفط نراه يستخرج من البحار كما يستخرج من الأرض وفي أماكن كثيرة متعددة. 4 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناس سيقتتلون عند هذا الكنز ولم يحصل أنهم اقتتلوا عند خروج النفط من الفرات أو غيره، بل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من حضر هذا الكنز أن يأخذ منه شيئاً كما في الرواية الأخرى عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا .. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً)) (¬3). ومن حمله على النفط فإنه يلزمه على قوله هذا النهي عن الأخذ من النفط ولم يقل به أحد (¬4). وقد رجح الحافظ ابن حجر أن سبب المنع من الأخذ من هذا الذهب لما ينشأ عن أخذه من الفتنة والقتال عليه (¬5). أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 156 ¬

(¬1) رواه مسلم (2894). (¬2) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 208) تحقيق محمد فهيم أبو عبية. (¬3) رواه البخاري (7119)، ومسلم (2894). (¬4) ((اتحاف الجماعة)) (1/ 489). (¬5) ((فتح الباري)) (13/ 81).

المطلب الخامس: إخراج الأرض كنوزها المخبوءة

المطلب الخامس: إخراج الأرض كنوزها المخبوءة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا)) (¬1). وهذه آية من آيات الله حيث يأمر الحق الأرض أن تخرج كنوزها المخبوءة في جوفها. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 201 ¬

(¬1) رواه مسلم (1013).

المطلب السادس: محاصرة المسلمين إلى المدينة

المطلب السادس: محاصرة المسلمين إلى المدينة من أشراط الساعة أن يهزم المسلمون وينحسر ظلهم ويحيط بهم أعداؤهم ويحاصرونهم في المدينة المنورة. عن ابن عمر: رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح)) (¬1) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 202 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4250)، وابن حبان (15/ 174)، والطبراني في ((الأوسط)) (6/ 286)، والحاكم (4/ 556). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((صحيح ابن حبان)): قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري.

المطلب السابع: إحراز الجهجاه الملك

المطلب السابع: إحراز الجهجاه الملك الجهجاه رجل من قحطان سيصير إليه الملك وهو شديد القوة والبطش، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه)) (¬1) وفي رواية: ((لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك رجل يقال له: الجهجاه)) (¬2). ويحتمل أن يكون هذا الذي في الرواية الأخيرة غير الأول فقد صح في سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يذهب الليل والنهار حتى يملك رجل من الموالي يقال له جهجاه)) (¬3) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 203 ¬

(¬1) رواه البخاري (3517)، ومسلم (2910). (¬2) رواه مسلم (2911). (¬3) رواه الترمذي (2228)، وأحمد (2/ 329) (8346). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (16/ 156): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المطلب الثامن: فتح القسطنطينية

المطلب الثامن: فتح القسطنطينية ومنها فتح مدينة القسطنطينية – قبل خروج الدجال - على يدي المسلمين, والذي تدل عليه الأحاديث أن هذا الفتح العظيم يكون بعد قتال الروم في الملحمة الكبرى وانتصار المسلمين عليهم، فعندئذ يتوجون إلى مدينة القسطنطينية فيفتحها الله للمسلمين بدون قتال، وسلاحهم التكبير والتهليل. ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق. فإذا جاؤوها نزلوا. فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم. قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر. فيسقط أحد جانبيها. قال ثور (أحد رواة الحديث): لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر. ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر. فيسقط جانبها الآخر. ثم يقولوا الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر. فيفرج لهم. فيدخلوها فيغنموا. فبينما هم يقتسمون الغنائم، إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج. فيتركون كل شيء ويرجعون)) (¬1). وقد أشكل قوله في هذا الحديث: ((يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق)) والروم من بني إسحاق, لأنهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، فكيف يكون فتح القسطنطينية على أيديهم؟ قال القاضي عياض: (كذا هو في جميع أصول صحيح مسلم من بني إسحاق, ثم قال: قال بعضهم: المعروف المحفوظ من بني إسماعيل، وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه لأنه إنما أراد العرب) (¬2). وذهب الحافظ ابن كثير: إلى أن هذا الحديث (يدل على أن الروم يسلمون في آخر الزمان, ولعل فتح القسطنطينية يكون على أيدي طائفة منهم كما نطق به الحديث المتقدم أنه يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق) واستشهد على ذلك بأنهم مدحوا في حديث المستورد القرشي فقد قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة. وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة. وأوشكهم كرة بعد فرة. وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. وخامسة حسنة وجميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك)) (¬3). ... ويدل أيضاً على أن الروم يسلمون في آخر الزمان حديث أبي هريرة السابق في قتال الروم وفيه: أن الروم يقولون للمسلمين ((خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا)) (¬4) فالروم يطلبون من المسلمين أن يتركوهم يقاتلون من سبي منهم لأنهم أسلموا فيرفض المسلمون ذلك, ويبينون للروم أن من أسلم منهم فهو من إخواننا لا نسلمه لأحد، وكون غالب جيش المسلمين ممن سبي من الكفار ليس بمستغرب. قال النووي: (وهذا موجود في زماننا، بل معظم عساكر الإسلام في بلاد الشام ومصر سبوا ثم هم اليوم بحمد الله يسبون الكفار وقد سبوهم في زماننا مراراً كثيرة، يسبون في المرة الواحدة من الكفار ألوفاً ولله الحمد على إظهار الإسلام وإعزازه) (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم (2920). (¬2) ((إكمال المعلم شرح صحيح مسلم)) (8/ 232)، و ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (18/ 43 - 44). (¬3) رواه مسلم (2898). (¬4) رواه مسلم (2897). (¬5) ((شرح صحيح مسلم)) (18/ 21).

ويؤيد كون هذا الجيش الذي يفتح القسطنطينية من بني إسحاق أن جيش الروم يبلغ عددهم قريباً من ألف ألف، فيقتل بعضهم ويسلم بعضهم ويكون من أسلم مع جيش المسلمين الذي يفتح القسطنطينية والله أعلم. وفتح القسطنطينية بدون قتال لم يقع إلى الآن وقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أنه قال: ((فتح القسطنطينية مع قيام الساعة)) (¬1). ثم قال الترمذي: قال محمد أي ابن غيلان شيخ الترمذي: هذا حديث غريب، والقسطنطينية هي مدينة الروم تفتح عند خروج الدجال, والقسطنطينية قد فتحت في زمان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) , والصحيح أن القسطنطينية لم تفتح في عصر الصحابة فإن معاوية رضي الله عنه بعث إليها ابنه يزيد في جيش فيهم أبو أيوب الأنصاري، ولم يتم لهم فتحها ثم حاصرها مسلمة بن عبد الملك ولم تفتح أيضاً, ولكنه صالح أهلها على بناء مسجد بها (¬3). وفتح الترك أيضاً للقسطنطينية كان بقتال، ... وستفتح فتحا أخيراً كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. قال أحمد شاكر: (فتح القسطنطينية المبشر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه الله عز وجل، وهو الفتح الصحيح لها حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا فإنه كان تمهيدا للفتح الأعظم، ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين منذ أعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية وعاهدت الكفار أعداء الإسلام, وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة، وسيعود الفتح الإسلامي لها إن شاء الله كما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬4). أشراط الساعة ليوسف الوابل- بتصرف- ص: 164 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2239). وقال: هذا حديث غريب، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): إسناده صحيح موقوف. (¬2) ((جامع الترمذي)) (4/ 510). (¬3) ((النهاية –الفتن والملاحم-)) (1/ 62) تحقيق د. طه الزيني. (¬4) ((حاشية عمدة التفسير عن ابن كثير)) (2/ 256) اختصار وتحقيق الشيخ أحمد شاكر.

المطلب التاسع: فتنة الأحلاس وفتنة الدهيماء

المطلب التاسع: فتنة الأحلاس وفتنة الدهيماء عن عبدالله بن عمر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قعودا فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس فقال قائل: يا رسول الله وما فتنة الأحلاس؟ قال: ((هي فتنة هَرَب وحَرَب ثم فتنة السراء دخلها أو دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني إنما وليّي المتقون ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة فإذا قيل: انقطعت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسى كافرا حتى يصير الناس إلى فسطاطين فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه إذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من اليوم أو غد)) (¬1) والأحلاس: جمع حلس وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب شبهت به الفتنة لملازمتها للناس حين تنزل بهم كما يلازم الحلس ظهر البعير وقال الخطابي: يحتمل أن تكون هذه الفتنة شبهت بالأحلاس لسواد لونها وظلمتها. والحرب: ذهاب المال والأهل، والدهيماء: الداهية التي تدهم الناس بشرها. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 204 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4242)، وأحمد (2/ 133) (6168)، والحاكم (4/ 513). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (9/ 24): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

المطلب العاشر: خروج المهدي

المطلب العاشر: خروج المهدي • الفرع الأول: اسمه وصفته. • الفرع الثاني: مكان خروجه. • الفرع الثالث: الأدلة من السنة على ظهوره. • الفرع الرابع: العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي وصححوها. • الفرع الخامس: في نقل كلام أهل العلم في إثبات حقيقة المهدي. • الفرع السادس: عقائد الفرق الإسلامية في المهدي.

الفرع الأول: اسمه وصفته

الفرع الأول: اسمه وصفته وهذا الرجل اسمه كاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه كاسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم فيكون اسمه محمد أو أحمد بن عبد الله, وهو من ذرية فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم من ولد الحسن بن علي رضي الله عنهم. قال ابن كثير رحمه الله في المهدي: (وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني رضي الله عنه) (¬1). وصفته الواردة: أنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف. أشراط الساعة ليوسف الوابل- ص 193 ¬

(¬1) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 29) تحقيق د. طه زيني.

الفرع الثاني: مكان خروجه

الفرع الثاني: مكان خروجه يكون ظهور المهدي من قبل المشرق, فقد جاء في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقتتل عند كنزكم هذا ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصل إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم - ثم ذكر شيئاً – لا أحفظه فقال: فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي)) (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: (والمراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة، يقتتل عنده ليأخذوه ثلاثة من أولاد الخلفاء، حتى يكون آخر الزمان فيخرج المهدي، ويكون ظهوره من بلاد المشرق لا من سرداب سامرا، كما يزعمه جهلة الرافضة من أنه موجود فيه الآن, وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان، فإن هذا نوع من الهذيان، وقسط كبير من الخذلان، شديد من الشيطان، إذ لا دليل على ذلك ولا برهان, لا من كتاب ولا سنة, ولا معقول صحيح ولا استحسان)، وقال أيضاً: (ويؤيد بناس من أهل المشرق ينصرونه, ويقيمون سلطانه, ويشيدون أركانه، وتكون راياتهم سود أيضاً، وهو زي عليه الوقار لأن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء يقال لها العقاب) إلى أن قال: (والمقصود أن المهدي الممدوح الموعود بوجوده في آخر الزمان يكون أصل ظهوره وخروجه من ناحية المشرق، ويبايع له عند البيت كما دل على ذلك بعض الأحاديث) (¬2). أشراط الساعة ليوسف الوابل- ص 194 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (418)، والحاكم (4/ 510). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (4/ 204): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (¬2) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 29).

الفرع الثالث: الأدلة من السنة على ظهوره

الفرع الثالث: الأدلة من السنة على ظهوره جاءت الأحاديث الصحيحة الدالة على ظهور المهدي، وهذه الأحاديث منها ما جاء فيه النص على المهدي ومنها ما جاء فيه ذكر صفته فقط, وسأذكر هنا بعض هذه الأحاديث وهي كافية في إثبات ظهوره في آخر الزمان علامة من علامات الساعة. 1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً، أو ثمانياً، يعني حججاً)) (¬1). 2 - وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبشركم بالمهدي يبعث على اختلاف من الناس وزلازل, فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً, يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض, يقسم المال صحاحاً. فقال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: بالسوية بين الناس، قال: ويملأ الله قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم غنى، ويسعهم عدله, حتى يأمر منادياً فينادي، فيقول: من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل، فيقول: ائت السدان يعني الخازن فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالاً، فيقول له: أحث, حتى إذا جعله في حجرة وأبرزه ندم, فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفساً، أو عجز عني ما وسعهم، قال: فيرده، فلا يقبل منه، فيقال له: إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه، فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، ثم لا خير في العيش بعده، أوقال: لا خير في الحياة بعده)) (¬2). وفي هذا دليل على أنه بعد موت المهدي، يظهر الشر والفتن العظيمة. 3 - وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة)) (¬3). قال ابن كثير: (أي يتوب عليه ويوفقه، ويلهمه ويرشده بعد أن لم يكن كذلك) (¬4). 4 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المهدي مني؛ أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يملك سبع سنين)) (¬5). 1 - وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المهدي من عترتي من ولد فاطمة)) (¬6). ¬

(¬1) رواه الحاكم (4/ 601). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (711): إسناده صحيح رجاله ثقات. (¬2) رواه أحمد (3/ 37) (11344). قال عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (4/ 532): له متابعة، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 316): رجاله ثقات. (¬3) رواه ابن ماجه (3316)، وأحمد (1/ 84) (645). قال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (2/ 58): إسناده صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬4) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 29) تحقيق د. طه زيني. (¬5) رواه أبو داود (4285)، والحاكم (4/ 600). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في ((تلخيص العلل المتناهية)) (319): إسناده صالح، وجوّد إسناده ابن القيم في ((المنار المنيف)) (ص: 109)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 120) كما قال ذلك في المقدمة. (¬6) رواه أبو داود (4284)، وابن ماجه (3317)، والحاكم (4/ 601). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه ابن تيمية في ((منهاج السنة)) (8/ 255)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 119).

2 - وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة)) (¬1). 3 - وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه)) (¬2). 4 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي, ويواطئ اسمه اسمي)) (¬3). وفي رواية: ((يواطئ اسمه اسمي, واسم أبيه اسم أبي)) (¬4). بعض ما ورد في الصحيحين من الأحاديث فيما يتعلق بالمهدي: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم, وإمامكم منكم)) (¬5). 2 - وعن جابر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. قال، فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا. إن بعضكم على بعض أمراء. تكرمة الله هذه الأمة)) (¬6). 3 - وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعده عدد)). قال الجريري – أحد رواة الحديث – قلت لأبي نضرة وأبي العلاء: أتريان أنه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: لا" (¬7). فهذه الأحاديث التي وردت في الصحيحين تدل على أمرين: أحدهما: أنه عند نزول عيسى بن مريم – عليه الصلاة والسلام – من السماء يكون المتولي لأمرة المسلمين رجلا منهم. ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 345) (14762)، وأبو يعلى (4/ 59) (2078)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (9/ 39) (9078). قال ابن القيم في ((المنار المنيف)) (114): إسناده جيد، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2236): إسناده جيد رواته ثقات. (¬2) رواه أبو نعيم في ((الأربعون في المهدي)) (64). وصححه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2293). (¬3) رواه أبو داود (4282)، والترمذي (2231)، وأحمد (1/ 376) (3572). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (6/ 92): لا ينحط عن درجة الحسن وله شواهد كثيرة من بين حسان وضعاف [وهو] مع شواهده وتوابعه صالح للاحتجاج، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (6/ 139). (¬4) رواه أبو داود (4282)، والطبراني (10/ 135) (10243). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه ابن تيمية في ((منهاج السنة)) (8/ 255)، وابن القيم في ((المنار المنيف)) (108)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬5) رواه البخاري (3449)، ومسلم (155). (¬6) رواه مسلم (156). (¬7) رواه مسلم (2913).

والثاني: أن حضور أميرهم للصلاة, وصلاته بالمسلمين وطلبه من عيسى عليه السلام عند نزوله أن يتقدم ليصلي لهم يدل على صلاح في هذا الأمير وهدى, وهي وإن لم يكن فيها التصريح بلفظ المهدي إلا أنها تدل على صفات رجل صالح يؤم المسلمين في ذلك الوقت، وقد جاءت الأحاديث في السنن والمسانيد وغيرها مفسرة لهذه الأحاديث التي في الصحيحين ودالة على أن ذلك الرجل الصالح يسمى محمد بن عبد الله ويقال له المهدي، والسنة يفسر بعضها بعضاً، ومن الأحاديث الدالة على ذلك الحديث الذي رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي)) (¬1) فهو دال على أن ذلك الأمير المذكور في صحيح مسلم الذي طلب من عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أن يتقدم للصلاة يقال له المهدي. وقد أورد الشيخ صديق حسن في كتابه الإذاعة جملة كبيرة من أحاديث المهدي جعل آخرها حديث جابر المذكور عند مسلم، ثم قال عقبه: (وليس فيه ذكر المهدي ولكن لا محمل له ولأمثاله من الأحاديث إلا المهدي المنتظر كما دلت على ذلك الأخبار المتقدمة والآثار الكثيرة) (¬2). أشراط الساعة ليوسف الوابل - ص 195 4 - عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي)) (¬3). وفي رواية: قال: ((لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا)) (¬4). قال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز: أمر المهدي معلوم، والأحاديث فيه مستفيضة، بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها، وتواترها تواتر معنوي، لكثرة طرقها، واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق، وهو محمد بن عبدالله العلوي الحسني من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان، يخرج فيقيم العدل والحق، ويمنع الظلم والجور، وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلا وهداية وتوفيقا وإرشادا للناس. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 206 ¬

(¬1) رواه الحارث بن أبي أسامة كما ذكره ابن القيم في (المنار المنيف) (ص: 114) وقال: إسناده جيد، قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2236): وهو كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى، فإن رجاله كلهم ثقات. (¬2) ((عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر)) (ص 175 - 176) عبد المحسن العباد. (¬3) رواه أبو داود (4282) بزيادة (أو لا تنقضي)، والترمذي (2230) واللفظ له، وأحمد (1/ 377) (3573). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ووافقه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه أبو داود (4282) واللفظ له، والطبراني (10/ 135) بلفظ: (ليلة) بدلا من (يوم). والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن القيم في ((المنار المنيف)) (108): صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.

الفرع الرابع: العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي وصححوها

الفرع الرابع: العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي وصححوها أخرج أحاديث المهدي الإمام أحمد بن حنبل، والطبراني، وأبو يعلى، والبزار وعبد الرازق الصنعاني، وابن أبي شيبة، وأبو نعيم بن حماد، وابن ماجة، والترمذي، والحاكم، وأبو داود، وفي أحاديثهم: الصحيح والحسن والضعيف. وممن صحح أحاديث المهدي من علماء السلف والخلف: العقيلي، وأبو الحسن الآبري، والقرطبي، وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، والذهبي, والمنذري، والهيثمي، وابن حجر العسقلاني، والمباركفوري، وشمس الحق آبادي، وعلي بن سلطان محمد القاري، والشعراني، والكشميري، والخطابي، والشوكاني، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، والبوصيري، ومحمد بن أحمد السفاريني، ومحمد بن جعفر الكناني، وأبو العلاء السيد إدريس العراقي، وأبو الطيب صديق حسن خان، والسيد محمد الشهروزي، وأبو عبد الله محمد جسوس، ومحمد العربي الفاسي. - ومن العلماء المعاصرين العلامة الفاضل الشيخ عبد العزيز بن باز، ومحدث الشام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ محمد بن عثيمين وغيرهم كثيرون. - وإذا كان الحق لا يعرف بالرجال, فلا شك أن الرجال هم الواسطة في معرفة هذا الحق, ولابد أن يراعى قدرهم وجلالتهم وإمامتهم خاصة إذا انضم إلى ذلك كثرة عددهم في جانب مخالفيهم, وقلة علم مخالفيهم بالنسبة إليهم, وقبل ذلك كله صحة الأحاديث الواردة في ذلك، بل وحكم الكثير منهم عليها بالتواتر المعنوي، والحق أنه لم يعرف أنه خالف في هذه العقيدة من الغابرين سوى ابن خلدون، وليس من أهل التحقيق كما قال العلماء. الرسالة في الفتن والملاحم وأشراط الساعة لماهر بن صالح آل مبارك– ص: 87

الفرع الخامس: في نقل كلام أهل العلم في إثبات حقيقة المهدي

الفرع الخامس: في نقل كلام أهل العلم في إثبات حقيقة المهدي قال العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي (¬1): (اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين, ويظهر العدل, ويتبعه المسلمون, ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى عليه السلام ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته. وخرج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة منهم: أبو داود, والترمذي, وابن ماجة, والبزار, والحاكم, والطبراني, وأبو يعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل: علي, وابن عباس, وابن عمر, وطلحة, وعبد الله بن مسعود, وأبي هريرة, وأنس, وأبي سعيد الخدري, وأم حبيبة, وأم سلمة, وثوبان, وقرة بن إياس, وعلي الهلالي, وعبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنهم. وإسناد أحاديث هؤلاء بين صحيح, وحسن, وضعيف. وقد بالغ الإمام المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها فلم يصب بل أخطأ). قال القاضي الشوكاني في الفتح الرباني: (الذي أمكن الوقوف عليه من الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر خمسون حديثا وثمانية وعشرون أثراً. ثم سردهم مع الكلام عليها) ثم قال: (وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى من له فضل اطلاع). اهـ. وقال الإمام أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري في كتاب (مناقب الشافعي): (وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم بذكر المهدي وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه). اهـ. قال المحدث الناقد أبو العلاء السيد إدريس بن محمد بن إدريس العراقي الحسيني في تأليف له في المهدي ما نصه: (أحاديث المهدي متواترة – أو كادت – وجزم بالأول غير واحد من الحفاظ النقاد). اهـ. قال الشوكاني في تأليف له سماه (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح) (¬2): (والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح, والحسن, والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضاً لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك). اهـ. قال المحدث أبو الطيب صديق حسن الحسيني البخاري في كتاب (الإذاعة): (والأحاديث الواردة في المهدي – على اختلاف رواياتها كثيرة جداً تبلغ حد التواتر, وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد) وقال أيضاً بعد كلام له ما نصه: (وأحاديث المهدي بعضها صحيح, وبعضها حسن, وبعضها ضعيف، وأمره مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار). اهـ. وقال العلامة أبو عبد الله محمد جسوس في شرح رسالة أبي زيد ما نصه: (ورد خبر المهدي في أحاديث ذكر السخاوي أنها وصلت إلى حد التواتر). اهـ. وقال الحافظ ابن كثير في (نهاية البداية والنهاية) (1/ 37): ¬

(¬1) راجع كتاب ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) (11/ 361 - 362). (¬2) راجع كتاب ((الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة)) (ص: 124).

(فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان وهو أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين وليس بالمنتظر الذي تزعم الروافض, وترتجي ظهوره من سرداب في سامرا, فإن ذاك مالا حقيقة له ولا عين ولا أثر .. وأما ما سنذكره فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الدهر, وأظن ظهوره يكون قبل نزول عيسى بن مريم كما دلت على ذلك الأحاديث ثم ذكر الحافظ ابن كثير بعض ما ورد في ظهور المهدي من الآثار). اهـ. وقال السفاريني في عقيدته المسماة (بالدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية): (وما أتى في النص من أشراط ... فكله حق بلا شطاط منها الإمام الخاتم الفصيح ... محمد المهدي والمسيح) وقال أيضاً في شرحها: (كثرت أقوال في المهدي حتى قيل: (لا مهدي إلا عيسى) , والصواب الذي عليه أهل الحق: أن المهدي غير عيسى، وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام، وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي, وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم .. ثم ذكر بعض الأحاديث الواردة فيه من طريق جماعة من الصحابة ثم قال: وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم بروايات متعددة، وعن التابعين من بعدهم، مما يفيد مجموعه العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم، ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة). اهـ. وقال صاحب كتاب (الإذاعة) (ص: 124). (وقد جمع السيد العلامة بدر الملة المنير محمد بن إسماعيل الأمير اليماني الأحاديث القاضية بخروج المهدي، وأنه من آل محمد صلى الله عليه وسلم, وأنه يظهر في آخر الزمان) ثم قال: (ولم يأت تعيين زمنه إلا أنه يخرج قبل الدجال). اهـ. وقال أيضاً: (ونقل العلامة الشيخ مرعي في كتابه (فوائد الفكر) عن محمد بن الحسين أنه قال: قد تواترت الأحاديث واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمجيء المهدي، وأنه من أهل بيته صلى الله عليه وسلم). اهـ. وقال الحافظ في فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 82). أثناء شرحه لحديث: ((تصدقوا فسيأتي على الناس زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها)) (¬1). فذكر الحافظ احتمالات تعلق هذا الحديث بالباب الذي قبله وهو باب خروج النار فقال رحمه الله: (وتعلقه به من جهة الاحتمال الذي تقدم، وهو أن ذلك يقع في الزمان الذي يستغني فيه الناس عن المال، إما لاشتغال كل منهم بنفسه عن طروق الفتنة، فلا يلوي على الأهل فضلاً عن المال، وذلك في زمن الدجال، وإما بحصول الأمن المفرط, والعدل البالغ بحيث يستغني كل أحد بما عنده عما في يد غيره، وذلك في زمن المهدي وعيسى بن مريم، وإما عند ظهور النار التي تسوقهم إلى المحشر). اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (منهاج السنة النبوية 4/ 211): (الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود, والترمذي, وأحمد, وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره. ثم ذكر شيخ الإسلام روايات ابن مسعود, وأم سلمة, وأبي سعيد, وعلي رضي الله عنهم جميعاً. وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز (رحمه الله) (¬2): (أما إنكار المهدي المنتظر بالكلية كما زعم ذلك بعض المتأخرين فهو قول باطل، لأن أحاديث خروجه في آخر الزمان, وأنه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً، قد تواترت تواتراً معنوياً، وكثرت جداً واستفاضت كما صرح بذلك جماعة من العلماء بينهم: أبو الحسن الآبري السجستاني من علماء القرن الرابع, والعلامة السفاريني, والعلامة الشوكاني وغيرهم، وهو كالإجماع من أهل العلم، ولكن لا يجوز الجزم بأن فلاناً هو المهدي إلا بعد توافر العلامات التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة، وأعظمها وأوضحها كونه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً). اهـ. الرسالة في الفتن والملاحم وأشراط الساعة لماهر بن صالح آل مبارك– ص: 89 ¬

(¬1) رواه البخاري (1411)، ومسلم (1011). من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه. (¬2) ((جريدة عكاظ)) (18 محرم 1400هـ).

الفرع السادس: عقائد الفرق الإسلامية في المهدي

1 - عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة أهل السنة والجماعة موافقة ... للأحاديث الصحيحة وأن المهدي حاكم صالح راشد يبعثه الله مجددا لهذا الدين ويعلي الله هذا الدين على يديه. يقول ابن خلدون: اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في (الصحيح) على إثره، وأن عيسى عليه السلام ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر -بتصرف - ص 206

2– عقيدة الشيعة الإمامية

2– عقيدة الشيعة الإمامية الذين يعتقدون أن المهدي هو آخر أئمتهم وهو الإمام الثاني عشر المدعو محمد بن الحسن العسكري وهو عندهم من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن وهم يعتقدون أنه دخل سرداب سامراء منذ أكثر من ألف ومائة سنة وعمره خمس سنوات ويعتقدون أنه حاضر في الأمصار غائب عن الأبصار وهو المهدي الذي ينتظرون عودته وكلامهم هذا لم يقم عليه دليل ولا برهان من عقل أو نقل وهو مخالف لسنة الله في البشر. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 206

3 - المكذبون بوجود المهدي

3 - المكذبون بوجود المهدي وهؤلاء أفراد من الذين ينسبون لأهل السنة ليس لهم باع طويل في تحقيق النصوص والكشف عن الأسانيد وقد دحض شبهاتهم كثير من أهل العلم في مؤلفات مستقلة وآخرها فيما اطلعنا عليه ما كتبه فضيلة الشيخ العلامة عبد المحسن العباد في كتابه: (الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي)، وما كتبه فضيلة الشيخ حمود بن عبدالله بن حمد التويجري كتب مجلداً بعنوان (الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 206

4 - رجال من الحكام الماضين ادعوا المهدية أو ادعاها لهم أقوام

4 - رجال من الحكام الماضين ادّعوا المهدية أو ادعاها لهم أقوام وبعض هؤلاء رجال صالحون لقب الواحد منهم بالمهدي لا على أنه ذلك المهدي الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بل تفاؤلا بأن يكون من الأئمة المهديين الذين يقولون بالحق وبه يحكمون ومن هؤلاء المهدي الخليفة العباسي. وبعض الذين ادعوا المهدية من الحكام أو ادعيت لهم أقوام فجرة مثل الملحد عبيد الله بن ميمون القداح المتوفى 322هـ، ومهدي المغاربة محمد بن تومرت، ومهدي الفرقة المدعوة بالكيسانية وهم يزعمون أنه محمد بن الحنفية. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 206 - مهدي القرامطة الباطنية: هو الملحد عبيد الله بن ميمون القداح وكان جده يهودياً من بيت مجوسي, فانتسب بالكذب والزور إلى أهل البيت, وادعى أنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم وملك تغلب، واستفحل أمره إلى أن استولت ذريته الملاحدة المنافقون الذين كانوا أعظم الناس عداوة لله ولرسوله على بلاد المغرب, ومصر, والحجاز, والشام, واستشرت غربة الإسلام ومحنته ومصيبته بهم, وكانوا يدعون الإلهية, ويدعون أن للشريعة باطناً يخالف ظاهرها, وهم ملوك القرامطة الباطنية أعداء الدين، فتستروا بالرفض والانتساب كذباً إلى أهل البيت، ودانوا بدين أهل الإلحاد وروجوه، ولم يزل أمرهم ظاهراً إلى أن أنقذ الله الملة الإسلامية منهم وأبادهم، وعادت مصر دار إسلام بعد أن كانت دار نفاق وإلحاد في زمنهم. - مهدي المغاربة: هو محمد بن تومرت, فإنه رجل كذاب ظالم متغلب بالباطل, ملك بالظلم والتغلب والتخيل، فقتل النفوس, وأباح حريم المسلمين, وسبى ذراريهم, وأخذ أموالهم. وكان يودع بطن الأرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء، يأمرهم أن يقولوا للناس: إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم ثم يردم عليهم ليلا لئلا يكذبوه بعد ذلك. الرسالة في الفتن والملاحم وأشراط الساعة لماهر بن صالح آل مبارك– ص: 94 ولهذا لما كان الحديث المعروف عند السلف والخلف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المهدي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي صار يطمع كثير من الناس في أن يكون هو المهدي حتى سمى المنصور ابنه محمد ولقبه بالمهدي مواطأة لاسمه باسمه واسم أبيه باسم أبيه ولكن لم يكن هو الموعود به وأبو عبدالله محمد بن التومرت الملقب بالمهدي الذي ظهر بالمغرب ولقب طائفته بالموحدين وأحواله معروفة كان يقول إنه المهدي المبشر به وكان أصحابه يخطبون له على منابرهم فيقولون في خطبتهم الإمام المعصوم المهدي المعلوم الذي بشرت به في صريح وحيك الذي اكتنفته بالنور الواضح والعدل اللائح الذي ملأ البرية قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا وهذا الملقب بالمهدي ظهر سنة بضع وخمسمائة وتوفى سنة أربع وعشرين وخمسمائة وكان ينتسب إلى أنه من ولد الحسن لأنه كان أعلم بالحديث فادعى أنه هو المبشر به ولم يكن الأمر كذلك ولا ملأ الأرض كلها قسطا ولا عدلا بل دخل في أمور منكرة منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 4/ 40

قال الجونبوري وهو من مدعي المهدية في الهند: (كثر الخلاف في الحديث ويصعب تمييز الصحيح من السقيم، فالذي يوافق كتاب الله تعالى: ويوافق أحوالي فاقبلوه). فهل يقول مثل هذا عاقل؟ وهل يقر به متجرد عن الهوى؟ اللهم لا، ولما سأل علماء هرات الجونبوري: على أي أساس تدعي المهدية لنفسك؟ قال: أنا لا أدعيها من عند نفسي، بل أدعيها بأمر من الله سبحانه وتعالى، وسئل مرة: إن اسم أبي المهدي عبدالله، وأنت ابن سيدخان، فأجاب قائلا: أليس الله بقادر على أن يبعث مهديا ابن سيدخان؟! وأجاب مرة ثانية: اسألوا الله لماذا بعث ابن سيدخان مهديا؟! وقال مرة ثالثة: اذهبوا فقاتلوا الله تعالى: لماذا بعث ابن سيدخان، فتأمل كيف يسيطر الهوى على أمثال أولئك ويردون النصوص ويحرفونها لتسلم لهم دعاويهم الفارغة. أما أتباع بعض دعاة المهدية فحالهم كذلك عجيب خذ مثلا ما نشر في (العروة الوثقى) (¬1): لقد أخذ الاعتقاد بمحمد أحمد سبيلا في قلوب الهنديين، حتى كتب إلينا أحد أصدقائنا في لاهور أن محمد أحمد لو كان دجالا لأوجبت علينا الضرورة أن نعتقده مهديا، وأن لا نفرط في شيء مما يؤيده. نعم و (لو كان دجالا لأوجبت علينا الضرورة أن نعتقده مهديا) هل يقول هذا عاقل متجرد لنصرة الحق؟ أم هو من أقوال من غلبتهم أهواؤهم فأعمتهم وأصمتهم؟ نسأل الله الهداية، ولذا فإن كثيرا من تلكم الدعوات القائمة على دعوى المهدوية تستمر ولو مات المهدي المزعوم أو قتل، ولا يكون في مثل ذلك عبرة وعظة للأتباع لمعرفة حجم الضلال والانحراف الذي وقع بهم ومنهم، ويصعب عليهم العود إلى الحق، فيلوون عنق الواقع، كما لووا عنق النصوص، فلان ما مات، فلان حي وسيعود، فلان في دور الستر وسيخرج، فلان قد رئي العام عند الكعبة وهكذا، ومثال هذا ما ذكره البرزنجي قال: وقد ذكر الشيخ علي المتقي في رسالة له في أمر المهدي: أن في زمانه خرج رجل بالهند ادعى أنه المهدي المنتظر واتبعه خلق كثير، وظهر أمره وطار صيته، ثم إنه مات بعد مدة، وأن أتباعه لم يرجعوا عن اعتقادهم، ... وأن أولئك القوم إلى الآن على ذلك الاعتقاد الخبيث، وأنهم يعرفون بالمهدوية، وربما سموا بالقتالية، لأن كل من قال لهم: إن اعتقادكم باطل، قتلوه، حتى إن الرجل الواحد منهم يكون بين الجمع الكثير من المسلمين، فإذا قيل له: إن اعتقادك باطل، قتل القائل، ولا يبالي أيقتل أم يسلم، وهم خلق كثير، وقد ضموا إلى ذلك الاعتقاد بدعا أخر خرجوا بها عن سواء الصراط)، قال صديق حسن خان: (قلت: وهذا هو السيد محمد الجونفوري). والمقصود أن من أراد أن يلج هذا الباب - ... باب تنزيل النصوص على الواقع- فيجب عليه أن يلقي على عتبته أهواءه ليسلم له دينه أولاً، ويصح له تنزيله ثانيا، أما أن يبقى على هواه ويريد أن يصح التنزيل فلا، وليعلم أنه سيكون ساعتئذ منزلا لهواه على الواقع لا لنصوص مولاه وأقوال نبيه صلى الله عليه وسلم. منارات وعلامات في تنزيل أحاديث الفتن على الوقائع والحوادث لعبد الله بن صالح العجيري - بتصرف- ص123 ¬

(¬1) ((العروة الوثقى)) (ص208 - 209).

يقول الشيخ محمد إسماعيل المقدم: (ومن العبث بأشراط الساعة: تكلف بعضهم اصطناع هذه الأشراط، وإيجادها في الواقع عنوة، حتى إن من مدعي المهدية من يغير اسمه واسم أبيه، أو يدعي الانتساب إلى آل البيت الشريف، متناسين أن المنتظر تصنعه المهدية، لكنه لا يصنعها ولا يصطنعها) ... ومن الأمثلة على هذا ما وقع من محمد بن عبدالله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية رحمه الله، حين تلقب بالمهدي، قال ابن كثير: (تلقب بالمهدي طمعا أن يكون هو المذكور في الأحاديث، فلم يكن به، ولا تم له ما رجاه، ولا ما تمناه، فإنا لله). ومن الأمثلة كذلك ما وقع للخليفة العباسي المهدي، قال ابن كثير: (وإنما لقب بالمهدي رجاء أن يكون الموعود به في الأحاديث فلم يكن به وإن اشتركا في الاسم فقد افترقا في الفعل ذاك يأتي آخر الزمان عند فساد الدنيا فيملأ الأرض عدلا كما ملئت فجورا وظلما وقد قيل: إنّ في أيامه ينزل عيسى بن مريم بدمشق). ومن الأمثلة كذلك ما ذكره البرزنجي قال: (وظهر قبل تأليفي لهذا الكتاب بقليل، رجل بجبال عقر أو العمادية من الأكراد يسمى عبدالله، ويدعي أنه شريف حسيني، وله ولد صغير ابن اثنتي عشرة سنة أو أقل أو أكثر، قد سماه محمدا ولقبه المهدي، فادعى أنّ ابنه هو المهدي الموعود، وتبعه جماعة كثيرة من القبائل، واستولى على بعض القلاع، ثم ركب عليه والي الموصل ووقع بينهم قتال وسفك دماء، وقد انهزم المدعي وأخذ هو وابنه إلى استنبول، ثم إن السلطان عفى عنهما ومنعهما من الرجوع إلى بلادهما وماتا جميعا. وأعجب منه صنيع الجنبوري، (قال أبو رجاء محمد الشاه جهانبوري في (الهدية المهدية): إن الجنبوري -واسمه محمد بن يوسف الحسيني- لم يمنع أصحابه من ذلك، (أي من نسبة المهدوية إليه)، وبدل اسم أبيه بعبدالله، واسم أمه بآمنة، وأشاعهما في الناس. ومن النماذج المضحكة على هذا الافتعال ما صنعه ميرزا غلام أحمد القادياني والذي ادعى الإصلاح ثم التجديد ثم المهدوية ثم كونه المسيح المنتظر فقام ببناء منارة بقاديان سماها منارة المسيح وذلك بعد دعواه المسيحية بـ12 سنة، وذلك ليكمل دعواه أنه المسيح ابن مريم الذي ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق!!. منارات وعلامات في تنزيل أحاديث الفتن على الوقائع والحوادث لعبد الله بن صالح العجيري - ص130

الفصل الثالث: علامات الساعة الكبرى

تمهيد هناك علامات كبرى تدل على قرب قيام الساعة فإذا ظهرت كانت الساعة على إثرها ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ونحن نتذاكر فقال: ((ما تذاكرون؟)) قالوا: نذكر الساعة قال: ((إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات)). فذكر ((الدخان والدجال والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم)) (¬1). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 217 ¬

(¬1) رواه مسلم (2901).

المبحث الأول: الدخان

المبحث الأول: الدخان قال الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. قال ابن كثير في (النهاية): (وقد نقل البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه فسر ذلك بما كان يحصل لقريش من شدة الجوع بسبب القحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم يرى فيما بينه وبين السماء دخاناً من شدة الجوع، وهذا تفسير غريب جداً، لم ينقل مثله عن أحد من الصحابة غيره، وقد حاول بعض العلماء المتأخرين رد ذلك ومعارضته؛ لما ثبت في حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: ((لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات -فذكر فيهن الدجال والدخان والدابة)) (¬1)، والحديثان في (صحيح مسلم) مرفوعان، والمرفوع مقدم على كل موقوف. وفي ظاهر القرآن ما يدل على وجود دخان من السماء يغشى الناس، وهذا أمر محقق عام، وليس كما روي عن ابن مسعود: أنه خيال عن أعين قريش من شدة الجوع. وقال الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ؛ أي: ظاهر واضح جلي، ليس خيالاً من شدة الجوع، رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ؛ أي: ينادي أهل ذلك الزمان ربهم بهذا الدعاء، يسألون كشف هذه الشدة عنهم؛ فإنهم قد آمنوا وأيقنوا بما وعدوا به من الأمور الغيبية الكائنة بعد ذلك يوم القيامة، وهذا دليل على أنه يكون قبل يوم القيامة، حيث يمكن رفعه، ويمكن استدراك التوبة والإنابة، والله أعلم). انتهى. وعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه؛ قال: ((اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات ... -فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها-)) (¬2) الحديث. رواه: الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وأهل السنن. وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) ... وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات –وذكر منها الدخان-)) (¬3). رواه: الطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه هو والذهبي، ... وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان؛ يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال)) (¬4). رواه: ابن جرير، والطبراني. قال ابن كثير في (تفسيره): (وإسناده جيد). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن؛ فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر؛ فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه)) (¬5) رواه ابن أبي حاتم. ¬

(¬1) رواه مسلم (2901). (¬2) رواه مسلم (2901). (¬3) رواه الطبراني (22/ 79) (195)، والحاكم (4/ 474). وقال: صحيح الإسناد. (¬4) رواه الطبراني (3/ 292) (3440). (¬5) رواه الطبري في تفسيره (22/ 17)، وابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 3232).

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول الآيات الدجال، ونزول عيسى بن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر؛ تقيل معهم إذا قالوا، والدخان. قال حذيفة: يا رسول الله! وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن؛ فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر؛ فيكون بمنزلة السكران؛ يخرج من منخريه وأذنيه ودبره)) (¬1). رواه: ابن جرير، والبغوي؛ بإسناد ضعيف، وله شاهد مما تقدم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. وعن علي رضي الله عنه؛ قال: ((لم تمض آية الدخان بعد؛ يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينفخ الكافر حتى ينفذ)) (¬2).رواه ابن أبي حاتم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: ((يبيت الناس يسيرون إلى جمع، وتبيت دابة الأرض؛ تسري إليهم، فيصبحون وقد جعلتهم بين رأسها وذنبها؛ فما مؤمن إلا تمسحه، ولا منافق ولا كافر إلا تخطمه، وإن التوبة لمفتوحة، ثم يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن منه كهيئة الزكمة، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون كالشيء الحنيذ، وإن التوبة لمفتوحة، ثم تطلع الشمس من مغربها)) (¬3). رواه الحاكم في (مستدركه) وصححه، وإسناده ضعيف،. .... وقد رواه ابن جرير مختصراً، ولفظه: قال: ((يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ويدخل مسامع الكافر والمنافق، حتى يكون الرأس الحنيذ)) (¬4). وعن عبد الله بن أبي مليكة؛ قال: (غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب؛ فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت) (¬5). رواه: ابن جرير، وابن أبي حاتم. قال ابن كثير في (تفسيره): (إسناده صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما). إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة لحمود بن عبد الله التويجري - بتصرف– 3/ 188 ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (22/ 17 - 18). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 3223). (¬3) رواه الحاكم (4/ 531). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (¬4) رواه الطبري في تفسيره (19/ 498). (¬5) رواه الطبري في تفسيره (22/ 17)، والحاكم (4/ 506). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

المبحث الثاني: فتنة المسيح الدجال

المطلب الأول: معنى المسيح ذكر أبو عبد الله القرطبي ثلاثة وعشرين قولاً في اشتقاق هذا اللفظ (¬1)، وأوصلها صاحب (القاموس) إلى خمسين قولاً. وهذه اللفظة تطلق على الصديق، وعلى الضليل الكذاب. فالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام الصديق. والمسيح الدجال الضليل الكذاب، فخلق الله المسيحين أحدهما ضد الآخر. فعيسى عليه السلام مسيح الهدى, يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله. والدجال – لعنه الله – مسيح الضلالة يفتن الناس بما يعطاه من الآيات كإنزال المطر, وإحياء الأرض بالنبات وغيرهما من الخوارق. وسمي الدجال مسيحاً: لأن إحدى عينيه ممسوحة، أو لأنه يمسح الأرض في أربعين يوماً. والقول الأول هو الراجح لما جاء في الحديث: ((إن الدجال ممسوح العين)) (¬2). أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 213 ¬

(¬1) ((التذكرة)) (2/ 358). (¬2) رواه مسلم (2934). من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه.

المطلب الثاني: معنى الدجال

المطلب الثاني: معنى الدجال أما لفظ الدجال فهو مأخوذ من قولهم: دجل البعير إذا طلاه بالقطران وغطاه به. وأصل الدجل: معناه الخلط، يقال: دجل إذا لبس وموه، والدجال: المموه الكذاب الممخرق وهو من أبنية المبالغة على وزن فعال، أي يكثر منه الكذب والتلبيس. وجمعه: دجالون، وجمعه الإمام مالك على دجاجلة وهو جمع تكسير، وذكر القرطبي أن الدجال في اللغة يطلق على عشرة وجوه. ولفظة الدجال: أصبحت علماً على المسيح الأعور الكذاب، فإذا قيل: (الدجال) فلا يتبادر إلى الذهن غيره. وسمي الدجال دجالاً: لأنه يغطي الحق بالباطل، أو لأنه يغطي على الناس كفره بكذبه وتمويهه وتلبيسه عليهم. وقيل: لأنه يغطي الأرض بكثرة جموعه. والله أعلم (¬1). أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 214 ¬

(¬1) ((التذكرة)) (2/ 330).

المطلب الثالث: فتنة الدجال من أعظم الفتن

المطلب الثالث: فتنة الدجال من أعظم الفتن وفتنته من أعظم الفتن التي تمر على البشرية عبر تاريخها، ففي (صحيح مسلم) عن أبي الدهماء وأبي قتادة قالوا: كنا نمر على هشام بن عامر نأتي عمران بن حصين فقال ذات يوم إنكم لتجاوزوني إلى رجال ما كانوا بأحضر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أعلم بحديثه مني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال)) (¬1). وفي رواية: ((أمر أكبر من الدجال)) (¬2). من أجل ذلك فإن جميع الأنبياء حذروا أقوامهم من فتنته ولكن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان أكثر تحذيرا لأمته منه. ففي (صحيح البخاري) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: ((إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور)) (¬3). وفي (الصحيحين) عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث نبي إلا وأنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور وإن بين عينيه مكتوب كافر)) (¬4). ويقول ابن الأثير: سمي الدجال مسيحاً لأن عينه الواحدة ممسوحة، والمسيح: الذي أحد شقي وجهه ممسوح لا عين له ولا حاجب فهو فعيل بمعنى مفعول بخلاف المسيح عيسى بن مريم فإنه فعيل بمعنى فاعل سمي به لأنه كان يمسح المريض فيبرأ بإذن الله والدجال الكذاب. وسمي دجالا كما يقول ابن حجر: لأنه يغطي الحق بباطله ويقال: دجل البعير بالقطران والإناء بالذهب إذا طلاه .. وقال ابن دريد: سمي الدجال لأنه يغطي الحق بالكذب وقيل: لضربه نواحي الأرض وقيل بل قيل ذلك لأنه يغطي الأرض. ومن صفاته كما أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة، فإذا رجل آدم سبط الشعر ينطف - أو يهراق - رأسه ماء قلت من هذا قالوا ابن مريم. ثم ذهبت ألتفت، فإذا رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين، كأن عينه عنبة طافية قالوا هذا الدجال. أقرب الناس به شبها ابن قطن)) (¬5). وعن عبادة بن الصامت أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا إن مسيح الدجال رجل قصير أفحج جعد أعور مطموس العين ليس بناتئة ولا حجراء فإن ألبس عليكم - قال يزيد - ربكم فاعلموا أن ربكم تبارك وتعالى ليس بأعور وإنكم لن ترون ربكم تبارك وتعالى حتى تموتوا)) قال يزيد ((تروا ربكم حتى تموتوا)) (¬6) ويكون خروجه من المشرق من بلاد فارسية يقال لها خراسان. عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدجال يخرج من أرض بالشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة)) (¬7). ولكن ظهور أمره عندما يصل إلى مكان بين العراق والشام، عن النواس مرفوعا: ((إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا)). وسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن المدة التي يمكثها في الأرض فقالوا: وما لبثه في الأرض؟ قال: ((أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا يا رسول الله فذاك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قالوا: لا اقدروا له قدره)) (¬8). وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن اليوم يطول حقيقةً لا مجازاً. ولن يستطيع دخول مكة والمدينة فعن أبي هريرة مرفوعاً: ((على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)) (¬9). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 224 ¬

(¬1) رواه مسلم (2946) (126). (¬2) رواه مسلم (2946) (127). (¬3) رواه البخاري (3057). (¬4) رواه البخاري (7131) واللفظ له، ومسلم (2933) بلفظ: (ك ف ر) بدلا من (كافر). (¬5) رواه البخاري (3441)، ومسلم (171). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬6) رواه أبو داود (4320)، وأحمد (5/ 324) (22816) واللفظ له. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (14/ 191): من أصح أسانيد الشاميين. وقال في ((الاستذكار)) (7/ 338): ثابت صحيح من جهة الإسناد والنقل. وحسّنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 137) – كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬7) رواه الترمذي (2237)، وابن ماجه (4072)، والحاكم (4/ 573). قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب وقد رواه عبدالله بن شوذب وغير واحد عن أبي التياح ولا نعرفه إلا من حديث أبي التياح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬8) رواه مسلم (2937). (¬9) رواه البخاري (1880)، ومسلم (1379).

المطلب الرابع: إمكانات الدجال التي تسبب الفتنة

الفرع الأول: سرعة انتقاله في الأرض ففي حديث النواس بن سمعان في (صحيح مسلم): أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن إسراع الدجال في الأرض فقال: ((كالغيث استدبرته الريح)) (¬1) وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيجول في أقطار الأرض ولا يترك بلدا إلا دخله إلا مكة والمدينة ففي حديث أنس في (الصحيحين): ((ليس من بلدٍ إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة)) (¬2). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 237 ¬

(¬1) وهو جزء من حديث رواه مسلم (2937). (¬2) رواه البخاري (1881)، ومسلم (2943).

الفرع الثاني: جنته وناره

الفرع الثاني: جنته وناره ومما يفتن الدجال به الخلق أن معه ما يشبه الجنة والنار أو معه ما يشبه نهرا من ماء ونهرا من نار وواقع الأمر ليس كما يبدو للناس فإن الذي يرونه نارا إنما هو ماء بارد وحقيقة الذي يرونه ماء باردا نار. ففي (صحيح مسلم) عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معه (أي: الدجال) جنة ونار فناره جنة وجنته نار)) (¬1). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 238 ¬

(¬1) رواه مسلم (2934).

الفرع الثالث: استجابة الجماد والحيوان لأمره

الفرع الثالث: استجابة الجماد والحيوان لأمره ففي حديث النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً وأسبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل)) (¬1). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 240 ¬

(¬1) رواه مسلم (2937).

الفرع الرابع: قتله ذلك الشاب ثم إحياؤه إياه

الفرع الرابع: قتله ذلك الشاب ثم إحياؤه إياه عن أبي سعيد الخدري قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما حديثا طويلا عن الدجال فكان فيما حدثنا قال: ((يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو من خير الناس - فيقول له أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيقول الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر فيقولون لا. قال فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن - قال - فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه)) (¬1) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 240 ¬

(¬1) رواه البخاري (7132)، ومسلم (2938).

الفرع الخامس: عقيدة أهل السنة والجماعة في المسيح الدجال

الفرع الخامس: عقيدة أهل السنة والجماعة في المسيح الدجال قال النووي في (شرحه لمسلم): قال القاضي: هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى: من إحياء الميت الذي يقتله ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه وجنته وناره ونهريه واتباع كنوز الأرض له وأمره السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى: ومشيئته ثم يعجزه الله تعالى: بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ويبطل أمره ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم ويثبت الله الذين آمنوا هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافاً لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة وخلافا للبخاري المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم في أنه صحيح الوجود ولكن الذي يدعي مخارف وخيالات لا حقائق لها وزعموا أنه لو كان حقا لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهذا غلط من جميعهم لأنه لم يدع النبوة فيكون ما معه كالتصديق له وإنما يدعي الإلهية وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس لسد الحاجة والفاقة رغبة في سد الرمق أو تقية وخوفا من أذاه لأن فتنته عظيمة جدا تدهش العقول وتحير الألباب مع سرعة مروره في الأمر فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء حاله ودلائل الحدوث فيه والنقص فيصدقه من صدقه في هذه الحالة. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 250

المبحث الثالث: ابن صياد وهل هو الدجال الأكبر؟ وأقوال العلماء فيه

المطلب الأول: هل ابن صياد هو الدجال الأكبر؟ ابن صياد: اسمه: هو صافي وقيل عبد الله بن صياد أو صائد (¬1). كان من يهود المدينة، وقيل من الأنصار، وكان صغيراً عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وذكر ابن كثير أنه أسلم، وكان ابنه عمارة من سادات التابعين روى عنه الإمام مالك وغيره (¬2). وترجم له الذهبي في كتابه (تجريد أسماء الصحابة) فقال: (عبد الله بن صياد أورده ابن شاهين، وقال: هو ابن صائد كان أبوه يهوديا فولد عبد الله أعور مختوناً، وهو الذي قيل إنه الدجال ثم أسلم فهو تابعي له رؤية) وترجم له الحافظ ابن حجر في (الإصابة) فذكر ما قاله الذهبي ثم قال: (ومن ولده عمارة بن عبد الله بن صياد وكان من خيار المسلمين من أصحاب سعيد بن المسيب روى عنه مالك وغيره) (¬3). ثم ذكر جملة من الأحاديث في شأن ابن صياد ... – ثم قال: (وفي الجملة لا معنى لذكر ابن صياد في الصحابة لأنه إن كان الدجال فليس بصحابي قطعاً لأنه يموت كافراً، وإن كان غيره فهو حال لقيه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلماً. لكن إن أسلم بعد ذلك فهو تابعي له رؤية) (¬4) كما قال الذهبي. وترجم ابن حجر في كتابه: (تهذيب التهذيب) لعمارة بن صياد فقال: (عمارة بن عبد الله بن صياد الأنصاري أبو أيوب المدني، روى عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وعطاء بن يسار، وعنه الضحاك بن عثمان الخزامي ومالك بن أنس وغيرهما. قال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وكان مالك بن أنس لا يقدم عليه في الفضل أحداً. وكانوا يقولون: (نحن بنو أشيهب بن النجار، فدفعهم بنو النجار فهم اليوم حلفاء بني مالك بن النجار، ولا يدري ممن هم) (¬5). أحواله: كان ابن صياد دجالاً, وكان يتكهن أحياناً فيصدق ويكذب، فانتشر خبره بين الناس، وشاع أنه الدجال كما سيأتي في ذكر امتحان النبي صلى الله عليه وسلم له. امتحان النبي صلى الله عليه وسلم له: لما شاع بين الناس أمر ابن صياد وأنه هو الدجال، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلع على أمره ويتبين حاله، فكان يذهب إليه مختفياً حتى لا يشعر به ابن صياد، رجاء أن يسمع منه شيئاً، وكان يوجه إليه بعض الأسئلة التي تكشف عن حقيقته. ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان، عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن الصياد الحلم، فلم يشعر حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال لابن الصياد: تشهد أني رسول الله. فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه وقال: آمنت بالله وبرسله. فقال له: ما ترى. قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خلط عليك الأمر. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني خبأت لك خبيئاً. فقال ابن صياد: هو الدخ. فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك. فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله)) (¬6). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (3/ 220، 6/ 164) و ((عمدة القاري)) (8/ 170، 14/ 278 - 303) و ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 128) و ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (18/ 46) و ((عون المعبود)) (11/ 478). (¬2) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 88). (¬3) ((الإصابة)) (5/ 192). (¬4) ((الإصابة)) (5/ 194). (¬5) ((تهذيب التهذيب)) (7/ 366). (¬6) رواه البخاري (1354)، ومسلم (2930).

وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترى عرش إبليس على البحر، وما ترى؟ قال: أرى صادقين وكذاباً أو كاذبين وصادقاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبس عليه, دعوه)) (¬1). وقال ابن عمر رضي الله عنهما يقول: ((انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب، إلى النخل التي فيها ابن صياد، وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئاً، قبل أن يراه ابن صياد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، يعني في قطيفة، له فيها رمزة أوزمرة، فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتقي بجذوع النخل. فقالت لابن صياد: يا صاف، وهو اسم ابن صياد، هذا محمد صلى الله عليه وسلم، فثار ابن صياد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركته بين)) (¬2). وقال أبو ذر رضي الله عنه: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثني إلى أمه، قال سلها كم حملت به، فأتيتها فسألتها فقالت حملت به اثني عشر شهراً. قال ثم أرسلني إليها: فقال سلها عن صيحته حين وقع، قال: فرجعت إليها فسألتها، فقالت: صاح صياح الصبي ابن شهر. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد خبأت لك خبأ. قال: خبأت لي خطم شاة عفراء والدخان قال: فأراد أن يقول: الدخان فلم يستطع فقال: الدخ)) (¬3). فامتحان النبي صلى الله عليه وسلم له (بالدخان) ليتعرف على حقيقة أمره. والمراد بالدخان هنا قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ [الدخان: 10]. فقد وقع في رواية ابن عمر عند الإمام أحمد ((أني قد خبأت لك خبيئاً، وخبأ له يوم تأتي السماء بدخان مبين)) (¬4). قال ابن كثير: (إن ابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان وهم يقرطون – أي يقطعون – العبارة ولهذا قال: هو الدخ، يعني الدخان، فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية، فقال له اخسأ فلن تعدو قدرك) (¬5). وفاته: عن جابر رضي الله عنه قال: (فقدنا ابن صياد يوم الحرة) (¬6). وقد صحح ابن حجر هذه الرواية، وضعف قول من ذهب إلى أنه مات في المدينة, وأنهم كشفوا عن وجهه وصلوا عليه (¬7). هل ابن صياد هو الدجال الأكبر؟ مضى في الكلام على أحوال ابن صياد وامتحان النبي صلى الله عليه وسلم له ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفاً في أمر ابن صياد، لأنه لم يوح إليه أنه الدجال ولا غيره. وكان عمر رضي الله عنه يحلف عند النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن صياد هو الدجال ولم ينكر عليه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) رواه مسلم (2925). (¬2) رواه البخاري (1354)، ومسلم (2931). (¬3) رواه أحمد (5/ 148) (21357)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 242) (8520). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 5): رواه أحمد والبزار والطبراني في ((الأوسط))، ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وهو ثقة. (¬4) رواه أحمد (2/ 148) (6360)، ورواه أبو داود (4329)، والترمذي (2249). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 234). (¬6) رواه أبو داود (4332)، وابن أبي شيبة (7/ 499). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده النووي في ((شرح صحيح مسلم)) (18/ 47)، ومحمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 534)، وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 145). (¬7) ((فتح الباري)) (13/ 329).

وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم يرى رأي عمر ويحلف أن ابن صياد هو الدجال كما ثبت ذلك عن جابر, وابن عمر, وأبي ذر. ففي الحديث عن محمد بن المنكدر قال: (رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد هو الدجال. قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم) (¬1). وعن نافع قال: كان ابن عمر يقول: (والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد) (¬2). وعن زيد بن وهب قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: (لأن أحلف عشر مرات أن ابن صائد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف مرة واحدة أنه ليس به) (¬3). وعن نافع قال: ((لقي ابن عمر ابن صائد في بعض طرق المدينة فقال له قولاً أغضبه، فانتفخ حتى ملأ السكة، فدخل ابن عمر على حفصة وقد بلغها، فقالت له: رحمك الله ما أردت من ابن صائد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما يخرج من غضبة يغضبها)) (¬4). وفي رواية عن نافع قال: ((قال ابن عمر: لقيته مرتين قال: فلقيته فقلت لبعضهم هل تحدثون أنه هو؟ قال: لا والله. قال: قلت كذبتني، والله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالاً وولداً، فكذلك هو زعموا اليوم. قال فتحدثنا ثم فارقته، قال: فلقيته مرة أخرى، وقد نفرت عينه، قال: فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري. قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك هذه، قال: فنخر كأشد نخير حمار سمعت. قال: فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت وأما أنا فوالله ما شعرت. قال: وجاء حتى دخل على أم المؤمنين فحدثها، فقالت: ما تريد إليه ألم تعلم أنه قد قال: إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه)) (¬5). وكان ابن صياد يسمع ما يقوله الناس فيه فيتأذى من ذلك كثيراً، ويدافع عن نفسه بأنه ليس الدجال, ويحتج على ذلك بأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من صفات الدجال لا تنطبق عليه. ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((خرجنا حجاجاً أو عماراً ومعنا ابن صائد. قال: فنزلنا منزلاً. فتفرق الناس وبقيت أنا وهو. فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه. قال وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي. فقلت: إن الحر شديد. فلو وضعته تحت تلك الشجرة. قال: ففعل. قال: فرفعت لنا غنم. فانطلق فجاء بعس. فقال: اشرب. أبا سعيد. فقلت: إن الحر شديد واللبن حار. ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده - أو قال آخذ عن يده -. ¬

(¬1) رواه البخاري (7355)، ومسلم (2929). (¬2) رواه أبو داود (4330). وسكت عنه، وصحح إسناده النووي في ((شرح صحيح مسلم)) (18/ 47)، ومحمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 534)، وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 145). (¬3) رواه أحمد (5/ 148) (21357). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 5): رواه أحمد والبزار والطبراني في ((الأوسط))، ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وهو ثقة. (¬4) رواه مسلم (2932). (¬5) رواه مسلم (2932).

فقال: أبا سعيد! لقد هممت أن آخذ حبلاً فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس، يا أبا سعيد! من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار! ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو كافر. وأنا مسلم؟ أو ليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو عقيم لا يولد له، وقد تركت ولدي بالمدينة؟ أو ليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل المدينة ولا مكة. وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة؟ قال أبو سعيد الخدري: حتى كدت أن أعذره. ثم قال: أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن. قال: قلت له: تباً لك سائر اليوم)) (¬1). وقال ابن صياد في رواية: ((أما والله أني لأعلم الآن حيث هو، وأعرف أباه وأمه. قال: وقيل له: أيسرك أنك ذاك الرجل؟ فقال: لو عرض عليَّ ما كرهت)) (¬2). وهناك بعض الروايات التي جاءت في شأن ابن صياد تركت ذكرها هنا خشية الإطالة، ولأن بعض المحققين كابن كثير وابن حجر وغيرهما ردوها لضعف أسانيدها (¬3). وقد التبس على العلماء ما جاء في ابن صياد وأشكل عليهم أمره, فمن قائل أنه الدجال ويحتج على ذلك بما سبق ذكره من حلف بعض الصحابة رضي الله عنهم على أنه الدجال، وبما كان من أمره مع ابن عمر وأبي سعيد رضي الله عنهم. وذهب بعض العلماء إلى أن ابن صياد ليس هو الدجال، ويحتج على ذلك بحديث تميم الداري رضي الله عنه، وقبل أن أسوق أقوال الفريقين أذكر حديث تميم بطوله. ¬

(¬1) رواه مسلم (2927). (¬2) رواه مسلم (2927). (¬3) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 127)، ((فتح الباري)) (13/ 326).

روى الإمام مسلم بسنده إلى عامر بن شراحيل الشعبي شعب همدان أنه ((سأل فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس – وكانت من المهاجرات الأول – فقال: حدثيني حديثاً سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره فقالت: لئن شئت لأفعلن. فقال لها: أجل حدثيني. فذكرت قصة تأيمها من زوجها واعتدادها عند ابن أم مكتوم. ثم قالت: فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: الصلاة جامعة. فخرجت إلى المسجد. فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك. فقال: ليلزم كل إنسان مصلاه. ثم قال: أتدرون لما جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة. ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري، كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم. وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام. فلعب بهم الموج شهراً في البحر. ثم أرفؤا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس. فجلسوا في أقرب السفينة. فدخلوا الجزيرة. فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر. لا يدرون ما قبله من دبره. من كثرة الشعر. فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة. قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير. فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة. قال فانطلقنا سراعاً. حتى دخلنا الدير. فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً, وأشده وثاقاً, مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد. قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري. فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب. ركبنا في سفينة بحرية. فصادفنا البحر حين اغتلم. فلعب بنا الموج شهراً. ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه, فجلسنا في أقربها, فدخلنا الجزيرة, فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر, لا يدري ما قبله من دبره من كثرة الشعر, فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة. قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير. فإنه إلى خبركم بالأشواق. فأقبلنا إليك سراعاً, وفزعنا منها, ولم نأمن أن تكون شيطانة. فقال: أخبروني عن نخل بيسان؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها، هل يثمر؟ قلنا له: نعم, قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر. قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء. قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زغر؟ قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم. هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها. قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة, ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه. وإني مخبركم عني. إني أنا المسيح. وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج. فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة. غير مكة وطيبة. فهما محرمتان علي كلتاهما, كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحداً منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتا, يصدني عنها. وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعن بمخصرته في المنبر: هذه طيبة. هذه طيبة. هذه طيبة يعني المدينة ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم. فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة. ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن. لا بل من قبل المشرق، ما هو. من قبل المشرق، ما هو. من قبل المشرق، ما هو وأومأ بيده إلى المشرق. قالت: فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬1). قال ابن حجر: وقد توهم بعضهم أنه – أي حديث فاطمة بنت قيس – غريب فرد وليس كذلك, فقد رواه مع فاطمة بنت قيس، أبو هريرة وعائشة وجابر (¬2) رضي الله عنهم. أشراط الساعة ليوسف الوابل- بتصرف - ص: 219 ¬

(¬1) رواه مسلم (2942). (¬2) ((فتح الباري)) (13/ 328).

المطلب الثاني: أقوال العلماء في ابن صياد

المطلب الثاني: أقوال العلماء في ابن صياد قال أبو عبد الله القرطبي: (الصحيح أن ابن صياد هو الدجال بدلالة ما تقدم، وما يبعد أن يكون بالجزيرة في ذلك الوقت، ويكون بين أظهر الصحابة في وقت آخر) (¬1). وقال النووي: (قال العلماء: وقصته مشكلة وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره, ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة. قال العلماء: وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره وإنما أوحي إليه بصفات الدجال, وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره، ولهذا قال لعمر رضي الله عنه: إن يكن هو فلن تستطيع قتله. وأما احتجاجه هو بأنه مسلم والدجال كافر, وبأنه لا يولد للدجال، وقد ولد له هو، وأن لا يدخل مكة والمدينة وأن ابن صياد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة فلا دلالة له فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض، ومن اشتباه قصته وكونه أحد الدجاجلة الكذابين قوله للنبي صلى الله عليه وسلم، أتشهد أني رسول الله؟ ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب، وأنه يرى عرشاً فوق الماء, وأنه لا يكره أن يكون هو الدجال، وأنه يعرف موضعه، وقوله: إني لأعرفه, وأعرف مولده, وأين هو الآن، وانتفاخه حتى ملأ السكة، وأما إظهاره الإسلام, وحجه, وجهاده, وإقلاعه عما كان عليه فليس بصريح في أنه غير الدجال) (¬2). وكلام النووي هذا يفهم منه أنه يرجح كون ابن صياد هو الدجال. وقال الشوكاني: (اختلف الناس في أمر ابن صياد اختلافاً شديداً، وأشكل أمره حتى قيل فيه كل قول، وظاهر الحديث المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متردداً في كونه الدجال أم لا؟ .. وقد أجيب عن التردد منه صلى الله عليه وسلم بجوابين: الأول: أنه تردد صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه الله بأنه هو الدجال, فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه. والثاني: أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك، وإن لم يكن في الخبر شك، ومما يدل على أنه هو الدجال ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: لقيت ابن صياد يوماً – ومعه رجل من اليهود – فإذا عينه قد طفت وهي خارجة مثل عين الحمار، فلما رأيتها قلت: أنشدك الله يا ابن صياد متى طفت عينك؟ قال: لا أدري والرحمن. قلت: كذبت وهي في رأسك. قال: فمسحها ونخر ثلاثا) (¬3) (¬4) ... والذي يظهر لي من كلام الشوكاني أنه مع القائلين بأن ابن صياد هو الدجال الأكبر. ¬

(¬1) ((التذكرة)) (ص: 702). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (18/ 46). (¬3) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (11/ 396). وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/ 230): إسناده صحيح. (¬4) ((نيل الأوطار)) للشوكاني (7/ 230).

وقال البيهقي في سياق كلامه على حديث تميم: (فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وقد خرج أكثرهم وكأن الذين يجزمون بأن ابن صياد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم، وإلا فالجمع بينهما بعيد جداً إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه محتلم، ويجتمع به النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله أن يكون في آخرها شيخاً كبيراً مسجوناً في جزائر البحر موثقاً بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا؟ فالأولى أن يحمل على عدم الإطلاع أما عمر فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصة تميم ثم لما سمعها لم يعد إلى الحلف المذكور، وأما جابر فشهد حلفه عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستصحب ما كان اطلع عليه من عمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم) (¬1). قلت: لكن جابر رضي الله عنه كان من رواة حديث تميم كما جاء في رواية أبي داود حيث ذكر قصة الجساسة والدجال بنحو قصة تميم، ثم قال ابن أبي سلمة: إن في هذا الحديث شيئاً ما حفظته، قال: شهد جابر أنه هو ابن صائد. قلت: فإنه قد مات. قال: وإن مات. قلت: فإنه قد أسلم. قال: وإن أسلم. قلت: فإنه قد دخل المدينة. قال: وإن دخل المدينة (¬2). فجابر رضي الله عنه مُصِرٌّ على أن ابن صياد هو الدجال وإن قيل أنه أسلم ودخل المدينة ومات. وقد تقدم أنه صح عن جابر رضي الله عنه أنه قال: (فقدنا ابن صياد يوم الحرة) (¬3). وقال ابن حجر: (أخرج أبو نعيم الأصبهاني في (تاريخ أصبهان) ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال، فساق من طريق شبيل بن عرزة عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ, فكنا نأتيها فنختار منها، فأتيتها يوماً فإذا اليهود يزفنون ويضربون فسألت صديقاً لي منهم، فقال: ملكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل، فبت عنده على سطح فصليت الغداة، فلما طلعت الشمس إذا الرهج من قبل العسكر فنظرت، فإذا رجل عليه قبة من ريحان، واليهود يزفنون ويضربون، فنظرت فإذا هو ابن صياد فدخل المدينة فلم يعد حتى الساعة) (¬4) (¬5). قال ابن حجر: (ولا يلتئم خبر جابر هذا (أي فقدهم لابن صياد يوم الحرة) مع خبر حسان بن عبد الرحمن لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر كما أخرجه أبو نعيم في تاريخها، وبين قتل عمر ووقعة الحرة نحو أربعين سنة ويمكن الحمل على أن القصة إنما شاهدها والد حسان بعد فتح أصبهان بهذه المدة، ويكون جواب (لما) في قوله: (لما افتتحنا أصبهان) محذوفاً تقديره: صرت أتعاهدها وأتردد إليها فجرت قصة ابن صياد، فلا يتحد زمان فتحها وزمان دخولها ابن صياد) (¬6). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (أن أمر ابن صياد قد أشكل على بعض الصحابة فظنوه الدجال، وتوقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، وإنما هو من جنس الكهان أصحاب الأحوال الشيطانية ولذلك كان يذهب ليختبره) (¬7). وقال ابن كثير: (والمقصود أن ابن صياد ليس بالدجال الذي يخرج في آخر الزمان قطعاً، لحديث فاطمة بنت قيس الفهرية، وهو فيصل في هذا المقام) (¬8). هذه هي طائفة من أقوال العلماء في ابن صياد وهي كما ترى متضاربة في شأن ابن صياد، ومع كل دليله، ولهذا فقد اجتهد الحافظ ابن حجر في التوفيق بين الأحاديث والأقوال المختلفة فقال: (أقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال، أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقاً، وأن ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة، إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه، إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها، ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاري مسلك الترجيح, فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم) (¬9). أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 232 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (13/ 326 - 327). (¬2) رواه أبو داود (4328). وسكت عنه. (¬3) رواه أبو داود (4332). وسكت عنه، وصحح إسناده النووي في ((شرح صحيح مسلم)) (18/ 47)، والمناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 534)، وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 145). (¬4) رواه أبو نعيم في ((تاريخ أصبهان)) (1/ 43). (¬5) ((فتح الباري)) (3/ 327). (¬6) ((فتح الباري)) (13/ 328). (¬7) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 77). (¬8) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 70). (¬9) ((فتح الباري)) (13/ 328).

المبحث الرابع: نزول عيسى بن مريم عليه السلام

المبحث الرابع: نزول عيسى بن مريم عليه السلام أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن اليهود لم يقتلوا رسوله عيسى بن مريم، قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللهُ إليه وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:157 - 158]. وأشار الحق في كتابه أن عيسى سينزل في آخر الزمان وأن نزوله سيكون علامة دالة على قرب وقوع الساعة قال تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ [الزخرف:61] كما أخبر أن أهل الكتاب سيؤمنون به قال تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزوله فقال: ((ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق)) (¬1). وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم حاله عند نزوله فقال: ((ليس بيني وبين عيسى نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع على الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل)) (¬2). ويكون نزوله في وقت اصطف فيه المقاتلون المسلمون لصلاة الفجر، عن جابر بن عبدالله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة - قال - فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا. إن بعضكم على بعض أمراء. تكرمة الله هذه الأمة)) (¬3). ويحكم بعد نزوله بكتاب الله تبارك وتعالى، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمَّكم منكم؟)). وقد قال أحد رواة الحديث وهو ابن أبي ذئب للوليد بن مسلم: تدري ما أمكم منكم؟ قال تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم (¬4). ويقتل الدجال وهو أول عمل يقوم به بعد نزوله ... ويبقى عيسى في الأرض أربعين عاما كما ثبت ذلك عن أبي هريرة: ((فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون)) (¬5) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 259 أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم، حكما عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية)) (¬6) الحديث وفي رواية لمسلم عنه ((والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب)) (¬7) بنحوه. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4321). من حديث النواس بن سمعان الكلابي. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. والحديث أصله في (الصحيح). (¬2) رواه أبو داود (4324)، وأحمد (2/ 437) (9630)، وابن حبان (15/ 233)، والحاكم (2/ 651). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬3) رواه مسلم (156). (¬4) رواه مسلم (155). (¬5) رواه أبو داود (4324)، وأحمد (2/ 406) (9259)، وابن حبان (15/ 233) والحاكم (2/ 651). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬6) رواه البخاري (2222)، ومسلم (155). (¬7) رواه مسلم (155).

وأخرج مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة قال: فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل لنا فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة)) (¬1). وقال العلامة في (البهجة) (¬2): (هو - أي نزول عيسى - ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة أما الكتاب فقوله تعالى وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء: 159] أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء آخر الزمان، حتى تكون الملة واحدة، ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً، ونوزع في الاستدلال بهذه الآية: وإن الضمير في قوله (قبل موته) لليهود ويؤيده قراءة أبي قبل موتهم (¬3). وأما السنة فلا نزاع فيها. وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة، وقد انعقد إجماع الأمة على أنه متبع لهذه الشريعة المحمدية، وليس بصاحب شريعة مستقلة، عند نزوله من السماء، وإن كانت النبوة قائمة به، ويتسلم الأمر من المهدي، ويكون المهدي مع أصحاب الكهف الذين هم من أتباع المهدي، كما مر من جملة أتباعه ويصلي عيسى وراء المهدي صلاة الصبح كما تقدم، وذلك لا يقدح في نبوته ويسلم المهدي الأمر لعيسى عليه السلام، وكل ما معه من تابوت بني إسرائيل، ويقتل الدجال). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني– 2/ 613 ¬

(¬1) رواه مسلم (156). (¬2) ((البهجة)) (ص: 202 - 203). (¬3) انظر ((الكشاف)) (1/ 313).

المبحث الخامس: خروج يأجوج ومأجوج

المبحث الخامس: خروج يأجوج ومأجوج • المطلب الأول: أصل تسميتهما ونسبهما. • المطلب الثاني: هلاك يأجوج ومأجوج وطيب العيش وبركته بعد موتهم.

المطلب الأول: أصل تسميتهما ونسبهما

المطلب الأول: أصل تسميتهما ونسبهما اختلف العلماء في اشتقاق الكلمتين فقيل: هما اسمان أعجميان منعا من الصرف للعلمية والعجمة، وعلى هذا فليس لهما اشتقاق؛ لأن الأعجمية لا تشتق من العربية. وقيل: بل هما عربيان، واختلف في اشتقاقهما، فقيل: من أجيج النار وهو التهابها، وقيل: من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة، وقيل: من الأج وهو سرعة العدو، وقيل: من الأجّة بالتشديد وهي الاختلاط والاضطراب. وعند جمهور القراء: ياجوج وماجوج بدون همز، وأما قراءة عاصم فهي بالهمزة الساكنة فيهما. والخلاصة من هذا: أن جميع ما ذكر في اشتقاقهما مناسب لحالهم، ويؤيد الاشتقاق من ماج قوله تعالى: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:99] وذلك حين يخرجون من السد. وقد اختلف في نسبهم، فقيل: إنهم من ذرية آدم. والذي رجحه الحافظ ابن حجر رحمه الله أنهم قبيلتان من ولد يافث بن نوح. فهما من ولد آدم وحواء، ويؤيد ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، يقول: لبيك ربنا وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف (أراه قال) تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد ... )) (¬1) الحديث. أشراط الساعة لعبد الله بن سليمان الغفيلي - ص 173 ¬

(¬1) رواه البخاري (4741).

المطلب الثاني: هلاك يأجوج ومأجوج وطيب العيش وبركته بعد موتهم

المطلب الثاني: هلاك يأجوج ومأجوج وطيب العيش وبركته بعد موتهم ففي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه الطويل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه: ((ويحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفسٍ واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم، ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس)) (¬1) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 271 ¬

(¬1) رواه مسلم (2937).

المبحث السادس: دروس الإسلام ورفع القرآن وفناء الأخيار

المبحث السادس: دروس الإسلام ورفع القرآن وفناء الأخيار عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب لا يدري ما صيام ولا صدقة ولا نسك ويسري على كتاب الله عز وجل في ليلةٍ فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها)) (¬1). وهذه البقية التي لا تعرف من الإسلام إلا كلمة التوحيد تفنى وتبيد: عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)) (¬2). ومن دروس الإسلام أن تنقطع عبادة الحج فلا حج ولا عمرة: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت)) (¬3) وذلك بعد انبعاث الريح الطيبة وقبضها الصالحين أما قبل ذلك فإن عبادة البيت مستمرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج)) (¬4). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 277 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (4049) بزيادة لفظة: (صلاة)، وبدون لفظة: (الكبيرة). والحاكم (4/ 520، 587). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 194): هذا إسناد صحيح رجاله ثقاث. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 19): إسناده قوي. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه مسلم (2949) بلفظة: (الناس) بدلا من (الخلق). والحديث بلفظة (الخلق): رواه مسلم (1924) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬3) رواه أبو يعلى (2/ 277)، وابن حبان (15/ 151)، والحاكم (4/ 500). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد أوقفه أبو داود عن شعبة. ووافقه الذهبي وقال: على شرط البخاري ومسلم. وروى البخاري من طريق قتادة عن عبدالله بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج)) حديث (1593) وقال عبدالرحمن عن شعبة قال: ((لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت)). والأول أكثر، سمع قتادة عبدالله وعبد الله أبا سعيد. وقال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (3/ 68): وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فوافق الجماعة ووقع لي حديثه عاليا جداً ... ((إن الناس ليحجون ويعتمرون ويغرسون النخل بعد خروج يأجوج ومأجوج)). ومن الجائز أن يكون الحديثان جميعاً - أي: الحديث السابق وحديث ((لا تقوم الساعة ... )) - صحيحين لقوة إسنادهما وأن يكون المراد بقوله: لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت وقتا قبل قيامها وبعد خروج يأجوج ومأجوج جمعا بين الحديثين والله أعلم. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2430): وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬4) رواه البخاري (1593).

المبحث السابع: عودة البشرية إلى الجاهلية وعبادة الأوثان

المبحث السابع: عودة البشرية إلى الجاهلية وعبادة الأوثان وهو ما يترتب على دروس الإسلام ورفع القرآن وفناء الأخيار، فتطيع البشرية الشيطان وتعبد الأوثان. ففي حديث عبدالله بن عمرو: ((ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه)) قال سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيقولون: فما تأمرنا فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور ... )) (¬1) ومن الأوثان التي تعبد ذو الخلصة طاغية دوس واللات والعزى، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة)) (¬2). وذو الخلصة: طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية. وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)). فقلت يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] أن ذلك تاماً قال: ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ثم يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم)) (¬3) القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 280 ¬

(¬1) رواه مسلم (2940). (¬2) رواه البخاري (7116)، ومسلم (2940). (¬3) رواه مسلم (2907).

المبحث الثامن: هدم الكعبة على يد ذي السويقتين

المبحث الثامن: هدم الكعبة على يد ذي السويقتين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يبايع لرجل ما بين الركن والمقام ولن يستحل البيت إلا أهله فإذا استحلوه فلا يسأل عن هلكة العرب ثم تأتي الحبشة فيخربونه خرابا لا يعمر بعده أبدا وهم الذين يستخرجون كنزه)) (¬1). وعن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله)) (¬2). وقد يقال كيف يهدمها وقد جعل الله مكة حرما آمنا؟ الجواب: أن معناه آمنا إلى قرب يوم القيامة وخراب الدنيا. هكذا قال النووي، وهذا صحيح إذا كان الهدم في ذلك الوقت، وإلا فإن الأمر حكم شرعي ألزم الله به عباده فإذا تمرد متمرد وانتهك حرمة الحرم فقد يمنعه الله كما فعل بأبرهة وقد لا يمنعه لحكمة يعلمها كما فعل القرامطة. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 283 ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 291) (7897)، وابن حبان (15/ 239)، والحاكم (4/ 499). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الذهبي في ((التلخيص)): ما خرجا لابن سمعان شيئاً. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 298): في (الصحيح) بعضه رواه أحمد ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (579): وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير سعيد بن سمعان وهو ثقة. (¬2) رواه أحمد (2/ 220) (7053). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 298): رواه أحمد والطبراني وفيه ابن إسحاق وهو ثقة ولكنه مدلس. وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (ص187): وهذا إسناد جيد قوي. وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 184) - كما أشار إلى ذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (6/ 242): فيه عنعنة ابن إسحاق، فلعل تقويته إياه بالنظر لشواهده. والحديث أوله في (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

المبحث التاسع: الخسوفات الثلاثة

المبحث التاسع: الخسوفات الثلاثة معنى الخسف: يقال خسف المكان يخسف خسوفاً إذا ذهب في الأرض وغاب فيها ومنه قوله تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص: 81]. والخسوفات الثلاثة التي هي من أشراط الساعة جاء ذكرها في الأحاديث ضمن العلامات الكبرى. الأدلة من السنة المطهرة على ظهور الخسوفات: 1 - عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: فذكر منها ثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب, وخسف بجزيرة العرب)) (¬1). 2 - وعن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيكون بعدي خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب, وخسف بجزيرة العرب)) (¬2). هل وقعت هذه الخسوفات؟ وهذه الخسوفات الثلاثة لم تقع بعد كغيرها من الأشراط الكبرى التي لم يظهر شيء منها, وإن كان بعض العلماء يرى أنها قد وقعت كما ذهب إلى ذلك الشريف البرزنجي (¬3) , ولكن الصحيح أنه لم يحدث شيء منها إلى الآن, وإنما وقع بعض الخسوفات في أماكن متفرقة, وفي أزمان متباعدة, وذلك من أشراط الساعة الصغرى. أما هذه الخسوفات الثلاثة فتكون عظيمة وعامة لأماكن كثيرة من الأرض في مشارقها, ومغاربها, وفي جزيرة العرب. قال ابن حجر: (وقد وجد الخسف في مواضع، ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدراً زائداً على ما وجد كأن يكون أعظم منه مكاناً أو قدراً) (¬4). ويؤيد هذا ما جاء في الحديث أنها إنما تقع إذا كثر الخبث في الناس وفشت فيهم المعاصي. والله أعلم. أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 297 ¬

(¬1) رواه مسلم (2901). (¬2) رواه الطبراني (23/ 271) (580). قال الهيثمي (8/ 14): فيه حكيم بن نافع، وثقه ابن معين، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات. (¬3) ((الإشاعة)) (49). (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 84).

المبحث العاشر: طلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة

المطلب الأول: طلوع الشمس من مغربها طلوع الشمس من مغربها من علامات الساعة الكبرى وهو ثابت بالكتاب والسنة. الأدلة على وقوع ذلك: (أ) الأدلة من القرآن الكريم: قال الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158]. فقد دلت الأحاديث الصحيحة أن المراد ببعض الآيات المذكورة في الآية هو طلوع الشمس من مغربها، وهو قول أكثر المفسرين (¬1). قال الطبري بعد ذكره لأقوال المفسرين في هذه الآية: (وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ذلك حين تطلع الشمس من مغربها) (¬2). وقال الشوكاني: (فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له محتم الأخذ به) (¬3). الأحاديث الدالة على طلوع الشمس من مغربها كثيرة، وإليك جملة منها: 1 - روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذاك حين لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158])) (¬4). 2 - وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان)) فذكر الحديث وفيه ((وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذاك حين لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158])) (¬5). 3 - وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها)) (¬6). 4 - وتقدم حديث حذيفة بن أسيد في ذكر أشراط الساعة الكبرى فذكر منها: ((طلوع الشمس من مغربها)) (¬7). 5 - وروى الإمام أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها)) (¬8). 6 - وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً: ((أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)) (¬9). أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 305 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (8/ 96) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 366) ((تفسير القرطبي)) (7/ 145)، ((اتحاف الجماعة)) (2/ 315). (¬2) ((تفسير الطبري)) (8/ 103). (¬3) ((تفسير الشوكاني)) (2/ 182). (¬4) رواه البخاري (6506)، ومسلم (157). (¬5) رواه البخاري (7121). (¬6) رواه مسلم (2947). (¬7) رواه مسلم (2901). (¬8) رواه أحمد (2/ 201) (6881)، ومسلم (2941). (¬9) رواه مسلم (159).

المطلب الثاني: غلق باب التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها

المطلب الثاني: غلق باب التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها إذا طلعت الشمس من مغربها فإنه لا يقبل الإيمان ممن لم يكن قبل ذلك مؤمناً، كما لا تقبل توبة العاصي، وذلك لأن طلوع الشمس من مغربها آية عظيمة يراها كل من كان في ذلك الزمان، فتنكشف لهم الحقائق، ويشاهدون من الأهوال ما يلوي أعناقهم إلى الإقرار والتصديق بالله وآياته، وحكمهم في ذلك حكم من عاين بأس الله تعالى كما قال عز وجل: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84 - 85]. قال القرطبي: (قال العلماء: وإنما لا ينفع نفساً إيمانها عند طلوع الشمس من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة، في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت) (¬1). وقال ابن كثير: (إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم، وإن كان مخلطاً فأحدث توبة حينئذٍ لم تقبل منه توبة) (¬2). وهذا هو الذي جاء به القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة فإن الله تعالى: قال: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة, ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب, فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه, وكفى الناس العمل)) (¬3). وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله عز وجل جعل بالمغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله تبارك وتعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا)) الآية)) (¬4). ويرى بعض العلماء أن الذين لا يقبل إيمانهم هم الكفار الذين عاينوا طلوع الشمس من مغربها، أما إذا امتد الزمان ونسي الناس ذلك فإنه يقبل إيمان الكفار وتوبة العصاة (¬5). ¬

(¬1) ((التذكرة)) (ص: 706)، و ((تفسير القرطبي)) (7/ 146). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 371). (¬3) رواه أحمد (1/ 192) (1671)، والطبراني (19/ 381) (895). من حديث ابن السعدي رضي الله عنه. قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (3/ 371): إسناده حسن، وقال الهيثمي (5/ 253): رجال أحمد ثقات، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 133). (¬4) رواه الترمذي (3536)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 118). من حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده المنذري، وقال ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 450) حسن، كما قال ذلك في المقدمة. (¬5) ((التذكرة للقرطبي)) (ص: 706) و ((تفسير الألوسي)) (8/ 63).

قال القرطبي: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) (¬1) أي تبلغ روحه رأس حلقه، وذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة ومقعده من النار، فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله، وعلى هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك، أو كان كالشاهد له مردودة ما عاش لأن علمه بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبوعده قد صار ضرورة، فإن امتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان ولا يتحدثون عنه إلا قليلاً، فيصير الخبر عنه خاصاً وينقطع التواتر عنه، فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه والله أعلم (¬2). وأيد ذلك بما روي (أن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان) (¬3). وبما روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة)) (¬4). وروي عن عمران بن حصين أنه قال: ((إنما لم تقبل وقت الطلوع حتى تكون صيحة فيهلك فيها كثير من الناس فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت ثم هلك لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته)) (¬5). والجواب على هذا: أن النصوص دلت على أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها وأن الكافر لا يقبل منه الإسلام، ولم تفرق النصوص بين من شاهد هذه الآية وبين من لم يشاهدها. والذي يؤيد هذا ما رواه الطبري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((إذا خرج أول الآيات: طرحت الأقلام، وحبست الحفظة وشهدت الأجسام على الأعمال)) (¬6). والمراد بأول الآيات هنا هو طلوع الشمس من مغربها, أما ما كان قبل طلوعها من الآيات فإن الأحاديث تدل على قبول التوبة والإيمان في ذلك الوقت. وروى ابن جرير الطبري أيضاً عن عبد الله (بن مسعود) رضي الله عنه قال: ((التوبة مبسوطة ما لم تطلع الشمس من مغربها)) (¬7). وروى الإمام مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار، ليتوب مسيء الليل. حتى تطلع الشمس من مغربها)) (¬8) فجعل صلى الله عليه وسلم غاية قبول التوبة هو طلوع الشمس من مغربها. وقد ذكر ابن حجر أحاديث وآثار كثيرة تدل على استمرار قفل باب التوبة إلى يوم القيامة. ثم قال: (فهذه آثار يشد بعضها بعضاً متفقة على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة، ولم يفتح بعد ذلك، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع بل يمتد إلى يوم القيامة) (¬9). وأما ما استدل به القرطبي فالجواب عنه أن حديث عبد الله بن عمرو قال فيه الحافظ ابن حجر: (رفع هذا لا يثبت)، وحديث عمران بن حصين (لا أصل له) (¬10). وأما حديث (أن الشمس والقمر يكسيان الضوء والنور .. ) إلخ فلم يذكر له القرطبي سنداً. وعلى فرض ثبوته فإن عودتهما إلى ما كانا عليه ليس فيه دليل على أن باب التوبة قد فتح مرة أخرى، وذكر الحافظ أنه وقف على نص فاصل في هذا النزاع وهو حديث عبد الله بن عمرو الذي ذكر فيه طلوع الشمس من المغرب وفيه يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158] (¬11) أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 310 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3537)، وابن ماجه (4253)، وأحمد (2/ 153) (6408)، وابن حبان (2/ 394) (628)، والحاكم (4/ 286). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 449). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (7/ 146)، ((التذكرة للقرطبي)) (ص: 706). (¬3) ((الكشف والبيان)) للثعلبي (4/ 209). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 506)، ونعيم بن حماد في ((الفتن)) (2/ 656، 702). عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 361): رفعه لا يثبت، وقد أخرجه عبد بن حُميد في تفسيره بسند جيد، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. (¬5) ((بحر العلوم)) للسمرقندي (1/ 515)، و ((التذكرة)) للقرطبي (ص: 705). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 361): لا أصل له. (¬6) رواه الطبري في تفسيره (12/ 265)، وابن أبي شيبة (8/ 670). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 363): إسناده صحيح وهو إن كان موقوفاً فحكمه الرفع. (¬7) رواه الطبري في تفسيره (12/ 262). (¬8) رواه مسلم (2759). (¬9) ((فتح الباري)) (11/ 361). (¬10) ((فتح الباري)) (11/ 361). (¬11) ((فتح الباري)) (13/ 88).

المبحث الحادي عشر: خروج الدابة

المبحث الحادي عشر: خروج الدابة وهي التي ذكرها تعالى: في قوله: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82] وعن أبي أمامة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم ثم يغمرون فيكم حتى يشتري الرجل البعير فيقول ممن اشتريته فيقول اشتريته من أحد المخطمين)) (¬1). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 286 ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 268)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 6): رجاله رجال (الصحيح) غير عمر بن عبدالرحمن بن عطية وهو ثقة. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (322): وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات معروفون غير عمر ... ولكن رواية مالك عنه تعديل له.

المبحث الثاني عشر: النار التي تحشر الناس

المبحث الثاني عشر: النار التي تحشر الناس • المطلب الأول: كيفية حشرها للناس. • المطلب الثاني: أرض المحشر. • المطلب الثالث: هذا الحشر في الدنيا.

المطلب الأول: كيفية حشرها للناس

المطلب الأول: كيفية حشرها للناس عند ظهور هذه النار العظيمة من اليمن تنتشر في الأرض, وتسوق الناس إلى أرض المحشر، والذين يحشرون على ثلاثة أفواج: الأول: فوج راغبون طاعمون كاسون راكبون. والثاني: وفوج يمشون تارة ويركبون أخرى يعتقبون على البعير الواحد كما سيأتي في الحديث اثنان على بعير وثلاثة على بعير إلى أن قال: وعشرة على بعير يعتقبونه وذلك من قلة الظهر يومئذ. والفوج الثالث: تحشرهم النار فتحيط بهم من ورائهم, وتسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر, ومن تخلف منهم أكلته النار (¬1). ومما جاء من الأحاديث في بيان كيفية حشر هذه النار للناس: 1 - روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير. وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)) (¬2). 2 - وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبعث نار على أهل المشرق فتحشرهم إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا, وتقيل معهم حيث قالوا, يكون لها ما سقط منهم وتخلف, وتسوقهم سوق الجمل الكسير)) (¬3). 3 - وعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: قام أبو ذر رضي الله عنه فقال: يا بني غفار قولوا ولا تختلفوا فإن الصادق المصدوق حدثني ((أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين, وفوج يمشون ويسعون, وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار. فقال قائل منهم: هذان قد عرفناهما فما بال الذين يمشون ويسعون؟ قال: يلقي الله الآفة على الظهر فلا يبقى ظهر، حتى أن الرجل ليكون له الحديقة المعجبة فيعطيها بالشارف ذات القتب فلا يقدر عليها)) (¬4). أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 329 ¬

(¬1) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 230). (¬2) رواه البخاري (6522)، ومسلم (2861). من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. (¬3) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 99) (8092)، والحاكم (4/ 591) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 15): رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات. (¬4) رواه أحمد (5/ 164) (21494)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 214) (8437)، والحاكم (4/ 608). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد إلى الوليد بن جميع ولم يخرجاه. وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (9/ 171).

المطلب الثاني: أرض المحشر

المطلب الثاني: أرض المحشر يحشر الناس إلى الشام في آخر الزمان وهي أرض المحشر كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة: منها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما في ذكر خروج النار وفيه ((قال: قلنا يا رسول الله فماذا تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام)) (¬1). وروى الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية البهزي عن أبيه فذكر الحديث وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((هاهنا تحشرون، هاهنا تحشرون، هاهنا تحشرون - ثلاثاً - ركباناً, ومشاة, وعلى وجوهكم)) قال ابن أبي بكير: فأشار بيده إلى الشام فقال: إلى هاهنا تحشرون (¬2). وفي رواية الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت: يا رسول الله أين تأمرني؟ قال: ((هاهنا ونحا بيده نحو الشام)) (¬3). وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة, ينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم, لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها, تلفظهم أرضوهم, تنذرهم نفس الله, تحشرهم النار مع القردة والخنازير, تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا, وتأكل من تخلف)) (¬4). قال ابن حجر: (وفي تفسير ابن عيينة عن ابن عباس: من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ أول سورة الحشر، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: اخرجوا, قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر) (¬5). والسبب في كون أرض الشام هي أرض المحشر أن الأمن والإيمان حين تقع الفتن في آخر الزمان يكون بالشام. وقد جاء في فضله والترغيب في سكناه أحاديث صحيحة منها ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي؛ فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام)) (¬6). وأخرج الطبراني عن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت ليلة أسري بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة. قلت: ما تحملون؟ فقالوا: عمود الكتاب أمرنا أن نضعه بالشام)) (¬7). وروى أبو داود بسنده إلى عبد الله بن حوالة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة, جند بالشام, وجند باليمن, وجند بالعراق, قال ابن حوالة: خر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك, فقال: عليك بالشام, فإنها خيرة الله من أرضه, يجتبي إليها خيرته من عباده, فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم, واسقوا من غدركم, فإن الله توكل لي بالشام وأهله)) (¬8). وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للشام بالبركة كما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا)) (¬9). وقد تقدم أن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان يكون بالشام, وبه يكون اجتماع المؤمنين لقتال الدجال. أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 331 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2217)، وأحمد (2/ 8) (4536)، وابن حبان (16/ 294) (7305). قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (6/ 246)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه أحمد (4/ 446) (20025). قال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1129): صحيح. (¬3) رواه الترمذي (2192)، وأحمد (5/ 3) (20043)، والحاكم (4/ 608). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقوى إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 387). (¬4) رواه أبو داود (2482)، وأحمد (2/ 84) (5562). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 497)، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (11/ 153): إسناده صحيح. (¬5) ((فتح الباري)) (11/ 380) ((تفسير ابن كثير)) (8/ 84). (¬6) رواه أحمد (5/ 198) (21781). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 60): رجال أحمد رجال الصحيح، وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (12/ 420). (¬7) رواه الطبراني في ((مسند الشاميين)) (1/ 345) (601). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 61): رجاله رجال الصحيح غير صالح بن رستم وهو ثقة، وحسن إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (12/ 420). (¬8) رواه أبو داود (2483). وسكت عنه، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 498)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬9) رواه البخاري (7094).

المطلب الثالث: هذا الحشر في الدنيا

المطلب الثالث: هذا الحشر في الدنيا هذا الحشر المذكور في الأحاديث يكون في الدنيا، وليس المراد به حشر الناس بعد البعث من القبور, وقد ذكر القرطبي أن الحشر معناه الجمع وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة: أما حشران الدنيا: فالأول: إجلاء بني النضير إلى الشام. والثاني: حشر الناس قبل القيامة إلى الشام وهي النار المذكورة هنا في الأحاديث (¬1). وكون هذا الحشر في الدنيا هو الذي أجمع عليه جمهور العلماء كما ذكر ذلك القرطبي, وابن كثير, وابن حجر, وهو الذي تدل عليه النصوص كما تقدم بسطها. وذهب بعض العلماء كالغزالي (¬2) والحليمي إلى أن هذا الحشر ليس في الدنيا (¬3) وإنما هو في الآخرة. وذكر ابن حجر أن بعض شراح (المصابيح) حمله على الحشر من القبور, واحتجوا على ذلك بعدة أمور: أن الحشر إذا أطلق في عرف الشرع إنما يراد به الحشر من القبور ما لم يخصه دليل. أن هذا التقسيم في الخبر لا يستقيم في الحشر إلى الشام, لأن المهاجر لا بد أن يكون راغباً, أو راهباً, أو جامعاً بين الصفتين. أن حشر البقية على ما ذكر, وإلجاء النار لهم إلى تلك الجهة, وملازمتها حتى لا تفارقهم قول لم يرد به التوقيف، وليس لنا أن نحكم بتسليط النار في الدنيا على أهل الشقوة من غير توقيف. أن الحديث يفسر بعضه بعضاً, وقد وقع في الحسان من حديث أبي هريرة, وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن علي بن زيد عن أوس بن أبي أوس عن أبي هريرة بلفظ: ((ثلاثاً على الدواب، وثلاثاً ينسلون على أقدامهم, وثلاثاً على وجوههم)) وهذا التقسيم الذي في هذا الخبر موافق لما جاء في سورة الواقعة في قوله تعالى: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة: 7] (¬4). والإجابة عما احتجوا به يتخلص فيما يأتي: أن الدليل قد جاء بأن هذا الحشر في الدنيا كما سبق ذكر الأحاديث في ذلك. أن التقسيم المذكور في آيات سورة الواقعة لا يستلزم أن يكون هو التقسيم المذكور في الحديث، فإن الذي في الحديث ورد على القصد من الخلاص من الفتنة, فمن اغتنم الفرصة سار على فسحة من الظهر, ويسرة من الزاد, راغباً فيما يستقبله, راهباً فيما يستدبره, وهم الصنف الأول في الحديث. ومن توانى حتى قلَّ الظهر اشتركوا فيه وهم الصنف الثاني. والصنف الثالث هم الذين تحشرهم النار وتسحبهم الملائكة. أنه تبين من شواهد الأحاديث أنه ليس المراد بالنار نار الآخرة, وإنما هي نار تخرج في الدنيا أنذر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها, وذكر كيفية ما تفعل في الأحاديث المذكورة. أن الحديث الذي احتجوا به من رواية علي بن زيد وهو مختلف في توثيقه لا يخالف الأحاديث التي بينت أن هذا الحشر في الدنيا, وقد وقع في حديث علي بن زيد المذكور عند الإمام أحمد أنهم ((يتقون بوجوههم كل حدب وشوك)) (¬5) , وأرض الموقف يوم القيامة أرض مستوية لا عوج فيها, ولا أكمة, ولا حدب, ولا شوك (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (18/ 2) و ((التذكرة)) (ص: 198). (¬2) ((فتح الباري)) (11/ 379) و ((التذكرة)) (ص: 199). (¬3) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 442). (¬4) ((فتح الباري)) (11/ 380). (¬5) رواه أحمد (2/ 354) (8632). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسن إسناده ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 167)، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (16/ 265): إسناده حسن. (¬6) ((فتح الباري)) (11/ 380).

قال النووي: قال العلماء: وهذا الحشر في آخر الدنيا قبيل القيامة وقبيل النفخ في الصور بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((تحشر بقيتهم النار تبيت معهم وتقيل, وتصبح وتمسي)) (¬1) (¬2). وقال الحافظ ابن كثير بعد ذكر للأحاديث الواردة في خروج النار مبيناً أن هذا الحشر في الدنيا: (فهذه السياقات تدل على أن هذا الحشر هو حشر الموجودين في آخر الدنيا من أقطار الأرض إلى محلة المحشر، وهي أرض الشام .. وهذا كله مما يدل على أن هذا في آخر الزمان حيث الأكل والشرب, والركوب على الظهر المشترى وغيره, وحيث تهلك المتخلفين منهم النار, ولو كان هذا بعد نفخة البعث لم يبق موت، ولا ظهر يشترى، ولا أكل ولا شرب, ولا لبس في العرصات) (¬3). وأما حشر الآخرة فإنه قد جاء في الأحاديث أن الناس مؤمنهم وكافرهم يحشرون حفاة عراة غرلاً بهماً, ففي الصحيح عن ابن عباس قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنكم تحشرون حفاة عراة غرلاً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104])) (¬4). قال ابن حجر: (ومن أين للذين يبعثون بعد الموت عراة حفاة حدائق حتى يدفعونها في الشوارف؟) (¬5). فدل هذا على أن هذا الحشر يكون في الدنيا قبل يوم القيامة، ومن ذهب إلى خلاف ذلك فقد جانب الحق والله تعالى أعلم. أشراط الساعة ليوسف الوابل-ص: 334 ¬

(¬1) الحديث رواه مسلم (2861) بلفظ: (( ... وتحشر بقيتهم النار. تبيت معهم حيث باتوا. وتقيل معهم حيث قالوا: وتصبح معهم حيث أصبحوا. وتمسي معهم حيث أمسوا)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (17/ 194). (¬3) ((النهاية في الفتن والملاحم)) (1/ 186) تحقيق د. طه زيني. (¬4) رواه البخاري (6526). (¬5) ((فتح الباري)) (11/ 382).

الفصل الرابع: ثمرات الإيمان بأشراط الساعة

الفصل الرابع: ثمرات الإيمان بأشراط الساعة إن قيام الساعة الذي يعني نهاية هذا العالم، هو من أعظم الأحداث بعد خلق العالم، بل إن تغيير النظام الكوني وإيجاد نظام آخر حدث يعدل خلق العالم أول مرة؛ ولذلك تسبقه أحداث كبرى خارقة للعادة، تكون كالمقدمة له. ولهذا الإيمان ثمرات وفوائد نحاول أن نجملها فيما يلي: أولاً: تحقيق ركن من أركان الإيمان الستة، وهو الإيمان باليوم الآخر، باعتبار أن أشراط الساعة من مقدماته، كما أنها من الإيمان بالغيب الذي قال فيه - عز وجل-: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم, وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) (¬1) ... ثانياً: إشباع الرغبة الفطرية في الإنسان التي تتطلع لاستكشاف ما غاب عنه، واستطلاع ما يحدث في المستقبل من وقائع وكائنات، وإذا كان الإسلام سد طرق الدجالين الذين يدعون الاطلاع عليها؛ كالمنجمين، والعرّافين، والكهان، ونحوهم إلا أنه - استجابة لأشواق الفطرة - أطلعنا - من خلال نافذة الوحي- على كثير من هذه الأحداث (¬2). ثالثاً: أن الإخبار عن الغيوب المستقبلة - باعتبار ما فيها من خرقٍ للعادة - من أهم دلائل النبوة؛ حيث إنها تتضمن تحدياً لعقول البشر أجمعين، فهذه أمور غيبية لا تدرك بالعقل، ولا يمكن معرفة كنهها على الحقيقة إلا من خلال الوحي الصادق من الله تعالى، إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صدرت منه لا على أنها توقعات تعتمد على مقدمات تؤدي إلى نتائجها، وإنما هي حديث دقيق قاطع عن تفاصيل المستقبل المجهول، حديثاً لا يحرمه المستقبل، ولا في جزء من أجزائه، وحينئذ فلا شك أنها النبوة، وأن صاحبها متصل بالله- تعالى- عالم الغيب والشهادة؛ كما قال - عز وجل-: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن:26 - 27] , ومن ثمرات وقوع تلك المغيبات - على كثرتها - مطابقة لخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن يثبت إيمان المؤمن، ويطمئن قلبه، ويزداد يقينه، ويقول كما قص الله عن المؤمنين: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22] ومن ثمرات ذلك أيضاً إقامة الحجة على الكافرين، وإقناعهم بصدق نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالمين. رابعاً: تعلم الكيفية الصحيحة التي دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كي نتعامل بها مع بعض الأحداث المقبلة التي قد يلتبس علينا وجه الحق فيها. ¬

(¬1) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) انظر: ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 587 - 588).

قال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- قال: ((كنا مع رسول الله صلى عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً)) ... الحديث وفيه: ((إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه لم يكن نبي قبلي، إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، وتجئ فتنة، فيرفق بعضها بعضاً، وتجئ الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجئ الفتنة، فيقول المؤمن: هذه، هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)) ... الحديث (¬1). لقد نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين عاصروه نصائح انتفعوا بها كثيراً: - فقد بشر عثمان رضي الله عنه بالجنة على بلوى تصيبه (¬2). - وأخبر عماراً رضي الله عنه أنه تقتله الفئة الباغية (¬3). - وأمر أبا ذر رضي الله عنه بأن يعتزل الفتنة، وأن لا يقاتل ولو قتل (¬4). - وكان حذيفة رضي الله عنه يسأله عن الشر، مخافة أن يدركه، ودلَّه صلى الله عليه وسلم كيف يفعل في الفتن (¬5). - ونهى المسلمين عن أخذ شيء من جبل الذهب الذي سوف ينحسر عنه الفرات (¬6). - وبصر أمته بفتنة الدجال، وأفاض في وصفها، وبين لهم ما يعصمهم منها؛ ومن ثم قال عبد الرحمن المحاربي: (ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب حتى يعلمه الصبيان في الكتاب)، وقال السفاريني - رحمه الله -: (مما ينبغي لكل عالم أن يبث أحاديث الدجال بين الأولاد، والنساء والرجال، ولا سيما في زماننا هذا الذي اشرأبت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، واندرست فيه معالم السنن) (¬7).اهـ. ¬

(¬1) رواه مسلم (1844). (¬2) رواه البخاري (3674)، ومسلم (2403). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (447) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. ورواه مسلم (2916) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (¬4) رواه أبو داود (4261)، وابن ماجه (3958)، وأحمد (5/ 149) (21363)، وابن حبان (15/ 78) (6685)، والحاكم (2/ 169)، والبيهقي (8/ 191) (16575). قال أبو داود: لم يذكر المشعث في هذا الحديث إلا حماد بن زيد، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود))، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (279)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬5) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847). (¬6) رواه البخاري (7119)، ومسلم (2894). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 106 – 107).

وامتدت شفقته صلى الله عليه وسلم؛ لتشمل إخوانه الذين يأتون من بعده، ولم يروه؛ فبذل لهم النصح، ودلهم على ما فيه نجاتهم، وحسن عاقبتهم. فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((اتركوا الترك ما تركوكم)) (¬1) ... الحديث. فمن ثم أمسك المسلمون عن استفزاز واستثارة الترك، فسلموا من غائلتهم, إلى أن خالفوا التوجيه النبوي، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى-: (وقد قتل جنكيزخان من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البداءة من (خوارزم شاه)، فإنه لما أرسل جنكيز خان تجاراً من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده، فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه: هل وقع هذا الأمر عن رضى منه، أو أنه لا يعلم به فأنكره؟ وقال فيما أرسل إليه: (من المعهود من الملوك أن التجار لا يقتلون؛ لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإن كان أمراً أمرت به، طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره، وتقتص من نائبك)، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان، لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عنقه، فأساء التدبير، وقد كان خرف وكبرت سنه، وقد ورد الحديث: ((اتركوا الترك ما تركوكم)) (¬2) , فلما بلغ ذلك جنكيز خان، تجهز لقتاله، وأخذ بلاده، فكان بقدر الله - تعالى- ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها، ولا أبشع) (¬3) , فهنا نرى أن المسلمين لما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك الترك جاءت العاقبة عنيفة مريرة؛ حيث اجتاح التتار ديار الإسلام في كارثة لم يسبق لها مثيل في التاريخ (¬4) , وفي أكثر من موضع ذكر الحافظ ابن كثير وقائع القتال بين المسلمين والتتار، وبيَّن أن المسلمين لم يكونوا يتعقبون التتار إذا فروا هاربين أمامهم، ولو كانت الرماح تنالهم؛ ومثال ذلك ما ذكره في حوادث سنة ثلاث وأربعين وست مئة: (وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار - لعنهم الله - فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة، وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم؛ ولم يتبعوهم، خوفاً من غائلة مكرهم، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((اتركوا الترك ما تركوكم)) (¬5) (¬6). خامساً: فتح باب الأمل، والاستبشار بحسن العاقبة لأهل الإيمان، إذا ادلهمت الخطوب، وضاقت الصدور، مما يعطي المسلمين طاقة يصارعون بها ما يسميه المتخاذلون (الأمر الواقع) , ليصبح عزهم ومجدهم هو الأمر الواقع؛ وذلك بناء على البشارات النبوية بالتمكين للدين، وظهوره على الدين كله, ولوكره الكافرون. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4302)، والنسائي (6/ 43)، والبيهقي (9/ 176) (18378). عن رجل من الصحابة. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 110)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) رواه أبو داود (4302)، والنسائي (6/ 43)، والبيهقي (9/ 176) (18378). عن رجل من الصحابة. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 110)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬3) ((البداية والنهاية)) (13/ 119) (¬4) ((البداية والنهاية)) (13/ 86 - 91) (¬5) رواه أبو داود (4302)، والنسائي (6/ 43)، والبيهقي (9/ 176) (18378). عن رجل من الصحابة. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 110)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬6) ((البداية والنهاية)) (13/ 168)

سادساً: قد تمر بالمسلمين وقائع في مقبل الأيام تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، ولو ترك المسلمون إلى اجتهادهم؛ فإنهم قد يختلفون، وربما يكون نقصاً تنزه الشريعة عنه. فمن ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم من أيامه كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وبقية أيامه كأيامنا، وقد سأل الصحابة - رضي الله عنهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلك الأيام الطويلة: أتكفي في الواحد منها صلاة يوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا، اقدروا له قدره)) (¬1) , ولو وكل العباد إلى اجتهادهم، لاقتصروا على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غير هذه الأيام. وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عيسى- عليه السلام - بعد نزوله لا يقبل الجزية من اليهود والنصارى، ولا يقبل منهم إلا الإيمان (¬2)، وهذا البيان من الرسول صلى الله عليه وسلم ضروري؛ لأن عيسى يحكم بهذا الشرع، وهذا الشرع فيه قبول الجزية ممن بذلها إلى حين نزول عيسى ابن مريم، وحين ذاك توضع الجزية، ويقتل كل من رفض الإيمان، ولو بذل الجزية (¬3). كما أن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفات معينة لأشخاص معينين؛ كالمهدي - مثلاً - يمدنا بالمعيار اللازم للحكم على الدجالين المدعين المهدية، حتى لا نتورط في فتنهم. لا يعلم متى الساعة إلا الله وحده: قال- تعالى -: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 187] فقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي، وقوله عز وجل: إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات: 44] (فيه إيذان بأن ما هو من شأن الرب لا يكون للعبد، فهو تعالى قد رباه ليكون منذراً ومبشراً، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها وأوقاتها، والإنذار إنما يناط بالإعلام بالساعة وأهوالها، وسلاسلها وأغلالها، ولا تتم الفائدة منه إلا بإبهام وقتها؛ ليخشى أهل كل زمن إتيانها فيه، والإعلام بوقت إتيانها، وتحديد تاريخها، ينافي هذه الفائدة، بل فيه مفاسد أخرى، فلو قال الرسول صلى الله عليه وسلم للناس: إن الساعة تأتي بعد ألفي سنة من يومنا هذا - مثلاً -، وألفا سنة في تاريخ العالم، وآلاف السنين تعد أجلاً قريباً، لرأى المكذبين يستهزئون بهذا الخبر، ويلحون في تكذيبه، والمرتابين يزدادون ارتياباً، حتى إذا ما قرب الأجل وقع المؤمنون في رعب عظيم ينغص عليهم حياتهم، ويوقع الشلل في أعضائهم، والتشنج في أعصابهم، حتى لا يستطيعون عملاً، ولا يسيغون طعاماً ولا شراباً، ومنهم من يخرج من ماله وما يملكه، في حين يكون الكافرون آمنين، يسخرون من المؤمنين ... فالحكمة البالغة - إذاً - في إبهام أمر الساعة للعالم، وكذا الساعة الخاصة بأفراد الناس، أو بالأمم والأجيال، أو جعلها من الغيب الذي استأثر الله - تعالى - به) (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم (2937). من حديث النواس بن سمعانا لكلابي رضي الله عنه. (¬2) حديث نزول عيسى رواه البخاري (3448)، ومسلم (155). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) انظر: ((القيامة الصغرى)) د. عمر الأشقر (ص: 132). (¬4) ((تفسير المنار)) (9/ 389 – 390).

وقوله تعالى: لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف:187]، معناه: لا يكشف حجاب الخفاء عنها، ولا يظهرها فيوقتها المحدود عن الرب تعالى إلا هو، فلا وساطة بينه وبين عباده في إظهارها، ولا في الإعلام بميقاتها، وإنما وساطة الرسل، عليهم السلام، في الإنذار بها) (¬1). ونقل الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله عن الآلوسي، رحمه الله وله: (وإنما أخفى سبحانه، أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك, ولو قيل بأن الحكمة التكوينية تقتضي ذلك أيضاً لم يبعد، وتدل الآيات على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم وقت قيامها، نعم علم صلى الله عليه وسلم قربها على الإجمال وأخبر صلى الله عليه وسلم به) (¬2) (¬3). وقال صاحب المنار، رحمه الله، تعالى - أيضاً -: (فيجب على المؤمنين أن يخافوا ذلك اليوم، وأن يحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى، في أعمالهم؛ فيلتزموا فيها الحق، ويتحروا الخير، ويتقوا الشرور والمعاصي, ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة الجدال, والقيل والقال، وإننا نرى بعض المتأخرين قد شغلوا المسلمين عن ذلك ببحث افتجره بعض الغلاة, وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق طول عمره لا يعلم متى تقوم الساعة، كما تدل عليه آيات القرآن الكثيرة، بل أعلمه الله تعالى به, بل زعم أنه أطلعه على كل ما في علمه، فصار علمه كعلم ربه (¬4) , أي صار نداً وشريكاً لله تعالى، في صفة العلم المحيط بالغيوب التي لا نهاية لها، ومن أصول التوحيد أنه تعالى، لا شريك له في ذاته, ولا في صفة من صفاته، والرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله، لا يعلم من الغيب إلا ما أوحاه الله تعالى إليه، لأداء وظيفة التبليغ، ولكن الغلاة يرون من التقصير في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه أن تكون صفاته دون صفات ربه وإلهه، وخالق الخلق أجمعين، فكذبوا كلام الله تعالى, وشبهوا به بعض عبيده، إرضاء لغلوهم, ومثل هذا الغلو لم يعرف عن أحد من سلف هذه الأمة, ولو أراد الله تعالى أن يعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بوقت قيام الساعة بعد كل ما أنزله عليه في إخفائها واستئثاره بعلمه لما أكده كل هذا التأكيد في هذه السورة وغيرها، كقوله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا [الأعراف:187] ا. هـ. الحكمة في تقديم أشراط الساعة ودلالة الناس عليها: ثبت في حديث جبريل المشهور أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأخبرني عن الساعة)) فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) , قال: ((فأخبرني عن أمارتها)) (¬5) وفي رواية قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها ... )) الحديث (¬6). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين، وحثهم على التوبة والاستعداد) (¬7). ونقل القرطبي - رحمه الله - عن العلماء قولهم: (والحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها، تنبيه الناس عن رقدتهم، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة، كي لا يباغتوا بالحول بينهم وبين تدارك العوارض منهم، فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم, وانقطعوا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها، والله أعلم، وتلك الأشراط علامة لانتهاء الدنيا وانقضائها) (¬8) المهدي وفقه أشراط الساعة لمحمد أحمد المقدم - ص:589 - 597 ¬

(¬1) ((تفسير المنار)) (9/ 390). (¬2) حديث السؤال عن الساعة رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((تفسير المنار)) (9/ 393). (¬4) ((تفسير المنار)) (282 - 283). (¬5) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (4777)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) ((فتح الباري)) (11/ 350). (¬8) ((التذكرة)) (ص: 624).

الباب الثالث: القيامة الكبرى

تمهيد في سر تعدد أسماء يوم القيامة: قد سمى الله هذا اليوم بعدة أسماء؛ تنويها بشأنه وتنبيها للعباد ليخافوا منه؛ فسماه اليوم الآخر؛ لأنه بعد الدنيا وليس بعده يوم غيره. وسماه يوم القيامة؛ لقيام الناس فيه لربهم. وسماه الواقعة والحاقة والقارعة والراجفة والصاخة والآزفة والفزع الأكبر ويوم الحساب ويوم الدين والوعد الحق ... وكلها أسماء تدل على عظم شأنه وشدة هوله وما يلقاه الناس فيه من الشدائد والأهوال؛ فهو يوم تشخص فيه الأبصار، وتطير القلوب عن أماكنها حتى تبلغ الحناجر ...... وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا، وله أسماء كثيرة في القرآن الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد لصالح بن فوزان الفوزان - بتصرف

مطلب: أسماء يوم القيامة

- يوم القيامة: لأن فيه قيام الناس للحساب. وسمي يوم القيامة، لقيام أمور ثلاثة فيه: الأول: قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 5 - 6]. الثاني: قيام الأشهاد الذين يشهدون للرسل وعلى الأمم، لقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر: 51]. الثالث: قيام العدل، لقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 2/ 257

- اليوم الآخر:

- اليوم الآخر: قال تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة: 177] إلى آخر الآية الكريمة. - الآخرة: قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16 - 17]. قال ابن حجر رحمه الله في سبب تسميته باليوم الآخر: (وأما اليوم الآخر فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا, أو آخر الأزمنة المحدودة) (¬1). وعلى هذا فالمراد باليوم الآخر أمران: الأول: فناء هذه العوالم كلها وانتهاء هذه الحياة بكاملها. الثاني: إقبال الحياة الآخرة وابتداؤها. فدل لفظ اليوم الآخر على آخر يوم من أيام هذه الحياة وعلى اليوم الأول والأخير من الحياة الثانية، إذ هو يوم واحد لا ثاني له فيها البتة (¬2). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (1/ 118). (¬2) ((عقيدة المؤمن)) (ص: 311).

- يوم الآزفة:

- يوم الآزفة: قال تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18]، والمراد بالآزفة (يوم القيامة، سميت بذلك لقربها؛ إذ كل آت قريب) (¬1). ¬

(¬1) ((التفسير الواضح)) (24/ 27).

- يوم البعث:

- يوم البعث: قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الروم: 56]. وسمي يوم البعث لما يقع فيه من إحياء الموتى, وإخراجهم من قبورهم.

- يوم التغابن:

- يوم التغابن: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن: 9]. (وسمي يوم القيامة يوم التغابن لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار، أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة، فوقع الغبن لأجل مبادلتهم الخير بالشر, والجيد بالرديء) (¬1). ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (18/ 136).

- يوم التلاق:

- يوم التلاق: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 15 - 16]. سمي يوم التلاق: قال ابن عباس وقتادة: (يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض) (¬1). وقال قتادة أيضاً، وأبو العالية، ومقاتل: (يلتقي فيه الخلق والخالق) (¬2)، وقيل: (العابدون والمعبودون) (¬3)، وقيل: (الظالم والمظلوم) (¬4)، وقيل: (يلقى كل إنسان جزاء عمله) (¬5)، وقيل: (يلتقي الأولون والآخرون على صعيد واحد) (¬6). قال القرطبي: وكله صحيح (¬7). ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (19/ 261)، والثعلبي في ((الكشف والبيان)) (8/ 270)، و ((تفسير البغوي)) (7/ 143). (¬2) ((الكشف والبيان)) للثعلبي (8/ 270)، و ((تفسير السمعاني)) (5/ 11). (¬3) ((الكشف والبيان)) للثعلبي (8/ 270)، و ((تفسير البغوي)) (7/ 143). (¬4) ((الكشف والبيان)) للثعلبي (8/ 270)، و ((تفسير البغوي)) (7/ 143). (¬5) ((تفسير القرطبي)) (15/ 300). (¬6) ((تفسير القرطبي)) (15/ 300). (¬7) ((تفسير القرطبي)) (15/ 300).

- يوم التناد:

- يوم التناد: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر: 32]. سمي بذلك: لمناداة الناس بعضهم بعضاً، فينادي أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة: أن أفيضوا علينا من الماء، وينادي المنادي أيضاً بالشقوة والسعادة: ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها، ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وهذا عند وزن الأعمال، وتنادي الملائكة أصحاب الجنة: أن تلكموا الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون، وينادى حين يذبح الموت: ((يا أهل الجنة، خلود لا موت، ويا أهل النار, خلود لا موت)) (¬1)، وينادى كل قوم بإمامهم، إلى غير ذلك من النداء (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (6545). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((تفسير القرطبي)) (15/ 311).

– يوم الجمع:

– يوم الجمع: لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [الشورى: 7]. وسمي يوم الجمع لأنه (يوم يجمع الله الأولين والآخرين، والإنس والجن، وأهل السماء وأهل الأرض، وقيل: هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله، وقيل: لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم، قيل: لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته، وقيل: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي) (¬1). ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (18/ 136)، ((تفسير اللباب)) لابن عادل (ص: 4942)، و ((تفسير السراج)) للشربيني الخطيب (4/ 218).

- يوم الحساب:

- يوم الحساب: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر: 27]. وسمي يوم الحساب: لأن الباري سبحانه يعدد على الخلق أعمالهم، من إحسان وإساءة، يعدد عليهم نعمه ثم يقابل البعض بالبعض (¬1). أو هو: (توقيف الله عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم، خيراً كانت أو شراً) (¬2). ¬

(¬1) ((التذكرة)) (ص: 271). (¬2) ((الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية)) (ص: 223).

– الحاقة:

– الحاقة: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1 - 3]. وسميت بذلك: لأنها (تحق فيها الأمور ويجب فيها الجزاء على الأعمال)، وقيل: لأنها أحقت لكل عامل عمله، وقيل: لأنها أحقت لكل قوم أعمالهم (¬1)، وقيل: سميت حاقة لأنها كانت من غير شك، وقيل: سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام النار (¬2). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (29/ 47). (¬2) ((التذكرة)) (ص: 275).

- يوم الحسرة:

- يوم الحسرة: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم: 39]. وسمي يوم الحسرة لأنه: يتحسر فيه الكافر على كفره, والظالم على ظلمه, والمسيء على إساءته (¬1). ويتحسر الكافر كذلك حينما ييأس من دخول الجنة ويرى ما فاته من النعيم (¬2). ¬

(¬1) ((أوضح التفاسير)) (ص: 371). (¬2) ((تفسير الطبري)) (16/ 88).

- يوم الخلود:

- يوم الخلود: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق: 34]. سماه يوم الخلود لأنه لا انتهاء له بل هو دائم أبداً (¬1). ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (5/ 78).

- يوم الخروج:

- يوم الخروج: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42]. وسمي يوم الخروج: لخروج الناس فيه من قبورهم للبعث (¬1). ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (5/ 81)، ((تفسير الطبري)) (26/ 183).

- يوم الدين:

- يوم الدين: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4]. الدين هنا بمعنى الجزاء، وعن ابن عباس أنه قال: (يوم الدين: يوم الحساب للخلائق وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم؛ إن خيراً فخير, وإن شراً فشر، إلا من عفا عنه) (¬1). قال ابن كثير – رحمه الله -: (وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف وهو ظاهر) (¬2). ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (1/ 156)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1498). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 25).

- الساعة:

- الساعة: إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه: 15]. وقد اختلف الناس في معنى كلمة الساعة إلى أقوال عديدة: فقال البرديسي: الساعة لغة: اسم لطائفة من الزمن مبهمة، وأقل ما يطلق عليه اسم الساعة طرفة عين أو أخذ نفس ورده، وهي نكرة، وكل نكرة تقبل التعريف والتنكير إلا هذه؛ فإن الألف واللام قد لزمتها على وجه التغليب كالثريا ونحوها، والمراد يوم القيامة. وقال بعضهم: الساعة من أصل الوضع مقدار من الزمان غير معين كقوله: كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ [يونس: 45]. وفي لسان أهل الشرع: القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعات الدنيا، أو أنها تقع بغتة، وصارت علماً بالغلبة كالكوكب للزهرة، والساعة في عرف الفلكيين جزء من أربعة وعشرين جزءاً من أوقات الليل والنهار. وقال بعضهم: سميت بذلك لأنها بالنسبة إلى كمال قدرته وجلاله كساعة واحدة، أو من باب تسمية الكل بلفظ البعض، ويجوز أن يراد بالساعة أول ساعة من الآخرة، وقيل: هي عبارة عن آخر ساعات الدنيا، وقيل: الساعة عبارة عن انقراض الدنيا (¬1). ¬

(¬1) ((كتاب تكملة شرح الصدور)) (ص: 1، 2).

- الصاخة:

- الصاخة: فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:33 - 37]. والصاخة هي: صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان أي تصمها (¬1). والصاخة: لفظ ذو جرس عنيف نافذ يكاد يخرق صماخ الأذن وهو يشق الهواء شقاً حتى يصل إلى الآذان صاخاً ملحاً (¬2). ¬

(¬1) ((تفسير النسفي)) (4/ 334)، ((تفسير اللباب)) لابن عادل (ص: 5210)، ((تفسير أبي السعود)) (9/ 112). (¬2) ((في ظلال القرآن)) لسيد قطب (20/ 56).

– الطامة:

– الطامة: فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى [النازعات: 34 - 35]. قال القرطبي: (معناها الغالبة، من قولك: طم الشيء إذا علا وغلب، ولما كانت تغلب كل شيء كان لها هذا الاسم حقيقة دون كل شيء) (¬1). ¬

(¬1) ((التذكرة)) (ص: 275).

– الغاشية:

– الغاشية: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية: 1]. سميت غاشية لأنها تغشى كل شيء بأهوالها (¬1). ¬

(¬1) ((تفسير الخازن)) (7/ 237)، و ((تفسير الخازن)) (4/ 333).

- يوم الفصل:

- يوم الفصل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النبأ: 17]. وسمي يوم الفصل: لأنه يوم عظمه الله، يفصل الله فيه بين الأولين والآخرين بأعمالهم (¬1). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (24/ 157).

- يوم الفتح:

- يوم الفتح: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [السجدة: 29]. قال في (الفتوحات الإلهية): (يوم الفتح المراد به يوم القيامة الذي هو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم) (¬1). وقال الآلوسي: أخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: (يوم الفتح يوم القيامة) (¬2). ثم قال: هذا وتفسير يوم الفتح بيوم القيامة ظاهر على القول بأن المراد بالفتح الفصل للخصومة. ثم ذكر ما قيل من تفسير يوم الفتح بأنه يوم بدر، أو يوم فتح مكة، وما إلى ذلك من أقوال علماء التفسير وهي مرجوحة، والراجح هو ما تقدم من تفسيره بيوم القيامة (¬3) ... ¬

(¬1) ((الفتوحات الإلهية)) (3/ 420). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (20/ 199). (¬3) ((روح المعاني)) (21/ 140).

- القارعة:

- القارعة: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة: 1 - 3]. (سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها) (¬1). ¬

(¬1) ((التذكرة)) (ص: 263).

- الواقعة:

- الواقعة: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة: 1 - 2]. قال الألوسي بعد أن بين أن الواقعة هي القيامة – قال: (صرح ابن عباس بأنها من أسمائها (¬1) وسميت بذلك للإيذان بتحقق وقوعها لا محالة) (¬2). ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (23/ 87)، وانظر: ((تفسير الماوردي)) (5/ 445)، و ((تفسير الثعالبي)) (4/ 249). (¬2) ((روح المعاني)) (28/ 129).

- يوم الوعيد:

- يوم الوعيد: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20]. وسمي يوم الوعيد لأن الله (أوعد به الكفار، قال مقاتل: يعني بالوعيد العذاب في الآخرة، وخصص الوعيد مع كون اليوم هو يوم الوعد والوعيد جميعاً لتهويله) (¬1). الحياة الآخرة لغالب عواجي – 1/ 45 وقد جمع الغزالي ثم القرطبي – أسماء يوم القيامة - فبلغت نحو الثمانين اسما فمنها يوم الجمع، ويوم الفزع الأكبر، ويوم التناد، ويوم الوعيد، ويوم الحسرة، ويوم التلاق، ويوم المآب، ويوم الفصل، ويوم العرض على الله، ويوم الخروج، ويوم الخلود، ومنها: يوم عظيم، ويوم عسير، ويوم مشهود، ويوم عبوس قمطرير، ومنها: يوم تبلى السرائر، ومنها: يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، ويوم يدعون إلى نار جهنم، ويوم تشخص فيه الأبصار، ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ويوم لا ينطقون، ويوم لا ينفع مال ولا بنون، ويوم لا يكتمون الله حديثا، ويوم لا مردّ له من الله، ويوم لا بيع فيه ولا خلال، ويوم لا ريب فيه، فإذا ضمت هذه إلى ما ذكر في الأصل كانت أكثر من ثلاثين اسما معظمها ورد في القرآن بلفظه وسائر الأسماء المشار إليها أخذت بطريق الاشتقاق بما ورد منصوصاً كيوم الصدر من قوله: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا [الزلزلة:6] ويوم الجدال من قوله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا [النحل:111] , ولو تتبع مثل هذا من القرآن زاد على ما ذكر والله أعلم فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني - بتصرف- 11/ 395 وبعد أن ذكر القرطبي كثيراً من أسماء يوم القيامة – التي هي على صيغة جمل – ذكر أن أسماء يوم القيامة قد تتبعها بعض العلماء، منهم ابن نجاح في (سبل الخيرات)، وأبو حامد الغزالي في غير موضع من كتبه كـ (الإحياء) (¬2) وغيره، والقتبي في كتاب (عيون الأخبار)، ثم قال: (ولا يمتنع أن تسمى بأسماء غير ما ذكرنا حسب الأحوال الكائنة فيه، من الازدحام، والتضايق، واختلاف الأقدام، والخزي، والهوان، والذل، والافتقار، والصغار، والانكسار، ويوم الميقات، والمرصاد، إلى غير ذلك من الأسماء) (¬3). الحياة الآخرة لغالب عواجي – 1/ 45 ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (5/ 76). (¬2) ((إحياء علوم الدين)) (4/ 516). (¬3) ((التذكرة)) (ص: 232)، ((كتاب تكملة شرح الصدور)) (ص: 9).

الفصل الثاني: البعث والنشور

الفصل الثاني: البعث والنشور • المبحث الأول: تعريف البعث والنشور. • المبحث الثاني: حكم الإيمان بالبعث وأدلته. • المبحث الثالث: أصناف منكري البعث.

المبحث الأول: تعريف البعث والنشور

المبحث الأول: تعريف البعث والنشور • المطلب الأول: البعث في اللغة. • المطلب الثاني: البعث في الشرع. • المطلب الثالث: النشور في اللغة. • المطلب الرابع: النشور في الاصطلاح. • المطلب الخامس: المعاد في اللغة. • المطلب السادس: المعاد في الاصطلاح.

المطلب الأول: البعث في اللغة

المطلب الأول: البعث في اللغة يختلف تعريف البعث في اللغة باختلاف ما علق به، فقد يطلق ويراد به: 1 - الإرسال: يقال بعثت فلاناً أو ابتعثته أي أرسلته. 2 - البعث من النوم: يقال: بعثه من منامه إذا أيقظه. 3 - الإثارة: وهو أصل البعث، ومنه قيل للناقة: بعثتها إذا أثرتها وكانت قبل باركة. وفي هذا يقول الأزهري (¬1): (قال الليث: بعثت البعير فانبعث إذا حللت عقاله وأرسلته، لو كان باركاً فأثرته). وقال أيضاً: (والبعث في كلام العرب على وجهين: أحدهما: الإرسال كقول الله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ [الأعراف: 103]، معناه أرسلنا. والبعث أيضاً الإحياء من الله للموتى، ومنه قوله جل وعز: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 56]، أي أحييناكم. وقال أبو هلال: (بعث الخلق: اسم لإخراجهم من قبورهم إلى الموقف, ومنه قوله تعالى: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52]) (¬2). ويقول الفيروز آبادي (¬3): (بعثه كمنعه: أرسله كابتعثه فانبعث، والناقة أثارها، وفلاناً من منامه: أهبه ... وتبعث مني الشعر انبعث كأنه سال) (¬4). وقال الراغب: (أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه، يقال: بعثته فانبعث، ويختلف البعث بحسب ما علق به. فبعثت البعير: أثرته وسيرته، وقوله عز وجل: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام: 36]. أي يخرجهم ويسيرهم إلى القيامة. فالبعث ضربان: بشري كبعث البعير وبعث الإنسان في حاجة. وإلهي وذلك ضربان: أحدهما: إيجاد الأعيان والأجناس والأنواع عن ليس، وذلك يختص به الباري تعالى، ولم يقدر عليه أحداً. والثاني: إحياء الموتى، وقد خص بذلك بعض أوليائه كعيسى صلى الله عليه وسلم والثاني، ومنه قوله عز وجل: فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الروم: 56]، يعني الحشر. وقوله عز وجل: فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ [المائدة: 31]. أي قيضه. وقوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف: 12]، وذلك إثارة بلا توجيه إلى مكان) (¬5). الحياة الآخرة لغالب العواجي -1/ 59 ¬

(¬1) ((تهذيب اللغة)) (2/ 334) مادة: (بعث). (¬2) ((الفروق)) (284). (¬3) ((القاموس المحيط)) (1/ 168) مادة: (بعث). (¬4) ((القاموس المحيط)) (1/ 168). (¬5) ((المفردات)) (ص: 52).

المطلب الثاني: البعث في الشرع

المطلب الثاني: البعث في الشرع البعث في الشرع يراد به: إحياء الله للموتى وإخراجهم من قبورهم أحياء للحساب والجزاء. قال الإمام ابن كثير – رحمه الله -: (البعث: وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة) (¬1). وقال السفاريني: (أما البعث فالمراد به المعاد الجسماني؛ فإنه المتبادر عند الإطلاق؛ إذ هو الذي يجب اعتقاده ويكفر منكره) (¬2). وقال البيجوري: (البعث عبارة عن إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم) (¬3). وقال السيد سابق عن البعث: (هو إعادة الإنسان روحا وجسداً كما كان في الدنيا) (¬4). وهكذا يكون حينما تتعلق إرادة الله تبارك وتعالى بذلك؛ فيخرجون من القبور حفاة عراة غرلاً بهماً، ويساقون ويجمعون إلى الموقف لمحاسبتهم ونيل كل مخلوق ما يستحقه من الجزاء العادل. وهذا ما تشير إليه كثير من الآيات الواردة في كتاب الله عز وجل، كما قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ [الحج: 6 - 7] وقوله تعالى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الإنفطار: 4]، وقوله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام: 36]. وبالمقارنة بين المعنى الشرعي لكلمة (البعث) والمعنى اللغوي لها؛ نجد ترابطاً ظاهراً، وذلك أن من معاني البعث في اللغة الإثارة لما كان ساكناً من قبل، وكذا الإرسال كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ [النحل: 36]، وهذا ما جاء في كلمة البعث مراداً بها معناها الشرعي الذي هو إرسال الحياة إلى الأموات وإثارتها من جديد, لتتهيأ لما يراد منها من الانطلاقة إلى الموقف للحساب. الحياة الآخرة لغالب العواجي -1/ 61 فالبعث هو: المعاد الجسماني فإنه المتبادر عند الإطلاق إذ هو الذي يجب اعتقاده ويكفر منكره، قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه (الروح) كشيخه وغيرهما: معاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين، واليهود، والنصارى. وقال الجلال الدواني هو بإجماع أهل الملل وبشهادة نصوص القرآن بحيث لا يقبل التأويل كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78]. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو حاتم، والإسماعيلي في (معجمه)، والحافظ الضياء في (المختارة)، وابن مردويه، والبيهقي في (البعث) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بيده فقال يا محمد، يحيي الله هذا بعد ما أرم؟ قال: نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم)) فنزلت الآيات من آخر يس أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ [يس:77] إلى آخر السورة)) (¬5). وهذا نص صريح في الحشر الجسماني يقلع عرق التأويل بالكلية. ولهذا قال الإمام الرازي: الإنصاف أنه لا يمكن الجمع بين الإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وبين نفي الحشر الجسماني، فإنه قد ورد في عدة مواضع من القرآن المجيد التصريح به بحيث لا يقبل التأويل أصلا. انتهى. وكذلك لا يمكن الجمع بين القول بقدم العالم على ما يقول الفلاسفة وبين الحشر الجسماني لأن النفوس الناطقة على هذا التقدير غير متناهية فتستدعي جميعا أبدانا غير متناهية وأمكنة غير متناهية، وقد ثبت تناهي الأبعاد بالبرهان وباعترافهم، والله تعالى أعلم ... وأما النشور فهو يرادف البعث في المعنى، يقال: نشر الميت ينشر نشورا إذا عاش بعد الموت، وأنشره الله أي: أحياه، ومنه قولهم: يوم البعث والنشور. لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لمحمد بن أحمد السفاريني 2/ 157 ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 206). (¬2) ((مختصر اللوامع)) (ص: 387). (¬3) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 170). (¬4) ((العقائد الإسلامية)) (ص: 269). (¬5) رواه الطبري في ((تفسيره)) (20/ 554)، والحاكم (2/ 466)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (4/ 108). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

المطلب الثالث: النشور في اللغة

المطلب الثالث: النشور في اللغة النشر في اللغة يأتي بمعنى البسط، والانتشار، وتقلب الإنسان في حوائجه، ويأتي بمعنى التفرق. أما مجيئه بمعنى البسط فمثل قوله تعالى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير: 10] ومنه قوله تعالى: وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [المرسلات: 3] أي الملائكة التي تنشر الرياح أو الرياح التي تنشر السحاب. وأما مجيئه بمعنى الانتشار فمثل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47] أي جعل فيه الانتشار وابتغاء الرزق. وعن تقلب الإنسان في حوائجه قوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [الجمعة: 10] أي تفرقوا فيها (¬1). قال الأزهري في باب (نشر): (قال الليث: النشر: نشر الريح الطيبة، وعن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: النشر: الحياة، والنشر: الريح الطيبة). قال الأزهري: يقال: أنشر الله الموتى فنشروا: إذا حيوا، كما قال الأعشى: حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشر وقال الزجاج: يقال: نشرهم الله أي بعثهم، كما قال الله تعالى: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15]) (¬2). وقال أبو هلال العسكري: (والنشور: اسم لظهور المبعوثين، وظهور أعمالهم للخلائق، ومنه قولك: نشرت اسمك ونشرت قضية فلان، إلا أنه قيل: أنشر الله الموتى - بالألف -، ونشرت الفضيلة الثوب، للفرق بين المعنيين) (¬3). وذكر الزمخشري في (أساس البلاغة): أن من معانيه أيضاً: إذاعة الخير ونشره في الناس (¬4). الحياة الآخرة لغالب العواجي – 1/ 63 ¬

(¬1) ((المفردات للراغب)) (ص: 492). (¬2) ((تهذيب اللغة)) (11/ 338). (¬3) ((الفروق في اللغة)) (ص: 284). (¬4) ((أساس البلاغة)) (ص: 456).

المطلب الرابع: النشور في الاصطلاح

المطلب الرابع: النشور في الاصطلاح يطلق ويراد به معنى البعث، وهو انتشار الناس من قبورهم إلى الموقف للحساب والجزاء. وإذا كان المعنى اللغوي يراد به الانتشار والتفرق والانبساط والبعث، فهي معان عامة يدخل فيها المعنى الاصطلاحي وهو نشر الله للأموات وإحياؤهم من قبورهم، فالنشور يراد به سريان الحياة في الأموات، كما رأيناه في تعريفات العلماء السابقة من أنه يراد به البعث في اليوم الآخر وخروج الناس من قبورهم أحياء. وهذا ما فسر به قوله تعالى: ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ [عبس: 22]. قال ابن كثير: (أي بعثه بعد موته)، قال: (ومنه يقال: البعث والنشور) (¬1). وجاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام قال: اللهم باسمك أموت وأحيا. وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيا نفسي بعد أن أماتها وإليه النشور)) (¬2). قال ابن الأثير: (يقال: نشر الميت ينشر نشوراً: إذا عاش بعد الموت، وأنشره الله أي أحياه) (¬3). وعرفه البرديسي بأنه: (قيام الناس من قبورهم) (¬4). وقال السفاريني: (وأما النشور فهو يرادف البعث في المعنى، نشر الميت ينشر نشوراً: إذا عاش بعد الموت، وأنشره الله أي أحياه) (¬5). الحياة الآخرة لغالب العواجي – 1/ 64 ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 472). (¬2) رواه البخاري (6314). (¬3) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/ 54). (¬4) ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 16). (¬5) ((مختصر لوامع الأنوار)) (388).

المطلب الخامس: المعاد في اللغة

المطلب الخامس: المعاد في اللغة قال الفيروز أبادي: (والمعاد: الآخرة، والحج، ومكة، والجنة – وبكليهما فسر قوله تعالى: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص: 85]، والمرجع، والمصير. وقال: وأعاده إلى مكانه: رجعه، والكلام: كرره، وتعاودوا في الحرب: عاد كل فريق إلى صاحبه) (¬1). وقال الراغب: (والمعاد يقال للعود وللزمان الذي يعود فيه، وقد يكون للمكان الذي يعود إليه) (¬2). وتدل تلك التعريفات للمعاد على أنه مصدر ميمي مأخوذ من العود، وهو رجوع الشيء إلى ما كان عليه أولاً. الحياة الآخرة لغالب العواجي – 1/ 65 ¬

(¬1) ((القاموس المحيط)) (1/ 330). (¬2) ((المفردات)) (352).

المطلب السادس: المعاد في الاصطلاح

المطلب السادس: المعاد في الاصطلاح وفي الاصطلاح: يطلق لفظ المعاد على الرجوع إلى الله تعالى في يوم القيامة، ورجوع أجزاء البدن المتفرقة إلى الاجتماع كما كانت في الدنيا، وحلول الروح فيه. قال ابن الأثير: (وفي أسماء الله تعالى "المعيد" هو الذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات في الدنيا، وبعد الممات إلى الحياة يوم القيامة) (¬1). ومنه الحديث: ((وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي)) (¬2) أي ما يعود إليه يوم القيامة، ومنه حديث علي: (والحكم الله والمعود إليه يوم القيامة) أي: المعاد (¬3). وقال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله: (المعاد: وهو المرد إلى الله عز وجل والإياب إليه) (¬4). وقد فسر قوله تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 29] بعد تفسيرات كلها تدل على الإعادة والرجوع إلى الله تعالى. عن مجاهد: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 29]: يحييكم بعد موتكم) (¬5). وقال الحسن البصري: (كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء) (¬6) (¬7). وقال قتادة: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 29] قال: بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئاً ثم ذهبوا ثم يعيدهم) (¬8). وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (كما بدأكم أولاً كذلك يعيدكم آخراً) (¬9). الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 66 ¬

(¬1) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/ 316). (¬2) رواه مسلم (2720). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ذكره ابن الأثير في ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (3/ 316). (¬4) ((ابن الأثير في النهاية)) (3/ 316). (¬5) رواه الطبري في تفسيره (12/ 385). (¬6) رواه الطبري في تفسيره (12/ 385). (¬7) ((معارج القبول)) (2/ 101). (¬8) رواه الطبري في تفسيره (12/ 385). (¬9) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 208).

المبحث الثاني: حكم الإيمان بالبعث وأدلته

المبحث الثاني: حكم الإيمان بالبعث وأدلته • - الإقسام على وقوع البعث:. • - التنبيه بالنشأة الأولى على النشأة الثانية:. • - التنبيه بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى:. • - التنبيه بخلق السموات والأرض على إحياء الموتى:. • - إخبار الله تعالى بما وقع من البعث الحسي المشاهد في الحياة الدنيا.

- الإقسام على وقوع البعث:

- الإقسام على وقوع البعث: كما نرى في الآيات الآتية: قال الله تعالى آمرا نبيه أن يقسم بربه سبحانه وتعالى على أن البعث حق لا ريب فيه، وأنه لابد من وقوعه، ومحاسبة أولئك المكذبين الجاحدين له، وأن ذلك لا يعجز الله تعالى؛ بل هو عليه يسير، فقال عز وجل: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7]. وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ: 3]. وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس: 53]. ففي هذه الآيات البينات يأمر الله تعالى نبيه - وهو الصادق المصدوق - أن يقسم على وقوع البعث والجزاء وأنه كائن لا محالة، ومعلوم أنه ولو لم يقسم صلى الله عليه وسلم على وقوع البعث؛ لتلقى المؤمنون خبره بالتصديق التام وعدم وجود أدنى شك في ذلك، ولكان ذلك الإخبار كافياً لصحة ثبوته. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 78

- التنبيه بالنشأة الأولى على النشأة الثانية:

- التنبيه بالنشأة الأولى على النشأة الثانية: 1 - قال تعالى: وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 49 - 52]. 2 - وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ [يس: 77 - 80]. 3 - أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 36 - 40]. 4 - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة: 62]. 5 - وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27]. 6 - يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104]. 7 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5]. 8 – وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 66 - 67]. 9 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون: 13 - 16]. 10 - فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق: 5 - 9]. وفي هذه الآيات المباركة يوضح تعالى لعباده أنه يعيد المخلوقات بعد أن يموتوا ويبلوا في الأرض، فكما أنه أنشأهم أول مرة وأوجدهم من العدم لا يعجزه أن ينشئهم مرة أخرى، ومعلوم أن النشأة الأخرى تكون أهون من النشأة الأولى. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 79

- التنبيه بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى:

- التنبيه بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى: 1 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ [الحج: 5 - 7]. 2 - فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 50]. 3 - وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف: 11]. 4 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39]. 5 - وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 57]. 6 - وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9 - 11]. 7 - يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 19]. 8 - وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9]. 9 - وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: 33]. ووجه الدلالة من هذه الآيات البينات واضح تمام الوضوح؛ بل هو من الأمور المشاهدة، أرض أصابها الجدب فإذا بأشجارها تيبس بعد نضارتها، وإذا بتلك الأرض هامدة خاشعة مستكينة قد مات منها كل شيء يدل على حياتها، فيريد الله إحياءها، فتنزل عليها الأمطار، فإذا بها قد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وكأنها لم تكن هي التي كانت ميتة بالأمس قبل أن تمطر، فإذا بثمراتها تؤتي أكلها من كل نوع، وإذا بها تكسى حلة خضراء، وإذا بالزهور على أشكال شتى. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 84

- التنبيه بخلق السموات والأرض على إحياء الموتى:

- التنبيه بخلق السموات والأرض على إحياء الموتى: 1 - قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33]. 2 - وقال تعالى: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا [النازعات: 27]. 3 - وقال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81]. 4 - وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا [الإسراء: 99]. 5 - وقال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر: 57]. وفي هذه الآيات الكريمات يخبر تعالى عن وقوع البعث بالتنبيه على أمر مشاهد أمام الأنظار وهو خلق السموات والأرض، ألم ير هؤلاء المكذبون أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير، فالذي يصنع الأمر العظيم لا يعسر عليه أن يصنع الأمر الصغير، فالذي يستطيع أن يبني قصراً عظيماً لا يعسر عليه أن يعيد بناء غرفة من غرفه. الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 87

- إخبار الله تعالى بما وقع من البعث الحسي المشاهد في الحياة الدنيا

- إخبار الله تعالى بما وقع من البعث الحسي المشاهد في الحياة الدنيا ليكون إحياء الله للموتى في الدنيا دليلاً على البعث في يوم القيامة كما في الآيات الآتية: 1 - قصة العزير – أو غيره ممن ذكرهم علماء التفسير من الخلاف في تعيين المار على تلك القرية (¬1): قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 259]. 2 - طلب إبراهيم من ربه مشاهدة إحياء الموتى: قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260]. 3 - موت بني إسرائيل الذين تنطعوا في إيمانهم واشترطوا لذلك أن يروا ربهم، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله ليريهم قدرته: قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55]. 4 - إخبار الله عن قتيل بني إسرائيل الذي أعاد الله إليه الحياة بعد ما قتل وأخبر عن قاتله معجزة لنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: فقال تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة: 73]. 5 - إخبار الله تعالى عن إماتة آلاف الناس خرجوا من ديارهم حذر الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ [البقرة: 243]. 6 - إخبار الله تعالى عن أهل الكهف، وهم فتية آمنوا بربهم وتحابوا فيه، فآواهم ذلك الكهف الذي كان قبراً لهم إلى حين أراد الله إظهارهم: كما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف: 9 - 12]. وفي هذه الآيات البينات دلالات واضحات على قدرة الله تعالى على إحياء الأموات. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 88 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 317)، و ((تفسير القرطبي)) (3/ 289)، و ((تفسير اللباب)) لابن عادل (ص: 866)، و ((تفسير البحر المحيط)) (2/ 217).

المطلب الثاني: أدلة البعث من السنة

المطلب الثاني: أدلة البعث من السنة وأما الأحاديث في هذا الباب فكثيرة جداً، ... وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدَّثنا أبو اليمان حدثنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمَّا تكذيبه إيَّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أوَّل الخلق بأهون عليَّ من إعادته. وأما شتمه إيَّاي فقوله: اتَّخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحدا)) (¬1). وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في (مسنده): حدثنا أبو المغيرة حدثنا حريز حدثني عبدالرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بسر بن جحاش قال: ((إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصَقَ يوماً في كفِّه فوضع عليها إصبعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: بني آدم أنَّى تعجزني وقد خلقتك مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك، وللأرض منك وئيد، فجمعتَ ومنعتَ، حتى إذا بلغت التَّراقي قلت أتصدَّق، وأنَّى أوان الصدقة)) ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن حريز بن عثمان به (¬2). وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عليُّ بن الحسين بن الجنيد حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عثمان بن سعيد الزيات عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إنَّ العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاءِ ففتَّه بيده ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما أرم؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: نعم، يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم)) قال: ونزلت الآيات من آخر يس (¬3). وروى مسلم من طريق معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث، منها: وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ في الإنسان عظماً لا تأكله الأرضُ أبداً فيه يركب يوم القيامة. قالوا: أيُّ عظم هو يا رسول الله؟ قال: عجب الذنب)) (¬4) وفيه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق وفيه يُركب)) (¬5) وقال رحمه الله تعالى: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين النفختين أربعون – قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت – ثمَّ ينْزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل قال وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلاّ عظماً واحداً وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة)) (¬6). ورواه البخاري عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش بمعناه، دون قوله: ((ثم يُنْزِلُ الله تعالى: مِنَ السماء ماء)) (¬7) وحديث عبدالله بن عمرو وفيه: ((ثُم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحدٌ إلاّ أصغى ليتا ورفع ليتا. ¬

(¬1) رواه البخاري (4482). (¬2) رواه أحمد (4/ 210) (17876)، وابن ماجه (2707) مختصرا، والحاكم (2/ 545). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)): إسناد حديثه صحيح رجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (20/ 554)، والحاكم (2/ 466)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (4/ 108). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. (¬4) رواه مسلم (2955) (143). (¬5) رواه مسلم (2955) (142). (¬6) رواه مسلم (2955) (141). (¬7) رواه البخاري (4935).

قال: وأول من يسمعه رجلٌ يلوط حوض إبله قال فصعق ويصعق الناس, ثم يرسلُ الله – أو قال يُنْزل الله – مطراً كأنه الطلُّ – أو الظل، نعمان الشاك – فتنبت منه أجساد الناس، ثمَّ ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيامٌ ينظرون. ثم يقال: يا أيها الناس، هلمُّوا إلى ربِّكم، وقفوهم إنهم مسؤولون. قال ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقول: مِنْ كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. قال: فذلك يومٌ يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عَنْ ساق)) (¬1). وفي (الصحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنِّي أول من يَرْفعُ رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلِّقٌ بالعرش، فلا أدري كذلك كان أم بعد النفخة)) (¬2). وفي حديث الصور ... ((ثم ينْزل اللهُ عليهم ماءً من تحت العرش، ثم يأمر اللهُ السماء أن تمطر، فتمطر أربعين يوماً حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعاً، ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت، فتنبت كنبات الطَّراثيت – أو كنبات البقل – حتى إذا تكاملت أجسادهم، فكانت كما كانت قال الله عز وجل: ليحيى حملة العرش، فيحيون. ويأمر الله عز وجل إسرافيلَ فيأخذ الصُّور فيضعه على فيه ثم يقول: ليحيى جبريل وميكائيل، فيحييان. ثم يدعو الله بالأرواح ليؤتى بها، تتوهج أرواح المسلمين نوراً وأرواح الكافرين ظلمة فيقبضها جميعاً ثم يلقيها في الصور، ثم يأمر الله تعالى: إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح كأنَّها النَّحْلُ قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول: وعزتي وجلالي ليرجعن كلُّ روحٍ إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد فتدخل في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السُّمُّ في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنهم، وأنا أوَّل من تنشق الأرض عنه فتخرجون سراعاً إلى ربِّكم تنسلون)) (¬3) الحديث. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- بتصرف – 2/ 924 ¬

(¬1) رواه مسلم (2940). (¬2) رواه البخاري (4813). (¬3) رواه الطبري مختصراً ومطولاً (2/ 330 - 331، و30/ 186 - 188) وفي (17/ 110 - 111) وفي (24/ 30)، والطبراني في الأحاديث الطوال (نهاية المعجم الكبير 25/ 226) وغيرهم. قال أبو موسى المديني: الحديث وإن كان فيه نكارة وفي إسناده من تكلم فيه فعامة ما يروى مفرقاً في أسانيد ثابتة. وقال ابن كثير في ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 276): هذا حديث مشهور وهو غريب جدا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض ألفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وعمرو بن علي الفَلاس، ومنهم من قال فيه: هو متروك. وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء. قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة، قد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه، فغريب جدًا، ويقال: إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعله سياقا واحدا، فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمع فيه كل الشواهد لبعض مفردات هذا الحديث، فالله أعلم.

المبحث الثالث: أصناف منكري البعث

المطلب الأول: الصنف الأول أنكروا المبدأ والمعاد وزعموا أنَّ الأكوان تتصرف بطبيعتها فتوجد وتعدم بأنفسها، ليس لها رب يتصرف فيها، إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع، وهؤلاء هم جمهور الفلاسفة الدَّهرية والطبائعية. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 939

المطلب الثاني: الصنف الثاني من الدهرية طائفة يقال لهم الدورية

المطلب الثاني: الصنف الثاني من الدهرية طائفة يقال لهم الدوريَّة وهم منكرون للخالق أيضاً، ويعتقدون أنَّ في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. وزعموا أنَّ هذا قد تكرَّر مرات لا تتناهى فكابروا في المعقول وكذَّبوا المنقول، قبحهم الله تعالى. وهاتان الطائفتان يعمهم قوله عز وجل وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ [الجاثية:24] ولهذا عن السلف الصالح فيها تفسيران: الأول معنى قولهم نَمُوتُ وَنَحْيَا أي يموت الآباء ويحيا الأبناء هكذا أبداً، وهو قول الطائفة الأولى. والمعنى الثاني أنَّهم عَنَوْا كونهم يموتون ويحيون هم أنفسهم ويتكرر ذلك منهم أبداً ولا حساب ولا جزاء، بل ولا موجد ولا معدم ولا محاسب ولا مجازي، وهذا قول الدورية. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 939

المطلب الثالث: الصنف الثالث الدهرية من مشركي العرب ومن وافقهم

المطلب الثالث: الصنف الثالث الدهرية من مشركي العرب ومن وافقهم وهم مقرون بالبداءة، وأنَّ الله تعالى: ربّهم وخالقهم وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] ومع هذا قالوا: إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ [الدخان:35] فأقروا بالبداءة والمبدئ، وأنكروا البعثَ والمعاد، وهم المذكورون في حديث أبي هريرة الصحيح: ((وأما تكذيبه إيَّاي فقوله لَنْ يعيدني كما بدأني، وليس أوَّلَ الخلقِ بأهون عليَّ مِنْ إعادته)) (¬1). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 939 ¬

(¬1) رواه البخاري (4974).

المطلب الرابع: الصنف الرابع ملاحدة الجهمية ومن وافقهم

المطلب الرابع: الصنف الرابع ملاحدة الجهمية ومن وافقهم أقروا بمعاد ليس على ما في القرآن ولا فيما أخبَرَتْ به الرسل عن الله عز وجل، بل زعموا أنَّ هذا العالم يعدم عدماً محضاً، وليس المعاد هو بل عالم آخر غيره، فحينئذٍ تكون الأرض التي تحدّث أخبارها وتخبر بما عمل عليها من خير وشر ليست هي هذه، وتكون الأجساد التي تعذب وتجازى وتشهد على من عمل بها المعاصي ليست هي التي أعيدت بل هي غيرها، والأبدان التي تنعم في الجنة وتثاب ليست هي التي عملت الطاعة ولا أنَّها تحولت من حال إلى حال، بل هي غيرها تُبتدأ ابتداءً محضاً، فأنكروا معاد الأبدان وزعموا أنَّ المعادَ بداءة أخرى! معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – 2/ 940

المطلب الخامس: الرد على منكري البعث

المطلب الخامس: الرد على منكري البعث الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة، والعقل والفطرة السليمة. فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن. وذلك: أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب، إلا من عاند، كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفى - بين تفضيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء. ولهذا ظنت طائفة من المتفلسفة ونحوهم، أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري. والقرآن بين معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع. وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول من يقول منهم: إنه لم يخبر به إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخييل! وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء، من آدم إلى نوح، إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام، وقد أخبر الله بها من حين أهبط آدم، فقال تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف: 24] ولما قال إبليس اللعين: رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر:36 - 38]. وأما نوح عليه السلام فقال: وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح:17 - 18]. وقال إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82]. إلى آخر القصة. وقال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]. وقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260] الآية، وأما موسى عليه السلام، فقال الله تعالى: لما ناجاه: إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:15 - 16]. بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد، وإنما آمن بموسى، قال تعالى: حكاية عنه: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:32 - 33]، إلى قوله تعالى:: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39]، إلى قوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]. وقال موسى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]. وقد أخبر الله في قصة البقرة: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73].

وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، في آيات (من) القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]. وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا. فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم، من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة. فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد، يذكر ذلك فيها: في الدنيا والآخرة. وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد، فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ [سبأ:3] الآيات. وقال تعالى:: وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53]. وقال تعالى:: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]. وأخبر عن اقترابها، فقال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إليه فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:1 - 7]. وذم المكذبين بالمعاد، فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18]. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ [النمل:66]. وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا إلى أن قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ [النمل:38 - 39]. إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59]. وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا [الإسراء:97 - 99].

وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:49 - 52]. فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل: فإنهم قالوا أولا: وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 49]، فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم، فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت، كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟! فإن قلتم: كنا خلقاً على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقاً جديداً؟! وللحجة تقدير آخر، وهو: لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما، (فإنه) قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم، وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام، مع شدتها وصلابتها، بالإفناء والإحالة - فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون آخراً بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله: قل الذي فطركم أول مرة. فلما أخذتهم الحجة، ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع، وهو قولهم: متى هو؟ فأجيبوا بقوله: عسى أن يكون قريبا. ومن هذا قوله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 36] , إلى آخر السورة. فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة، أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضح الأدلة وصحة البرهان لما قدر. فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد، اقتضى جواباً، فكان في قوله: وَنَسِيَ خَلْقَهُ ما وفّى بالجواب وأقام الحجة وأزال الشبهة لما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها فقال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 79]، فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى. إذ كل عاقل يعلم ضروريا أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته، ومواده وصورته، فكذلك الثاني. فإذا كان تام العلم، كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة، وبرهان ظاهر، يتضمن جواباً عن سؤال ملحد آخر يقول: العظام إذا صارت رميماً عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معا، فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80].

فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها ولا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه، من إحياء العظام وهي رميم ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم، على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارا، فقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم [يس:81] فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض، على جلالتهما، وعظم شأنهما، وكبر أجسامها، وسعتهما، وعجيب خلقهما، أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى. كما قال في موضع آخر: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57]. وقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [يس:81]. ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره، الذي يفعل بالآلات والكلفة، والنصب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلة ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: كن، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده. ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده، فيتصرف فيه بفعله وقوله: وإليه ترجعون. ومن هذا قوله سبحانه: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36 - 40]. فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كما قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، إلى آخر السورة. فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شق سمعه وبصره، وركب فيه الحواس والقوى، والعظام والمنافع، والأعصاب والرباطات التي هي أشده، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة، التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته. فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب، بالقول الوجيز، الذي لا يكون أوجز منه، والبيان الجليل، الذي لا يتوهم أوضح منه، ومأخذه لقريب، الذي لا تقع الظنون على أقرب منه. وكم في القرآن (من) مثل هذا الاحتجاج، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ إلى أن قال: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ [الحج:5 - 7]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ إلى أن قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12 - 16]. وذكر قصة أصحاب الكهف، وكيف أبقاهم موتى ثلاثماثة سنة شمسية، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، وقال فيها: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا [الكهف:21].

والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، لهم في المعاد خبط واضطراب. وهم فيه على قولين: منهم من يقول: تعدم الجواهر ثم تعاد. ومنهم من يقول: تفرق الأجزاء ثم تجمع. فأورد عليهم: الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا، لم تعد من هذا؟ وأورد عليهم: أن الإنسان يتحلل دائماً، فماذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض! فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني! والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، ليس فيه شيء باق، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان. والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل تراباً، ثم ينشئها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأولى: فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاماً ولحماً، ثم أنشأه خلقاً سوياً. كذلك الإعادة: يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، ومنه يركب)) (¬1) فالنشأتان نوعان تحت جنس، يتفقان ويتماثلان من وجه، ويفترقان ويتنوعان من وجه. والمعاد هو الأول بعينه، وإن كان بين لوازم الإعادة ولوازم البداءة فرق، فعجب الذنب هو الذي يبقى، وأما سائره فيستحيل، فيعاد من المادة التي استحال إليها. ومعلوم أن من رأى شخصاً وهو صغير، ثم رآه وقد صار شيخاً، علم أن هذا هو ذاك، مع أنه دائماً في تحلل واستحالة. وكذلك سائر الحيوان والنبات، فمن رأى شجرة وهي صغيرة، ثم رآها كبيرة، قال: هذه تلك. وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة، حتى يقال إن الصفات هي المغيرة، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً، كما ثبت في (الصحيحين) (¬2) وغيرهما، وروي: أن عرضه سبعة أذرع (¬3). وتلك نشأة باقية غير معرضة للآفات، وهذه النشأة فانية معرضة للآفات. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - 2/ 589 ¬

(¬1) رواه مسلم (2955). (¬2) رواه البخاري (3326) , ومسلم (2841). (¬3) رواه أحمد (2/ 343) (8505) , والطبراني (19/ 79) , والبيهقي في ((البعث والنشور)) (1/ 421) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (6/ 383): [فيه] علي بن زيد بن جدعان كان يغالي في التشيع ومع ضعفه يكتب حديثه, وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (3/ 129): [فيه] علي بن زيد بن جدعان اختلفوا فيه, وقال ابن حجر في ((تحفة النبلاء)) (132): [فيه] علي بن زيد وهو ضعيف, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 399) , وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده حسن.

الفصل الثالث: النفخ في الصور

المطلب الأول: معنى النفخ في اللغة قال الراغب: (النفخ؛ نفخ الريح في الشيء، قال تعالى: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه: 102] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس: 51] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر: 68]. وذلك نحو قوله: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر: 8] ومنه نفخ الروح في النشأة الأولى) (¬1). وذكر الزمخشري بعض الإطلاقات التي تقال على النفخ، ومنه (انفخ في النار، ونفخ النار بالمنفاخ: وهو الكير، ونصبوا على النار المنافيخ، ونفخت في الزق فانتفخ، ونفخت فيه فتنفخ، وهو يجد نفخة في بطنه، ونفخه انتفاخاً من طعام وغيره) (¬2). وهذه المعاني اللغوية كلها تدور حول النفخ المعروف، هو دفع الهواء. الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 183 ¬

(¬1) ((المفردات)) (ص: 500). (¬2) ((أساس البلاغة)) (ص: 466).

المطلب الثاني: معنى النفخ اصطلاحا

المطلب الثاني: معنى النفخ اصطلاحاً أما معناه الاصطلاحي: فهو النفخ المخصوص، في الوقت المخصوص، من الملك المخصوص، لإيجاد ما أراد الله تعالى، كما جاء في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من أن نافخاً ينفخ في صور عظيم لإرادة الله تعالى تغيير ما يريد تغييره في خلقه لأمر القيامة. الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 184

المطلب الثالث: معنى الصور

المطلب الثالث: معنى الصور وأما ما هو الصور؟ فمن أقوال العلماء في ذلك: ما قاله ابن جرير الطبري – رحمه الله – من أن الناس قد اختلفوا فيه (فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان، إحداهما لفناء من كان حياً على الأرض، والثانية لنشر كل ميت. وقال آخرون: الصور في هذا الموضع: جمع صورة، ينفخ فيها روحها فتحيا) (¬1). ولكنه وهو يذكر هذين القولين يرجح أن الصور قرن ينفخ فيه؛ لقوة الأدلة على هذا، فقال: (والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن إسرافيل قد التقم الصور, وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ) (¬2)، وأنه قال: (الصور قرن ينفخ فيه) (¬3). وقال الإمام الرازي: (المسألة الثالث: قوله: يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [طه: 102]. ولا شبهة أن المراد منه يوم الحشر، ولا شبهة عند أهل الإسلام أن الله سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة، وذلك القرن يسمى بالصور، على ما ذكر الله تعالى هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم. ولكنهم اختلفوا في المراد بالصور في هذه الآية على قولين: القول الأول: أن المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه، وصفته مذكورة في سائر السور. والقول الثاني: أن الصور جمع صورة، والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتى) (¬4). ثم أبطل الرازي هذا القول الأخير واعتبره خطأ فاحشاً من قائله، كما نقل ذلك عن أهل العلم. وقد أيد الإمام ابن كثير ما قاله الإمام الرازي، حيث قال فيمن ذهب إلى أن الصور هنا جمع صورة، وأن معناه: أي يوم ينفخ فيها فتحيا، قال: (والصحيح أن المراد بالصور: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام) (¬5). وكذلك ذهب الآلوسي حيث قال عن قوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر: 68]: (ظاهر في أن الصور ليس جمع صورة، وإلا لقال سبحانه (فيها) بدل (فيه)، وارتكاب التأويل يجعل الكلام من باب التمثيل ظاهر في إنكار أن يكون هناك صور حقيقة، وهو خلاف ما نطقت به الأحاديث الصحاح). ثم قال الآلوسي: (وقد قال أبو الهيثم - على ما نقل عنه القرطبي في تفسيره: من أنكر أن يكون الصور قرناً، فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان، وطلب لها تأويلات) (¬6). وعلى هذا؛ فإن الصور هو قرن ينفخ فيه، وقد ورد أن الذي ينفخ فيه على التعيين هو إسرافيل عليه السلام. الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 184 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (7/ 241). (¬2) رواه أحمد (1/ 326) (3010)، والحاكم (4/ 603). بلفظ: ((صاحب القرن قد التقم القرن)) بدلاً من: ((إسرافيل قد التقم الصور)). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال ابن كثير في تفسيره (2/ 148)، والشوكاني في ((فتح القدير)) (1/ 598): جيد، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 441) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: حسن لغيره. (¬3) رواه أبو داود (4742)، والترمذي (2430)، وأحمد (2/ 162) (6507)، والدارمي (2/ 418) (2798)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 392) (11312)، والحاكم (2/ 550). من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 160) كما قال ذلك في المقدمة. (¬4) ((تفسير الرازي)) (13/ 34). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 146). (¬6) ((روح المعاني)) (20/ 30).

المبحث الثاني: صفة النفخ في الصور

المبحث الثاني: صفة النفخ في الصور وكما يدخل في الإيمان باليوم الآخر الموت وما بعده من فتنة القبر ونعيمه أو عذابه وباللقاء والبعث والنشور والقيام من القبور كذلك يدخل في ذلك الإيمان بالصور والنفخ فيه الذي جعله الله سبب الفزع والصعق والقيام من القبور، وهو القرن الذي وكل الله تعالى: به إسرافيل كما تقدم في ذكر الملائكة. وقد ذكر الله عز وجل النفخ فيه في مواضع من كتابه، كقوله عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] الآيات، وقال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87] الآيات، وقال تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:73]. ولنسق ههنا حديث الصور بطوله لما فيه من المناسبة لهذه الآيات ولما اجتمع فيه مما تفرق في غيره من الأحاديث وبالله التوفيق. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: عند هذه الآية الأخرى: وقد روينا حديث الصور بطوله من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني في كتابه (المطولات) قال: حدثنا أحمد بن الحسن المصري الأيلي حدثنا أبو عاصم النبيل حدثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طائفة من أصحابه فقال: ((إنَّ الله تعالى: لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخصاً بصره في العرش ينتظر متى يؤمر قلت: يا رسول الله وما الصور؟ قال القرن قلت: كيف هو؟ قال عظيم، والذي بعثني بالحق إِنَّ عِظَم دارة فيه كعرض السموات والأرض، ينفخ فيه ثلاث نفخات: النفخةُ الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة القيام لربِّ العالمين، يأمر الله تعالى: إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ، فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والأرض إِلاّ من شاء الله، ويأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر وهو كقول الله تعالى: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [ص:15] , فيسير الله الجبال فتمر مرَّ السحاب فتكون سراباً، ثم ترتج الأرض بأهلها رجّاً فتكون كالسفينة المرمية في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق في العرش ترجرجه الرياح، وهو الذي يقول يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [النازعات:6 – 8] , فيميدُ الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل وتشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار، فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، ويولّي الناس مدبرين مالهم من أمر الله من عاصم ينادي بعضهم بعضاً، وهو الذي يقول الله تعالى: فيه يَوْمَ التَّنَادِ فبينما هم على ذلك إذ تصدَّعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوْا أمراً عظيماً لم يروا مثله، وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم.

ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم انشقت السماء فانتثرت نجومها وانْخَسَفَتْ شمسُها وقمرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأمواتُ لا يعلمون بشيءٍ من ذلك قال أبو هريرة: يا رسول الله مَنِ استثنى اللهُ عَزَّ وجَلَّ حين يقول فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87]؟ قال: أولئك الشهداءُ وإِنَّما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه قال: وهو الذي يقول الله عزَّ وجَلَّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1 – 2] فيقومون في ذلك العذاب ما شاء الله تعالى: إلا أَنَّه يطول، ثم يأمرُ اللهُ إسرافيل بنفخَة الصَّعْقِ، فينفخ نفخةَ الصَّعْق فيصعق أهل السموات والأرض إلا من شاء الله، فإذا هم قد خمدوا وجاء ملك الموت إلى الجبار عَزَّ وجَلَّ فيقول: يا ربِّ قد مات أهل السموات والأرض إلاّ من شئت، فيقول الله تعالى: وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول: يا ربِّ بقيتَ أنتَ الحي الذي لا تموت وبقيتْ حملة العرش وبقي جبريل وميكائيل، وبقيت أنا، فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل وميكائيل، فينطق الله تعالى: العرش: فيقول: يا ربِّ يموت جبريل وميكائيل؟ فيقول: اسكت فإِنِّي كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي، فيموتان. ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيقول: يا رب قد مات جبريل وميكائيل، فيقول الله عز وجل وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت حملة عرشك وبقيت أنا. فيقول الله تعالى: لتمتْ حملةُ العرش. فتموت، ويأمر الله تعالى العرش فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا ربِّ قد مات حملة عرشك. فيقولُ الله وهو أعلمُ بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول: يا ربِّ، بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت وبقيت أنا. فيقول الله تعالى: أنت خلقٌ من خلقي، خلقتك لما رأيت، فمت. فيموت. فإذا لم يبق إلا اللهُ الواحد القهار الأحد الصَّمدُ الذي لم يلد ولم يولد كان آخراً كما كان أولاً، طوى السموات والأرض طيَّ السِجِلِّ للكتب ثم دحاهما ثم يلقفهما ثلاث مرات ثم يقول: أنا الجبار أنا الجبار (ثلاثاً) ثم هتف بصوته: لمن الملك اليوم (ثلاث مرات) فلا يجيبه أحد. ثم يقول لنفسه: للهِ الواحدِ القهارِ. يقول الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [إبراهيم:48] , فيبسطهما ويسطحهما ثم يمدهما مَدَّ الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة مثل ما كانوا فيها من الأولى: مَنْ كان في بطنها كان في بطنها، ومَنْ كان على ظهرها كان على ظهرها.

ثم يُنْزِلُ الله تعالى: عليهم ماءً من تحت العرش، ثم يأمرُ اللهُ السماء أَنْ تمطر، فتمطر أربعين يوماً حتَّى يكون الماءُ فوقهم اثني عشر ذراعاً، ثم يأمر اللهُ الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطراثيث أو كنبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت، قال الله عز وجل: ليحيى حملةُ عرشي، فيحيون، ويأمر اللهُ إسرافيل فيأخذ الصُّورَ فيضعه على فيه ثم يقول: ليحيى جبريل وميكائيل، فيحييان، ثم يدعو اللهَ بالأرواح فيؤتى بها تتوهَّجُ أرواحُ المؤمنين نوراً وأرواح الكافرين ظلمةً، فيقبضها جميعاً ثم يلقيها في الصور، ثم يأمر اللهُ إسرافيل أَنْ ينفخ نفخة البعث فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواحُ كأَنَّها النَّحْلُ قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول: وعزتي وجلالي ليرجعنَّ كلُّ روحٍ إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجسادِ فتدخل في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السُّمُّ في اللديغ، ثم تنشقُّ الأرض عنهم، وأنا أول من تنشق الأرض عنه، فتخرجون سراعاً إلى ربكم تنسلون مُهْطِعِينَ إلى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:8] حفاة عراة غرلاً، فتقفون موقفاً واحداً مقداره سبعون عاماً لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكونَ حتى تنقطع الدُّموع، ثم تدمعون دماً وتعرقون حتى يلجمكم العرق أو يبلغ الأذقان، وتقولون من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فتقولون مَن أَحَقُّ بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قُبُلاً، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيأبى ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، فيستقرئون الأنبياء نبيّاً نبيّاً كُلَّما جاءوا نبيّاً أبى عليهم. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: حتى يأتوني فأنطلق إلى الفحص فأخرّ ساجداً. قال أبو هريرة: يا رسولَ الله وما الفحص؟ قال: قدام العرش، حتَّى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي ويرفعني فيقول لي: يا محمَّدُ. فأقول: نعم يا رب، فيقول عز وجل: ما شأنك؟ وهو أعلم، فأقول: يا ربِّ وعدتني الشَّفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم، قال الله: قد شفعتك، أنا آتيكم أقضي بينكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأَرجع فأقف مع الناس، فبينما نحن وقوف إذ سمعنا من السماء حساً شديداً فهالنا، فينْزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافَّهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا وهو آت. ثم ينْزل أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة وبمثلي من فيها من الجنِّ والإنس، حتَّى إذا دنوا مِن الأرض أشرقت الأرضُ بنورهم وأخذوا مصافَّهم، وقلنا لهم: أفيكم ربُّنا؟ فيقولون: لا وهو آت، ثم ينْزلون على قدر ذلك من التضعيف، حتى ينْزل الجبارُ عز وجل في ظللٍ من الغمام والملائكة فيحمل عرشه يومئذٍ ثمانية، وهم اليوم أربعة، أقدامهم في تخوم الأرض السُّفلى والأرض والسموات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم، لهم زجلٌ في تسبيحهم يقولون: سبحانَ ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحيِّ الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى رب الملائكة والروح، سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت. فيضع الله كرسيَّهُ حيث يشاء من أرضه، ثم يهتف بصوته فيقول: يا مَعْشَرَ الجنِّ والإِنْسِ إِنِّي قد أنْصَتُّ لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إليّ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه.

ثم يأمر الله جهنَّم فيخرج منها عنق ساطعٌ مظلم، ثم يقول أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ. هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [يس:60 – 63] , أو بِهَا تُكَذِّبُونَ شك أبو عاصم وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] , فيميز الله الناس وتجثو الأمم، يقول الله تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28] , فيقضي الله عز وجل بين خلقه إلا الثقلين الجن والإنس فيقضي بين الوحوش والبهائم حتى إِنَّه ليقضي للجمَّاءِ من ذات القرن. فإذا فرغ من ذلك فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى قال الله لها: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً، ثم يقضي اللهُ تعالى: بين العباد: فكان أول ما يقضي فيه الدماء، ويأتي كل قتيل في سبيل الله، ويأمر الله عز وجل كل من قتل فيحمل رأسه تشخب أوداجه فيقول: يا رب فيم قتلني هذا؟ فيقول – وهو أعلم –: فيم قتلتهم؟ فيقول: قتلتهُم لتكون العزة لك، فيقول اللهُ له: صدقت، فيجعل الله وجهه مثل نورِ الشمس، ثم تمر به الملائكة إلى الجنة، ثم يأتي كل من قتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشْخَبُ أوداجه فيقول: يا رب قتلني هذا؟ فيقول تعالى: وهو أعلم: لم قتلتهم؟ فيقول: يا رب قتلتهم لتكون العزة لي، فيقول: تَعِسْتَ، ثم لا تبقى نفسٌ قتلها إلا قتل بها ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها وكان في مشيئة الله إِنْ شاء عذبه وإن شاء رحمه. ثم يقضي الله تعالى: بين من بقي من خلقه حتى لا تبقى مظلمةٌ لأحَدٍ عند أحدٍ إلاّ أخذها اللهُ للمظلوم مِنَ الظَّالم حتى إِنَّه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء. فإذا فرغ الله تعالى: من ذلك نادى مناد يسمع الخلائق: ألا ليلحق كلُّ قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله، فلا يبقى أحدٌ عُبِدَ من دون الله إِلاَّ مثلت له آلهتُهُ بين يديه، ويجعل يومئذٍ ملك من الملائكةِ على صورة عُزير ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى بن مريم ثم يتبع هذا اليهود وهذا النَّصارى ثم قادتهم آلهتهم إلى النار، وهو الذي يقول لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:99] , فإذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون جاءَهُمُ اللهُ فيما شاء من هيئته فقال: يا أَيُّها الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: واللهِ واللهِ ما لنا إله إلا الله، وما كنا نعبدُ غيره، فيكشف لهم عن ساقه ويتجلَّى لهم من عظمته ما يعرفون أَنَّه رَبَّهم، فيخرُّون للأذقان سُجّداً على وجوههم ويخرُّ كلُّ منافقٌ على قفاه، ويجعل اللهُ عز وجل أصلابهم كصياصيِّ البقر. ثم يأذَنُ اللهُ لهم فيرفعون ويضربُ اللهُ الصِّراط بين ظهراني جهنَّم كحدِّ الشفرةِ أو كحدِّ السيفِ عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسكِ السَّعْدَان دونه جسر دحض مزلة، فيمرُّون كطرف العين أو كلمح البرق أو كمرِّ الريح أو كجياد الخيل أو كجياد الرِّكاب أو كجياد الرِّجال، فناج سالم، وناج مخدوش، ومكدوس على وجهه في جهنم. فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا: من يشفع لنا إلى ربِّنا فندخل الجنة؟ فيقولون: من أَحقُّ بذلك من أبيكم آدم عليه السلام؟ خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا. فيأتون آدم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنباً ويقول: ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بنوح فإِنَّه أَوَّل رُسُلِ اللهِ.

فيؤتى نوح فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنباً ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ويقول عليكم بإبراهيم فإِنَّ الله تخيَّره خليلاً، فيؤتى إبراهيم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنباً ويقول: ما أنا بصاحب ذلك ويقول عليكم بموسى فإِنَّ الله قرَّبه نجيّاً وكلَّمه وأَنزل عليه التوراة. فيؤتى موسى فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنباً ويقول: لستُ بصاحب ذلك ولكنْ عليكم بروحِ الله وكلمته عيسى بن مريم. فيؤتى عيسى بن مريم فيطلب ذلك إليه فيقول: ما أنا بصاحبكم ولكنْ عليكم بمحمد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيأتوني ولي عند ربِّي ثلاث شفاعات وعدنيهن، فأنطلق فآتي الجنة فآخذ بحلقةِ الباب فأستفتح فيفتح لي فأُحيّا ويرحب بي، فإذا دخلتُ الجنة فنظرتُ إلى ربّي خررت له ساجداً فيأذن اللهُ لي من تحميده وتمجيده بشيءٍ ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول: ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع وسلْ تعط، فإذا رفعتُ رأسي يقول الله تعالى: وهو أعلم: ما شأنُكَ؟ فأقول: يا ربِّ وعدتني الشفاعة فشفِّعني في أهل الجنة فيدخلون الجنة، فيقول الله: قد شفعتك، وقد أذنت لهم في دخول الجنة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفسي بيده ما أَنْتُمْ في الدنيا بأَعْرَف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم فيدخل كلُّ رجلٍ منهم على اثنتين وسبعين زوجة، سبعين مما ينشئ الله عز وجل وثنتين آدميتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله لعبادتهم الله تعالى: في الدنيا، فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة على سريرٍ مكلَّلٍ باللؤلؤ عليها سبعون زوجاً من سندس وإستبرق، ثم إنه يضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها وإِنَّه لينظر إلى مُخِّ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت. كبدها له مرآة وكبده لها مرآة، فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ما يفترُ ذكره وما تشتكي قبلها. فبينا هو كذلك إذ نودي: إِنَّا قد عرفنا أَنِّك لا تَملَّ ولا تُمَلّ، إلاّ أَنَّه لا مَني ولا منيَّة، إلا أَنَّ لك أزواجاً غيرها. فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما أتى واحدة قالت له: والله ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك ولا في الجنة شيء أَحبَّ إليَّ منك. وإذا وقع أهل النار في النار وقع فيها خلق من خلق ربِّكَ أوبقتهم أعمالُهم، فمنهم من تأخذ النار قدميه ولا تجاوز ذلك ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حقويه ومنهم من تأخذ جسده كلَّه إلا وجهه حرَّم اللهُ صورته عليها، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فأقولُ يا ربِّ شفِّعني فيمن وقع في النارِ مِنْ أُمَّتِي، فيقول: أَخْرِجُوا من عرفتم فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد. ثم يأذن الله تعالى: في الشفاعة فلا يبقى نبيٌّ ولا شهيد إلاّ شُفِّع، فيقول الله تعالى: أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة دينار إيماناً، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحدٌ، ثم يشفع الله تعالى: فيقول: أخرجوا من وجدتم في قلبه إيماناً ثلثي دينار، ثم يقول: ثلث دينار، ثم يقول: ربع دينار، ثم يقول: قيراط، ثم يقول: حبة من خردل، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيراً قط ولا يبقى أحدٌ له شفاعة إلا شفع، حتى إِنَّ إبليس يتطاول مما يرى من رحمة الله تعالى: رجاءَ أَنْ يُشفَعَ له.

ثم يقول: بقيت وأنا أرحم الراحمين فيدخل يده في جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه غيره كأَنَّهم حمم فيلقون على نهر يقال له نهر الحيوان فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فما يلي الشمس منها أخيضر وما يلي الظل منها أصيفر، فينبتون كنباتِ الطراثيث حتى يكونوا أمثال الذرِّ، مكتوبٌ في رقابهم: الجهنميون عتقاء الرحمن، يعرفهم أهل الجنَّةِ بذلك الكتاب ما عملوا خيراً لله قط: فيمكثون في الجنةِ ما شاء اللهُ وذلك الكتابُ في رقابهم، ثم يقولون: ربنا امح عنا هذا الكتاب، فيمحوه الله عز وجل عنهم)) (¬1). قال ابن كثير: هذا حديث مشهور وهو غريب جداً ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة، وفي بعض ألفاظه نكارة، تفرد به إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة، وقد اختلف فيه: فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وعمرو بن علي الفلاس، ومنهم من قال فيه وهو متروك، وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء. قال رحمه الله تعالى: قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة قد أفردتها في جزء على حدة، وأما سياقه فغريب جداً ويقال إنه جمعه من أحاديث كثيرة وجعله سياقاً واحداً فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفاً قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث، فالله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى (¬2). وروى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: ((جاءَ أعرابيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصُّور؟ فقال قرن ينفخ فيه)) (¬3) وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((كيف أنعمُ وصاحبُ الصُّور قد التقمه وأصْغى سمعه وحنى جبهته ينتظرُ متى يؤمر، فقالوا: يا رسول الله وما تأمُرُنا؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) (¬4) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 969 ¬

(¬1) رواه الطبراني في الأحاديث الطوال (نهاية المعجم الكبير 25/ 226)، ورواه الطبري مختصراً ومطولاً (2/ 330 - 331، و30/ 186 - 188) وفي (17/ 110 - 111) وفي (24/ 30)، وغيرهم. قال أبو موسى المديني: الحديث وإن كان فيه نكارة وفي إسناده من تكلم فيه فعامة ما يروى مفرقًا في أسانيد ثابتة. (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 276) (¬3) رواه أحمد (2/ 162) (6507)، والحديث رواه أبو داود (4742)، والترمذي (2430)، والحاكم (2/ 550). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 160) - كما أشار لذلك في المقدمة.- وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (10/ 9): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬4) رواه الترمذي (2431)، وأحمد (3/ 7) (11053) بلفظ: (صاحب القرن)، وابن حبان (3/ 105). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المبحث الثالث: أدلة إثبات النفخ في الصور

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم على إثبات النفخ في الصور ذكر الله سبحانه وتعالى عدة آيات في إثبات أن النفخ في الصور العظيم يحصل حينما يأمر الله بذلك، حسب ما يريد سبحانه من تغيير، وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم هذا النفخ في أكثر من آية، مما يدل على أهميته ومدى خطورته. لكي يدرك أولئك الهاربون عن ربهم – وهم لا يعجزونه – أن هذه الحياة التي قد غرتهم ليست بشيء، فهي تنتهي بنفخة واحدة، فإذا بها كأن لم تكن بالأمس. نفخة واحدة فإذا بالفزع قد بلغ من كل نفس منتهاه، ونفخة أخرى فإذا هم أجساد بلا أرواح، ثم نفخة ثالثة فإذا هم قيام ينظرون، فأي قدرة هذه، وأي جهل أعظم من جهل من أعرض عن ربه واغتر بقوته، ونسي أنه يموت بنفخة، ويحيا بنفخة، رغم هذا التعالي الذي قد ملأ رأسه وجميع مشاعره. وسنذكر فيما يلي مصداق ما قدمنا من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. والواقع أن الله تعالى قد ذكر النفخ في الصور فيما يقارب اثنى عشر موضعاً في كتابه الكريم، ونذكر من تلك الآيات: 1 - قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل: 87]. 2 - وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر: 68]. 3 - فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة: 13]. 4 - وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس: 51]. 5 - وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 99]. 6 - يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه: 102]. 7 - يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ: 18]. 8 - فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ [المؤمنون: 101]. 9 - وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20]. 10 - قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 73]. وهذه الآيات وغيرها تدل دلالة واضحة ليس بعدها خفاء على حتمية وقوع النفخ في الصور. الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 198

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على إثبات النفخ في الصور

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على إثبات النفخ في الصور رأينا كيف اهتم القرآن الكريم بذكر النفخ في الصور، وكيف كرره – لتقريره وتثبيته في النفوس - في أكثر من آية، وبين سبحانه وتعالى نتيجة كل نفخة وما يحصل بسببها من التغيير الهائل. وبعد ذكر تلك الآيات التي تدلنا على مدى أهمية تلك النفخات ومدى عناية القرآن الكريم بذكرها، يجب معرفة أنه قد جاءت السنة النبوية فبينت كذلك هذا الأمر العظيم، واعتنت بذكره عناية شديدة، فتكرر ذكره في أكثر من حديث، كما نتبين ذلك من عرض الأحاديث الآتية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بينما يهودي يعرض سلعته، أعطي بها شيئاً كرهه، فقال: لا، والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار، فقام فلطم وجهه، وقال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إن لي ذمة وعهداً، فما بال فلان لطم وجهي، فقال: لم لطمت وجهه؟ فذكره، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رئي في وجهه، ثم قال: (لا تفضلوا بين أولياء الله، فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور، أم بعث قبلي)) (¬1). وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة: ((لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون في أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان موسى فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله)) (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا بموسى متعلق بالعرش، فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة)) (¬3). الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 199 ¬

(¬1) رواه البخاري (3414)، ومسلم (2373). (¬2) رواه مسلم (2373). (¬3) ((البخاري)) (4813).

المبحث الرابع: النفخات الثلاث الثابتة

المبحث الرابع: النفخات الثلاث الثابتة قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] وقال تعالى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ [النازعات: 13]. وقال فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ [المؤمنون: 101]. وقال فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ [الحاقة: 13]. وقال يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ: 18]. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((قال أعرابي يا رسول الله ما الصور؟ قال: قرن ينفخ فيه)). رواه أحمد (¬1). وعن عطية عن ابن عباس في قوله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر: 8]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف نقول؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا)). رواه أحمد (¬2). وعن أبي سعيد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن صاحبي الصور بأيديهما أو في أيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران)). رواه ابن ماجه (¬3). وعن أبي سعيد الخدري قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور فقال: ((عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل عليهم السلام)) رواه أحمد (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في الصور إنه قرن قال: كيف هو؟ قال: عظيم. قال: والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه لعرض السموات والأرض ينفخ فيه ثلاث نفخات (الأولى) نفخة الفزع (والثانية) نفخة الصعق (والثالثة) نفخة القيام لرب العالمين يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره تعالى فيمدها ويطيلها ولا يفتر وهي التي يقول الله وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ [ص: 15] فتسير الجبال سير السحاب فتكون سرابا وترتج الأرض بأهلها رجاً فتكون كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق، يقول الله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [النازعات: 6 - 10]. فيميد الناس على وجهها وتذهل المراضع وتضع الحوامل. ويشيب الولدان. وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة تضرب وجوهها فترجع فيولون مدبرين مالهم من الله من عاصم ينادي بعضهم بعضاً وهو الذي يقول الله يوم القيامة: يَوْمَ التَّنَادِ إلى أن قال: وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم ثم تطوى السماء فإذا هي كالمهل. ثم انشقت السماء فانتشرت نجومها وخسف شمسها وقمرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك الحديث)). رواه الحافظ أبو يعلى (¬5). (قلت): نفخة الفزع أول مبادئ يوم القيامة كما ورد ولذا فإن الناس يشاهدون أموراً عظاماً وأهوالاً وتضع الحوامل وذلك ما بين نفخة الفزع هذه ونفخة الصعق انتهى. خلاصة معتقد أهل السنة لعبد الله بن سليمان المشعلي – ص: 91 ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 162) (6507). ورواه أبو داود (4742)، والترمذي (3244)، والحاكم (2/ 550). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه الترمذي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬2) رواه أحمد (1/ 326) (3010)، والحاكم (4/ 603). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/ 148)، والشوكاني في ((فتح القدير)) (1/ 598): جيد، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 441) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬3) رواه ابن ماجه (4984). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (4/ 253): هذا إسناد ضعيف، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 270): [فيه] الحجاج بن أرطأة, مختلف فيه، وقال الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)): منكر والمحفوظ بلفظ ((صاحب القرن)). (¬4) رواه أحمد (3/ 9) (11084)، والحاكم (2/ 291). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده ضعيف. (¬5) لم أقف عليه من رواية أبي يعلى. والحديث رواه الطبراني في ((الأحاديث الطوال)) (36)، وأبو الشيخ الأصبهاني في ((العظمة)) (387)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (669). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (3/ 276): غريب جداً.

المبحث الخامس: النفخة الثانية نفخة الصعق

المبحث الخامس: النفخة الثانية نفخة الصعق قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر: 68]. وفي نفخة الصعق الثانية هذه يموت جميع أهل السموات وأهل الأرض من الإنس والجن والملائكة. وقيل الذين استثنى الله هم حملة العرش وقيل جبريل وميكائيل وقيل غير ذلك والله أعلم. وفي حديث أبي هريرة المتقدم بعضه فيما يختص بنفخة الفزع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الصعق فيصعق أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله فإذا هم خمدوا: وجاء ملك الموت إلى الجبار فيقول: يا رب مات أهل السموات وأهل الأرض إلا من شئت فيقول الله وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت حملة عرشك وبقي جبريل وميكائيل وبقيت. فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل وميكائيل! فينطق الله العرش فيقول: يموت جبريل وميكائيل! فيقول: أسكت فإني كتبت الموت على كل من تحت عرشي فيموتان ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار عز وجل فيقول: يا رب قد مات جبريل وميكائيل فيقول: وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقي حملة عرشك وبقيت أنا: فيقول الله تعالى: فليمت حملة عرشي فيموتون: ويأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار عز وجل فيقول قد مات حملة عرشك فيقول وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول: يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت أنا فيقول الله له: أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد كان آخراً كما كان أولاً طوى السموات والأرض كطي السجل ثم دحاها ثم تلقفها ثلاث مرات وقال: أنا الجبار ثلاثاً ثم يهتف بصوته: لمن الملك اليوم ثلاث مرات فلا يجيبه أحد ثم يقول لنفسه لله الواحد القهار ويبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه: 107])). الحديث رواه الحافظ في المسند (¬1). وعن الحسن قال سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فعرضتان جدال ومعاذير وعرضة تطاير الصحف فمن أوتي كتابه بيمينه وحوسب حساباً يسيراً دخل الجنة ومن أوتي كتابه بشماله دخل النار)). رواه ابن أبي الدنيا وأحمد (¬2). خلاصة معتقد أهل السنة لعبد الله بن سليمان المشعلي – ص: 93 ¬

(¬1) لم أقف عليه من رواية أبي يعلى. والحديث رواه الطبراني في ((الأحاديث الطوال)) (36)، وأبو الشيخ الأصبهاني في ((العظمة)) (387)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (669). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (3/ 276): غريب جداً. (¬2) رواه أحمد (4/ 414) (19730). قال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده ضعيف لانقطاعه.

المبحث السادس: النفخة الثالثة نفخة البعث والنشور

المبحث السادس: النفخة الثالثة نفخة البعث والنشور قال تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر: 68] وقال فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13 - 14] وقال وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس: 51]. وفي حديث الصور قال بعد نفخة الصعق: ((ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في مثل ما كانوا فيه من الأولى من كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ثم ينزل الله ماء من تحت العرش ثم يأمر الله السماء أن تمطر فتمطر أربعين يوماً حتى يكون الماء فوقهم اثنا عشر ذراعاً ثم يأمر الله الأجسام أن تنبت كنبات الطراثيث أو كنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت قال الله: ليحي حملة عرشي فيحيون ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ثم يقول: ليحي جبريل وميكائيل فيحييان. ثم يدعو الله الأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نوراً والأخرى ظلمة فيقبضها جميعاً ثم يلقيها في الصور ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله: وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد فتدخل في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: وأنا أول من تنشق الأرض عنه فتخرجون منها سراعاً إلى ربكم تنسلون مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر: 8])). رواه الحافظ أبو يعلى من حديث أبي هريرة (¬1). أول الخلق حياة بعد الصعقة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع)). رواه مسلم (¬2). وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم وأول من تنشق عنه الأرض وأنا أول شافع ومشفع بيدي لواء الحمد تحتي آدم فمن دونه)). رواه البيهقي (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أفاق قبلي أم حوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي)). رواه أبو بكر بن أبي الدنيا (¬4). (قلت): قال ابن كثير: وهو في الصحيح قريب من هذا السياق. خلاصة معتقد أهل السنة لعبد الله بن سليمان المشعلي– ص: 95 ¬

(¬1) لم أقف عليه من رواية أبي يعلى. والحديث رواه الطبراني في ((الأحاديث الطوال)) (36)، وأبو الشيخ الأصبهاني في ((العظمة)) (387)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (669). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (3/ 276): غريب جداً. (¬2) رواه مسلم (2278). (¬3) رواه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 180) (1488). قال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 281): إسناده لا بأس به، وقال الألباني في ((بداية السول)) (ص: 34): إسناده صحيح وله شاهد. (¬4) لم أقف عليه من رواية ابن أبي الدنيا. والحديث رواه البخاري (3414)، ومسلم (2373).

الفصل الرابع: حشر الخلائق وصفته

الفصل الرابع: حشر الخلائق وصفته • المبحث الأول: معنى الحشر في اللغة. • المبحث الثاني: معنى الحشر في الاصطلاح. • المبحث الثالث: صفة الحشر. • المبحث الرابع: صفة حشر الخلق وأنهم على صور شتى. • المبحث الخامس: أول من يحشر من الخلق. • المبحث السادس: التفاضل في المحشر.

المبحث الأول: معنى الحشر في اللغة

المبحث الأول: معنى الحشر في اللغة قال الراغب الأصفهاني: (الحشر: إخراج الجماعة من مقرهم, وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها. ويطلق على الإزالة يقال: حشرت السنة مال بني فلان أي: أزالته عنهم، ولا يقال الحشر إلا في الجماعة) (¬1). قال تعالى: قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء: 36]، وقوله تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ [ص: 19]، وقوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5]. إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى، وهي كثيرة تدل على إطلاق لفظة الحشر على الكثرة والجماعة، مراداً بها جمع الناس في مكان. وعرفه القرطبي بأنه الجمع (¬2)، وهو ما عرفه به كذلك البرديسي (¬3)، والسفاريني (¬4). وقال الأزهري نقلاً عن الليث: (الحشر: حشر يوم القيامة. ثم ذكر أن من معانيه وروده بمعنى الجمع الذي يحشر إليه القوم، وكذلك إذا حشروا إلى بلد أو معسكر ونحوه) (¬5). ويقول أبو هلال العسكري: (الحشر: هو الجمع مع السوق، والشاهد قوله تعالى: قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء: 36]، أي ابعث من يجمع السحرة ويسوقهم إليك، ومنه يوم الحشر لأن الخلق يجمعون فيه ويساقون إلى الموقف) (¬6). وهو ما ذكره الزمخشري في (أساس البلاغة) (¬7). قال البرديسي: (وأما المحشر بفتح الشين فهو المصدر، وبكسرها اسم للموضع، وبعضهم يذهب إلى أن الكل بمعنى واحد، ونقل عن الجوهري أنه قال: المحشر بالكسر موضع الحشر. قال: وذكر صاحب العين أن المحشر بالكسر والفتح الموضع الذي يحشر الناس إليه) (¬8). الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 67 ¬

(¬1) ((المفردات)) (ص: 199). (¬2) ((التذكرة)) (ص: 242). (¬3) ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 16)، ((مختصر اللوامع)) (ص: 388). (¬4) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 158). (¬5) ((تهذيب اللغة)) (4/ 177). (¬6) ((الفروق في اللغة)) (ص: 136). (¬7) ((أساس البلاغة)) (ص: 84). (¬8) ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 16).

المبحث الثاني: معنى الحشر في الاصطلاح

المبحث الثاني: معنى الحشر في الاصطلاح ويطلق الحشر على يوم القيامة (¬1)، وهو سوق الناس وجمعهم إلى المحشر لحسابهم، كما ظهر في التعريفات السابقة. وقال ابن حجر في بيان معنى الحشر: أنه (حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعاً إلى الموقف. قال الله عز وجل: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47]) (¬2). وقال البيجوري: (الحشر عبارة عن سوقهم – أي الناس – جميعاً إلى الموقف وهو الموضع الذي يقفون فيه) (¬3). الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 68 ¬

(¬1) ((المفردات)) (ص: 120) ((أساس البلاغة)) (ص: 84). (¬2) ((فتح الباري)) (4/ 379). (¬3) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 170).

المبحث الثالث: صفة الحشر

المبحث الثالث: صفة الحشر يحشر الله الناس في الموقف وتدنو منهم الشمس قدر ميل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فيشق على الناس هذا اليوم العظيم ويبلغ فيهم العرق مبلغاً عظيماً فيلجمهم، أي يصل إلى أفواههم كما أشار بذلك النبي صلى الله عليه وسلم إلى فيه. وبعضهم يصل إلى حقويه، وبعضهم إلى ركبتيه .. وإلى كعبيه، وذلك بحسب أعمالهم ولا ينجو من هذا العرق إلا من كتب الله له النجاة من ذلك، ومن هؤلاء السبعة الذين يظلهم الله في ظله فيكونون تحت ظل الله الذي يخلقه يوم لا ظل إلا ظله. نص كلام شيخ الإسلام في المسالة: قال –رحمه الله-: ( ... وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق) (¬1). ذكر من نقل الإجماع من أهل العلم أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: لم أقف فيه على من نقل الإجماع من أهل العلم .. ولكن الحديث فيه صحيح صريح. ذكر مستند الإجماع على دنو الشمس من الناس يوم القيامة ولجومهم بالعرق: روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى يكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه) (¬2). المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 873 ¬

(¬1) ((الواسطية)) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 145). (¬2) رواه مسلم (2864).

وعن سهلِ بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يحشرُ النَّاسُ يومَ القيامة على أرضٍ بيضاء عفراء كقرصةِ النَّقى ليس فيها معلم لأحد)) (¬1). وفي (صحيح البخاري) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((تكونُ الأرضُ يَوْمَ القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبارُ بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة)) (¬2). وفي (صحيح مسلم) عن عائشة رضي الله عنها أَنَّها قالت: ((أنا أَوَّل الناس سأل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48] قالت قلت: أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على الصراط)) (¬3). وفيه من حديث ((اليهودي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تُبدَّلُ الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر)) (¬4) الحديث. ولابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ((أَنَّ حبراً من اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ إذ يقول اللهُ تعالى: في كتابه يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48] فأين الخلق عند ذلك؟ فقال: أضياف الله، فلن يعجزهم ما لديه))، ورواه ابن أبي حاتم أيضاً (¬5). وفي حديث الصور الطويل عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: ((يبدل الله الأَرْض غير الأَرْضِ والسَّموات فيبسطها ويمدها مدَّ الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة)) (¬6) وهذا هو الذي أشار رحمه الله تعالى: إليه بقوله: وتمد أيضاً مثل مد أديمنا الخ البيت. ¬

(¬1) رواه البخاري (6521)، ومسلم (2790). (¬2) رواه البخاري (6520)، ومسلم (2792). (¬3) رواه مسلم (2791) بلفظ: (سألت) بدلاً من (أنا أول الناس). (¬4) رواه مسلم (315). (¬5) رواه الطبري (17/ 52)، وابن أبي حاتم (7/ 2253). (¬6) رواه الطبري مختصراً ومطولاً (2/ 330 - 331، و30/ 186 - 188) وفي (17/ 110 - 111) وفي (24/ 30)، والطبراني في الأحاديث الطوال (نهاية المعجم الكبير 25/ 226) وغيرهم. قال أبو موسى المديني: الحديث وإن كان فيه نكارة وفي إسناده من تكلم فيه فعامة ما يروى مفرقاً في أسانيد ثابتة. وقال ابن كثير في ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 276): هذا حديث مشهور وهو غريب جدا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض ألفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وعمرو بن علي الفَلاس، ومنهم من قال فيه: هو متروك. وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء. قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة، قد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه، فغريب جدًا، ويقال: إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعله سياقا واحدا، فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمع فيه كل الشواهد لبعض مفردات هذا الحديث، فالله أعلم.

وقوله: وهما كتبديل الجلود لساكني النيران إلى آخر، يشير إلى قول الله تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ [النساء:56] ووجْهُ المشابهة بين التبديلين أَنَّ جلودَ الكفار كلما احترقت قيل لها عودي فعادت كما كانت، ومعنى قوله (غيرها) أي صارت غيرها لعودها بعدما نضجت واحترقت، وإلاّ فهي هي التي عملت المعاصي في الدنيا وبها تجازى في الآخرة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما يبدِّلون جلوداً بيضاً أمثال القراطيس، يعني تجدد لهم الجلود التي نضجت كذلك ليتجدد لهم العذاب أبداً والعياذ بالله، وكذلك تبديل الأرض والسموات هو تغييرها من حال إلى حال وإلا فهي هي. والله أعلم. وقوله رحمه الله: وكذلك يقبض أرضه وسماءه بيديه الخ. يشير إلى قول الله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104] وقوله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]. وفي (الصحيحين) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((جاء رجلٌ مِنَ الأحبار إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمَّد إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ عز وجل يجعل السَّمَوَاتِ على إصبع، والأرضينَ على إصبع، والشجر على إصبع، والماءَ والثَّرى على إصبع، وسائرَ الخلق على إصبع فيقول أنا الملك. فضحك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] الآية)) (¬1). وفي (الصحيحين) أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يَقبِضُ الله تعالى: الأرض ويطوي السماءَ بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوكُ الأرضِ)) (¬2) وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الله تبارك وتعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السَّمَواتُ بيمينه ثم يقول أنا الملك)) (¬3). وفي لفظ لمسلم ((يأخذ الله تبارك وتعالى سماواته وأرضه بيده ويقول أنا الله – ويقبض أصابعه ويبسطها – أنا الملك – حتى نظرتُ إلى المنبر يتحرَّك من أسفل شيءٍ منه حتى إِنِّي لأقول أساقطٌ هو برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)) (¬4)، ولفظ أحمد رحمه الله تعالى: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((إِنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر: يمجد الرَبُّ نفسه، أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملكُ أنا العزيزُ أنا الكريمُ، فرجف برسولِ الله صلى الله عليه وسلم المنبرُ حتى قلنا ليخرنَّ به)) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (4811). (¬2) رواه البخاري (4812)، ومسلم (2787). (¬3) رواه البخاري (7412)، ومسلم (2787). (¬4) رواه مسلم (2788). (¬5) رواه أحمد (2/ 72) (5414)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 402)، وابن حبان (16/ 322)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (546). قال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)): إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم .. وقال الألباني في ((ظلال الجنة)) (546): صحيح.

ولابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (يطوي اللهُ السَّمَواتِ السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السَّبع بما فيها من الخليقة، يطوي ذلك كله بيمينه يكونُ ذلك كله في يده بمنْزلة خردلةٍ) (¬1). وقوله رحمه الله تعالى: (وتحدِّثُ الأرْضُ التي كنا بها، أخبارها الخ) يشير إلى قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4 – 5] وقال البخاري رحمه الله تعالى: أوحى لها وأوحى إليها، ووحى لها ووحى إليها واحد. وكذا قال ابن عباس. وعنه رضي الله عنه قال: قال لها ربها: قولي فقالت وقال مجاهد: أوحى لها أي أمرها. وقوله رحمه الله تعالى: وتقيء يوم العَرض من أكبادها ... كالأسطوانِ نفائس الأثمانِ ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3256).

يشير إلى قول الله عز وجل: وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:2] وإلى ما رواه مسلم رحمه الله تعالى: في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تُلقي الأرضُ أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيءُ القاتل فيقول في هذا قُتِلت، ويجيءُ القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارقُ فيقول في هذا قُطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً)) (¬1). وقوله (وكذا الجبال تفت فتاً محكماً) يشير إلى قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًاً [طه:105 – 107] وقوله عز وجل: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88] الآية، وقوله عز وجل: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا [الواقعة:5 – 6] وقوله عز وجل وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج:9] وفي سورة القارعة: كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5] وقوله عز وجل: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً [المزمل:14] وقوله عز وجل: وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [المرسلات:10] وقوله عز وجل: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:3] وقوله عز وجل: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ:20] وقوله عز وجل: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة:14] وقوله عز وجل: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَة [الكهف:47] وما في معانيها من الآيات. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تكونُ الجبال يومَ القيامة؟ فأنزل اللهُ تعالى: هذه الآية وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ) أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105] أي يذهبها عن أماكنها ويسيِّرها تسييراً فيذرها أي الأرض قاعاً صفصفاً أي بسطاً واحداً، والقاع هو المنبسط المستوي من الأرض والصفصف الأملس لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًاً [طه:107] أي لا ترى في الأرض يومئذٍ وادياً ولا رابية ولا صدعاً ولا أكمة ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً. كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف رحمهم الله تعالى. وقوله تعالى: تَحْسَبُهَا جَامِدَة [النمل:88] أي قائمة واقفة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88] أي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض، قال البغوي رحمه الله تعالى: وذلك أنَّ كلَّ شيء عظيم وكُلَّ جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وبعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو سائر، كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمها، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر. وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم في قوله تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [الواقعة:5]: أي فتت فتاً. وقال عطاء ومجاهد ومقاتل: فصارت كالدقيق المبسوس، وهو المبلول. قال سعيد بن المسيب والسدِّي: كسرت كسراً. وقال الكلبي: سُيِّرَتْ على وجه الأرض تسييراً. وقال الحسن: قلعت من أصلها فذهبت. ونظيرُها فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105] وقال ابن كيسان: جعلت كثيباً مهيلاً بعد أن كانت شامخة طويلة فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا [الواقعة:6]: غباراً متفرقاً كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل الكوة وهو الهباء. وقال أبو إسحاق: عن الحارث عن علي رضي الله عنه هَبَاء مُّنبَثًّا: كوهج الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء. ¬

(¬1) رواه مسلم (1013).

وقال العوفي عن ابن عباس: (الهباء يطير من النار إذا اضطرمت، يطير منه الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً) (¬1). وقال عكرمة: المنبث الذي قد ذرته الريح وبثَّته. وقال قتادة: هباءً منبثاً، كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح، وقال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك والسدّي: العهن الصوف، وقال البغوي: كالصوف المصبوغ، ولا يقال عِهن إلا للمصبوغ. وقال الحسن: كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف. وقال: المنفوش المندوف. وقال ابن كثير: المنفوش الذي قد شرع في الذهاب والتمزق. وقال في قوله كَثِيبًا مَّهِيلاً: أي تصير ككثبان الرمل بعدما كانت حجارة صماء. وقال البغوي: رملاً سائلاً. قال الكلبي: هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده، يقال أهلت الرمل أهيله هيلاً إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه. وقال نُسِفَتْ قلعت من أماكنها. وقال ابن كثير: ذهب بها فلا يبقى لها عين ولا أثر. وقال في فَكَانَتْ سَرَابًا: أي يخيل إلى النَّاظر أَنَّها شيء، وليس بشيء، وبعد هذا تذهب بالكلية فلا عين ولا أثر. وقال في وَتَسِيرُ الْجِبَالُ: تذهب عن أماكنها وتزول. وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَة [الكهف:47] أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد، ولا مكان يواري أحداً، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة: وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَة لا حجر فيها ولا غيابة. وقال قتادة أيضاً: لا بناء ولا شجر. وقال البغوي: فَدُكَّتَا كسرتا دَكَّةً كسرة وَاحِدَةً. قال: وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً، ثم عِهناً منفوشاً، ثم تصير هباءً منثوراً. وقوله رحمه الله تعالى: وكذا البحار فإنها مسجورة، قد فجرت إلخ، يشير إلى قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6] وقوله عز وجل: وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:3] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (فجر الله تعالى: بعضها في بعض) (¬2). وقال الحسن: فجر الله تعالى: بعضها في بعض فذهب ماؤها. وقال قتادة: اختلط عذبها بمالحها. وقال الكلبي: ملئت. وقوله تعالى: سُجِّرَتْ قال ابن عباس: (أوقدت فصارت ناراً تضطرم) (¬3). وقال مجاهد ومقاتل: يعني فجر بعضها في بعض، العذب والملح، فصارت كلها بحراً واحداً. وقال الكلبي: ملئت. وقيل: صارت مياهها بحراً واحداً من الحميم لأهل النار. وقال الحسن: يبست. وهو قول قتادة، قال: ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة. والمعنى المتحصل من أقوالهم رحمهم الله أنها يفجر بعضها في بعض فتمتلئ ثم تسجر ناراً فيذهب ماؤها، ولهذا جمع ابن القيم رحمه الله تعالى: بينهما فقال (مسجورة قد فجرت) والله تعالى: أعلم. وقوله رحمه الله تعالى: (وكذلك القمران يأذَنُ ربُّنا لهما فيجتمعان) إلخ، يشير إلى قول الله عز وجل وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [القيامة:8 – 9] وقوله إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] خسف: أظلم وذهب نوره وضوؤه. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [القيامة:9] أي صارا أسودين مكوَّرين كأنهما ثوران عقيران. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]: أظلمت (¬4). وقال العوفي عنه: ذهبت. وقال مجاهد: اضمحلت وذهبت. وكذا قال الضحاك. وقال قتادة: ذهب ضوؤها. وقال سعيد بن جبير: كوّرت غورت. وقال ربيع بن خيثم: رمي بها. وقال أبو صالح: ألقيت. وعنه أيضاً: نكست. وقال زيد بن أسلم: تقع في الأرض. ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (23/ 94). (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (24/ 267). (¬3) انظر: ((تفسير البغوي)) (8/ 346). (¬4) رواه الطبري في ((تفسيره)) (24/ 237)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3402).

وقال ابن جرير: والصواب عندنا من القول في ذلك أَنَّ التكويرَ جمع الشيء بعضه على بعض، ومنه تكوير العمامة، وجمع الثياب بعضها على بعض، فمعنى قوله تعالى: كُوِّرَتْ جمع بعضها إلى بعض ثم لفَّت فرمي بها، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها. ولابن أبي حاتم (عن ابن عباس إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] قال: يكور الله تعالى: الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ويبعث الله تعالى: ريحاً دبوراً فيضرمها ناراً) (¬1). وكذا قال عامر الشعبي. ولابن أبي حاتم عن ابن يزيد بن أبي مريم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] قال: ((كوِّرَتْ في جَهَنَّم)) (¬2) وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الشَّمس والقمر يُكوَّران يَوْمَ القيامة)) (¬3). وقوله رحمه الله تعالى: (وكواكب الأفلاك تنثر كلها إلخ) يشير إلى قول الله عز وجل وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ [التكوير:2] وقوله تعالى: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ [الانفطار:2]، وقوله تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ [المرسلات:8] أي محي نورها وذهب ضوؤها. وانكدرت: تناثرت من السماء وتساقطت على الأرض. يقال انكدَرَ الطائر إذا سقط عن عشه. قال الكلبي وعطاء: تمطر السماء يومئذ نجوماً فلا يبقى نجم إلا وقع. ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3402). (¬2) رواه ابن أبي حاتم ((تفسيره)) (10/ 3402). (¬3) رواه البخاري (3200) بلفظ: (مكوران) بدلا من (يكوران).

وقوله رحمه الله تعالى: (وكذا السماء تشق شقاً ظاهراً وتمور) إلخ، يشير إلى قوله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1] وقوله تعالى: وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [الحاقة:16] وقوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [الفرقان:25] وقوله عز وجل: السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ [المزمل:18] وقوله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1] وقوله تعالى: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ [التكوير:11] وقوله عز وجل وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ [المرسلات:9] وقوله تعالى: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [النبأ:19] وقوله تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:9] وقوله عز وجل يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8] وقوله فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن:37] وقوله انشَقَّتِ أي: صارت أبواباً لنُزول الملائكة فَكَانَتْ وَرْدَةً عن ابن عباس: (تغير لونها، وعنه قال كالفرس الورد) (¬1). وقال أبو صالح: كالبرذون الورد. وحكى البغوي وغيره أَنَّ الفرس الورد تكون في الربيع صفراء وفي الشتاء حمراء فإذا اشتد البرد اغبرَّ لونها، فشبَّه السَّمَاءَ في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه. كَالدِّهَانِ قال الضحاك ومجاهد وقتادة والربيع: هو جمع دهن، شبّه السماء في تلونها بلون الورد من الخيل، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن، وقال عطاء بن أبي رباح: كالدهان كعصير الزيت يتلون في الساعة ألواناً، وقال مقاتل: كدهن الورد الصافي، وقال ابن جريج: تصير السماء كالدهن الذائب. وذلك حين يصيبها حر جهنم. وقال ابن عباس والكلبي: كالدهان أي كالأديم الأحمر وجمعه دهنة ودهن. وقال عطاء الخراساني: كلون الدهن في الصفرة، وقال قتادة: هي اليوم خضراء ويومئذٍ لونها إلى الحمرة يوم ذو ألوان، وقال ابن كثير رحمه الله: تذوبُ كما يذوب الدرديُّ والفضّةُ في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شِدَّةِ الأمر وهو يوم القيامة العظيم. وللإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم)) (¬2) قال الجوهري: الطش المطر الضعيف. وقوله تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا [الطور:9]. قال ابن عباس وقتادة: تتحرك تحريكاً، وعنه: هو تشققها. وقال مجاهد: تدور دوراً، وقال الضحاك: استدارتها وتحركها لأمر الله وموج بعضها في بعض، وهذا اختيار ابن جرير أَنَّه التحرك في استدارة. وقال عطاء الخراساني: تختلف أجزاؤها بعضها في بعض، وقيل تضطرب، وقال البغوي: تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة. قال: والمور يجمع هذه المعاني كلها: فهو في اللغة الذهاب والمجيء، والتردد والدوران، والاضطراب. وقال تعالى: وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا [الحاقة:16 – 17] عن علي قال: (تنشق السماء من المجرة) رواه ابن أبي حاتم (¬3)، ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (23/ 49). (¬2) رواه أحمد (3/ 266) (13841)، وأبو يعلى (7/ 99). قال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 308): إسناده لا بأس به. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 334): رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه عبدالرحمن بن أبى الصهباء ذكره ابن أبى حاتم ولم يذكر فيه جرحا، وبقية رجاله ثقات. وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)): صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن. (¬3) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3411) ..

والملك اسم جنس – أي الملائكة – على أرجاء السماء، قال ابن عباس: (على ما لم ير منها) (¬1) أي حافاتها. وكذلك قال سعيد بن جبير والأوزاعي، وقال الضحاك: أي أطرافها، وقال الحسن البصري: أبوابها، وقال الربيع بن أنس: على ما استرق من السماء ينظرون إلى أهل الأرض. وقوله تعالى: السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ [المزمل:18]: متشقق. قال الحسن وقتادة أي بسببه من شدته وهوله، وفُرِجَتْ قال ابن كثير: أي انفطرت وانشقت وتدلت أرجاؤها ووهت أطرافها ... وقوله: وإذا أرادَ اللهُ إخراجَ الورى ... بعد الممات إلى معادٍ ثانِ ألقى على الأرض التي هم تحتها ... ... ... ... إلخ يشير إلى حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما بطوله وفيه: ((ثم يرسل الله – أو قال يُنْزل الله – تعالى مطراً كأنه الطل أو الظل، فتنبت منه أجساد الناس)) (¬2) الحديث. وفي حديث الصور الطويل: ((ثم يُنْزِلُ الله عليهم ماءً مِنْ تحت العرش، ثم يأمر اللهُ السماء أن تمطر أربعين يوماً حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعاً، ثم يأمر الأجساد أن تنبت فتنبت كنباتِ الطراثيث أو كنبات البقل)) (¬3) وهو الذي عناه بقوله: (عشراً وعشراً بعدها عشران). وقوله: (أوحى لها ربُّ السماء فتشقَّقت إلخ) يشير إلى قول الله عز وجل وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار:4]، وقوله أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [العاديات:9] قال ابن عباس: بحثت (¬4)، وقال السدي: تبعثر تحرك فيخرج من فيها، وقال البغوي: بحثت وقلب ترابها وبعث من فيها من الموتى أحياء، يقال بعثرت الحوض وبحثرته إذا قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وقال في الآية الأخرى إِذَا بُعْثِرَ: أثير وأخرج مَا فِي الْقُبُورِ أي من الأموات. وقوله: (وتخلت الأمُ الولودُ إلخ) يشير إلى قوله تعالى: وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [الانشقاق:4] قال مجاهد وسعيد وقتادة: ألقتْ ما في بطنها مِنَ الأموات وتخلَّت منهم. اهـ. ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (23/ 582) بلفظ: (لم يَهِ) بدلاً من (لم ير). (¬2) رواه مسلم (2940). (¬3) رواه الطبري مختصراً ومطولاً (2/ 330 - 331، و30/ 186 - 188) وفي (17/ 110 - 111) وفي (24/ 30)، والطبراني في الأحاديث الطوال (نهاية المعجم الكبير 25/ 226) وغيرهم. قال أبو موسى المديني: الحديث وإن كان فيه نكارة وفي إسناده من تكلم فيه فعامة ما يروى مفرقاً في أسانيد ثابتة. وقال ابن كثير في ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 276): هذا حديث مشهور وهو غريب جدا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض ألفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وعمرو بن علي الفَلاس، ومنهم من قال فيه: هو متروك. وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء. قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة، قد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه، فغريب جدًا، ويقال: إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعله سياقا واحدا، فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمع فيه كل الشواهد لبعض مفردات هذا الحديث، فالله أعلم. (¬4) رواه الطبري في ((تفسيره)) (24/ 268).

وقوله: (وأخرجت أثقالها إلخ) يشير إلى قوله عز وجل وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا – إلى قوله - بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:2 – 5]. قال ابن كثير رحمه الله: يعني ألقت ما فيها من الموتى، قاله غير واحد من السلف: وقد تقدم تفسيرها بإلقائها أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان. وقال البغوي رحمه الله: أثقالها موتاها وكنوزها فتلقيها على ظهرها. وقوله رحمه الله: (والله ينشي خلقه) أي هم أنفسهم لا غيرهم بعد موتهم (في نشأة أخرى إلخ) يشير إلى قول الله عزَّ وجل وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم:45 – 46] فهذه هي النشأة الأولى. قال تعالى: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى [النجم:47] وهو البعث بعد الموت. قال تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة:60 – 62] وما في معنى ذلك من الآيات والأحاديث. والمقصود أنَّ الله سبحانه وتعالى يبعث الموتى أنفسهم ويجمعهم بعد ما فرقهم وينشرهم بعد ما مزقهم، ويعيدهم كما خلقهم، قد علم الله ما تنقص الأرض منهم وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44]. وقوله: (ما قال إنَّ الله يعدم خلقه إلخ) أي لم يقل الله تعالى: ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إنه يعدمهم العدم المحض ويأتي بغيرهم، ولا إنَّ المثاب غير من عمل الطاعات في الدنيا، ولا إنَ المعذب غير من مرد على المعاصي إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت:46] وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ [غافر:31]، بل قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، فالذين خلقهم من الأرض هم الذين أعادهم فيها، وهم الذين يخرجهم منها، ليسوا غيرهم كما يقوله الزنادقة قبحهم الله تعالى. والكلام في هذا الباب يطول جداً، والنصوص فيه لا تحصى كثيرة، وإنَّما أشرنا إلى بعض من كل ودق من جل وقطرة من بحر والله المستعان. إلى آخر ما ذكرنا من التعليق على الأبيات التي سقنا من (نونية ابن القيم) رحمه الله تعالى: مع غاية الاختصار، والإيجاز ولله الحمد والمنة. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - بتصرف – 2/ 945

المبحث الرابع: صفة حشر الخلق وأنهم على صور شتى

المبحث الرابع: صفة حشر الخلق وأنهم على صور شتى حينما يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين يساقون إلى المحشر (¬1) لفصل القضاء، ولتجزى كل نفس بما تسعى؛ فيجزى كل عامل ما يستحق من الجزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. ولكن كيف يكون مجيئهم للحشر؟ والجواب: قد بينت السنة النبوية الهيئات التي يأتي بها الخلائق، وهي هيئات وحالات مختلفة؛ إما حسنة، وإما قبيحة، بحسب ما قدموا من خير، وشر، وإيمان، وكفر، وطاعة, ومعصية، فتزود لها بالعمل الصالح. ومن تلك الهيئات الأمثلة الآتية: 1 - ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن حالة الناس عند حشرهم لفصل القضاء – مؤمنهم وكافرهم – من أنهم يكونون في هيئة واحدة، لا عهد لهم بها في الدنيا، ولا يتصورون حدوثها، ولهذا فقد كثر التساؤل والاستغراب لتلك الحالة حينما أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم. كما في الحديث الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحشرون حفاة عراة غرلاً)) (¬2). ومعنى حفاة: أي تمشون على أرجلكم دون نعل أو خف. والعاري: هو من لا ثوب له على جسده، والأغرل: هو الذي لم يختتن، أي إن البشر يرجعون كهيئتهم يوم ولدوا، حتى إن الغرلة ترجع وإن كان قد اختتن صاحبها في الدنيا؛ تحقيقاً لقوله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [الأنبياء: 104]. وقد ورد هذا المعنى في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: ((إنكم محشورون حفاة عراة)) كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [الأنبياء: 104] (¬3). 2 - يحشر بعض الناس (وهم الكافرون) وهم يسحبون في المحشر على وجوههم، وكم يستغرب كثير من الناس هذه الحال؛ لأنهم في الدنيا لم يعرفوا تلك الحال، ولم يتصوروا وقوعها، ومع أنها حالة غريبة لكنها غير منفية لا عقلا ولا نقلا. فأما العقل فإنه لا ينفي وقوعها، وذلك إذا علمنا أن قدرة الله على كل شيء أمر هين، فإن الذي أمشى هؤلاء على الرجلين له القدرة على أن يمشيهم على وجوههم، بل لو أراد الله ذلك لحصل في الدنيا فضلا عن الآخرة. ومصداق ما قدمنا ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه كما في الصحيحين – ((أن رجلا قال: يا نبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة)) قال قتادة: بلى وعزة ربنا (¬4). (قال ابن حجر في بيان معنى المشي المذكور في الحديث قوله: ((أليس الذي أمشاه ... )) ظاهر في أن المراد بالمشي حقيقته؛ فلذلك استغربوا حتى سألوا عن كيفيته) (¬5) ثم رد على الذين يزعمون أن هذا هو مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم بأن (الجواب الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في تقرير المشي على حقيقته) أي فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره. ومعلوم أن أمر الآخرة وأحوالها غير أمر الدنيا وأحوالها، فكل شيء في الآخرة جديد ولا عهد للناس به، فهي حياة أخرى لها مميزات وكيفيات لا توجد في الدنيا، وليس على الله بعزيز في أن يمشي الكافر على وجهه، إذ لو أراد الله ذلك في الدنيا لكان حاصلا فيها، ولكان أمرا مألوفا كما هو الحال في المشي على الرجلين. ¬

(¬1) ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 16). (¬2) رواه البخاري (6527)، ومسلم (2859). (¬3) رواه البخاري (3349)، ومسلم (2860). (¬4) رواه البخاري (6158)، ومسلم (7265). (¬5) ((فتح الباري)) (11/ 382).

ولله تعالى فوق هذا كله حكم قد ندركها، وقد لا ندركها، فإن الكافر في الدنيا كان ذا عتو واستكبار، يمشي على رجليه متبخترا معتزا بنفسه، لا يحني رأسه لشيء غير هواه، فلا يعرف التواضع لله في شيء، بل كان يستنكف من السجود لربه والخضوع له. وهذا ما ذهب إليه ابن حجر في بيان حكمة هذا المشي حين قال: (والحكمة في حشر الكافر على وجهه: أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا، بأن يسحب على وجهه في القيامة؛ إظهارا لهوانه، بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات)) (¬1) وكثرة النصوص في هذا الموضوع تمنع كونه من باب التمثيل، فهو إذا على حقيقته فلا ينبغي تأويله، بالإضافة إلى أنه من الأمور الممكنة عقلا، وليست من قبيل المستحيلات على الله تعالى ..... 3 - حشر المتكبرين ومن الأوصاف الأخرى التي وردت في السنة لحشر فئات من الناس، صنف من الناس يحشرون في أحقر صفة وأذلها، وهؤلاء هم المتكبرون. فلأنهم في الدنيا يمشون في كبرهم وتبخترهم على الناس، عالية رؤوسهم عن التواضع لله أو لخلقه، هؤلاء المستكبرون ورد في صفة حشرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال, يغشاهم الذل من كل مكان)) (¬2) الحديث. وفي رواية عن جابر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يبعث الله يوم القيامة ناساً في صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم، فيقال: ما هؤلاء في صور الذر؟ فيقال: هؤلاء المتكبرون في الدنيا)) (¬3). وهذه الحالة المخزية تناسب ما كانوا فيه في الدنيا من تعاظم وغرور بأنفسهم، لأنهم كانوا في الدنيا يتصورون أنفسهم أعظم وأجل المخلوقات؛ فجعلهم الله في دار الجزاء أحقر المخلوقات وأصغرها. 4 - حشر السائلين: ومن الصور الأخرى التي تشاهد في يوم القيامة صور أولئك السائلين الذين يسألون الناس وعندهم ما يغنيهم، يأتون يوم القيامة وفي وجوههم خموش أو كدوح، أو يأتون وليس في وجوههم مزعة لحم، يعرفهم الناس كلهم. وهذا ما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)) (¬4). وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه؛ جاءت خموشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة)) (¬5) والجزاء من جنس العمل. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (11/ 382). (¬2) رواه الترمذي (2492)، وأحمد (2/ 179) (6677)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (557). قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 537)، وصححه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 521)، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 415): إسناده حسن، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 474) كما قال في المقدمة. (¬3) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) (10/ 337)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 293). وقال: [لا يتطرق إليه احتمال التحسين]، وقال الهيثمي: فيه القاسم بن عبد الله العمري وهو متروك، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (5010): موضوع. (¬4) رواه البخاري (1474)، ومسلم (1040). (¬5) رواه أبو داود (1626)، والترمذي (650)، والنسائي (5/ 97)، وابن ماجه (1502)، وأحمد (1/ 388) (3675)، والحاكم (1/ 565)، والبيهقي (7/ 24) (13586). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/ 108)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 273) كما قال في المقدمة.

والمزعة هي: (بضم الميم – وحكى كسرها – وسكون الزاي بعدها مهملة: أي قطعة"، " وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي). قال ابن حجر: (والذي أحفظه عن المحدثين الضم). ومعنى الحديث: (قال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطاً لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه، لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء، لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عظم كله؛ فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به). والمعنى الأول الذي ذكره الخطابي تأويل للحديث بغير معناه، ولهذا قال ابن حجر: (والأول صرف للحديث عن ظاهره). وإن كان قد ورد ما يؤيده، وهو ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمرو مرفوعاً: ((لا يزال العبد يسأل وهو غني؛ حتى يخلق وجهه، فلا يكون له عند الله وجه)) (¬1). (وقال ابن أبي جمرة: معناه: أنه ليس في وجهه من الحسن شيء، لأن حسن الوجه هو بما فيه من اللحم، ومالَ المهلَّبُ إلى حمله على ظاهره). ثم ذكر أن السر في ذلك هو (أن الشمس تدنو يوم القيامة، فإذا جاء لا لحم بوجهه؛ كانت أذية الشمس له أكثر من غيره) قال – يعني المهلَّب: (والمراد به: من سأل تكثراً وهو غني لا تحل له الصدقة، وأما من سأل وهو مضطر فذلك مباح له فلا يعاقب عليه) (¬2). 5 - حشر أصحاب الغلول (¬3): ومن المشاهد كذلك: مشهد أقوام يأتون حاملين أثقالاً على ظهورهم، كالبعير والشاة وغيرهما، وهؤلاء هم أهل الغلول، فإنهم يحشرون في هيئة تشهد عليهم بالخيانة والغلول أمام الخلق أجمعين، فمن غل شيئاً في حياته الدنيا ولم يظهره؛ فسيظهره الله عليه يوم يبعث، يكون علامة له، وزيادة في النكاية وتشهيراً بجريمته يحمل ما غل على ظهره. ومصداق هذا ما جاء في كتاب الله عز وجل حيث قال: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [آل عمران: 161]. قال قتادة في معنى الآية: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم مغنماً؛ بعث منادياً: ألا لا يغلن رجل مخيطاً فما دونه، ألا لا يغلن رجل بعيراً، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء، ألا لا يغلن رجل فرساً، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له حمحمة) (¬4). وما جاء في السنة النبوية كما في حديث أبي مسعود الأنصاري قال: ((بعثني النبي صلى الله عليه وسلم ساعياً، ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء وعلى ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء، قد أغللته قال: إذاً لا أنطلق، قال: إذا لا أكرهك)) (¬5) ........... والخلاصة: أن من مات على عمل بعث عليه. قال البرديسي في شرح حديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) (¬6). ¬

(¬1) رواه الطبراني (20/ 333) (17546)، والبزار كما في ((مجمع الزوائد)) (3/ 99)، والمنذري (2/ 31). وقال: في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الكبير وفيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام، وضعف إسناده ابن حجر في ((مختصر البزار)) (1/ 383). (¬2) ((فتح الباري)) (3/ 339). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 420). (¬4) روه الطبري في تفسيره (7/ 364). (¬5) رواه أبو داود (2947)، والطبراني (17/ 247) (14377)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 25). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (361)، وحسنه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (¬6) رواه مسلم (2878).

قال: (أي على الحالة التي مات عليها من خير أو شر، فالزامر يأتي يوم القيامة بمزماره، والسكران بقدحه، والمؤذن يؤذن، ونحو ذلك) (¬1). 6 - حشر أهل الوضوء، أهل الغرة والتحجيل: وإذا كان من قدمنا ذكرهم كانوا أمثلة سيئة لمن يعمل أعمالهم، فإنه في الجانب الآخر نجد من يتسم بالصفات الحميدة، ولهذا فإنه يبعث حميداً عليه سيما أهل الصلاح والتقوى، سيما أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من الغرة والتحجيل بسبب آثار الوضوء. وهي كرامة من الله تعالى لأوليائه وأحبائه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)) (¬2). وكما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أمتي يوم القيامة غر من السجود, محجلون من الوضوء)) (¬3). 7 - حشر الشهداء: ومن المشاهد الأخرى: مشهد لأقوام يحشرون ودماؤهم تسيل عليهم، وهم الشهداء، فإنهم يحشرون ودماؤهم تسيل كهيئتها يوم جرحت في الدنيا، تفجر دماً، كما ورد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دماً. اللون لون دم والعرف عرف المسك)) إلى آخر الحديث (¬4). وهذا إكرام لهم وبيان لمزاياهم، وتشهيراً بمواقفهم وعلو مقامهم عند الله تعالى، لأن الجزاء من جنس العمل. قال النووي: (وأما الكلم – بفتح الكاف وإسكان اللام – فهو الجرح، ويكلم – بإسكان الكاف – أي يجرح) قال: (وفيه دليل على أن الشهيد لا يزول عنه الدم بغسل ولا غيره، والحكمة في مجيئه يوم القيامة على هيئته أن يكون معه شاهد فضيلته وبذله نفسه في طاعة الله تعالى) (¬5). ويلخص البرديسي أحوال البشر في مجيئهم إلى الموقف فيقول: (واعلم أن الناس يحشرون يومئذ على ثلاثة أصناف: ركباناً، ومشاة، وعلى وجوههم. قال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم: 85 - 86]. ثم قال: الوفد في اللغة: القوم المكرمون، يفدون من بلادهم في جماعتهم إلى ملكهم، فينزلون ويكرمهم، والورد: العطاش، يساقون كما تساق الإبل وغيرها من الأنعام، فتسوقهم الملائكة بأسياط النار إلى النار، وقوم يمشون على وجوههم. وقال بعضهم: إذا قام الناس من قبورهم لفصل القضاء؛ حضروا على أحوال مختلفة: فمنهم من يكسى، ومنهم من يحشر عرياناً، ومنهم راكباً، ومنهم ماش، ومسحوب على وجهه، ومنهم من يذهب إلى الموقف راغباً، ومنهم من يذهب خائفاً، ومنهم من تسوقه النار سوقاً) (¬6). وقوله: (ومنهم راكبا)، هذه المسألة مما أكثر فيه المؤلف الكلام عنها، وإن كان القول بأن الناس يأتون ركباناً يخالف ما ثبت في الصحيح من أنهم يأتون ((حفاة عراة غرلاً))، إلا أن المؤلف جمع بين أقوال من ذهب إلى أنهم يأتون ركباناً، وبين هذا النص وما جاء في معناه بقوله: (ثم إن الروايات التي فيها الركوب في المحشر تخالف حديث الصحيحين أن الناس يحشرون حفاة عراة، ولا يبعد أن يكون الركوب في المحشر لبعض السعداء، فيكون حديث الصحيحين محمولاً على بعض الصور) (¬7). الحياة الآخرة لغالب عواجي - بتصرف- 1/ 207 ¬

(¬1) ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 12). (¬2) رواه البخاري (136)، ومسلم (246). (¬3) رواه الترمذي (607)، وأحمد (4/ 189) (17729)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 17)، والضياء (9/ 106) (94). قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث ابن بسر، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح، وصحح إسناده على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند. (¬4) رواه مسلم (1876). (¬5) ((شرح صحيح مسلم)) (4/ 541). (¬6) ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 18). (¬7) ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 18).

المبحث الخامس: أول من يحشر من الخلق

المبحث الخامس: أول من يحشر من الخلق اختلف العلماء في أول من يحشر من الخلق، هل هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء مثل موسى عليه السلام؟ والصحيح في ذلك: أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أول من يحشر؛ حيث تنشق عنه الأرض قبل كل مخلوق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأول من ينشق عنه القبر)) (¬1). فهو أول الناس يحشر، وأول الخلق تنشق عنه الأرض، لا غيره من البشر. قال البرديسي: (وأما أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم). ونقل عن شارح (الجوهرة) قوله: (وأول من يحيا ويحشر نبينا صلى الله عليه وسلم، لا موسى على الأصح) (¬2). 2 - وأما أول من يكسى من الخلق: فقد ورد في حديث ابن عباس أن إبراهيم – عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- هو أول من يكسى يوم القيامة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم)) (¬3). وهذا يدل على أن الخلائق يخرجون من القبور دون كسوة كلهم، ثم يكسى بعد ذلك من أراد الله كسوته من أصفيائه، وهذا يعارض ما ورد في حديث أبي سعيد (¬4)، وما جاء أيضاً عن معاذ بن جبل (¬5)، من أن الأموات يبعثون في ثيابهم التي كفنوا فيها. وقد جمع الإمام ابن حجر بين هذه الأحاديث بأن بعضهم يحشر عارياً، وبعضهم كاسياً، أو يحشرون كلهم عراة، ثم يكون أول من يكسى الأنبياء، فأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة، ثم يكون أول من يكسى إبراهيم. وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء؛ لأنهم الذين أمر أن يزملوا في ثيابهم ويدفنوا فيها، فيحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد فحمله على العموم. وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل؛ فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن عمرو بن الأسود قال: دفنا أم معاذ بن جبل، فأمر بها فكفنت في ثياب جدد وقال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يحشرون فيها (¬6)، قال: وحمله بعض أهل العلم على العمل إلخ ما أورده ابن حجر (¬7). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 234 ¬

(¬1) رواه مسلم (2278). (¬2) ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 12). (¬3) رواه البخاري (4625)، ومسلم (2860). (¬4) الحديث رواه أبو داود (3114)، وابن حبان (16/ 307) (7316)، والحاكم (1/ 490)، والبيهقي (3/ 384) (6395). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (5/ 321)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 198) كما قال ذلك في المقدمة. (¬5) رواه ابن أبي الدنيا في ((الأهوال)) (216)، وابن أبي شيبة (3/ 153) موقوفاً على معاذ بن جبل بلفظ: ((أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يحشرون فيها)). (¬6) رواه ابن أبي الدنيا في ((الأهوال)) (216)، وابن أبي شيبة (3/ 153) موقوفاً على معاذ بن جبل. (¬7) ((فتح الباري)) (11/ 383).

المبحث السادس: التفاضل في المحشر

المبحث السادس: التفاضل في المحشر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يحشرون حفاة عراة غرلاً (¬1) , وأخبر سبحانه أنه يحشر الكافرين على وجوههم، قال سبحانه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء: 97]. وقال: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ [الفرقان: 34]. وسئل صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة)) (¬2). وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين, واثنان على بعير, وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير وعشرة على بعير. ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)) (¬3). أخرجه البخاري في باب الحشر وذكره مع الحديثين السابقين في حشر المؤمنين وحشر الكافرين. وقد نقل ابن حجر عن الخطابي – قال: (وصوب عياض ما ذهب إليه الخطابي وقواه) - أن الحشر في هذا الحديث يكون في الدنيا قبل قيام الساعة يحشر الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو خلاف هذه الصورة من الركوب على الإبل والتعاقب عليها وإنما هو ما ورد في الحديث حفاة عراة مشاة (¬4). ونقل رحمه الله عن بعض أهل العلم الجزم بأنه الحشر بعد الخروج من القبور، وهو ظاهر صنيع البخاري من إيراده الحديث على الوجه المذكور. ونقل رحمه الله عن بعض أهل العلم أن حمله على الحشر من القبور أقوى من أوجه، وذكر أربعة أوجه، منها: أن الحشر إذا أطلق في عرف الشارع إنما يراد به الحشر من القبور ما لم يخصه بدليل (¬5). وذكر ابن حجر أنه قد جمع بين الحديث, وحديث حشر الناس عراة حفاة مشاة بأنهم يخرجون من قبورهم على هذا الوصف ثم يفترق حالهم من ثم إلى الموقف على ما في هذا الحديث (¬6). ومعلوم أن القيامة أحوال متعددة، إلا أن ابن حجر رجح أن الحشر الوارد في الحديث إنما يكون قبل المبعث (¬7). والحديث دال على التفاضل في الحشر، وقد نقل ابن حجر عن بعض أهل العلم قوله: (نرى أن هذا التقسيم الذي وقع في هذا الحديث نظير التقسيم الذي وقع في تفسير الواقعة في قوله تعالى: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة: 7]. الآيات، فقوله في الحديث: ((راغبين راهبين)) يريد به عوام المؤمنين, وهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً, فيترددون بين الخوف والرجاء، يخافون عاقبة سيئاتهم, ويرجون رحمة الله بإيمانهم, وهؤلاء أصحاب الميمنة، وقوله ((واثنان على بعير .. الخ)) السابقين وهم أفاضل المؤمنين يحشرون ركباناً، وقوله: ((وتحشر بقيتهم النار)) يريد به أصحاب المشأمة) (¬8). وقد ذكر ابن القيم أن المراد بالطبقات المذكورة في آخر سورة الواقعة – طبقة المقربين وطبقة أصحاب اليمين، وطبقة المكذبين – الطبقات عند الحشر الأول (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (3349)، ومسلم (2860). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (4760). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (6522)، ومسلم (2861). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((فتح الباري)) (11/ 379). (¬5) ((فتح الباري)) (11/ 380). (¬6) ((فتح الباري)) (11/ 379). (¬7) ((فتح الباري)) (11/ 382). (¬8) ((فتح الباري)) (11/ 380). (¬9) ((التبيان في أقسام القرآن)) (151).

ولعل في قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم: 85]. شاهد للطائفة الثانية وهم الركبان, لأن الوفد لا يكون إلا راكباً كما روي عن علي رضي الله عنه (¬1) وقد نقل المفسرون عن أئمة التفسير أن الحشر المذكور في هذه الآية إنما يكون عند المنصرف من بين يدي الله في طريقهم إلى الجنة (¬2) , فهم لا يركبون إلا من الموقف, أما إذا خرجوا من القبور فحفاة عراة مشاة إلى المواقف كما يقول القرطبي (¬3). ومن الأحوال الفاضلة في الحشر، حال الشهيد فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب اللون لون دم, والريح ريح مسك)) (¬4). ومن الأحوال الفاضلة في المحشر، حال الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله, ومنهم السبعة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه)) (¬5). وقال صلى الله عليه وسلم: ((تدني الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار الميل. قال الراوي: فلا أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق. فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه)) (¬6). فهذا دليل على تفاضل الخلق في وقوفهم بالمحشر قبل فصل القضاء. ومن الأحوال المفضولة في الحشر، حال المتكبرين كما في الحديث: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال, يغشاهم الذل من كل مكان)) (¬7). وأفضل أمم المؤمنين في المحشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختصها الله عز وجل فيه بما تمتاز به عن غيرها، ومن هذه الخصائص: - اختصاصها بأنها أكثر أتباع الأنبياء عدداً، كما في حديث صحيح مسلم الذي تقدم ذكره: ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة)). - وتميزها بعلامة تعرف بها وهي أنهم يأتون غراً محجلين من آثار الوضوء كما في الحديث: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)) (¬8). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لكم سيما ليست لأحد غيركم, تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء)) (¬9). وأفضل أحوال أهل المحشر وأكملهم حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا ريب، وأفضل أحوال الأنبياء حال آدم وأولي العزم من الرسل الخمسة: نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم كما دل عليه صراحة حديث الشفاعة المخرج في الصحيحين (¬10) وقد سبق ذكره. فأهل المحشر يقصدونهم خاصة من بين سائر الأنبياء والمرسلين لكي يشفعوا عند الله لإراحتهم من هول الموقف، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل أهل المحشر, وحاله أفضل أحوالهم, فهو صاحب الشفاعة العظمى التي يتدافعها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي - ص393 ¬

(¬1) ((المسند)) (2/ 377) و ((تفسير القرطبي)) (11/ 152) و ((الدر المنثور)) (5/ 285). (¬2) ((تفسير البغوي)) (3/ 209) و ((تفسير ابن كثير)) (3/ 138) و ((تفسير القرطبي)) (11/ 152) و ((الدر المنثور)) (4/ 284). (¬3) ((التفسير)) (11/ 153). (¬4) رواه البخاري (5533)، ومسلم (1876). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (660)، مسلم (1031). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه مسلم (2864). من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه. (¬7) رواه الترمذي (2492)، وأحمد (2/ 179) (6677). قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 537)، وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 474) كما قال ذلك في المقدمة. (¬8) رواه البخاري (136)، ومسلم (249). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬9) رواه مسلم (247). (¬10) رواه البخاري (4712)، ومسلم (194).

الفصل الخامس: الموقف

تمهيد: إذا انتهى الناس إلى الموقف الذي أعده الله تبارك وتعالى مكاناً لاجتماع خلقه فيه، وشرفه جل وعلا بنزوله فيه لفصل القضاء بين عباده؛ فإن الخلق يكونون فيه على ما لا يتصور ولا يدرك كنهه من القلق والخوف العظيم، وقد جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة أوصافاً كثيرة لهذا الموقف العظيم. فالشمس فوق رؤوسهم، والعرق قد بلغ من كل واحد قدر عمله، حتى إن منهم من يلجمه إلجاماً، وهم وقوف حفاة عراة غرلاً، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، لا ينظر أحد إلى أحد، يفر الحميم من حميمه، والقريب من قريبه، قد ملئت قلوبهم بما يشغلها، وكيف لا تملأ وهم ينتظرون إما ناراً حامية، وإما جنة عالية. كل واحد يتذكر ما سعى وما قدم لهذا الموقف العظيم؛ لا شغل له إلا ذلك، حتى يفصل الله بينهم، ويتبين مصير كل واحد منهم الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 243

المبحث الأول: تعريف الموقف لغة واصطلاحا

المبحث الأول: تعريف الموقف لغةً واصطلاحاً الموقف في اللغة: المكان الذي يقف فيه الإنسان. قال الراغب: (وموقف الإنسان حيث يقف) (¬1). وقال الفيروزآبادي: (وقف يقف وقوفاً: دام قائماً). وقال أيضاً: (والموقف محل الوقوف) (¬2). أما معناه في الاصطلاح: فهو المكان الخاص الذي أعده الله تبارك وتعالى لحشر الناس لحسابهم وفصل القضاء بينهم. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 241 ¬

(¬1) ((مفردات القرآن)) (ص: 530). (¬2) ((القاموس المحيط)) (ص: 1112).

المبحث الثاني: صفته في القرآن الكريم

المبحث الثاني: صفته في القرآن الكريم أما ما جاء في صفته من القرآن الكريم: فهو ما تتحدث عنه الآيات الآتية: قال الله تعالى في وصف خوف وامتلاء الخلائق بالغم، ووقوف قلوبهم في حناجرهم: 1 - وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18]. قال قتادة: (وقفت القلوب في الحناجر من الخوف؛ فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها)، وكذا قال عكرمة, والسدي, وغير واحد (¬1). 2 - وقال تعالى مبيناً حال الكفار وما يصيبهم من الفزع الشديد لهول ما يرون وذلتهم وفراغ قلوبهم عن كل شيء: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم: 42 - 43]. (يقول تعالى ذكره: إنما يؤخر ربك يا محمد هؤلاء الظالمين – الذين يكذبونك, ويجحدون نبوتك – ليوم تشخص فيه أبصار الخلق، وذلك يوم القيامة) (¬2). وقال تعالى في بيان حال المؤمنين والكافرين، وما امتاز به كل فريق من علامات الشقاء أو السعادة: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران: 106 - 107]. فقد جعل الله جميع أهل الآخرة فريقين: (أحدهما: سوداء وجوهه، والآخر: بيضاء وجوهه) (¬3). وقال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28]. (قال الليث: الجثو: الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم). وقال ابن عباس: (جاثية: مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها، وإِلَى كِتَابِهَا أي إلى صحائف أعمالها) (¬4). وقال ابن كثير: (جاثية: أي على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال إن هذا إذا جيء بجهنم، فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه) (¬5). وقال تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً [المزمل: 18]. يقول تعالى: كيف تقون أنفسكم إن كفرتم، أي إن بقيتم على كفركم، يَوْمًا: أي عذاب يوم يجعل الولدان شيباً، لشدة هوله، أي يصير الولدان شيوخاً، والشيب: جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون حقيقة وأنهم يصيرون كذلك، أو تمثيلاً، لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت, قواه وضعفت أعضاؤه, وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوة السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ أي متشققة به لشدته وعظيم هوله) (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 75). (¬2) ((تفسير الطبري)) (13/ 236). (¬3) ((تفسير الطبري)) (4/ 40). (¬4) ((تفسير الرازي)) (27/ 272). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 151). (¬6) ((فتح القدير)) (5/ 319).

وقال تعالى: إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ: 40]، أخرج ابن جرير رحمه الله عدة روايات عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن ذكوان، وسفيان: أن الكافر يقول ذلك حينما يشاهد البهائم وقد أمر الله بها فصارت تراباً، فعند ذلك يتمنى أنه صار تراباً مثلها ولم يقف بين يدي الله تعالى (¬1). يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا [النساء: 42]. وقال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:34 - 41]. أي يفر عن أخيه، وصاحبته: أي زوجته التي كانت زوجته في الدنيا، وبنيه حذراً من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم. وغَبَرَةٌ ذكر أن البهائم التي يصيرها الله تراباً يومئذٍ - بعد القضاء بينها - يحول ذلك التراب غبرة في وجوه أهل الكفر، والقترة بمعنى الغبرة (¬2). وما هذا الفرار من الأخ, والأم, والأب, والزوجة, والأبناء إلا لما يتوقع الإنسان من الأمور العظام التي هو في انتظارها بين لحظة وأخرى لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. وقال تعالى: في بيان حال المشركين الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك والولد إليه جل وعلا ومبيناً علامتهم التي يتصفون بها وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60]. أي يوم القيامة ترى يا محمد الذين كذبوا على الله من قومك، فزعموا أن له ولداً وأن له شريكاً، وعبدوا آلهة من دونه – وجوههم مسودة (¬3). إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في وصف هذا الموقف العظيم وما يقع فيه من الثواب والعقاب، وما يقع فيه كذلك للخلق من الكرب الشديد, والفزع العظيم، وما يكونون عليه من صفات شتى بينها القرآن الكريم تمام البيان، حتى إنها لتكاد أن تصل إلى أن يتخيلها الإنسان وكأنها قد وقعت، لظهورها وكثرة العناية بإبرازها واضحة جلية في أساليب متعددة مؤثرة. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 243 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (30/ 26). (¬2) ((تفسير الطبري)) (30/ 62). (¬3) ((تفسير الطبري جامع البيان)) (24/ 22).

المبحث الثالث: صفته في السنة النبوية

المبحث الثالث: صفته في السنة النبوية وأما في السنة النبوية فقد جاء أن العرق يبلغ من الإنسان على مقدار عمله، فمن الناس من يبلغ العرق إلى أنصاف أذنيه، ومنهم من يلجمهم إلجاماً، ومنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، فهم على حالات شتى، ومصداق هذا: 1 - ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قال: ((يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه)) (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)) (¬2). وفي رواية مسلم: ((سبعين عاماً، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس)) (¬3). ولهذا فإن الإنسان ليتمنى من شدة الهول والعرق أن يذهب به ولو إلى النار ويستريح منه، كما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة, فيقول: يا رب أرحني ولو إلى النار)) (¬4). وفي الصحيح من حديث عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله، ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى. ثم ليقولن: ألم أرسل إليك رسولاً؟ فليقولن: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) (¬5). وفي هذا الموقف الرهيب يكون للشمس وقع شديد على الناس، فهي تدنو من رؤوس البشر – رغم حرارتها الهائلة – حتى تكون كمقدار ميل، وللإنسان أن يتصور مدى ما يلحق أهل الموقف من ألم حرارتها. وهذا ما رواه المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تدني الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل. قال سليم بن عامر – أحد رواة الحديث: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؛ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق. فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً. قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه)) (¬6). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 247 ¬

(¬1) رواه البخاري (4938)، ومسلم (2862). (¬2) رواه البخاري (6532). (¬3) رواه مسلم (2863). (¬4) رواه الطبراني (10/ 107) (10132)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 295). وقال: إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 339): رجاله رجال الصحيح. (¬5) رواه البخاري (1413). (¬6) رواه مسلم (2864).

المبحث الرابع: صفة الأرض التي يقف الخلق عليها

المبحث الرابع: صفة الأرض التي يقف الخلق عليها عن سهل بن سعد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي)) قال سهل – أو غيره -: ليس فيها معلم لأحد (¬1). ويتبين من معاني تلك الكلمات الواردة في الحديث: أن تلك الأرض التي يقف عليها الخلق غير هذه الأرض، وليس بينهما تشابه، فتلك أرض لها صفات وهذه أرض لها صفات أخرى، وأن هذه الأرض المعهودة قد انتهت وحلت محلها أرض أخرى هي أكبر منها وأشرف. أما معنى كونها عفراء، فقال الخطابي: (العفر: بياض ليس بالناصع). وقال عياض: (العفر: بياض يضرب إلى حمرة قليلاً، ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها) (¬2). وقال ابن فارس: (معنى عفراء: خالصة البياض). وقال الداودي: (شديدة البياض)، قال ابن حجر: (كذا قال، والأول هو المعتمد). ومعنى (كقرصة النقي: بفتح النون وكسر القاف: أي الدقيق النقي من الغش والنخالة، قاله الخطابي). ومعنى (ليس فيها معلم لأحد) أو (علم) كما في رواية مسلم – وهما بمعنى واحد، قال الخطابي: (يريد أنها مستوية، والمعلم – بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة – هو الشيء الذي يستدل به على الطريق). وقال عياض: (المراد أنها ليس فيها علامة سكن, ولا بناء, ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات كالجبل, والصخرة البارزة). قال ابن حجر: (وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها)، وقال الداودي: (المراد أنه لا يحوز أحد منها شيئا، إلا ما أدرك منها). ويذكر ابن حجر – نقلاً عن أبي جمرة – أن في الحديث إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جداً. وأن الحكمة في نقاء وصفاء تلك الأرض المبدلة وانبساطها: أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق؛ فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهراً عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه سبحانه على عباده المؤمنين على أرض طاهرة لعظمته، ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده؛ فناسب أن يكون المحل خالصاً له وحده (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: ((يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد, فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر)) (¬4). قال البرديسي: (يريد عليه الصلاة والسلام أرضاً مستوية، لا جبل فيها, ولا أكمة, ولا ربوة, ولا وهدة، أرض بيضاء نقية، لم يسفك عليها دم، ولا عمل عليها خطيئة، ولا ارتكب فيها محرم) (¬5). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقبض الله الأرض, ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك, أين ملوك الأرض؟)) (¬6). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 251 ¬

(¬1) رواه مسلم (2790). (¬2) ((إكمال المعلم)) (6/ 123). (¬3) ((فتح الباري)) (11/ 375)، و ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 17). (¬4) رواه البخاري (4712)، ومسلم (194). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((تكملة شرح الصدور)) (ص: 17). (¬6) رواه البخاري (6519)، ومسلم (2787).

الفصل السادس: أهوال يوم القيامة

المبحث الأول: أحوال الناس يوم القيامة (براءة الناس يومئذ بعضهم من بعض) (وانقطعت علائق الأنساب) كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ [المؤمنون:101]، وقال تعالى: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج:10] الآيات، وقال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس:34] الآيات، وقال تعالى عن الكافرين: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100 - 101]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه، قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيراً. ومصداق ذلك في كتاب الله فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ [المؤمنون:101]. رواه ابن أبي حاتم (¬1). وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الرجل ليقول في الجنّةِ: ما فعل بصديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم)) (¬2). قال الحسن رحمه الله تعالى: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإن لهم شفاعة يوم القيامة. وعن قتادة في قول الله عز وجل: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34 – 36] قال: يفر هابيل من قابيل ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ولوط عليه السلام من صاحبته، ونوح عليه السلام من ابنه لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37] يشغله عن شأن غيره. (¬3) وفي الحديث (الصحيح) في أمر الشفاعة ((أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق يقول: نفسي نفسي لا أسألك إلاّ نفسي، حتى إن عيسى بن مريم يقول: لا أسأله اليوم إلا نفسي، لا أسأله مريم التي ولدتني)) (¬4). وَارْتَكَمَتْ سَحَائِبُ الأَهْوَالِ ... وَانْعَجَمَ الْبَلِيغُ فِي الْمَقَالِ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْقَيُّومِ ... وَاقْتُصَّ مِنْ ذِي الظُّلْمِ لِلْمَظْلُومِ ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) بنحوه (3/ 954)، ورواه الطبري في ((تفسيره)) (8/ 362 - 363). (¬2) رواه البغوي في ((تفسيره)) (6/ 120) وفيه الوليد بن مسلم وحدّث عن رجل مبهم. (¬3) انظر ((تفسير البغوي)) (8/ 340). (¬4) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 325). وحديث الشفاعة في (الصحيحين) ولكن بلفظٍ مختلف.

(وارتكمت) اجتمعت (سحائب الأهوال) جمع هول وهو الأمر الشديد الهائل المفظع (وانعجم) أسكت فلم يتكلم. (البليغ) الذي كان في الدنيا مقتدراً على البلاغة والفصاحة (في المقال) قال الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [هود:105]، وقال تعالى: وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا [طه:108] وقال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38] قال ابن عباس: وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [طه:108]: سكنت فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا [طه:108] قال: تحريك الشفاه من غير منطق، وعنه: الهمس الصوت الخفي، وعنه هو وعكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم: الهمس نَقْلُ الأقدام إلى المحشر كأخفاف الإبل، وقال سعيد بن جبير: همساً سر الحديث ووطء الأقدام فجمع بين القولين، وفي حديث الشفاعة ((ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل)) (¬1) الحديث. وَعَنَتِ الْوُجُوهُ ذلت وخضعت، ومنه قيل للأسير: عان. الْقَيُّومِ تضمين لمعنى قوله عز وجل: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111] وقال ابنُ عباس وغير واحد: خضعت وذلَّت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت القيوم الذي لا ينام وهو قيِّم على كل شيء يديره ويحفظه فهو الكامل في نفسه الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلا به وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:111] قال ابن عباس: خسر من أشرك بالله (¬2)، والظلم هو الشِّرك. وقيل المراد بالظلم هنا العموم فيتناول الشرك وغيره من ظلم العبد نفسه وظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. وفي (الصحيحين): ((إيَّاكم والظُّلم فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة)) (¬3) فعلى هذا المعنى ظلم دون ظلم وخيبة دون خيبة، والخيبة كل الخيبة لمن لقي الله وهو به مشرك، فإن الله تعالى: يقول إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] (واقتص من ذي الظلم) أي اقتص من الظالم (للمظلوم)، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40] وقال تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ – إلى قوله – وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ [غافر:17 – 20] وقال تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69] وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75] وقال تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:70] وغيرها من الآيات. وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب القصاص يوم القيامة، وهي الحاقَّة لأن فيها الثواب وحواقّ الأمور الحقة والحاقة واحد، والقارعة والغاشية والصارخة والتغابن غبن أهل الجنة أهل النار) ثم ساق بسنده حديث ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أوَّل ما يقضى بين الناس بالدِّماء)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (806) ومسلم (182). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((تفسير البغوي)) (5/ 296). (¬3) رواه البخاري (2447)، ومسلم (2579) بدون قوله: (إياكم والظلم). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (6533)، ومسلم (1678).

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ كانت عنده مظلمةٌ لأخيه فليتحلله منها فإنَّه ليس ثمَّ دينارٌ ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإنْ لم يكن له حسنات أُخِذَ من سيئات أخيه فطرحت عليه)) (¬1). وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخلص المؤمنون من النار، فيُحبسون على قنطرةٍ بين الجنة والنار، فيُقصُّ لبعضهم من بعض مظالمُ كانت بينهم في الدنيا. حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسُ محمدٍ بيده لأحدهم أهدى بمنْزله في الجنة منه بمنْزله كان في الدنيا)) (¬2). وللترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلسُ فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيقعد فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناتُهُ قبل أن يقتص ما عليه من الخطايا أُخِذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طُرح في النار)) (¬3) هذا حديث حسن صحيح. وله عنه رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها حتى تقاد الشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) قال وفي الباب عن أبي ذر وعبد الله بن أنيس حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح (¬4)، وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((بلغني حديث عن رجل سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلاً فسرتُ عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبدالله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب. فقال: ابن عبدالله؟ قلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثٌ بلغني عنك أنَّك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيتُ أنْ تموت وأموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة – أو قال العباد – عراةً غرلاً بهما. قلت: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء. ثم يناديهم بصوتٍ يسمعه مَنْ بعُد كما يسمعه من قرُب: أنا الملك، أنا الديّان، لا ينبغي لأحَد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحدٍ من أهل الجنة حقٌ حتى أقضيه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حقٌ حتى أقضيه منه حتى اللطمة. قال: قلنا: كيف وإنَّما نأتي الله عز وجل حفاةً عراةُ غرلاً بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات)) (¬5) وقد أشار البخاري إلى هذا الحديث في مواضع من (صحيحه) تعليقاً ووصله في كتاب (خلق أفعال العباد). وروى عبدالله بن الإمام أحمد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الجماء لتقتصُّ من القرناء يوم القيامة)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (6534). (¬2) رواه البخاري (6535). (¬3) رواه الترمذي (2418). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. والحديث رواه مسلم (2581). (¬4) رواه الترمذي (2420) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحديث رواه مسلم (2582). (¬5) رواه أحمد (3/ 495) (16085). وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن، وحسنه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (970). والحديث في (الصحيحين) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم. (¬6) رواه أحمد (1/ 72) (520). وقال شعيب الأرناؤوط حسن لغيره .. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 352): رواه الطبراني في ((الكبير)) والبزار وعبد الله بن أحمد وفيه الحجاج بن نصير وقد وثق على ضعفه، وبقية رجال البزار رجال (الصحيح) غير العوام بن مزاحم وهو ثقة. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1588): الحديث صحيح.

وروى رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شاتين ينتطحان فقال: أتدري ما ينتطحان يا أبا هريرة؟ قلت: لا. قال: لكنَّ الله يدري وسيحكم بينهما)) (¬1). وَسَاوَتِ الْمُلُوكُ لِلأَجْنَادِ ... وَجِيءَ بِالْكِتَابِ وَالأَشْهَادِ وَشَهِدَتِ الأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ ... وَبَدَتِ السَّوْءَاتُ وَالْفَضَائِحُ وَابْتُلِيَتْ هُنَالِكَ السَّرَائِرْ ... وَانْكَشَفَ الْمَخْفِيُّ فِي الضَّمَائِرْ ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 162) (21476). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 352): رواه كله أحمد والبزار بالرواية الأولى وكذلك الطبراني في ((المعجم الأوسط))، وفيها ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجال أحمد رجال (الصحيح) غير شيخه ابن عائشة وهو ثقة، ورجال الرواية الثانية رجال (الصحيح) وفيها راو لم يسم. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 466): وهذا إسناد صحيح عندي، فإن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير الأشياخ الذين لم يسموا وهم جمع من التابعين، يغتفر الجهل بحالهم لاجتماعهم على رواية هذا الحديث، ولا يخدج في ذلك قوله في الرواية الأولى: أشياخ له فإنه لا منافاة بين الروايتين لأن الأقل يدخل في الأكثر، وزيادة الثقة مقبولة.

(وساوت الملوك) العظماء الرؤساء الكبراء (للأجناد) الرعايا، أي صاروا سواء في ذلك الموقف مشتركين في هوله الفظيع وكربه الشديد إلا من رحمه الله، وليس لأحد منهم مقال، ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً، ولا ضراً، كل امرئٍ بما كسب رهين، قال الله تعالى: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وقال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الحج:56]، وقال تعالى: يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، وقال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19] وغير ذلك من الآيات. قال ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] يقول لا يملك أحدٌ معه في ذلك اليوم حكماً كملكهم في الدنيا. قال ويوم الدين يوم الحساب للخلائق وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم. إنْ خيراً فخيراً وإنْ شراً فشر، إلاّ من عفا عنه وقال البغوي في قوله عز وجل: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان:26]: أي الملك الذي هو الملك الحق ملك الرحمن يوم القيامة. وقال ابن عباس رضي الله عنه: يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضي غيره، وفي الحديث (الصحيح) ((يقبض الله تعالى: الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض)) (¬1) وفي لفظ ((أين الجبارون أين المتكبرون)) (¬2). وقال قتادة يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19] والأمر والله اليوم لله، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد. وقال البغوي: يوم لا يُمَلّك الله في ذلك اليوم أحداً من خلقه شيئاً كما ملكهم في الدنيا. (وجيءَ بالكتاب والأشهاد) قال الله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49]، وقال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء [الزمر:69]، وقال تعالى: لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [النساء:41]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [النحل:84]، إلى قوله: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء [النحل:89]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [القصص:74 – 75] الآية، وقال تعالى: وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:21] وغير ذلك من الآيات. وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا يوسفُ بنُ راشدٍ حدثنا جريرُ وأبو أسامة – واللفظ لجرير – عن الأعمش عن أبي صالح. وقال أبو أسامة: حدثنا أبو صالح عن أبي سعيدٍ الخدري قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يُدعى نوحٌ يوم القيامة فيقول: لبيَّكَ وسعديْكَ يا رب، فيقول: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم. ¬

(¬1) رواه البخاري (4812)، ومسلم (2787). (¬2) رواه مسلم (2788).

فيقال لأمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: مَنْ يشهد لك؟ فيقول: محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمته. فتشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرسولُ عليكم شهيداً، فذلك قوله جل ذكره وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143])). والوسط: العدل (¬1). ورواه أحمدٌ وأصحاب (السنن). ورواه الإمام أحمد أيضاً بلفظ ((يجيء النبيُّ يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرَّجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلَّغت قومك؟ فيقول: نعم. فيقال: مَنْ يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته فيقال لهم: هل بلَّغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما عِلْمُكم؟ فيقولون جاءنا نبينا صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا. فذلك قوله عز وجل وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا قال عدلاً: لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] (¬2))). وفي (الصحيحين) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((قال لي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليَّ. فقلتُ: يا رسولَ الله أقرأ عليك وعليك أُنزِل؟ قال: نعم، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أسمعه من غيري. فقرأتُ سورةَ النِّساء حتى أتيت هذه الآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [النساء:41] فقال: حَسْبُك الآن. فإذا عيناه تذرفان)) (¬3). قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ أي: كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير والفتيل والقطمير والصغير والكبير فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف:49] أي: من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا أي: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمالنا، مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف:49] أي: لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر إلا أحصاها أي ضبطها وحفظها. وروى البغوي بإسناده عن سهل بن سعد قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِيَّاكُم ومُحقِّرات الذُّنوب، فإِنَّما مثل محقِّرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء هذا بعودٍ وجاء هذا بعودٍ وجاء هذا بعودٍ فأنضجوا خبزتهم، وإِنَّ محقِّرات الذنوب لموبقات)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (4487). (¬2) رواه ابن ماجه (4284)، وأحمد (3/ 58) (11575) واللفظ له. قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2448)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه لـ ((مسند أحمد)): وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. (¬3) رواه البخاري (5050)، ومسلم (800). (¬4) رواه البغوي في ((تفسيره)) (5/ 177). والحديث رواه أحمد (5/ 331) (22860)، والطبراني (6/ 165) بلفظ: (متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه) بدلاً من (لموبقات). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 190): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في الثلاثة من طريقين ورجال إحداهما رجال (الصحيح) غير عبد الوهاب بن عبد الحكم وهو ثقة. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (389): وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وهو عند أحمد ثلاثي.

وقوله وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف:49] كقوله عز وجل يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ [آل عمران:30]، وقوله عز وجل عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ [التكوير:14]، وقوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:5]، وقوله تعالى: يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13] وغيرها من الآيات. وقوله تعالى: وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا [القصص:75] قال البغوي: يعني رسولهم الذي أرسل إليهم وهو قول مجاهد، وروى ابن جرير عن عثمان بن عفان أنه خطب فقرأ هذه الآية وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:21] فقال: سائق يسوقُها إلى اللهِ تعالى: وشاهِدٌ يشهد عليها بما عملت، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: السائِقُ الملك والشهيد العمل (¬2) وكذا قال الضحاك والسدّي، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: السائق من الملائكة والشهيد الإنسان نفسه يشهد على نفسه (¬3). وقوله تعالى: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ أضاءت بِنُورِ رَبِّهَا بنور خالقها، ذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه، فما يتضارون في نوره كما لا يتضارون في الشمس في اليوم الصحو، قاله البغوي (¬4). والحديث ((لا يتضارون في رؤيته)) (¬5). وَوُضِعَ الْكِتَابُ قال قتادة: كتاب الأعمال. وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يشهدون على الأمم أنهم بلغوهم رسالات الله إليهم) (¬6). وَالشُّهَدَاءِ أي من الملائكة الحفظة على أعمال العباد قال ذلك عطاء، ويدل عليه قوله تعالى: وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:21] قال ابن عباس: ((يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬7). ويدل على ذلك قوله تعالى: لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] وقال مجاهد في قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] يعني: الملائكة، قال البغوي: يشهدون للرُّسلِ بالتبليغ وعلى الكفار بالتَّكْذيب. (وشهدت) على كل جاحد (الأعضاء) أعضاؤه (والجوارح) عطف تفسير، قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65] الآيات، وقال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ [فصلت:19 – 23] الآيات وغيرها. ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) (22/ 348). (¬2) انظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (10/ 3308). (¬3) انظر: ((تفسير الطبري)) (22/ 348). (¬4) انظر: ((تفسير البغوي)) (7/ 132). (¬5) رواه البخاري (7439)، ومسلم (2968). بلفظ: (لا تضارون في رؤية ربكم). من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما. (¬6) انظر: ((تفسير البغوي)) (8/ 39)، و ((تفسير ابن كثير)) (7/ 118). (¬7) انظر: ((تفسير البغوي)) (7/ 132).

وروى مسلم والنسائي وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كُنَّا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون مِمَّ أضحك؟ قلنا: اللهُ ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: مِنْ مجادلة العبد ربَّه يوم القيامة، يقول: ربِّ ألم تُجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: لا أجيزُ على نفسي إلاّ شاهداً مني. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكتاب شهوداً، فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً وسحقاً فعنكنَّ كنت أناضِلُ)) (¬1). وروى عبدالرزاق أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّكم تدعون مفدماً على أفواهكم بالفدام، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه)) ورواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبدالرزاق به. (¬2) وله هو ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل قال فيه: ((ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول ههنا إذا, قال ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه)) (¬3).وهذا والله أعلم يتضمن بيان قول الله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة:18] الآية، وروى ابن جرير وابنُ أبي حاتم وأحمد رحمهم الله تعالى: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((إنَّ أوَّل عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختم على الأفواهِ فخذه من الرجل اليسرى)) وفي رواية أحمد: ((مِنَ الرَّجْل الشمال)) (¬4). وروى ابن جرير عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (يُدعى المؤمنُ للحساب يوم القيامة فيعرض عليه ربُّه عمله فيما بينه وبينه فيعترفُ فيقول: نعم. أي ربِّ عملت عملت عملت قال فيغفر الله له ذنوبه ويستره منها قال: فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً، وتبدو حسناته فودَّ أن الناس كلهم يرونها. ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرضُ عليه ربُّه عمله فيجحد ويقول: أي رب وعزتك لقد كتب عليَّ هذا الملكُ ما لم أعمل. فيقولُ له الملك: أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملتُهُ. فإذا فعل ذلك ختم الله تعالى: على فيه. ¬

(¬1) رواه مسلم (2969)، وابن أبي حاتم (10/ 81). (¬2) رواه عبدالرزاق في المصنف (11/ 130)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 451). (¬3) رواه مسلم (2968). (¬4) رواه أحمد (4/ 151) (17412)، والطبري في ((تفسيره)) (20/ 545)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3198). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 351): رواه أحمد والطبراني وإسنادهما جيد. قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) بعد حديث (2713): أخرجه أحمد ... وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، فهو صحيح لولا شيخ الحضرمي، فإنه لم يسم. وعلّق على كلام الهيثمي قائلاً: فهو غير جيد. ثم قال على إسناد الطبري: فهذا إسناد صحيح إن كان شريح سمعه من عقبة، فقد اختلفوا في سماعه من أحد من الصحابة.

قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: فأنا أحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى ثم تلا الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]) (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لابن الأزرق: ((إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين، لا ينطقون، ولا يعتذرون، ولا يتكلمون حتى يؤذن لهم، ثم يؤذن لهم فيختصمون فيجحد الجاحد بشركهِ بالله تعالى: فيحلفون له كما يحلفون لكم فيبعث الله تعالى: عليهم حين يجحدون شهداءَ من أنفسهم جلودَهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم ويختم على أفواههم ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح فتقول أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:21] فتقر الألسنة بعد الجحود)) (¬2)، وروي أيضاً عن رافع أبي الحسن قال: وصف رجلاً قال فيشير اللهُ تعالى: إلى لسانه فيربو في فمه حتى يملأه فلا يستطيعَ أن ينطِقَ بكلمةٍ، ثم يقول لآرابِهِ تكلمي واشهدي عليه فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده وفرجه ويداه ورجلاه: صنعنا عملنا فعلنا (¬3) وله أيضاً عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. قال: لما رَجَعْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرةُ البحر قال: ((ألا تحدِّثون بأعاجيب ما رأيتم بأرضِ الحبشة فقال فتيةٌ منهم: بلى يا رسول الله، بينما نحنُ جلوس إذ مرت علينا عجوزٌ من عجائز رهابينهم تحمل على رأسِها قُلَّة من ماءٍ، فمرَّت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرَّت على ركبتيها فانكسرت قُلَّتُها، فلمَّا ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسيَّ وجمع الأولين والآخرين وتكلَّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً. قال يقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقَتْ صدقت كيف يقدِّسُ اللهُ تعالى: قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم)) (¬4)، ورواه ابن أبي الدنيا (¬5). وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا الصلت بن محمد حدثنا يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عن منصور عن مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ [فصلت:22] الآية: كان رجلان من قريش وختن لهما من ثقيف أو رجلان من ثقيف وختن لهما من قريش في بيتٍ، فقال بعضهم لبعضٍ: أترون أنَّ الله يسمع حديثنا؟ قال بعضُهم: يسمع بعضه، وقال بعضهم: لئن كان يسمع بعضه لقد يسمع كله. فأنزلت وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ [فصلت:22])) (¬6) الحديث. (وابتليت) أي اختبرت (هنالك) الإشارة إلى موقف القيامة العظيم، وهَوْله الجسيم (السرائر) جمع سريرة وهي ضد العلانية (وانكشف المخفي) المستور (في الضمائر) إشارة إلى قول الله عز وجل يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9] قال البغوي رحمه الله تعالى: وذلك يوم القيامة تبلى السرائر تظهر الخفايا. قال قتادة ومقاتل: تختبر. قال عطاء بن أبي رباح: السرائرُ فرائض الأعمال كالصوم والصلاة والوضوء والاغتسال من الجنابة فإنها سرائر بين الله تعالى وبين العبد، فلو شاءَ العبد لقال: صمت ولم يصم، وصليت ولم يصل، واغتسلت ولم يغتسل، فيختبر حتى يظهر من أداها ممن ضيعها، قال ابن عمر رضي الله عنهما: (يُبدي الله عزَّ وجل يوم القيامة كُلَّ سر، فيكون زيناً في وجوه وشيناً في وجوه، يعني من أدَّاها كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان وجهه أغبر) (¬7) وفي (الصحيح) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يُرْفع لكلِّ غادر لواء عند استه يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان)) (¬8) عياذاً بالله من ذلك. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 998 ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (20/ 544). ورواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3199). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (10/ 3272). (¬3) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 125). (¬4) رواه ابن أبي حاتم (10/ 3272). والحديث رواه ابن ماجه (4010). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 183): هذا إسناد حسن سويد مختلف فيه. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 542): جميع رجاله احتج بهم مسلم في (صحيحه). وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (417): له شاهد. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن. (¬5) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ((الأهوال)) (235). (¬6) رواه البخاري (4816). والحديث رواه مسلم (2775). (¬7) انظر: ((تفسير البغوي)) (8/ 394 - 395). (¬8) غير موجود في (الصحيح) بتمام هذا اللفظ، وانظر البخاري (6177) ومسلم (1735). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

المبحث الثاني: صفة أهوال يوم القيامة

المطلب الأول: قبض الأرض وطي السماء يقبض الحق تبارك الأرض بيده في يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه كما قال تبارك وتعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض)) (¬1). وهذا القبض للأرض والطي للسموات يقع بعد أن يفني الله خلقه. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص100 ¬

(¬1) رواه البخاري (4812)، ومسلم (2787).

المطلب الثاني: دك الأرض ونسف الجبال

المطلب الثاني: دك الأرض ونسف الجبال يخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن أرضنا الثابتة وما عليها من جبال صم راسية تحمل في يوم القيامة عندما ينفخ في الصور فتدك دكة واحدة: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة: 13 - 15]، كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [الفجر: 21]، وعند ذلك تتحول هذه الجبال الصلبة القاسية إلى رمل ناعم، كما قال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً [المزمل:14]، أي: تصبح ككثبان الرمل بعد أن كانت حجارة صماء، والرمل المهيل: هو الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده، يقال: أهلت الرمل أهيله هيلاً، إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه. وأخبر في موضع آخر أن الجبال تصبح كالعهن وهو الصوف كما قال تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [القارعة:5]، وفي نص آخر: مثلها بالصوف المنفوش: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5]. ثم إن الله تبارك وتعالى يزيل هذه الجبال وعبر القرآن عن إزالتها مرة بتسييرها ومرة بنسفها: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:3]، وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [المرسلات:10].ثم بين الحق حال الأرض بعد تسيير الجبال ونسفها: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف:47]، أي: ظاهرة لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، كما قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:105 - 107]. القيامة الكبرى لعمر الأشقر - ص102

المطلب الثالث: تفجير البحار وتسجيرها

المطلب الثالث: تفجير البحار وتسجيرها أما هذه البحار ... فإنها تفجر في ذلك اليوم ... وتشتعل ناراً، قال تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:3]، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]. القيامة الكبرى لعمر الأشقر ص104

المطلب الرابع: موران السماء وانفطارها

المطلب الرابع: موران السماء وانفطارها أما سماؤنا فإنها تمور موراناً وتضطرب اضطراباً عظيماً قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور: 9]، ثم إنها تنفطر وتتشقق إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار: 1]، إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق: 1 - 2] وعند ذلك تصبح واهية وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [الحاقة:16]. القيامة الكبرى لعمر الأشقر - ص104

المطلب الخامس: تكوير الشمس وخسوف القمر وتناثر النجوم

المطلب الخامس: تكوير الشمس وخسوف القمر وتناثر النجوم فإن الشمس تكور ويذهب ضوؤها كما قال تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] والتكوير عند العرب جمع الشيء بعضه على بعض ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها على بعض وإذا جمع بعض الشمس على بعض ذهب ضوؤها ورمى بها. أما القمر فإنه يخسف ويذهب ضوؤه فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ [القيامة: 7 - 8] أما تلك النجوم المتناثرة فإن عقدها ينفرط فتتناثر وتنكدر وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ [الانفطار:2]، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ [التكوير:2]. القيامة الكبرى لعمر الأشقر - ص105

الفصل السابع: الشفاعة

تمهيد: الشفاعة من الأمور التي ثبتت بالكتاب والسنة، وأحاديثها متواترة؛ قال تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255] فنفي الشفاعة بلا إذن إثباتٌ للشفاعة من بعد الإذن. قال تعالى: عن الملائكة: وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى [النجم:26]. فبيَّن الله الشفاعة الصحيحة، وهي التي تكون بإذنه، ولمن يرتضي قوله وعمله. شرح العقيدة الواسطية للهراس - ص 215

وقد أنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية، وقال هؤلاء: من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها، وعند هؤلاء ما ثمَّ إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار، ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة، ولا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب. وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم فيقرّون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار قومًا بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم، يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ويخرج آخرين بشفاعة غيره، ويخرج قومًا بلا شفاعة. واحتج هؤلاء المنكرون للشفاعة بقوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48] وبقوله: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:123] وبقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] وبقوله: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18] وبقوله: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]. وجواب أهل السنّة أن هذا لعله يراد به شيئان: أحدهما: أنها لا تنفع المشركين، كما قال تعالى في نعتهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:42 - 48] فهؤلاء نفى عنهم نفع شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفارًا. والثاني: أنه يراد بذلك نفي الشفاعة التي أثبتها أهل الشرك، ومن شابههم من أهل البدع، من أهل الكتاب والمسلمين، الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه، كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة الشافع لحاجته إليه رغبة ورهبة، كما يعامل المخلوقُ المخلوق بالمعاوضة. فالمشركون كانوا يتخذون من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، ويصورون تماثيلهم فيستشفعون بها ويقولون: هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا، كما يُتوَسل إلى الملوك بخواصِّهم لكونهم أقرب إلى الملوك من غيرهم، فيشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك، وقد يشفع أحدهم عند الملك فيما لا يختاره فيحتاج إلى إجابة شفاعته رغبة ورهبة.

فأنكر الله هذه الشفاعة فقال تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وقال: وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى [النجم:26] وقال عن الملائكة: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:26 - 28] وقال: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22 - 23] وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18] وقال تعالى: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51] وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [السجدة:4] وقال تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86] وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94] وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:43 - 45] وقال تعالى: وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً [طه:108 - 109] وقال صاحب يس: وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:22 - 25]. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - ص 12

المبحث الأول: معنى الشفاعة في اللغة والشرع

المطلب الأول: معنى الشفاعة في اللغة الشفاعة في لغة العرب مشتقة من الشفع الذي هو غير الوتر، أي أن الشفع هو الزوج الذي هو عكس الوتر عند الإطلاق، تقول: أعطيتك كتاباً ثم شفعته بآخر، أي صار ما معك زوجاً بعد أن كان وتراً، قال ابن منظور: (شفع الوتر من العدد شفعاً: صيره زوجاً) (¬1). والمشفع – بكسر الفاء – هو الذي يقبل الشفاعة. والمشفع – بفتح الفاء – هو الذي يقبل شفاعته. قال ابن الأثير في (النهاية): (قد تكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم، يقال: شفع يشفع شفاعة فهو شافع وشفيع، والمشفع الذي يقبل الشفاعة والمشفع الذي تقبل شفاعته) (¬2). وعرفها اللقاني بأنها في اللغة هي: (الوسيلة والطلب) (¬3). ومن المشفع أخذت تسمية الشفعة التي هي الزيادة: لأن من حقت له الشفعة زاد في ماله ذلك المشفوع؛ فيصير ما معه شفعاً، وكأن ما حصل معه من الملك قبل الشفعة وتراً، وبعد أخذ المشفوع صار شفعاً. وفي هذا يقول ابن الأثير: (الشفعة في الملك معروفة، وهي مشتقة من الزيادة، لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه) (¬4). وقال الراغب: (الشفع ضم الشيء إلى مثله)، قال: (والشفعة: هو طلب مبيع في شركته بما بيع به ليضمه إلى ملكه، وهو من الشفع) (¬5). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 280 ¬

(¬1) ((لسان العرب)) (8/ 183). (¬2) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (2/ 485). (¬3) ((شرح جوهرة التوحيد)) (186). (¬4) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 485). (¬5) ((المفردات)) (ص: 263).

المطلب الثاني: معنى الشفاعة في الشرع

المطلب الثاني: معنى الشفاعة في الشرع معاني الشفاعة الشرعية متقاربة مع معانيها اللغوية، وذلك لأن الشفاعة في اللغة يراد بها معانيها اللغوية من انضمام شيء إلى شيء آخر, وزيادته في شيء مخصوص، وأما في الشرع فهي التي يراد بها معناها الواضح الذي ورد به الشرع، مخبراً عنه ومبيناً أمره، مما يحصل في الدار الآخرة، وهي: طلب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم – أو غيره – من الله في الدار الآخرة حصول منفعة لأحد من الخلق. ويدخل تحت هذا التعريف جميع أنواع الشفاعات الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره، كالشفاعة العظمى وهي طلب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من ربه إراحة الناس من الموقف بمجيئه لفصل القضاء، ويدخل كذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول أهل الجنة الجنة، وشفاعته في تخفيف العذاب عن أبي طالب، وشفاعة الشفعاء في رفع الدرجات في الجنة، وكذا الشفاعة في إخراج قوم من النار, وإدخالهم الجنة. الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 283

المبحث الثاني: شروط الشفاعة

المبحث الثاني: شروط الشفاعة وأما الشفاعة والدعاء، فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع، فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهاً، فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الخليل إبراهيم، وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى عنه: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]. وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداءً بإبراهيم، وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ [التوبة:114 - 115]. وثبت في (صحيح البخاري) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب أنت وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله عز وجل: إني حرّمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: انظر ما تحت رجليك فينظر، فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)) (¬1). فهذا لما مات مشركًا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره، وقد قال تعالى للمؤمنين: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الممتحنة:4 - 5] فقد أمر الله تعالى: المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه، إلا في قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرنَّ لك فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)) (¬2). وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال: ((استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)) (¬3). وثبت عن أنس في (الصحيح) ((أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار. فلما قفّى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (3350). (¬2) رواه مسلم (976). (¬3) رواه مسلم (976). (¬4) رواه مسلم (203).

وثبت أيضًا في (الصحيح) عن أبي هريرة: لما أنزلت هذه الآية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص فقال: ((يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عَبْد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحما سأبُلُّها ببلالها)) (¬1). وفي رواية عنه: ((يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية - عمة رسول الله - لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً)) (¬2). وعن عائشة لما نزلت: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم)) (¬3). وعن أبي هريرة قال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء يقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك)) (¬4). أخرجاه في (الصحيحين). وزاد مسلم ((لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك)) (¬5). وفي (البخاري) عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يُعار فيقول يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغت، ولا يأتي أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلغت)) (¬6). وقوله هنا صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله شيئاً كقول إبراهيم لأبيه: لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ [الممتحنة:4]. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - ص 7 للشفاعة شرطان، هما: 1 - الإذن من الله، لقوله: أَن يَأْذَنَ اللَّهُ. ¬

(¬1) رواه مسلم (204). (¬2) رواه البخاري (4771)، ومسلم (351). (¬3) رواه مسلم (205). (¬4) رواه البخاري (3073)، ومسلم (1831). (¬5) رواه مسلم (1831). (¬6) رواه البخاري (1402).

2 - رضاه عن الشافع والمشفوع له، لقوله: وَيَرْضَى، وكما قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28]، فلا بد من إذنه تعالى: ورضاه عن الشافع والمشفوع له، إلا في التخفيف عن أبي طالب، وقد سبق ذلك. وهذه الآية في سياق بيان بطلان ألوهية اللات والعزى، قال تعالى: بعد ذكر المعراج وما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم فيه: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 18]، أي: العلامات الدالة عليه عز وجل، فكيف به سبحانه؟! فهو أكبر وأعظم. ثم قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم: 19، 20]، وهذا استفهام للتحقير، فبعد أن ذكر الله هذه العظمة قال: أخبروني عن هذه اللات والعزى ما عظمتها؟ وهذا غاية في التحقير، ثم قال: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءُ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى وَكَم مِّن مَّلَكٍ .... الآية [النجم: 21 - 26]. فإذا كانت الملائكة وهي في السماوات في العلو لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذنه تعالى: ورضاه، فكيف باللات والعزى وهي في الأرض؟! ولهذا قال: وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ [النجم:26]، مع أن الملائكة تكون في السماوات وفي الأرض، ولكن أراد الملائكة التي في السماوات العلى، وهي عند الله - سبحانه -، فحتى الملائكة المقربون حملة العرش لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 422 قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في شرح هذين البيتين من منظومته (سلم الوصول): كَذَا لَهُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى كَمَا ... قَدْ خَصَّهُ اللهُ بِهَا تَكَرُّمَا مِنْ بَعْدِ إِذْنِ اللهِ لاَ كَمَا يَرَى ... كُلُّ قُبُورِيٍّ عَلَى اللهِ افْتَرَى

قال: (كذا له) لنبينا صلى الله عليه وسلم (الشفاعة العظمى) يوم القيامة، وهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء: 79] ولذا قلنا (قد خصه الله بها) بالشفاعة (تكرماً) منه عز وجل عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته به كما في (الصحيح) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ((أُعطيتُ خمساً لم يُعْطَهنَّ أَحَدٌ قبلي: نُصِرْتُ بالرُّعب مسيرة شهر، وجعلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأَيَّما رجلٍ من أُمَّتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغنائم ولم تحلّ لأحدٍ قبلي، وأعطيتُ الشفاعة، وكان النبيُّ يُبْعَثُ إلى قومه خاصَّةً وبعثت إلى الناس عامة)) (¬1) وفيه عنه رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ((لكلِّ نبيٍّ دعوة قد دعا بها في أُمَّته، وخبأت دعوتي شفاعة لأُمَّتي يوم القيامة)) (¬2)، وفيه عن أنسٍ رضي الله عنه أَنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ((لكلِّ نبي دعوةٌ دعاها لأُمَّته، وإِنِّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأُمَّتي يوم القيامة)) (¬3). وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((لكلِّ نبيّ دعوةٌ مستجابة، فتعجَّل كل نبيٍّ دعوته، وإِنِّي اختبأتُ دعوتي شفاعة لأُمَّتي يوم القيامة فهي نائلةٌ إِنْ شاء الله تعالى من مات من أُمَّتي لا يشرك بالله شيئاً)) (¬4). وفيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أَنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عَزَّ وجَلَّ في إبراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم: 36] وقال عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: اللهم أُمَّتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فسلْه: ما يبكيك. فأتاه جبريلُ عليه السلام فسأله، فأخبره رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما قال – وهو أعلم – فقال اللهُ تعالى: يا جبريلُ اذهب إلى محمد فقل: إِنَّا سنرضيك في أُمَّتك ولا نسوؤك)) (¬5). وفيه عنه رضي الله عنه أَنَّه سمع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ فإِنّه من صلى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإِنَّها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سألَ الله لي الوسيلة حلَّت له الشَّفاعة)) (¬6). وفيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ((من قال حين يسمع النداء: اللَّهمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (335) ومسلم (521). (¬2) رواه مسلم (201). (¬3) رواه مسلم (200). (¬4) رواه مسلم (199). (¬5) رواه مسلم (202). (¬6) رواه مسلم (384). (¬7) رواه البخاري (614).

وتلك الشفاعة لا تكون إلا من بعد إذن الله عز وجل، سواء في ذلك شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة من دونه، وذلك الإذن يتعلق بالشافع والمشفوع فيه، وبوقت الشفاعة، فليس يشفع إلا من أذن الله له في الشفاعة، وليس له أن يشفع إلا بعد أن يأذن الله له، وليس له أن يشفع إلا فيمن أذن الله تعالى له أن يشفع فيه، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] مَا مِنْ شَفِيعٍ إلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً [الزمر: 44] وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86] لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً [مريم: 87] لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً [النبأ: 38] يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً [طه: 109] وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28]، وقال تعالى في الكفار: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18]، وقال عنهم: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]. وسيأتي في ذكر الأحاديث مراجعة الرسل الشفاعة بينهم حتى تنتهي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وأنه يأتي فيستأذن ربه عز وجل، ثم يسجد ويحمده بمحامد يعلمه تعالى إياها، ولم يزل كذلك حتى يؤذن له ويقال: ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع، وأنه يحد له حداً فيدخلهم الجنة ثم يرجع كذلك، وفي كل مرة يستأذن ويدعو حتى يؤذن له ويحد له حداً حتى ينجو جميع الموحدين، وهكذا كل شافع بعده يسأل الشفاعة من مالكها حتى يؤذن له، إلى أن يقول الشفعاء لم يبق إلا من حبسه القرآن وحق عليه الخلود. والمقصود أن الشفاعة ملك لله عز وجل ولا تسأل إلا منه، كما لا تكون إلا بإذنه للشافع في المشفوع حين يأذن في الشفاعة. (لا كما يرى كل قُبُوري) نسبة إلى القبور لعبادته أهلها (على الله افترى) في ما ينسبه إلى أهل القبور ويضيفه إليهم من التصرفات التي هي ملك لله عز وجل لا يقدر عليها غيره تعالى ولا شريك له فيها، ورتبوا على ذلك صرف العبادات إلى الأموات ودعاءهم إياهم والذبح والنذر لهم دون جبار الأرض والسموات، وسؤالهم منهم قضاء الحاجات ودفع الملمات، وكشف الكربات والمكروهات معتقدين فيهم أنهم يسمعون دعاءهم ويستطيعون إجابتهم. وقد تقدم كشف عوارهم وهتك أستارهم بما يشفي ويكفي ولله الحمد والمنة. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 1062

المبحث الثالث: أنواع الشفاعة: (الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية)

المبحث الثالث: أنواع الشفاعة: (الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية) أقسام الشفاعة الثابتة 1 - الشفاعة العظمى. 2 - الشفاعة في دخول المؤمنين الجنة. 3 - الشفاعة لرفع درجات أهل الجنة. 4 - الشفاعة لقوم استحقوا النار أن لا يدخلوها. 5 - الشفاعة في أهل الكبائر. 6 - شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه. 7 - الشفاعة لأقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب. 8 - شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة المنورة. ومن هذه الشفاعات ما هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها ما يكون له وللأنبياء الآخرين عليهم الصلاة والسلام، ومنها ما يكون لخواص الخلق. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 299 أقوال الناس في الشفاعة والقول الحق في ذلك، والحديث المفصل عن الشفاعة

وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق: طرفان، ووسط. فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب، كالنصارى، ومبتدعة هذه الأمة: أثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن. والخوارج والمعتزلة: أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته. بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه عنه. وأنكروا الشفاعة بقوله تعالى: من قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ [البقرة:254] وبقوله تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18] ونحو ذلك. وأما سلف الأمة وأئمتها، ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة، فأثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وغير ذلك من أنواع شفاعاته، وشفاعة غيره من النبيين والملائكة. وقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته، والصدقة عنه، بل والصوم عنه في أصح قولي العلماء. كما ثبتت به السنة الصحيحة الصريحة، وما كان في معنى الصوم. وقالوا: إن الشفيع يطلب من الله ويسأل، ولا تنفع الشفاعة إلا بإذنه، قال تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255] وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى [النجم:26]. وقد ثبت في (الصحيح)، أن سيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم إذا طلبت الشفاعة منه بعد أن تطلب من آدم وأولي العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، فيردونها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، العبد الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- قال: ((فأذهب إلى ربي، فإذا رأيته خررت له ساجدا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن فيقول لي: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع وسل تعطه، واشفع تشفع، قال: فأقول: رب أمتي أمتي، فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة)) (¬1). وقال تعالى: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56 - 57]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية، وقد أخبر فيها أن هؤلاء المسؤولين يتقربون إلى الله ويردون رحمته، ويخافون عذابه. وقد ثبت في (الصحيح) أن أبا هريرة قال: ((يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة قال: يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك، لما رأيته من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله)) (¬2). فكلما كان الرجل أتم إخلاصا لله، كان أحق بالشفاعة، وأما من علق قلبه بأحد من المخلوقين، يرجوه ويخافه، فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة. فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له، بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه، وإما لخوفه منه، فيحتاج إلى أن يقبل شفاعته. والله تعالى: غني عن العالمين وهو وحده سبحانه يدير العالمين كلهم، فما من شفيع إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشفيع في الشفاعة. ¬

(¬1) رواه البخاري (7510). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (99).

وهو يقبل شفاعته، كما يلهم الداعي الدعاء، ثم يجيب دعاءه فالأمر كله له. فإذا كان العبد يرجو شفيعا من المخلوقين، فقد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له، وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة، ولا يقبل شفاعته. وأفضل الخلق: محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم عليهما السلام. وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم، أن يستغفر لعمه أبي طالب، بعد أن قال: ((لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)) (¬1). وقد صلى على المنافقين ودعا لهم فقيل له: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ [التوبة:84] وقيل له أولا: إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [التوبة:80] فقال: ((لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر لهم لزدت)) (¬2) فأنزل الله: سَوَاءُ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون:6]. وإبراهيم: قال الله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود:74 - 76]. ولما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه، بعد وعده بقوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41] قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4] وقال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:113 - 114]. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية2/ 830 قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في شرح منظومته: يَشْفَعُ أَوَّلاً إِلَى الرَّحْمَنِ فِي ... فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَطْلُبَهَا النَّاسُ إلَى ... كُلِّ أُولِي الْعَزْمِ الْهُدَاةِ الْفُضَلاَ هذه الشفاعة الأولى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم الشفاعات، وهي المقام المحمود الذي ذكر الله عز وجل له ووعده إياه وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله إياه له صلى الله عليه وسلم بعد كل أذان. وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب قوله تعالى عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] حدثنا إسماعيل بن أبَّان حدَّثنا أبو الأحوص عن آدم بن علي قال سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول ((إنَّ الناس يصيرون يوم القيامة جثاً كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعةُ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذلك يومٌ يبعثه الله المقام المحمود)) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (1360)، ومسلم (24). (¬2) رواه البخاري (1366). (¬3) رواه البخاري (4718).

وقال مسلم رحمه الله تعالى حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير واتفقا في سياق الحديث إلا ما يزيد أحدهما من الحرف بعد الحرف، قالا حدَّثنا محمد بنُ بِشرٍ حدَّثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة فقال: أنا سيِّد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بِمَ ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأوَّلين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ فيُسْمعهم الداعي، وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه، ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربِّكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنَّ ربِّي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنَّه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً عليه السلام فيقولون: يا نوح أنت أول الرُّسُل إلى الأرض وسمّاك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إنَّ ربِّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنَّه قد كانت دعوةٌ دعوتُ بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم. فيأتون إبراهيم فيقولون أنت نبيُّ الله وخليلُه من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى عليه السلام فيقولون: يا موسى أنت رسولُ الله فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربِّك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى عليه السلام: إِنَّ ربِّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإِنِّي قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى عليه السلام. فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسولُ اللهِ وكلَّمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربِّك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى عليه السلام: إِنَّ ربِّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنباً، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيأتوني فيقولون: يا محمد أَنت رسولُ اللهِ وخاتم الأنبياء وغفر اللهُ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، اشفع لنا إلى ربِّك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فأَنْطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربِّي، ثم يفتح الله عليَّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي. ثم قال: يا محمد ارفعْ رأسك سلْ تُعْطه اشفع تشفَّعْ فأَرفع رأسي فأقول: يا ربِّ أُمَّتي أُمَّتي، فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أُمَّتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إِنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبُصرى)) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (194).

قال وحدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: ((وُضِعَتْ بين يدي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قصعة من ثريد ولحم، فتناول الذِّراع وكانت أحبَّ الشاة إليه، فنهس نهسةً فقال: أنا سيِّد الناس يوم القيامة، ثم نهس أخرى فقال: أنا سيِّدُ الناس يوم القيامة. فلمَّا رأى أصحابه لا يسألونه قال: ألا تقولون كيف؟ قالوا: كيف يا رسولَ اللهِ؟ قال: يقوم الناس لربِّ العالمين)) وساق الحديث بمعنى حديث أبي حيان عن أبي زرعة، وزاد في قصة إبراهيم فقال: وذكر قوله في الكوكب: هذا ربِّي، وقوله لآلهتهم: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إِنِّي سقيم. قال: والذي نفس محمَّدٍ بيده إِنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة، قال لا أدري أيُّ ذلك قال (¬1). وروى الإمام أحمد عن كعب بن مالك أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ((يُبْعَثُ الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمّتي على تل، ويكسوني ربِّي عَزَّ وجَلَّ حُلَّةً خضراء، ثُمَّ يُؤْذَنُ لي فأقول ما شاءَ اللهُ تعالى أَنْ أقول، فذلك المقام المحمود)) (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (194). (¬2) رواه أحمد (3/ 456) (15821) والطبراني (19/ 72) وقال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح, وصححه ابن جرير في ((التفسير)) (9/ 1/181) وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 284): إسناده صالح, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 54): رجاله رجال الصحيح, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 434): أصله في مسلم.

وسيأتي إن شاء الله تعالى في حديث أنس رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم ((يجمع اللهُ الناس يوم القيامة فيهتمُّون لذلك – وفي لفظة فيلهمون لذلك – فيقولون لو استشفعنا إلى ربِّنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال فيأتون آدم)) (¬1) الحديث، وتقدم في حديث الصور قوله صلى الله عليه وسلم ((فتقفون موقفاً واحداً مقدارُهُ سبعون عاماً لا يُنْظَرُ إليكم ولا يُقْضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دماً. وتعرقون حتى يلجمكم العرق ويبلغ الأذقان، وتقولون مَنْ يشفع لنا إلى ربِّنا فيقضي بيننا؟ فتقولون من أَحقُّ بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله تعالى بيده، ونفخ فيه من روحه وكلَّمه قبلاً. فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، فيأتي ويقول: ما أَنا بصاحب ذلك. فيستقرئون الأنبياءَ نبيّاً نبيّاً كلما جاؤوا نبيّاً أبى عليهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى يأتوني فأنطلق إلى الفحص فأخرُّ ساجداً. قال أبو هريرة: يا رسولَ الله وما الفحص؟ قال قدام العرش، حتى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي ويرفعني فيقول لي: يا محمد. فأقول: نعم يا ربِّ فيقول اللهُ عزَّ وجَلَّ: ما شأنُكَ؟ وهو أعلم. فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة فشفِّعني في خلقك فاقض بينهم. قال الله تعالى: قد شفعتك، أنا آتيكم أقضي بينكم)) (¬2) الحديث. وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: حدَّثني نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ((إِنِّي لقائمٌ أنتظر أُمَّتي تعبر على الصراط، إذ جاءني عيسى عليه السلام فقال: هذه الأنبياء قد جاءَتْكَ يا محمد يسألون أو قال يجتمعون إليك – ويدعون الله أَنْ يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله لغمٍّ جاءهم فيه، فالخلق ملجمون بالعرق، فأَمَّا المؤمن فهو عليه كالزكمة وأما الكافر فيغشاهُ الموت، فقال: انتظر حتى أرجع إليك، فذهب نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش فلقي ما لم يلق ملكٌ مصطفى، ولا نبيٌّ مرسل، فأَوْحى اللهُ عَزَّ وجَلَّ إلى جبريل أن اذهب إلى محمد وقل له: ارفع رأْسك سل تُعْطَ واشْفَعْ تُشفع)) (¬3) الحديث. وعند مسلم وغيره من حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ((فلَك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهمَّ اغفر لأمتي، اللهمَّ اغفر لأمَّتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليَّ الخلق كلُّهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم)) (¬4). وَثَانِيًا يَشْفَعُ فِي اسْتِفْتَاحِ ... دَارِ النَّعِيمِ لأُولِي الْفَلاحِ هَذَا وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ ... قَدْ خُصَّتَا بِهِ بِلاَ نُكْرَانِ ¬

(¬1) رواه مسلم (193) (322) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه الطبراني في ((الأحاديث الطوال)) (1/ 266) وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (11/ 212) والمروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 283) , وابو الشيخ في ((العظمة)) (1/ 394) واسحاق بن راهويه في ((مسنده)) (1/ 10): من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال البخاري في ((تهذيب التهذيب)) (9/ 524): لم يصح, وقال ابن حبان في ((تهذيب التهذيب)) (9/ 524): لست أعتمد على إسناده, وقال الدارقطني في ((تهذيب التهذيب)) (9/ 524): إسناده لا يثبت, وقال ابن كثير في ((التفسير)) (3/ 276): غريب جدا, وقال العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (8/ 148): وقد رويت قصة الصور بأحاديث من غير هذا الوجه بأسانيد جياد وألفاظ مختلفة وليس بطول هذا الحديث, وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 788): ظاهر النكارة. (¬3) رواه أحمد (3/ 178) (12847) قال السيوطي في ((البدور السافرة)) (118): إسناده صحيح, وقال مقبل الوادعي في ((الشفاعة)) (114): حسن لأن حرب بن ميمون صدوق وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬4) رواه مسلم (820).

هذه الشفاعة الثانية في استفتاح باب الجنة، وقد جاء في الأحاديث أنها أيضاً من المقام المحمود، وقال مسلم رحمه الله تعالى: حدَّثنا قتيبة بنُ سعيدٍ وإسحاقُ بنُ إبراهيم. قال قتيبةُ حدَّثنا جرير عن المختار بن فلفل عن أَنس بن مالك قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((أَنا أَوَّل الناس يشفع في الجنة، وأَنا أكثر الأنبياء تبعاً)) (¬1). وحدَّثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدَّثنا معاويةُ بنُ هشام عن سفيان عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أَنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأَنا أَوَّل من يقرع باب الجنة)) (¬2). وحدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن المختار بن فلفل قال: قال أنسُ بنُ مالكٍ قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ((أَنا أَوَّل شفيع في الجنة، لم يصَدَّق نبي من الأنبياء ما صُدِّقت، وإِنَّ من الأنبياء نبيّاً ما يصدقه من أمته إلاّ رجلٌ واحد)) (¬3). وحدَّثني عمرو الناقد وزهير بن حرب قالا حدَّثنا هاشم بن القاسم حدَّثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((آتي باب الجنة يومَ القيامةِ فأستفتح، فيقول الخازن، مَنْ أَنْتَ؟ فأقول محمد، فيقول بك أمرت لا أفتح لأَحَدٍ قبلك)) (¬4). قال حدَّثنا محمد بن طريف بن خليفة البجلي حدَّثنا محمد بن فضيل حدَّثنا أبو مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة، وأبو مالك عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يَجْمَعُ اللهُ تباركَ وتعالى النَّاسَ، فيقوم المؤمنون حتى تزلفُ لهم الجنَّة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئةُ أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله عز وجل. قال فيقول إبراهيم: لستُ بصاحب ذلك إنما كنت خليلاً من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تعالى تكليماً. فيأتون موسى عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله تعالى وروحه، فيقول عيسى عليه السلام: لست بصاحب ذلك. فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط فيمُرُّ أولكم كالبرق)) (¬5) وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدَّثنا يحيى بنُ بكير حدَّثنا الليثُ عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: سمعتُ حمزة بن عبد الله بن عمر قال سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يومَ القيامةِ ليس في وجهه مُزْعةُ لحم)) (¬6) وقال: ((إنَّ الشمس تدنو يومَ القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأُذن. فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم)). وزاد عبد الله حدثني الليث قال حدثني ابن أبي جعفر ((فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذٍ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلُّهم)) (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (196) (330). (¬2) رواه مسلم (196) (331). (¬3) رواه مسلم (196) (32). (¬4) رواه مسلم (197). (¬5) رواه مسلم (195). (¬6) رواه البخاري (1474). (¬7) رواه البخاري (1475).

ففي هذا الحديث الجمع بين ذكر الشفاعتين: الأولى في فصل القضاء، والثانية في استفتاح باب الجنة، وسمى ذلك كله المقام المحمود (هذا) أي ما ذكر (وهاتان الشفاعتان) المذكورتان اللتان هما المقام المحمود (قد خصتا) أي جعلهما الله تعالى خاصتين (به) أي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وليستا لأحد غيره (بلا نكران) بين أهل السنة والجماعة، بل ولم ينكرهما المعتزلة الذين أنكروا الشفاعة الثالثة في إخراج عصاة الموحدين من النار، وهي المشار إليها بقولنا: وَثَالِثاً يَشْفَعُ فِي أَقْوَامِ ... مَاتُوا عَلَى دِينِ الْهُدَى الإِسْلاَمِ وَأَوْبَقَتْهُمْ كَثْرَةُ الآثَامِ ... فَأُدْخِلُوا النَّارَ بِذَا الإِجْرَامِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى الْجِنَانِ ... بِفَضْلِ رَبِّ الْعَرْشِ ذِي الإِحْسَانِ فهذه الشفاعة حقٌ يؤمن بها أهل السنة والجماعة كما آمن بها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ودرج على الإيمان بذلك التابعون لهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأنكرها في آخر عصر الصحابة الخوارج، وأنكرها في عصر التابعين المعتزلة وقالوا بخلود من دخل النار من عصاة الموحدين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويشهدون أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت الحرام ويسألون الله الجنة ويستعيذون به من النار في كلّ صلاة ودعاء، غير أنهم ماتوا مصرّين على معصية عملية عالمين بتحريمها معتقدين مؤمنين بما جاء فيه الوعيد الشديد فقضوا بتخليدهم في جهنم مع فرعون وهامان وقارون، فجحدوا قول الله عز وجل أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] وقوله عز وجل أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] وقوله تعالى أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35 – 36] وغيرها من الآيات وسائر الأحاديث الواردة.

وقال البخاري رحمه الله تعالى: وقال حجَّاجُ بنُ منهال حدَّثنا همامُ بنُ يحيى حدَّثنا قتادةُ عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُحبس المؤمنون يومَ القيامةِ حتى يهموا بذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شيءٍ لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال فيقول: لست هناكم. قال ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها، ولكن ائتوا نوحاً أوَّل نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب سؤاله ربَّه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. قال فيأتون إبراهيم فيقول: إني لست هناكم، ويذكر ثلاث كلمات كذبهنَّ، ولكن ائتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة وكلَّمه وقرَّبه نجياً. قال فيأتون موسى فيقول: إنِّي لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله تعالى وكلمته، قال: فيأتون عيسى فيقول: لستُ هناكم، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله تعالى أن يدعني فيقول: ارفع محمد وقل يسمع واشفع تُشفّع وسل تُعط. قال: فأرفع رأسي فأثني على ربِّي بثناءٍ وتحميدٍ يُعلمنيه، ثم أشفع فيحدُّ لي حدّاً فأخرج فأدخلهم الجنة)). قال قتادة: وقد سمعته يقول ((فأخرج فأخرِجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأستأذن على ربِّي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفعْ محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسلْ تُعْطَ. قال: فأرفع رأسي فأثني على ربِّي بثناءٍ وتحميدٍ يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحد لي حدّاً فأخرج فأدخلهم الجنة)) قال قتادة: وسمعته يقول ((فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربِّي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفعْ محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسلْ تُعْطَ. قال: فأرفع رأسي فأثني على ربِّي بثناءٍ وتحميدٍ يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحد لي حدّاً فأخرج فأدخلهم الجنة)). قال قتادة: وقد سمعته يقول ((فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن)) أي وجب عليه الخلود. قال؛ ثم تلا هذه الآية عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] قال: وهذا المقام المحمود الذي وُعِدَهُ نبيكم صلى الله عليه وسلم)) (¬1). وقال أيضاً: حدَّثنا مسدد حدَّثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((يجمع الله الناس يومَ القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربِّنا حتى يريحنا من مكاننا – وذكره مختصراً وقال في الثالثة أو الرابعة – حتى ما بقي في النار إلاّ من حبسه القرآن)) وكان قتادة يقول عند هذا: أي وجب عليه الخلود (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (7440). (¬2) رواه البخاري (6565).

ورواه مسلم من طرق بنحوه، وقال رحمه الله تعالى: حدَّثنا أبو الربيع العتكيُّ حدَّثنا حماد بن زيد حدَّثنا معبدُ بنُ هلالٍ العنزيُّ. ح. وحدَّثنا سعيد بن منصور – واللفظ له، حدَّثنا حماد بن زيد حدَّثنا معبدُ بن هلال العنزي قال: انطلقنا إلى أنسٍ بن مالك، وتشفعنا بثابتٍ، فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابتٌ فدخلنا عليه وأجلس ثابت معه على سريره فقال: يا أبا حمزة إنَّ إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة. قال: حدَّثنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم فيقولون له: اشفع لذُرِّيتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنَّه خليلُ الله، فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى عليه السلام فإنَّه كليم الله، فيؤتى موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنَّه روح الله وكلمته، فيؤتى عيسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأوتى فأقول: أنا لها فأنطلق فأستأذن على ربِّي فيؤذن لي، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن، يُلهمنيه الله، ثم أَخرُّ له ساجداً فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع. فأقول: ربِّ أُمَّتِي أُمَّتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبةٍ من بُرَّةٍ أو شعيرة من إيمان فأخْرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أَخِرُّ له ساجداً له، فيقال لي يا محمَّدُ ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول، أُمَّتي أُمَّتي، فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه مثقالُ حبّةٍ من خردل من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي عز وجل فأحمده تلك المحامد، ثم أَخِرُّ له ساجداً، فيقال لي يا محمَّدُ ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول يا رب أُمَّتي، فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبةٍ من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل)) هذا حديث أنس الذي أنبأنا به، فخرجنا من عنده، فلما كنّا بظهر الجبَّان: قلنا لو ملنا إلى الحسن فسلَّمنا عليه وهو مستخفٍ في دار أبي خليفة. قال فدخلنا عليه فسلَّمنا عليه فقلنا: يا أبا سعيد جئنا من عند أخيك أبي حمزة فلم نسمع مثل حديث حدَّثناه في الشفاعة. قال: هيه. فحدَّثناه الحديث. فقال هيه. قلنا ما زادنا. قال: قد حدَّثنا به منذ عشرين سنةٍ وهو يومئذٍ جميعٌ، ولقد ترك شيئاً ما أدري أَنَسِيَ الشيخ أو كره أن يحدِّثكم فتتكلوا، قلنا له: حدَّثنا. فضحك وقال: خُلِقَ الإنسان من عَجَل، ما ذكرت لكُم هذا إلا وأنا أريدُ أن أحدثكموه ((ثم أرجع إلى ربِّي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد، فيقال لي يا محمَّدُ ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. قال: ليس ذاك لك – أو قال ليس ذاك إليك – ولكن وعِزَّتِي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأُخرجَنَّ من قال لا إله إلا الله)) قال: فأشهد على الحسن أنَّه حدَّثنا به أنَّه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه أراه قال: قبل عشرين سنة وهو يومئذٍ جميع (¬1). ¬

(¬1) رواه مسلم (193) (326).

وقال أيضاً: حدثنا محمد بنُ منهال الضَّرير حدَّثنا يزيد بن زُريع حدَّثنا سعيدُ بن أبي عروبة وهشامٌ صاحب الدَّسْتَوَائي عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ح. وحدَّثني أبو غسّان المِسْمَعيُّ ومحمد بن المثنى قالا حدثنا معاذ وهو ابن هشام قال حدَّثني أبي عن قتادة حدَّثنا أنس بنُ مالكٍ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرةً، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذَرَّة)) زاد ابن منهال في روايته. قال يزيدُ: فلقيتُ شعبة فحدَّثته بالحديث فقال شعبة حدَّثنا به قتادةُ عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث، إلا أنَّ شعبة جعل مكان الذرة ذُرَة، قال يزيد: صحَّف فيها أبو بسطام (¬1). وقال رحمه الله تعالى: حدَّثنا حجاج بن الشاعر حدَّثنا الفضل بنُ دكين حدَّثنا أبو عاصم يعني محمد بن أبي أيوب قال حدَّثني يزيد الفقير قال كنت قد شغفني رأيٌ من رأي الخوارج فخرجنا في عصابةٍ ذوي عددٍ نريد أن نَحُجّ، ثم نخرج على الناس، قال فمررنا على المدينة، فإذا جابرُ بن عبد الله رضي الله عنهما يحدِّث القوم، جالسٌ إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإذا هو قد ذكر الجهنَّميين قال فقلت له: يا صاحب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي تحدِّثون والله تعالى يقول رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] وكُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج: 22] فما هذا الذي تقولون؟ قال فقال: أتقرأُ القرآن؟ قلت نعم. قال فهل سمعت بمقامِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم يعني الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم. قال فإنَّه مقام محمدٍ صلى الله عليه وسلم المحمودُ الذي يخرج الله به من يخرج. قال ثم نعت وضع الصراط ومرَّ الناس عليه، قال وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك، قال غير أَنَّه قد زعم أنَّ قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال يعني فيخرجون كأنَّهم عيدان السَّماسم، قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس، فرجعنا قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فرجعنا فلا والله ما خرج منّا غير رجلٍ واحدٍ، أو كما قال أبو نعيم (¬2). وقال رحمه الله تعالى: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدَّثنا سفيانُ بن عيينة عن عمرو، سمع جابراً رضي الله عنه يقول: سمعه من النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بأُذنه يقول ((إنَّ الله يخرج ناساً من النار فيدخلهم الجنة)). (¬3) وفي رواية له عن حمَّاد بن زيد قال: قلت لعمرو بن دينار ((أسمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدِّث عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله يُخرج قوماً من النار بالشفاعة؟ قال نعم)) (¬4)، ورواه البخاري (¬5). وفي رواية له أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج قومٌ من النار بالشفاعة كأنَّهم الثَّعارير)) قلت ما الثعارير قال الضَّغابيس وكان قد سقط فمه (¬6). وقال حدَّثنا: هدبة بن خالدٍ حدثنا همَّام عن قتادة حدَّثنا أنسُ بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يخرج قومٌ من النار بعد ما مسَّهم منها سفعٌ. فيدخلون الجنة، فيسمِّيهم أهل الجنة الجهنميين)) (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (193) (325) , والبخاري (7410) مطولاً. (¬2) رواه مسلم (191) (320). (¬3) رواه مسلم (191) (317). (¬4) رواه مسلم (191) (318). (¬5) رواه البخاري (6558). (¬6) رواه البخاري (6558) (¬7) رواه البخاري (6559)

وقال رحمه الله تعالى حدَّثنا قتيبة بن سعيد حدَّثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يومَ القيامة؟ فقال ((لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوَّل منك، لما رأيتُ من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يومَ القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) (¬1). وهذه الشفاعة الثالثة قد فسّر بها المقام المحمود أيضاً كما في حديث أنس وحديث جابر رضي الله عنهما فيكون المقام المحمود عامّاً لجميع الشفاعات التي أوتيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لكن جمهور المفسرين فسروه بالشَّفاعتين الأوليين لاختصاصه صلى الله عليه وسلم بهما دون غيره من عباد الله المكرمين، وأمَّا هذه الشفاعة الثالثة فهي وإن كانت من المقام المحمود الذي وعده فليست خاصة به صلى الله عليه وسلم بل يؤتاها كثيرٌ من عباد الله المخلصين ولكن هو صلى الله عليه وسلم المقدم فيها، ولم يشفع أحد من خلق الله تعالى في مثل ما يشفع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدانيه في ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، ثم بعده يشفع من أذن اللهُ تعالى له من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين وسائر أولياء الله تعالى من المؤمنين المتقين، ويشفع الأفراطُ كل منهم يكرمه الله تعالى على قدر ما هو له أهل، ثم يخرج الله تعالى من النار برحمته أقواماً بدون شفاعة الشافعين، ولذا قلنا في ذلك: وَبَعْدَهُ يَشْفَعُ كُلُّ مُرْسَلِ ... وَكُلُّ عَبْدٍ ذِي صَلاَحٍ وَوَلِي وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النِّيْرَانِ ... جَمِيْعَ مَنْ مَاتَ عَلَى الإِيْمَانِ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ يُطْرحُونَا ... فَحْماً فَيَحْيَونَ وَيَنْبُتُونَا كَأَنَّمَا يَنْبُتُ فِي هَيْئَاتِهِ ... حَبُّ حَمِيْلِ السَّيْلِ فِي حَافَاتِهِ تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه في طريق الرؤية قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ((حتَّى إذا فرغ الله تعالى من فصل القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممَّن يشهد أن لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجلٌ مقبلٌ بوجهه على النار هو آخر أهل النار دخولاً الجنة)) (¬2). الحديث تقدم بطوله. ¬

(¬1) رواه البخاري (99) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بزيادة ((أو نفسه)). (¬2) رواه البخاري (7437) ومسلم (182).

وتقدم حديث أبي سعيد المتفق عليه أيضاً بطوله – وفيه في نعت المرور على الصراط: ((حتى يمر آخرهم يُسحب سحباً، فما أنتم بأشدَّ لي مناشدة في الحق، قد تبيَّن لكم من المؤمن يومئذٍ للجبار إذا رأوا أنَّهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربَّنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه ويحرم الله تعالى صورهم على النار فيأتونهم وبعضهم قد غار في النار إلى قدميه وإلى أنصاف ساقيه فيُخرجون من عرفوا. ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيُخرجون من عرفوا. ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيُخرجون من عرفوا – قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرؤوا إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء: 40] فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبّار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبَّةُ في حميل السيل قد رأيتموها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خيرٍ قدَّموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه)) (¬1). وفي لفظ مسلم ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحدٍ بأشد مناشدة لله في استقصاء الحقِّ من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربَّنا كانوا يصومون معنا ويصلون معنا ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون ربَّنا ما بقي فيها أحَدٌ ممَّن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدَّتُم في قلبه مثقال دينار من خيرٍ فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيراً. ثم يقولون: ربَّنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا بهم. يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينارٍ من خيرٍ فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً. ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرةٍ من خير فأخرجوه، فيُخرجون كثيراً. ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، وكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: إنْ لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء: 40]، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نَهْر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبَّة في حميل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض. فقالوا يا رسول الله كأنَّك ترعى بالبادية، قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء اللهِ الذين أدخلهم الله الجنة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قدّموه. ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموهُ فهو لكم، فيقولون ربَّنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين. فيقول: لكم عندي أفضل من هذا. فيقولون: ربَّنا أيُّ شيءٍ أفضل من هذا؟ فيقول رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (7439). (¬2) رواه مسلم (183).

وفيهما من حديثه أيضاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((يُدخل الله أهل الجنةِ الجنةَ يدخل من يشاء في رحمته ويدخل أهل النارِ النارَ. ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبَّةٍ من خردل من إيمان فأخرجوهُ، فيُخرجون منها حمماً قد امتحشوا فيُلْقَوْنَ في نهر الحياة أو الحيا فينبتون فيه كما تنبت الحبَّةُ إلى جانب السيل ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتويةً)) (¬1) – وفي رواية لمسلم: ((كما تنبت الغثاءة في جانب السيل)) (¬2). وله عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أمَّا أهل النار الَّذِين هم أهلها فإنَّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناسٌ أصابتهم النار بذنوبهم – أو قال بخطاياهم – فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أُذِنَ بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبُثُّوا على أنهار الجنة، ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل. فقال رجلٌ من القوم: كأنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية)) (¬3). وللترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه يقول: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: ((وعَدَنِي ربِّي أن يدخل الجنة من أُمَّتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب. مع كلُّ ألفٍ سبعون ألفاً وثلاث حثياتٍ من حثيات ربِّي)) هذا حديث حسن غريب (¬4). وله عن عبد الله بن شقيق قال: كنت مع رهطٍ بإيليا فقال رجلٌ منهم: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((يدخل الجنة بشفاعةِ رجل من أُمَّتي أكثر من بني تميم. قيل: يا رسول الله سواك؟ قال: سواي)) فلما قام قلت: مَنْ هذا؟ قالوا هذا ابن أبي الجدعاء. (¬5) هذا حديث حسن صحيح غريب، وابن أبي الجدعاء هو عبد الله، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد ورواه ابن ماجه. وللترمذي أيضاً عن أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ مِنْ أُمَّتي من يشفع للفئام من الناس، منهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرجل. حتى يدخلوا الجنة)). هذا حديث حسن (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (6560) , ومسلم (184). (¬2) رواه مسلم (184) (305). (¬3) رواه مسلم (185). (¬4) رواه الترمذي (2437) , وابن ماجه (4286) , وأحمد (5/ 268) , والطبراني (8/ 110) , قال الترمذي هذا حديث حسن غريب, وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (16/ 460): إسناده قوي, وقال ابن كثير في ((التفسير)) (2/ 82): إسناده جيد, وصححه الألباني في ((السلسة الصحيحة)) (4/ 541). (¬5) رواه الترمذي (2438) , وابن ماجه (4316) , وأحمد (3/ 469) (15895) , وابن حبان (16/ 376) , والحاكم (1/ 142) , والدارمي (2/ 423) , قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب, وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬6) رواه الترمذي (2440) , وأحمد (3/ 63) (11623) , قال الترمذي هذا حديث حسن, وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)).

وروى أبو داود عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: يخرجُ قومٌ من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويُسمَّون الجهنميين)) (¬1) ورواه ابن ماجه. وله عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((خُيِّرتُ بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أُمَّتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى، ترونها للمتَّقين، لا ولكنها للمذنبين الخطَّائين المتلوَّثين)) (¬2). وله عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((أتدرون ما خيَّرني ربِّي الليلة؟ قلنا: اللهُ ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم، قال: فإنَّه خيَّرني بين أن يُدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترتُ الشفاعة. قلنا: يا رسول الله ادع الله أنْ يجعلنا من أهلها. قال: هي لكلِّ مسلم)). (¬3) ورواه الترمذي بلفظ ((فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يُشْرِكُ باللهِ شيئاً)) (¬4) والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً مشهورة مستفيضة بل متواترة، وقد ذكرنا منها ما فيه كفاية، وتقدم في أحاديث الرؤية جملة منها عن جماعة من الصحابة، وبقي من النصوص في هذا الباب كثير، وبالله التوفيق. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- ص 1062 ومن الشفاعات الثابتة التي أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم شفاعته لمن سكن في المدينة المنورة ومات بها وهذه الشفاعة فيها كذلك إكرام للمدينة المنورة ولمن سكن بها صابراً على لأوائها مفضلاً لها على غيرها، وقد شرفها الله بميزات عديدة ليس هنا موضع ذكرها ومن ذلك أن جعلها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاصمة الإسلام الأولى، وأنه يأرز إليها الإيمان كما تأرز الحية إلى جحرها (¬5). ثم ميزها الله تعالى عن سائر البقاع بثبوت شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم لأهلها اعتناء خاصاً بهم ومزيد تشريف لها. ومن الأدلة على ذلك ما جاء عن عامر بن سعيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها, أو يقتل صيدها)) , وقال: ((المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون, لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه, ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً، أو شهيداً، يوم القيامة)) (¬6). وعن أبي سعيد مولى المهدي أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء عن المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره ألَّا صبر له على جهد المدينة ولأوائها. فقال له: ويحك لا آمرك بذلك: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذا كان مسلماً)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (6566). (¬2) رواه ابن ماجه (4311) , قال الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)): ضعيف بهذا التمام وصحيح دون قوله: ((لأنها)). وقال مقبل الوادعي في ((الصحيح المسند)) (830): رجاله رجال الصحيح إلا إسماعيل بن أسيد. ورواه أحمد (2/ 75) (5452) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (7/ 227) والألباني في ((كتاب السنة)) (791): إسناده ضعيف, (¬3) رواه ابن ماجه (4317) , وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) , وقال مقبل الوادعي في ((أحاديث معلة)) (341): سنده رجال الصحيح ولكن قال ابن خزيمة: قول سليم سمعت عوفا أخاف أن يكون وهما وقال أبو حاتم: لم يسمع سليم بن عامر من عوف بن مالك. (¬4) رواه الترمذي (2441) , وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) رواه البخاري (1876)، ومسلم (147). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه مسلم (1363). (¬7) رواه مسلم (1374).

وعن يُحنس مولى الزبير أخبره أنه كان جالساً عند عبد الله بن عمر في الفتنة فأتته مولاة له تسلم عليه، فقالت: إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن، اشتد علينا الزمان، فقال لها عبد الله: اقعدي لكاع؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد فيموت إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة إذا كان مسلماً)) (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شهيداً يوم القيامة أو شفيعاً)) (¬2). ومن تلك النصوص السابقة يتبين ثبوت شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة، وأنه يكون شهيداً وشفيعاً لهم. وقد ورد الحديث بإثبات (أو)، وفي هذا إشكال؛ هل (أو) هنا جاءت لشك من الرواة، أم إنها صحيحة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون إيرادها هكذا للتقسيم؛ بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون شهيداً لبعض أهل المدينة وشفيعاً لبقيتهم، أو يكون شفيعاً للعاصين, وشهيداً للمطيعين، أو شهيداً لمن مات في حياته, وشفيعاً لمن مات بعده، أو تكون (أو) هنا بمعنى الواو، ويكون المعنى أنه يكون شفيعاً وشهيداً لهم. وقد أجيب عن هذا الاستشكال بجواب امتدحه القاضي عياض كما نقله عنه النووي بأنه جواب مقنع يعترف بصوابه كل من وقف عليه، فقال: (سألت قديماً عن معنى هذا الحديث، ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا، مع عموم شفاعته وادخاره إياها لأمته؟ قال: وأجيب عنه بجواب شافٍ - مقنع في أوراق – اعترف بصوابه كل واقف عليه. قال: وأذكر منه هنا لمعاً تليق بهذا الموضع؛ قال بعض شيوخنا: (أو) هنا للشك، والأظهر عندنا أنها ليست للشك، لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبي عبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، ويبعد اتفاقهم جميعاً، أو رواتهم على الشك، وتطابقهم فيه على صيغة واحدة. بل الأظهر أنه قاله صلى الله عليه وسلم هكذا؛ فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا، وإما أن يكون (أو) للتقسيم، ويكون شهيداً لبعض أهل المدينة وشفيعاً لبقيتهم: إما شفيعاً للعاصين وشهيداً للمطيعين، وإما شهيداً لمن مات في حياته وشفيعاً لمن مات بعده، أو غير ذلك. قال القاضي: وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين في القيمة وعلى شهادته على جميع الأمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: ((أنا شهيد على هؤلاء)) (¬3)، فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية أو زيادة منزلة وحظوة. قال: وقد يكون (أو) بمعنى الواو؛ فيكون لأهل المدينة شفيعاً وشهيداً. قال: وقد روى: ((إلا كنت له شهيداً وله شفيعاً)) (¬4). قال: وإذا جعلنا (أو) للشك كما قاله المشايخ؛ فإن كانت اللفظة الصحيحة (شهيدا) اندفع الاعتراض؛ لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيره، وإن كانت اللفظة الصحيحة (شفيعاً) فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار، ومعافاة بعضهم منها بشفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش، أو كونهم في روح وعلى منابر، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض) (¬5). وذكر هذه الشفاعة لساكني المدينة لا شك أنها مزية عظيمة لهم، ولكن ليس معنى هذا أن الشفاعة تعم كل من سكن المدينة على ما كان من العمل، كما قد يركن إليه بعض أهل الأماني، بل هذه المزية خاصة بمن سكن المدينة مؤمناً بالله ورسوله، عاملاً بما أوجبه الله عليه، صابراً على ما يصيبه فيها من آلام ومشاق؛ حباً فيها وتقديماً لها على غيرها؛ فهذا هو الذي يستحق مزية الاعتناء به والاهتمام بالشفاعة فيه كما أشار إليه الحديث. أما من سكن فيها، ولم يشكر تلك النعمة؛ فأفسد فيها بما يتنافى مع حرمتها؛ فقد توعده الرسول صلى الله عليه وسلم باللعن، كما في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة، قال: ((المدينة حرم, فمن أحدث فيها حدثاً, أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله, والملائكة, والناس أجمعين, لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف)) (¬6). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 407 ¬

(¬1) رواه مسلم (1377). (¬2) رواه مسلم (1378). (¬3) رواه البخاري (1347). (¬4) رواه مسلم (1377). بلفظ: ((أو شفيعاً)) بدلاً من: ((وله شفيعاً)). (¬5) ((شرح النووي لمسلم)) (3/ 513). (¬6) رواه مسلم (1371).

المبحث الرابع: الشفاعات التي لم يثبت بها نص صحيح

المبحث الرابع: الشفاعات التي لم يثبت بها نص صحيح 1 - اعتقاد شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن زار قبره من الناس بعد موته. ومن الآثار التي يستدل بها من يثبت تلك الشفاعة؛ الأحاديث الآتية: 1 - عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من زار قبري, أو قال: من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة)) (¬1). 2 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شهيداً، أو شفيعاً يوم القيامة)) (¬2). 3 - ((من زارني حتى ينتهي إلى قبري، كنت له يوم القيامة شهيداً)) (¬3). 4 - ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) (¬4). 5 - ((من جاءني زائراً، لا تعمله حاجة إلا زيارتي، كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)) (¬5). 6 - ((من زار قبري حلت له شفاعتي)) (¬6). 7 - ((من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة)) (¬7). 8 - ((من أتى المدينة زائراً لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً)) (¬8). ¬

(¬1) رواه الطيالسي (ص 12) (65)، والبيهقي (5/ 245) (10053)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 212). قال البيهقي: هذا إسناد مجهول، وقال المنذري: [فيه] رجل من آل عمر لم يسم، وقال ابن عبدالهادي في ((الصارم المنكي)) (171): ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه، ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه. (¬2) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 489)، والجرجاني في ((التاريخ)) (1/ 433). من حديث أنس رضي الله عنه وليس عبد الله بن عمر رضي الله عنه. قال ابن عبدالهادي في ((الصارم المنكي)) (287): ليس بصحيح ولا ثابت، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/ 904): [فيه] سليمان ضعفه ابن حبان والدارقطني، وطرق هذا الحديث كلها ضعيفة. (¬3) ذكره ابن عبدالهادي في ((الصارم المنكي)) (295) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال: موضوع وقد وقع تصحيف في متنه وفي إسناده. (¬4) رواه الدارقطني (2/ 278)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 490) (4159). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (467) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وجوّد إسناده ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/ 296). (¬5) رواه الطبراني (12/ 291) (13149). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (ص: 93): ضعيف الإسناد منكر المتن، قال الهيثمي (4/ 5): فيه مسلمة بن سالم وهو ضعيف. (¬6) رواه الدارقطني (2/ 278)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 490) (4159). بلفظ: (وجبت)) بدلا من ((حلت)). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (ص: 467) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وجوّد إسناده ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/ 296). (¬7) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 488)، والعقيلي في ((الضعفاء)) (4/ 361). من حديث رجل من آل الخطاب. قال ابن عبدالهادي في ((الصارم المنكي)) (ص: 173): مداره على هارون وهو شيخ مجهول ذكره أبو الفتح الأزدي وقال: هو متروك الحديث لا يحتج به، وقال الذهبي ((ميزان الاعتدال)) (4/ 285): [فيه] هارون بن قزعة قال البخاري: لا يتابع عليه. (¬8) ذكره ابن عبدالهادي في ((الصارم المنكي)) (ص: 302) من حديث بكير بن عبدالله رضي الله عنه. وقال: باطل لا أصل له.

وتلك الأحاديث كلها لم يثبت منها شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، وآفتها في رواتها؛ فهم ما بين ضعيف, أو كذاب, أو مجهول, أو وضاع، لا يعتمد على روايتهم، ولا يركن إليها، ولم يروها كذلك إلا من لم يشترط الصحة في نقل الحديث. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - في رده على القائلين لمشروعية زيارة القبر الشريف: (فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة، لا يعتمد على شيء فيها في الدين؛ ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئاً منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف؛ كالدارقطني والبزار وغيرهما) (¬1). أما الحديث الأول: فإن إسناده فيه جهالة، وفيه اضطراب، وقد أخرجه البيهقي في سننه, وحكم عليه بجهالة إسناده (¬2). ويقول ابن عبد الهادي: (هذا الحديث ليس بصحيح؛ لانقطاعه, وجهالة إسناده, واضطرابه) (¬3). أما الحديث الثاني: ((من زارني بالمدينة محتسباً))، فقد أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان)، وأورده السيوطي في (الجامع الصغير) (¬4) ورمز لحسنه، لكن المناوي رد عليه هذا التحسين، وقال بأنه (ليس بحسن، ففيه ضعفاء، منهم أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي. قال الذهبي: ترك. وقال أبو حاتم: منكر الحديث) (¬5). ويقول ابن عبد الهادي في الحكم على هذا الحديث: (هذا الحديث ليس بصحيح ولا ثابت، بل هو حديث ضعيف الإسناد منقطع، ولو كان ثابتاً لم يكن فيه دليل على محل النزاع، ومداره على أبي المثنى سليمان بن يزيد الكعبي الخزاعي المديني، وهو شيخ غير محتج بحديثه، وهو بكنيته أشهر منه باسمه، ولم يدرك أنس بن مالك؛ فروايته عنه منقطعة غير متصلة، وإنما يروي عن التابعين وأتباعهم، وقد ذكره ابن حبان في كتاب (الثقات في أتباع التابعين)، وذكره أيضاً في كتاب (المجروحين) (¬6). ثم ذكر ما قاله ابن حبان فيه في كتاب (الثقات)، وما قاله فيه كتاب (المجروحين) من تضعيف. ويقول فيه ابن حجر: (أبو المثنى الخزاعي اسمه سليمان بن يزيد: ضعيف) (¬7). وأما الحديث الثالث وهو: ((من زارني حتى ينتهي إلى قبري)) إلخ؛ فقد ذكره السبكي في كتاب (شفاء السقام)، وقال: (ذكره الحافظ أبو جعفر العقيلي في كتاب (الضعفاء) في ترجمة فضالة بن سعيد بن زميل المازني .. إلى أن يقول: وذكره الحافظ ابن عساكر من جهته أيضاً .. وفضالة بن سعيد قال العقيلي في ترجمته: حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به. . هكذا رأيته في كتاب العقيلي. وذكر الحافظ ابن عساكر عنه أنه قال: لا يتابع على حديثه من جهة تثبت, ولا يعرف إلا به) (¬8). (وقد بين العلامة ابن عبد الهادي أن هذا الحديث (حديث منكر جداً، ليس بصحيح ولا ثابت؛ بل هو حديث موضوع على ابن جريج). ويذكر كذلك أنه وقع تصحيف في متنه وفي إسناده أيضاً أما التصحيف في متنه؛ فقوله: ((من زارني)) من الزيارة، وإنما هو ((من رآني في المنام كان كمن زارني في حياتي)). هكذا روايته في كتاب العقيلي. وفي نسخة ابن عساكر: ((من رآني)) من الرؤية، وعلى هذا يكون معناه معنى الحديث الصحيح: ((من رآني في المنام فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل بي)) (¬9). ¬

(¬1) ((القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 72). (¬2) ((السنن الكبرى)) (5/ 245). (¬3) ((الصارم المنكي في الرد على السبكي)) (ص: 86). (¬4) ((الجامع الصغير)) (2/ 172). (¬5) ((فيض القدير)) (6/ 140). (¬6) ((الصارم المنكي في الرد على السبكي)) (ص: 162). (¬7) ((تقريب التهذيب)) (2/ 469). (¬8) ((شفاء السقام)) (ص: 38). (¬9) رواه البخاري (110)، ومسلم (2266). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

أما التصحيف في إسناده فقوله: سعيد بن محمد الحضرمي، والصواب: شعيب بن محمد، كما في رواية ابن عساكر، والحديث ليس بثابت على كل حال سواء كان بلفظ الزيارة أو الرؤية، وراويه فضالة بن سعيد بن زميل المازني شيخ مجهول، لا يعرف له ذكر إلا في هذا الخبر الذي تفرد به، ولم يتابع عليه) (¬1). وأما الحديث الرابع وهو: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) فقد أورده السيوطي (¬2) , ورواه البزار (¬3) , والدارقطني (¬4). وقد رمز السيوطي لضعف الحديث، وفي إسناده كذلك راو ضعيف، وهو عبد الله بن إبراهيم الغفاري؛ قال الهيثمي: (وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري، وهو ضعيف) (¬5). ويقول ابن حجر عن هذا الراوي: (عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري، أبو محمد المدني: متروك، نسبه ابن حبان إلى الوضع) (¬6). وقال ابن عبد الهادي عن الحديث: (وهو حديث منكر ضعيف الإسناد واه الطريق لا يصلح للاحتجاج بمثله، ولم يصححه أحد من الحفاظ المشهورين، ولا اعتمد عليه أحد من الأئمة المحققين) (¬7). وفيه كذلك من جهة الإسناد راو تكلم فيه العلماء وضعفوه؛ وهو عبد الله بن عمر العمري؛ يقول ابن عبد الهادي: (وقد تكلم في عبد الله العمري جماعة من أئمة الجرح والتعديل، ونسبوه إلى سوء الحفظ, والمخالفة للثقات في الروايات). ثم نقل كلام العلماء في تجريحه (¬8) , وأن هذا الحديث لا يثبت به شيء، ولا يعتمد عليه محقق. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث: (وأما قوله: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) وأمثال هذا الحديث – مما روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم – فليس منها شيئاً صحيحاً، ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيء؛ لا أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم، ولا أصحاب السنن كأبي داود والنسائي، ولا الأئمة من أهل المسانيد كالإمام أحمد وأمثاله، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه كمالك, والشافعي, وأحمد, وإسحاق بن راهويه, وأبي حنيفة, والثوري, والأوزاعي, والليث بن سعد، وأمثالهم؛ بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة). إلى أن يقول عن سند الحديث: (ومداره على عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف) (¬9) إلخ. أما الحديث الخامس وهو: ((من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلا زيارتي ... )) إلخ وفي رواية ذكرها الذهبي: ((لا تنزعه حاجة إلا زيارتي)) فقد أخرج هذا الحديث الطبراني (¬10) والدارقطني (¬11)، وهو من الأحاديث التي أوردها السبكي في كتابه (شفاء السقام) (¬12) وانتصر لها. وهذا الحديث غير ثابت بسند صحيح؛ قال فيه ابن عبد الهادي: (ليس فيه ذكر الزيارة للقبر، ولا ذكر الزيارة بعد الموت، مع أنه حديث ضعيف الإسناد، منكر المتن، لا يصلح الاحتجاج به، ولا يجوز الاعتماد على مثله، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا رواه الإمام أحمد في مسنده، ولا أحد من الأئمة المعتمد على ما أطلقوه في رواياتهم، ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه. ¬

(¬1) ((الصارم المنكي)) (ص: 167). (¬2) ((الجامع الصغير)) (2/ 172) , ورمز لضعفه. (¬3) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) (4/ 5) للهيثمي. (¬4) رواه الدارقطني (2/ 278). (¬5) ((مجمع الزوائد)) (4/ 5). (¬6) ((تقريب التهذيب)) (1/ 400). (¬7) ((الصارم المنكي)) (ص: 130). (¬8) ((الصارم المنكي)) (11 - 28). (¬9) ((كتاب الزيارة ضمن الجامع الفريد)) (ص: 382)، ((مجموع الفتاوى)) (27/ 221). (¬10) ((مجمع الزوائد)) (4/ 2). (¬11) لم أقف عليه من رواية الدارقطني. (¬12) ((شفاء السقام)) (ص: 16).

ثم ذكر ابن عبد الهادي علة أخرى لضعف الحديث؛ وهو أنه ضعيف الإسناد، لأنه تفرد به شيخ لم يعرف بنقل العلم، ولم يشتهر بحمله، ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبره، وهو مسلمة بن سالم الجهني الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر) (¬1). ويقول فيه ابن حجر (¬2): (مسلم بن سالم الجهني بصري، كان يكون بمكة، ضعيف، ويقال فيه: مسلمة بزيادة هاء). وأما الحديث السادس وهو: ((من زار قبري حلت له شفاعتي))، فقد أخرجه البزار في مسنده (¬3)، وقد عزاه عبد الحق إلى الدارقطني أيضاً فيما يذكر السبكي (¬4)، وفيه راويان ضعيفان، تكلم فيهما العلماء بالتجريح، وهما عبد الله بن إبراهيم الغفاري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ويقول ابن عبد الهادي في رده على السبكي: (واعلم أن هذا الحديث الذي ذكره من رواية البزار، حديث ضعيف منكر ساقط الإسناد، لا يجوز الاحتجاج بمثله عند أحد من أئمة الحديث وحفاظ الأثر ... وأما عبد الله بن إبراهيم، فهو ابن أبي عمرو الغفاري، أبو محمد المدني يقال: إنه من ولد أبي ذر الغفاري، وهو شيخ ضعيف الحديث جداً منكر الحديث، وقد نسبه بعض الأئمة إلى الكذب ووضع الحديث). ثم ذكر ما قاله العلماء في تجريحه إلى أن قال: (وأما عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ فضعيف غير محتج به عند أهل الحديث). ثم ذكر كذلك ما قاله العلماء في تجريحه من أوصاف ترد روايته (¬5). وأما الحديث السابع وهو: ((من زارني متعمداً)) إلخ الحديث. فقد أخرجه أبو جعفر العقيلي كما ذكر السبكي (¬6). يقول ابن عبد الهادي: (إن هذا الحديث ضعيف مضطرب مجهول الإسناد، من أوهى المراسيل وأضعفها) (¬7). وأما الحديث الأخير وهو الثامن: ((من أتى المدينة زائراً .. )) إلخ الحديث. فإن السبكي (¬8) عزاه إلى يحيى الحسيني في أخبار المدينة، ثم ساق الحديث دون أن يبين السبكي درجة الحديث عنده ولا الرجل المبهم في السند. قال ابن عبد الهادي عن هذا الحديث: (حديث باطل لا أصل له، وخبر معضل لا يعتمد على مثله، وهو من أضعف المراسيل وأوهى المنقطعات، ولو فرض أنه من الأحاديث الثابتة؛ لم يكن فيه دليل على محل النزاع) (¬9). وبعرض ما تقدم: يتضح أنه لم يثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في استحقاق الشفاعة لزائر قبره الشريف صلى الله عليه وسلم. 2 - الشفاعة للأقرب فالأقرب منه صلى الله عليه وسلم: ورد في ذلك حديث ضعيف يدل على ترتيب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يبتدئ بالأقرب فالذي يليه، إلى أن ينتهي بالعجم، وهذا ما يفيده حديث ابن عمر الذي أخرجه الطبراني والدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أول من أشفع له من أمتي أهل بيتي, ثم الأقرب فالأقرب, ثم الأنصار, ثم من آمن بي من أهل اليمن, ثم سائر العرب, ثم سائر الأعاجم, ومن أشفع له أولاً أفضل)) (¬10). ¬

(¬1) ((الصارم المنكى)) (38). (¬2) ((تقريب التهذيب)) (2/ 245). (¬3) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) (4/ 5) للهيثمي. (¬4) ((شفاء السقام)) (14). (¬5) ((الصارم المنكى)) (ص: 30). (¬6) ((شفاء السقام)) (ص: 31). (¬7) ((الصارم المنكى)) (ص: 92). (¬8) ((الصارم المنكى)) (ص: 40). (¬9) ((الصارم المنكى)) (ص: 171). (¬10) أخرجه الطبراني (12/ 421) (13550)، والدارقطني في ((أوهام الجمع والتفريق)) (2/ 48). وقال: غريب من حديث ليث عن مجاهد تفرد به حفص بن أبي داود عنه، وقال الذهبي في ((ترتيب الموضوعات)) (311): رواه حفص بن أبي داود متروك، وقال الهيثمى في ((مجمع الزوائد)) (10/ 383): فيه من لم أعرفهم.

وقد قال الدارقطني بعد أن أخرجه: (تفرد به حفص عن ليث، وقد ضعف الحديث بسبب هذين الراويين؛ لأن ليثاً ضعيف، وحفص كذاب وهو المتهم به كما يذكر السيوطي (¬1)، فالحديث من رواية كذاب عن ضعيف. ويقول ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات) في باب ذكر الشفاعة بعد أن أخرج الحديث قوله: (قال المصنف: قلت: أما ليث فغاية في الضعف عندهم، إلا أن المتهم هذا حفص. قال أحمد ومسلم والنسائي: هو متروك) (¬2). ويقول ابن حجر: (ليث بن أبي سليم بن زنيم – بالزاي والنون مصغراً – واسم أبيه أيمن. وقيل غير ذلك، صدوق اختلط أخيراً، ولم يتميز حديثه فترك) (¬3). ويقول عن حفص: (حفص بن أبي داود القارئ، صاحب عاصم، ويقال له: حفيص، متروك الحديث مع إمامته في القراءة) (¬4). وبهذا نعلم أن تلك الرواية ضعيفة وغير مقبولة، وأن الوارد والثابت من أحاديث الشفاعة أنه يشفع لكل مؤمن عندما يأذن له الله بالشفاعة فيه دون نظر إلى جنسه أو نسبه. 3 - ومن الشفاعات غير الثابتة أيضاً: القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خص بشفاعته أهل مدن بعينها؛ كمكة والمدينة والطائف وغيرها من المدن: فإن هذا لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه حدد الشفاعة لأهل مدن معينة، أو ذكر أهل بلدان يخصهم بالشفاعة، غير ما ورد عن أهل المدينة فيمن فضلها على غيرها, وسكن بها صابراً على لأوائها وشدتها، ومات بها. أما الحديث الذي يروى هنا في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل مدن بعينها؛ فهو عن عبد الملك بن عباد بن جعفر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أول من أشفع له من أمتي أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل الطائف)) (¬5)، وهذا الحديث في إسناده مجاهيل، كما قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (¬6). 4 - ومن الشفاعات التي لم تثبت كذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ذكر من شفاعته عليه الصلاة والسلام لأكثر مما على وجه الأرض من شجر ومدر: كما جاء عن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني أشفع يوم القيامة لأكثر مما على وجه الأرض من شجر ومدر)) (¬7). قال السفاريني: وأخرجه الطبراني في ((الأوسط)) عن أنيس الأنصاري، ولفظه: ((أكثر مما على وجه الأرض من شجر ومدر)) (¬8) (¬9). ¬

(¬1) ((اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة)) (2/ 450). (¬2) ((الموضوعات لابن الجوزي)) (3/ 250). (¬3) ((تقريب التهذيب)) (2/ 138). (¬4) ((تقريب التهذيب)) (1/ 186). (¬5) رواه الطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (10/ 384) وقال: فيه جماعة لم أعرفهم. (¬6) ((مجمع الزوائد)) (10/ 384) وقال: فيه جماعة لم أعرفهم. (¬7) رواه بنحوه أحمد (5/ 347) (22993)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (12/ 329)، والديلمي (1/ 60) (171). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 288): إسناده حسن. (¬8) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5/ 295) (5360)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) من طريق الطبراني (1/ 250) (857). قال الهيثمي (10/ 382): فيه أحمد بن عمرو صاحب علي بن المديني ويعرف بالقلوري ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا على ضعف في بعضهم. (¬9) ((لوامع الأنوار البهية)) (ص: 205)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/ 309).

وروى الإمام أحمد عن بريدة قال: ((دخلت على معاوية، فإذا رجل يتكلم، فقال بريدة: يا معاوية، أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم، وهو يرى أنه سيتكلم بمثل ما قال الآخر، فقال بريدة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة أو مدرة قال: أفترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها علي بن أبي طالب رضي الله عنه)) (¬1). ولكن في سند الحديث أبو إسرائيل الملائي، وهو ضعيف، قال الهيثمي بعد أن أورد الحديث عن أحمد, قال: (ورجاله وثقوا على ضعف كثير في أبي إسرائيل الملائي) (¬2). وأورد الهيثمي حديثاً عن بريدة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كثير الحجر والشجر، ثلاث مرات. قلنا: نعم. قال: والذي نفسي بيده، لشفاعتي أكثر من الحجر والشجر)) (¬3)، قال الهيثمي: وفيه سهل بن عبد الله بن بريدة وهو ضعيف (¬4). 5 - الشفاعة لمن مات في أحد الحرمين: وهذه الشفاعة لم أجد فيها حديثا صحيحا، ويستدل من يقول بها بما روي عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي، وكان يوم القيامة من الآمنين)) (¬5). وهذا الحديث لا يتم الاستدلال به كذلك على ثبوت هذه الشفاعة؛ لأن في سنده عبد الغفور بن سعيد، وهو متروك كما يذكر الهيثمي (¬6). أما من مات بالمدينة فقد تقدم الكلام فيه. 6 - ومن الأسباب الأخرى في الشفاعات غير الثابتة: ما جاء عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا شفيع لكل رجلين تآخيا في الله من مبعثي إلى يوم القيامة)) (¬7). والحديث ضعيف، لأن في سنده عمرو بن خالد الكوفي، وهو أبو خالد الواسطي، وهو كذاب كما قال عنه وكيع، وقال ابن حجر: إنه متروك (¬8). والتآخي في الله أمر مطلوب، وقد حث عليه الشرع ورغب فيه، والمؤمنون يشفع بعضهم في بعض، كما صرحت بذلك النصوص النبوية، لكن القول بأن التآخي مما يوجب الشفاعة؛ هو الذي يتوقف القول به على ثبوت صحته. 7 - ومنها كذلك ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه)) (¬9). ومن تأمل القصد من وراء هذا الحديث، يرى أن وضع الشيعة ظاهر عليه. والحديث غير ثابت، لأن في سنده داود بن سليمان الجرجاني، وهو مجهول. قال فيه ابن أبي حاتم: (داود بن سليمان الجرجاني. سمعت أبي يقول: هو مجهول) (¬10). ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 347) (22993)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (12/ 329)، والديلمي (1/ 60) (171). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 288): إسناده حسن. (¬2) ((مجمع الزوائد)) (10/ 381). (¬3) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 246) (4100). (¬4) ((مجمع الزوائد)) (10/ 381). (¬5) رواه الطبراني (6/ 240) (6104)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 496). قال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (2/ 600): لا يصح والمتهم به عبد العزيز الواسطي، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 322): فيه عبد الغفور بن سعيد وهو متروك. (¬6) ((مجمع الزوائد)) (2/ 322). (¬7) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 368)، والديلمي (1/ 49) (127). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (1723): موضوع. (¬8) ((تقريب التهذيب)) (2/ 69). (¬9) ((عزاه في الشفاعة)) (ص: 253) إلى أبي طالب في ((الأمالي)). (¬10) ((الجرح والتعديل)) (3/ 413).

وقال الذهبي: (داود بن سليمان الجرجاني الغازي عن علي بن موسى الرضا وغيره، كذبه يحيى بن معين، ولم يعرفه أبو حاتم، وبكل حال فهو شيخ كذاب، له نسخة موضوعة على الرضا) (¬1). وقال الشوكاني عن الحديث: إنه موضوع، وقد أورده بلفظ: ((أربعة أنا شفيع لهم يوم القيامة: المكرم لذريتي، والقاضي لهم حوائجهم, والساعي لهم في أمورهم مما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه)) (¬2) (¬3). ومثل الحديث السابق ما روى الطبراني عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له)) (¬4). وفي سنده مجاهيل. قال الهيثمي عن سنده: (وفيه جماعة لم أعرفهم) (¬5). ومثله الحديث الآخر: ((من أحبني فليحب علياً, ومن أحب علياً فليحب فاطمة, ومن أحب فاطمة فليحب الحسن والحسين, وإن أهل الجنة ليباشرون ويسارعون إلى رؤيتهم ينظرون إليهم, محبتهم إيمان, وبغضهم نفاق, ومن أبغض أحداً من أهل بيتي فقد حرم شفاعتي, فإنني نبي مكرم, بعثني الله بالصدق, فحبوا أهل بيتي, وحبوا عليًّا)) (¬6) (¬7). وهذا الحديث موضوع وباطل, والذي وضعه عبد الله بن حفص. 8 - ومنها كذلك: ما يروى من الأحاديث التي تدل على استحقاق الشفاعة بحفظ أربعين حديثاً من السنة؛ مثل ما يروى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يحفظ على أمتي أربعين حديثاً يعلمهم بها أمر دينهم إلا جيء به يوم القيامة فقيل له: اشفع لمن شئت)) (¬8). وفي سند هذا الحديث يزيد بن أبان الرقاشي، وهو راو متروك، كما ذكر النسائي وغيره (¬9). وفيه كذلك عمرو بن الأزهر، وكان يضع الحديث، كما ذكر الإمام أحمد، وقال البخاري: (يرمى بالكذب)، وقال النسائي وغيره: (متروك) (¬10). وهذا الحديث هو أحد الأحاديث التي ذكرها ابن عبد البر في إثبات الشفاعة لمن حفظ أربعين حديثاً، وقد ذكر ابن الجوزي عدة أحاديث في ثبوت الشفاعة لمن حفظ أربعين حديثاً، ثم عقب عليها بالتضعيف (¬11). 9 - ومنها كذلك: ما يروى عن استحقاق الشفاعة لمن قضى حوائج الناس؛ مثل ما يروى عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قضى لأخيه حاجة كنت واقفاً عند ميزانه، فإن رجع وإلا شفعت له)) (¬12). ¬

(¬1) ((ميزان الاعتدال)) (2/ 8). (¬2) أورده الحافظ في ((لسان الميزان)) (2/ 417) في ترجمة داود بن سليمان الجرجانى الغازي) وقال: هو شيخ كذاب له نسخة موضوعة عن علي بن موسى الرضا. (¬3) ((الفوائد المجموعة)) (ص: 397). (¬4) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 85) (5870). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 171): فيه جماعة لم أعرفهم. (¬5) ((مجمع الزوائد)) (9/ 171). (¬6) رواه ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 434). من حديث أنس رضي الله عنه. وقال: موضوع، وأورده ابن الجوزي في كتاب ((الموضوعات)) (2/ 232). (¬7) ((الفوائد المجموعة)) (ص: 395). (¬8) رواه ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 56)، والخطيب في ((شرف أصحاب الحديث)) (ص: 20)، وابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 95). قال الذهبي في ((تلخيص العلل المتناهية)) (135): فيه موسى الطويل كذاب، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5379). (¬9) انظر: ((الضعفاء والمتروكين)) (642)، و ((ميزان الاعتدال)) (3/ 245). (¬10) انظر: ((الضعفاء)) للعقيلي (1262)، و ((الضعفاء والمتروكين)) للنسائي (454)، ((ميزان الاعتدال)) (3/ 245). (¬11) ((العلل المتناهية)) (1/ 111 - 121). (¬12) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/ 353). وقال: غريب من حديث مالك تفرد به الغفاري.

وهذا الحديث لا يتم به الاستدلال على ثبوت تلك الشفاعة؛ لأن في سنده راوياً وضاعاً، وهو عبد الله بن إبراهيم الغفاري، يقول عنه الذهبي: (نسبه ابن حبان إلى أنه يضع الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وقال الدارقطني: حديثه منكر) (¬1). ومثله كذلك ما عزاه الإمام ابن كثير إلى ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 30] قال: أُجُورَهُمْ: يدخلهم الجنة وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ: الشفاعة لمن صنع إليهم المعروف في الدنيا (¬2). وهذا الحديث لا يتم به الاستدلال، لأن في سنده إسماعيل بن عبد الله الكندي، ذكر الهيثمي في (مجمع الزوائد) أنه ضعفه الذهبي من عند نفسه فقال: (أتى بخبر منكر، وبقية رجاله وثقوا) (¬3). وقال ابن كثير: (هذا إسناد لا يثبت) (¬4). وأورده السيوطي من حديث طويل عن أبي هريرة وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: ((ومن بنى على ظهر طريق يهوي إليه عابروا السبيل بعثه الله يوم القيامة على نجيبة من در، ووجهه يضيء لأهل الجمع حتى يقول أهل الجمع: هذا ملك من الملائكة لم ير مثله, حتى يزاحم إبراهيم في قبته، ويدخل في الجنة بشفاعته أربعون ألف رجل)). وفيه كذلك: ((ومن احتفر بئراً حتى يبسط ماؤها فيبذلها للمسلمين كان له أجر من توضأ منها وصلى، وله بعدد شعر كل من شرب منها حسنات: إنس، أو جن، أو بهيمة، أو سبع، أو طائر، أو غير ذلك، وله بكل شعرة من ذلك عتق رقبة، ويرد في شفاعته يوم القيامة حوض القدس عدد نجوم السماء. قيل: يا رسول الله، وما حوض القدس؟ قال: حوضي، حوضي، حوضي)) (¬5). قال ابن حجر: (هذا الحديث بطوله موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتهم به ميسرة بن عبد ربه، لا بورك فيه) (¬6). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 433 ¬

(¬1) ((المجروحين)) (2/ 36 - 37)، و ((ميزان الاعتدال)) (2/ 388). (¬2) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 591). (¬3) ((مجمع الزوائد)) (7/ 13). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 592). (¬5) ((اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة)) (2/ 370). (¬6) ((المطالب العالية)) (3/ 134).

المبحث الخامس: أقسام الشفعاء المقبولة شفاعتهم

المطلب الأول: شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أما ثبوت شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قدمنا في ذكر أقسام الشافاعات الثابتة له صلى الله عليه وسلم، ما يدل على منزلته العظمى، بإكرام الله له بكثرة شفاعاته، الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 469

المطلب الثاني: شفاعة الأنبياء الآخرين غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:

المطلب الثاني: شفاعة الأنبياء الآخرين غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ومن إكرام الله تعالى لأنبيائه وأصفيائه قبول شفاعتهم فيمن يشفعون له ممن سبقت لهم الرحمة، فيتقدمون بطلب شفاعتهم إلى ربهم في إخراج أقوام من النار دخولها بذنوبهم ليخرجوا منها. وقد ثبتت هذه الشفاعة بما جاء في الصحيحين من حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة, وشفع النبيون, وشفع المؤمنون. ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً)) (¬1). وليس معنى هذا أن الله يخرجهم من النار وهم كفار؛ بل المعنى أنهم لم يعملوا خيراً سوى الشهادتين ولولاهما لما خرجوا؛ شأنهم شأن غيرهم من الكفار. وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يحمل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار. قال: فينجي الله تعالى برحمته من يشاء, قال: ثم يؤذن للملائكة, والنبيين, والشهداء أن يشفعوا فيشفعون ويخرجون, فيشفعون ويخرجون, فيشفعون ويخرجون)) وزاد عفان مرة فقال أيضاً: ((ويشفعون ويخرجون من كان في قلبه ما يزن ذرة من إيمان)) (¬2). وقد بوب الهيثمي في كتابه (موارد الظمآن)، لإثبات شفاعة الأنبياء والملائكة بقوله: (باب في شفاعة الملائكة والنبيين) ثم أورد الحديث الآتي: عن صالح بن أبي طريف قال: قلت لأبي سعيد الخدري: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ [الحجر: 2]؟ فقال: نعم، سمعته يقول: ((يخرج الله أناساً من المؤمنين من النار بعدما يأخذ نقمته منهم)). قال: ((لما أدخلهم الله النار مع المشركين، قال المشركون: أليس كنتم تزعمون في الدنيا أنكم أولياؤه، فما لكم معنا في النار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم أذن في الشفاعة, فتشفع لهم الملائكة والنبيون، حتى يخرجوا بإذن الله، فلما أخرجوا قالوا: يا ليتنا كنا مثلهم فتدركنا الشفاعة، فنخرج من النار. فذلك قول الله: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ قال: فيسمون الجهنميين من أجل سواد في وجوههم، فيقولون: ربنا أذهب عنا هذا الاسم, فيغتسلون في نهر في الجنة فيذهب ذلك منهم)) (¬3). وقد أورده أيضاً الآجري (¬4)، ويذكر الرازي أن أكثر المفسرين على هذا القول (¬5). وروى مجاهد عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ((ما يزال الله يرحم المؤمنين، ويخرجهم من النار، ويدخلهم الجنة بشفاعة الأنبياء والملائكة، حتى إنه تعالى في آخر الأمر يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، قال: فهنالك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين)) (¬6). وهذا المعنى هو الذي يوافق مذهب السلف لا المعتزلة، ولهذا فإن القاضي فيما ذكره عن الرازي يقول: (إن هذه الروايات مبنية على أنه تعالى يخرج أصحاب الكبائر من النار، وعلى أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مقبولة في إسقاط العقاب، وهذان الأصلان عنده مردودان). قال الرازي: (فعند هذا حمل هذا الخبر على وجه يطابق قوله ويوافق مذهبه؛ وهو أنه تعالى يؤخر إدخال طائفة من المؤمنين الجنة بحيث يغلب على ظن الكفرة أنه تعالى لا يدخلهم الجنة، ثم إنه تعالى يدخلهم الجنة فيزداد غمُّ الكفرة وحسرتهم، وهناك يودون لو كانوا مسلمين) (¬7). وهذا تكلف من القاضي ظاهر سببه عدم الإيمان بوقوع الشفاعة في أهل النار. ومن أين له الدليل على أن الله يؤخرهم وقتاً لأجل غمِّ الكفرة ثم يسمح لهم بدخول الجنة؟! وقد ذكر الإمام ابن كثير وغيره من المفسرين عند شرح هذه الآية: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ [الحجر: 2] كثيراً من النصوص التي تدل على أن الله يخرج من النار أقواماً بفضل رحمته وشفاعة الشافعين لهم (¬8)، من الأنبياء وغيرهم. الحياة الآخرة لغالب عواجي- بتصرف - 1/ 469 ¬

(¬1) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183). (¬2) رواه أحمد (5/ 43) (20457)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (2/ 142) (929)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (837). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 362): رجاله رجال الصحيح، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (251): إسناده صحيح. (¬3) ((موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان)) (2599). (¬4) ((الشريعة)) (337). (¬5) ((تفسير الرازي)) (19/ 154). (¬6) رواه الطبري (17/ 62)، والحاكم (2/ 384). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬7) ((تفسير الرازي)) (19/ 154). (¬8) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 546).

المطلب الثالث: شفاعة الملائكة

المطلب الثالث: شفاعة الملائكة ومن الشفعاء كذلك الملائكة عليهم السلام، ولا خلاف في ذلك بين الفرق الإسلامية, فقد ثبتت شفاعتهم بالأدلة الصحيحة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثبت أنهم يشفعون إذا أذن الله لهم ورضي ............. أما الأدلة على إثبات شفاعتهم من القرآن الكريم فهي: 1 - قوله عز وجل مبيناً درجتهم في الشفاعة: وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26]. 2 - وقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 28]. وفي هذه الآيات يثبت الله سبحانه وتعالى أن الملائكة يشفعون في المذنبين، وأن شفاعتهم تقبل بعد إذنه ورضاه في يوم القيامة. وقد حصل خلاف في ثبوت شفاعة الملائكة لأهل الكبائر، أيشفعون لهم أم لا؟ بعد اتفاق الجميع على ثبوت شفاعتهم في الجملة. 1 - فذهب الكعبي من المعتزلة إلى عدم ثبوت شفاعة الملائكة في أهل الكبائر. 2 - وذهب أهل القول الحق إلى أنها تقع. وخلافهم يدور حول معنى قول الله تعالى مخبراً عن دعاء الملائكة للمؤمنين بالجنة: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [غافر: 7 - 8]. حيث أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن دعائهم واستشفاعهم للمؤمنين ولأولاد المؤمنين وزوجاتهم أن يدخلهم الله جنات عدن، وهذا الدعاء لهم بظهر الغيب، استشفاع منهم إلى الله تعالى، في أن يرحم المؤمنين ويغفر لهم ما صدر منهم من الذنوب. قال ابن كثير عن معنى قول الله تعالى عن وصف الملائكة: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7]: (أي من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيض الله تعالى ملائكته المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، كانوا يؤمنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم: ((من دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل)) (¬1) (¬2)، وهذا من تمام محبتهم الخير للبشر, وعطفهم عليهم, ورغبتهم في ثوابهم. أما اعتراض الكعبي الذي استنبطه من هذه الآية بزعمه؛ ليرد به على من يقول من أهل السنة بحصول الشفاعة في المذنبين بحجة أن الشفاعة – كما هو رأي المعتزلة – لا تكون إلا في وقوع زيادة الثواب للمؤمنين لا في إسقاط العقاب عن المذنبين – قال: وذلك لأن الملائكة قالوا: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ. قال: (وليس المراد: فاغفر للذين تابوا من الكفر. سواء أكان مصراً على الفسق أم لم يكن كذلك؛ لأن من هذا حاله لا يوصف بكونه متبعاً سبيل ربه ولا يطلق ذلك فيه). ¬

(¬1) رواه مسلم (2732). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 130).

ثم ذكر اعتراضاً آخر فقال: وأيضاً إن الملائكة يقولون: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم، وهذا لا يليق بالفاسقين، لأن خصومنا – يعني القائلين بالشفاعة في المذنبين – لا يقطعون على أن الله تعالى وعدهم الجنة وإنما يجوز ذلك، فثبت – كما يقول -: (إن شفاعة الملائكة لا تتناول إلا أهل الطاعة) (¬1). هذا ما يتعلق باعتراضه واحتجاجه بهذه الآية على نفي شفاعة الملائكة للمذنبين. وقد أجاب الرازي عن تلك الشبهة فقال: (إن هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين)، ثم ذكر الوجوه التي تدل على هذا بقوله: الأول: قوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب، أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفاراً. الثاني: قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وهذا يدل على أنهم يستغفرون لكل أهل الإيمان، فإذا دللنا على أن صاحب الكبيرة مؤمن، وجب دخوله تحت هذه الشفاعة. الثالث: قوله تعالى: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، طلب المغفرة للذين تابوا، ولا يجوز أن يكون المراد إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة، لأن ذلك واجب على الله عند الخصم، وما كان فعله واجباً كان طلبه بالدعاء قبيحاً، ولا يجوز أيضاً أن يكون المراد إسقاط عقوبة الصغائر، لأن ذلك واجب فلا يحسن طلبه بالدعاء، ولا يجوز أن المراد طلب زيادة منفعة على الثواب، لأن ذلك لا يسمى مغفرة، فثبت أنه لا يمكن حمل قوله: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ إلا على إسقاط عقاب الكبيرة قبل التوبة، وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء لانعقاد الإجماع على أنه لا فرق. ثم قال الرازي متابعاً رده على الكعبي: (أما الذي يتمسك به الكعبي وهو أنهم طلبوا المغفرة للذين تابوا، فنقول: يجب أن يكون المراد منه، الذين تابوا عن الكفر واتبعوا سبيل الإيمان. وقوله: إن التائب عن الكفر المصر على الفسق لا يسمى تائباً، ولا متبعاً سبيل الله. قلنا: لا نسلم قوله؛ بل يقال: إنه تائب عن الكفر، وتابع سبيل الله في الدين والشريعة، وإذا ثبت أنه تائب عن الكفر ثبت أنه تائب؛ ألا ترى أنه يكفي في صدق وصفه بكونه ضارباً وضاحكاً، صدور الضرب والضحك عنه مرة واحدة، ولا يتوقف ذلك على صدور كل أنواع الضرب والضحك عنه؟ فكذا هاهنا) (¬2). وإذا ثبتت شفاعة الملائكة للذين آمنوا وثبت كذلك اهتمامهم بالدعاء لهم، فيحسن أن يعرف السر في هذا الاهتمام والاستشفاع إلى الله في طلب العفو والمغفرة للبشر. وقد أجاب الرازي عن السر في هذا الاهتمام فيما ينقله عن أهل التحقيق بقوله: (إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن ذلة سبقت؛ وذلك لأنهم قالوا في أول تخليق البشر: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء [البقرة: 30]، فلما سبق منهم هذا الكلام تداركوا في آخر الأمر بأن قالوا: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر: 7]. وهذا كالتنبيه على أن من آذى غيره، فالأولى أن يجبر ذلك الإيذاء بإيصال نفع عليه) (¬3). هذا فيما يتعلق بالاستدلال من القرآن الكريم على ثبوت شفاعة الملائكة. أما فيما يتعلق بورود ذلك في السنة، فقد قدمنا في بحث شفاعة الأنبياء بعض الأحاديث التي تثبت شفاعة الأنبياء والملائكة في مساق واحد، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين (¬4)، وكذا حديث أبي بكرة الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده (¬5)، وكذا حديث صالح بن أبي طريف عن أبي سعيد الخدري (¬6). الحياة الآخرة لغالب عواجي – بتصرف – 1/ 475 ¬

(¬1) ((تفسير الرازي)) (27/ 34). (¬2) ((تفسير الرازي)) (27/ 34). (¬3) ((تفسير الرازي)) (27/ 34). (¬4) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183). (¬5) رواه أحمد (5/ 43) (20457)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (2/ 142) (929)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (837). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 362): رجاله رجال الصحيح، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (251): إسناده صحيح. (¬6) ((موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان)) (ص: 2599)، و ((الشريعة)) (ص: 377).

المطلب الرابع: شفاعة الشهداء

المطلب الرابع: شفاعة الشهداء ومن الشفعاء الذين أكرمهم الله تعالى بقبول شفاعتهم: الشهداء ........ أما الأدلة على ثبوت شفاعة الشهداء: فمنها ما جاء في حديث الوليد بن رباح الذماري عن نمران بن عتبة الذماري قال: دخلنا على أم الدرداء ونحن أيتام، فقالت: أبشروا، فإني سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته)) (¬1). وقد بوب الإمام أبو داود على هذا الحديث بقوله: (باب في الشهيد يشفع)، ثم أشار إلى السند بأن الصواب في اسم الوليد بن رباح أنه (رباح بن الوليد). وعن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة, ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)) (¬2). وعن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء)) (¬3). وذكر الآجري حديثاً عن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((للشهيد عند الله تسع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)) (¬4). ومثله ما جاء عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬5). وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ((ثم يقال: ادعوا الصديقين، فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الأنبياء، قال: فيجيء النبي ومعه العصابة، والنبي ومعه الخمسة والستة، والنبي ليس معه أحد، ثم يقال: ادعوا الشهداء، فيشفعون لمن أرادوا)) وقال: ((فإذا فعلت الشهداء ذلك، قال: يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً)) الحديث (¬6). وعن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يحمل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار)). قال: ((فينجي الله تعالى برحمته من يشاء)). قال: ((ثم يؤذن للملائكة, والنبيين, والشهداء أن يشفعوا, فيشفعون ويخرجون, فيشفعون ويخرجون, فيشفعون ويخرجون)) - وزاد عفان مرة فقال أيضاً: ((ويشفعون ويخرجون من كان في قلبه ما يزن ذرة من إيمان)) (¬7). الحياة الآخرة لغالب عواجي – بتصرف- 1/ 480 ¬

(¬1) رواه أبو داود (2522)، وابن حبان (10/ 517) (4660)، والبيهقي (9/ 164) (18308). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) رواه الترمذي (1663)، وابن ماجه (2274)، وأحمد (4/ 131) (17221)، والبيهقى فى ((شعب الإيمان)) (4/ 25). قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 16) كما قال ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه ابن ماجه (4992)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 265). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 21): إسناده ضعيف، وقال الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)): موضوع. (¬4) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 349). (¬5) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 349). (¬6) رواه أحمد (1/ 4) (15)، والبزار (1/ 149) (76)، وابن أبى عاصم (812)، وأبو يعلى (1/ 56) (56)، وابن حبان (14/ 393) (6476). قال ابن القيم في ((حادي الأرواح)) (255): متواتر، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 377): رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار ورجالهم ثقات، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 29). (¬7) رواه أحمد (5/ 43) (20457)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (2/ 142) (929)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (837). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 362): رجاله رجال الصحيح، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (251): إسناده صحيح.

المطلب الخامس: شفاعة الولدان

المطلب الخامس: شفاعة الولدان ومن الشفاعات الثابتة ما جاء في شفاعة الولدان في آبائهم وأمهاتهم إذا احتسبوهم عند الله تعالى بنية صادقة، رحمة من الله تعالى وكرماً منه، ليجبر قلوب الآباء والأمهات بما لحقهم من فقد أولادهم. ومن الأدلة على ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبي هريرة رضي الله عنه: ((لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم)) (¬1). وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: ((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة, فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: أو اثنين)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: ((اجعل لنا يوماً، فوعظهن، وقال: أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا له حجاباً من النار. قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان وفي رواية: لم يبلغوا الحنث)) (¬3). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)) (¬4). وعن أبي هريرة قال: ((جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها فقالت: يا رسول الله, إنه يشتكي, وإني أخاف عليه؛ قد دفنت ثلاثة. قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار)) (¬5). وأورد مسلم أيضاً رواية أخرى عن أبي هريرة بمعنى ما تقدم (¬6). وعن أبي حسان قال: ((قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان، فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: قال: نعم صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه – أو قال أبويه – فيأخذ بثوبه – أو قال: بيده – كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهى – أو قال: فلا ينتهي – حتى يدخله الله وأباه الجنة)) (¬7). وعن شرحبيل بن شفعة عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يقال للولدان يوم القيامة: أدخلوا الجنة قال: فيقولون: يا ربنا حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا. قال: فيأبون. قال: فيقول الله عز وجل: ما لي أراهم محبنطئين، ادخلوا الجنة. قال: فيقولون: يا رب آباؤنا وأمهاتنا. قال: فيقول: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم)) (¬8). وقد أخرج هذا الحديث الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح سوى شرحبيل وهو ثقة (¬9). وهذا الموقف من الأبناء لوالديهم هو كرد الجميل إليهم حيث كانوا في الدنيا يولونهم العطف والشفقة. ولهذا جاء في الحديث أن امرأة أعتقت من النار وأدخلت الجنة بمجرد حصول عطف منها على ابنتين لها؛ حيث أطعمتهما وصبرت هي على الجوع، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((جَاءَتْنِى مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ, فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً, وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِى كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا, فَأَعْجَبَنِى شَأْنُهَا فَذَكَرْتُ الَّذِى صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ)) (¬10). ¬

(¬1) رواه البخاري (1251)، ومسلم (2632). (¬2) رواه مسلم (2632). (¬3) رواه البخاري (1249)، ومسلم (2633). (¬4) رواه البخاري (1381). (¬5) رواه مسلم (2636). (¬6) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (6/ 486). (¬7) رواه مسلم (2635). (¬8) رواه أحمد (4/ 105) (17012). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 386): رجاله رجال الصحيح غير شرحبيل وهو ثقة. (¬9) ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (10/ 386). (¬10) رواه مسلم (2630).

وقد بوب الهيثمي لإثبات شفاعة الولدان هذه بقوله: (باب شفاعة الولدان) (¬1). وقد جعل الله قبول لهذه الشفاعة من الأبناء لآبائهم تفضلاً منه؛ لزيادة أسباب ثوابهم ورفع درجاتهم، حيث عوضهم الله من فقد ثمرة أكبادهم صغاراً بقبول شفاعتهم فيهم. فمن مات له ثلاثة من الأولاد، أو اثنان فليبشر ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأنه لا تمسه النار إلا تحلة القسم، وأنهم يكونون له حجاباً من النار، وأن الله يدخله الجنة بفضل رحمته إياهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا تحلة القسم)) هذه إشارة إلى القسم المقدر في قوله تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا أي النار، بحيث لا يدخل المسلم الذي مات له ثلاثة من الولد النار إلا تحلة لقسم الله تعالى بأن كل شخص يردها. وقد ذكر الله في كتابه الكريم أنه يجمع بين الآباء وأبنائهم إذا اختلفت درجاتهم في الجنة إكراماً للآباء لتقر أعينهم بذلك. قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21]. وهذه البشارة للمؤمنين تشير إلى سعة فضل الله, وكرمه, وامتنانه, ولطفه, وكمال إحسانه إليهم. قال ابن كثير: (فإذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك) (¬2). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 494 ¬

(¬1) ((مجمع الزوائد)) (10/ 383). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 432).

المطلب السادس: شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض

المطلب السادس: شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض وثبت كذلك أن الصالحين من المؤمنين يشفعون في إخوانهم الذين في النار وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فدخلوا النار تطهيراً لهم. ومن الأدلة على ذلك: ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: ((قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قلنا: لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما. ثم قال: ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، وغبرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم. ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما انتظرنا ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم. قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء، تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف, وكالبرق, وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم, وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق - قد تبين لكم- من المؤمنين يومئذ للجبار- وإذا رأوا أنهم قد نجوا- في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا، كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا. قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرؤوا: إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. فيشفع النبيون, والملائكة, والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواماً قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة؛ فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه)) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183).

وقد اشتمل هذا الحديث على مسائل منها: إثبات رؤية الله تعالى، وإثبات الصراط, وصفته, وكيفية مرور الناس عليه، وكذلك إثبات شفاعة الملائكة والأنبياء. وبعض تلك المسائل قد سبق ذكرها وبعضها سيأتي، والقصد من إيراد هذا الحديث هنا هو إثبات شفاعة الصالحين من المؤمنين، وإلحاحهم في طلب الشفاعة إلى الله تعالى لإخراج إخوانهم من أهل الكبائر من النار. وقوله صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري للحديث: ((فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق - قد تبين لكم- من المؤمنين يومئذ للجبار)). وقعت هذه الجملة في صحيح مسلم من رواية أبي سعيد هكذا: ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار)). وقد اختلف العلماء في ضبط كلمة (استقصاء)، ذكر النووي أن بعضهم يرويها (استيضاء)، وبعضهم (استضاء)، وبعضهم (استيفاء)، وبعضهم (استقصاء). والمعنى ما أنتم بأشد مناشدة في استقصاء الحق في الدنيا من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم. وهذا جواب القاضي عياض فيما ينقله عنه النووي، وخطأ القاضي عياض الروايات الأخرى، وقال بأن معنى تلك الرواية (استقصاء) بها يتم الكلام ويتوجه. ورد عليه النووي بأنه: (ليس الأمر على ما قاله, بل جميع الروايات التي ذكرناها صحيحة لكل منها معنى حسن). ثم قال: (وقد جاء في رواية يحيى بن بكير عن الليث: فما أنتم بأشد مناشدة في الحق – قد تبين لكم – من المؤمنين يومئذ للجبار – تعالى وتقدس – إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، وهذه الرواية التي ذكرها الليث توضح المعنى. فمعنى الرواية الأولى والثانية: أنكم إذا عرض لكم في الدنيا أمر مهم، والتبس الحال فيه، وسألتم الله تعالى بيانه, وناشدتموه في استيضائه, وبالغتم فيها؛ لا تكون مناشدة أحدكم مناشدة بأشد من مناشدة المؤمنين لله تعالى في الشفاعة لإخوانهم. وأما الرواية الثالثة والرابعة فمعناهما أيضاً: ما منكم من أحد يناشد الله تعالى في الدنيا في استيفاء حقه, أو استقصائه وتحصيله من خصمه والمتعدي عليه؛ بأشد من مناشدة المؤمنين الله تعالى في الشفاعة لإخوانهم يوم القيامة) (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: ((اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه)). هذا الخطاب للمؤمنين الذين طلبوا الشفاعة إلى الله تعالى. وفي رواية أبي هريرة عند البخاري أن الخطاب للملائكة لقوله: ((أمر الملائكة أن يخرجوهم)) (¬2). وفي حديث أنس عنده: أن الذي يخرجهم هو الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: ((ثم اشفع، فيحد لي حداً، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة)) (¬3). ولا منافاة بين تلك الروايات، بل يجمع بينهما بأن الله حينما شفع المؤمنين والرسل، يأمر تعالى الملائكة بمباشرة إخراج أولئك من النار ممن أمرتهم الرسل بإخراجه منها (¬4). وعن الصنابحي عن عبادة بن الصامت أنه قال: ((دخلت عليه وهو في الموت فبكيت، فقال: مهلاً، لم تبكي؟ فوالله لئن شهدت لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك. ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)) (¬5). ¬

(¬1) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 438). (¬2) رواه البخاري (6573). (¬3) رواه البخاري (6565)، ومسلم (193). (¬4) ((فتح الباري)) (11/ 456). (¬5) رواه مسلم (29).

وأخرج الإمام أحمد من مسند أبي بكر الصديق في إثبات شفاعة الصالحين والمؤمنين قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم يقال: ادعوا الأنبياء، فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الصديقين، فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون)) (¬1). وكذا حديث أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يحمل الناس على الصراط، فينجي الله من شاء برحمته ثم يؤذن للملائكة, والنبيين, والشهداء, والصديقين فيشفعون)) الحديث (¬2). كما ثبت أيضاً حصول شفاعة المؤمنين لإخوانهم قبل يوم القيامة، وذلك في الدنيا، وهي استشفاعهم إلى الله تعالى في الصلاة على من مات منهم بالرحمة والغفران والتجاوز، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)) (¬3). وأخرج كذلك عن عبد الله بن عباس ((أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان فقال: يا كريب، انظر ما اجتمع له الناس، قال: فخرجت، فإذا ناس قد اجتمعوا له، فأخبرته، فقال: تقول: هم أربعون؟ قال: نعم، قال: فأخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم فيه)) (¬4). وتمام الحديث عن ابن ماجه: ((ما من أربعين من مؤمن يشفعون لمؤمن إلا شفعهم الله فيه)) (¬5). وأخرج ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له)) (¬6). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 1/ 508 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 4) (15)، والبزار (1/ 149) (76)، وابن أبى عاصم (812)، وأبو يعلى (1/ 56) (56)، وابن حبان (14/ 393) (6476). قال ابن القيم في ((حادي الأرواح)) (255): متواتر، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 377): رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار ورجالهم ثقات، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 29). (¬2) رواه أحمد (5/ 43) (20457)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (2/ 142) (929)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (ص: 837). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 362): رجاله رجال الصحيح، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (251): إسناده صحيح. (¬3) رواه مسلم (947). (¬4) رواه مسلم (948). (¬5) رواه ابن ماجه (1219). وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬6) رواه ابن ماجه (1218). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 228): هذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين، وقال العيني في ((عمدة القاري)) (8/ 167): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، وقال الوادعي في ((الشفاعة)) (ص: 285): رجاله رجال الصحيح وهو على شرط الشيخين.

المطلب السابع: شفاعة القرآن الكريم

المطلب السابع: شفاعة القرآن الكريم وكذلك فإن من مظاهر رحمة الله تعالى وكرمه على عباده أن جعل القرآن الكريم أيضاً من الشفعاء المقبول شفاعتهم، وليس ذلك فقط بل أيضاً يطلب المزيد من الإكرام لصاحبه. وكيف لا يكون كذلك وهو كلام الله – تعالى وتقدس- وهو حبله المتين وصراطه المستقيم، أنزله على أفضل خلقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وجعل تلاوته ثواباً في الدنيا، لكل حرف حسنة وشفاعة في يوم القيامة، ولما كان القرآن الكريم كذلك فلابد لنا من إيضاح بعض النقاط الآتية: 1 - بيان الفضل العظيم الذي ورد في القرآن عموماً. 2 - وبيان ما جاء في أفضلية بعض سور القرآن وكلها فاضلة. 3 - وبيان ما ورد من نصوص كذلك تحث على قراءة القرآن والمواظبة على ذلك. فقد قال صلى الله عليه وسلم – محرضاً على قراءة القرآن -: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة، طعمها طيب, وريحها طيب. والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر. ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر ولا ريح لها)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار)) (¬2). وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة عن فضل بعض الآيات والسور، مثل سورة البقرة (¬3) , والكهف (¬4) , والفتح, وقل هو الله أحد (¬5) , والمعوذتين (¬6)، وآية الكرسي (¬7)، وغير ذلك مما لا نطيل بالاستدلال عليه. فينبغي على كل مسلم أن يكثر من قراءة القرآن بتدبر وعناية، وأن يحتسب ذلك عند الله تعالى، ليأخذ جزاءه في يوم القيامة، وأن يحذر أن يتصف بأنه من الذين اتخذوه مهجوراً، وفيما يلي نعرض بعض النصوص التي يتعلق بها غرض البحث. فمما ورد في شفاعة القرآن عموماً ما جاء عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اعملوا بالقرآن, وأحلوا حلاله, وحرموا حرامه, واقتدوا به, ولا تكفروا بشيء منه, وما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي, كيما يخبرونكم, وآمنوا بالتوراة, والإنجيل, والزبور, وما أوتي النبيون من ربهم, وليسعكم القرآن وما فيه من البيان, فإنه شافع مشفع, وماحل مصدق, ألا ولكل آية منه نور يوم القيامة, وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول, وأعطيت طه وطواسين وحواميم من ألواح موسى, وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش)) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (5020). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (5025)، ومسلم (815). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (4008)، ومسلم (807). من حديث أبي مسعود رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (809). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (6643). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬6) رواه مسلم (814). من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (2311). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) رواه الطبراني (20/ 225) (525) وأخرجه الحاكم (1/ 757)، والبيهقي (10/ 9) (19490). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الهيثمي (1/ 174): له إسنادان في أحدهما عبيد الله بن أبى حميد وقد أجمعوا على ضعفه، وفى الآخر عمران القطان ذكره ابن حبان في الثقات وضعفه الباقون.

وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)) (¬1). وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة, يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان)) (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب أرض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق وتزاد بكل آية حسنة)) (¬3). الحياة الآخرة لغالب عواجي-1/ 520 ¬

(¬1) رواه الطبراني (9/ 132) (8655)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 108)، وابن أبي شيبة (6/ 131) (30054)، وابن عدي (3/ 127). قال أبو نعيم: غريب من حديث الأعمش تفرد به عنه الربيع، وقال ابن عدي: ربيع بن بدر بن عمرو بن جراد السعدي .. عامة حديثه ورواياته عمن يروي عنهم مما لا يتابعه أحد عليه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 164): فيه الربيع بن بدر وهو متروك. (¬2) رواه أحمد (2/ 174) (6626)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (3/ 184)، والحاكم (1/ 740)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 161)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 107). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال المنذري: رجاله محتج بهم في الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 184): رجال الطبراني رجال الصحيح، وقال في (10/ 384): رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثق. (¬3) رواه الترمذي (2915)، والحاكم (1/ 738)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 347). قال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده الحاكم، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (901) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.

الفصل الثامن: العرض على الله جل وعلا في موقف فصل القضاء

المطلب الأول: معنى العرض في اللغة من معاني العرض: الإبراز والظهور، ويقال: عرض الجند: جعلهم يمرون عليه واحداً واحداً، وعرض له من حقه شيئاً: أعطاه إياه مكان حقه، وعرض القوم على النار: أحرقهم بها (¬1). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 815 ¬

(¬1) انظر كتب اللغة مادة عرض، ((المفردات للراغب)) (ص: 330)، ((أساس البلاغة)) (ص: 298)، و ((معجم الألفاظ والأعلام القرآنية)) (ص: 337).

المطلب الثاني: معنى العرض في الاصطلاح

المطلب الثاني: معنى العرض في الاصطلاح فإن المراد بالعرض على الله عند الإطلاق: هو بروز الخلائق وعرضهم على ربهم سبحانه وتعالى في الموقف، عندما يتجلى تبارك وتعالى لهم لحسابهم وفصل القضاء بينهم، وهو كذلك عرض أعمال العباد عليهم, وعرض بعض الأشخاص عليه عرضاً خاصاً بعد خروجهم من النار، وهذا المعنى الخاص للعرض الاصطلاحي هو أخص من العرض اللغوي العام كما أفادته النصوص الشريفة من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قسم الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله معاني العرض إلى معنيين، فقال: العرض له معنيان: معنى عام، وهو عرض الخلائق كلهم على ربهم عز وجل, بادية له صفحاتهم, لا تخفى عليه منهم خافية، وهذا يدخل فيه من يناقش الحساب ومن لا يحاسب، والمعنى الثاني: عرض معاصي المؤمنين عليهم, وتقريرهم بها, وسترها عليهم, ومغفرتها لهم (¬1). والمقصود هنا هو ذكر عرض الخلائق جميعهم على ربهم، أما العرض الثاني وهو عرض الحساب والمناقشة. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 815 ¬

(¬1) ((معارج القبول)) (2/ 247)

المبحث الثاني: الأدلة على حصول العرض على الله

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم والعرض على الله تعالى هو ما عبرت عنه الآيات الكريمة، التي تبين حالة عرض الخلائق على ربهم للحساب والجزاء وهي: 1 - قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18] 2 - وقوله تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا [الكهف:48] 3 - وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] 4 - وقوله تعالى: وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءُ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ [إبراهيم: 21] 5 - وقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48] 6 - وقوله تعالى: يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ اليوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] 7 - وقوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47] ولا شك أن هذا العرض إنما يكون لأجل الحساب والجزاء. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 819

المطلب الثاني: الأدلة من السنة

المطلب الثاني: الأدلة من السنة من تلك الأدلة ما أخرج مسلم عن جرير بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أما إنكم تعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر)) (¬1). وأخرج الترمذي في جامعه، في باب ما جاء في العرض، وابن ماجه والإمام أحمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما العرض الثالثة: فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله)). (¬2) وقد أخرج بن جرير هذا الحديث عن مجاهد بن موسى قال: ثنا يزيد قال: ثنا سليمان بن حيان عن مروان الأصفر عن أبي وائل عن عبد الله قال: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، عرضتان معاذير وخصومات، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي) (¬3). وأخرجه كذلك عن قتادة بلفظ: حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: سعيد عن قتادة: قوله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((يعرض الناس ثلاث عرضات يوم القيامة، فأما عرضتان ففيهما خصومات ومعاذير وجدال، وأما العرضة الثالثة فتطير الصحف في الأيدي)) (¬4). قال ابن كثير: (إن الحديث مرسل) (¬5). وأخرج الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه أن لا آتيك، أرانا عفان وطبق كفيه، فبالذي بعثك بالحق، ما الذي بعثك به؟ قال: الإسلام، قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله تعالى، وأن توجه وجهك إلى الله تعالى، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران, لا يقبل الله عز وجل من أحد توبة أشرك بعد إسلامه، قلت: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت. قال: تحشرون ها هنا – وأوما بيده نحو الشام – مشاة وركباناً وعلى وجوهكم، تعرضون على الله تعالى، وعلى أفواهكم الفدام، (¬6) وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه، وقال: ما من مولى له، فيسأله من فضل عنده، فيمنعه، إلا جعل الله تعالى عليه شجاعاً ينهشه قبل القضاء)) (¬7). وهذه الأحاديث تدل على حصول عرض العباد على ربهم، وقد جاء في عرض أعمال العباد: أن المؤمن تعرض أعماله بكل يسر وسهولة دون مناقشة واستقصاء، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نوقش الحساب عذب، قالت: قلت: أليس يقول الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 8]؟ قال: ذلك العرض)) (¬8). ¬

(¬1) رواه مسلم (633). (¬2) رواه الترمذي (2425). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: لا يصح. وقال المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (6/ 296): منقطع. (¬3) رواه الطبري في تفسيره (23/ 584). (¬4) رواه الطبري في تفسيره (23/ 584). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 414). (¬6) الفدام: هو ما يشد على فم الإبريق والكوز من خرقة لتصفية الشراب الذي فيه، أي أنهم يمنعون الكلام بأفواههم حتى تتكلم جوارحهم فشبه ذلك بالفدام. ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 421). (¬7) رواه أبو داود (2142)، وابن ماجه (1850)، وأحمد (4/ 447) (20027)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 373) (9171). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه النووي في ((رياض الصالحين)) (149) وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 301) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 277)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬8) رواه البخاري (103). من حديث عائشة رضي الله عنها.

وجاء عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل، قال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعته يقول: ((إن الله عز وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه, ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه, ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه, ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) (¬1) [هود: 18] وهذا دليل كذلك على ثبوت عرض الخلائق على ربهم للحساب (¬2). ومما جاء في العرض الخاص أن أناساً يخرجون من النار فيعرضون على ربهم كما أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج من النار أربعة فيعرضون على الله، فيلتفت أحدهم فيقول: أي رب إذا خرجتني منها فلا تعدني فيها، فينجيه الله منها)) (¬3). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 820 ¬

(¬1) رواه البخاري (2441)، ومسلم (2768). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 441)، ((فتح القدير)) (2/ 490). (¬3) رواه مسلم (192).

الفصل التاسع: الصحف

الفصل التاسع: الصحف • المبحث الأول: الأدلة على كتابة الملائكة لكل ما يصدر عن العباد. • المبحث الثاني: إثبات أن كل إنسان يقرأ كتابه في يوم القيامة والأدلة على ذلك.

المبحث الأول: الأدلة على كتابة الملائكة لكل ما يصدر عن العباد

المبحث الأول: الأدلة على كتابة الملائكة لكل ما يصدر عن العباد • المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم. • المطلب الثاني: الأدلة من السنة.

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم أما ثبوت إحصاء الكرام الكاتبين لكل ما يصدر عن العبد فهو ما تحدث عنه القرآن الكريم في آيات كثيرة. وقد نوع الله تعالى في كتابه الكريم الأخبار عن كتابة الملائكة لأعمال البشر إلى أنواع كثيرة: فتارة يسند الكتابة إلى الكرام الكاتبين، وتارة يسند الكتابة إليه جل وعلا، تعظيماً لذلك واهتماماً بذكره، وتارة يخبر تعالى عن كتابة أعمال العباد بإسنادها للمجهول، تهويلاً لذكره أو تعظيماً له، وكل ذلك هو ما تحدثت عنه الآيات الآتية: قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 11] وقال تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17 - 18] وقال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس:21] وقال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80] وقال تعالى في إسناد كتابة بعض الأمور إليه جل وعلا - ومعلوم أن الذي يتولى كتابتها هم الملائكة، ولكنه أسند عز وجل ذلك إليه مبالغة في الاهتمام بذلك - فقال تعالى: لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] وفي هذا التعبير من التهديد والوعيد ما لا يخفى (¬1). وسبب نزول هذه الآية كان في شأن اليهود، حينما قال قائلهم - وهو فنحاص - لأبي بكر: "والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة فقر، وإنه إلينا لفقير" تعالى الله عن قوله ذلك (¬2). قال الشوكاني عن معنى التعبير بقوله تعالى: سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ [آل عمران:181] أي: (سنكتبه في صحف الملائكة أو سنحفظه، والمراد الوعيد لهم، وأن ذلك لا يفوت على الله، بل هو معد لهم ليوم الجزاء) (¬3). وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا [مريم: 77 - 79] وقال تعالى عن المنافقين: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً [النساء: 81] وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12] وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ:29] وقال تعالى مسنداً الكتابة إلى المجهول، تهويلاً لشأن المكتوب: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [سورة الزخرف: 19] وقال تعالى ترغيباً وتعظيماً لشأن المكتوب: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [التوبة: 120 - 121] وهذه الآيات دلالتها واضحة على أن كل ما يقوله أو يفعله الشخص يكون مسجلاً ومكتوباً لا يضيع منه شيء. وبعد أن عرضنا تلك الآيات التي تثبت تسجيل الملائكة لأعمال العباد في الدنيا، وأنهم موكلون بذلك، أمناء على ما يكتبون، لا يغيب عنهم من أعمال العباد شيء، وأننا نؤمن بذلك إيماناً كاملاً لا ارتياب فيه- بعد عرض ذلك نذكر ما جاء في السنة النبوية من أحاديث تثبت كتابة وتسجيل الملائكة على الإنسان ما يعمله في الدنيا من خير أو شر. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 843 ¬

(¬1) ((انظر تفسير ابن كثير)) (1/ 434). (¬2) ((انظر جامع البيان)) (4/ 195). (¬3) ((فتح القدير)) (1/ 406).

المطلب الثاني: الأدلة من السنة

المطلب الثاني: الأدلة من السنة أخرج الشيخان وغيرهما في فضل الجمعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر)) (¬1). وعن رفاعة بن رافع الزرقي قال: ((كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، أيهم يكتبها أولاً)) (¬2). وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل الله وكرمه: أن العبد إذا هم بحسنة فعملها تكتب له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بها ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وبالعكس السيئة: فإن العبد إذا هم بها فعملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإن هم بها ولم يعملها كتب له حسنة كاملة. ومصداق هذا ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((قال الله: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)) (¬3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها، فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها)) (¬4) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة، وهو أبصر به، فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي)) (¬5) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله عز وجل)) (¬6) وقد أرشد صلى الله عليه وسلم أمته إلى أمور إذا فعلها العبد كتب الله له بسببها الأجر العظيم، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)) (¬7) وعن مصعب بن سعد قال: حدثني أبي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة)) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (929)، ومسلم (850). (¬2) رواه البخاري (799)، وأبو داود (770). (¬3) رواه البخاري (6491)، ومسلم (131). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (129). (¬5) رواه مسلم (129). (¬6) رواه البخاري (42)، ومسلم (129). (¬7) رواه البخاري (6405)، ومسلم (2691). (¬8) رواه مسلم (2698).

وفي الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد أحاديث كثيرة، كلها تدل على كتابة الملائكة الحسنة بعشر أمثالها إلى ما يشاء الله من التضعيف، والسيئة بمثلها. وهذا ما قرره القرآن الكريم: قال تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160] وغيرها من الآيات: كالآيات التي ذكرها الله في مضاعفة ثواب الصدقات، وهي كثيرة في القرآن الكريم. بل تكرم الله بما هو فوق هذا كله، حيث أنه يأمر باستمرار الكتابة في صحيفة حسنات العبد المؤمن الذي يشغله عن عبادته التي كان يعتادها سفر أو مرض أو أي شاغل آخر. كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اشتكى العبد المسلم، قيل للكاتب الذي يكتب عمله، اكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً، حتى أقبضه أو أطلقه)) (¬1) وفي هذه الأحاديث التي عرضناها دلالة صريحة على كتابة كل ما يصدر عن العبد, وتسجيله في سجله الخاص خيراً كان أم شراً، فإذا جاء يوم القيامة ورأى ما لم يسره في كتابه، أخذ يجادل, ويجحد, وينكر ما كتبه الحفظة رادًّا شهادتهم عليهم. كما جاء عن أنس بن مالك قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يارب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل)) (¬2). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 847 ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 205) (6916). وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (11/ 131)، وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (343): صحيح. (¬2) رواه مسلم (2969).

المبحث الثاني: إثبات أن كل إنسان يقرأ كتابه في يوم القيامة والأدلة على ذلك

تمهيد وبعد عرض ما تقدم من إثبات تسجيل الملائكة لكل ما يصدر عن الشخص من أقوال وأفعال، نورد هنا إثبات قراءة كتاب الأعمال في يوم القيامة، كما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 859

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم على ذلك

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم على ذلك - قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13 - 14] يخبر سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما من إنسان إلا وسيجد كتاب أعماله ملازماً له، ينشر عليه في يوم القيامة، ويقال له: اقرأ كتابك وأنت حسيب نفسك، بعد أن تقف على كل أعمالك التي عملتها في الدنيا، وهذا هو العدل التام, والإنصاف الكامل. (عن أنس رضي الله عنه في قوله: طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13] قال: كتابه) (¬1). وعن السدي رضي الله عنه في الآية قال: الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب، فيقول: رب إنك قد قضيت أنك لست بظلام للعبيد, فاجعلني أحاسب نفسي، فيقال: اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14] وفي قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه يقرؤه يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً). وعن مجاهد رضي الله عنه أنه قرأ: (ويخرج له يوم القيامة كتاباً. بفتح الياء: يعني يخرج الطائر كتاباً). وعن قتادة في قوله تعالى: اقْرَأْ كَتَابَكَ [الإسراء:14] قال:) يقرأ يومئذ من لم يكن قارئاً في الدنيا). وقد عبر الله عن كتاب الأعمال بالطائر: أي عمله الذي طار عنه من خير وشر (¬2). 2ـ وقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيه فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة فِي جَنَّةٍ عَاليةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌكُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَاليةِ وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَاليهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ [الحاقة:19 - 29] وهذا وصف من الله جل وعلا، وتقسيم كذلك لحال الناس بالنسبة لإيتائهم كتبهم: قسم يأخذه بيمينه، ثم يعبر عن سروره وغبطته, وما يصير إليه حاله من النعيم العظيم, والفوز الكبير. وقسم آخر يأخذه بشماله، ثم يعبر عن حسرته وندامته وتمنيه أنه لم يكلف بقراءة كتاب ولم يوقف لحساب، أو تمنيه كذلك لأن تكون موتته التي ماتها هي القاضية فلا يبعث ولا يحاسب، ثم يتذكر بعض الأسباب التي كانت تحول بينه وبين السعادة في الآخرة، والتي منها اغتراره بالمال والسلطان، وهما آفة الكثير ممن يقع عليهم شدة الحساب ووقوع العذاب. قال ابن جرير رحمه الله في معنى الآية: (يقول تعالى ذكره: فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه فيقول: تعالوا اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ [الحاقة: 19]، وأخرج عن ابن زيد في قول الله: هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ [الحاقة: 19] قال: تعالوا، وأخرج عن قتادة أنه قال: (كان بعض أهل العلم يقول: وجدت أكيس الناس من قال: هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ. [الحاقة: 19]) ومعنى قوله: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ [الحاقة: 20] يقول: إني علمت أني ملاق حسابيه إذا وردت يوم القيامة على ربي. ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم في ((العلل)) (3/ 74). من حديث عريف بن درهم عن أنس. قال أبو حاتم: عريف كوفي، ولم يسمع من أنس شيئا. (¬2) ((المفردات)) (ص 310).

قال ابن عباس في معنى الظن المذكور في الآية: (أي أيقنت)، وقال قتادة: (ظن ظناً يقيناً فنفعه الله بظنه)، وقال ابن زيد: (إن الظن من المؤمن يقين)، وعن مجاهد قال: (كل ظن في القرآن إِنِّي ظَنَنتُ [الحاقة: 20] يقول: أي علمت). وأما الكافر الذي أعطي كتابه بشماله فقال: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ [الحاقة: 25 - 26] يقول: ولم أدر أي شيء حسابيه. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة: 27] يقول: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث. قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء أكره عنده من الموت. (¬1) - وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] وهذا تصوير بديع لحالة وقوف الناس على كتبهم خائفين وجلين، وكأنهم قد اطلعوا على ما فيها من تسجيل كامل لجرائمهم التي كانوا يتفننون في ارتكابها، ومع هذا الخوف الشديد, والرهبة الكاملة فهم لا يخفون انزعاجهم من دقة هذا الكتاب، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, ووضحها تمام الوضوح، ولكن هذا صنع من يريد العدل – سبحانه وتعالى -بعباده، فليس هناك خوف من الظلم، فليطمئن كل مخلوق إلى أنه سوف لا يقع عليه إلا ما قدم لنفسه. قال ابن كثير عن معنى الآية: وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الكهف:49] أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ [الكهف:49] أي من أعمالهم السيئة, وأفعالهم القبيحة، لأن هذا الكتاب لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. قال سعد بن جنادة رضي الله عنه: ((لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين، نزلنا قفراً من الأرض ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا من وجد عوداً فليأت به، ومن وجد حطباً أو شيئاً فليأت به، قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذا؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل, ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها محصاة عليه)) (¬2). (¬3) وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: (يا وليتنا: ضجوا إلى الله من الصغائر قبل الكبائر) (¬4). - وقال تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [الإسراء: 71] يخبر سبحانه وتعالى أنه في يوم القيامة، في موقف فصل القضاء، يدعو كل أمة بإمامهم، ثم يعطون كتب أعمالهم، على ما سبق وصفه، إما باليمين أو بالشمال، وأخبر سبحانه أنه لا يقع على أي مخلوق ظلم أو نقص من عمل، حتى وإن كان شيئاً تافهاً لا يسترعي الانتباه، كالفتيل ومثقال الذرة وما إلى ذلك. وفي قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء: 71] خلاف بين العلماء في المراد بالإمام المذكور وهل هو: أ- كتاب الأعمال. ب_ أو هو النبي في كل أمة. ج _ أو هو الكتاب الذي أنزل على كل أمة تشريعاً لهم. د- أو المراد به من كان إماماً لكل قوم. هـ-أو المراد به الأمهات، أي ندعو كل إنسان بأمه، فيقال: يا فلان ابن فلانة. أقوال لأهل العلم، أما القول الأول فهو لابن عباس واختاره ابن كثير، وأما الأقوال الأخرى: فإن أضعفها القول بأن الإمام المذكور الأمهات، وقد قال الشنقيطي عنه بأنه: (باطل بلا شك) (¬5). (5) وقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: 7 - 12] الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 859 ¬

(¬1) انظر ((جامع البيان)) (29/ 62). (¬2) رواه الطبراني (6/ 52) (5485)، والمنذري (3/ 289). وقال: [لا يتطرق إليه احتمال التحسين]، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 193): فيه نفيع أبو داود وهو ضعيف، وضعفه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (6879). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 87 – 88). (¬4) ((التذكرة)) (ص 259). (¬5) انظر ((أضواء البيان)) (3/ 616 – 617).

المطلب الثاني: الأدلة من السنة النبوية

المطلب الثاني: الأدلة من السنة النبوية أما ما جاء في السنة النبوية في إثبات ذلك، فقد تقدم حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين حينما سئل عن النجوى وتقرير الله لعبده بذنوبه، وفيه: ((فيقول سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسناته)). كما في لفظ البخاري (¬1)، وفي لفظ مسلم ((فيعطى صحيفة حسناته)) الحديث (¬2). وكذلك الحديث المروي عن أبي هريرة, وأبي موسى الأشعري, وقتادة وابن مسعود في باب العرض وفيه: ((وأما العرضة الثالثة، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله)) (¬3) وكذلك ... حديث البطاقة، وفيه: ((فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر)). الحديث (¬4) وغيره من الأحاديث. وعن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها: ((أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ قلت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل، وعند الكتاب حين يقال: هاؤم اقرءوا كتابيه [الحاقة: 19] حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه, أم في شماله, أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم)) (¬5) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة، فيوضع ما أحصى عليه، فتمايل به الميزان، قال: فيبعث به إلى النار، قال: فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن يقول: لا تعجلوا لا تعجلوا، فإنه قد بقي له. فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان)). وهذه رواية الإمام أحمد (¬6) ¬

(¬1) رواه البخاري (4685). (¬2) رواه مسلم (2768). (¬3) رواه الترمذي (2425). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: لا يصح. وقال المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (6/ 296): منقطع. (¬4) رواه الترمذي (2639)، وابن ماجه (3488)، وأحمد (2/ 213) (6994)، والحاكم (1/ 46). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490): حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (33/ 595)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 173) كما أشار لذلك في المقدمة، وصححه السفاريني الحنبلي في ((لوائح الأنوار السنية)) (2/ 197)، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 22): رجاله موثقون، وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 273): حسن، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (11/ 176)، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬5) رواه أبو داود (4755)، والحاكم (4/ 622). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة على أنه قد صحت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة رضي الله عنها وأم سلمة، ووافقه الذهبي. وجود إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 280). (¬6) رواه أحمد (2/ 221) (7066). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 82): رواه الترمذي باختصار، رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 24): إسناده صحيح.

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحضر الناس يوم القيامة عراة حفاة، فقالت أم سلمة: فقلت: يا رسول الله، واسوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: شغل الناس، قلت: ما شغلهم؟ قال: نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر, ومثاقيل الخردل)) (¬1). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين، ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من الله عليه، فيقول عز وجل لأصغر نعمة، أحسبه قال: في ديوان النعم، خذي ثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح، ثم تنحى وتقول: وعزتك ما استوفيت، وتبقى الذنوب والنعم وقد ذهب العمل الصالح، فإذا أراد الله أن يرحم عبداً قال: يا عبدي، قد ضاعفت لك حسناتك, وتجاوزت عن سيئاتك، أحسبه قال: ووهبت لك نعمي)) (¬2). وروى الإمام أحمد والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله. فأما الديوان الذي لا يغفره الله: فالشرك بالله, قال الله عز وجل: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ [المائدة: 72] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً: فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة)) (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء: 71] قال: يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعاً، ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ، وينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم آتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، حتى يأتيهم فيقول: أبشروا، لكل رجل منكم مثل هذا. قال: وأما الكافر، فيسود وجهه، ويمد له في جسمه ستون ذراعاً على صورة آدم، فيلبس تاجاً فيراه أصحابه، فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللهم لا تأتنا بهذا، قال: فيأتيهم، فيقولون: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا)) (¬4). ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 254). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 335): رجاله رجال الصحيح غير محمد بن موسى بن أبي عياش وهو ثقة، وصحح إسناده السيوطي في ((البدور السافرة)) (56)، والسفاريني الحنبلي في ((لوائح الأنوار السنية)) (2/ 223). (¬2) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (10/ 360)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 299). وقال: [لا يتطرق إليه احتمال التحسين]، وقال الهيثمي: فيه صالح المري وهو ضعيف. (¬3) رواه أحمد (6/ 240) (26073)، والحاكم (4/ 619). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في ((التلخيص)): صدقة ضعفوه وابن بابنوس فيه جهالة. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (1/ 520): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3022): ضعيف. (¬4) رواه الترمذي (3136)، وأبو يعلى (11/ 3) 6144)، وابن حبان (16/ 346) (7349)، وأبو نعيم فى ((حلية الأولياء)) (9/ 15)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 310). قال الترمذي: حسن غريب، وقال المنذري: [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما].

وأخرج الإمام ابن ماجه بسنده إلى عبد الله بن بسر أنه قال: قال النبي صلى الله عليه سلم: ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً)) (¬1). وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى يوم القيامة بصحف مختمة، فتنصب بين يدي الله تبارك وتعالى، فيقول تبارك وتعالى، ألقوا هذه واقبلوا هذه، فتقول الملائكة، وعزتك ما رأينا إلا خيراً، فيقول الله عز وجل إن هذا كان لغير وجهي، وإني لا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي)) وفي رواية: ((فتقول الملائكة: وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل، قال: صدقتم إن عمله كان لغير وجهي)) (¬2). وثبت في صحيح مسلم – بمعنى هذا الحديث – عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) (¬3) وأخرج العقيلي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الكتب كلها تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة يبعث الله ريحاً فتطيرها بالأيمان والشمائل، أول خط فيها: اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14])) (¬4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قلت: يا رسول الله، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: يا عائشة، أما عند ثلاث فلا، أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا، وأما عند تطاير الكتب فإما أن يعطى بيمينه, أو يعطى بشماله فلا، وحين يخرج عنق من النار، فينطوي عليهم, ويتغيظ عليهم، ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة، وكلت بمن ادعى مع الله إلهاً آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد, قال: فينطوي عليهم، ويرمي بهم في غمرات جهنم، ولجهنم جسر، أدق من الشعرة, وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك، يأخذون من شاء الله، والناس عليه كالطراف)) إلخ الحديث (¬5). وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا يحيى عن إسماعيل ثنا عامر، وحدثنا محمد بن عبيد ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن رجل عن الشعبي قال: مر عمر بطلحة (فذكر معناه) قال: مر عمر بطلحة فرآه مهتماً، قال: لعلك ساءك إمارة ابن عمك – قال يعني أبا بكر رضي الله عنه _ فقال: لا، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني لأعلم كلمة لا يقولها الرجل عند موته إلا كانت نوراً في صحيفته، أو وجد لها روحاً عند الموت، قال عمر: أنا أخبرك بها، هي الكلمة التي أراد بها عمه: شهادة أن لا إله إلا الله، قال: فكأنما كشف عني غطاء، قال: لو علم كلمة هي أفضل منها لأمره بها)) (¬6). وذكر ابن كثير – وعزاه إلى ابن أبي الدنيا – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (يدني الله العبد يوم القيامة، فيضع كنفه ليستره من الخلائق كلها، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر، فيقول: اقرأ يا ابن آدم كتابك، فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه, ويسر بها قلبه، قال: فيقول الله تعالى: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: يا رب أعرف، فيقول: إني قد تقبلتها منك، فيخر ساجداً، فيقول: ارفع رأسك, وخذ في كتابك، فيمر بالسيئة فيسود لها وجهه، ويوجل منها قلبه، وترعد منها فرائصه، ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره، فيقول الله: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يارب أعرف، فيقول: فإني قد غفرتها لك. فلا يزال بين حسنة تقبل وسيئة تغفر فيسجد، لا يرى الخلائق منه إلا ذلك السجود، حتى ينادي الخلائق بعضها بعضا: طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط، ولا يدرون ما لقي فيما بينه وبين الله تعالى مما قد وقفه عليه) (¬7) الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 865 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (3093)، والبزار (8/ 433) (3508)، والنسائى في ((السنن الكبرى)) (6/ 118) (10289)، والبيهقي فى ((شعب الإيمان)) (1/ 440) (647)، والضياء (9/ 95) (79)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 384). وقال: إسناده صحيح، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 247): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (249): حسن وله شاهد. (¬2) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 97) (2603)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 57). وقال: [روي] بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 353): [روي] بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح. (¬3) رواه مسلم (2985). (¬4) رواه العقيلي في ((الضعفاء)) (4/ 466) وقال: منكر. (¬5) رواه أحمد (6/ 110) (24837). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 361): فيه ابن لهيعة وهو ضعيف وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬6) رواه أحمد (1/ 37) (252). قال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه: صحيح بطرقه. (¬7) ذكره ابن كثير في ((النهاية)) (2/ 135) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا.

الفصل العاشر: الحساب والجزاء

المطلب الأول: تعريف الحساب في اللغة جاءت في كتب اللغة عدة إطلاقات للفظة الحساب. ومن بين تلك الإطلاقات: أن الحساب يطلق ويراد به: العدد, والمعدود, والإحصاء بالدقة التامة دون زيادة ولا نقصان، وقد ذكر أهل اللغة في مادة حسب كثيراً من المعاني التي جاءت لهذه الكلمة. وفي هذا يقول الأزهري: (وإنما سمي الحساب في المعاملات حساباً لأنه يعلم به ما فيه كفاية ليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان). وقال الليث: (والحساب والحسابة عدك الشيء، تقول: حسبت الشيء أحسب حساباً وحسابة وحسبته). ويأتي الحساب كذلك بمعنى الكثرة، قال أبو عبيد عن أبي يزيد) أحسبت الرجل أي أعطيته ما يرضى، وقال: غيره معناه أعطيته حتى قال: حسبي، قال الله عز وجل: عَطَاء حِسَابًا [النبأ: 36] أي كثيراً. ويقال: أتاني حساب من الناس أي جماعة كثيرة وهي لغة هذيل) (¬1). وتأتي لفظة حسبان مرادفة لكلمة الحساب والكل بمعنى واحد، نقل الأزهري عن أبي العباس أنه قال: (حسابنا مصدر كما تقول: حسبته أحسبه حسباناً وحساباً، وقال الأخفش: إن حسبانا جمع حساب، وقال أبو الهيثم: الحسبان جمع حساب وكذلك أحسبة، مثل شهاب وأشهبة وشهبان) (¬2). وقال أيضاً: (وأخبرني المنذري عن ثعلب أنه قال: قال الأخفش في قوله عز وجل: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [الأنعام: 96] فمعناه: بحساب فحذف الباء) (¬3). ويقول الفيروزآبادي: (حسبه حسباً وحسباناً بالضم, وحسباناً وحساباً وحسبة وحسابة بكسرهن: عده، والمعدود محسوب) (¬4). ويقول الهوريني: (حسبته أحسبه بالضم حسباً وحساباً وحسباناً وحسابة إذا عددته، والمعدود محسوب) (¬5). وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا أن حسب لها معان فقال: (الأول: العدد، تقول: حسبت الشيء أحسبة وحسباناً، قال الله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن: 5]) (¬6) وقال الراغب: (الحساب: استعمال العدد، يقال: حسبت أحسب حسابا وحسبانا، قال تعالى: لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس: 5] وقال تعالى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [الأنعام: 96]) (¬7) والحسبان ما يحاسب عليه فيجازى بحسبه، وكذا لفظة الحسيب والمحاسب فإنها تطلق مراداً بها الحساب قال الراغب: (والحسيب والمحاسب: من يحاسبك ثم يعبر عن المكافئ بالحساب) (¬8). وقد ورد في القرآن الكريم كذلك إطلاق لفظة الحساب مرادا بها الجزاء كما قال تعالى: 1ـ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] قال الطبري: (فإنما حساب عمله السيئ عند ربه وهو موفيه جزاءه إذا قدم عليه) (¬9). 2ـ وقال تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء: 111 - 113] (قال ابن جريج: أي هو أعلم بما في أنفسهم) (¬10). 3ـ قال تعالى: إِنَّ إلينَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25 - 26] قال ابن كثير: (أي نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها، إن خيراً فخير وإن شراً فشر) (¬11). ويطلق أيضاً على محاسبة النفس: قال تعالى: كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14] أي كفى بك لنفسك محاسباً, ويطلق على التوسعة في الرزق كما قال تعالى: يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 38] , أي بغير تقتير وتضييق، كقولك: فلان ينفق بغير حساب، أي يوسع النفقة ولا يحسبها. والحاصل أن أقوال أهل اللغة في المراد بالحساب، تشير إلى أنه يرد بمعنى الكثرة في الشيء، والزيادة فيه، والعدد، والإحصاء، والدقة في العدد دون زيادة ولا نقصان. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 905 ¬

(¬1) انظر كتب اللغة مادة حسب، ((تهذيب اللغة)) (4/ 332 - 333) وانظر ((تاج العروس)) (1/ 210 - 213)، وانظر كذلك ((القاموس المحيط)) (1/ 56) و ((الصحاح)) للجوهري (1/ 110). (¬2) ((تهذيب اللغة)) (4/ 331 – 332). (¬3) ((تهذيب اللغة)) (4/ 331 – 332). (¬4) ((القاموس المحيط)) (1/ 56). (¬5) ((فوائد في اللغة والصحاح)) (ص: 42). (¬6) ((معجم مقاييس اللغة)) (2/ 58) ط (2) (1390هـ/1970م) مطبعة الحلبي. (¬7) ((المفردات)) (ص: 166 - 117). (¬8) ((المفردات)) (ص: 116 - 117). (¬9) ((جامع البيان)) (18/ 64) وانظر ((تفسير ابن كثير)) (3/ 259). (¬10) ((الدر المنثور)) (19/ 311). (¬11) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 504).

المطلب الثاني: تعريف الحساب في الشرع

المطلب الثاني: تعريف الحساب في الشرع أما المراد بالحساب في الشرع فإنه يراد به: (توقيف الله عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم، خيراً كانت أو شراً، تفصيلاً لا بالوزن، إلا من استثنى منهم) (¬1). وقوله: (لا بالوزن) يحتمل أنه يريد أن الله يحاسبهم ثم يزن أعمالهم، لا أنه يكتفي بالمحاسبة عن الوزن (إلا من استثنى منهم) فإنه لا يحاسبهم ولا يزن أعمالهم. ويحتمل أيضا أن يكون المعنى: أن الله يوقفهم على أعمالهم تفصيلاً، ولا يكتفي بالمعرفة الإجمالية التي تتأتى من طريق الوزن. ونقل السفاريني عن الثعلبي تعريفه للحساب قائلاً: (الحساب تعريف الله – عزوجل – الخلائق مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم ما قد نسوه من ذلك، يدل على هذا قوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6]) (¬2) والظاهر: أن تعريف الثعلبي أشمل من تعريف السفاريني، لأنه يتضمن تعريف الله عباده بأعمالهم تفصيلاً على مقدار ما يستحقونه من الجزاء، خيراً أو شراً، وتعريف السفاريني ينفرد بأن هذه المحاسبة لا يغني عنها الميزان، ولا تغني عن الميزان. وقال القرطبي رحمه الله في تعريف الحساب: (ومعناه أن البارئ – سبحانه- يعدد على الخلق أعمالهم من إحسان وإساءة، يعدد عليهم نعمه ثم يقابل البعض بالبعض) (¬3). ومعنى هذه العبارة: أن نتيجة مقابلة بعضها ببعض أي السيئات بالحسنات – لإظهار أيهما أرجح، وعليه يحكم على الشخص، إن كان من أهل الخير أو أهل الشر. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 908 ويراد بالحساب والجزاء أن يوقف الحق تبارك وتعالى عباده بين يديه ويعرفهم بأعمالهم التي عملوها وأقوالهم التي قالوها وما كانوا عليه في حياتهم الدنيا من إيمان وكفر واستقامة وانحراف وطاعة وعصيان وما يستحقونه على ما قدموه من إثابة وعقوبة، وإيتاء العباد كتبهم بأيمانهم إن كانوا صالحين وبشمالهم إن كانوا طالحين. ويشمل الحساب ما يقوله الله لعباده وما يقولونه له وما يقيمه عليهم من حجج وبراهين وشهادة الشهود ووزن للأعمال. والحساب منه اليسير ومنه العسير ومنه التكريم ومنه التوبيخ والتبكيت ومنه الفضل والصفح ومتولي ذلك أكرم الأكرمين. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر – ص: 193 ¬

(¬1) ((لوامع الأنوار)) (2/ 165)، وانظر: ((الكواشف الجلية)) (ص: 343). (¬2) ((لوامع الأنوار)) (2/ 165). (¬3) ((التذكرة)) (ص: 271).

المبحث الثاني: أدلة إثبات الحساب

تمهيد لقد حظي ذكر الحساب بنصوص كثيرة في كتاب الله – عز وجل – وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه جميع أهل الإسلام، إذ هو من المسائل الأخروية المعلومة من الدين بالضرورة. وقد أكثر الله من ذكره في القرآن الكريم، في مواضع كثيرة، بعبارات متنوعة، ودلالات مختلفة مصوراً هول ذلك, أو مخبراً عنه ومبشراً به، كل ذلك لزيادة العناية وللفت أنظار الناس إليه ليكونوا على بينة من أمرهم فيستعدوا له بالعمل الصالح إذ أنه من أهم الأمور التي تحدث في يوم القيامة، بل هو المراد ببعث الناس (¬1) وقيامهم من قبورهم وفي الموقف (¬2). وبه يتميز الناس فيسعد من يسعد, ويشقى من يشقى, حينما يفصل الله بين خلقه في أكمل صور العدل وأجلها، ونعرض فيما يلي أدلة إثباته من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 913 ¬

(¬1) لأن ما يقع بعده من عذاب أو نعيم إنما هو نتيجة للحساب (¬2) أي: وقيامهم في الموقف.

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم الأدلة في القرآن الكريم على وقوع الحساب كثيرة لا يتسع المقام لذكرها كلها غير أننا سنقتصر على إبراز أهم الجوانب التي جاءت في أمر الحساب، فمن ذلك: 1ـ ما جاء في إخباره عز وجل عن سرعة وقوع الحساب، فقال تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [المائدة:4] وقال تعالى في بيان أن سرعة ذلك الحساب يكون مع تمام العدل: لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [إبراهيم: 51] اليوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ اليوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر: 17] وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] 2ـ والحساب تارة يكون يسيراً على أهل الإيمان والطاعات, وتارة يكون عسيراً على أهل الكفر والمعاصي. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق: 7 - 9]. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ [الحاقة: 19 - 20] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ [الحاقة: 25 - 26] لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد: 18] يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور: 39] 3ـ وقال تعالى في بيان إحاطة علمه بكل ما يصدر عن العباد ظاهراً أو باطناً: لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284] وقد عفا الله عما يضمره الإنسان في قلبه فلا يحاسبه عليه. 4ـ وقال تعالى في مدح المؤمنين وخوفهم من هول الحساب: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ [الرعد: 21] 5ـ وقال تعالى في مدح الصابرين وبيان أجرهم: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] 6ـ وقال تعالى في ذم المكذبين بالحساب: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا [النبأ: 27]. وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر: 27]. وأما ما ورد من قولهم: رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] , فإنما هو قول على سبيل الاستهزاء (¬1) أو التحدي للرسول صلى الله عليه وسلم أن يريهم صكاكهم (¬2) بحظوظهم من الخير أو الشر الذي وعد الله عباده أن يؤتيهموها في الآخرة قبل يوم القيامة في الدنيا استهزاء بوعيد الله (¬3). ونكتفي بما تقدم ذكره من الآيات التي تدل على وقوع الحساب في يوم القيامة, وبها يتبين مدى عناية القرآن الكريم بذكره وعظيم شأنه. ونضيف إلى ما تقدم من الأدلة الواردة في القرآن الكريم أدلة أخرى من السنة النبوية فيما يأتي: الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 913 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 29). (¬2) أي كتب أعمالهم. (¬3) انظر: ((جامع البيان)) (23/ 135).

المطلب الثاني: الأدلة من السنة النبوية

المطلب الثاني: الأدلة من السنة النبوية وكما حظي ذكر الحساب في القرآن الكريم بكثرة العناية بذكره وإيراده في أكثر من موضع كما رأينا فيما سبق عرضه، فقد حظي كذلك بالذكر والعناية والاهتمام على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد وردت أحاديث كثيرة بشأنه وسنذكر منها ما يتبين به صدق ما قدمناه وذلك فيما يلي: قال صلى الله عليه وسلم في الحث على الاستعداد بالعمل الصالح, ومحاسبة النفس, وعدم تركها ترتع كيف شاءت، وهو ما ورد عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها, وتمنى على الله الأماني)) (¬1). قال الترمذي: (ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((دان نفسه)) يقول: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة) (¬2). فإذا لم يستعد العبد بالعمل الصالح, ولم يسلك ما أمره الله به, ولم ينته عما نهاه عنه بل كفر بربه ولقائه, فإنه سيندم يوم القيامة, ويتمنى أن لو كان له ملء الأرض ذهباً ويفتدي به لو نفعه حين يحاسب بين يدي الله تبارك وتعالى. كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك)) (¬3). وقدجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في سهولة الحساب ويسره وتجاوز الله تعالى: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 7 - 9]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)) (¬4). وفي بعض روايات هذا الحديث: ((من حوسب عذب)) إلخ الحديث (¬5). وقال صلى الله عليه وسلم في تجاوز الله تعالى عمن يتجاوز عن الناس في الحساب, وييسر عليهم, وتخفيف الله عن عباده، عن أبي مسعود البدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر. قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه)) (¬6). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: اللهم حاسبني حساباً يسيراً، فلما انصرف قلت: يا نبي الله ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر الله في كتابه فيتجاوز عنه، من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك، وكل ما يصيب المؤمن يكفر الله عز وجل به عنه حتى الشوكة تشوكه)) (¬7). ¬

(¬1) رواه الترمذى (2459)، وابن ماجه (4983)، وأحمد (4/ 124) (17164)،، وأبو نعيم فى ((الحلية)) (1/ 267)، والطبراني (7/ 281) (7141)، والحاكم (1/ 125)، والبيهقي (3/ 369) (6306). قال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخارى. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 333). (¬2) ((سنن الترمذي)) (5/ 449). (¬3) رواه البخاري (6538)، ومسلم (2805). (¬4) رواه البخاري (103). (¬5) رواه البخاري (6538)، ومسلم (2805). (¬6) رواه مسلم (1561). (¬7) رواه أحمد (6/ 48) (24261)، وابن خزيمة (2/ 30) (849)، وابن حبان (16/ 372) (7372)، والحاكم (1/ 385) وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الألباني في ((أصل صفة الصلاة)) (3/ 1007): إسناده جيد.

وعن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اثنان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب)) (¬1). وعن السدي قال: حدثني من سمع عليًّا يقول: لما نزلت هذه الآية: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء [البقرة: 284] أحزنتنا، قال: قلنا: يحدث أحدنا نفسه فيحاسب به، لا ندري ما يغفر منه وما لا يغفر، فنزلت هذه الآية بعدها فنسختها: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286]. وعن العدل في القصاص يوم القيامة وتبادل الحسنات والسيئات يقول صلى الله عليه وسلم: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثمَّ دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخلص المؤمنون من النار, فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار, فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا)) (¬3) وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ناساً لا يحاسبون، وهم سبعون ألفاً إكراماً لهم كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق, فنظرت فإذا سواد عظيم, فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر, فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومنهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه, فقال: هم الذين لا يرقون, ولا يسترقون, ولا يتطيرون, وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة)) (¬4) وفي بيان أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يقضى بين الناس بالدماء)) (¬5) عن حريث بن قبيصة قال: قدمنا المدينة فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، قال فجلست إلى أبي هريرة فقلت: إني سألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله أن ينفعني به، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح, وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع, فيكمل بها ما نتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)) (¬6) وعن أول الخلق حساباً يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نحن آخر الأمم وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون)) (¬7). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 916 ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 427) (23674، 23675)، وأبو نعيم فى ((معرفة الصحابة)) (5/ 2525)، والمنذري (4/ 147). وقال: رواه أحمد بإسنادين، رواة أحدهما محتج بهم فى الصحيح، ومحمود له رؤية، ولم يصح له سماع فيما أرى. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 260): رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح. وقال أيضاً (2/ 324): رجاله رجال الصحيح، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 36) كما قال ذلك في المقدمة. (¬2) رواه البخاري (6534). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (6535). (¬4) رواه البخاري (6541). (¬5) رواه البخاري (6533)، ومسلم (1678). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. (¬6) رواه أبو داود (864)، والترمذي (413)، والنسائي (1/ 232)، وابن ماجه (1425)، وأحمد (2/ 425) (9490). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال النووي في ((المجموع)): إسناده صحيح بمعناه. وقال ابن الملقن في ((تحفة المحتاج)) (1/ 333): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬7) رواه ابن ماجه (3482). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 337): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

المبحث الثالث: قواعد محاسبة العباد على أعمالهم

المطلب الأول: العدل التام الخالي من الظلم يوفي الحق عز وجل عباده في يوم القيامة أجورهم كاملة غير منقوصة ولا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281]. وقال لقمان في وصيته لابنه معرفا إياه بعدل الله: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، وقال تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7 - 8]، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى في هذه النصوص أنه يوفي كل عبد عمله وأنه لا يضيع منه ولا ينقص منه مقدار الذرة. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر – ص: 203

المطلب الثاني: لا يؤخذ أحد بجريرة غيره

المطلب الثاني: لا يؤخذ أحد بجريرة غيره قاعدة الحساب والجزاء التي تمثل قمة العدل ومنتهاه أن الله يجازي العباد بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولا يحمل أحدا وزر غيره قال تعالى: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر – ص: 204

المطلب الثالث: اطلاع العباد على سجلات أعمالهم

المطلب الثالث: اطلاع العباد على سجلات أعمالهم حتى يحكموا على أنفسهم فلا يكون لهم بعد ذلك عذر قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]، وقال: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر – ص: 206

المطلب الرابع: مضاعفة الحسنات دون السيئات

المطلب الرابع: مضاعفة الحسنات دون السيئات ومن رحمته أن يضاعف أجر الأعمال الصالحة إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [التغابن:17] وأقل ما تضاعف به الحسنة عشرة أضعاف: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] أما السيئة فلا تجزى إلا مثلها وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا [الأنعام:160]. وهذا مقتضى عدله تبارك وتعالى. ومن الأعمال التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تضاعف عشرة أضعاف قراءة القرآن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) (¬1)، وغير ذلك كالصلاة، والصوم. ومن فضل الله أن المسلم الذي يهم بفعل الحسنة ولكنه لا يفعلها تكتب له حسنة تامة، وأن المسلم الذي يهم بفعل السيئة ثم تدركه مخافة الله فيتركها تكتب له حسنة تامة. عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة)) (¬2). وتبلغ رحمة الله بعباده وفضله عليهم أن يبدل سيئاتهم حسنات عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا. فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه. فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا)). فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (¬3). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر – ص: 207 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2910). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (901) كما أشار لذلك في مقدمته. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (6491)، ومسلم (131). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (190).

المطلب الخامس: إقامة الشهود

المطلب الخامس: إقامة الشهود وقد أشارت أكثر من آية إلى الشهداء الذين يشهدون على العباد كقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وقوله تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء [الزمر:69]. وأول من يشهد على الأمم رسلها فيشهد كل رسول على أمته بالبلاغ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [النساء:41]، وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء [النحل:89]، وقوله: شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ هم الرسل لأن كل أمة رسولها منها، كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]. وكما يشهدون على أممهم بالبلاغ يشهدون عليهم بالتكذيب، ومن الأشهاد الأرض والأيام والليالي تشهد بما عمل فيها وعليها ويشهد المال على صاحبه، كما تشهد الملائكة: وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [هود:18]. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر – ص: 212

المبحث الرابع: متى يكون الحساب؟ وأين يكون المحاسبون؟

المبحث الرابع: متى يكون الحساب؟ وأين يكون المحاسبون؟ حينما يبعث الله العباد من قبورهم يخرجون وهم لا يذكرون شيئاً من أعمالهم التي قدموها في حياتهم الدنيا، كما ذكر الله ذلك عنهم في كتابه العزيز في قوله عز وجل: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6] وما أسرع نسيان الإنسان لأعماله التي يعملها هو غافل لا يدري أن هناك من يراقبه مراقبة دقيقة يسجل عليه كل ما يصدر عنه من قول أو فعل. قال الطبري عن معنى الآية: (يقول تعالى ذكره أحصى الله ما عملوا، فعده عليهم, وأثبته, وحفظه, ونسيه عاملوه، والله على كل شيء شهيد) (¬1). فإذا جمعهم الله في الموقف, وأذن بفصل القضاء فيهم أعطاهم الله تلك الكتب ليقفوا على ما فيها، ثم بعد ذلك تبدأ المحاسبة: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا [الانشقاق: 7 - 10] وفي تقديم الله تعالى ذكر الكتاب- أو صحف الأعمال – على ذكر الحساب دلالة على تقديم أخذ الصحف على الحساب, وفي هذا يقول القرطبى: (فإذا وقف الناس على أعمالهم, من الصحف التي يؤثرها بعد البعث حوسبوا عليها) (¬2). وقبل حسابهم يمتاز كل فريق عن الأخر, المؤمنون في مكان, وغيرهم من الكفار كل فرقة في مكان, قال الحافظ ابن كثير: (فإذا نصب كرسي فصل القضاء, انماز الكافرون عن المؤمنين في الموقف إلى ناحية الشمال وبقي المؤمنون عن يمين العرض, ومنهم من يكون بين يديه, قال تعالى: وَامْتَازُوا اليوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59]) (¬3) قال الطبري في معناها: (أي تميزوا) (¬4). وقال ابن كثير في معناها: (يقول الله تعالى مخبراً عما يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة, من أمره لهم أن يمتازوا, بمعنى يميزون عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ [يونس: 28]. وقال عز وجل: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: 14] أي يصيرون صدعين فرقتين) (¬5) ويقول مقاتل: (معناه: اعتزلوا اليوم – بمعنى في الآخرة – من الصالحين)، وقال السدي: (كونوا على حدة)، وقال الزجاج: (انفردوا عن المؤمنين) , وقال الضحاك: (يمتاز المجرمون بعضهم من بعض, فيمتاز اليهود فرقة, والنصاري فرقة, والمجوس فرقة, والصابئون فرقة, وعبدة الأوثان فرقة)، وقال داود بن الجراح: (يمتاز المسلمون عن المجرمين, إلا أصحاب الأهواء فإنهم يكونون مع المجرمين) (¬6). وقد أخرج الطبري بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة, أمر الله جهنم، فيخرج منها عنق ساطع مظلم, ثم يقول: أَلَمْ أَعْهَدْ إليكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ... [يس: 60] الآية إلى قوله: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. .. [يس: 63] وَامْتَازُوا اليوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] فيتميز الناس ويجثون وهي قوله تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً. [الجاثية: 28])) (¬7). ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (28/ 12). (¬2) ((التذكرة)) (ص: 255). (¬3) ((النهاية)) (2/ 110). (¬4) ((جامع البيان)) (23/ 22). (¬5) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 576). (¬6) انظر: ((فتح القدير)) (4/ 337) هكذا في الكتاب: (فإنهم يكونون مع المجرمين). (¬7) ((جامع البيان)) (23/ 22).

فالثابت هنا هو تميز كل فريق عن الفريق الآخر, دون تحديد للجهات التي ذكرها الحافظ ابن كثير رحمه الله, كما في الآية السابقة, وكذا في قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ [يونس: 28]. قال ابن كثير في معني الآية: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ [يونس: 28]: (الزموا أنتم وهم مكانا معينا، امتازوا فيه عن مقام المؤمنين). (4) وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. [الروم: 14] وفسر الرازي هذا التفرق بأنه: (يجعل فريق في الجنة, وفريق في السعير) (5). وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] أي يصيرون فرقتين وبمثل ما فسر الرازي هذا التفرق فسره كذلك الشوكاني حيث قال: (والمراد بتفرقهم هاهنا: أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة وأهل النار يصيرون إلى النار) (¬1). وقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22 - 23] وهذه الآية فسرها بعضهم بأن كل صنف يتميز مع مثله, فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قول الله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات: 22]، قال: (أمثالهم, الذين هم مثلهم, يجيء أصحاب الربا مع أصحاب الربا, وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر, أزواج في الجنة, وأزواج في النار). وفي رواية عن ابن عباس: قال: (أشباههم) , وفي لفظ: (نظراءهم)، وفي رواية عن عكرمة مثله. وعن مجاهد قال: (أمثالهم, القتلة مع القتلة, والزناة مع الزناة, وأكلة الربا مع أكلة الربا) (¬2). وخلاصة ما قيل عن تميز المؤمنين عن غيرهم, وتميز كل فرقة بمفردها: أن الله تعالى أمر بأن يتميز أهل محبته ورضوانه عن أهل عداوته وعصيانه, إلى حيث يشاء سبحانه وتعالى, كما أمر أن ينفرد أهل عصيانه عن أهل طاعته, ليكون لكل فرقة من الفرق موضع يليق بها, وليعرف كل فريق حاله. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 925 ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (4/ 229). (¬2) انظر: ((الدر المنثور)) (7 – 84).

المبحث الخامس: من يشملهم الحساب

المبحث الخامس: من يشملهم الحساب الناس في يوم القيامة يردون فصل القضاء طوائف متفرقة, وأصنافاً شتى, منهم من يستحق غاية الإكرام, ومنهم من يستحق غاية التعذيب, ومنهم من هو بين ذلك. فهناك الأنبياء, وهناك المؤمنون – السابقون منهم والمقتصدون -, وهناك من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً, وهناك كفارهم أعداء الله ومحل سخطه وبغضه. إنهم يردون أصنافاً شتى لا يعلمهم إلا الله تعالى, فمن من هؤلاء يحاسب؟ ومن من هؤلاء لا يحاسب, بل يكرمهم الله فلا يحاسبهم؟ قد أجمل القرطبي رحمه الله الجواب عن هذه الأصناف بالنسبة للحساب, فقسمهم إلى ثلاثة فرق فقال: (فرقة: لايحاسبون أصلاً, وفرقة: تحاسب حساباً يسيراً – وهما من المؤمنين - وفرقة: تحاسب حساباً شديداً, يكون منها مسلم وكافر, وإذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمة الله, فلا يبعد أن يكون من الكفار من هو أدنى إلى غضب الله, فيدخله النار بغير حساب) (¬1). والواقع أن الإجابة تحتاج إلى تفصيل أكثر لطوائف الناس, وسنذكر فيما يلي تفصيل ما قيل عن كل طائفة: 1 - أما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ففي محاسبة الله تعالى لهم خلاف بين العلماء, وسبب الخلاف فيهم هو ما جاء فى قوله تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6] فإن هذه الآية تدل على أن الله يحاسب جميع البشر؛ الرسل والمرسل إليهم, وهذا هو ما يذهب إليه بعض العلماء. قال الرازي في إثبات أن السؤال يقع على الأنبياء والأمم أيضاً: (المسألة الثانية: الذين أرسل إليهم هم الأمة, والمرسلون هم الرسل, فبين تعالى أنه يسأل هذين الفريقين. قال: ونظير هذه الآية قوله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92, 93]) (¬2) وقال أيضاً في معرض عده للمسائل التي اشتملت عليها الآية: (المسألة الرابعة: الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده؛ لأنهم لا يخرجون عن أن يكون رسلاً أو مرسلاً إليهم, ويبطل قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار) (¬3). ويذكر ابن كثير أن الله تعالى يسأل الأنبياء عن تبيلغ أقوامهم رسالة الله تعالى, فقال: (فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به, ويسأل الرسل أيضاً عن إبلاغ رسالاته. ثم نقل عن ابن عباس في تفسير الآية: أن الله يسأل الرسل عما بلغوا) (¬4) ويذكر الشوكاني في معنى الآية: وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6] (أن السؤال للأنبياء الذين بعثهم الله: أي نسألهم عما أجاب به أمهم عليهم, ومن أطاع منهم ومن عصى, وقيل: المعنى فلنسألن الذين أرسل إليهم يعني الأنبياء, ولنسألن المرسلين يعني الملائكة) (1). وقال السفاريني عن مسألة حسابهم: (والجواب أنه لاحساب على الأنبياء عليهم السلام على سبيل المناقشة والتقريع). (2) ويقول النسفي فيما ينقله عنه السفاريني: (الأنبياء لاحساب عليهم, وكذلك أطفال المؤمنين, وكذلك العشرة المبشرة بالجنة, هذا فى حساب المناقشة, وعموماً الآيات الكريمة مخصوص بأحاديث من يدخل الجنة بغير حساب, ولهذا قال علماؤنا في عقائدهم: ويحاسب المسلمون المكلفون, إلا من شاء الله أن يدخل الجنة بغير حساب وكل مكلف مسؤول, ويسأل من شاء من الرسل عن تبليغ الرسالة, ومن شاء من الكفار عن تكذيب الرسل) (3). وعلى القول بأنهم يسألون – ومعلوم أنه لا ذنوب لهم ليحاسبوا عليها – فما المقصود من وقوع السؤال عليهم؟ ¬

(¬1) ((التذكرة)) (ص 343). (¬2) ((التفسير الكبير)) (14 – 22). (¬3) ((التفسير الكبير)) (14/ 24). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 200).

أجاب الرازي عن ذلك بقوله: (فإن قيل: فما الفائدة فى سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة؟ قلنا لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة؛ التحق التقصير بكليته بالأمة؛ فيضاعف إكرام الله فى حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير, ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة فى حق الكفار لما ثبت أن كل التقصير كان منهم) (4). فالذي يظهر أن إطلاق القول بأن الأنبياء يسألون؛ أن المقصود به مساءلتهم عن تبليغهم الدعوة إلى أقوامهم, وهو مجرد مساءلة لزيادة إقامة الحجة على العصاة, وليس مساءلة مناقشة وتقريع, كما ظهر مما سبق. وأما إطلاق القول بأنهم لا يسألون, فالمراد به ما تقدم من أنهم لا يسألون سؤال مناقشة واستظهار. وإذا كان قد ثبت أن طائفة من أتباع الأنبياء يدخلون الجنة بغير حساب, فكيف بالأنبياء الذين لهم المزية الأولى في كل تكريم؟ قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عن مساءلة الأنبياء: (وسؤال الله للرسل مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] لتوبيخ الذين كذبوهم, كسؤال الموءودة بأي ذنب قتلت لتوبيخ قاتلها) (5). 2 - وأما بقية المؤمنين بصورة عامة: فلا ريب أن الله تعالى يحاسبهم محاسبة من توزن حسناته وسيئاته, وبالحساب يمتاز بعضهم على بعض بالدرجات؛ نتيجة لثقل موازينهم وخفتها فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8] وقد قدمنا ذكر للنصوص التي تدل على محاسبة الله تعالى عباده المؤمنين. وأما أولئك السبعون الألف الذين ورد النص بأنهم لا يحاسبون, فهو إكرام من الله تعالى لنبينا محمد صلي الله عليه وسلم لأمته. قال النووي فى تعليقه على هذا الحديث: (إن فيه عظم ما أكرم الله سبحانه وتعالى به النبي صلي الله عليه وسلم وأمته, زادها الله فضلاً وشرفاً) (1) وقال السفاريني: (ثبت فى عدة أخبار عن النبى المختار صلى الله عليه وسلم – ما كر الليل على النهار – أن طائفة من هذه الأمة بلا ارتياب يدخلون الجنة بغير حساب, فيدخلون جنات النعيم قبل وضع الموازين, وأخذ الصحف بالشمال واليمين). (2) ومصداق هذا ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلي الله عليه وسلم فى السواد الذي رفع له كما مر, وعن أبي أمامة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ((إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألف بغير حساب, فقال يزيد الأخنس: والله ما أولئك في أمتك إلا كالذباب الأصهب في الذبان, فقال رسول الله: فإن ربي عز وجل قد وعدني سبعين ألفاً مع كل ألف سبعين ألفاً, وزادني ثلاث حثيات, قال فما حوضك؟ قال: ما بين عدن إلى عمان, وأوسع وأوسع – يشير بيده – قال: فيه مثعبان من ذهب وفضة. قال: فما حوضك يا نبي الله؟ قال: أشد بياضاً من اللبن, وأحلى من العسل, وأطيب من رائحة المسك, من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً, ولم يسود وجهه أبداً)) (1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: ((سألت الله تعالى الشفاعة لأمتي, فقال لك سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب, قلت ربي زدني, فحثا لي بيديه مرتين, وعن يمينه, وعن شماله)) (1). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 945

المبحث السادس: ما يسأل عنه العباد

المطلب الأول: الكفر والشرك فيسألهم عن الشركاء والأنداد الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، قال تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ [الشعراء:93]، ويسألون عن عبادتهم لغير الله من تقديم القرابين للآلهة التي كانوا يعبدونها. قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ [النحل:56]، ويسألون عن تكذيبهم للرسل: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ [القصص:66]. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 216

المطلب الثاني: ما عمله في دنياه

المطلب الثاني: ما عمله في دنياه يسأل المرء في يوم القيامة عن جميع أعماله التي عملها في الحياة الدنيا كما قال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92 - 93] وعن أبى برزة الأسلمى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه)) (¬1). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 217 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2417)، والدارمي (1/ 144). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصحح إسناده الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (871) كما أشار إلى ذلك في مقدمته. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المطلب الثالث: النعيم الذي يتمتع به

المطلب الثالث: النعيم الذي يتمتع به يسأل الله عباده في يوم القيامة عن النعيم الذي خولهم إياه في الدنيا، كما قال: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8]. يعني بالنعيم شبع البطون، وبارد الماء، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم، وقال سعيد بن جبير: حتى عن شربة عسل. وقال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا. وقال الحسن البصري: من النعيم الغذاء والعشاء. وقال أبو قلابة: من النعيم أكل السمن والعسل بالخبز النقي. وعن ابن عباس: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار (¬1) وهذا الذي فسروها به من باب التنوع في التفسير، فإن أصناف النعيم كثيرة لا تعد ولا تحصى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [النحل:18]، وبعض أنواع النعيم من الضروريات وبعضها من الكماليات، والناس يتفاوتون في ذلك فيما بينهم، ويوجد في عصر ما لا يجده أهل عصور أخرى، وفي بلد ما لا يجده أهل بلاد أخرى، وكل ذلك يسأل عنه العباد. روى الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك؟ ونرويك من الماء البارد)) (¬2). وبعض الناس لا يستشعر النعم العظيمة التي وهبه الله إياها، فلا يدرك النعمة التي في شربة الماء، ولقمة الطعام، وفيما وهبه الله من مسكن وزوجة وأولاد، ويظن أن النعم تتمثل في القصور والبساتين والمراكب فحسب، فقد سأل رجل عبدالله بن عمرو بن العاص فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبدالله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. فأنت من الأغنياء. قال فإن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك. (¬3) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) (¬4)، ومعنى هذا أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون. وفي (مسند أحمد) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا بأس بالغنى لمن اتقى الله عز وجل، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى، وطيب النفس من النعم)) (¬5). وفي بعض الأحاديث النبوية بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم عن صورة من صور السؤال عن النعيم الذي يواجه الله به عباده في ذلك اليوم، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يلقى (الرب) العبد فيقول: أي فُل، ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. قال: فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ قال: فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول: أي فُل، ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك. فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع. فيقول: ههنا اذن. قال: ثم يقال له: الآن نبعث عليك شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه، من ذا يشهد علي؟ فيختم الله على فيه. ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله. وذلك ليعذر من نفسه. وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه)). (¬6) والسؤال عن النعيم سؤال عن شكر العبد لما أنعم الله به عليه، فإذا شكر فقد أدى حق النعمة، وإن أبى وكفر، أغضب عليه الله، ففي (صحيح مسلم) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)) (¬7). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 218 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (10/ 3460). (¬2) رواه الترمذي (3358). وقال: هذا حديث غريب. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 406)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) رواه مسلم (2979). (¬4) رواه البخاري (6412). (¬5) رواه ابن ماجه (2141)، وأحمد (5/ 372) (23206)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (231). من حديث معاذ بن عبد الله بن خبيب عن أبيه عن عمه. قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (3/ 6): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬6) رواه مسلم (2968). (¬7) رواه مسلم (2734).

المطلب الرابع: العهود والمواثيق

المطلب الرابع: العهود والمواثيق يسأل الله عباده عما عاهدوه عليه وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً [الأحزاب: 15]، وكل عهد مشروع بين العباد فإن الله سائل العبد عن الوفاء به: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34] القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 221

المطلب الخامس: السمع والبصر والفؤاد

المطلب الخامس: السمع والبصر والفؤاد يسأل الله العباد عن جميع ما يقولونه، ولذلك حذرهم من القول بلا علم وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء: 36]، قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله. قال ابن كثير: ومضمون ما ذكروه في الآية: أن الله نهى عن القول بغير علم، بل بالظن، الذي هو التوهم والخيال. كما قال تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وفي الحديث: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) (¬1)، وفي (سنن أبي داود): ((بئس مطية الرجل زعموا)) (¬2)، وفي الحديث الآخر: ((إن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا)) (¬3) وفي (الصحيح): ((من تحلم حلماً كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل)) (¬4). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص221 ¬

(¬1) رواه البخاري (5143)، ومسلم (2563). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه أبو داود (4972). من حديث أبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي عن أبي قلابة قال: قال أبو مسعود لأبي عبدالله أو قال أبو عبدالله لأبي مسعود ثم ذكر الحديث. والحديث سكت عنه أبو داود. قال النووي في ((الأذكار)) (470): إسناده صحيح. وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (4/ 126): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (7043). (¬4) رواه البخاري (7042) بلفظٍ مقاربٍ. من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

المبحث السابع: أول من يحاسب من الناس

المبحث السابع: أول من يحاسب من الناس يحاسب الله سبحانه وتعالى البشر في أسرع وقت كما ذكر, سبحانه لا يشغله شأن عن شأن, وقد اختلفت أقوال العلماء في ذكر أول من يحاسب في يوم القيامة من الجماعات أو الأفراد, هل هم الملائكة؟ أم هو اللوح المحفوظ؟ أم هم الأنبياء والرسل؟ أم أرباب الأموال والسعة؟ أم أنهم أول من تبارزوا في يوم بدر؛ علي بن أبي طالب, وحمزة, وعبيدة, وأقرانهم من المشركين؟ أم أن أول المحاسبين جاران من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أم الزوج وزوجته؟. كل ذلك قد قيل, ونوضح فيما يلي أدلة تلك الأقوال والجمع بينها: - أما ما جاء من أنهم الملائكة: فهو ما روى ابن أنعم عن حبان بن أبي جيلة فيما يعزوه البرديسي قال: (أول من يدعى يوم القيامة إسرافيل, فيقول الله عز وجل ثناؤه: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم يا رب, فيخلى عن إسرافيل, ويقول لجبريل: ما صنعت بعهدي؟ فيقول: بلغت الرسل, فتدعى الرسل فيقول: هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون: نعم فيخلى جبريل. ويقال للرسل: هل بلغتم عهدي؟ فيقولون: نعم قد بلغناه الأمم, فتدعى الأمم فيقال: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمكذب, ومصدق, فتقول الرسل: لنا عليكم شهداء, فيقول الله تبارك وتعالى وهو أعلم: من؟ فيقولون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فيقال لهم: أتشهدون أن الرسل قد بلغت الأمم؟ فتقول الأمم: يا رب, كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟ فيقول الله عز وجل: تشهدوا عليهم ولم تدركوهم؟ فيقولون: يا ربنا أرسلت إلينا رسولاً, وأنزلت علينا كتاباً, فقصصت علينا فيه أن قد بلغوا قولك) (1). - وأما ما جاء من أول المحاسبين اللوح المحفوظ: فهو ماجاء عن سنان أنه قال: (اللوح المحفوظ معلق بالعرش, فإذا أراد الله أن يوحي بشئ كتب في اللوح المحفوظ, فيجيء اللوح حتى يقرع جبهة إسرافيل, فينظر فيه, فإن كان لأهل السماء دفعه إلى ميكائيل, وإن كان لأهل الأرض دفعه إلى جبريل. فأول ما يحاسب يوم القيامة اللوح المحفوظ, يدعى به ترعد فرائصه, فيقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم, فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: إسرافيل، فيجاء بإسرافيل ترعد فرائصه, فيقال: هل بلغك اللوح؟ فإذا قال: نعم؛ قال اللوح: الحمد لله الذى نجاني من سوء الحساب, ثم كذلك). وفى حديث وهب بن الورد أن ((إسرافيل عليه السلام يقول: بلغت جبريل, فيدعى جبريل عليه السلام ترعد فرائصه, فيقال: ما صنعت فيما بلغك إسرافيل؟ فيقول: بلغت الرسل، فيؤتى بالرسل فيقال: ما صنعتم فيما أدى إليكم جبريل؟ فيقولون: بلغنا الناس, فهو قوله تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين [الأعراف: 6])) (2). وأما ما جاء من أن أول المحاسبين الأنبياء والرسل فقد قال البرديسي: (فيبدأ بالأنبياء عليهم الصلاة السلام, فيقول: ماذا أجبتم؟ قيل في تفسيرها: كانوا قد علموا ولكن ذهبت عقولهم, وغربت أفهامهم ونسوا من شدة الهول, وعظيم الخطب, وصعوبة الأمر، فقالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب, ثم يقويهم الله عز وجل فيدعى بنوح عليه الصلاة والسلام) (1)

ثم استدل بما أخرج البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة, فيقول: لبيك وسعديك يا رب, فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير, فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته, فيشهدون أنه قد بلغ, ويكون الرسول عليهم شهيداً, وذلك في قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]. والوسط: العدل, أى عدولاً خياراً, وخير الأمور الوسط)) (2). - وأما ما جاء من أنهم العلماء, أو المغازون, أو أرباب المال والسعة: فهو ما ذكره السفاريني إلا أنه لم يسنده إلى أحد (3). - أما ما جاء من أنهم الذين تبارزوا فى يوم بدر: فهو ما أخرج البخاري بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ((أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة)) (1). وروى كذلك عن قيس بن عباد وعن أبي ذر عن علي بن أبي طالب أن الآية من قوله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19]. أنها نزلت في شأن الذين تبارزوا يوم بدر, وهم حمزة, وعلي, وعبيدة – أبو عبيدة – ابن الحارث, وشيبة بن ربيعة, وعتبة, والوليد بن عتبة (4). - وأما ما جاء من أنهم جاران: فهو ما روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((أول خصمين يوم القيامة جاران)) (1). ويجمع بين تلك الأقوال: أن ما صح من تلك الأقوال والروايات فإنه يحمل على أولية مقيدة فى بابها, على أن هذه الروايات التي تقدمت تحتاج إلى نصوص تؤيدها ... وأما بالنسبة للأمم, فقد جاء في السنة أن أول الأمم يقضي الله بينهم هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وهذه مزية ومفخرة لهم؛ ليكونوا شهداء على الناس. ومما ورد في هذا ما أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن آخر الأمم, وأول من يحاسب, يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون)) (1). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((يجئ النبي ومعه الرجلان. ويجئ النبي ومعه الثلاثة, وأكثر من ذلك وأقل, فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم, فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا, فيقال: من شهد لك؟ فيقول: محمد وأمته, فتدعى أمة محمد, فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم, فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون أخبرنا نبينا بذلك؛ أن الرسل قد بلغوا فصدقناه قال فذلكم قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143])) (1). وورد عن رفاعة الجهني قال: ((صدرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي نفس محمد بيده ما من عبد يؤمن ثم يسدد إلا سلك به في الجنة, وأرجو ألا يدخلوها حتى تبوؤا أنتم ومن صلح من ذراريكم مساكن في الجنة, ولقد وعدني ربي عز وجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب)) (1). وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنكم وفيتم سبعين أمة, أنتم خيرها وأكرمها على الله)) (¬1). فثبت بهذه النصوص أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم أول الأمم تحاسب, وأول الأمم تدخل الجنة, وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير: (ويكون أو الأمم يقضى بينهم هذه الأمة, لشرف نبيها صلى الله عليه وسلم، كما أنهم أول من يدخل على الصراط, وأول من يدخل الجنة). (1) الحياة الآخرة لغالب عواجي- بتصرف- 2/ 969 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3001)، وابن ماجه (3480)، وأحمد (5/ 3) (20041)، والحاكم (4/ 94)، والبيهقي (9/ 5) (18172). قال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 112)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/ 73): حسن صحيح، وله شاهد مرسل رجاله ثقات، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

المبحث الثامن: العباد وأنواع الحساب

المطلب الأول: أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله أول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله تبارك وتعالى الصلاة، فإن صلحت أفلح ونجح وإلا خاب وخسر، ففي (سنن الترمذي) و (النسائي) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئاً. قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)) (¬1). وفي (سنن أبي داود) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا – عز وجل – لملائكته: انظروا في صلاة عبدي، أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً، قال: انظروا، هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال بعد ذلك)) (¬2). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 223 ¬

(¬1) رواه الترمذي (413)، والنسائي (1/ 232). وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال النووي في ((المجموع)) (4/ 55): إسناده صحيح بمعناه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (864). وسكت عنه. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

المطلب الثاني: أنواع الحساب

المطلب الثاني: أنواع الحساب يتفاوت حساب العباد، فبعض العباد يكون حسابهم عسيراً وهؤلاء هم الكفرة المجرمون الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وتمردوا على شرع الله، وكذبوا بالرسل، وبعض عصاة الموحدين قد يطول حسابهم ويعسر بسبب كثرة الذنوب وعظمها. وبعض العباد يدخلون الجنة بغير حساب، وهم فئة قليلة لا يجاوزون السبعين ألفاً، وهم الصفوة من هذه الأمة، والقمم الشامخة في الإيمان والتقى والصلاح والجهاد، وسيأتي ذكرهم وصفتهم عند الحديث عن أهل الجنة وبعض العباد يحاسبون حساباً يسيراً، وهؤلاء لا يناقشون الحساب، أي لا يدقق، ولا يحقق معهم، وإنما تعرض عليهم ذنوبهم ثم يتجاوز لهم عنها. وهذا معنى قوله تبارك وتعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 7 - 8]، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 7 - 8]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)) (¬1). قال النووي في شرحه للحديث: معنى نوقش الحساب: استقصي عليه. قال القاضي: وقوله: (عذب) له معنيان: أحدهما: أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ. والثاني: أنه مفض إلى العذاب بالنار ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: (هلك) مكان (عذب) هذا كلام القاضي. قال النووي: وهذا الثاني هو (الصحيح)، ومعناه أن التقصير غالب في العباد فمن استقصي عليه، ولم يسامح هلك، ودخل النار، ولكن الله تعالى: يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء. ونقل ابن حجر عن القرطبي في معنى قوله: إنما ذلك العرض، قال: إن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منَّة الله عليه في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة. والمراد بالعرض - كما هو ظاهر من هذه الأحاديث - عرض ذنوب المؤمنين عليهم، كي يدركوا مدى نعمة الله عليهم في غفرانها لهم. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 224 ¬

(¬1) رواه البخاري (4939)، ومسلم (2876).

المطلب الثالث: أمثلة من السنة للمناقشة والعرض والمعاتبة

المطلب الثالث: أمثلة من السنة للمناقشة والعرض والمعاتبة ورد في السنة النبوية مشاهد للمناقشة والعرض والمعاتبة التي تكون من الله لعباده، وسنسوق لكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة مشهداً مما صح في السنة. - مناقشة المرائين روى مسلم والترمذي والنسائي عن شفي بن ماتع الأصبحي رحمه الله أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أسألك بحق وحق، لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: ((أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة، فمكثنا قليلاً، ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى، ثم أفاق ومسح عن وجهه، وقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خاراً على وجهه، فأسندته طويلاً، ثم أفاق، فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك. ويؤتى بصحاب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك، حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقيل ذلك. ثم يؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)). قال الوليد أبو عثمان المدائني: فأخبرني عقبة بن مسلم: أن شفياً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا. قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم: أنه كان سيافاً لمعاوية، فدخل عليه رجل، فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هكذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديداً، حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاء هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود: 15 - 16]. أخرجه الترمذي. (¬1) ¬

(¬1) رواه الترمذي (2382). وقال: هذا حديث حسن غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح ..

وفي رواية مسلم والنسائي عن سليمان بن يسار: قال: ((تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له ناتل أخو أهل الشام: أيها الشيخ حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فقال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأوتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالمٌ، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه بنعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار)) (¬1). - عرض الرب ذنوب عبده عليه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18])) (¬2). قال القرطبي في قوله: فيضع عليه كنفه أي: ستره ولطفه وإكرامه، فيخاطب خطاب ملاطفة، ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة، فيقول له: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيقول الله ممتناً عليه، ومظهراً فضله لديه: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، أي لم أفضحك بها فيها، وأنا أغفرها لك اليوم. - معاتبة الرب عبده فيما وقع منه من تقصير وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن معاتبة الرب لعبده يوم القيامة، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى: يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني؟ قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقتيك فلم تسقني؟ قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟)) (¬3). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 226 - إيتاء العباد كتبهم في ختام مشهد الحساب يعطى كل عبد كتابه المشتمل على سجل كامل لأعماله التي عملها في الحياة الدنيا وتختلف الطريقة التي يؤتى بها العباد كتبهم، فأما المؤمن فإنه يؤتى كتابه بيمينه من أمامه، فيحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله في الجنة مسروراً فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق: 7 - 9]، وإذا اطلع المؤمن على ما تحويه صحيفته من التوحيد وصالح الأعمال سر واستبشر، وأعلن هذا السرور، ورفع به صوته، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 19 - 24]. وأما الكافر والمنافق وأهل الضلال فإنهم يؤتون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم، وعند ذلك يدعو الكافر بالويل والثبور، وعظائم الأمور: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: 10 - 12]. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: 25 - 31]. وعندما يعطى العباد كتبهم يقال لهم: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29]. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 230 ¬

(¬1) رواه مسلم (1905)، والنسائي (6/ 23). (¬2) رواه البخاري (2441)، ومسلم (2768). (¬3) رواه مسلم (2569).

المبحث التاسع: التفاضل في الحساب

المبحث التاسع: التفاضل في الحساب قسم الله عباده في الحساب قسمين: الأول: من يكون حسابه يسيراً وهم أهل اليمين، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 7 - 8]. الثاني: من يلقى سوء الحساب وهم أهل جهنم، قال تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد: 18]. وفي نصوص السنة دلالة على أن المؤمنين في الحساب ثلاثة أصناف: فصنف لا يحاسب، وهؤلاء طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخبر عنهم صلى الله عليه وسلم, وعدتهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب، ففي الحديث: ((عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل: انظر، فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب)) (¬1). وفي رواية: ((هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب)) (¬2). فهذه زيادة فضيلة لهؤلاء أنهم يتقدمون الأمة، وجاء في وصفهم أنهم يدخلون الجنة: ((متماسكين آخذ بعضهم ببعض، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر)) (¬3). وفي حديث آخر أنهم يدخلون زمرة واحدة (¬4). وفي رواية في الصحيحين: ((سبعون ألفاً، أو سبعمائة ألف)) شك من الراوي (¬5). ووقع في أحاديث أخرى في غير الصحيحين أن مع السبعين ألفاً زيادة عليهم (¬6). والصنف الثاني: لا يناقشون الحساب، وإنما تعرض أعمالهم ثم يتجاوز لهم عنها، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نوقش الحساب عذب)) فقالت عائشة: ((أو ليس يقول الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا – فقال: إنما ذلك العرض, ولكن من نوقش الحساب يهلك)) (¬7). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: اللهم حاسبني حساباً يسيراً, فلما انصرف قلت: يا نبي الله ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه – (وفي رواية قال: الرجل تعرض عليه ذنوبه ثم يتجاوز له عنها) – أن من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك)) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (5752)، ومسلم (220). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (6541)، ومسلم (216). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (6554)، ومسلم (219). من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (217). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (6543)، ومسلم (219). من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. (¬6) ((فتح الباري)) (11/ 410). (¬7) رواه البخاري (103). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬8) رواه أحمد (6/ 48) (24261)، والحاكم (1/ 125). هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 175): أصله في الصحيح، وجود إسناده الألباني في ((أصل صفة الصلاة)) (3/ 1007).

والصنف الثالث: يناقشون الحساب ويسألون فيه عن أعمالهم، يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته (¬1). ومن أمثلة هذا الصنف الذي يناقش الحساب وتوزن حسناته وسيئاته صاحب البطاقة الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فبهت الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضروه، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)) (¬2). فهذه دلائل على تفاضل المؤمنين في الحساب. وفي هذا الباب تظهر فضيلة خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي اختصاصها بشهادتها للأنبياء على أممهم, وبشهادة رسولهم صلى الله عليه وسلم عليها، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]. وقال عز وجل: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [الحج: 78]. وتكون شهادة هذه الأمة على نحو ما قال صلى الله عليه وسلم: ((يجيء نوح وأمته، فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله جل ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ والوسط: العدل)) (¬3). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي –ص: 398 ¬

(¬1) ((الفتاوى)) (3/ 146). (¬2) رواه الترمذي (2850)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (2/ 213) (6994)، والحاكم (1/ 46، 529). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 173) - كما أشار إلى ذلك في مقدمته -. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (11/ 176): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (3339). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

الفصل الحادي عشر: اقتصاص المظالم بين الخلق

تمهيد يقتص الحكم العدل في يوم القيامة للمظلوم من ظالمه، حتى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة، حتى الحيوان يقتص لبعضه من بعض، فإذا انططحت شاتان إحداهما جلحاء لا قرون لها، والأخرى ذات قرون، فإنه يقتص لتلك من هذه، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) (¬1). والذي يعتدي على غيره بالضرب، يقتص منه بالضرب في يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري في (الأدب المفرد) والبيهقي في (السنن)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ضرب بسوط ظلماً، اقتص منه يوم القيامة)). وفي (معجم الطبراني الكبير) عن عمار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ضرب مملوكه ظالماً، أقيد منه يوم القيامة)) (¬2). وإسناده صحيح والذي يقذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد في يوم القيامة، إن كان كذاباً فيما رماه به، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال)) (¬3). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 237 ¬

(¬1) رواه مسلم (2582). (¬2) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (185)، والبيهقي (8/ 45). وقال الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)): صحيح. (¬3) رواه مسلم (1660).

المبحث الأول: كيف يكون الاقتصاص في يوم القيامة

المبحث الأول: كيف يكون الاقتصاص في يوم القيامة إذا كان يوم القيامة كانت ثروة الإنسان ورأس ماله حسناته، فإذا كانت عليه مظالم للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر ما ظلمهم، فإن لم يكن له حسنات أو فنيت حسناته، فإنه يؤخذ من سيئاتهم فيطرح فوق ظهره. ففي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلل منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) (¬1). وهذا الذي يأخذ الناس حسناته، ثم يقذفون فوق ظهره بسيئاتهم هو المفلس، كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) (¬2). والمدين الذي مات، وللناس في ذمته أموال يأخذ أصحاب الأموال من حسناته بمقدار ما لهم عنده، ففي (سنن ابن ماجه) بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وعليه دينار أو درهم، قضى من حسناته، ليس ثم دينار ولا درهم)) (¬3). وإذا كانت بين العباد مظالم متبادلة اقتص لبعضهم من بعض، فإن تساوى ظلم كل واحد منهما للآخر كان كفافاً لا له ولا عليه، وإن بقي لبعضهم حقوق عند الآخرين أخذها. ففي (سنن الترمذي) عن عائشة، قالت: ((جاء رجل فقعد بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني، ويخونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك، ولا عليك. وإن كان عقابك إياهم دون ذنبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47])) (¬4). ولما كان هذا شأن الظلم فحريٌّ بالعباد الذين يخافون ذلك اليوم أن يتركوه ويجتنبوه وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الظلم يكون ظلمات في يوم القيامة، ففي (صحيح البخاري) و (مسلم) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) (¬5). وفي (صحيح مسلم) عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) (¬6). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 238 ¬

(¬1) رواه البخاري (6534) بلفظ: (طرحت) بدلاً من (حمل). (¬2) رواه مسلم (2581). (¬3) رواه ابن ماجه (2414). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 46): إسناده حسن. قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (3/ 65): هذا إسناد فيه مقال مطر الوراق مختلف فيه، ومحمد بن ثعلبة بن سوَّاء قال فيه ابن أبي حاتم: أدركته ولم أكتب عنه. اهـ. ولم أر لغيره من الأئمة فيه كلاماً. وباقي رجال الإسناد ثقات على شرط مسلم. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬4) رواه الترمذي (3165). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالرحمن بن غزوان. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 223): عبدالرحمن بن غزوان ثقة احتج به البخاري بقية رجال أحمد احتج بهم البخاري ومسلم. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح الإسناد. (¬5) رواه البخاري (2447)، ومسلم (2579). (¬6) رواه مسلم (2578).

المبحث الثاني: عظم شأن الدماء

المبحث الثاني: عظم شأن الدماء من أعظم الأمور عند الله أن يسفك العباد بعضهم دم بعض في غير الطريق الذي شرعه الله تبارك وتعالى، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الترمذي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: يا رب، هذا قتلني: فيقول: لم قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزة لك. فيقول: فإنها لي. ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: إي رب، إن هذا قتلني. فيقول الله: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان. فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه)) (¬1) وفي (السنن) للترمذي، وأبي داود، وابن ماجه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً، فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟ حتى يدنيه من العرش)). (¬2) ولعظم أمر الدماء فإنها تكون أول شيء يقضى فيه بين العباد. فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) (¬3). قال ابن حجر في شرحه للحديث: وفي الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعلام البنية الإنسانية غاية في ذلك. ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث أن أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، قال ابن حجر العسقلاني: ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة رفعه: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته)) (¬4) الحديث أخرجه أصحاب (السنن)، لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق. والثاني: فيما يتعلق بعبادة الخالق. وقد جمع النسائي في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين، ولفظه: ((أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء)) (¬5). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 240 ¬

(¬1) الحديث لم يروه الترمذي. ورواه النسائي (7/ 84)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 341). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. (¬2) رواه الترمذي (3029)، والنسائي (7/ 87)، وابن ماجه (2621). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/ 334): صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (6533)، ومسلم (1678)، والترمذي (1397)، والنسائي (7/ 83)، وابن ماجه (2615). (¬4) رواه أبو داود (864)، والترمذي (413)، والنسائي (1/ 232)، وابن ماجه (1425)، وأحمد (2/ 425) (9490). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال النووي في ((المجموع)): إسناده صحيح بمعناه. وقال ابن الملقن في ((تحفة المحتاج)) (1/ 333): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬5) رواه النسائي (7/ 83). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح.

المبحث الثالث: الاقتصاص للبهائم بعضها من بعض

المبحث الثالث: الاقتصاص للبهائم بعضها من بعض يقضي الله بين خلقه: الجن والإنس والبهائم، وإنه ليقيد يومئذ الجماء من القرناء، حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله: كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ: 40]. هذا حديث أخرجه ابن جرير في (تفسيره) بإسناده إلى أبي هريرة يرفعه (¬1)، وفي رواية أخرى أخرجها ابن جرير أيضاً عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يحشر الخلق كلهم، كل دابة وطائر وإنسان، يقول للبهائم والطير: كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ: 40])) (¬2). وعن ابن جرير أيضاً عن عبدالله بن عمرو قال: إذا كان يوم القيامة مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحش، ثم يحصل القصاص بين الدواب، يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص بين الدواب، قال لها: كوني تراباً، قال فعند ذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ: 40] (¬3) وأخرج مسلم في (صحيحه) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) (¬4) وأخرج أحمد في (مسنده) بإسناد رجاله رجال (الصحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء، وحتى الذَّرة من الذَّرة)) (¬5) وفي (المسند) أيضاً عن أبي هريرة يرفعه: ((ألا والذي نفسي بيده ليختصمن كل شيء يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا)). (¬6) ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (24/ 180). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1966): وهذا إسنادٌ ضعيفٌ ولكنه قد توبع فأخرجه ابن جرير من طريق جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة وهذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات رجال مسلم غير ابن ثور وهو محمد الصنعاني وهو وإن كان موقوفا فإنه شاهد قوي للمرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي. ويشهد له ما عند ابن جرير أيضا من طريق عوف عن أبي المغيرة عن عبدالله بن عمرو قال: إذا كان يوم القيامة مد الأديم وحشر الدواب والبهائم والوحش، ثم يحصل القصاص بين الدواب، يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص بين الدواب قال لها: كوني تراباً، قال: فعند ذلك يقول الكافر: (يا ليتني كنت ترابا) قلت: وإسناده جيد، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي المغيرة هذا وهو القواس لا يسمى، قال الذهبي في ((الميزان)): لينه سليمان التميمي، وقال ابن المديني: لا أعلم أحدا روى عنه غير عوف. قلت: لكن قال ابن معين: إنه ثقة كما في ((الجرح والتعديل)) وذكره ابن حبان في ((الثقات))، فثبت الإسناد. (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (24/ 180). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) بعد حديث (1966):وهذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات رجال مسلم غير ابن ثور. (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (24/ 180). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) بعد حديث (1966): إسناده جيد، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي المغيرة هذا وهو القواس لا يسمى، قال الذهبي في ((الميزان)): لينه سليمان التميمي، وقال ابن المديني: لا أعلم أحدا روى عنه غير عوف. قلت: لكن قال ابن معين: إنه ثقة كما في ((الجرح والتعديل)) وذكره ابن حبان في ((الثقات))، فثبت الإسناد. (¬4) رواه مسلم (2582). (¬5) رواه أحمد (2/ 363) (8741). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1967): إسناده صحيح رجاله ثقات رجال مسلم. (¬6) رواه أحمد (2/ 390) (8741). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 302) والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 352): إسناده حسن .. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) بعد حديث (1588): وإسناده حسن في المتابعات.

وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي ذر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر، هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما)). (¬1) كيف يقتص من البهائم وهي غير مكلفة؟ أشكل على كثير من أهل العلم هذا الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من حشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض، وقد وضح هذا النووي في شرحه على صحيح مسلم فقال: هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة، وإعادتها يوم القيامة كما يعاد أهل التكليف من الآدميين، وكما يعاد الأطفال والمجانين، ومن لم تبلغه دعوة. وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسنة، قال الله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5] وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع، وجب حمله على ظاهره. قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب. وأما القصاص من القرناء الجلحاء فليس هو من قصاص التكليف، إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة، و (الجلحاء) بالمد هي الجماء التي لا قرن لها. والله أعلم. قال الشيخ ناصر الدين الألباني بعد إيراده هذه الفقرة من كلام النووي: وذكر نحوه ابن مالك (¬2). ونقل عنه العلامة الشيخ علي القاري في (المرقاة) (¬3) أنه قال: فإن قيل: الشاة غير مكلفة، فكيف يقتص منها؟ قلنا: إن الله تعالى: فعال لما يريد، ولا يُسأل عما يفعله، والغرض منه إعلام أن الحقوق لا تضيع، بل يقتص حق المظلوم من الظالم. قال القاري: وهو وجه حسن، وتوجيه مستحسن، إلا أن التعبير عن الحكمة بـ (الغرض) وقع في غير موضعه. وجملة الأمر أن القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة المكلفين، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف، والقوي والضعيف؟. وعقب على هذا الشيخ ناصر قائلاً: ومن المؤسف أن ترد كل هذه الأحاديث من بعض علماء الكلام بمجرد الرأي، وأعجب منه أن يجنح إليه العلامة الألوسي! فقال بعد أن ساق الحديث عن أبي هريرة من رواية مسلم ومن رواية أحمد بلفظ الترجمة عند تفسيره آية: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5] في تفسيره: (روح المعاني) (¬4): ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفاً، ولا أهلاً لكرامة بوجه، وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش، وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحاً، لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية، ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام. وإلى هذا القول أميل، ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول، لأن لهم ما يصلح مستنداً في الجملة. والله تعالى أعلم. قلت (الشيخ ناصر): كذا قال - عفا الله عنا وعنه - وهو منه غريب جداً لأنه على خلاف ما نعرفه عنه في كتابه المذكور، من سلوك الجادة في تفسير آيات الكتاب على نهج السلف، دون تأويل أو تعطيل، فما الذي حمله هنا على أن يفسر الحديث على خلاف ما يدل عليه ظاهره، وأن يحمله على أنه كناية عن العدل التام، أليس هذا تكذيباً للحديث المصرح بأنه يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، فيقول هو تبعاً لعلماء الكلام: إنه كناية! أي لا يقاد للشاة الجماء. وهذا كله يقال لو وقفنا بالنظر عند رواية مسلم المذكورة، أما إذا انتقلنا به إلى الروايات الآخرى كحديث الترجمة، وحديث أبي ذر وغيره، فإنها قاطعة في أن القصاص المذكور هو حقيقة وليس كناية، ورحم الله الإمام النووي، فقد أشار بقوله السابق: وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع وجب حمله على ظاهره. قلت: أشار بهذا إلى رد التأويل المذكور، وبمثل هذا التأويل أنكر الفلاسفة وكثير من علماء الكلام كالمعتزلة وغيرهم رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وعلوه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، ومجيئه تعالى يوم القيامة، وغير ذلك من آيات الصفات وأحاديثها. وبالجملة: فالقول بحشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض هو الصواب الذي لا يجوز غيره، فلا جرم أن ذهب إليه الجمهور كما ذكر الألوسي نفسه في مكان آخر من (تفسيره) (¬5)، وبه جزم الشوكاني في تفسير آية (التكوير) من تفسيره (فتح القدير) (¬6) فقال: الوحوش ما توحش من دواب البر، ومعنى حُشِرَتْ بعثت، حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 242 ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 162) (21476). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) بعد حديث (1967): وهذا إسناد صحيح عندي، فإن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير الأشياخ الذين لم يسموا وهم جمع من التابعين، يغتفر الجهل بحالهم لاجتماعهم على رواية هذا الحديث. (¬2) انظر: ((مبارق الأزهار)) (2/ 293) مختصراً. (¬3) ((المرقاة)) (4/ 761). (¬4) انظر: ((روح المعاني)) (9/ 3006). (¬5) انظر: ((روح المعاني)) (9/ 281). (¬6) انظر: ((فتح القدير)) (5/ 377).

المبحث الرابع: متى يقتص للمؤمنين بعضهم من بعض

المبحث الرابع: متى يقتص للمؤمنين بعضهم من بعض في (صحيح البخاري) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا خلص المؤمنون من النار، حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقوا وهذِّبوا، أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا)) (¬1). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 246 ¬

(¬1) رواه البخاري (2440).

الفصل الثاني عشر: الميزان

الفصل الثاني عشر: الميزان • المبحث الأول: تعريف الميزان لغة واصطلاحاً. • المبحث الثاني: أدلة إثبات الميزان. • المبحث الثالث: وجوب الإيمان بالميزان, وإجماع الأمة على ذلك. • المبحث الرابع: حقيقة الميزان عند أهل السنة. • المبحث الخامس: صفات الميزان. • المبحث السادس: الأقوال في الموزون. • المبحث السابع: حكمة الله تعالى في وزن أعمال العباد والرد على من ينكره.

المبحث الأول: تعريف الميزان لغة واصطلاحا

المبحث الأول: تعريف الميزان لغة واصطلاحاً • المطلب الأول: تعريف الميزان في اللغة. • المطلب الثاني: الميزان في الاصطلاح.

المطلب الأول: تعريف الميزان في اللغة

المطلب الأول: تعريف الميزان في اللغة قال الليث: (الوزن ثقل شيء بشيء مثله). وقد أطلقت لفظة الوزن والميزان على عدة معان, فهو يطلق ويراد به بيان قدر الشيء وقيمته, أوخسة الشيء وسقوطه, كما قال تعالى: فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105]. قال أبو العباس: قال ابن الأعرابي: العرب تقول: (ما لفلان عندنا وزن أي قدر؛ لخسته، ويقال: وزن الشئ إذا قدره, وزن ثمر النخيل إذا خرصه). وذكر الأزهري - بعدما تقدم من تلك المعاني اللغوية: أن الميزان يأتي في باب اللغة مراداً به الميزان ذي الكفات, ويأتي مراداً به العدل أيضاً, كما يأتي ويراد به الكتاب الذي فيه أعمال الخلق. ثم قال: وهذا كله في باب اللغة والاحتجاج سائغ (1). وقال الراغب: الوزن معرفة قدر الشيء ... والمتعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسط والقبان. ثم ذكر بعض الآيات التي تدل على أنه يأتي مراداً به المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال, مثل قوله تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ. [الشعراء: 182]، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ [الرحمن: 9]. وأنه يأتي بمعنى العدل في محاسبة الناس, كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47] (2) أما الميزان؛ فهو: (الآلة التي يوزن بها الأشياء) ويجمع على: موازين. (وجائز أن يقال للميزان الواحد - بأوزانه وجميع آلته - الموازين, قال الله عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47] يريد نضع الميزان ذا القسط. وسيأتي تفصيل هذا. وجاء إطلاق الموازين على الأعمال: كما قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 8] قال الأزهري: (أراد والله أعلم -: فمن ثقلت أعماله التي هي حسناته). (3) وذكر الراغب: (أن مجيء الميزان على صيغة الجمع تارة, ومجيئه تارة أخرى بالإفراد فإنما هو باعتبار المحاسب والمحاسبين, فمجيئه بلفظ الواحد اعتباراً بالمحاسب، ومجيئه بالجمع اعتباراً بالمحاسبين) (1). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1083

المطلب الثاني: الميزان في الاصطلاح

المطلب الثاني: الميزان في الاصطلاح أما المراد بالميزان في الاصطلاح الشرعي فهو الميزان الذي أخبر الله تعالى عنه في كثير من آيات القرآن الكريم. وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الشريفة في أكثر من مناسبة, تنويها بعظم شأنه وخطورة أمره. وهو ميزان حقيقي, له لسان وكفتان توزن به أعمال العباد, خيرها وشرها, وقد أخبر الله تعالى عنه في القرآن الكريم إخباراً مجملاً من غير تفصيل لحقيقته, وجاءت السنة النبوية فبينته. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1085

المبحث الثاني: أدلة إثبات الميزان

تمهيد ثبت ميزان الأعمال الذي ينصبه المولى جلت قدرته لإظهار مقادير أعمال الخلق الذين يحاسبهم في موقف فصل القضاء ثبوتاً واضحاً, وقد جاء ذكره في كتاب الله تعالى في أكثر من موضع. وجاء ذكره كذلك في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة, وأجمع على القول به واعتقاده جميع السلف الصالح من أهل الإسلام ممن يعتد بقولهم في باب العقائد. وسنعرض فيما أدلة إثباته: أ – من كتاب الله تعالى ب – ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1083

المطلب الأول: أدلة إثبات الميزان من القرآن الكريم

المطلب الأول: أدلة إثبات الميزان من القرآن الكريم 1 – قال تعالى في كتابه الكريم: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [الأعراف: 8 - 9]. 2 – وقال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]. 3 – وقال تعالى: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 102 - 103]. 4 – وقال تعالى: فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة: 6 - 9] 5 – وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105] ودلالة تلك الآيات على إثبات الميزان أمر ظاهر, وقد وصف الله فيها الموازين بالثقل والخفة. ووصفها كذلك بأنها موازين عدل, وأن من ثقل ميزانه فقد أفلح وعاش عيشة راضية, ومن خف ميزانه فقد خسر وهوى إلى جهنم, وإذا كان الأمر كذلك؛ فليستكثر العبد الصالح إذا أراد ثقل موازينه, وليطمئن إلى أنه لا يفوته مما قدم من أعمال الخير شيء. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1089

المطلب الثاني: أدلة إثبات الميزان من السنه النبوية

المطلب الثاني: أدلة إثبات الميزان من السنه النبوية وأما أدلة إثبات الميزان من السنة وهي كثيرة – فمنها: إخباره صلى الله عليه وسلم بالأمور التي تكون ثقيلة في ميزان العبد إذا فعلها مخلصاً من قلبه, كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن, خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده, سبحان الله العظيم)) (¬1) وفي قوله: ((كلمتان)) إطلاق كلمة على الكلام, وهو مثل كلمة الإخلاص وكلمة الشهادة و (المعنى: محبوب قائلهما) , (وخص لفظ الرحمن بالذكر لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده؛ حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الكثير). ومعنى وصفهما بالخفة والثقل هو (لبيان قلة العمل وكثرة الثواب). ومعنى وصفهما بالخفة (إشارة إلى قلة كلامهما وأحرفهما ورشقاتهما) قال الطيبي: (الخفة مستعارة للسهولة, وشبه سهولة جريانها على اللسان بما خف من بعض الأمتعة, فلا تتعبه كالشئ الثقيل, وفيه إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفس ثقيلة, وهذه سهلة عليها مع أنها تثقل الميزان كثقل الشاق من التكاليف. وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفة السيئة فقال: (لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها؛ فثقلت؛ فلا يحملنك ثقلها على تركها, والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها؛ فلذلك خفت؛ فلا يحملنك خفتها على ارتكابها). (1) وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الإيمان, والحمد لله تملأ الميزان, وسبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السموات والأرض والصلاة نور, والصدقة برهان, والصبر ضياء, والقرآن حجة لك أو عليك, كل الناس يغدو, فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)) (¬2). قال النووي عن مزية هذا الحديث: هذا حديث عظيم, وأصل من أصول الإسلام, وقد اشتمل على مهمات من قواعد الإسلام. أما معنى (الطهور شطر الإيمان) فإن الشطر معناه النصف, وإذا كان الشطر هو النصف فكيف كان الطهور – الذى أصله النظافة والتنزه – نصف الإيمان؟ اختلف العلماء في ذلك. فقيل معناه: 1 - إن الأجر ينتهي تضعيفه إلى النصف أجر الإيمان. 2 - وقيل: معناه: إن الإيمان يجب ما قبله من الخطايا, وكذلك الوضوء لأن الوضوء لايصح إلا مع الإيمان؛ فصار – لتوقفه على الإيمان – في معنى الشطر. 3 - وقيل: المراد بالإيمان هنا: الصلاة, كما قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] , والطهارة شرط في صحة الصلاة؛ فصارت كالشطر, وليس يلزم في الشطر أن يكون نصفاً حقيقياً. .. وقد رجح النووي القول الأخير من تلك الأقوال. وزاد فذكر أنه (يحتمل أن يكون معناه أن الإيمان تصديق بالقلب, وانقياد بالظاهر, وهما شطران للإيمان, والطهارة متضمنة الصلاة, فهي انقياد في الظاهر). (¬3). ولا يستبعد أن يكون القول الأول هو الراجح أيضاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه الفضائل في معرض الترغيب في الأجر. وهذه الألفاظ التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم من أن ((الحمد لله تملأ الميزان, وسبحان الله والحمد الله تملأ ما بين السموات والأرض)). تفضل عظيم من الله تعالى على عباده, حيث جعل جزاء هذه الكلمات اليسيرة ذلك الأجر العظيم حينما يتقبل الله قولها من العبد, إذ أن ذلك شرط لابد منه. فليس كل من قالها يحصل له هذا الفضل العظيم بمجرد القول وإن لم تتحقق فيه أهلية قبولها. والله تعالى كما أخبر في كتابه الكريم أنه لايقبل إلا من المتقين لا سواهم. ¬

(¬1) رواه البخاري (6406)، ومسلم (2694). (¬2) انظر: ((شرح النووي بصحيح مسلم)) (1/ 501). (¬3) رواه مسلم (223).

وأخرج النسائي عن أبي مالك الأشعري أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إسباغ الوضوء شطر الإيمان, والحمد لله تملأ الميزان .. والتسبيح والتكبير يملأ السموات والأرض والصلاة نور, والزكاة برهان, والصبر ضياء, والقرآن حجة لك أو عليك)) (¬1). وهذا الحديث دلالته كدلالة الحديث السابق, ومعنى إسباغ الوضوء: أن يتمه كاملاً. والزكاة برهان على إيمان صاحبها, والصبر ضياء له يمشي مستضيئاً به في طريق الصواب. وأخرج الترمذي بسند حسن عن جرير النهدي عن رجل من بني سليم قال: ((عدهن رسول صلى الله عليه وسلم في يدي أو في يده: التسبيح نصف الميزان والحمد يملأه, والتكبير يملأ ما بين السموات والأرض, والصوم نصف الصبر, والطهور نصف الإيمان)) (¬2). قال أبو عيسي: هذا حديث حسن, وقد رواه شعبة وسفيان الثوري عن أبي اسحاق وفي رواية لأحمد: ((والطهور نصف الميزان)) (¬3). وعن مولى لرسول صلى الله عليه وسلم أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((بخ بخ, خمس ما أثقلهن في الميزان: لاإله إلا الله, والله أكبر, وسبحان الله, والحمد لله, والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده)) الحديث (¬4). وهذا الحديث ظاهر في فضائل تلك الأمور التي ذكرت فيه. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بخ بخ)) (هي كلمة تقال عند المدح والرضى بالشيء, وتكرر للمبالغة) (¬5). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة وهما يسير, ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً, ويحمده عشراً, ويكبره عشراً, قال: فأنا رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يعقدهما بيده قال: فتلك خمسون ومائة باللسان, وألف وخمسمائة في الميزان, وإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره, وتحمده مائة, فتلك مائة باللسان وألف في الميزان, فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة؟ قالوا: وكيف لا يحصيهما؟ قال: يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته, فيقول: اذكر كذا, اذكر كذا؛ حتي ينتقل فلعله لا يفعل, ويأتيه وهو في مضجعه, فلا يزال ينومه حتى ينام)) (¬6). وما دامت الحسنة بعشر أمثالها, فإن الحسنات ستكون كثيرة جداً أكثر من السيئات, إذ إن الشخص لا يمكن أن يفعل في اليوم ألفين وخمسمائة سيئة, كما أشار الحديث. وأخبر رسول صلى الله عليه وسلم عن بعض الأعمال, وأنها تكون ثابتة في ميزان العبد؛ ثواباً على ما عمل من الأعمال التى يوضحها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من احتبس فرساً في سبيل الله, إيماناً بالله وتصديقاً بوعده؛ فإن شبعه, وريه, وروثه, وبوله, في ميزانه يوم القيامة)) (¬7). وفي هذا الحديث بيان فضل من احتبس فرساً في سبيل الله تعالى. قال ابن حجر في معني كون روثه في ميزان العبد: (يريد ثواب ذلك, لا أن الأرواث بعينها توزن. ¬

(¬1) رواه النسائي (5/ 5)، وابن ماجه (229)، وأحمد (5/ 343) (22959). وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) رواه الترمذي (3519)، وأحمد (5/ 363) (23123). قال الترمذي: حسن، وصححه لغيره شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند. (¬3) رواه أحمد (5/ 370) (23188). وصححه لغيره شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند. (¬4) رواه أحمد (4/ 237) (18101). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 54): رواه أحمد ورجاله ثقات. (¬5) ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (1/ 101). (¬6) رواه الترمذي (3410)، والنسائي (3/ 492). قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 476) كما قال ذلك في المقدمة. (¬7) رواه البخاري (2853).

وعن فائدة تنصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذكر هذه الأمور, وأنها تكون في ميزان العبد؛ يقول ابن أبي جمرة: يستفاد من هذا الحديث أن هذه الحسنات تقبل من صاحبها؛ لتنصيص الشارع على أنها في ميزانه, بخلاف غيرها, فقد لا تقبل فلا تدخل الميزان) (¬1). ومثل الحديث السابق أيضاً ما وراه معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفس محمد بيده: ما شحب وجه, واغبرت قدم في عمل تبتغي فيه درجات الجنة – بعد الصلاة المفروضة – كجهاد في سبيل الله, ولا ثقل ميزان عبد كدابة تنفق له في سبيل الله, أو يحمل عليها في سبيل الله)) (¬2). وأخبر عن ذلك الميزان العظيم, وأنه لا يؤثر فيه الثقل المادي، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة, اقرأوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105])) (¬3) وأخرج الترمذي والإمام أحمد, عن أبي الدرداء, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن, وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)) (¬4). وفي هذين الحديثين إثبات وزن العامل وعمله أيضاً. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع فى كفة, فيوضع ما أحصي عليه؛ فتمايل به الميزان, قال: فيبعث به إلى النار, قال: فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن يقول: لاتعجلوا لا تعجلوا, فإنه قد بقي له, فيؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله, فتوضع مع الرجل في كفة حتي يميل به الميزان)) (¬5). وهذا الحديث _ كذلك دليل على وزن العامل, ووزن صحف الأعمال. ومسألة وزن الله للإنسان وعمله وصحف الأعمال, وما قيل حول ذلك, سيأتي الكلام عنها إن شاء الله فيما بعد مفصلة بأدلتها. وعندما ينصب الميزان يبلغ الخوف والهلع بالناس إلى أقصى حدوده, بحيث ينسي الحبيب حبيبه, ويذهل فيه كل ذي لب عن أهله وعن كل شئ إلا فكره في الميزان وماذا ستكون نتيجة وزن عمله. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (6/ 57). (¬2) رواه أحمد (5/ 246) (22175)، والطبراني (20/ 63) (115). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 254): رواه أحمد، والبزار من رواية شهر بن حوشب عن معاذ، ولا أراه سمع منه. وقال الهيثمى (5/ 275): فيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف وقد يحسن حديثه. (¬3) رواه البخاري (4729)، ومسلم (2785). (¬4) رواه الترمذي (2002)، وأحمد (6/ 446) (27557). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 357): معنى صحيح جدا وإن لم يصححه تعضده الأحاديث والأصول، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (852) كما أشار إلى ذلك في المقدمة (¬5) رواه أحمد (2/ 221) (7066). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 85): رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجاله رجال الصحيح، وحسن إسناده السيوطي في ((البدور السافرة)) (235)، والسفاريني في ((لوائح الأنوار السنية)) (2/ 198).

قال أبو داود في (باب ذكر الميزان): عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت النار فبكت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يبكيك؟ قالت: ذكرت النار فبكيت, فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعند الكتاب حين يقال: هاؤم اقرءوا كتابيه, حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه, أم في شماله, أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم)) (¬1) الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1090 روي (أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه, فلما أفاق قال: إلهي من ذا الذي يقدر يملأ كفة حسنته فقال: إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة واحدة). ذكره الفخر (¬2)، والثعلبي. وقال عبد الله (¬3) بن سلام رضي الله عنه: (إن ميزان رب العالمين ينصب للجن والإنس، يستقبل به العرش، إحدى كفتيه على الجنة، والأخرى على جهنم لو وضعت السماوات والأرض في إحداهما لوسعتهن، وجبريل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه). قال العلامة (¬4): (في كلام ابن سلام إن أعمال الجن توزن كما توزن أعمال الإنس، وهو كذلك ارتضاه الأئمة) انتهى. قال القرطبي: (المتقون توضع حسناتهم في الكفة النيرة، وصغائرهم في الكفة الأخرى، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزناً، وتثقل الكفة النيرة حتى لا ترتفع، وترفع المظلمة ارتفاع الفارغة الخالية). قال: (وأما الكفار فيوضع كفرهم، وأوزارهم في الكفة المظلمة، وإن كان لهم أعمال بر وضعت في الكفة الأخرى فلا يقاومها إظهار لفضل المتقين، وذل الكافرين) (¬5). قلت: الحق أن الكفار لا يقيم الله لهم وزناً والله أعلم. وأخرج الحاكم وصححه عن سلمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يوضع الميزان يوم القيامة, فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعهن، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول: لمن شئت من خلقي فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك)) (¬6). وأخرج البزار، والبيهقي عن أنس رضي الله عنه: (أن ملكاً من ملائكة الله عز وجل موكل يوم القيامة بميزان ابن آدم، فيؤتى به حتى يوقف بين كفتي الميزان، فيوزن عمله، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمعه الخلائق باسم الرجل: ألا سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفت ميزانه نادى الملك: ألا شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً) (¬7). وذكر الثعلبي، وغيره، وابن جرير في (تفسيره)، وابن أبي الدنيا عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام) (¬8). وقال الحسن (¬9): (هو ميزان له كفتان، ولسان، وهو بيد جبريل عليه السلام). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 2/ 851 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4755)، والحاكم (4/ 622). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة على أنه قد صحت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة رضي الله عنها وأم سلمة، ووافقه الذهبي. وجود إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 280). (¬2) ذكره الرازي في ((التفسير الكبير)) (22/ 176). و ((البغوي في تفسيره)) (5/ 321). (¬3) انظر ((تفسير الرازي)) (14/ 28). (¬4) ((تحقيق البرهان)) (ص: 64). (¬5) ذكره في ((التذكرة)) (ص: 365). (¬6) رواه الحاكم (4/ 629). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬7) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (10/ 353) وقال: فيه صالح المري وهو مجمع على ضعفه، وقال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (5/ 490): إسناده ضعيف [فيه] داود بن المحبر متروك. (¬8) رواه الطبري في تفسيره (12/ 310). (¬9) ذكره في ((زاد المسير)) (3/ 171) ((فتح الباري)) (13/ 539) اللالكائي (2210).

المبحث الثالث: وجوب الإيمان بالميزان, وإجماع الأمة على ذلك

المبحث الثالث: وجوب الإيمان بالميزان, وإجماع الأمة على ذلك بعد أن ثبت ذكر الميزان في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لم يبق مجال لوجود أدنى شك في إنكاره. وقد تلقى المسلمون الإيمان بوقوعه, ولم يخالف فيه أحد ممن يعتد بقوله في الإسلام وقد جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور التى تعد من ضروريات الإيمان بالله كما في حديث جبريل عليه السلام في رواية الإمام أحمد, حينما قال له: )) يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله, واليوم الآخر, والملائكة, والكتاب, والنبيين والموت, والحياة بعد الموت, والجنة, والنار, والحساب والميزان, والقدر كله, خيره وشره, قال: فإذا فعلت ذلك آمنت؟ قال: نعم)) (¬1). قال ابن بطة في الإبانة: وقد اتفق أهل العلم بالأخبار والعلماء الزهاد العباد في جميع الأمصار: أن الإيمان بذلك _ يعنى الميزان _ واجب لازم. (¬2). ويقول السفاريني: والحاصل: أن الإيمان بالميزان _ كأخذ الصحف _ ثابت بالكتاب والسنة والإجماع (¬3). وقد ترجم البرديسي لثبوته بقوله: باب: في الموازين والكتب. ثم قال: اعلم أن الموازين حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة (¬4). وقد بوب البخاري على إثبات الميزان وما يوزن فيه بقوله: باب: قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47] وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن (¬5). ومعلوم أن المراد بالميزان _ فيما تقدم _ هو الميزان الحقيقي المعلوم بلسان العرب, الذى توزن به الأشياء, لا الميزان بمعنى العدل أو غيره, كما ذهب إليه من شذ قوله. وقال سفيان بن عيينة: (السنة عشرة, فمن كن فيه فقد استكمل السنة, ومن ترك منها شيئاً فقد ترك السنة: إثبات القدر, وتقديم أبي بكر وعمر, والحوض, والشفاعة, والميزان, والصراط) (¬6). وقال الإمام أحمد بن حنبل: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم. إلى أن يقول: والإيمان بالميزان (¬7). وهو ما قاله أيضاً شيخه علي بن المديني. وهناك أقوال كثيرة لأهل العلم في إثبات ميزان الأعمال إثباتاً حقيقياً كما أثبته الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1101 ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 129) (17207). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 44): في إسناده شهر بن حوشب. (¬2) ((الإبانة)) (ص 97) تحقيق رضا. (¬3) ((لوامع الأنوار)) (2/ 184). (¬4) ((تكملة شرح الصدور)) (ص 15). (¬5) ((صحيح البخاري)) (9/ 34). (¬6) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 155). (¬7) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 158).

المبحث الرابع: حقيقة الميزان عند أهل السنة

المبحث الرابع: حقيقة الميزان عند أهل السنة الميزان عند أهل السنة ميزان حقيقي توزن به أعمال العباد وخالف في هذا المعتزلة، وقلة قليلة من أهل السنة. قال ابن حجر: قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان، وقالوا: هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة، لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال، ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين. وقال ابن فورك: أنكرت المعتزلة الميزان، بناءً منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها. قال: وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى: يقلب الأعراض أجساماً فيزنها. انتهى. وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء، وعزا الطبري القول بذلك إلى مجاهد. والراجح ما ذهب إليه الجمهور. وذكر الميزان عند الحسن فقال: له لسان وكفتان (¬1). وعزا القرطبي تفسير الميزان بالعدل إلى مجاهد والضحاك والأعمش. ولعل هؤلاء العلماء فسروا الميزان بالعدل في مثل قوله تعالى: وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: 7 - 9]، فالميزان في هذه الآية العدل، أمر الله عباده أن يتعاملوا به فيما بينهم، أما الميزان الذي ينصب في يوم القيامة فقد تواترت بذكره الأحاديث، وأنه ميزان حقيقي، وهو ظاهر القرآن. وقد رد الإمام أحمد على من أنكر الميزان بأن الله تعالى: ذكر الميزان في قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47]. والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الميزان يوم القيامة، فمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله عز وجل. وقد استدل شيخ الإسلام على أن الميزان غير العدل، وأنه ميزان حقيقي توزن به الأعمال بالكتاب والسنة، فقال: الميزان: هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى:: فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [الأعراف: 8]، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [الأعراف:9]، وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء: 47]. وفي (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) (¬2). وقال عن ساقي عبدالله بن مسعود: ((لهما في الميزان أثقل من أحد)) (¬3). وفي الترمذي وغيره حديث البطاقة، وصححه الترمذي والحاكم وغيرهما في الرجل الذي يؤتى به، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيوضع في كفة، ويؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فطاشت السجلات وثقلت البطاقة)) (¬4). وهذا وأمثاله مما يبين أن الأعمال توزن بموازين تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس، فهو ما به تبين العدل، والمقصود بالوزن العدل، كموازين الدنيا. وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب. وقد رد القرطبي على الذين أنكروا الميزان وأولوا النصوص الواردة فيه وحملوها على غير محملها قائلاً: قال علماؤنا: ولو جاز حمل الميزان على ما ذكروه، لجاز حمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان والأفراح، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، وهذا كله فاسد، لأنه رد لما جاء به الصادق، وفي (الصحيحين): ((فيعطى صحيفة حسناته)) (¬5)، وقوله: فيخرج له بطاقة، وذلك يدل على الميزان الحقيقي، وأن الموزون صحف الأعمال كما بينا وبالله التوفيق. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 248 ¬

(¬1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (6/ 1173). (¬2) رواه البخاري (6406)، ومسلم (2694). (¬3) رواه أحمد (1/ 420) (3991)، وابن حبان (15/ 546). قال أحمد شاكر في ((المسند)) (6/ 39): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2750): إسناده حسن وهو صحيح بطرقه الكثيرة. (¬4) رواه الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (2/ 213) (6994)، والحاكم (1/ 46). من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في (الصحيحين) وهو صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (135): وهو كما قالا. (¬5) رواه البخاري (4685)، ومسلم (2768). من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه.

المبحث الخامس: صفات الميزان

المبحث الخامس: صفات الميزان الواقع أن العلماء لم يتفقوا على إثبات أوصاف الميزان _ وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الجوانب في وجوب الإيمان بالميزان, ومواقف الناس في ذلك _ وأما خلافهم في ثبوت صفاته فقد انقسموا إلى فريقين: 1 - أما الفريق الأول: فهم المثبتون لصفات الميزان الحسية, من أن له كفتين. .. إلى آخر أوصافه, وهؤلاء وإن أثبتوا هذا لكنهم يرجعون صفة تلك الكفات واللسان إلى علم الله تعالى. 2 - أما الفريق الآخر: فهم النافون لتلك الصفات. وسنذكر رأي الفريقين فيما يلي: - (1) المثبتون لصفات الميزان: يثبت هؤلاء _ وهم جمهور العلماء _ أن الميزان له كفتان حسيتان مشاهدتان, وله لسان كذلك. يقررون هذه الحقيقة غير ملتفتين إلى من تشمئز قلوبهم من سماعها, لعدم قبول عقولهم لها, وعدم تفهم ما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك. ذلك أن الحق ضالة المؤمن, وما ورد به الشرع هو الذى ينبغي أن يقدم على هوى النفس وحكم العقل. وسنذكر فيما يلي بعض أقوال هؤلاء كأمثلة على ثبوت ما ذكرنا. قال القرطبي - ردًّا على من ينكر الميزان, ويؤول الوزن بأنه من ضرب المثل, وأن الوزن يراد به العدل والقضاء – قال: (وهذا مجاز. وليس بشيء, وإن كان شائعاً في اللغة – للسنة الثابتة في الميزان الحقيقي, ووصفه بكفتين ولسان, وأن كل كفة منها طباق السموات والأرض) (¬1). ويعزو القرطبي إلى ابن عباس أنه قال: (توزن الحسنات والسيئات في ميزان له كفتان ولسان) (¬2). وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أنه قال: (الميزان له لسان وكفتان, يوزن فيه الحسنات والسيئات, فيؤتى بالحسنات في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان, فتثقل على السيئات؛ فتؤخذ فتوضع في الجنة ... ويؤتى بالسيئات في أقبح صورة فتوضع في كفة الميزان فتخف ... ) (¬3). ويقول ابن قدامة: (والميزان له كفتان ولسان، توزن به الأعمال، فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 102, 103]) (¬4). ويقول أبو الحسن الأشعري في معرض بيانه لاختلاف الناس في الميزان ومبيناً رأي أهل السنة: فقال أهل الحق: (له لسان وكفتان, توزن في إحدى كفتيه الحسنات وفي الأخرى السيئات, فمن رجحت حسناته؛ دخل الجنة, ومن رجحت سيئاته دخل النار, ومن تساوت حسناته وسيئاته, تفضل الله عليه فأدخله الجنة) (¬5). ويثبت ابن كثير أن للميزان كفتين حسيتين, ويستدل على هذا من السنة بحديث صاحب البطاقة المشهور وغيره من الأحاديث (¬6). وأخرج الطبري عن ابن جريج قال: قال لي عمرو بن دينار: (قوله: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف: 8] قال: إنا نرى ميزاناً وكفتين، سمعت عبيد بن عمير يقول: يجعل الرجل العظيم الطويل في الميزان، ثم لا يقوم بجناح ذباب) (¬7). وهو القول الذى رجحه الطبري أيضاً. ويقول ابن أبي العز: (والذى دلت عليه السنة: أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان) (¬8). وقال أبو إسحاق الزجاج – كما نقل عنه الحافظ ابن حجر: (أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان, وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة, وأن الميزان له لسان وكفتان, ويميل بالأعمال) (¬9). ¬

(¬1) ((التذكرة)) (ص 378). (¬2) ((التذكرة)) (ص 378). (¬3) ((الدر المنثور)) (3/ 70). (¬4) ابن قدامة في ((لمعة الإعتقاد)) (ص 33). (¬5) ((المقالات)) (2/ 164). (¬6) ((النهاية)) (2/ 24). (¬7) ((جامع البيان)) (8/ 123). (¬8) ((الطحاوية)) (ص 472). (¬9) نقله عنه الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 538).

ويقول السفاريني: (فقد دلت الآثار على أنه ميزان حقيقي ذو كفتين ولسان, كما قال ابن عباس, والحسن البصري, وصرح بذلك علماؤنا, والأشعرية وغيرهم, وقد بلغت أحاديثه مبلغ التواتر، وانعقد إجماع أهل الحق من المسلمين عليه) (¬1). ويقول البرديسي: (وانعقد الإجماع على أنه ميزان حسي له كفتان ولسان يوضع فيه صحف أعمال العباد ليظهر الرابح والخاسر) (¬2). ويروى من طريق عبد الملك بن أبي سليمان أنه قال: (ذكر الميزان عند الحسن فقال: له لسان وكفتان) (¬3). وعن سليمان قال: (يوضع الميزان وله كفتان, لو وضع في إحداهما السموات والأرض ومن فيهن لوسعته) (¬4). ويقول الهراس: (وهناك تنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد, وهي موازين حقيقية كل ميزان منها له لسان وكفتان, ويقلب الله أعمال العباد – وهي أعراض – أجساماً لها ثقل, فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة) (¬5). ونقتصر في إثبات أن الميزان له لسان وكفتان على ما قدمناه من ذكر أقوال العلماء. وبهذا يتبين أن أهل الحق – أهل السنة والجماعة – يثبتون حقيقة الميزان على ضوء ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, لا يتأولون معناه, ولا يردون ما جاء في وصفه, ويقولون: الله وحده هو الذي يعلم قدرهما وكيفيتهما. إذ لو لم يكن له لسان وكفتان؛ بل هو بمعنى العدل والقضاء كما ذهب إليه بعض العلماء, لو لم يكن كذلك لما وصف في السنة النبوية بأن له لسانا وكفتين, وأنه يخف ويثقل؛ إذ العدل لا يقال فيه تلك الصفات, فصح أنه ميزان حقيقي يزن الله فيه أعمال العباد, فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة, ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار, على ما علم من مذهب السلف. وإذ كنا نثبت صفات الميزان على ضوء ما جاء به الشرع فإنه لا ينبغي أن نتكلف فنثبت له أوصافاً تحتاج إلى إثبات من الشارع, أو نستند إلى أخبار لم تثبت, فإن الغلو في هذا مذموم. وكمثال على هذا: ما يذهب إليه بعض الناس من أن كفتي الميزان من ذهب (¬6). أو القول بأن كفة الحسنات من نور, وكفة السيئات من ظلام (¬7). أو أن كفة الحسنات عن يمين العرش مقابل الجنة, وكفة السيئات عن يسار العرش مقابل النار (¬8). أو ما يقال إن صاحب الميزان يوم القيامة هو جبريل عليه السلام (¬9). فتلك المسائل كلها تحتاج لإثباتها – فضلاً عن اعتقادها – إلى نص صحيح, فإن بعض العلماء يتساهل فيما يقرره من هذه المسائل, مثل ما يرويه السفاريني بصيغة التضعيف – يروى – (أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان, فلما رآه غشي عليه, فلما أفاق قال: إلهي من ذا الذي يقدر يملأ كفة حسناته؟ فقال: إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة) (¬10). أو ما يذكره عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه – غير معزو إلى أحد – أنه قال: (ميزان رب العالمين ينصب للجن والإنس, يستقبل به العرش, إحدى كفتيه على الجنة, والأخرى على جهنم, لو وضعت السموات والأرض في إحداهما لوسعتهن, وجبريل آخذ بعمود ينظر إلى لسانه) (¬11). ¬

(¬1) ((لوامع الأنوار)) (2/ 185). (¬2) ((تكملة شرح الصدور)) (ص 14). (¬3) ((تفسير المنار)) (8/ 322). (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 539). (¬5) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص 123). (¬6) ((الفصل لابن حزم)) (4/ 65). (¬7) ((التذكرة)) (ص 313). (¬8) ((التذكرة)) (ص 314)، وعزاه إلى الترمذي الحكيم. (¬9) أخرجه الطبري في ((جامع البيان)) (8/ 123) عن الحارث, قال: ثنا عبد العزيز قال: ثنا يوسف بن صهيب, عن موسي, عن بلال ابن يحى, عن حذيفة. (¬10) ذكره السفاريني في ((لوامع الأنوار)) (2/ 184)، وعزاه إلى الرازي والثعلبي. (¬11) ((لوامع الأنوار)) (2/ 184) ولم يعزه إلى أحد.

وكذا ما يروى عن عمر مرفوعاً: ((من كبر تكبيرة في سبيل الله, كانت صخرة في ميزانه أثقل من السموات السبع وما فيهن وما تحتهن, وأعطاه الله بها رضوانه الأكبر, وجمع بينه وبين محمد وإبراهيم والمرسلين في دار الجلال: ينظر إلى الله بكرة وعشياً)) (¬1). وفي رواية أخرى عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كبر تكبيرة على ساحل البحر, كان في ميزانه صخرة, قيل: يا رسول الله, وما قدرها؟ قال: تملأ ما بين السموات والأرض)) (¬2). ويقول السفاريني: (ظواهر الآثار وأقوال العلماء: أن كيفية الوزن في الآخرة – خفة وثقلاً – مثل كيفيته في الدنيا, ما ثقل نزل إلى أسفل ثم يرفع إلى عليين, وما خف طاش إلى أعلى ثم نزل إلى سجين, وبه صرح جموع, منهم القرطبي). وقال بعض المتأخرين بل الصفة مختلفة, وأن عمل المؤمن إذا رجح صعد وسفلت سيئته, والكافر تسفل كفته لخلو الأخرى عن الحسنات, ثم تلا قوله تعالى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]. وذكر بعضهم في صفة الوزن: أن تجعل جميع أعمال العباد في الميزان في مرة واحدة, كل الحسنات في كفة النور, وهي يمين العرش جهة الجنة, والسيئات في كفة الظلمة, وهي عن يسار جهة النار, ويخلق الله لكل إنسان علماً ضرورياً يدرك به خفة أعماله وثقلها. وقيل: بل علامة الرجحان عمود نور يقوم في كفة الحسنات حتى يكسو كفة السيئات, وعلامة الخفة عمود ظلمة يقوم من كفة السيئات حتى يكسو كفة الحسنات, لكل أحد (¬3). والظاهر أن هذه الكيفيات كلها تحتاج إلى إثبات, فهي مسألة غيبية, والله تعالى له القدرة على ما يشاء. 2 – النافون لصفات الميزان: وهؤلاء قالوا بعكس ما قاله الفريق الأول, حيث أحجموا عن وصف الميزان بالأوصاف التي تقدمت, واكتفوا بإثبات أن هناك ميزاناً فقط. 1 - يقول محمد رشيد رضا – في نفي تلك الصفات وفي رده على الزجاج: (وإذا لم يكن في الصحيحين ولا في كتب السنة المعتمدة حديث صحيح مرفوع في صفة الميزان, ولا في أن له كفتين ولساناً, فلا تغتر بقول الزجاج أن هذا مما أجمع عليه أهل السنة, فإن كثيراً من المصنفين يتساهلون بإطلاق كلمة الإجماع ولاسيما غير الحفاظ المتقنين, والزجاج ليس منهم, ويتساهلون في عزو كل ما يوجد في كتب أهل السنة إلى جماعتهم, وإن لم يعرف له أصل من السلف, ولا اتفق عليه الخلف منهم, وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف والخلف كما علمت) (¬4). وقال أيضاً: (والأصل الذي عليه سلف الأمة في الإيمان بعالم الغيب: أن كل ما ثبت من أخباره في الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه, نؤمن به, ولا نحكم رأينا في صفته وكيفيته, فنؤمن إذا بأن في الأخرة وزناً للأعمال قطعاً, وونرجع أنه بميزان يليق بذلك العالم, ويوزن به الإيمان, والأخلاق, والأعمال, ولا نبحث عن صورته وكيفيته, ولا عن كفتيه – إن صح الحديث فيهما – كما صوره الشعراني في ميزانه) (¬5). ¬

(¬1) قال السيوطي في ((اللآلئ المصنوعة)): (قال ابن حبان لا أصل له، إسحاق يأتي بالموضعات عن الثقات. قلت – وكذا قال الدارقطني في ((غرائب مالك)) إنه موضوع) (2/ 137). (¬2) قال ابن عدي: (هذا ما وضعه النخعي، وزيد ليس بشئ). ((اللآلئ المصنوعة)) (2/ 137) (¬3) ((لوامع الأنوار)) (2/ 188 – 189). (¬4) ((تفسير المنار)) (8/ 322). (¬5) ((تفسير المنار)) (8/ 323).

والواقع أن ما قاله محمد رشيد رضا – من إنكار أن يكون هناك أي إشارة إلى أن الميزان له كفتان من السنة – غير مسلم فقد جاء في السنة بعض الأحاديث التى تدل على وزن العمل ووزن العامل وكما أخرج البخاري: ((يؤتي بالرجل فيوضع في كفة)) (¬1) وكقوله أيضاً: ((فطاشت السجلات وثقلت البطاقة)) (¬2). وغيرها من الأحاديث التي قدمنا ذكرها, وفيها إشارة إلى إثبات أن ميزان الأعمال له كفتان. ثم إن إثبات أن الميزان له كفتان لم يقل به الزجاج وحده, بل هو ما عليه الأئمة الذين قدمنا ذكر أقوالهم. 2 - ما علقه الدكتور طه محمد الزيني على ترجمة ابن كثير في إثبات أن للميزان كفتين حسيتين بقوله: (لا يوجد دليل قاطع في القرآن ولا في الحديث على أن كفتي ميزان الحساب يوم القيامة حسيتان – أي يدركان بإحدى الحواس الخمس, وأقرب الحواس إلى إدراك الكفتين اللمس باليد – بل كل ما في القرآن والحديث يحتمل أن يكون الوزن معنوياً, بل هو الأرجح؛ لأن الأعمال يوم القيامة أكثرها معنوي يقرب إلى الأذهان بتشبيهه بالحسيات) (¬3). وهذا القول من الدكتور طه الزيني يعتبر بعيداً عما قرره العلماء, ومخالفاً لما جاءت به السنة في وزن الأعمال, وليس ما يذكره من أعمال يوم القيامة من الأشياء المتخيلة التي يشبه فيها المعنوي بالحسي. فإن القول بهذا يفتح باباً خطيراً من التشكيك في أمورالآخرة, وينبغي على من يقول بهذا أن يعيد النظر فيه. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1119 ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد (2/ 221) (7066). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 82): رواه الترمذي باختصار، رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 24): إسناده صحيح. (¬2) الحديث رواه الترمذي (2639)، وابن ماجه (3488)، وأحمد (2/ 213) (6994)، والحاكم (1/ 46). من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين، وهو على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490): حسن غريب. (¬3) ((النهاية)) (2/ 91).

المبحث السادس: الأقوال في الموزون

المطلب الأول: ما الذي يوزن في الميزان اختلف أهل العلم في الموزون في ذلك اليوم على أقوال: الأول: أن الذي يوزن في ذلك اليوم الأعمال نفسها، وأنها تجسم فتوضع في الميزان، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في (الصحيح) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) (¬1). وقد دلت نصوص كثيرة على أن الأعمال تأتي في يوم القيامة في صورةٍ الله أعلم بها، فمن ذلك مجيء القرآن شافعاً لأصحابه في يوم القيامة، وأن البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف تحاجّان عن أصحابهما. ففي (صحيح مسلم) عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه. اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما)). (¬2) وروى مسلم أيضاً عن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو ظلتان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)). (¬3) وهذا القول رجَّحه ابن حجر العسقلاني ونصره، فقال: والصحيح أن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق)) (¬4). الثاني: أن الذي يوزن هو العامل نفسه، فقد دلَّت النصوص على أن العباد يوزنون في يوم القيامة، فيثقلون في الميزان أو يخفون بمقدار إيمانهم، لا بضخامة أجسامهم، وكثرة ما عليهم من لحم ودهن، ففي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 105])) (¬5). ويؤتى بالرجل النحيف الضعيف دقيق الساقين فإذا به يزن الجبال، روى أحمد في (مسنده)، عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، ((أنه كان رقيق الساقين، فجعلت الريح تلقيه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من رقة ساقيه. قال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)) (¬6). وما أحسن ما قال الشاعر: ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هرير ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير ¬

(¬1) رواه البخاري (6406)، ومسلم (2694). (¬2) رواه مسلم (804). (¬3) رواه مسلم (805). (¬4) رواه أبو داود (4799)، والترمذي (2003)، وابن حبان (2/ 230). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬5) رواه البخاري (4729)، ومسلم (2785). (¬6) رواه أحمد (1/ 420) (3991). قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (6/ 39): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2750): إسناده حسن وهو صحيح بطرقه الكثيرة.

الثالث: أن الذي يوزن إنما هو صحائف الأعمال. فقد روى الترمذي في (سننه) عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاَ؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا يا رب. فيقول الله تعالى: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء)) (¬1). وقد مال القرطبي إلى هذا القول، فقال: والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف،. . قال ابن عمر: توزن صحائف الأعمال، وإذا ثبت هذا فالصحف أجسام، فيجعل الله تعالى: رجحان إحدى الكفتين على الأخرى دليلاً على كثرة أعماله بإدخاله الجنة أو النار. وقال السفارييني: والحق أن الموزون صحائف الأعمال، وصححه ابن عبد البر والقرطبي وغيرهما، وصوبه الشيخ مرعي في (بهجته)، وذهب إليه جمهور من المفسرين، وحكاه ابن عطية عن أبي المعالي. ولعل الحق أن الذي يوزن هو العامل وعمله وصحف أعماله، فقد دلت النصوص التي سقناها على أن كل واحد من هذه الثلاثة يوزن، ولم تنف النصوص المثبتة لوزن الواحد منها أن غيره لا يوزن، فيكون مقتضى الجمع بين النصوص إثبات الوزن للثلاثة المذكورة جميعها. وهذا ما رجحه الشيخ حافظ الحكمي فقال: والذي استظهر من النصوص – والله أعلم – أن العامل وعمله وصحيفة عمله – كل ذلك يوزن، لأن الأحاديث التي في بيان القرآن، قد وردت بكل ذلك، ولا منافاة بينها، ويدل كذلك ما رواه أحمد – رحمه الله تعالى: – عن عبدالله بن عمرو في قصة صاحب البطاقة بلفظ: قال: قال رسول الله: ((توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة، ويوضع ما أحصي عليه، فيمايل به الميزان. قال: فيبعث به إلى النار. قال: فإذا أدبر، إذ صائح من عند الرحمن - عز وجل - يقول: لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة، حتى يميل به الميزان)) (¬2) فهذا يدل على أن العبد يوضع هو وحسناته وصحيفتها في كفة وسيئاته مع صحيفتها في الكفة الأخرى، وهذا غاية الجمع بين ما تفرق ذكره في سائر أحاديث الوزن، ولله الحمد والمنة القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 251 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2639). والحديث رواه ابن ماجه (4300)، وأحمد (2/ 213) (6994)، والحاكم (1/ 46). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في (الصحيحين) وهو صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (135): وهو كما قالا. (¬2) رواه أحمد (2/ 221) (7066). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 82): رواه الترمذي باختصار، رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (12/ 24): إسناده صحيح.

المطلب الثاني: الأعمال التي تثقل في الميزان

المطلب الثاني: الأعمال التي تثقل في الميزان أثقل ما يوضع في ميزان العبد حسن الخلق، فعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أثقل شيء يوضع في ميزان العبد يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)). رواه الترمذي، وروى أبو داود الشطر الأول (¬1) وفي (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) (¬2). وفي (صحيح مسلم) عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن (أو تملأ). ما بين السماء والأرض)) (¬3). وروى البخاري والنسائي وأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، كان شبعه وريه، وروثه، وبوله، حسنات في ميزانه يوم القيامة)) (¬4). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 255 ¬

(¬1) روى أبو داود شطره الأول (4799)، والترمذي (2002). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وحسن إسناده البزار في ((البحر الزخار)) (10/ 36). وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (852) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (6406)، ومسلم (2694). (¬3) رواه مسلم (223). (¬4) رواه البخاري (2853)، والنسائي (6/ 225)، وأحمد (2/ 374) (8853).

المبحث السابع: حكمة الله تعالى في وزن أعمال العباد والرد على من ينكره

المبحث السابع: حكمة الله تعالى في وزن أعمال العباد والرد على من ينكره كل مسلم يعلم أن الله تعالى حكيم عليم, يفعل ما يشاء لحكمة, وقد يعرف الناس بعض الجوانب من الحكم, وقد تخفى عليهم, وإذا كان الناس ينزهون العقلاء من بني آدم عن إتيانهم أعمالاً لاحكمة فيها ولا فائدة من ورائها, فكيف بالله سبحانه وتعالى؟! وليس من صفات المسلم الحق أن يرد ما أخبر الله به, أو يتأوله بما يبطل المراد منه. ومن ذلك أمر الميزان, فقد أخبر الله به, وأخبر به رسول صلى الله عليه وسلم فيجب الإيمان بذلك, وأن لله حكمة عظيمة في نصبه يوم القيامة, من أعظمها وأجلها: إظهار أقصى كمال عدله جل وعلا بين عباده, حتى لايساوى المحسن والمسيء, وليظهر التفاوت بين البشر جلياً واضحاً, يقتنع كل مخلوق بذلك كما يقتنعون بما يرجحه الميزان في الدنيا, ولو شاء الله أن لا يقيم ميزان ويأخذ العباد بما يعلمه سبحانه من أعمالهم الطيبة أوالخبيثة؛ لما كان في ذلك أي نقص على العباد ولا هضم لحق أي مخلوق: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14]. لكن الله تعالى لم يشأ ذلك, بل أراد أن يعلم العباد بأعمالهم بما يقتنعون به هم أنفسهم, وحتى لا يبقي حجة ولا اعتراض لمعترض, ولله الحجة البالغة. وفي بيان حكمة الله في إقامة الميزان يقول الثعلبي بأن الحكمة في ذلك: تعريف الله عباده عدد مالهم عنده من الجزاء من خير أوشر (¬1). وقال الشيخ مرعي – فيما ينسبه إليه السفاريني -: بل الحكمة فيه: إظهار العدل وبيان الفضل، حيث إنه يزن مثاقيل الذر من خير أو شر إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] (¬2). ويقول البرديسي: وحكمة الوزن ليبين ما يستحقه من العذاب وما يكون فيه من درجات الجنة (¬3). ويقول القاضي عبد الجبار – من كبار المعتزلة – عن فائدة وضع الموازين: وأما فائدته: فهو تعجيل مسرة المؤمن وغم الكافر, هذا في القيامة, وفيه فائدة أخرى تتعلق بالتكليف: وهي أن المرء مع علمه أن أعماله توزن على الملأ؛ كان عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات, وهذه فائدة عظيمة (¬4). ويقول الطبري في رده على من ينكر الميزان والحكمة منه: فإن أنكر ذلك جاهل بتوجيه معنى (¬5). خبر الله عن الميزان وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عنه وجهته (¬6). وقال أوبالله حاجة إلى وزن الأشياء وهو العالم بمقدار كل شيء قبل خلقه إياه, وبعده, وفي كل حال؟ أو قال: وكيف توزن الأعمال والأعمال ليس بأجسام توصف بالثقل والخفة؟ وإنما توزن الأشياء ليعرف ثقلها من خفتها، وكثرتها من قلتها، وذلك لا يجوز إلا على الأشياء التي توصف بالثقل والخفة والكثرة والقلة, قيل له في قوله: وما وجه وزن الله الأعمال وهو العالم بمقاديرها قبل كونها: وزن نظير إثباته إياه في أم الكتاب واستنساخه ذلك في الكتاب من غير حاجة إليه ومن غير نسيانه، ليكون ذلك حجة على خلقه كما قال جل ثناؤه في تنزيله: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كِتَابِهَا اليوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ [الجاثية: 28 - 29]. ¬

(¬1) ((لوامع الأنوار)) (2/ 188). (¬2) ((لوامع الأنوار)) (2/ 188). (¬3) ((تكملة شرح الصدور)) (ص 29). (¬4) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص 736). (¬5) هكذا العبارة في الكتاب المشار إليه ولعل معناها فإن أنكر ذلك جاهل بالمراد من معنى خبر الله عن الميزان. (¬6) هكذا العبارة في الكتاب.

فكذلك وزنه تعالى خلقه بالميزان: حجة عليهم ولهم إما بالتقصير في طاعته وإما بالتكميل والتتميم (¬1). ويقول ابن أبي العز – في رده على الذين ينفون الميزان، لخفاء الحكمة عليهم، وقولهم: إنه لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال ومدى خطورة هذا الكلام – يقول (فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة ولا نقصان، ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع – لخفاء الحكمة عليه – ويقدح في النصوص بقوله: لايحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزنا ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده, فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله, من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين, فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه) (¬2). ثم إن الذين يحاولون التشكيك في الميزان, وإنكار حقيقته, لا يستندون على أي دليل يصح الاحتجاج به، بل غاية ما تشبثوا به, مجرد الاستبعادات العقلية, وليس في ذلك حجة على أحد, فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى جاءت البدع كالليل المظلم، وقال كل ما شاء, وتركوا الشرع خلف ظهورهم, وليتهم جاؤوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ويتحذ قبولهم لها, بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه, ويوافق ما يذهب إليه هواه, ومن هو تابع له. فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم، يعرف هذا كل منصف، ومن أنكره فليصمت فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه (¬3). وذكر محمد رشيد رضا: (أن حكمة وزن الأعمال بعد الحساب: أنه يكون أعظم مظهر لعدل الرب تبارك وتعالى, أي ولعلمه وحكمته وعظمته في ذلك اليوم العظيم, إذ يرى فيه عباده – أفرادا وشعوبا وأمما – ذلك بأعينهم, ويعرفونه معرفة إدراك ووجدان في أنفسهم, فإن أعمالهم تتجلى لهم فيها أولا, ثم تتجلى لهم ولسائر الخلق في خارجها ثانيا, فياله من منظر مهيب, وياله من مظهر رهيب, وما أشد غفلة من قال: إنه لا حاجة إليه للاستغناء بعلم الله عنه (¬4). ومهما قيل في الحكمة فإن الأمر لا يزال يتطلب الإيمان الكامل بأن وزن الأعمال هو عين الحكمة, وأن هذه مجرد استنباطات للعلماء, وتبقى حقيقة علم ذلك إلى الله وحده. الحياة الآخرة ما بين البعث إلى دخول الجنة أو النار لغالب بن علي عواجي- 2/ 1153 ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (8/ 124). (¬2) ((شرح الطحاوية)) (ص 475). (¬3) ((فتح القدير)) (2/ 190). (¬4) ((تفسير المنار)) (8/ 325).

الفصل الثالث عشر: الحشر إلى دار القرار

المبحث الأول: كل أمة تتبع الإله الذي كانت تعبده في ختام هذا اليوم يحشر العباد إما إلى الجنة وإما إلى النار، وهما المقرّ الأخير الذي يصير إليه العباد جميعاً، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يطلب من كل أمة في آخر ذلك اليوم أن تتبع الإله الذي كانت تعبده، فالذي كان يعبد الشمس يتبع الشمس، والذي كان يعبد القمر يتبع القمر، والذي كان يعبد الأصنام تصور لهم آلهتهم ثم تسير أمامهم ويتبعونها، والذين كانوا يعبدون فرعون يتبعونه، ثم إن هذه الآلهة الباطلة تتساقط في النار، ويتساقط عبادها وراءها في السعير، كما قال تعالى: في فرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود:98]. ولا يبقى بعد ذلك إلا المؤمنون وبقايا أهل الكتاب، وفي المؤمنين المنافقون الذين كانوا معهم في الدنيا، فيأتيهم ربهم، فيقول لهم: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيعرفونه بساقه عندما يكشفها لهم، وعند ذلك يخرون له سجوداً، إلا المنافقون فلا يستطيعون يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42]، ثم يتبع المؤمنون ربهم، وينصب الصراط ويعطى المؤمنون أنوارهم، ويسيرون على الصراط، ويطفأ نور المنافقين، ويقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، ثم يضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، ويمر العباد على الصراط مسرعين بقدر إيمانهم وأعمالهم الصالحة. روى مسلم في (صحيحه) عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغبر أهل الكتاب. فيدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد. فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا، فاسقنا. فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار. ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ما تبغون؟ فيقولون: عطشنا، يا ربنا فاسقنا، قال: فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنهم سراب، يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار. حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فماذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً (مرتين أو ثلاثاً) حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب. فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا. ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم.

قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: دحض مزلة، فيه خطاطيف وكلاليب وحسك، تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم)) (¬1). وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة في وصف المرور على الصراط، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وترسل الأمانة والرحم، فتقومان على جنبتي الصراط يميناً وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أي شيء كالبرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمرُّ ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمرّ الريح، ثم كمرِّ الطير وشدِّ الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب، سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً، قال: وعلى حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به. فمخدوش ناج، ومكدوس في النار)) (¬2). وروى مسلم في (صحيحه) عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبدالله يسأل عن الورود، فقال: نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر إلى ذلك فوق الناس، قال: فتدعى الأمم بأوثانها، وما كانت تعبد، الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك. قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم، منافق أو مؤمن نوراً، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء الله ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفاً لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء .. (¬3). وروى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في إجابته للصحابة عندما سألوه عن رؤيتهم الله: ((هل تُضارُّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردلُ، ثم ينجوا)) (¬4). وقد دلت هذه النصوص الصحيحة الصريحة الواضحة على عدة أمور مهمة، فقد ذكرت حشر الكفار إلى النار، ومسير المؤمنين إلى الجنة على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين، كما أشارت في جملتها إلى معنى الورود على النار الذي نص الله عليه في قوله: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71] القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 263 ¬

(¬1) رواه مسلم (183). (¬2) رواه مسلم (195). (¬3) رواه مسلم (191). (¬4) رواه البخاري (7437)، ومسلم (182).

المبحث الثاني: حشر الكفار إلى النار

المبحث الثاني: حشر الكفار إلى النَّار جاءت نصوص كثيرة تصور لنا كيف يكون حشر الكفار إلى النار هم وآلهتهم التي كانوا يعبدونها: 1 - فمن ذلك أنهم يحشرون كقطعان الماشية جماعات جماعات، ينهرون نهراً غليظاً، ويصاح بهم من هنا وهناك، كما يفعل الراعي ببقره أو غنمه وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر: 71]، يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور: 13]، وقال: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت: 19]. ومعنى يوزعون أي: يجمعون، تجمعهم الزبانية على آخرهم، كما يفعل البشر بالبهائم. 2 - وأفادت النصوص أنهم يحشرون إلى النار على وجوههم، لا كما كانوا يمشون في الدنيا على أرجلهم، قال تعالى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 34]. روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك: ((أن رجلاً قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة قال قتادة: بلى وعزة ربنا)) (¬1). ومع حشرهم على هذه الصورة المنكرة على وجوههم فإنهم يحشرون عمياً لا يرون، وبكماً لا يتكلمون، وصماً لا يسمعون وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97]. 3 - ويزيد بلاءهم أنهم يحشرون مع آلهتهم الباطلة وأعوانهم وأتباعهم احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22 - 23]. 4 - وهم في هذا مغلوبون مقهورون أذلاء صاغرون قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 12]. 5 - وقبل أن يصلوا إلى النار تصك مسامعهم أصواتها التي تملأ قلوبهم رعباً وهلعاً إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12]. 6 - وعندما يبلغون النار ويعاينون أهوالها يندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا كي يؤمنوا وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27]، ولكنهم لا يجدون من النار مفراً: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف: 53]. ¬

(¬1) رواه البخاري (4760)، ومسلم (2806).

7 - وعند ذلك يؤمرون بالدخول في النار وغضب الجبار أذلاء خاسرين فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل: 29]، ولا ينجو من النار من الجن والإنس إلا الأتقياء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 68 - 72]. يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: في تفسير هذه الآيات: يقسم الله بنفسه وهو أعظم قسم وأجله أنهم سيحشرون بعد الموت، فهذا أمر مفروغ منه فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ [مريم: 68]، ولن يكونوا وحدهم لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ [مريم: 68] فهم والشياطين سواء، والشياطين هم الذين يوسوسون بالإنكار، وبينهما صلة التابع والمتبوع، والقائد والمقود, وهنا يرسم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثو الخزي والمهانة، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا [مريم: 68]، وهي صورة رهيبة، وهذه الجموع التي لا يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها، تشهد هولها، ويلفحها حرها، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها، وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع، وهو مشهد ذليل للمتجبرين المتكبرين، يليه مشهد النزع والجذب لمن كانوا أشد عتواً وتجبراً: ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [مريم: 69]، وفي اللفظ تشديد، ليرسم بظله وجرسه صورة لهذا الانتزاع، تتبعها صورة القذف في النار، وهي الحركة التي يكملها الخيال. وإن الله ليعلم من هم أولى بأن يصلوها، فلا يؤخذ أحد جزافاً من هذه الجموع التي لا تحصى، والتي أحصاها الله فرداً فرداً: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [مريم:70]، فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين. وقد غيرت هذه الآية: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71] أحوال الصالحين، فأسهرت ليلهم، وعكرت عليهم صفو العيش، وحرمتهم الضحك، والتمتع بالشهوات، فقد ذكر ابن كثير أن أبا ميسرة كان إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: أخبرنا الله أنا واردوها، ولم نخبر أنا صادرون عنها. وقال عبدالله بن المبارك عن الحسن البصري، قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله، وقال ابن عباس لرجل يحاوره: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ (¬1). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 268 ¬

(¬1) رواه الطبري (18/ 233). وانظر: تفسير ابن كثير (5/ 253).

الفصل الرابع عشر: الصراط

الفصل الرابع عشر: الصراط • المبحث الأول: تعريف الصراط. • المبحث الثاني: صفة الصراط. • المبحث الثالث: معتقد أهل السنة في الصراط. • المبحث الرابع: مرور المؤمنين على الصّراط وخلاص المؤمنين من المنافقين. • المبحث الخامس: الذين يمرُّون على الصّراط هم المؤمنون دون المشركين. • المبحث السادس: أول من يجيز الصراط. • المبحث السابع: الناجون والهالكون. • المبحث الثامن: التفاضل في المرور على الصراط. • المبحث التاسع: القنطرة.

المبحث الأول: تعريف الصراط

المبحث الأول: تعريف الصراط قال ابن منظور في (اللسان) (2/ 430): (الصراط, والسراط, والزراط, الطريق، قال الشاعر: أكر على الحروريين مهرى ... واحملهم على وضح الصراط) وقال الزبيدي في (تاج العروس) (19/ 345): (السراط بالكسر: السبيل الواضح، وبه فسر قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة: 6]. أي ثبتنا على المنهاج الواضح كما قاله الأزهري). وقال الفيروز أبادي في (ترتيب القاموس المحيط) (2/ 814): (الصراط بالكسر: الطريق، وجسر ممدود على متن جهنم. وبالضم السيف الطويل). وقال يحيى بن سلام في (التصاريف) رقم (104/ 330): (الصراط على وجهين: 1 - الطريق، وذلك في قوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ [الأعراف: 86]. يعني بكل طريق. 2 - الدين وذلك في قوله: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة: 6] يعني الدين المستقيم. وقال في وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام: 153]: يعني ديناً مستقيماً). وقال القرطبي: (في (الجامع لأحكام القرآن) (1/ 147) أصل الصراط في كلام العرب الطريق. قال عامر بن الطفيل: شحنَّا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أذل من الصراط) وقرئ السراط من الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يسترط من يسلكه. وقال الراغب في (المفردات في غريب القرآن) (ص337): (السراط: الطريق المستسهل. أصله من: سرطت الطعام وزردته: ابتلعته). صفة الصراط لحاي الحاي - ص 11

المبحث الثاني: صفة الصراط

المبحث الثاني: صفة الصراط وردت في السنة أحاديث صحيحة في صفة الصراط, ووصفته وصفاً جلياً فينبغي على المسلم أن يعرف هذه الصفات ويستشعرها في فؤاده حتى ينجو من عذاب الجبار سبحانه وتعالى وذلك بالوقوف عند أوامره, واجتناب سخطه وغضبه، وهذه الصفات هي: 1 - الصراط زلق: وذلك من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قلنا ما الجسر يا رسول الله قال: ((مدحضة مزلة)) (¬1) (¬2). قال أبو إسحاق الحربي: الجِسَر والجِسر: ما عبر عليه من قنطرة ونحوها. (غريب الحديث لأبي إسحاق إبراهيم الحربي 1/ 3 باب جسر). وقال العيني: (مدحضة من دحضت رجله دحضاً زلقت، ودحضت الشمس عند كبد السماء: زالت، ودحضت حجته بطلت. مزلة: من زلت الأقدام سقطت، وقال الكرماني: بكسر الزاي وفتحها (¬3) , قال ابن الجوزي، دحض: زلق (¬4)، وقال الفيومي: دحض الرجل: زلق (¬5)). 2 - وله جنبتان أو حافتان: كما في حديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يحمل الناس على الصراط يوم القيامة فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار)) (¬6). قال ابن الأثير في (النهاية) (4/ 24): (قوله: ((فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار)) أي تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض. وتقادع القوم: إذا مات بعضهم إثر بعض). اهـ. 3 - ولحافتي الصراط كلاليب: وذلك من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما عند مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به)) (¬7) ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((قلنا يا رسول الله ما الجسر؟ قال: مدخضة مزلة, عليه خطاطيف, وكلاليب, وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان)) (¬8) ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وبه كلاليب مثل شوك السعدان أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أن لا يعلم قدر عظمها إلا الله)) (¬9). قال العيني في (عمدة القاري) (20/ 316): (كلاليب جمع كلوب بفتح الكاف وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم. وقيل: الكلوب الذي يتناول به الحداد الحديد من النار. كذا في كتاب ابن بطال). اهـ. وقال أيضاً رحمه الله: (خطاطيف: جمع خطاف بالضم وهو الحديدة المعوجة كالكلوب يختطف بها الشيء. وقوله: حسكة: بفتحات وهي شوكة صلبة معروفة وقال صاحب التهذيب. الحسك نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم, وربما اتخذ مثله من حديد وهو من آلات الحرب. مفلطحة: أي عريضة. عقيفاء: معوجة) (¬10). وقوله شوك السعدان: قال الحافظ: (جمع سعدانة وهو نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه قالوا: مرعى ولا كالسعدان. وقوله: أما رأيتم شوك السعدان: هو استفهام تقرير لاستحضار الصورة المذكورة) (¬11). ¬

(¬1) رواه البخاري (7439) واللفظ له، ومسلم (183). (¬2) ((فتح الباري)) (13/ 421). (¬3) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني أبي محمد بن محمود بن أحمد العيني)) (20/ 320). (¬4) ((غريب الحديث لابن الجوزي)) (1/ 326). (¬5) ((المصباح المنير)) (190). (¬6) رواه أحمد (5/ 43) (20457)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (2/ 142) (929)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (837). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 362): رجاله رجال الصحيح، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (251): إسناده صحيح. (¬7) رواه مسلم (195). (¬8) رواه البخاري (7439) واللفظ له، ومسلم (183). (¬9) رواه البخاري (7437)، ومسلم (182). (¬10) ((عمدة القاري)) (20/ 320). (¬11) ((فتح الباري كتاب الرقاق)) (11/ 453).

قال الزين بن المنير: (تشبيه الكلاليب بشوك السعدان خاص بسرعة اختطافها وكثرة الانتشاب فيها مع التحرز والتصون تمثيلاً لهم بما عرفوه في الدنيا وألفوه بالمباشرة.) اهـ. ذكره الحافظ في (الفتح) (11/ 453). وقوله: (لا يعلم قدر عظمها إلا الله) في رواية مسلم: (لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله). قال الجوهري، عظم الشيء عظماً: أي كبر فتقديره لا يعلم قدر كبرها إلا الله وعظم الشيء أكثره (¬1). 4 - والصراط مثل حد الموسى أو حد السيف: قلت: كما في حديث سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويوضح الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من يجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي: فيقولون: ما عبدناك حق عبادتك)) (¬2) وحديث ابن مسعود الطويل الذي فيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والصراط كحد السيف، دحض مزلة)) (¬3). صفة الصراط لحاي الحاي – ص 14 ¬

(¬1) ((عمدة القاري)) (19/ 98). كتاب الرقاق باب الصراط جسر جهنم (11/ 453). (¬2) رواه الحاكم (4/ 629). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن رجب في ((التخويف من النار)) (ص: 224): المعروف أنه موقوف على سلمان الفارسي من قوله، وأورده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (941) وإسناده صحيح موقوفا وله حكم الرفع. (¬3) رواه الحاكم (2/ 408). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (158): طريقه صحيحة متصلة رجالها ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3629).

المبحث الثالث: معتقد أهل السنة في الصراط

المبحث الثالث: معتقد أهل السنة في الصراط ونؤمن بالصراط، وهو جسر على جهنم، إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم الموقف إلى الظلمة التي دون الصراط، كما قالت عائشة رضي الله عنها: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر)) (¬1). وقد بيّن السفاريني رحمه الله تعالى: – موقف الفرق من الصراط، وهل هو صراط مجازي أم حقيقي؟ ثم قرر مذهب أهل الحق الذي دلت عليه النصوص فيه، فقال: اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره من كونه جسراً ممدوداً على متن جهنم، أحدّ من السيف وأدق من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي، وكثير من أتباعه زعماً منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما المراد طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [محمد: 5]، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات:23]، ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة والمباحات والأعمال الرديئة التي يسأل عنها ويؤاخذ بها، وكل هذا باطل وخرافات لوجوب حمل النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء، أو الوقوف فيه، وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن سؤال حشر الكافر على وجهه بأن القدرة صالحة لذلك. وأنكر العلامة القرافي كون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وسبقه إلى ذلك شيخه العز بن عبد السلام، والحق أن الصراط وردت به الأخبار الصحيحة وهو محمول على ظاهره بغير تأويل كما ثبت في (الصحيحين) و (المسانيد) و (السنن الصحاح) مما لا يحصى إلا بكلفة من أنه جسر مضروب على متن جهنم يمر عليه جميع الخلائق، وهم في جوازه متفاوتون. وذكر القرطبي مذهب القائلين بمجازية الصراط، المأوّلين للنصوص المصرحة به، فقال: ذهب بعض من تكلم على أحاديث وصف الصراط بأنه أدق من الشعر، وأحدُّ من السيف أن ذلك راجع إلى يسره وعسره على قدر الطاعات والمعاصي، ولا يعلم حدود ذلك إلا الله تعالى: لخفائها وغموضها، وقد جرت العادة بتسمية الغامض الخفي دقيق، فضرب المثل بدقة الشعر، فهذا من هذا الباب، ومعنى قوله: أحدّ من السيف أن الأمر الدقيق الذي يصعد من عند الله تعالى: إلى الملائكة في إجازة الناس على الصراط يكون في نفاذ حد السيف ومضيه إسراعاً منهم إلى طاعته وامتثاله، ولا يكون له مرد كما أن السيف إذا نفذ بحده وقوة ضاربه في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد، وإما أن يقال: إن الصراط نفسه أحد من السيف وأدق من الشعر فذلك مدفوع بما وصف من أن الملائكة يقومون بجنبيه، وأن فيه كلاليب وحسكاً، أي أن من يمر عليه يقطع على بطنه، ومنهم من يزل ثم يقوم، وفيه أن من الذين يمرون عليه من يعطى النور بقدر موضع قدميه، وفي ذلك إشارة إلى أن للمارين عليه مواطئ الأقدام، ومعلوم أن دقة الشعر لا يحتمل هذا كله. ثم رد عليهم مقالتهم، فقال: ما ذكره هذا القائل مردود بما ذكرنا من الأخبار وأن الإيمان يجب بذلك، وأن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن، فيجريه أو يمشيه، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند الاستحالة، ولا استحالة في ذلك للآثار المروية في ذلك، وبيانها بنقل الأئمة العدول، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 279 ¬

(¬1) رواه مسلم (315).

المبحث الرابع: مرور المؤمنين على الصراط وخلاص المؤمنين من المنافقين

المبحث الرابع: مرور المؤمنين على الصّراط وخلاص المؤمنين من المنافقين عندما يذهب بالكفرة الملحدين، والمشركين الضالين إلى دار البوار: جهنم يصلونها، وبئس القرار، يبقى في عرصات القيامة أتباع الرسل الموحدون، وفيهم أهل الذنوب والمعاصي، وفيهم أهل النفاق، وتلقى عليهم الظلمة قبل الجسر كما في الحديث الذي يرويه مسلم في (صحيحه) عن عائشة قالت: ((سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر)) (¬1). يقول شارح (الطحاوية): وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم. روى البيهقي بسنده عن مسروق، عن عبدالله، قال: يجمع الله الناس يوم القيامة إلى أن قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره في إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا أطفأ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، ويقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يد، وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا، قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك، بعد أن أراناك، لقد أعطانا ما لم يعط أحد (¬2). وقد حدثنا تبارك وتعالى عن مشهد مرور المؤمنين على الصراط، فقال: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد: 12 - 15]. ¬

(¬1) رواه مسلم (315). من حديث ثوبان رضي الله عنه. (¬2) رواه البيهقي في ((البعث والنشور)) (419). والحديث رواه الطبراني (9/ 357)، والحاكم (2/ 408). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. وقال الألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص469): صحيح.

فالحق يخبر أن المؤمنين والمؤمنات الذين استناروا بهذا الدين العظيم في الدنيا، وعاشوا في ضوئه، يعطون في يوم القيامة نوراً يكشف لهم الطريق الموصلة إلى جنات النعيم، ويجنبهم العثرات والمزالق في طريق دحض مزلة، وهناك يبشرون بجنات النعيم، ويحرم المنافقون الذين كانوا يزعمون في الدنيا أنهم مع المؤمنين، وأنهم منهم، لكنهم في الحقيقة مفارقون لهم لا يهتدون بهداهم، ولا يسلكون سبيلهم من النور، كما حرموا أنفسهم في الدنيا من نور القرآن العظيم، فيطلب المنافقون من أهل الإيمان أن ينتظروهم ليستضيئوا بنورهم، وهناك يخدعون، كما كانوا يخدعون المؤمنين في الدنيا، ويقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، وبذلك يعود المنافقون إلى الوراء، ويتقدم المؤمنون إلى الأمام، فإذا تمايز الفريقان، ضرب الله بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويكون مصير المؤمنين والمؤمنات الجنة، ومصير المنافقين والمنافقات النار. وقد أخبر الحق أن دعاء المؤمنين عندما يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم هو رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم:8]، قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8]. قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم: هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طُفئ. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 272 ويتفاوت الناس في المرور على الصراط تفاوتاً عظيماً وذلك لأن المرور عليه إنما يكون بقدر الأعمال الصالحة التي قدمها المرء المسلم لربه في الحياة الدنيا، ويمكن أن نلخص كيفية المرور بما يلي: 1 - يعطي الله كل إنسان نوراً على قدر عمله يتبعه على الصراط: كما في حديث جابر عند مسلم (¬1) عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نوراً. ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله)). وكما في حديث ابن مسعود الطويل الذي فيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فيعطون نورهم على قدر أعمالهم وقال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى نوره دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطي نوره على إبهام قدمه، يضيء مرة, ويطفأ مرة إذا أضاء قدم قدمه, وإذا أطفئ قام)) (¬2) 2 - انطفاء نور المنافقين: في هذا الموقف الرهيب حيث تجد أن الذعر والخوف قد استحوذ على الناس، كلهم يريد النجاة بحشاشة نفسه من الكلاليب, والخطاطيف, فإذا نور المنافقين يطفأ كما في حديث جابر عند مسلم (¬3) ((ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نوراً. ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله, ثم يطفأ نور المنافقين. ثم ينجو المؤمنون)). ¬

(¬1) رواه مسلم (191). (¬2) رواه الحاكم (2/ 408). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (158): طريقه صحيحة متصلة رجالها ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3629). (¬3) رواه مسلم (191).

3 - اختلاف سرعة الناس في المرور على الصراط: تختلف سرعة الناس في المرور على الصراط وذلك باختلاف قوة النور الذي يعطى لهم على قدر أعمالهم كما بينا في الفقرة السابقة، ويدل عليه حديث ابن مسعود الطويل الذي فيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويمرون على الصراط والصراط كحد السيف، دحض مزلة, فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح, ومنهم من يمر كالطرف, ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً, فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تخرُّ يد، وتعلق يد, وتخر رجل، وتعلق رجل, وتصيب جوانبه النار، فيخلصون, فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد)) (¬1). قلت: وفي رواية أخرى عن ابن مسعود تبين أن الناس يردون النار كلهم ثم يخرجون منها بأعمالهم مع اختلاف في سرعتهم, كما قال السدي: ((سألت مرة الهمداني عن قول الله عز وجل: وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا [مريم: 71]. فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأولهم كلمع البرق, ثم كمر الريح, ثم كحضر الفرس, ثم كالراكب, ثم كشد الرجال، ثم كمشيهم)) (¬2). وكذلك في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بعد أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم صفة الصراط, وذكر الشوكة العقيفاء، قال: ((المؤمن عليها كالطرف, وكالبرق, وكالريح, وكأجاويد الخيل, والركاب)) (¬3). شرح الألفاظ: قال العيني: (كالطرف): بكسر الطاء وهو الكريم من الخيل وبالفتح البصر)). قلت: المعنى الثاني هو المراد بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعد ذلك البرق, والريح, ومرور الخيل على الترتيب في السرعة. أجاويد الخيل: جمع الأجود وهو جمع الجواد وهو فرس بيَّنٌ الجودة. (الركاب: الإبل واحدتها الراحلة من غير لفظها). (عمدة القاري) (20/ 320). قلت: وهناك من يزحف على الصراط زحفاً كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً)) (¬4). أما آخر الناس مروراً على الصراط فهو المسحوب كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى يمر آخرهم يسحب سحباً)) (¬5). ¬

(¬1) رواه الحاكم (2/ 408). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (158): طريقه صحيحة متصلة رجالها ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3629). (¬2) رواه الحاكم (2/ 407). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (311): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬3) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183). (¬4) رواه مسلم (195). (¬5) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183).

أثر ابن مسعود: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (يأمر الله تبارك وتعالى بالصراط فيضرب على جهنم قال: فيمر الناس زمراً على قدر أعمالهم، أوائلهم كلمح البرق (الخاطف) , ثم كمر الريح، ثم كمر الطائر، ثم كأسرع البهائم, ثم كذلك ثم يمر الرجل سعياً، ثم يمر الرجل ماشياً، ثم يكون آخرهم رجلاً يتلبط على بطنه يقول: يا رب لم أبطأت بي؟ فيقول: إنما أبطأ بك عملك!) (¬1). قلت: هذا الأثر له حكم الرفع لأنه مما لا يقال بالرأي فهو من الأمور الغيبية. الأمانة والرحم على الصراط: يدل على ذلك حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر ذهاب الناس إلى آدم, ثم إبراهيم, ثم موسى, ثم عيسى, ثم محمد، قال صلى الله عليه وسلم: ((وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً)) (¬2) قلت: وذلك يدل على عظم شأنهما والظاهر والراجح أنهما تقومان كشيئين، ولا يعلم حقيقتهما إلا الله عز وجل. قال الحافظ (¬3): (والمعنى أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يوقفان هناك للأمين والخائن, والمواصل والقاطع, فيحاجان عن المحق, ويشهدان على المبطل). اهـ. قال الطيبي (¬4): (ويمكن أن يكون المراد بالأمانة ما في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ [الأحزاب: 72]. (2) وصلة الرحم ما في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء: 1]. فيدخل فيه معنى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكأنهما اكتنفتا جنبتي الإسلام الذي هو الصراط المستقيم وفطرتي الإيمان والدين القويم). اهـ. صفة الصراط لحاي الحاي – ص 19 ¬

(¬1) رواه الحاكم (4/ 641). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/ 92): روي مرفوعاً وموقوفاً والموقوف أصح. (¬2) رواه مسلم (195). (¬3) ((فتح الباري)) (11/ 453) و ((مسلم)) (1/ 164). (¬4) ((فتح الباري)) (11/ 453).

المبحث الخامس: الذين يمرون على الصراط هم المؤمنون دون المشركين

المبحث الخامس: الذين يمرُّون على الصّراط هم المؤمنون دون المشركين دلت الأحاديث التي سقناها على أن الأمم الكافرة تتبع ما كانت تعبد من آلهة باطلة، فتسير تلك الآلهة بالعابدين، حتى تهوي بهم في النار، ثم يبقى بعد ذلك المؤمنون وفيهم المنافقون، وعصاة المؤمنين، وهؤلاء هم الذين ينصب لهم الصراط. ولم أر في كتب أهل العلم من تنبه إلى ما قررناه من أن الصراط إنما يكون للمؤمنين دون غيرهم من الكفرة المشركين والملحدين غير ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى، فإنه قال: في كتابه (التخويف من النار): واعلم أن الناس منقسمون إلى مؤمن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، ومشرك يعبد مع الله غيره، فأما المشركون، فإنهم لا يمرون على الصراط، وإنما يقعون في النار قبل وضع الصراط. وقد ساق بعض الأحاديث التي سقناها، ومنها حديث أبي سعيد الخدري الذي في (الصحيحين)، ثم قال: فهذا الحديث صريح في أن كل من أظهر عبادة شيء سوى الله كالمسيح والعزير من أهل الكتاب، فإنه يلحق بالمشركين في الوقوع في النار قبل نصب الصراط، إلا أن عباد الأصنام والشمس والقمر وغير ذلك من المشركين تتبع كل فرقة منهم ما كانت تعبد في الدنيا، فترد النار مع معبودها أولاً، وقد دل القرآن على هذا المعنى في قوله تعالى: في شأن فرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: 98] وأما من عبد المسيح والعزير من أهل الكتاب، فإنهم يتخلفون مع أهل الملل المنتسبين إلى الأنبياء، ثم يردون النار بعد ذلك. وقد ورد في حديث آخر أن من كان يعبد المسيح يمثل له شيطان المسيح فيتبعونه، وكذلك من كان يعبد العزير، وفي حديث الصور أنه يمثل لهم ملك على صورة المسيح، وملك على صورة العزير، ولا يبقى بعد ذلك إلا من كان يعبد الله وحده في الظاهر سواء كان صادقاً أو منافقاً من هذه الأمة وغيرها، ثم يتميز المنافقون عن المؤمنين بامتناعهم عن السجود، وكذلك يمتازون عنهم بالنور الذي يقسم للمؤمنين. وهذا نظر سديد من قائله رحمه الله. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 275

المبحث السادس: أول من يجيز الصراط

المبحث السادس: أول من يجيز الصراط الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أمته أول من يجيز الصراط: يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه الذي فيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويضرب السراط بين ظهري جهنم, فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها)) (¬1). (وهذا لفظ البخاري). وكذلك رواية أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الآذان من صحيح البخاري وفيها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل, وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم)) (¬2). قلت: ورواية أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم توضح مكان النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تمر أمته كلها – وهو على الصراط صلى الله عليه وسلم وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيها بعد أن ذكر صفات الذين يمرون على الصراط: ((ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم)) (¬3). وكذلك الأنبياء عليهم السلام كما في رواية أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والأنبياء بجنبتي الصراط وأكثر قولهم: اللهم سلم سلم)) (¬4). صفة الصراط لحاي الحاي – ص 24 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (13/ 419) و ((مسلم)) (1/ 164). (¬2) ((فتح الباري)) (2/ 292). (¬3) رواه مسلم (195). (¬4) رواه مسلم (183).

المبحث السابع: الناجون والهالكون

المبحث السابع: الناجون والهالكون بين الرسول صلى الله عليه وسلم مصير الناس بعد المرور على الصراط في أحاديث كثيرة، فقال في حديث رواه ابن أبي عاصم من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بعد أن ذكر كيف يمر الناس على الصراط: ((فناج مسلم, ومخدوش مكلم, ومكردس في النار)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري أيضاً عند ابن ماجة وغيره: ((فناج مسلم, ومخدوش به, ثم ناج ومحتبس به ومنكوس فيها)) (¬2). وفي رواية أبي سعيد عند البخاري قال صلى الله عليه وسلم: ((فناج مسلم, ومخدوش, ومكدوس في نار جهنم)) (¬3) قال ابن أبي جمرة معلقاً على حديث البخاري: (يؤخذ منه أن المارين على الصراط ثلاثة أصناف: 1 - ناج بلا خدش. 2 - وهالك من أول وهلة. 3 - ومتوسط بينهما يصاب ثم ينجو. وكل قسم منها ينقسم أقساماً تعرف بقوله: (بقدر أعمالهم)) اهـ (¬4). قلت: وهناك قسم رابع وهو المحتبس به كما في حديث أبي سعيد الخدري الذي تقدم. والله أعلم. أما الصنف الأول الذي ذكره ابن أبي جمرة وهو: 1 - الناج بلا خدش: فقد ذكره صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة بلفظ (ناج مسلم) كما في الأحاديث السابقة، والناس من هذا الصنف هم الذين يعطون نوراً عظيماً على الصراط على قدر أعمالهم, فينطلقون عليه بسرعة عظيمة كما بيَّنا في فصل (كيف يمر الناس على الصراط) (ص19). وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر صفتهم بقوله: ((ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفاً لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء)) (¬5) والصنف الثاني وهو: 2 - الهالك من أول وهلة: ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة كقوله في الأحاديث السابقة: ((مكردس في النار)) و ((منكوس فيها)) و ((مكدوس في نار جهنم)) وقوله في رواية أبي هريرة عند البخاري: ((الموبق بقي بعمله)) (¬6). والناس في هذا الصنف هم المنافقون الذين يعطيهم الله تعالى نوراً فينطلقون على الصراط ثم يطفأ نورهم فيسقطون في النار والعياذ بالله ... وكذلك العصاة والفسقة من الموحدين والله أعلم. وقوله: ((منكوس فيها)) قال الراغب في كتابه (المفردات في غريب القرآن) (ص505): (النكس قلب الشيء على رأسه). اهـ وقال الفيومي في (المصباح) (ص 625): (ومنه قيل ولد (منكوس) إذا خرج رجلاه قبل رأسه لأنه مخالف للعادة). اهـ. قلت: مما سبق يتبين لنا أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((منكوس فيها)). أي مقلوب فيها على رأسه والله أعلم. وقوله: ((مكدوس في نار جهنم)). قال ابن الأثير في (النهاية) (4/ 155): (أي مدفوع، وتكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط، ويروى بالشين المعجمة، من الكدش، وهو السوق الشديد. اهـ. وقوله: (الموبق بقي بعمله) قال العيني: الموبق: من وبق: أي هلك، أوبقته ذنوبه: أهلكته). اهـ (¬7). قلت: كما في حديث: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) أي المهلكات. ¬

(¬1) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183). (¬2) رواه ابن ماجه (3472)، وأحمد (3/ 11) (11096)، وابن حبان (16/ 377) (7377)، والحاكم (4/ 628). وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه البخاري (7449). (¬4) ((فتح الباري)) (11/ 454). (¬5) رواه مسلم (191). (¬6) ((فتح الباري)) (13/ 420). (¬7) ((عمدة القاري)) (20/ 316).

أما الصنف الثالث وهو: 3 - المتوسط بينهما يصاب ثم ينجو: فقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة كقوله في الأحاديث السابقة: ((مخدوش مكلم)) و ((مخدوج به)) وكقوله في رواية أبي هريرة عند البخاري ((ومنهم المخردل ثم ينجو)) (¬1). وقوله في رواية أبي هريرة عند مسلم: ((ومنهم المجازى حتى يُنجَّى)) (¬2). والناس من هذا الصنف هم الذين اجترحوا السيئات واكتسبوا الخطايا، فتخطفهم الكلاليب, فتجرح أجسادهم, ثم ينجون بفضل رحمة الله ثم بما قدموه من طاعات في الحياة الدنيا، والله أعلم. وقوله: ((مخدوش مكلم)) قال ابن الأثير في (النهاية) (2/ 14): (خدش الجلد: قشره بعود أو نحوه). اهـ. وقال الكرماني: (مخدوش: أي مخموش ممزوق. وهو من الخمش وهو تمزيق الوجه بالأظافير) (¬3). وقوله ((مكلم)) من الكلم وهو الجرح. وقوله ((مخدوج به)) من الخداج وهو النقصان كما قال ابن الأثير في (النهاية) (2/ 12). قلت: والمعنى أن كلاليب الصراط تجرحه فتنقص من جسده، والله أعلم. وقوله: ((ومنهم المخردل ثم ينجو)) قال ابن الأثير في (النهاية) (3/ 20): (هو المرمي المصروع، وقيل: المقطع، تقطعه كلاليب الصراط، يقال: خردلت اللحم: أي فصلت أعضاءه وقطعته ومنها قصيدة كعب بن زهير: يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما ... لحم من القوم معفور خراديل أي مقطع قطعاً). اهـ. قلت: والمعنى الثاني أنسب لسياق الخبر، والله أعلم. وقوله: ((المجازي حتى ينجى)) المجازى: من الجزاء. والمعنى والله أعلم أن ما يحدث له على الصراط من تقطيع وترويع عظيمين إنما هو جزاء له على أعماله الفاسدة, وعلى تقصيره في حق ربه في حياته الدنيا. كلام الناجين بعد المرور على الصراط: بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الطويل الذي تقدم ماذا يقول الناجون بعد الانتهاء من المرور على الصراط ونجاتهم من السقوط في النار بقوله بعد أن ذكر مرور الناس على الصراط: ((فيخلصون فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك, لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد)) (¬4). نسأل الله تعالى الرحمن الرحيم، أن نكون من الناجين في ذلك اليوم العظيم العصيب، فالنجاة في ذلك اليوم لا تكون إلا بفضل مشيئة الله تعالى ورحمته ثم بما قدمه المرء من أعمال صالحة في هذه الحياة الفانية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من يجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: ما عبدناك حق عبادتك)) (¬5). صفة الصراط لحاي الحاي - بتصرف – ص 25 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (11/ 316). (¬2) ((رواه في كتاب الإيمان)) (1/ 165). (¬3) ((عمدة القاري)) (20/ 320). (¬4) رواه الحاكم (2/ 408). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (158): طريقه صحيحة متصلة رجالها ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3629). (¬5) رواه الحاكم (4/ 629). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال ابن رجب في ((التخويف من النار)) (ص: 224): المعروف أنه موقوف على سلمان الفارسي من قوله، وأورده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (941) وإسناده صحيح موقوفا وله حكم الرفع.

المبحث الثامن: التفاضل في المرور على الصراط

المبحث الثامن: التفاضل في المرور على الصراط والمؤمنون يتفاضلون في المرور على الصراط، وهم في ذلك ثلاثة أصناف كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((فناج مسلم, وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم)) (¬1). فهم في الجملة صنفان: 1 - ناجون سالمون من السقوط في جهنم يجوزون الصراط. 2 - مطروحون ساقطون في جهنم لا يتمون المرور على الصراط، فإذا عوقبوا على معاصيهم أخرجوا من النار إلى الجنة، وقد ورد إجمالهم في هذين الصنفين عن النبي صلى الله عليه وسلم في رواية إذ قال: ((فمنهم من يوبق بعمله, ومنهم من يخردل ثم ينجو)) (¬2). ثم الناجون في الجملة صنفان: سالمون من خدش الكلاليب التي على الصراط, ومخدوشون قد نالت منهم الكلاليب شيئاً بحسب أعمالهم. ثم الناجون متفاضلون في صفة مرورهم على الصراط, فمنهم من يمر عليه كالطرف، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل, حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). وأفضل المارين على الصراط وأكملهم مروراً الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل, وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم)) (¬4) وأفضل أتباع الأنبياء مروراً أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فهم أول من يجوز الصراط من الأمم، قال صلى الله عليه وسلم: ((فأكون أول من يجوز من الرسل بأمتي)) (¬5). وقد سئل صلى الله عليه وسلم: ((من أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين)) (¬6) وهذه فضيلة لفقراء المهاجرين. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي - ص402 ¬

(¬1) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (806). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (806)، ومسلم (182). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (806) بلفظ: ((فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته)). (¬6) رواه مسلم (315). من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المبحث التاسع: القنطرة

تمهيد هذه القنطرة ثبتت في السنة النبوية، وهي خاصة لمسلك المؤمنين إلى الجنة، حيث يقفون عليها ليقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا؛ أذن لهم بدخول الجنة ,كما ورد بذلك الحديث، وهي أشبه ماتكون بتصفية الذهب لجعله نقيا خالصا من كل شائبة مهما دقت. وقد اختلف العلماء فيها: هل هي صراط مستقل وله ميزات خاصة به؟ أم إنها من تتمة الصراط العظيم المنصوب على متن جهنم؟ ... والخلاف المشار إليه إنما هو في موضعها لا في ثبوتها، فهي ثابتة لا شك فيه، كما يتضح من أدلتها الآتية. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1321

المطلب الأول: أدلة إثبات القنطرة

المطلب الأول: أدلة إثبات القنطرة حديث القنطرة: وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضه من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة, فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة بمنزله كان في الدنيا)) (¬1). قلت: وعند البخاري في (المظالم) (5/ 96): ((إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار)). قال الحافظ: ((واختلف في القنطرة المذكورة فقيل: هي من تتمة الصراط وهي طرفه الذي يلي الجنة وقيل أنهما صراطان وبهذا الثاني جزم القرطبي)) اهـ (¬2). قلت: وفي كتاب (المظالم) رجح الحافظ الأول فقال: (الذي يظهر أنها طرف الصراط مما يلي الجنة، ويحتمل أن تكون من غيره بين الصراط والجنة). اهـ (¬3). قلت: ذكر القرطبي أن الصراط صراطان في كتابه التذكرة فقال: (اعلم رحمك الله أن في الآخرة صراطين: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم ثقيلهم وخفيفهم إلا من دخل الجنة بغير حساب, أو من يلتقطه عنق النار فإذا خلص من هذا الصراط الأكبر الذي ذكرناه ولا يخلص منه إلا المؤمنون الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم حبسوا على صراط آخر خاص لهم ولا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد إن شاء الله لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه, وأربى على الحسنات بالقصاص جرمه). اهـ (¬4). (3) قلت: وذكر العيني نحو ذلك فقال عند ذكر القنطرة: (قيل هذا يشعر بأن في القيامة جسرين، هذا والذي على متن جهنم المشهور بالصراط. واجب بأنه لا محذور فيه، ولئن ثبت بالدليل أنه واحد فتأويله أن هذه القنطرة من تتمة الأول) اهـ (¬5). قلت: الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصراط واحد, ولم يذكر صلى الله عليه وسلم أن الصراط صراطان (مجاز أو خاص) كما ذكر القرطبي رحمه الله. والذي يقتضي الدليل رجحانه أن القنطرة جسر بين الجنة والنار لا علاقة له بالصراط كما هو ظاهر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وظاهره يدل أيضاً على أن المؤمنين خلصوا أي فرغوا وانتهوا من المرور على الصراط كما قال الحافظ: (قوله: ((إذا خلص المؤمنون من النار)): أي نجوا من السقوط فيها بعد ما جازوا على الصراط) اهـ (¬6). وكما قال القرطبي رحمه الله: (معنى يخلص المؤمنون من النار أن يخلصوا من الصراط المضروب على النار) (¬7). قلت: ويشهد لذلك حديث ابن مسعود الطويل الذي تقدم والذي يصف فيه النبي صلى الله عليه وسلم مرور الناس على الصراط حتى قال فيه: ((حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تخر يد، وتعلق يد وتخر رجل، وتعلق رجل, وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد)) (¬8). قلت: فهذا الحديث نص صريح في أن معنى خلصوا هو انتهاء الناس من المرور على الصراط، وبذلك نعلم أن القنطرة ليست تتمة للصراط، والعلم عند الله تعالى. صفة الصراط لحاي الحاي – ص 32 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (11/ 395). (¬2) ((فتح الباري)) (11/ 399). (¬3) ((فتح الباري كتاب المظالم)) (5/ 96). (¬4) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (338). (¬5) ((عمدة القاري)) (19/ 75). (¬6) ((فتح الباري)) (11/ 399). (¬7) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (ص: 338). (¬8) رواه الحاكم (2/ 408). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (158): طريقه صحيحة متصلة رجالها ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3629).

المطلب الثاني: موضع تلك القنطرة

المطلب الثاني: موضع تلك القنطرة أما موضع تلك القنطرة؛ فقد اختلف العلماء كما أشرنا سابقا – في موضعها، وحاصل الخلاف يرجع إلى أمرين: - الأمر الأول: أن تلك القنطرة هي جزء من الصراط وتتمة له. الأمر الثاني: أنها صراط مستقل بين الصراط الأول والجنة، خاصة بمن كتبت لهم السعادة. وبعض العلماء لم يترجح لديه أحد الأمرين. قال ابن حجر: واختلف في القنطرة المذكورة، فقيل: هي من تتمة الصراط، وهي طرفه الذي يلي الجنة، وقيل: إنهما صراطان. وذهب القرطبي إلى القول بأن القنطرة ليست من الصراط الأول العظيم المنصوب على متن جهنم، وإنما هي صراط ثان وقد بوب على هذا بقوله: باب: ذكر الصراط الثاني، وهو القنطرة التي بين الجنة والنار، وذكر أن المؤمنين إذا خلصوا من صراط جهنم حبسوا على صراط آخر خاص لهم. قال: ولا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد _ إن شاء الله _ لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم، الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه، وأربى على الحسنات بالقصاص جرمه. (1) ونقل القرطبي – عن مقاتل أيضا – ما يفيد أنه يرى أن القنطرة صراط آخر, وذلك في قوله: قال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم؛ حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار؛ فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا وطيبوا؛ قال لهم رضوان وأصحابه: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ [الزمر: 73] بمعني التحية طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73]. (2) وينقل السفاريني عن السيوطي ترجيحه لكون القنطرة طرف من الصراط الذي يلي الجنة؛ أي أنه يرى أنها جزء من الصراط وتتمة له؛ حسب نقل السفاريني الآتي: قال الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه (البدور السافرة في علوم الآخرة): والأول – يعني أنه طرف الصراط الذي يلي الجنة – هو المختار الذي دلت عليه أحاديث القناطر والحساب على الصراط. (3) أما الإمام ابن كثير فإنه يجعلها بعد نهاية النار, وكأنه يجعلها صراطا مستقلا منصوبا على هول لانعلمه، فهو بعد ذكر كلام القرطبي ورأيه في هذه القنطرة من إنها صراط ثان؛ قال معلقا عليه: قلت: هذه بعد مجاوزة النار فقد تكون القنطرة منصوبة على هول آخر, مما يعلمه الله ولا نعلمه نحن, وهو أعلم. (4) فهو لم يترجح لديه – حسبما يظهر من كلامه – هل هي صراط آخر أو هي متصلة بالصراط العظيم الذي هو على متن جهنم؟ وكذلك ابن حجر، فإنه لم يرجح أيا من القولين حيث قال: والذي يظهر أنها طرف الصراط مما يلي الجنة، ويحتمل أن يكون من غيره بين الصراط والجنة. (5) الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1329

الفصل الخامس عشر: الورود

المبحث الأول: لفظة الورود في القرآن الكريم قال الله تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 71 - 72]. وقد جاءت لفظة الورود في القرآن الكريم _ مرادا به الدخول في النار _ في ستة مواضع، في قوله تعالى في الآيات الآتية: 1 - وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71]. 2 - يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98] 3 - وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: 98]. 4 - لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوها [الأنبياء: 99] 5 - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم: 86] 6 - حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] وكان ابن عباس يستند إلى هذه الآيات في تفسيره للورود بالدخول في النار فهل الورود المذكور في الآيات يراد به الدخول في النار؟ أو مجرد المرور من غير إحساس بها؟ الواقع أن هذه المسألة هي من المسائل التي فيها خلاف بين العلماء في زمن الصحابة ومن بعدهم. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1347

المبحث الثاني: أقوال العلماء في معني الورود

المبحث الثاني: أقوال العلماء في معني الورود اختلف العلماء في المراد بهذا الورود إلى أقوال كثيرة، يمكن إيجازها فيما يلي: 1 - الورود المذكور في الآية: يراد به الدخول في النار 2 - يراد به المرور عليها؛ أي فوق الصراط 3 - يراد به الدخول, ولكن عني به الكفار دون المؤمنين 4 - أنه عام لكل مؤمن وكافر, غير أن ورود المؤمن المرور, وورود الكافر الدخول 5 - ورود المؤمن ما يصيبه في الدنيا من حمى ومرض 6 - أنه يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم وتلك أشهر الأقوال. وهناك أقوال أخرى ذكرها بعض أهل العلم منها: 7 - القول بالتوقف في معنى الورود 8 - ومنها القول بأن المراد بالورود هنا هو الإشراف والاطلاع والقرب منها، حيث يكونون وهم في الموقف يشاهدون النار؛ فينجيهم الله مما شاهدوه. ونبدأ الآن بذكر عزو تلك الأقوال إلى أهلها ثم الترجيح فيما يأتي: أما الذين فسروه بالدخول, من السلف: فمنهم ابن عباس, وابن مسعود وعبد الله بن رواحه, وجابر بن عبد الله, وأبو ميسرة, وابن جريج, وخالد ابن معدان. أما ابن عباس, فقد اشتهر رأيه هذا, في جوابه لنافع بن الأزرق في مساءلات نافع لابن عباس المشهورة، فقد جاء نافع يسأل ابن عباس عن معنى الآية فقال ابن عباس: الورود: الدخول، وقال نافع: لا، فقرأ ابن عباس: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] أورود هو أم لا؟ وقال: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: 98]، أورود هو أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل تخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك، قال: فضحك نافع. (1) وفي رواية أخرى لعطاء بن أبي رباح قال: قال أبو راشد الحروري – يعنى نافع بن الأزرق -: ذكروا هذا؛ فقال الحروري: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء: 102]، قال ابن عباس: ويلك، أمجنون أنت؟ أين قوله تعالى: يقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: 98]، وقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم: 86]، وقوله وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71]، والله إن كان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما وأدخلني الجنة غانما. (2) والروايات عن ابن عباس في هذا كثيرة وبطرق متعددة، يرى أن الورود المذكور في الآية يراد به الدخول لكل أحد؛ مسلما كان أم كافرا، وهو المشهور عنه. (3) قال الجمل: وهذا هو تفسير ابن عباس الصحيح عند أهل السنة. (1) وأما جابر بن عبد الله رضي الله عنه؛ فقد جاء عن أبي سمية أنه قال: اختلفنا هاهنا في الورود؛ فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا؛ ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت: إنا اختلفنا ها هنا في ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: ((صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الورود: الدخول)) لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار – أو قال لجهنم – ضجيجا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين)) (2). وأخرج الطبري بسنده إلى خالد بن معدان قال: (قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة: ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة).

وأخرج كذلك عن غنيم بن قيس قال: (ذكروا ورود النار، فقال كعب: تمسك النار للناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق، برهم وفاجرهم ثم يناديهم مناد: أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، قال: فيخسف بكل ولي لها، ولهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية أبدانهم، قال: وقال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود له شعبتان، يدفع به الدفعة فيصرع به في النار سبعمائة ألف). (4) وأخرج عن أبي إسحاق، قال: (كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي فقيل: وما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: أخبرنا أنا واردوها، ولم يخبرنا أنا صادرون عنها). (5) وعن قيس بن أبي حازم قال: (بكى عبد الله بن رواحة في مرضه فبكيت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال ابن رواحة: إني قد علمت أني وارد النار فما أدري أناج منها أنا أم لا؟) (6) وقال أبو عمرو داود بن الزبرقان: سمعت السدي يذكر عن مرة الهمداني عن أبي مسعود: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71]، قال: داخلها. (1) وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه سئل عن قوله: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71]، قال: وإن منكم إلا داخلها (2) والروايات عن ابن مسعود كثيرة يفسر الورود في النار بالدخول فيها. (3) ومما يدل على أن الورود المراد به الدخول: ما جاء عن سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حرس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا يأخذه سلطانه بحرس، لم ير النار بعينه، إلا تحلة القسم، فإن الله تعالى يقول: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71])) (4) وكذا ماجاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلة القسم)) يعنى الورود. (5) هذا ما يتعلق بالرأي الأول وهو تفسير الورود بالدخول في النار، وهل ذلك يشمل الأنبياء والرسل وخاصة المؤمنين أو لا؟ سيأتي جوابه في مسألة خاصة به بعد عرض آراء العلماء في الورود. 2 - أما الرأي الثاني وهو تفسير الورود بالمرور عليها: فهو رأي قتادة وغيره من علماء السلف وفي هذا يقول الطبري: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71] يعنى: جهنم، مر الناس عليها. وفي رواية أخرى عن معمر عن قتادة بما سبق. (6) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: ((لا يدخل النار – إن شاء الله – من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها، قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72])) (¬1). قال النووي عن معنى الحديث ((لايدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة. ..... )) إلخ. قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعا – كما صرح به في الحديث الذي قبله – وإنما قال: إن شاء الله؛ للتبرك لا للشك (2) وحديث حاطب الذى أشار إليه النووي هو ما رواه جابر رضي الله عنه: ((أن عبدا لحاطب جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا فقال يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، لا يدخلها؛ فإنه شهد بدرا والحديبية)) (¬2) ¬

(¬1) رواه مسلم (2496). (¬2) رواه مسلم (2495).

وأما قول حفصة: بلى، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها؛ فقالت: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقد قال: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا [مريم: 72] – فيه دليل للمناظرة والاعتراض والجواب، على وجه الاسترشاد؛ وهو مقصود حفصة؛ لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن المراد بالورود في الآية: المرور على الصراط؛ وهو جسر منصوب على جهنم) (4) ويقول ابن أبي العز: واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71] ماهو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72]. ثم قال في تعليقه على حديث حفصة المتقدم: (أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تسلتزم حصوله؛ بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه، يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا [هود: 58]. فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا [هود: 66]. وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا [هود: 95] ولم يكن العذاب أصابهم ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك، وكذلك حال الوارد في النار، يمرون فوقها على الصراط، ثم ينجي الله الذي اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا). (1) أما الرأي الثالث: وهو القول بأن الورود هو الدخول، لكنه عنى الكفار دون المؤمنين، فإن هذا الرأي يعزى إلى ابن عباس أيضا وقد ذكر هذا عنه الطبري دون تعيين اسم الراوي عن ابن عباس؛ بل قال بسنده عن شعبة قال: أخبرني عبد الله بن السائب عن رجل سمع ابن عباس يقرؤها: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71]؛ يعنى الكفار، قال: لا يردها مؤمن (2). ويعزى كذلك إلى عكرمة: أن المراد بالورود هنا ورود الكفار. (3) ويذكر ابن كثير عنهما أنهما كانا يقرآن الآية وَإِن مِّنهمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71] يعنى الكفار. (4) قال الجمل: لمناسبة الآيات التي قبل هذه، فإنها في الكفار وهي قوله: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ , ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، أَيُّهُمْ أَشَدُّ، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا، وَإِن مِّنكمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 68 - 71] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة، لكن الأكثرون على أن المخاطب العالم كلهم كما تقدم. (5) أما الرأي الرابع: وهو أن الورود عام لكل مؤمن وكافر، غير أن ورود المؤمن: المرور، وورود الكافر: الدخول؛ فهذا رأي ابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال الطبري: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71]: ورود المسلمين: المرور على الجسر بين ظهريها، وورود المشركين أن يدخلوها، قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: ((الزالون والزالات يومئذ كثير ووقد أحاط الجسر سماطان من الملائكة ودعواهم يومئذ: يا الله، سلم سلم)) (1) أما الرأي الخامس: وهو أن ورود المؤمن ما يصيبه في الدنيا من حمى ومرض: فإنه يعزى هذا القول إلى مجاهد أنه قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71] ويستدل له بما أسنده الطبري إلى أبي هريرة قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه وبه وعك، وأنا معه، ثم قال: إن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة)) (1).

أما الرأى السادس: وهو أن معنى الورود: هو أن يردها الجميع، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم؛ فهذا القول يعزى أيضا إلى عبد الله بن مسعود (2)، وقد سبق أن أشرنا إلى أنه يفسر الورود بالدخول. ومن الأدلة لهذا القول: ما أخرجه الترمذي والإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((يرد الناس النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله, ثم كشد الرجل، ثم كمشيه)). قال الترمذي بعد أن أخرجه: هذا حديث حسن. (4) وهو مرفوع من رواية السدي عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود، ورواه شعبة عن السدي فلم يرفعه، وقال عبد الرحمن بن مهدي – أحد رواة الحديث –: قلت لشعبة: وقد سمعته من السدي مرفوعا ولكني عمدا أدعه. والحاصل أن الحديث مرفوع أما بالنسبة للقول السابع؛ وهو القول بالتوقف: فهو ما ذكره الشوكاني بعد أن نسبه إلى كثير من العلماء، وذلك في قوله: (وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود، وحمله على ظاهره لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101]، قالوا فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها). (6) فسبب توقفهم عن تحقيق القول في الورود: أن الله أخبر أن من سبقت لهم الحسنى لا يردون النار، وأخبر في سورة مريم أنه ما من أحد إلا وسيرد النار؛ فصاروا إلى التوقف. لكن الآية - إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء: 101] إلى آخرها – تقوي قول من ذهب إلى أن الورود يراد به المرور العادي وعدم الدخول؛ وهو ما يذهب إليه بعض العلماء. وفي هذا يقول الشوكاني: (ومما يدل على أن الورود لا يستلزم الدخول: قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ [القصص: 23] فإن المراد أشرف عليه لا أنه دخل فيه، وقول زهير: فلما وردن الماء زرقا جمامة ... وضعن عصي الحاضر المتخيم). (1) أما القول الثامن – وهو ما ذكره العلامة الجمل عن بعض الفرق بقوله: (وقالت فرقة: الورود هو الإشراف والاطلاع والقرب، وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم؛ فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه، ويصار بهم إلى الجنة، ويذر الظالمين؛ أي يأمر بهم إلى النار) (2)،– فهو بعيد عن معنى الآية والمراد بها. القول الراجح في معنى الورود: بعد عرض ما سبق؛ اتضح أن معنى الورود الذي ذكره الله يحتمل معاني كثيرة، ولهذا فقد اختلف كلمة العلماء في تعريفه، والمراد منه، إلى الأقوال التي ذكرناها، والواقع أن تلك الأقوال منها ما هو قريب، ومنها ما هو بعيد إلا أنه يقال: إن القول السادس منها – وهو أنه يردها الجميع، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم – وهو الراجح؛ لتصريح الآية به وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم: 71] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 72] بالإضافة إلى ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الصراط ومرور الناس عليه بحسب أعمالهم. ولهذا يقول الطبري في ترجيحه: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون؛ فينجيهم الله، ويهوي فيها الكفار وورودهموها هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم، فناج مسلم ومكدس فيها. (3) وقال الشوكاني: (ولا يخفى أن القول بأن الورود: هو المرور على الصراط أو الورود على جهنم وهي خامدة، فيه جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة؛ فينبغي حمل هذه الآية على ذلك؛ لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار؛ مع كون الداخل من المؤمنين مبعدا من عذابها، أو يحمله على المضي فوق الجسر المنصوب عليها؛ وهو الصراط. (1) وقد رجح ابن أبي العز أيضا القول بأن الورود يراد به المرور على الصراط كما سبق. (2) الحياة الآخرة لغالب بن علي عواجي- 2/ 1347

الفصل السادس عشر: أصحاب الأعراف

المطلب الأول: معنى الأعراف لغة الأعراف – حسب ما يظهر من أقوال العلماء – هو حاجز مرتفع بين أهل الجنة وأهل النار، وهو في اللغة كما قال الأزهري رحمه الله: (جمع عرف وهو كل عال مرتفع). (4) وقال الطبري: (الأعراف جمع واحدها عرف، وكل مرتفع من الأرض عند العرب فهو عرف، وإنما قيل لعرف الديك عرف، لارتفاعه على ما سواه من جسده). (1) وقال الشوكاني: (الأعراف جمع عرف، وهي شرفات السور المضروب بينهم، ومنه عرف الفرس، وعرف الديك، والأعراف في اللغة: المكان المرتفع). (2) وفي تعليل تسمية المكان المرتفع عرفا يقول الرازي: لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه. (3) الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1371

المطلب الثاني: معنى الأعراف شرعا

المطلب الثاني: معنى الأعراف شرعا اختلف العلماء في معنى الأعراف إلى أقوال كثيرة، وحاصلها ما يأتي: 1 - الأعراف: هو مكان مرتفع يشرف على أهل الجنة والنار. 2 - الأعراف: هو السور الذي ذكره الله تعالى فاصلا بين الجنة والنار. (4) 3 - هو جبل بين الجنة والنار، أو تل مرتفع، ويروى عن ابن عباس أنه تل بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب، وقال سعيد بن جبير: الأعراف جبال بين الجنة والنار، فهم على أعرافها، يقول على ذراها. (5) 4 - الأعراف: هو الصراط، قال ابن جريج: زعموا أنه الصراط. 5 - هو حجاب بين فريقي أهل الجنة وأهل النار، وهو قول مجاهد. 6 - وقال القرطبي: وقيل إنه سور بين الجنة والنار، قيل: هو جبل أحد يوضع هناك. (6) ومن الذين ذهبوا إلى أن الأعراف هو السور المذكور في سورة الحديد في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد: 13]. ومن الذين ذهبوا إلى ذلك: السدي حيث قال: هو السور، وهو الأعراف، قال: وإنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس. وقال حذيفة: الأعراف سور بين الجنة والنار، وعن ابن عباس - في رواية عنه - قال: الأعراف هو السور الذي ذكره الله في القرآن، بين أهل الجنة وأهل النار. (1) وقد روى البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل في قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ [الحديد: 13] قال: يعنى بالسور حائطا بين أهل الجنة وأهل النار، له باب، باطنه - يعني باطن السور- فيه الرحمة مما يلي الجنة، وظاهره من قبله العذاب - يعنى جهنم، وهو الحجاب الذي ضرب بين أهل الجنة وأهل النار. (2) وهناك أقوال أخرى ذكرها بعض العلماء، غير إنها لا تخرج في مفهومها عما سبق. وعلى أي احتمال كان؛ فإن جميع الأقوال في الأعراف – وهو: إما حجاب أو سور أو تل مشرف، أو جبال بين الجنة والنار أو أي حاجز آخر – كلها تهدف إلى إثبات أن حاجزا مرتفعا يجعله الله في يوم القيامة بين الجنة والنار، يشرف منه أصحاب الأعراف على فريقي الجنة والنار، يعرفون كلا بسيماهم، وأن أصحابه لم يتقرر مصيرهم بعد، ولكن مآلهم إلى الجنة. (3) الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1372

المطلب الثالث: ما ورد في القرآن الكريم بشأن أصحاب الأعراف

المطلب الثالث: ما ورد في القرآن الكريم بشأن أصحاب الأعراف يقول تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف: 46]. ويقول تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف: 48 - 49]. وقال تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد: 13]. (3) الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1367

المبحث الثاني: الخلاف في تعيين أصحاب الأعراف

المبحث الثاني: الخلاف في تعيين أصحاب الأعراف اختلف العلماء في تعيين أصحاب الأعراف، وفي السبب الذي صاروا به موقوفين على الأعراف، كما أخبر الله عنهم؛ اختلف العلماء في ذلك إلى آراء مختلفة وأقوال متباينة، وفيما يلي: نذكر ما قيل في تعيينهم ثم الترجيح: فمما قيل في تعيينهم: 1 - أنهم مساكين أهل الجنة، وينسب هذا القول إلى ابن مسعود وكعب الأحبار وابن عباس (¬1). وأخرج الطبري عن ابن عباس أنه قال: (الأعراف سور بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان، حتى إذا بدا لله – هكذا بالأصل – أن يعافيهم؛ انطلق بهم إلى نهر يقال له: الحياة، حافتاه قصب الذهب، مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك؛ فألقوا فيه، حتى تصلح ألوانهم ويبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم، أتى بهم الرحمن، فقال: تمنوا ما شئتم، قال: فيتمنون، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعين مرة، فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمون مساكين الجنة) (¬2). وهو رأى عبد الله بن الحارث –أيضا- كما أخرج الطبري عن مجاهد عن عبد الله بن الحارث قال: (أصحاب الأعراف ينتهى بهم إلى نهر يقال له: الحياة، حافتاه قصب من ذهب، قال سفيان: أراه قال: مكلل باللؤلؤ، قال: فيغتسلون فيزدادون، فكلما اغتسلوا ازدادت بياضاً، فيقال لهم: تمنوا ما شئتم، فيتمنون ما شاءوا، فيقال لهم: لكم ماتمنيتم وسبعون ضعفاً، قال: فهم مساكين أهل الجنة) (¬3). 2 - أنهم قوم صالحون، فقهاء، علماء، وينسب هذا القول إلى مجاهد (¬4)؛ وهذه صفة مدح لهم، غير أنه جاء في التفسير المنسوب إلى ابن عباس أن هؤلاء كانوا شاكين في الرزق (¬5)؛ وهذه صفة ذم، وقد وصف ابن كثير هذا القول بأن فيه غرابة (¬6). 3 - أنهم الشهداء، ذكره المهدوي (¬7)، وعزاه الشوكاني إلى القشيري وشرحبيل بن سعد (¬8). 4 - هم فضلاء المؤمنين والشهداء، فرغوا من شغل أنفسهم وتفرغوا لمطالعة أحوال الناس، ذكره أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الكريم القشيري (¬9)، وعزاه الشوكاني إلى مجاهد (¬10). 5 - هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم، ويعزى هذا القول إلى شرحبيل بن سعد أيضاً (¬11). وأخرج الطبري حديثين في هذا: الأول منهما قال فيه: حدثني المثنى، وساق السند إلى يحيى بن شبل، أو رجلاً من بني النضير أخبره عن رجل من بني هلال، أن أباه أخبره، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال: ((هم قوم غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم، فقتلوا فاعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله، وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم، فهم آخر من يدخل الجنة)) (¬12). وأما الحديث الثاني، فقد أخرجه عن يحيى بن شبل، مولى بني هاشم، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: ((قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار، ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة)) (¬13)، وهذا الحديث قد ضعفه بعض العلماء (¬14). ¬

(¬1) ((التذكرة)) (ص: 386). ويرد على هذا أن الجنة ليس فيها مساكين، وليس هناك دليل على ثبوت هذا القول، ولعل القصد أنهم أقل درجات أهل الجنة. (¬2) ((جامع البيان)) (8/ 191). (¬3) ((جامع البيان)) (8/ 191 - 192). (¬4) ((التذكرة)) (ص: 386). (¬5) ((تنوير المقباس)) (2/ 17) مع ((الدر المنثور)). (¬6) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 217). (¬7) ((التذكرة)) (ص: 386). (¬8) ((فتح القدير)) (2/ 198). (¬9) ((التذكرة)) (ص: 386). (¬10) ((فتح القدير)) (2/ 198). (¬11) ((التذكرة)) (ص: 386). (¬12) ((جامع البيان)) (8/ 192). (¬13) ((جامع البيان)) (8/ 192). (¬14) انظر: ((تفسير المنار)) (8/ 431).

ويروى عن أبي سعيد أنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: ((هم رجال قتلوا في سبيل الله وهم عصاة لآبائهم، فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار، ومنعتهم المعصية أن يدخلوا الجنة، وهم على سور بين الجنة والنار، حتى تذبل لحومهم وشحومهم، حتى يفرغ الله من حساب الخلائق، فإذا فرغ من حساب خلقه فلم يبق غيرهم، تغمدهم منه برحمة فأدخلهم الجنة برحمته)) (¬1). وقد ذكر الرازي، أن القول الذي يجعل الأعراف، عبارة عن الرجال الذين يعرفون أهل الجنة وأهل النار، يعود أيضاً إلى قول من يجعل الأعراف، عبارة عن الأمكنة العالية، على السور المضروب بين الجنة وبين النار، لأن هؤلاء الأقوام لابد لهم من مكان عال يشرفون منه على أهل الجنة وأهل النار (¬2). 6 - هم: العباس، وحمزة، وعلي بن أبي طالب، وجعفر ذو الجناحين، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضهم بسواد الوجوه، ذكره الثعلبي عن ابن عباس (¬3). وبعد هذا القول لا يخفى؛ لأن هذا التخصيص لا معنى له، ولعله من أقوال الشيعة: بل قد ذكر محمد رشيد رضا أنه من أقوالهم، وهو كذلك لم يوجد في كتب التفسير المعتمدة عن السلف؛ قال: (وهذا القول: ذكر الآلوسي أن الضحاك رواه عن ابن عباس: ولم نره في شيء من كتب التفسير المأثورة، والظاهر أنه نقله عن تفاسير الشيعة، وفيه أن أصحاب الأعراف يعرفون كلاً من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم؛ أي فيميزون بينهم أو يشهدون عليهم، وأي فائدة في تمييز هؤلاء السادة – على الصراط- لمن كان يبغضهم من الأمويين، ومن يبغضون علياً خاصة، من المنافقين والنواصب؟ وأين الأعراف من الصراط؟ هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جداً) (¬4). 7 - هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وهم في كل أمة، ذكره الزهراوي، واختاره النحاس (¬5). قال العلامة محمد رشيد رضا: (فكما ثبت أن كل رسول يشهد على أمته أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على جملة من الأمم بعده؛ ثبت أيضاً أن في الأمم شهداء غير الأنبياء عليهم السلام، قال الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41]. وقال في خطاب هذه الأمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، وقال في صفة يوم القيامة: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزُّمر: 69]. وهؤلاء الشهداء هم حجة الله على الناس في كل زمان بفضائلهم واستقامتهم على الحق والتزامهم للخير وأعمال البر) (¬6). 8 - هم قوم أنبياء، قاله الزجاج (¬7). (أي يجعلهم الله تعالى على أعالي ذلك السور، تمييزاً لهم على الناس، ولأنهم شهداؤه على الأمم، ورجح هذا القول الرازي) (¬8). هذا كلام محمد رشيد رضا عنه. وقد أورد الرازي في تفسيره -بعد ذكر هذا القول- أن هذا الوجه لا يتفق مع معنى الآية: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ، أي لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء والملائكة والشهداء. ¬

(¬1) ((جمع الفوائد)) (2/ 208)، ثم عزاه إلى ((الأسوط والصغير)) بضعف، وفيه محمد بن مخلد الرعيني وهو ضعيف، كذا في ((مجمع الزوائد)) (7/ 23). (¬2) انظر: ((التفسير الكبير)) (14/ 89). (¬3) ((التذكرة)) (ص: 386). (¬4) ((تفسير المنار)) (3/ 433). (¬5) ((التذكرة)) (ص: 386). (¬6) ((تفسير المنار)) (8/ 432). (¬7) انظر: ((التذكرة)) (ص: 386). (¬8) ((تفسير المنار)) (8/ 432).

لكنه قال في الإجابة عن هذا: (أجاب الذاهبون إلى هذه الوجه بأن قالوا: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى بين من صفات أصحاب الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر؛ والسبب فيه أنه تعالى ميزهم عن أهل الجنة وأهل النار، وأجلسهم على تلك الشرفات العالية والأمكنة المرتفعة، ليشاهدوا أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، فيلحقهم السرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال، ثم استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، فحينئذ ينقلهم الله تعالى إلى أمكنتهم العالية في الجنة، فثبت أن كونهم غير داخلين في الجنة، لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم. وأما الطمع المذكور في الآية، فهو على ما ذكر هؤلاء، يكون معناه: اليقين، لا الطمع الذي لا يثق صاحبه بحصول المراد، وعلى هذا قوله تعالى عن إبراهيم: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] فهذا الطمع طمع يقين (¬1). 9 - هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا فوقفوا، وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم، فيقع في مقابلة صغائرهم. حكاه ابن عطية القاضي أبو محمد في تفسيره (¬2). 10 - ذكره ابن وهب عن ابن عباس، قال: أصحاب الأعراف الذين ذكر الله في القرآن، أصحاب الذنوب العظام من أهل القبلة، وذكره ابن المبارك؛ قال: أخبرنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوب عظام، وكان جسيم أمرهم لله، فأقيموا ذلك المقام، إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم بسواد الوجوه، قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، وإذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض وجوههم. وفي رواية سعيد بن جبير عن عبد الله بن مسعود: (وكانوا آخر أهل الجنة دخولاً الجنة) (¬3). 11 - أنهم أولاد الزنا، ذكره أبو نصر القشيري عن ابن عباس (¬4). 12 - أنهم ملائكة موكلون بهذا السور، يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار. قاله أبو مجلز لاحق بن حميد، فقيل له: لا يقال للملائكة رجال، فقال: إنهم ذكور وليسوا بإناث، فلا يبعد إيقاع لفظ الرجال عليهم كما وضع على الجن في قوله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ [الجنّ: 6] (¬5). وذكر الطبري روايات عن أبي مجلز في تقوية هذا القول الذي يتزعمه، ويجادل في أن أهل الأعراف هم رجال من الملائكة. وهناك روايات كثيرة عن أبي مجلز لا حاجة إلى التطويل بذكرها، فهي لا تخلو – سواء أصحت نسبتها إليه أم لم تصح – عن كونها قولاً من الأقوال يحتاج لصحة إثباته إلى نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. على أن ابن كثير قد ذكر بعد إيراد الرواية عنه صحة نسبة هذا القول إلى أبي مجلز، ولكن حكم عليها بالغرابة، وعدم الانسياق مع الظاهر من وصف الملائكة، فقال: (وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد – أحد التابعين – وهو غريب من قوله، وخلاف الظهر من السياق) (¬6). وقال محمد رشيد رضا في سبب حكم ابن كثير على قول أبي مجلز بالغرابة: (وإنما عده غريباً عنه لمخالفته لقول الجمهور، ولتسميته الملائكة رجالاً وهم لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة) (¬7). 13 - أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم (فجعلوا هناك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم) (¬8). ¬

(¬1) انظر: ((التفسير الكبير)) (14/ 88). (¬2) ((التذكرة)) (ص: 387). (¬3) ((التذكرة)) (ص: 387). (¬4) ((التذكرة)) (ص: 387). (¬5) ((جامع البيان)) (8/ 193). (¬6) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 217). (¬7) ((تفسير المنار)) (8/ 432). (¬8) ((جامع البيان)) (8/ 190)، ((فتح القدير)) (2/ 198).

ويعزى هذا القول إلى ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، والشعبي، والضحاك، وسعيد بن جبير، فمما يعزى إلى حذيفة بالسند، ما أخرجه الطبري عن الشعبي أنه قال: أرسل إلي عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعنده أبو الزناد، وعبد الله بن ذكوان مولى قريش، وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكراً ليس كما ذكر. فقلت لهما: إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا: هات، فقلت: إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار، قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، فبيانهم كذلك اطلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال: اذهبوا وادخلوا الجنة؛ فإني قد غفرت لكم. وفي رواية أخرى للشعبي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف، قال: فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلفت بهم حسناتهم عن النار، قال: فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم. وعن عامر عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف قوم كانت لهم ذنوب وحسنات، فقصرت ذنوبهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فهم كذلك حتى يقضي الله بين خلقه فينفذ فيهم أمره، وفيه روايات أخرى عن حذيفة وهي بمعنى ما سبق. ومما يعزى إلى ابن مسعود، ما أخرجه الطبري عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود، قال: (يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ قول الله: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم [الأعراف: 8 - 9]. ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح، قال: فمن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا: سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم ونظروا إلى أصحاب النار، قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، فيتعوذون بالله من منازلهم. قال فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نوراً فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نوراً، وكل أمة نوراً، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة، فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم: 8]، وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع من أيديهم، فهنالك يقول الله: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ، فكان الطمع دخولاً، قال: فقال ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشراً، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة، ثم يقول: هلك من غلب وحداته أعشاره) (¬1). وينسب هذا الرأي أيضاً إلى ابن عباس، فإنه كان يقول: إن أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهذا ما ينص عليه الطبري بسنده إلى ابن عباس أنه قال: (أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم، ولا سيئاتهم على حسناتهم) (¬2). ويذكر قتادة عن ابن عباس أنه كان يقول: (الأعراف بين الجنة والنار، حبس عليه أقوام بأعمالهم)، وكان يقول: (قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم، ولا سيئاتهم على حسناتهم) (¬3). 14 - هم مؤمنو الجن. 15 - هم قوم كانت عليهم ديون. ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (8/ 191)، وانظر: (فتح القدير)) (2/ 198). (¬2) ((جامع البيان)) (8/ 191). (¬3) ((جامع البيان)) (8/ 192).

ويذكر السيوطي حديثاً يعزوه إلى البيهقي في رفع القول الأول إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن السيوطي بعد أن ذكر تلك الأقوال السابقة أورد الحديث الآتي: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب فسألناه عن ثوابهم فقال: على الأعراف وليسوا في الجنة مع أمة محمد، فسألناه: وما الأعراف؟ قال: حائط الجنة تجري فيه الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثمار)) (¬1) .. وفي هذا القول – أي بأنهم مؤمنو الجن – يقول محمد رشيد رضا: (وروي ابن عساكر فيه حديثاً مرفوعاً عن أنس بن مالك من طريق الوليد بن موسى الدمشقي، وهو منكر الحديث في أعدل الأقوال، ورماه بعضهم بالوضع) (¬2). أما القول بأنهم قوم عليهم ديون فهو ما يعزى إلى مسلم بن يسار، قال قتادة: (وقال مسلم بن يسار: قوم كان عليهم دين) (¬3). ومنها القول بأن أصحاب الأعراف هم: 16 - أهل الفترة. 17 - هم أولاد المشركين الذين ماتوا قبل سن التكليف. 18 - هم أهل العجب بأنفسهم، ويعزى هذا القول إلى الحسن (¬4). 19 - هم آخر من يفصل الله بينهم، وهم عتقاؤه من النار) (¬5). وإذا علمنا ذلك الاختلاف الكثير والمتباين في بعض الأقوال، فإن قول الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله، في اختلاف عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف وتعيينهم: (وكلها – كما يقول – قريبة ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم) (¬6) – فيه نظر: فإن هذا المعنى الذي ذكره إنما هو قول من تلك الأقوال المتقدمة التي بينها غاية التباعد والتباين. الحياة الآخرة لغالب عواجي–2/ 1377 ¬

(¬1) رواه البيهقي في ((البعث والنشور)) (100). قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (17/ 8): منكر جدا. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (6113): موضوع. (¬2) ((تفسير المنار)) (8/ 432). (¬3) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8531). (¬4) ((الدر المنثور)) (3/ 89). (¬5) ((تفسير المنار)) (8/ 432). (¬6) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 216).

المبحث الثالث: الراجح في أهل الأعراف

المبحث الثالث: الراجح في أهل الأعراف ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أصحاب الأعراف، وذكر بعض أوصافهم على سبيل الإجمال. واختلف العلماء في تعينهم اختلافا كثيرا، فتعددت أقوالهم وتضاربت آراؤهم كما تقدم تفصيل ذلك. وبهذا ندرك أن ترجيح قول من الأقوال، في تعيين أصحاب الأعراف، أمر من الصعوبة بمكان؛ ذلك أن القرآن الكريم لم يبين من هم بالتحديد. وما ورد في السنة من أخبار، فإنها كلها لا تخلو عن مقال، ولم يثبت منها شيء بسند صحيح يكون قاطعا للنزاع والخلاف. وأما استنباطات العلماء فهي كما قدمنا تفتقر إلى دليل صحيح، بغض النظر عن كون تلك الأقوال المنسوبة إلى قائليها تصح نسبتها إليهم أم لا. وإذا علم هذا فإنه لم يبق لنا من مستند إلا ما جاء في القرآن الكريم فنثبت ما أثبته في حقهم ولا نتعداه، فإن هذه المسألة من الأمور الغيبية التي لامجال للجزم برأي فيها دون نص ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر القرآن الكريم عنهم بأنهم: رجال يعرفون أهل الجنة وأهل النار بسيماهم، اختصهم الله بتلك المزية من بين خلقه. وقد قال ابن جرير في الترجيح بين تلك الأقوال، وفي الرد على أبي مجلز: (والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال – كما قال الله جل ثناؤه فيهم: - هم رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ [الأعراف: 46] من أهل الجنة وأهل النار بِسِيمَاهُمْ [الأعراف: 46] ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح سنده، ولا أنه متفق على تأويلها، وإجماع من الأمة على أنهم ملائكة. فإذا كان ذلك كذلك، وكان لا يدرك قياسا، وكان المتعارف بين أهل لسان العرب أن الرجال اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم، ودون سائر الخلق غيرهم؛ كان بينا أن ما قاله أبو مجلز من أنهم ملائكة: قول لا معنى له، وأن الصحيح من القول في ذلك، ما قاله سائر أهل التأويل غيره، هذا مع أن من قال بخلافه من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار، وإن كان في أسانيدها ما فيها). (2) ولعل هذا هو الذي يتعين القول به من بين تلك الأقوال، وإن كان القول بأنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم هو ما ذهب إليه كثير من العلماء؛ إلا أن تلك الروايات لم تصف من الشوائب؛ بل هي كما قال الحافظ ابن كثير: (الله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة، وقصاراها أن تكون موقوفة). غير أن الجمهور تمسك بها. وعن رأيهم هذا يقول محمد رشيد رضا: ورجح الجمهور بكثرة الروايات أنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم. (1) وقال – مستنبطا من دعاء أهل الأعراف: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف: 47]: (والإنصاف أن هذا الدعاء أليق بحال من استوت حسناتهم وسيئاتهم، وكانوا موقوفين مجهولا مصيرهم). (2) ومما تقدم يظهر لنا مدى تفاوت أقوال العلماء في تعينهم لأهل الأعراف. على أن في بعض هذه الأقوال تناقضا ظاهرا، والمثال على ذلك: أن بعضهم قال: إن أهل الأعراف هم من الأنبياء، وكانوا على الأعراف لعلو منزلتهم وعظيم مكانتهم. وعلى نقيض هذا القول من قال: أن أهل الأعراف هم أولاد الزنا أو مساكين أهل الجنة، وهذان القولان بينهما من البعد ما لا يخفى. على أن هذه الأقوال جميعها ليس لها سند صحيح من كتاب الله تعالى، ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما كان هذا الموضوع من الغيبيات؛ فلابد للقول بإثباته – على هيئة خاصة أو اعتقاده – من وجود سند صحيح؛ فالأولى أن يقال بتفويض العلم بحقيقتهم إلى الله عز وجل. والله أعلم. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1391

الفصل السابع عشر: الحوض المورود

تمهيد يؤمن أهل السنة والجماعة بنهر الكوثر الذي أعطاه الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وهو الحوض المورود طوله مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبداً. نص كلام شيخ الإسلام في المسألة: قال – رحمه الله -: (الجنة والنار والبعث ... والحوض ... فإن هذه الأصول كلها متفق عليها بين أهل السنة والجماعة) (¬1) ...... قال الإمام أبو الحسن الأشعري – رحمه الله -: (وأجمعوا ... على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً يوم القيامة ترده أمته لا يظمأ من شرب منه) (¬2). وقال الإمام ابن بطة العكبري - رحمه الله -: (ونحن الآن ذاكرون شرح السنة ... مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة – (فذكر جملة من معتقد أهل السنة) ثم قال -: ثم الإيمان بالحوض) (¬3). وقال الإمام سفيان بن عيينة - رحمه الله -: (السنة عشرة فمن كن فيه فقد استكمل السنة ومن ترك شيئاً فقد ترك السنة، إثبات القدر ... والحوض) (¬4). وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: (ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها ... والإيمان بالحوض وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً يوم القيامة ترد عليه أمته ... ) (¬5). وانظر أيضاً ما قاله أبو محمد البربهاري في (شرح السنة) (¬6)، وأبو الحسن الأشعري في (الإبانة عن أصول الديانة) (¬7)، وابن أبي زيد القيرواني في (القيروانية) (¬8)، وابن حزم في (المحلى) (¬9). ذكر مستند الإجماع على الحوض: قال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1]. والكوثر هو الحوض الذي أعطاه الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها – لمن سألها عن الكوثر -: (هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم) (¬10) .. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في نهر الكوثر: (هو الخير الذي أعطاه الله إياه) (1). وعن أنس رضي الله عنه قال: ((لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر)). (¬11). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبداً)). (¬12) المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 878 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 486). (¬2) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 289). (¬3) ((الشرح والإبانة)) (ص: 203). (¬4) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/ 175). (¬5) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/ 175). (¬6) (ص: 72). (¬7) (ص: 23، 179). (¬8) ((شرح القيروانية)) (ص: 60). (¬9) (1/ 16). (¬10) رواه البخاري (4965). (¬11) رواه البخاري (4964). (¬12) رواه البخاري (6579).

المبحث الأول: تعريف الحوض في اللغة والاصطلاح

المطلب الأول: الحوض في اللغة الحوض في اللغة يطلق ويراد به: مجمع الماء، وجمعه: حياض وأحواض، قال الليث: الحوض معروف، والجمع: الحياض والأحواض، والفعل: التحويض، واستحوض الماء: أي اتخذ لنفسه حوضا. (1) قال الجوهري: الحوض: واحد الحياض والأحواض، وحضت أحوض: اتخذت حوضا، واستحوض الماء: اجتمع، والمحوض (2) – بالتشديد -: شئ كالحوض ويجعل للنخلة تشرب منه، ومنه قولهم: أنا أحوض ذلك الأمر، أي أدور حوله، مثل: أحوط. (3) الحياة الآخرة لغالب عواجي - 2/ 1405

المطلب الثاني: الحوض في الاصطلاح

المطلب الثاني: الحوض في الاصطلاح أما المراد بالحوض في الشرع: فهو ما جاء به الخبر، من أن لنبينا محمد حوضا، ترد عليه أمته يوم القيامة، جعله الله غياثا لهم، وإكراما لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الحياة الآخرة لغالب عواجي - 2/ 1405

المطلب الثالث: الأحاديث الواردة في الحوض

المطلب الثالث: الأحاديث الواردة في الحوض الأحاديث الواردة في الحوض متواترة، لا شك في تواترها عند أهل العلم بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من خمسين صحابياً، وقد ذكر ابن حجر أسماء رواة أحاديثه من الصحابة القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 258 ونحن نسوق هنا بعض هذه الأحاديث: قال البخاري رحمه الله تعالى: حدَّثنا آدم حدَّثنا شيبانُ حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: ((لما عُرِجَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى السَّماء قال: أتيت على نهرٍ حافَّتاهُ قبابُ اللؤلؤ المجوَّف فقلتُ ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكوثر)) (¬1). وقال رحمه الله تعالى: حدَّثنا أبو الوليد حدَّثنا همام عن قتادة عن أنسٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وحدَّثنا هدبة بن خالد حدثنا همامُ حدثنا قتادة حدثنا أنسُ بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((بينما أنا أسيرُ في الجنَّةِ إِذ أنا بنهر حافَّتاهُ قِبابُ الدرِّ المجوَّف، قلت ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربُّكَ، فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر)) شك هُدْبَة (¬2). وقال رحمه الله تعالى: حدثنا سعيدُ بن عفير قال حدثني ابنُ وهب عن يونس قال ابن شهاب: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ((إِنَّ قدر حوضي كما بين أَيْلَه وصنعاء من اليمن، وإِنَّ فيه مِنَ الأباريقِ بعدد نجوم السماءِ)) ووافقه على إخراجه مسلم بهذا اللفظ (¬3)، وبلفظ: ((ما بين ناحيتي حوْضي كما بين صنعاءَ والمدينة)) وبلفظ ((ترى فيه أباريق الذَّهب والفضة كعدد نجوم السماء)) (¬4). وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا مسلم بنُ إبراهيم حدثنا وهيبٌ حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لَيَرِدَنَّ عليَّ ناسٌ من أصحابي الحوضَ حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقولُ أصحابي، فيقولُ لا تدري ما أحْدثوا بعدك)) (¬5). ورواه مسلم بلفظ ((إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ليردن علي الحوض رجالٌ ممن صاحَبني حتى إذا رأيتهم وُرفعوا إليَّ اختلجوا دوني، فلأقولن أي ربِّ أصيحابي أصيحابي، فليقالنَّ لي إِنَّك لا تدري ما أَحْدَثوا بعدك)) (¬6) وأما عن ابن عمر فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا مسدَّدُ حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثني نافعُ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمامكم حوضٌ كما بين جرباءَ وأذرُح)) (¬7) ورواه مسلم بلفظ ((ما بين ناحيتيهِ كما بين جَرْباءَ وأذرُح)) (¬8) وزاد في رواية ((فيه أباريق كنجوم السماءِ، مَنْ ورده فشرب منه لا يظمأ بعدها أبداً)) (¬9) زاد في أخرى: قال عبيد الله ((فسألته فقال: قريتين بالشَّامِ بينهما مسيرةُ ثلاث ليال)) (¬10). ¬

(¬1) رواه البخاري (4964). (¬2) رواه البخاري (6581). (¬3) رواه البخاري (6585)، ومسلم (2303) (39). (¬4) رواه مسلم (2303) (41). (¬5) رواه البخاري (6582). (¬6) رواه مسلم (2304). (¬7) رواه البخاري (6577). (¬8) رواه مسلم (2299) (34). (¬9) رواه مسلم (2299) (35). (¬10) رواه مسلم (2299) (34).

وأما عن حارثة بن وهب فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عليُّ بنُ عبدالله حدثنا حرمي بنُ عمارة حدثنا شعبة عن معبد بن خالد أِنِّه سمع حرثة بن وهب رضي الله عنه يقول: ((سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحوض فقال: كما بين المدينةِ وصنعاءَ)) (¬1). وزاد ابن أبي عدي عن شعبة عن معبد بن خالد عن حارثه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((حَوْضه ما بين صنعاءَ والمدينة)) فقال له المستورد: ((ألم تسمعْهُ قال الأواني؟ قال لا. قال المستورد: تُرى فيه الآنيةُ مثل الكواكب)) (¬2). ورواه مسلم بهذا اللفظ (¬3). وأما عن جندب بن عبدالله فقال البخاريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثنا عبدان أخبرني أبي عن شُعبة عن عبد الملك قال: سمعتُ جنْدَباً قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول ((أَنَا فَرَطُكُمْ على الحوض)) (¬4). ورواه مسلم هكذا. (¬5). وأما عن سهل بن سعد فقال البخاريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثنا سعيدُ بن أبي مريم حدثنا محمد بن مطوف حدثني أبو حازم عن حازم عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إنِّي فرطُكُم على الحوض، من مَرَّ عليَّ شرب، ومَنْ شربَ لم يظمأ أبداً. لَيَرِدَنَّ عليَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفونني ثمَّ يحالُ بيني وبينهم)) (¬6) قال أبو حازم فسمعني النعمان بن أبي عيَّاش فقال: هكذا سمعت مِنْ سهل؟ فقلت: نعم. فقال: أشهَدُ على أبي سعيد الخدري لسمعتُهُ هو يزيدُ فيها ((فأقول إنَّهم مِنِّي، فيقالُ: إنَّك لا تدري ما أحْدَثُوا بعدك، فأقول سُحْقاً سُحقاُ لمن غير بعدي)) (¬7) ورواه مسلم وفيه: ((لمن بدل بعدي)) (¬8) وأما عن عائشة فقال البخاريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثنا خالدُ بن يزيد الكاهليَ حدثنا إسرائيلُ عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عَنْ عائشة رضي الله عنها قال: سألتُها عن قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] قالت: ((نهْرٌ أعطيهِ نبيّكُم صلى الله عليه وسلم شاطئاهُ عليه دُرٌّ مجوَّفٌ آنيته كعدد النجوم)) (¬9) وقال مسلم رحمه الله تعالى: حدَّثنا ابن أبي عمر حدثنا يحيى بن سليم عن ابن خُثيم عن عبدالله بن عبيد الله بن أبي مُليكة أنَّه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول وهو بين ظهراني أصحابه ((إنِّي على الحوض أنتظرُ مَنْ يردُ عليَّ منكم، فوالله ليقتطعنَّ دوني رجالٌ فلأقولنَّ أي ربِّ منِّي ومن أُمَّتِي، فيقول: إنَّك لا تدري ما عملوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم)) (¬10) ¬

(¬1) رواه البخاري (6591). (¬2) رواه البخاري (6592). (¬3) رواه مسلم (2298). (¬4) رواه البخاري (6575). (¬5) رواه مسلم (2297). (¬6) رواه البخاري (6583). (¬7) رواه البخاري (6584). (¬8) رواه مسلم (2291). (¬9) رواه البخاري (4965). (¬10) رواه مسلم (2294).

وأما عن عقبة بن عامر فقال البخاريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثنا عمرو بن خالد حدثنا الليثُ عن يزيد عن أبي الخير عن عقبة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلَّى على أهل أُحُدٍ صلاته على الميِّتِ، ثم انصرف على المنبر فقال: ((إنّي فرطٌ لكم وأنا شهيدٌ عليكم، وإنِّي والله لأنظُرُ إلى حوضي الآن وإنِّي أعطيت مفاتيح خزائن الأرض – أو مفاتيح الأرض – وإنِّي والله ما أخاف أن تُشْرِكُوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أنْ تنافسوا فيها)) (¬1) ورواه مسلم بهذا اللفظ (¬2)، وبلفظ وصلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحُدٍ، ثم صعد المنبر كالمودِّع للأحياء والأموات فقال: ((إنِّي فرطُكُم على الحوض، وإنَّ عرضه كما بين أيلة إلى الجُحفة. إنِّي لستُ أخشى عليكم أنْ تشركوا بعدي، ولكنِّي أخشى عليكم الدنيا أنْ تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم)). قال عقبة: وكانت آخر ما رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على المنبر (¬3). وأمَّا عن عبدالله بن مسعود فقال البخاريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثنا يحيى بن حمَّاد حدَّثنا أبو عوانة عن سليمان عن شقيق عن عبدالله رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم ((أنا فرطُكُمْ على الحوضِ)) (¬4). وحدثني عمرو بن علي حدَّثنا محمدُ بن جعفر حدَّثنا شُعبةُ عن المغيرة قال سمعتُ أبا وائل عن عبدالله رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ((أنا فرطُكُم على الحوض، وليُرْفَعَنَّ رجالٌ منكم ثم لَيُختلَجُنَّ دوني فأقول يا ربِّ: أصحابي، فيقال إنَّك لا تدري ما أحْدثوا بعدك)) تابعه عاصم عن أبي وائل، وقال حصين عن أبي وائل عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬5). وروى مسلم حديث ابن مسعود بلفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنا فَرَطُكُم على الحوض ولأُنازعنَّ أقواماً ثم لأُغلبَنَّ عليهم فأقولُ: يا ربِّ أصحابي أصحابي فيقالُ: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) (¬6). وأشار إلى حديث حذيفة بنحو رواية الأعمش ومغيرة. وأما عن أبي هريرة فقال البخاريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثنا إبراهيمُ بنُ المنذر الحزامي حدَّثنا محمدُ بن فليح حدثنا أبي قال حدثنا هلال عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((بينا أنا قائمٌ فإذا زمرةٌ حتى إذا عرفتهم خرجَ رجلٌ من بيني وبينهم فقال هلمَّ، فقلت إلى أين؟ قال إلى النَّار واللهِ، قلت وما شأنهم، قال إنهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرةٌ حتى إذا عرفتهم خرجَ رجلٌ من بيني وبينهم قال هلمَّ، قلت إلى أين؟ قال إلى النَّار واللهِ، قلت ما شأنهم، قال إنهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقري فلا أراهُ يخلصُ منهم إلا مثل همل النِّعم)) (¬7). وله عنه أنه كان يحدِّث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((يردُ عليَّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي فيحلأون عن الحوض فأقولُ يا ربِّ أصحابي، فيقولُ إنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنَّهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقري)) (¬8). وله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) (¬9) ¬

(¬1) رواه البخاري (1344). (¬2) رواه مسلم (2296) (30). (¬3) رواه مسلم (2296) (31). (¬4) رواه البخاري (6575). (¬5) رواه البخاري (6576). (¬6) رواه مسلم (2297). (¬7) رواه البخاري (6587). (¬8) رواه البخاري (6586). (¬9) رواه البخاري (1196).

وقال مسلمٌ رحمه الله تعالى: حدَّثنا عبدالرحمن بن سلامٍ الجمحي حدَّثنا الربيع يعني ابن مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ((لأذودنَّ عن حوضي رجالاً كما تذادُ الغريبة من الإبل)) (¬1) وله عن أبي حاتم عنه رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إِنَّ حوضي أبعد من أيلة من عدنٍ، لهو أشدُّ بياضاً من الثلج وأحلى من العسل باللَّبن، ولآنيتُهُ أكثر من عدد النجوم، وإنِّي لأصدُّ الناس عنه كما يصدُّ الرجل إبل الناس عن حوضه، قالوا يا رسولَ اللهِ أتعرفنا يومئذٍ. قال: نعم، لكم سيما ليست لأحدٍ من الأمم، تردون عليَّ غُرَّاً محجَّلين من أثر الوضوء)) (¬2) وأما عن عبدالله بن عمرو بن العاص فقال البخاريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثنا سعيد بن أبي مريم حدَّثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال: قال عبدالله بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم ((حَوْضي مسيرةُ شهرٍ ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها فلا يظمأ أبداً)) (¬3)، ورواه مسلم بلفظ: ((حوضي مسيرة شهرٍ وزواياه سواء وماؤُه أبيض من الورِقِ وريحُهُ أطيبُ من المسك وكيزانه كنجوم السماءِ، فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبداً)) (¬4). وأما عن ابن عباس فهو ما تقدم في أول الباب، وروى ابنُ جرير عن سعيد بن جبير عنه رضي الله عنه قال: الكوثرُ نهرٌ في الجنَّة حافَّتاه من ذهبٍ وفضةٍ يجري على الياقوت والدُرَّ ماؤُه أبيض من الثلج وأحلى من العسل (¬5). وله عن عطاء بن السائب قال قال لي محارب بن دثار: ما قال سعيد بن جبير في الكوثر؟ قلت: حدَّثنا عن ابن عباس: أنه الخير الكثير، فقال صدق والله إنه للخير الكثير، ولكن حدَّثنا ابن عمر قال: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكوثر نهرٌ في الجنَّة حافَّتاه من ذهبٍ يجري على الدر والياقوت)) (¬6). وأما عن أسماء فقال البخاريُّ رحمه الله تعالى: حدَّثنا سعيدُ بن أبي مريم عن نافع بن عمر، قال حدثني بن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي على الحوض حتى أنظر من يردُ عليَّ منكم، وسيؤْخذ ناسٌ دوني فأقول: يا ربِّ مِنِّي ومن أُمَّتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك واللهِ ما برحوا يرجعون على أعقابهم)). وكان ابن أبي مليكة يقول ((اللَّهُمَّ إنَّا نعوذ بك أَنْ نرجع على أعقابنا أو نُفتن عن ديننا)) (¬7) ورواه مسلم بسند حديث عبدالله بن عمرو متصلا بمتنه ولفظه كلفظ البخاري (¬8). ¬

(¬1) رواه مسلم (2302). (¬2) رواه مسلم (246). (¬3) رواه البخاري (6579). (¬4) رواه مسلم (2292). (¬5) رواه الطبري في تفسيره (24/ 645). (¬6) رواه الترمذي (3361)، وابن ماجه (4334)، والحاكم (3/ 625). وقال الترمذي: قال هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬7) رواه البخاري (6593). (¬8) رواه مسلم (2293).

وأما عن ثوبان فقال مسلمٌ رحمه الله تعالى: حدَّثنا أبو غسان المسمعيُّ ومحمد بن المثنى وابنُ بشار وألفاظهم متقاربة قالوا: حدَّثنا معاذُ وهو ابنُ هشام حدَّثني أبي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة اليعمريُّ عن ثوبان رضي الله عنه أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنِّي لَبِعُقْرِ حوضي أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم، فسئل عن عرضه فقال: من مقامي إلى عمّان، وسُئل عن شرابه فقال: أشدُّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل يغت فيه ميزابان يمدَّانه من الجنة أحدهما من ذهبٍ والآخر من ورق)) (¬1). وقال الترمذي رحمه الله تعالى: حدَّثنا محمد بن إسماعيل أنبأنا يحيى بن صالح أنبأنا محمدُ بن مهاجر عن العباس عن أبي سلام الحبشي قال: بعث إليّ عمر بن عبد العزيز فحملت على البريد فلمَّا دخل عليه قال: يا أميرَ المؤمنين لقد شقَّ عليَّ مركبي البريد. فقال: يا أبا سلاّم ما أردت أن أشق عليك، ولكن بلغني عنك حديث تحدِّثه عن ثوبان عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحوض فأحببت أن تشافهني به، قال أبو سلام: حدَّثني ثوبانُ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((حوضي من عدن إلى عمَّان البلقاءِ، ماؤُه أشدُّ بياضاً من اللبن وأَحْلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً، أوَّل الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين، الشُّعث رؤوساً الدُّنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم السدد)) قال عمر: لكنِّي نكحت المتنعمات وفتحت لي السدد، ونكحت فاطمة بنت عبد الملك، لا جرم إِنِّي لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ (¬2). ورواه ابن ماجه بلفظ ((إنَّ حوضي ما بين عدنٍ إلى أيلة أشدُّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، أكاويبه كعدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً)) الحديث وفيه قال: فبكى عمر حتى اخضلت لحيته. وفيه ((ولا أدهن رأسي حتى يشعث)) (¬3). وأما عن أبي ذر فقال مسلمٌ رحمه الله تعالى: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لابن أبي شيبة، قال إسحاق أخبرنا - وقال الآخران حدثنا - عبد العزيز بن عبد الصمد العميّ عن أبي عمران الجوني عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر قال: ((قلتُ يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال: والذي نفس محمدٍ بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية. آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخُب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ. عرضه مثل طوله ما بين عمَّان إلى أيْلة ماؤُه أشدُّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل)) (¬4) رواه الترمذي بهذا اللفظ وقال: حسن صحيح غريب (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم (2301). (¬2) رواه الترمذي (2444). وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال البزار في ((البحر الزخار)) (10/ 103): إسناده حسن. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 136): رواته رواة الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح المرفوع منه. (¬3) رواه ابن ماجه (4303). وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬4) رواه مسلم (2300). (¬5) رواه الترمذي (2445). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

وأمَّا عن أم سلمة رضي الله عنها فقال مسلمُ بن الحجاج: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفيُّ أخبرني عبدالله بن وهب أخبرني عمرو وهو ابن الحارث أنَّ بكيراً حدَّثه عن القاسم بن عباس الهاشمي عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة عن أُمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت: ((كُنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوماً من ذلك والجارية تمشُطني فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيُّها الناس. فقلت للجارية: استأخري عني. قالت: إنَّما دعا الرجال ولم يدع النساء. فقلت: إنِّي من الناس. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لكم فرطٌ على الحوض، فإيَّاي لا يأْتينَّ أحدكم فيذبُّ عني كما يذبُّ البعير الضال، فأقول فيم هذا؟ فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً)) (¬1). وأما عن جابر بن سمرة فقال مسلم رحمه الله تعالى: حدَّثني الوليد بن شجاع بن الوليد السَّكوني حدثني أبي رحمه الله تعالى: حدَّثني زياد بن خيثمة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا إِنِّي فرطٌ لكم على الحوض، وإِنَّ بُعْدَ ما بين طرفيه كما بين صنعاء وأَيلة، كأَنَّ الأباريق فيه النجوم)) (¬2). وأَمَّا عن زيد بن أرقم فقال أبو داود رحمه الله تعالى: حدَّثنا حفص بن عمر النمري حدَّثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال: ((كُنَّا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلاً فقال: ما أنتم بجزءٍ من مائة ألف جزءٍ ممَّن يرد عليَّ الحوض. قال قلت: كم كنتم يومئذٍ؟ قال: سبعمائة أو ثمانمائة)) (¬3). وأما عن سمرة بن جندب فقال الترمذيُّ رحمه الله تعالى: حدَّثنا أحمد بنُ نيزك البغداديُّ أنبأنا محمد بكَّار الدمشقي أنبأنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن بن سمرة قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لكلِّ نبيٍّ حوضاً وإِنَّهم يتباهون أَيُّهم أكثر وارده، وإِنِّي أرجو أن أكون أكثرهم وارده)) (¬4). وقال ابن ماجه رحمه الله تعالى: حدَّثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن أبي مالك سعدِ بن طارق عن ربعيِّ عن حذيفة قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ حوضي لأبعد من أيلة إلى عدنٍ، والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد النجوم، ولهو أشدُّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، والذي نفسي بيده إِنِّي لأذود عنه الرجال كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه. قيل: يا رسول الله أتعرفنا؟ قال: نعم تردون عليَّ غُرّاً محجَّلين من أَثر الوضوء، ليست لأحدٍ غيركم)) (¬5). ورواه مسلم في الطهارة بهذا اللفظ وبهذا السند (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (2295). (¬2) رواه مسلم (2305). (¬3) رواه أبو داود (4746). وسكت عنه. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 192) - كما ذكر في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) رواه الترمذي (2443). وقال: هذا حديث غريب وقد روى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح. قال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) رواه ابن ماجه (4302). وقال الشيخ الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬6) رواه مسلم (248).

وأما عن أبي برزة فقال أبو داود رحمه الله تعالى: حدَّثنا مسلمُ بنُ إبراهيم حدَّثنا عبد السلام بن أبي حازم أبو طالوت قال: شهدتُ أبا برزة دخل على عبيدِ الله بن زيادٍ فحدَّثني فلانٌ سماه مسلم وكان في السِّماط فلما رآه عبيدُ اللهِ قال إِنَّ محمديكم هذا لدحداح، ففهمها الشيخ فقال: ما كنت أحسب أَنِّي أبقى في قومٍ يعيروني بصحبةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال له عبيد الله: إِنَّ صحبة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لك زين غير شين، ثم قال: إِنَّما بعثت إليك لأسألك عن الحوض، سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟ فقال أبو برزة: نعم لا مرَّة ولا اثنتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً ولا خمساً، فمن كذب به فلا سقاهُ الله منه، ثم خرج مغضباً (¬1). وأما حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ فقال ابن ماجه رحمه الله تعالى: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدَّثنا محمد بنُ بشرٍ حدَّثنا زكريا حدَّثنا عطية عن أبي سعيد الخدري أَن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ لي حوضاً ما بين الكعبة وبيت المقدس أبيض من اللبن آنيته عدد النجوم، وإِنِّي لأكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة)) (¬2). وأما عن عبدالله بن زيد فرواه البخاري ومسلم عنه مطولاً في قصة قسم غنائم حنين، وفي آخره قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: ((إنَّكم ستلقوْنَ بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلْقَوْنِي على الحوض)) (¬3) وأما عن أسامة بن زيد فقال ابن جرير رحمه الله تعالى: حدَّثني البرني حدَّثنا ابن أبي مريم حدَّثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير أخبرني حرامُ بنُ عثمان عن عبدالرحمن الأعرج عن أسامة بن زيد: ((أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى حمزة بن عبد المطلب فلم يجده فسأل عنه امرأته وكانت من بني النجار فقالت: خرج يا نبيَّ الله عامداً نحوك، فأظنُّه أخطأك في بعض أزقة بني النجار. أوَلا تدخل يا رسول الله؟ فدخل، فقدمت إليه حيساً فأكل منه، فقالت: يا رسولَ الله هنيئاً لك ومريئاً، لقد جئت وأنا أريد أن آتيك لأهنيك وأمريك، أخبرني أبو عمارة أنَّك أعطيت نهراً في الجنة يدعى الكوثر. فقال: أجل وعرضه – يعني أرضه – ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ)) (¬4). قال ابن كثير رحمه الله تعالى: حرام بنُ عثمان ضعيف، ولكن هذا سياق حسن، وقد صحّ أصل هذا بل قد تواتر من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث (¬5).اهـ. قلت: وقد ذكرنا منها ما تيسر. وفي الباب عدة أحاديث غير ما ذكرنا، ولمن ذكرنا من الصحابة أحاديث أخر لم نذكرها، ولهم روايات في الأصول التي عزونا إليها غير ما سقناه، وإنما أشرنا إشارة إلى بعضها لتعرف شهرة هذا الباب واستفاضته وتواتره مع الإيجاز والاختصار. ولله الحمد والمنة. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص 1047 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4749). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه ابن ماجه (4301). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 259): هذا إسنادٌ فيه عطية العوفي وهو ضعيف. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (4330)، ومسلم (1061). من حديث عبدالله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه. (¬4) رواه الطبري (24/ 651). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (8/ 502): فيه حرام بن عثمان ضعيف؛ ولكن هذا سياق حسن، وقد صحّ أصل هذا، بل قد تواتر من طريق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 366): فيه حرام بن عثمان وهو متروك. (¬5) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 502).

وقد أورد القرطبي في (التذكرة) بعض الأحاديث التي سقناها ثم قال: قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون. وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع. ثم البعد قد يكون في حال، ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال، ولم يكن في العقائد، وعلى هذا يكون نور الوضوء يعرفون به، ثم يقال لهم: سحقاً، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُظهرون الإيمان ويسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر، ثم يكشف لهم الغطاء فيقال لهم: سحقاً سحقاً، ولا يخلد في النار إلا كل جاحد مبطل، ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص 262 وقال الجلال السيوطي في كتابه (البدور السافرة) (¬1): (قد ورد ذكر الحوض من رواية بضع وخمسين صحابياً منهم الخلفاء الأربعة، وأبي بن كعب، وأنس، والبراء بن عازب، وجابر، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة). وذكر بقيتهم. قال في (التذكرة) (¬2): (ذهب صاحب (القوت) إلى أن الحوض بعد الصراط والصحيح أنه قبله). وهكذا قال الغزالي: (ذهب بعض السلف إلى أن الحوض يورد بعد الصراط وهو غلط من قائله). قال القرطبي: (والمعنى يقتضي تقديم الحوض على الصراط, فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم فناسب تقديمه). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين: هل فيه ماء؟ قال: إي والذي نفسي بيده إن فيه لماء، وإن أولياء الله ليردون إلى حياض الأنبياء عليهم السلام)) (¬3). وأخرج الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ أبداً)) (¬4) وفي رواية: ((حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق)) (¬5). وهي عندهما أيضاً. ¬

(¬1) ((البدور السافرة)) (ص: 215). (¬2) (1/ 457). (¬3) أورده ابن كثير في تفسيره (3/ 238) وعزاه لابن مردويه، وقال: هذا حديث غريب، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 119) بعد أن عزاه لابن أبي الدنيا: [فيه] الزبير بن شبيب ومحصن بن عقبة لم أجد من ترجمهما. (¬4) رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292). (¬5) رواه مسلم (2292).

وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح، وابن حبان في صحيحه واللفظ للإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله وعدني أن يدخل من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب)) فقال يزيد بن الأخنس: والله ما أولئك في أمتك إلا كالذباب الأصهب في الذباب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد وعدني سبعين ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً، وزادني ثلاث حثيات)). قال: فما سعة حوضك يا رسول الله؟ قال: ((كما بين عدن إلى عُمَان، وأوسع وأوسع)) يشير بيده قال: ((فيه مثعبان)) بضم الميم والعين المهملة بينهما مثلثة وآخره موحدة هو مسيل الماء قاله الحافظ المنذري: ((من ذهب)) أي ذلك المثعبان من ذهب: ((وفضة)) قال: فما حوضك يا نبي الله؟ قال: ((أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، ولم يسود وجهه أبداً)) (¬1). وأخرج مسلم عن ثوبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لبعقر حوضي)) أي: مؤخره وهو بضم العين إسكان القاف ((أذود الناس لأهل اليمن)) أي: أطردهم وأدفعهم ليرد أهل اليمن قاله ابن المنذر ((أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم)) فسئل عن عرضه؟ فقال: ((من مقامي إلى عمان)). وسئل عن شرابه؟ فقال: ((أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل يغت)) أي: بغين معجمة مضمومة ثم مثناة فوق أي: يجريان ((فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من ورق)) (¬2). وروى الترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه عن أبي سلام الحبشي قال: بعث إلي عمر بن عبد العزيز, فحملت على البريد فلما دخلت إليه قلت: يا أمير المؤمنين لقد شق علي مركبي البريد فقال: يا أبا سلام ما أردت أن أشق عليك, ولكن بلغني عنك حديث تحدثه عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحوض فأحببت أن تشافهني به فقلت: حدثني ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حوضي مثل ما بين عدن إلى عمان البلقاء, ماؤه أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين الشعث رءوساً)) أي: البعيد عهداً بدهن رأسه، وغسله، وتسريح شعره. ((الدنس ثيابا)) أي: الوسخ ثياباً وهو بضم الدال والنون جمع دنس. ((الذين لا ينكحون المنعمات، ولا تفتح لهم الأبواب السدد)). فقال عمر: قد نكحت المنعمات فاطمة بنت عبد الملك، وفتحت لي الأبواب السدد, ولا جرم لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ (¬3). ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 250) (22210)، وابن حبان (14/ 369) (6457). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 311): رواته محتج بهم في الصحيح، وحسن إسناده ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (2/ 82)، وصحح إسناده ابن حجر في ((الإصابة)) (3/ 651). (¬2) رواه مسلم (2301). (¬3) رواه الترمذي (2444)، وابن ماجه (4303)، وأحمد (5/ 275) (22421)، والبزار (10/ 103)، والطبراني (2/ 99) (1437)، والحاكم (4/ 204). قال البزار: إسناده حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح المرفوع منه.

وأخرج الإمام أحمد بإسناد حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حوضي كما بين عدن وعمان, أبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك, أكوابه مثل نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أول الناس عليه وروداً صعاليك المهاجرين)). قال قائل: من هم يا رسول الله؟ قال: ((الشعثة رؤوسهم الشحبة)) أي: بفتح الشين المعجمة وكسر المهملة بعدها موحدة: المتغيرة ((وجوههم)) وذلك من جوع, أو هزال, أو تعب ((الدنسة ثيابهم)) أي: الوسخة ثيابهم ((لا تفتح لهم السدد)) أي: الأبواب المغلقة وذلك لإهانتهم عند الناس, وعدم اكتراثهم بهم ((ولا ينكحون المنعمات, الذين يعطون كل الذي عليهم, ولا يأخذون كل الذي لهم)) (¬1). وعند الطبراني بإسناد حسن في المتابعات عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((حوضي كما بين عدن وعمان فيه أكاويب)) جمع كوب وهو كوز لا عروة له، وقيل: لا خرطوم له. فإذا كان له خرطوم فهو إبريق. ((عدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعده أبدا)) (¬2) الحديث. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة)) وفي رواية: ((مثل المدينة وعمان)). وفي رواية ((فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء)). زاد في رواية: ((وأكثر من عدد نجوم السماء)) رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما (¬3). وفي صحيح البخاري من حديث همام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا أسير في الجنة إذ أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك. قال: فضرب الملك فإذا طينه مسك أذفر)) (¬4) وفي صحيح مسلم عنه مرفوعاً: ((الكوثر نهر في الجنة وعدنيه ربي عز وجل)) (¬5). وفي (حادي الأرواح) للإمام المحقق ابن القيم قدس الله روحه: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخلت الجنة فإذا بنهر يجري، حافتاه خيام اللؤلؤ, فضربت بيدي إلى ما يجري فيه من الماء, فإذا أنا بمسك أذفر فقلت: لمن هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله عز وجل)) (¬6). ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 132) (6162)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (10/ 368)، والمنذري (4/ 313). وقال: إسناده حسن، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني من رواية عمرو بن عمر الأحموشي عن المخارق بن أبي المخارق واسم أبيه عبد الله بن جابر وقد ذكرهما ابن حبان في الثقات وشيخ أحمد أبو المغيرة من رجال الصحيح. (¬2) رواه الطبراني (8/ 119) (7546). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 313): إسناده حسن في المتابعات، وقال الهيثمي (10/ 369): رجاله وثقوا على ضعف في بعضهم. (¬3) رواه مسلم (2303). (¬4) رواه البخاري (4964). (¬5) رواه مسلم (400). (¬6) رواه الترمذي (3360)، وأحمد (3/ 103) (12027)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 523) (11706)، وابن حبان (14/ 390) (6472)، والحاكم (1/ 152). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 307): لم أجده هكذا بتمامه، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 490): أصله عند البخاري بنحوه.

وفي سنن الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج)) قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬1). تنبيه: قال في (التذكرة) (¬2): (الصحيح أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين أحدهما: في الموقف قبل الصراط والثاني في الجنة وكلاهما يسمى كوثراً والكوثر في كلام العرب الخير الكثير). قال الجلال السيوطي (¬3): (وقد ورد التصريح في حديث صحيح عند الحاكم وغيره بأن الحوض بعد الصراط, ورجحه القاضي عياض) قال السيوطي: (فإن قيل: إذا خلصوا من الموقف دخلوا الجنة فلم يحتج إلى الشرب منه. قلت: كلا بل هم محبوسون هناك لأجل المظالم فكان الشرب في موقف القصاص. ويحتمل الجمع بأن يقع الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم وتأخيره بعده لآخرين بحسب ما عليهم من الذنوب حتى يهذبوا منها على الصراط ولعل هذا أقوى.) انتهى. قال العلامة في (البهجة): (هذا كلام في غاية التحقيق جامع للقولين وهو دقيق). انتهى. قال القرطبي في (التذكرة) (¬4): (ولا يخطر ببالك أو يذهب وهمك إلى أن هذا الحوض يكون على وجه هذه الأرض, وإنما يكون وجوده على الأرض المبدلة على مسافات هذه الأقطار، وفي المواضع التي تكون بدلاً من هذه المواضع في هذه الأرض، وهي أرض بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم، ولم يظلم على ظهرها أحد قط كما تقدم). لطيفة: أخرج ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود رضي الله عنه: (يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأنصب ما كانوا قط, فمن كسا لله كساه الله، ومن أطعم لله أطعمه الله، ومن سقا لله أسقاه الله، ومن عمل لله أغناه الله، ومن عفا لله أعفاه الله) (¬5). وأخرج ابن خزيمة، والبيهقي عن سلمان مرفوعاً: ((من يسقي صائماً لله سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة)) (¬6). وأخرج الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من أتاه أخوه منتصلاً-أي: معتذراً- فليقبل ذلك منه محقاً كان ذلك أو مبطلاً, فإن لم يفعل لم يرد الحوض)). وأخرج الطبراني عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرفوعا: ((من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل عذره لم يرد على الحوض)) (¬7). تنبيه: قال القرطبي: (ظن بعض الناس أن هذه التحديدات في أحاديث الحوض اضطراب واختلاف). قال: (وليس كذلك وإنما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الحوض مرات عديدة وذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة مخاطباً لكل طائفة بما كانت تعرف من مسافات مواضعها فيقول لأهل الشام: ما بين أدرج وحرباء، ولأهل اليمن: من صنعاء إلى عدن. وتارة يقدر بالزمان فيقول: مسيرة شهر والمقصود أنه حوض كبير متسع الجوانب والزوايا وكان ذلك التحديد بحسب من (حضره) ممن يعرف تلك الجهات فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها) انتهى. وسيأتي للكلام على الحوض تتمة في صفات الجنة إن شاء الله تعالى. تتمة: اعلم أن لكل نبي حوضاً كما ورد ذلك في الأخبار، والأحاديث، والآثار، فقد أخرج الترمذي عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل نبي حوضاً، وإنهم يتباهون أيهم أكثر وارداً، وإني أرجو أن أكون أكثرهم وارداً)) (¬8) قال الترمذي: حديث حسن غريب ...... وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (وإن أولياء الله ليردون إلى حياض الأنبياء) (¬9) (¬10). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني - بتصرف– 2/ 887 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3361)، وابن ماجه (4334)، والحاكم (3/ 625). وقال الترمذي: قال هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) ((التذكرة)) (1/ 368). (¬3) ((البدور السافرة)) (ص: 240). (¬4) ((التذكرة)) (1/ 371). (¬5) رواه ابن أبي الدنيا في ((قضاء الحوائج)) (30). (¬6) رواه ابن خزيمة (3/ 191) (1887)، والبيهقي (3/ 305) (3608). قال الضياء المقدسي في ((السنن والأحكام)) (3/ 400): [فيه] على بن زيد بن جدعان تكلم فيه جماعة من العلماء. (¬7) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 241) (6295). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 84): فيه خالد بن زيد العمري وهو كذاب، وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3714): موضوع. (¬8) رواه الترمذي (2443). وقال: هذا حديث غريب وقد روى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح. قال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬9) أورده ابن كثير في تفسيره (3/ 238) وعزاه لابن مردويه، وقال: هذا حديث غريب، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 119) بعد أن عزاه لابن أبي الدنيا: [فيه] الزبير بن شبيب ومحصن بن عقبة لم أجد من ترجمهما. (¬10) ((الحلية)) (7/ 325).

المبحث الثاني: الإيمان بالحوض

المبحث الثاني: الإيمان بالحوض قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:2 - 3]، فالإيمان بالغيب هو أول صفة وصف الله بها عباده المؤمنين في كتابه الكريم. ولذلك كان الإيمان بالغيب من أسس العقيدة الإسلامية، ومن ركائزها المتينة، التي عليها تقوم وعلى أساسها ترتكز. والغيب كل ما غاب عنا, وأخبرنا به الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم, ومن ذلك الغيب الذي يجب أن نؤمن به الجنة والنار، والحساب والعقاب، والصراط والميزان، والشفاعة والحوض .... وغير ذلك من الأمور الغيبية. فالإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم واجب، فقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن جمع من الصحابة بلغت حد التواتر. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: (أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة، لا يتأول ولا يختلف فيه. قال: (وحديثه متواتر النقل, رواه خلائق من الصحابة.) أ. هـ (¬1) قال الحافظ رحمه الله تعالى: بعد ما ذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض: (فجميع من ذكرهم عياض خمسة وعشرون نفساً، وزاد عليه النووي ثلاثة، وزدت عليهم أجمعين قدر ما ذكروه سواء فزادت العدة على الخمسين). قال: (ولكثير من هؤلاء الصحابة في ذلك زيادة على الحديث الواحد, كأبي هريرة, وأنس, وابن عباس, وأبي سعيد, وعبدالله بن عمرو. قال: (وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض، وفي صفته بعضها, وفيمن يرد عليه بعضها، وفيمن يدفع عنه بعضها) قال: (وبلغني أن بعض المتأخرين وصلها إلى رواية ثمانين صحابياً) أهـ (¬2) تيسير الكريم العلي في وصف حوض النبي لوحيد عبدالسلام بالي – ص 5 ¬

(¬1) ((شرح النووي)) (15/ 53) (¬2) ((فتح الباري)) (11/ 469)

المبحث الثالث: أقوال علماء الإسلام في إثبات الحوض

المبحث الثالث: أقوال علماء الإسلام في إثبات الحوض قال السفاريني: (والحوض والكوثر ثابت بالنص وإجماع أهل السنة والجماعة حتى عده أهل السنة في العقائد الدينية لأجل الرد على أهل البدع والضلال) (¬1). وقد ذكر ابن كثير – رحمه الله – عددا من الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض، فقال: ذكر ما ورد في الحوض النبوي المحمدي – سقانا الله منه يوم القيامة – من الأحاديث المتواترة المتعددة من الطرق الكثيرة المتضافرة؛ وإن رغمت أنوف كثيرة من المبتدعة المعاندة المكابرة، القائلين بجحوده، المنكرين لوجوده، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده، كما قال بعض السلف: ((من كذب بكرامة لم ينلها)) ثم شرع في ذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض، ونذكر هنا أسماءهم إجمالا: ((أبي بن كعب، وأنس بن مالك، والحسن بن علي، وحمزة بن عبد المطلب، والبراء بن عازب، ويزيد بن حبيب، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، وجرير بن عبد الله البجلي، وحارثة ابن وهب، وحذيفة بن أسيد، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود، وعتبة بن عبد الله السلمي، وعثمان بن مظعون، والمستورد، وعقبة بن عامر الجهني، والنواس بن سمعان، وأبو أمامة الباهلي، وأبو برزة الأسلمي، وأبو بكرة، وأبو ذر الغفاري، وأبو سعيد الخدري، وخولة بنت قيس، وأبو هريرة الدوسي، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة، وأم سلمة، رضي الله عنهم أجمعين، امرأة حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم ,وهي من بني النجار راوية أبي كعب الأنصاري رضي الله عنه) (¬2). ويقول ابن حجر رحمه الله: وقال القرطبي في (المفهم) – تبعا للقاضي عياض في غالبه؛ أي أغلب الكلام الآتي: - مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي؛ إذ روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيف على الثلاثين منهم؛ في الصحيحين ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك مما صح نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين وأمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم، وهلم جرا، وأجمع على إثبات السلف وأهل السنة من الخلف. (¬3). وقال القاضي عياض – رحمه الله – فيما ينقله النووي: أحاديث الحوض صحيحة والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأول ولا يختلف فيه وقال القاضي: وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة، ثم شرع في ذكر أسمائهم، قال النووي: وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرات (¬4). وكل تلك الروايات المتكاثرة تجعل المسلم يجزم دون أي تردد في إثبات الحوض، بل إن في بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترا (¬5). كما قال عياض – رحمه الله -. وقد ذكر ابن حجر جميع من روى أحاديث الحوض وأماكن تلك الروايات ثم قال: فجميع من ذكرهم عياض خمسة وعشرون نفسا وزاد عليه النووي ثلاثة، وزدت عليهم أجمعين قدر ما ذكروه سواء، فزادت العدة على الخمسين، ولكثير من هؤلاء الصحابة في ذلك زيادة على الحديث الواحد كأبي هريرة وأنس وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو، وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض، وفي صفته بعضها، وفيمن يرد عليه بعضها، وفيمن يدفع عنه بعضها، وكذلك في الأحاديث التي أوردها المصنف – يعني البخاري – في هذا الباب، وجملة طرقها تسعة عشر طريقا، وبلغنى أن بعض المتأخرين أوصلها إلى رواية ثمانين صحابيا (¬6). الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1427 ¬

(¬1) ((شرح ثلاثيات المسند)) (1/ 537). (¬2) ((النهاية)) (2/ 29). (¬3) ((فتح الباري)) (11/ 467). (¬4) ((شرح النووي لمسلم)) (5/ 150). (¬5) ((شرح النووي لمسلم)) (5/ 150). (¬6) ((فتح الباري)) (11/ 469).

المبحث الرابع: صفة الحوض

المطلب الأول: سعة حوض النبي صلى الله عليه وسلم حوض النبي صلى الله عليه وسلم مسيرة شهر بالراكب المسرع كما بين أيلة في الشام وصنعاء في اليمن, وعرضه كطوله يعنى مربعاً. 1 - فعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحوض فقال: ((كما بين المدينة وصنعاء)) (¬1) قلت: يعني طول الحوض كما بين المدينة المنورة وصنعاء التي في اليمن. 2 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمامكم حوض كما بين جرباء وأذرح)) (¬2) قلت: وجرباء وأذرح قريتان بالشام. 3 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الإباريق كعدد نجوم السماء)) (¬3). قلت: وأيلة مدينة كانت بجوار العقبة المعروفة الآن في الأردن. 4 - وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن, وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها فلا يظمأ أبداً)) (¬4). قلت: مسيرة شهر يعني للجواد المسرع. وفي رواية لمسلم: ((حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء, وماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك)) (¬5). قلت: ومعنى زواياه سواء يعني عرضه كطوله (مربعاً) , وماؤه أبيض من الورق: يعني الفضة. 5 - وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات فقال: إني فرطكم على الحوض, وإن عرضه لما بين أيلة إلى الجحفة, إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها, وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم)) (¬6). قال عقبة: (فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر). تيسير الكريم العلي في وصف حوض النبي لوحيد عبدالسلام بالي – ص: 8 - 10 ¬

(¬1) رواه البخاري (6591)، ومسلم (2298). (¬2) رواه البخاري (6577)، ومسلم (2299). (¬3) رواه البخاري (6580)، ومسلم (2303). (¬4) رواه البخاري (6579). (¬5) رواه مسلم (2292). (¬6) رواه البخاري (4042)، ومسلم (2296).

المطلب الثاني: لون ماء الحوض وريحه

المطلب الثاني: لون ماء الحوض وريحه 1 - فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك)) (¬1) ما أجمل ماءه، وما أطيب ريحه، وكيف لا؟ وقد أعده الله تبارك وتعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن ما طعم هذا الماء الذي أعده الله لنبيه صلى الله عليه وسلم؟ 2 - فعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ماؤه أشد بياضاً من اللبن, وأحلى من العسل)) (¬2). 3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن حوضي أبعد من أيلة إلى عدن، لهو أشد بياضاً من الثلج, وأحلى من العسل باللبن, ولآنيته أكثر من عدد النجوم)) (¬3). ولكن من أين يأتي هذا الماء؟ وهل يمكن أن ينتهي؟ 4 - فعن ثوبان رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شراب الحوض فقال: أشد بياضاً من اللبن, وأحلى من العسل, يغث فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق)) (¬4). كيف ينتهي ماؤه والنهران يصبان فيه من الجنة؟ بل كيف ينتهي والذي أعده هو الله رب العالمين؟ لا والله لن ينتهي أبداً، سيظل مكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم. ولكن هل هذا الماء بارد أم ساخن؟ 5 - فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حوض كما بين عدن وعمّان, أبرد من الثلج, وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك)) (¬5). تيسير الكريم العلي في وصف حوض النبي لوحيد عبدالسلام بالي - بتصرف - ص11 - 13 ¬

(¬1) رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292). (¬2) رواه مسلم (2300). (¬3) رواه مسلم (247). (¬4) رواه مسلم (2301). (¬5) رواه أحمد (2/ 132) (6162)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (10/ 368)، والمنذري (4/ 313). وقال: إسناده حسن، وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني من رواية عمرو بن عمر الأحموشي عن المخارق بن أبي المخارق واسم أبيه عبد الله بن جابر وقد ذكرهما ابن حبان في الثقات وشيخ أحمد أبو المغيرة من رجال الصحيح.

المطلب الثالث: أباريق الحوض

المطلب الثالث: أباريق الحوض 1 - عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبداً)) (¬1). كيزانه كنجوم السماء: يعني في الكثرة وقيل في اللون يعني تضئ وتلمع كنجوم السماء. 2 - عن حارثة بن وهب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حوضه ما بين صنعاء والمدينة)) فقال له المستورد: ألم تسمعه قال: الأواني! قال: لا, قال المستورد: (ترى فيه الآنية مثل الكوكب) (¬2). 3 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن قدر حوضي كما بين أيله وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء)) (¬3). 4 - وعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أمامكم حوضاً كما بين جرباء وأذرح، فيه أباريق كنجوم السماء, من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبداً)) (¬4). 5 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((قلت يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال: والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه, يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ, عرضه مثل طوله ما بين عمّان إلى أيله, ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل)) (¬5). قوله: الليلة المظلمة يعني التي لا قمر فيها, لأن وجود القمر يستر كثيراً من النجوم, ورغم ذلك فإن السماء صافية، ونجومها ظاهرة, يشخب فيه ميزابان من الجنة: يصب فيه نهران من الجنة. 6 - وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني فرط لكم على الحوض, وإن بعد ما بين طرفيه كما بين صنعاء وأيلة, كأن الأباريق فيه النجوم)) (¬6). 7 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لي حوضاً ما بين الكعبة وبيت المقدس, أبيض مثل اللبن, آنيته عدد النجوم, وإني لأكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة)) (¬7). 8 - وعن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن حوضي من عدن إلى عمّان البلقاء, ماؤه أشد بياضاً من اللبن, وأحلى من العسل, أكاويبه عدد النجوم, من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً)) (¬8). ومن مجموع تلك الأحاديث يتبين لنا أن الحوض فيه كيزان كنجوم السماء, وفيه آنية كنجوم السماء, وفيه أباريق كعدد نجوم السماء, وفيه أكواب كنجوم السماء, كل هذا في حوض نبينا صلى الله عليه وسلم, أعطاه الله إياه فضلاً منه ونعمة وشرفاً له وكرامة تيسير الكريم العلي في وصف حوض النبي لوحيد عبدالسلام بالي – ص: 14 - 17 ¬

(¬1) رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292). (¬2) رواه البخاري (6591)، ومسلم (2298). (¬3) رواه البخاري (6580)، ومسلم (2303). (¬4) رواه البخاري (6577)، ومسلم (2299). (¬5) رواه مسلم (2300). (¬6) رواه مسلم (2305). (¬7) رواه ابن ماجه (3489). وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬8) رواه الترمذي (2444)، وابن ماجه (4303)، وأحمد (5/ 275) (22421)، والبزار (10/ 103)، والطبراني (2/ 99) (1437)، والحاكم (4/ 204). قال البزار: إسناده حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح المرفوع منه.

المبحث الخامس: التفاضل في ورود الحوض

المبحث الخامس: التفاضل في ورود الحوض وأما الحوض: فإن لكل نبي حوض كما في الحديث: ((إن لكل نبي حوضاً، وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة)) (¬1). وأحواض الأنبياء متفاضلة، وأفضلها حوض النبي صلى الله عليه وسلم فهو أكثرهم وارداً، وقد جاء في صفته أنه مسيرة شهر, وأن زواياه سواء, وأن ماءه أبيض من اللبن, وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم الماء من شرب منه لم يظمأ أبداً (¬2). وماء حوض نبياً صلى الله عليه وسلم ((يشخب فيه ميزابان من الجنة)) (¬3) كما قال صلى الله عليه وسلم. وقد خص صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء بالكوثر كما قال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1]. والكوثر نهر في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ((بينما أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك, فإذا طيبه – أو طينه - مسك أذفر)) (¬4). شك من الراوي. وهذا من فضائله صلى الله عليه وسلم. والمؤمنون يتفاضلون في ورود الحوض, فمنهم من يرده, ومنهم من يذاد عنه. قال صلى الله عليه وسلم: ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم, وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك, والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) (¬5). وقال صلى الله عليه وسلم: ((إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم)) (¬6). وهذه فضيلة لأهل اليمن, وكرامة أن يدفع النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن حوضه حتى يشربوا هم ويتقدموا في الشرب (¬7). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي - ص402 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2443)، والطبراني (7/ 212) (6881). من حديث سمرة رضي الله عنه. قال الترمذي: غريب [روي] مرسلا وهو أصح، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 292): [روي] عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً, ولم يذكر فيه عن سمرة, وهو أصح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه البخاري (6579). من حديث ابن عمرو رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (2300). من أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6581). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (6593)، ومسلم (2293). من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. (¬6) رواه البخاري (2301). من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬7) انظر ((شرح النووي لمسلم)) (15/ 62).

الفصل الثامن عشر: الكوثر

المطلب الأول: تعريف الكوثر لغة يطلق الكوثر في اللغة على عدة معان دائرة حول الكثرة والاتساع، ومن تعريفات أهل اللغة له ما قاله الأزهري: الكوثر فوعل من الكثرة، ومعناه الخير الكثير (¬1). وقال الفيروز آبادي: والكوثر: الكثير من كل شئ، والكثير الملتف من الغبار، والإسلام، والنبوة، والرجل الخير المعطاء، والسيد والنهر، ونهر في الجنة تتفجر منه جميع أنهارها (¬2). وعرفه الراغب بقوله: قيل: هو نهر في الجنة يتشعب عنه الأنهار، وقيل: بل هو الخير العظيم الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يقال للرجل السخي: كوثر، ويقال: تكوثر الشئ: كثر كثرة متناهية، قال الشاعر: وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا (¬3). وكل تعريفات أهل اللغة في مادة: كثر تدور حول معنى الكثرة والاتساع. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1493 ¬

(¬1) ((تهذيب اللغة)) (10/ 178). (¬2) ((القاموس المحيط)) (2/ 129). (¬3) ((المفردات)) (ص 426) , وانظر: ((أساس البلاغة)) (ص 387).

المطلب الثاني: تعريف الكوثر اصطلاحا

المطلب الثاني: تعريف الكوثر اصطلاحا أما تعريفه في الاصطلاح، فهو حسب مفهوم تعريفات العلماء له – على ضوء ما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه: نهر في الجنة، أعطاه الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم زيادة في إكرامه ولطفه به وبأمته. وهو متصل بالحوض الذي هو في الموقف – كما أشرنا إلى ذلك في مبحث الحوض، وكما سيأتي إيضاحه أيضا. وقد فسر الكوثر بأنه نهر في الجنة، كما جاء في حديث أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها أنه قال: ((سألتها عن قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم)) (¬1). فهذا الحديث نص في تفسير الكوثر بأنه النهر الذي أعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم، على أنه قد جاء في رواية ابن عباس أنه فسر الكوثر تفسيرا عاما يندرج تحته الكوثر الذي هو النهر في الجنة وغيره، وذلك فيما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: (هو الخير الذي أعطاه الله إياه) , قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه (¬2) , وهذا جمع من سعيد بن جبير بين ابن عباس وعائشة وما في معناهما مما يدل على تفسير الكوثر بالنهر. قال ابن حجر: هذا تأويل من سعيد بن جبير بين حديثي عائشة وابن عباس، وكأن الناس الذين عناهم أبو بشر وأبو اسحاق وقتادة ونحوهما ممن روى ذلك صريحا أن الكوثر هو النهر (¬3)، على أنه لا تعارض بين تفسير ابن عباس وتفسير عائشة للكوثر – كما ذكر ابن حجر العسقلاني – إذ إن حاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول غيره أن المراد به نهر في الجنة؛ لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير. ولعل سعيدا أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه؛ لأنه يشمل كل خير كثير مفرط؛ من علم وعمل وشرف الدارين، وهذا – وإن كان تأويلا حسنا – لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم من عدة طرق عن عدد من الصحابة، فلا معدل عنه؛ لثبوت ذلك وصحته عن الذي أنزل عليه الوحي (¬4) .... وهناك أقوال لأهل العلم في بيان معنى الكوثر، هي في الواقع لا تخرج عن مضمون ما سبق، قال الشوكاني: (وذهب أكثر المفسرين – كما حكاه الواحدي – إلى أن الكوثر نهر في الجنة، وقيل: هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف، قاله عطاء، وقال عكرمة،: الكوثر النبوة، وقال الحسن: هو القرآن، وقال الحسن بن الفضل: هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع، وقال أبوبكر بن عياش: هو كثرة الأصحاب والأمة، وقال ابن كيسان: هو الإيثار، وقيل: هو الإسلام، وقيل: رفعة الذكر، وقيل: نور القلب، وقيل: الشفاعة، وقيل: المعجزات، وقيل: إجابة الدعوة، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: الصلوات الخمس) (¬5). وذكر السيوطي عن مجاهد رضي الله عنه قال: الكوثر خير الدنيا والآخرة (¬6)، فهذا الأقوال لا ينافي بعضها بعضا؛ إذ أنها تشترك في إثبات أن خيرا خص الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إكراما وتشريفا له، وهذا يصدق على كل ما قيل في ذلك، أما القول الأول؛ وهو أن الكوثر نهر في الجنة، فهذا هو الراجح في بيان معناه والذي تشهد له النصوص كما أشرنا إليه. ¬

(¬1) رواه البخاري (4965). (¬2) رواه البخاري (4966). (¬3) ((فتح الباري)) (8/ 732). (¬4) ((شرح ثلاثيات المسند)) (1/ 535)، و ((فتح الباري)) (8/ 732). (¬5) ((فتح القدير)) (5/ 502 - 503) , ((فتح الباري)) (8/ 732). (¬6) ((الدر المنثور)) (6/ 502 – 503)، وعزاه إلى ابن جرير وابن عساكر.

وأما القول الثاني: وهو أن الكوثر هو نفس الحوض الذي وعد به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو من باب تغليب التسمية باعتبار ما يصب فيه من الكوثر الذي هو داخل الجنة – كما سيأتي في وجه الاتصال بينهما، وأما الأقوال الأخرى فإنها كلها تهدف إلى إثبات خير أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، وكلها تدخل في تعريف من عرف الكوثر بأنه الخير الكثير، وإن كان في تلك الصفات ما يختص به وحده ومنها ما يشركه فيها من الأنبياء والرسل وأتباعهم كالشفاعة مثلا. وفي هذا يقول الخازن في تفسيره: فجميع ما جاء في تفسير الكوثر فقد أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ أعطي النبوة، والكتاب، والحكمة، والعلم، والشفاعة والحوض المورود، والمقام المحمود، وكثرة الأتباع، والإسلام وإظهاره على الأديان كلها والنصر على الأعداء، وكثرة الفتوح في زمنه وبعده إلى يوم القيامة. وأولى الأقاويل في الكوثر الذي عليه جمهور العلماء أنه نهر في الجنة (¬1). وقال النيسابوري: قال أهل المعنى: ولعله إنما سمي كوثرا لأنه أكثر أنهار الجنة ماء أو خيرا، ولأن أنهار الجنة تتفجر منه (¬2). ويقول ابن حجر: والكوثر فوعل من الكثرة، سمي بها لكثرة مائه وآنيته وعظم قدره وخيره (¬3). وقد ذكر النيسابوري إضافة إلى ما سبق من الأقوال قولين يبدو عليهما أثر التكلف؛ مثل القول بأن المراد بالكوثر هم أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أولاد ابنته فاطمة، أو هم علماء أمته (¬4). وهما وإن كانا داخلين في عموم لفظ الكوثر بمعناه اللغوي إلا أنهما لا دليل عليهما. الحياة الآخرة لغالب عواجي - بتصرف- 2/ 1496 ¬

(¬1) ((تفسير الخازن)) (4/ 414). (¬2) ((غرائب القرآن)) (30/ 194). (¬3) ((فتح الباري)) (8/ 831). (¬4) ((غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) (30/ 195).

المبحث الثاني: الأدلة على إثبات الكوثر

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم: جاء في كتاب الله عز وجل الامتنان على نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم بما حباه به ربه من إعطائه الكوثر، فقال عز وجل مبشرا له: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر: 1 - 3]. فهذه الآية الكريمة صريحة في ثبوت الكوثر، لكنها لم تحدد موقعه. ولكن جاءت السنة النبوية فوضحت ذلك، وأنه نهر في الجنة. وهذا ما نتبينه في الأدلة الآتية من السنة النبوية.

المطلب الثاني: الأدلة من السنة:

المطلب الثاني: الأدلة من السنة: أخرج عن أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قال سألتها عن قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1]، فقالت: ((هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم وشاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم)) (¬1). وعن أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: ((أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر)) (¬2) وفي رواية أخرى للبخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا - طينه – أو طيبه – مسك أذفر)) (¬3). وهذه الرؤية حصلت ليلة الإسراء. وعن أنس رضي الله عنه قال: ((بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة (¬4). ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليَّ آنفا (¬5). سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر: 1 - 3] (¬6). ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ (¬7) فقلنا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج (¬8) العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ماتدري ما أحدثت بعدك)) , زاد ابن حجر في حديثه ((بين أظهرنا في المسجد ... وقال: ما أحدث بعدك)) (¬9) والقائل له هذا القول: يحتمل أن يكون من الملائكة ويحتمل أن يكون الله تعالى (¬10). ولعل هذا الحديث إنما يتوجه إلى الحوض الذي هو خارج الجنة، بدليل ما يقع فيه من اختلاج أقوام ومنعهم من الشرب منه؛ إذ لو كان المراد النهر الذي هو داخل الجنة لما حصل المنع والاختلاج، وأما تسميته بالكوثر؛ فإن ذلك يرجع على ملاحظة أن ماء الحوض إنما هو من الكوثر حيث يمد بواسطة ميزابين. ولهذا فإن الداودي استشكل ما جاء من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نهر الكوثر داخل الجنة بقوله عليه الصلاة والسلام: ((بينما أنا أسير في الجنة إذ بنهر ... )) إلخ. الحديث (¬11) وبين ما جاء في طرد أناس واختلاجهم عنه بعدما يراهم ويناديهم ومعلوم أن تلك الرؤية له صلى الله عليه وسلم حصلت في الإسراء، فظن الداودي – كما يذكر ابن حجر – أن هذا يكون في يوم القيامة لأنه قال: إن كان هذا محفوظا دل على أن الحوض الذي يدفع عنه أقوام غير النهر الذي في الجنة، ويكون يراهم وهو داخل الجنة وهم من خارجها، فيناديهم فيصرفون عنه. قال ابن حجر معلقا على هذا القول: (وهو تكلف عجيب يغني عنه أن الحوض الذي هو خارج الجنة يمد من النهر الذي هو داخل الجنة فلا إشكال أصلا) (¬12). وقد جاء التصريح كذلك بأنه نهر في الجنة في رواية الإمام أحمد، وقد ذكرها بما تقدم عند مسلم بزيادة قال: ((هو نهر أعطانيه ربي في الجنة)) الحديث (¬13). ¬

(¬1) رواه البخاري (4965). (¬2) رواه البخاري (4964). (¬3) رواه البخاري (6581)، ومسلم (162). (¬4) أغفى إغفاءة: أي نام (¬5) آنفا: أي قريبا (¬6) شانئك: أي مبغضك، الأبتر: هو المنقطع العقب. (¬7) الكوثر: نهر في الجنة كما فسرة الرسول صلى الله عليه وسلم هنا ووفي بعض الأحاديث أنه الخير الكثير (¬8) يختلج أي ينتزع ويقطع (¬9) رواه مسلم (400). (¬10) ((شرح ثلاثيات المسند)) (1/ 536). (¬11) رواه البخاري (6581)، ومسلم (162). (¬12) ((فتح الباري)) (11/ 473). (¬13) رواه مسلم (400)، وأحمد (3/ 102) (12015).

وقد قال النووي في شرحه للحديث: والكوثر هنا نهر في الجنة – كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في موضع آخر عبارة عن الخير الكثير (¬1). وعن المختار بن فلفل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة بنحو حديث ابن مسهر – أي السابق – غير إنه قال: ((نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة وعليه الحوض))، ولم يذكر آنيته عدد النجوم (¬2). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكوثر نهر من الجنة حافتاه من ذهب، مجراه على الياقوت والدر، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأشد بياضا من الثلج)) (¬3). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ فقال: ذاك نهر أعطانيه الله)) – يعنى في الجنة – ((أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر (¬4). قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلتها أنعم منها)) (¬5). وأخرج الطبري عن أنس أن القائل ((إنها لناعمة)) هو أبو بكر رضي الله عنه (¬6).، وأخرج أيضا رواية أخرى أن القائل هو عمر (¬7). ولا منافاة في هذا فيمكن أن يكون كل منهما قد قال هذا القول، ولامانع من حصول هذا والله أعلم. وفي رواية الإمام أحمد: ((أكلتها أنعم منها)) (¬8) وعند الطبري: ((آكلها أنعم منها)) (¬9). ففي الأولى جاء الوصف لبيان لذة أكلها، وفي الثانية جاء الوصف لبيان نعومة آكلها، وفي كلتا الحالتين فالأمر لا يختلف؛ فإن أكلها ناعم ولذيذ وآكلها كذلك ناعم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، والماء يجري على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب ريحا من المسك، أكوابه مثل نجوم السماء، من شرب شربة لم يظمأ بعدها، أول الناس ورودا علي صعاليك المهاجرين. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الشعثة رؤوسهم والنحيفة وجوهم والدنسة ثيابهم، لا تفتح لهم السدد ولا ينكحون المنعمات والذين يعطون كل الذي عليهم، ولا يأخذون كل الذي لهم)) (¬10) الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1501 ¬

(¬1) ((شرح النووي لمسلم)) (2/ 37). (¬2) رواه مسلم (400). (¬3) رواه الترمذي (3361)، وابن ماجه (3514)، وأحمد (2/ 67) (5355). قال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (7/ 191)، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬4) الجزر: جمع جزور، وهو البعير ذكرا كان أو أنثى، إلا أن اللفظة مؤنثة)) ((جامع الأصول)) (10/ 467). (¬5) رواه الترمذي (2542)، وأحمد (3/ 236) (13505)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 523) (11703)، والحاكم (2/ 585). قال الترمذي: حسن غريب، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 69): رجاله رجال مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 210) كما قال ذلك في المقدمة. (¬6) رواه الطبري في تفسيره (24/ 650). (¬7) رواه الطبري في تفسيره (24/ 650) (¬8) رواه الترمذي (2542) , وأحمد (3/ 220) (13330). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. (¬9) رواه الطبري في تفسيره (24/ 650). (¬10) روى أوله الترمذي (3361)، وابن ماجه (4334)، ورواه أحمد (2/ 132) (6162) بلفظ: ((حوضي كما بين عدن وعمان أبرد من الثلج)) بدلاً من ((الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، والماء يجري على اللؤلؤ, وماؤه أشد بياضا من اللبن))، والحاكم (3/ 625). وقال الترمذي: قال هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 368): رواه أحمد والطبراني من رواية عمرو بن عمر الأحموشي عن المخارق بن أبي المخارق واسم أبيه عبد الله بن جابر وقد ذكرهما ابن حبان في الثقات وشيخ أحمد أبو المغيرة من رجال الصحيح، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

المبحث الثالث: تسمية الكوثر بالحوض والحوض بالكوثر وبيان وجه الاتصال بينهما

المبحث الثالث: تسمية الكوثر بالحوض والحوض بالكوثر وبيان وجه الاتصال بينهما فسر الرسول صلى الله عليه وسلم الكوثر بأنه: نهر في الجنة من أنهارها، وأخبر عن الحوض بما يدل على أنه في الموقف في عرصات القيامة، وأخبر عن وجه الاتصال بينهما بأن ذلك يتم بواسطة ميزابين يجريان من الكوثر إلى الحوض، ولكن وقع خلاف بين العلماء في إطلاق بعض العلماء التسمية على الحوض أنه الكوثر؟ واستدل لإثباته من القرآن الكريم بسورة الكوثر. والجواب عن ذلك: أن تفسير الكوثر بأنه نهر في الجنة هو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدمت أدلة ذلك، وعلى هذا الرأي كثير من العلماء، ومنهم: الإمام الطبري، حيث قال – بعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى الكوثر: أولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال: هو اسم النهر الذي أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة؛ وصفه الله بالكثرة لعظم قدره (¬1).ومنهم الشوكاني، فهو بعد أن أورد بعض الأحاديث التي تثبت الكوثر بأنه نهر في الجنة قال: فهذه الأحاديث تدل على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة فيتعين المصير إليها وعدم التعويل على غيرها (¬2). وليس معنى هذا أن يغفل اتصال الكوثر بالحوض، فإن اتصالهما أمر معلوم كما ورد. وأما الذين أطلقوا تسمية الكوثر على الحوض فهو من باب تغليب الأصل على الفرع ووقد أصبح معلوما أن موقع الحوض غير موقع الكوثر، وتسمية الحوض – بغض النظر عن اتصاله بالكوثر – غير الكوثر، ولكن الإيراد يأتي على من فسر الكوثر بالحوض وحيث غلب الفرع على الأصل، مثلما كان يفسر عطاء الكوثر لمن يسأله عنه بالحوض الذي يكثر الناس عليه، أي حوض نبينا صلى الله عليه وسلم (¬3). وكذلك ما يذكره صاحب النشر الطيب أن الكوثر هو الحوض، وأن هذا هو قول الجمهور، وذلك في قوله: اختلف في تفسير الكوثر على أقوال: الأول أنه الحوض، وصححه ابن جزي وعليه الجمهور، لظاهر هذا الحديث – يعني به حديث أنس في وصف الكوثر والطير التي ترد عليه، ولما في الصحيحين عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة الكوثر: ((أتدرون ما الكوثر؟)) (¬4). إلخ الحديث ومثله ما ذكره عاشور في كتابه: نعيم الجنة من أن الكوثر هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رأي الجمهور (¬5). وأما حجتهم في تسمية الحوض بالكوثر فهو ما أشار إليه ابن حجر من أنهم تمسكوا بحديث المختار بن فلفل. قال ابن حجر: وجاء إطلاق الكوثر على الحوض في حديث المختار بن فلفل (¬6). وقد قدمنا ذكر هذا الحديث وهو واضح في إطلاق الكوثر على الحوض لما فيه من الصفات التي تليق بالحوض، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال هذا لعله غلب تسمية الكوثر على الحوض مع مراعاة الفوارق بينهما. أما من ناحية وجه الاتصال بينهما حقيقة فهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه يشخب فيه ميزابان من الكوثر يمدانه. وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما في حديث ثوبان الذي قدمناه ذكره في باب الحوض – بالرابطة التي تربط بين الحوض والكوثر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من ورق)) (¬7) .. ومثل حديث ثوبان حديث آخر عن ابن مسعود، وفيه التصريح ببيان وجه الاتصال بين الحوض والكوثر أيضا، وهو حديث طويل نأخذ منه قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض)) (¬8) الحديث. الحياة الآخرة لغالب عواجي- 2/ 1509 ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (30/ 323). (¬2) ((فتح القدير)) (5/ 503). (¬3) انظر: ((زاد المسير في علم التفسير)) (9/ 249)، و ((جامع البيان)) (30/ 323). (¬4) ((النشر الطيب)) (2/ 391). (¬5) ((نعيم الجنة)) (ص 48). (¬6) ((فتح الباري)) (11/ 467). (¬7) رواه مسلم (2301). (¬8) رواه أحمد (1/ 398) (3787)، والبزار (4/ 339) (1534)، والطبراني (10/ 80) (10017)، والحاكم (2/ 396). وقال: صحيح الإسناد وعثمان بن عمير هو ابن اليقظان. وقال الذهبى: لا والله فعثمان ضعفه الدارقطنى والباقون ثقات.

الباب الرابع: الجنة والنار

المبحث الأول: تعريف الجنة الجنة هي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكر صفوه كدر، وما حدثنا الله به عنها، وما أخبرنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحير العقل ويذهله، لأن تصور عظمة ذلك النعيم يعجز العقل عن إدراكه واستيعابه. استمع إلى قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) ثم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرؤوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17])) (¬1) وتظهر عظمة النعيم بمقارنته بمتاع الدنيا، فإن متاع الدنيا بجانب نعيم الآخرة تافه حقير، لا يساوي شيئاً. ففي (صحيح البخاري) عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) (¬2) ولذا كان دخول الجنة والنجاة من النار في حكم الله وتقديره هو الفلاح العظيم، والفوز الكبير، والنجاة العظمى قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وقال: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَناتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72]، وقال أيضا: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص117 ¬

(¬1) رواه البخاري (3244)، ومسلم (2824). (¬2) رواه البخاري (3250).

المبحث الثاني: دخول الجنة

تمهيد: لا شك أن سعادة المؤمنين لا تعادلها سعادة عندما يساقون معززين مكرمين زمراً إلى جنات النعيم، حتى إذا ما وصلوا إليها فتحت أبوابها، واستقبلتهم الملائكة الكرام يهنئونهم بسلامة الوصول، بعدما عانوه من الكربات، وشاهدوه من الأهوال وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، أي طابت أعمالكم وأقوالكم وعقائدكم، فأصبحت نفوسكم زاكية، وقلوبكم طاهرة، فبذلك استحققتم الجنات. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص: 119

المطلب الأول: الشفاعة في دخول الجنة

المطلب الأول: الشفاعة في دخول الجنة ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين عندما يطول عليهم الموقف في يوم الجزاء يطلبون من الأنبياء أن يستفتحوا لهم باب الجنة، فكلهم يمتنع ويتأبى، ويقول: لست لها حتى يبلغ الأمر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشفع في ذلك، فيُشفّع، ففي (صحيح مسلم) عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون، حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، لست بصاحب ذلك .. )). الحديث (¬1) وذكر فيه تدافع الأنبياء لها، حتى يأتون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فيؤذن لهم. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص120 ¬

(¬1) رواه مسلم (195).

المطلب الثاني: تهذيب المؤمنين وتنقيتهم قبل الدخول

المطلب الثاني: تهذيب المؤمنين وتنقيتهم قبل الدخول بعد أن يجتاز المؤمنون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون، وذلك بأن يقتص لبعضهم من بعض إذا كانت بينهم مظالم في الدنيا، حتى إذا دخلوا الجنة كانوا أطهاراً أبراراً، ليس لأحد عند الآخر مظلمة، ولا يطلب بعضهم بعضاً بشيء. روى البخاري في (صحيحه) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا)) (¬1) ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو أول من يستفتح الجنة بعد أن يأبى أبو البشر آدم وأولوا العزم من الرسل التعرض لهذه المهمة. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص121 ¬

(¬1) رواه البخاري (6535).

المطلب الثالث: الأوائل في دخول الجنة

المطلب الثالث: الأوائل في دخول الجنة أن أول من يقرع باب الجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من يدخلها من الأمم أمته. وأخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آتي باب الجنة فأستفتح فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك, ولا أقوم لأحد بعدك)) (¬1) وذلك أن قيامه إليه صلى الله عليه وسلم خاصة إظهار المرتبة ومرتبته، ولا يقوم في خدمة أحد بعده, بل خزنة الجنة دونه يقومون في خدمته، وهو كالملك عليهم, وقد أقامه الله في خدمة عبده ورسوله، حتى مشى إليه وفتح الباب. وأخرجه مسلم في صحيحه عنه بلفظ: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)) (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنا أول من يفتح له باب الجنة, إلا أن امرأة تبادرني فأقول لها: ما لك أو ما أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتامي)) (¬3). وفي الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه, فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون, فسمع حديثهم, فقال بعضهم: عجباً إن لله من خلقه خليلاً اتخذ الله إبراهيم خليلاً, وقال آخر: ماذا بأعجب من كلامه موسى كلمه تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه, وقال آخر: آدم اصطفاه الله, فخرج عليهم فسلم وقال: سمعت كلامكم وعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر)) (¬4). قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا فخر) (¬5) أي: ولا فخر أعظم من هذا الفخر. وقال بعضهم: وعندي أن معناه أني لا أقول ذلك افتخاراً واستكباراً بل على سبيل التنويه والتعريف والتذكر بنعم الله تعالى: قال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]. فما قاله صلى الله عليه وسلم من باب التحدث بالنعم. نكتة: لا بأس للعالم أن يذكر ما لديه من العلوم على سبيل التنويه ليقصد ويؤخذ عنه ذلك لا على سبيل الافتخار, فإن ذلك مزلة إلى النار, وبم يعجب العاقل وما لديه من العلم ليس من وسعه وقوته, وإنما هو من فضل مولاه ومنته والله أعلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد بيدي، ومفاتح الجنة يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر, يطوف علي ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون)). رواه الترمذي، والبيهقي واللفظ له (¬6). ¬

(¬1) الحديث رواه مسلم (197)، وأحمد (3/ 136) (12420) ولم أقف عليه من رواية الطبراني. قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) رواه مسلم (197). (¬3) رواه أبو يعلى (12/ 7) (6651)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 315). وقال: إسناده حسن إن شاء الله. (¬4) رواه الترمذي (3616) وقال: غريب، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 127): [فيه] سلمة بن وهرام ضعفه أبو داود وفيه زمعة بن صالح ضعفه أحمد، وضعفه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) ((حادي الأرواح)) (ص: 159 - 160). (¬6) رواه الترمذي (3610)، والدارمي (1/ 39) (48). ولم أقف على الحديث عند البيهقي. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أكثر الناس تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)) (¬1). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن السابقون الأولون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم)) (¬2) أي: لم يسبقونا إلا بهذا القدر. قال في (حادي الأرواح): (معنى (بيد) معنى سوى، وغير، وإلا ونحوها أي من أدوات الاستثناء فمعنى بيد أنهم أي: غير أنهم والله أعلم). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه)) (¬3). وفي الصحيحين عنه مرفوعاً: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا, وأوتيناه من بعدهم)) (¬4). وعند الدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي)) (¬5). والحديث غريب كما نبه عليه الدارقطني، والحاصل أن هذه الأمة المشرفة أسبق الأمم خروجاً من الأرض، وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف, وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم، وإلى الجواز على الصراط، وإلى دخول الجنة, فالجنة محرمة على الأنبياء حتى يدخلها محمد صلى الله عليه وسلم، ومحرمة على الأمم حتى تدخلها أمته, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأخرج أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي، فقال أبو بكر: يا رسول الله وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)) (¬6). وقوله رضي الله عنه: (وددت أني كنت معك) حرص منه على زيادة اليقين, وأن يصير الخبر عياناً لا أنه رضي الله عنه عنده شك في ذلك – معاذ الله – نظيره قول سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260]. ومن المعلوم أنه ليس الخبر كالعيان, وإن جزم بأن المخبر به واقع لا محالة. البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1016 ¬

(¬1) رواه مسلم (196). (¬2) رواه البخاري (896)، ومسلم (855). (¬3) رواه مسلم (855). (¬4) رواه البخاري (896)، ومسلم (855). (¬5) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (5/ 209) وابن أبي حاتم في ((العلل)) (2167). (¬6) رواه أبو داود (4652)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 93) (2594)، والحاكم (3/ 77). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 396) كما قال ذلك في المقدمة.

المطلب الرابع: الذين يدخلون الجنة بغير حساب

المطلب الرابع: الذين يدخلون الجنة بغير حساب أول زمرة تدخل من هذه الأمة الجنة هي القمم الشامخة في الإيمان والتقى والعمل الصالح والاستقامة على الدين الحق، يدخلون الجنة صفاً واحداً، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، صورهم على صورة القمر ليلة البدر. روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الأَلُوَّة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً)) (¬1) وروى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً أو سبعمائة ألف لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر)). (¬2) وقد صح أن الله أعطى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع كل واحد من السبعين هؤلاء سبعين ألفاً، ففي (مسند أحمد) بإسناد صحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أعطيت سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل، فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً)) (¬3) وفي (مسند أحمد) و (سنن الترمذي) و (صحيح ابن حبان) عن أبي أمامة بإسناد صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بلا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون، وثلاث حثيات من حثيات ربي)) (¬4) فذكر هذا الحديث زياد ثلاث حثيات. وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم السبعين ألفاً الأوائل وبيَّن علاماتهم، ففي (صحيح البخاري) عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عُرضت عليّ الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير. قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام إليه عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: اللهم اجعله منهم. ثم قام إليه رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة)) (¬5) ولعل هؤلاء هم الذين سماهم الحق بالمقربين، وهم السابقون، وَالسابِقُونَ السابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون [الواقعة:10 - 12]، وهؤلاء ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13 - 14] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص123 ¬

(¬1) رواه البخاري (3245). (¬2) رواه البخاري (3247). (¬3) رواه أحمد (1/ 6) (22). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1484): صحيح بشواهده. (¬4) رواه الترمذي (2437)، وأحمد (5/ 268) (22357)، وابن حبان (16/ 231). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) رواه البخاري (6541).

المطلب الخامس: الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة

المطلب الخامس: الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة روى مسلم في (صحيحه) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً)). (¬1) وروى الترمذي عن أبي سعيد (¬2)، وأحمد والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة)) (¬3) وقد بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موضع آخر أن هؤلاء لم يكن عندهم شيء يحاسبون عليه، هذا مع جهادهم وفضلهم، أخرج الحاكم في (مستدركه) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: فقراء المهاجرين، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أو قد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟ قال: فيفتح لهم، فيقيلون فيه أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس)) (¬4) وفي (صحيح البخاري) عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار)) (¬5). وأصحاب الجد هم الأغنياء من المسلمين. وقد وقع في الأحاديث السابقة أن الفقراء يسبقون الأغنياء بأربعين خريفاً، وجاء في حديث آخر بخمسمائة عام، ووجه التوفيق بين الحديثين أن الفقراء مختلفو الحال، وكذلك الأغنياء – كما يقول القرطبي-. فالفقراء متفاوتون في قوة إيمانهم وتقدمهم، والأغنياء كذلك، فإذا كان الحساب باعتبار أول الفقراء دخولاً الجنة وآخر الأغنياء دخولاً الجنة فتكون المدة خمسمائة عام، أما إذا نظرت إلى آخر الفقراء دخولاً الجنة وأول الأغنياء دخولاً الجنة فتكون المدة أربعين خريفاً، باعتبار أول الفقراء وآخر الأغنياء والله أعلم". الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص126 ¬

(¬1) رواه مسلم (2979). (¬2) رواه الترمذي (2351). وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال ابن القيم في ((عدة الصابرين)) (1/ 311): حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) رواه الترمذي (2354) بلفظ: (المسلمين) بدلاً من (المهاجرين)، وأحمد (2/ 296) (7933) بلفظ: (المؤمنين) بدلاً من (المهاجرين)، وابن حبان (2/ 451) بلفظ: (المؤمنين) بدلاً من (المهاجرين). قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. (¬4) رواه الحاكم (2/ 80). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (853): إنما هو على شرط مسلم فقط. (¬5) رواه البخاري (5196).

المطلب السادس: دخول عصاة المؤمنين الجنة

المطلب السادس: دخول عصاة المؤمنين الجنة إخراجهم من النار وإدخالهم الجنة بالشفاعة روى مسلم في (صحيحه) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحماً، أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل)) (¬1). ولمسلم من حديث جابر بن عبدالله يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أقواماً يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم، حتى يدخلون الجنة)) (¬2). وهؤلاء الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة يسميهم أهل الجنة بالجهنميين، ففي (صحيح البخاري) عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج قوم من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين)) (¬3). وفي (الصحيح) أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج من النار بالشفاعة كأنهم الثعارير، قلت: وما الثعارير؟ قال: الضغابيس)) (¬4) وروى البخاري عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج قوم من النار بعدما مسهم منها سفع، فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة الجهنميين)) (¬5) وفي (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة الطويل في وصف الآخرة: ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا (احترقوا)، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون منه، كما تنبت الحبة في حميل السيل)) (¬6) وقد ورد في أكثر من حديث أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار أو نصف دينار أو مثقال ذرة من إيمان، بل يخرج أقواماً لم يعملوا خيرا ً قط، ففي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الله أهل الجنة الجنة، يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار، ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه حبة من خردل من إيمان فأخرجوه)) (¬7) وفي حديث جابر بن عبدالله في ورود النار: ((ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير مثقال شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء، حتى ينبتوا نبات الشيء في حميل السيل. ويذهب حراقه ثم يسأل حتى يجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها)) (¬8). وفي حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن الذرة)) (¬9) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر – ص: 129 ¬

(¬1) رواه مسلم (185). (¬2) رواه مسلم (191). (¬3) رواه البخاري (6566). (¬4) رواه البخاري (6558). (¬5) رواه البخاري (6559). (¬6) رواه البخاري (6573). (¬7) رواه البخاري (6560). (¬8) رواه مسلم (191). (¬9) رواه البخاري (44)، ومسلم (193).

المطلب السابع: آخر من يدخل الجنة

المطلب السابع: آخر من يدخل الجنة حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قصة آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة، وما جرى من حوار بينه وبين ربه، وما أعطاه الله من الكرامة العظيمة التي لم يُصدّق أن الله أكرمه بها لعظمها، وقد جمع ابن الأثير روايات هذا الحديث في (جامع الأصول)، ومنه نقلنا هذه الأحاديث: 1 - عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا، وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي – أو أتضحك بي – وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)) أخرجه البخاري ومسلم (¬1). ولمسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار: رجل يخرج منها زحفا، فيقال له: انطلق فادخل الجنة، قال: فيذهب فيدخل الجنة، فيجد الناس قد أخذوا المنازل، فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟ فيقول: نعم، فيقال له: تمنَّ، فيتمنى فيقال له: لك الذي تمنيت، وعشرة أضعاف الدنيا، فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك حتى بدت نواجذه)) (¬2). وفي رواية الترمذي مثل هذه التي لمسلم (¬3). 2 - عن عبدالله بن مسعود رضي الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول: يا رب، أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا، يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها، قال: وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من الشجرة لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه تعالى يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة، وهي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى، يا رب لا أسألك غيرها – وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول: أي رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك، أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: من ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر)) أخرجه مسلم (¬4) وهذا الحديث هكذا أخرجه الحميدي وحده في أفراد مسلم، والذي قبله في المتفق عليه، وقال: إنما أفردناه للزيادة التي فيه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أدنى أهل الجنة منزلة: رجل صرف الله وجهه عن النار قِبل الجنة، ومثل له شجرة ذات ظل، فقال: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة لأكون في ظلها وساق الحديث بنحو حديث ابن مسعود، ولم يذكر: فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك؟. . إلى آخر الحديث)). وزاد فيه: ((ويذكره الله، سل كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأماني، قال الله: هو لك وعشرة أمثاله، قال: ثم يدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، قال: فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت)) أخرجه مسلم هكذا عقيب حديث ابن مسعود. (¬5) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص135 ¬

(¬1) رواه البخاري (6571)، ومسلم (186). (¬2) رواه مسلم (186). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه الترمذي (2595). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬4) رواه مسلم (187). (¬5) رواه مسلم (188).

المطلب الثامن: الذين دخلوا الجنة قبل يوم القيامة

المطلب الثامن: الذين دخلوا الجنة قبل يوم القيامة أول من دخل الجنة من البشر هو أبو البشر آدم وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظالِمِينَ [البقرة:35]، وقال: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالِمِينَ [الأعراف: 19]، ولكن آدم عصى ربه بأكله من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها فأهبطه الله من الجنة إلى دار الشقاء: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه: 115 - 123]. وقد رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجنة ففي (صحيح البخاري) عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)). (¬1) ومن الذين يدخلون الجنة قبل يوم القيامة الشهداء، ففي (صحيح مسلم) عن مسروق قال: سألنا عبدالله بن مسعود عن هذه الآية: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]. قال: ((إنا قد سألنا عن ذلك فقال:" أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا: قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)). (¬2) ومن مات عرض عليه مقعده من الجنة والنار بالغداة والعشي، ففي (صحيح مسلم) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص138 ¬

(¬1) رواه البخاري (3241). (¬2) رواه مسلم (1887). (¬3) رواه مسلم (2866). والحديث رواه البخاري (1379).

المبحث الثالث: أسماء الجنة

المبحث الثالث: أسماء الجنة قال في (حادي الأرواح): لها عدة أسماء باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار الذات، فهي مترادفة من هذا الوجه، وهكذا أسماء الرب تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء اليوم الآخر، وأسماء النار. الاسم الأول: الجنة، وهو العام المتناول لتلك الدار جملة، وما اشتملت عليه في أنواع النعيم، وأصل اشتقاقه من الستر والتغطية، ومنه الجنين لاستتاره في البطن, والجان لاستتاره عن عيون الإنس، والمجن، السترة ووقاية الوجه، والمجنون لاستتار عقله، وتواره عنه. والجان وهي الحية الصغيرة الدقيقة، ومنه سمي البستان جنة؛ لأنه يستر ما داخله من الأشجار، ولا يطلق هذا الاسم إلا على موضع كثير الشجر مختلف الأنواع، والجنة بالضم ما يستجن أي: يوقى به من نحو ترس، وبالكسر الجن كما في قوله تعالى مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: 6]. الثاني: دار السلام وقد سماه الله بهذا الاسم في قوله تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ [الأنعام: 127] وقوله: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ [يونس: 25]، وهي جديرة بهذا الاسم؛ لسلامتها من كل بلية وآفة، فإن الله هو السلام، وهي داره، فمن أسمائه الحسنى السلام. فالله سبحانه سلم هذه الدار، وسلم أهلها من كل نكبة وداهية، وتحيتهم فيها سلام، والرب تعالى سلم عليهم من فوقهم، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم، وكلامهم كله فيها سلام، ولا يسمعون فيها لغوا إلا سلاماً. وأما قوله تعالى: وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 90 - 91] فحقق في (حادي الأرواح) أن المعنى: سلام لك أيها الراحل في الدنيا, سلموا من الدنيا وأنكادها, والنار وعذابها, فبشر بالسلامة عند ارتحاله من الدنيا وقدومه على الله تعالى، كما يبشر الملك روحه عند أخذها بقوله: ((أبشري بروح وريحان, ورب غير غضبان)) (¬1). وهذا أول البشرى التي للمؤمنين في الآخرة. الثالث: دار الخلد، وسميت بذلك لأن أهلها لا يظعنون عنها، واشتقاقه من الخلد وهو دوام البقاء. تقول: خلد الرجل يخلد خلوداً وأخلده الله سبحانه وتعالى إخلاداً. وخلده تخليداً أبقاه. وأخلدت إلى فلان: ركنت إليه. وأخلد بالمكان أقام به، وأما الخلد بالتحريك: فالبال. يقال: سنح في خلدي أي: خطر في روعي وبالي وقلبي، والخلد أيضاً: ضرب من الجرادين أعمى. والله أعلم. الرابع: دار المقامة: قال تعالى حكاية عن أهلها: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ [فاطر: 34 - 35] قال مقاتل: أنزلنا دار الخلود أقاموا فيها أبداً لا يموتون ولا يتحولون. قال أهل اللغة: المقامة والإقامة بمعنى. الخامس: جنة المأوى، وهو مفعل من آوى يأوي أي انضم إلى المكان. قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40 - 41] وقال في النار: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 39] وقال تعالى: عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 14 - 15]. ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (3456)، وأحمد (2/ 364) (8754). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن جرير في ((مسند عمر)) (2/ 503): إسناده صحيح، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 333): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال ابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (29/ 604): إسناده جيد.

قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة). وقال مقاتل: (هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء). وقال كعب: (جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء). وقالت عائشة رضي الله عنها: (هي جنة من الجنات). قال المحقق: (والصحيح أنه اسم من أسماء الجنة). السادس: جنات عدن قيل: هو اسم لجنة من جملة الجنات. قال المحقق: (والصحيح أنه اسم لجملة الجنات، فكلها جنات عدن). قال تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم: 61] وقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا [فاطر: 33] وقال تعالى: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف: 12]. والاشتقاق يدل على أن جميعها جنات عدن، فإنه من الإقامة والدوام. يقال عدن بالمكان: إذا أقام به، وعدنت البلد: توطنته، وعدنت الإبل بمكان كذا: لزمته فلم تبرح منه. قال الجوهري: (ومنه جنات عدن أي: جنات إقامة. وثم قول بأن جنة عدن اسم لموضع من الجنة مخصوص) (¬1). وهو جنة من جملة الجنان، ... ولا مانع من كونه اسم لموضع مخصوص، ويطلق على الكل أنه عدن أي: أقام, وخلد, واستمر، وأما أنه جنة مخصوصة من جملة الجنان فهذا أظهر من الشمس الصابحة لورود الأحاديث الثابتة بذلك، ... ما أخرج الطبراني في المعجم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل الله تعالى في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل، فينظر الله في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثم ينظر في الثانية في جنة عدن وهي مسكنه الذي يسكن لا يكون معه فيها أحد إلا الأنبياء, والشهداء, والصديقون، وفيها ما لم يره أحد, ولا خطر على قلب بشر, ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له؟ ألا سائل يسألني فأعطيه؟ ألا داع يدعوني فأستجيب له؟ حتى يطلع الفجر)) (¬2). قال تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء: 78] فيشهده الله. وأخرج الدارمي عن ابن عمر موقوفاً: (خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وعدن، وآدم ثم قال لسائر الخلق: كن فكان) (¬3). وأخرج الدارمي عن ميسرة: (إن الله لم يمس شيئاً من خلقه بيده غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده) (¬4). وأخرج عن كعب قال: (لم يخلق الله بيده غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده، ثم قال لها: تكلمي. قالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1]) (¬5). وذكر الحاكم عن مجاهد: (أن الله تعالى غرس جنات عدن بيده فلما تكاملت أغلقت فهي تفتح كل سحر، فينظر الله إليها فيقول: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (¬6). ¬

(¬1) ((حادي الأرواح)) (ص: 138 - 143). (¬2) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 279) (8635). قال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 98): ألفاظ منكرة لم يأت بها غير زيادة بن محمد الأنصاري. وقد انفرد بحديث الرقية: ربنا الله الذي في السماء، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 157): فيه زيادة بن محمد الأنصاري وهو منكر الحديث. (¬3) رواه الدارمي في ((نقضه على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله عز وجل من التوحيد)) (1/ 261)، والذهبي في ((العلو)) (82) وقال: إسناده جيد، وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (53): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬4) رواه الدارمي في نقضه (1/ 263). (¬5) رواه الدارمي في نقضه (1/ 265). (¬6) أبو نعيم في ((صفة الجنة)) (18).

وأخرج ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: ((خلق الله جنة عدن بيده لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء, ملاطها المسك, وحصباؤها اللؤلؤ, وحشيشها الزعفران. ثم قال لها: انطقي. قالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9])) (¬1) فهذه الجنة من الجنان كآدم في نوع الحيوان بجامع أن كلاً منها خلقه الله بيده جل شأنه وتعالى سلطانه. قال في (حادي الأرواح): (تأمل هذه العناية كيف خص الجنة التي غرسها بيديه لمن خلقه، ولأفضل ذريته اعتناء, وتشريفاً, وإظهاراً لفضل ما خلقه بيده على غيره. فهذا كله يدل على أن جنة عدن اسم لموضع من الجنان مخصوص، ويطلق على جملة الجنات، إما حقيقة لوجود الحقيقة وهي الإقامة والدوام والاستمرار، وإما مجازاً من باب إطلاق البعض على الكل. هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم) (¬2). السابع من أسماء الجنة: دار الحيوان قال تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت: 64] والمراد الجنة. قال أهل التفسير: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني: الجنة لَهِيَ الْحَيَوَانُ هي: دار الحياة التي لا موت فيها). قال أهل اللغة: (الحيوان بمعنى: الحياة). قال أبو عبيدة وابن قتيبة: (الحياة: الحيوان)، ... قال أبو علي: (يعني: إنها مصادر، فالحياة فعلة كالجبلة، والحيوان كالنزوان والغليان، والحي كالعي). وقال أبو زيد: (الحيوان ما فيه روح، والموتان والموات ما لا روح فيه, والصواب: أن الحيوان يقع على ضربين: أحدهما: مصدر كما حكاه أبو عبيدة، والثاني: وصف كما حكاه أبو زيد). فعلى قول أبي زيد يكون المعنى أنها الدار التي لا تفنى, ولا تنقطع, ولا تبيد كما تفنى الأحياء في هذه الدار, فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الذي يفنى ويموت والأول أظهر والله أعلم. الثامن: الفردوس. قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 10 - 11] وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107]، ... قال كعب: (هو البستان الذي فيه الأعناب). وقال الليث: (الفردوس جنة ذات كروم يقال: كرم مفردس أي: معرش). وقال الضحاك: (واختاره المبرد أنها الجنة الملتفة بالأشجار). وقيل: (إنه ليس بعربي، وإنما هو رومي ومعناه بالعربية: البستان) قاله الزجاج وقال: (حقيقته البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين). قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: وإن ثواب الله لكل مخلد ... جنان من الفردوس فيها يخلد التاسع: جنات النعيم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ [لقمان: 8] وهو اسم جامع لجميع الجنات لما اشتملت عليه من النعيم المقيم. العاشر: المقام الأمين. قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان: 51] فالمقام موضع الإقامة والأمين الأمن من كل سوء ومكروه. الحادي عشر والثاني عشر: مقعد الصدق وقدم الصدق ¬

(¬1) رواه ابن أبي الدنيا في ((صفة الجنة)) (18)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 283). وقال الألباني في ((ضعيف الترغيب والترهيب)) (2192): ضعيف جدا. (¬2) ((حادي الأرواح)) (ص: 75).

قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر: 54 - 55] فسمى الجنة مقعد صدق لحصول ما يراد من المقعد الحسن كما يقال: مودة صادقة إذا كانت ثابتة وموضوع هذه اللفظة في كلامهم الصحة والكمال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة)) (¬1). ومنه الصدق في الحديث، والصدق في العمل، والصديق الذي يصدق قوله بالعمل. وفسر قدم الصدق بالجنة، وفسر بالأعمال التي تنال بها الجنة، وفسر بالسابقة التي سبقت لهم من الله، وفسر بالرسول الذي على يده وهدايته نالوا ذلك. قال المحقق: (والتحقيق أن الجميع حق, فإنهم سبقت لهم من الله السابقة بالأسباب التي قدرها لهم على يد رسوله, وادخر لهم جزاءها يوم القيامة, ولسان الصدق هو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال, وجميل الطرائق, وفي كونه لسان صدق إشارة إلى مطابقته للواقع، وأنه ثناء بحق لا بباطل. ومدخل الصدق، ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامناً على الله وهو دخوله وخروجه بالله ولله, وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد, فإنه لا يزال داخلاً في أمر وخارجاً من آخر, فمتى كان دخوله لله وبالله وخروجه كذلك كان قد أدخل مدخل صدق وأخرج مخرج صدق. والله أعلم) (¬2). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني - بتصرف – 3/ 998 ¬

(¬1) رواه البخاري (6094)، ومسلم (2607). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) ((حادي الأرواح)) (143 - 147).

المبحث الرابع: صفة الجنة

المطلب الأول: نعيم الجنة قال الله عز وجل: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 25] وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء: 57]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 45 - 48]، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر: 34 - 35]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان: 52 - 57]، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة: 10 - 24]، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 27 - 38]، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الغاشية: 8 - 11].

أخرج أبو بكر البزار من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله تبارك وتعالى الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وملاطها المسك, وقال لها: تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك)) (¬1) وهذا يروى موقوفاً عن أبي سعيد قال: (خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرسها وقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فدخلتها الملائكة فقالت: طوبى لك منزل الملوك) (¬2). ومن حديث مسلم عن أبي سعيد الخدري: ((أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال (درمكة) بيضاء مسك خالص)) (¬3). وعن أنس بن مالك عن النبي عليه السلام قال: ((أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك)) (¬4) الجنابذ: القباب واحدها جنبذة. وذكر مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, مصداق ذلك في كتاب الله عز وجل فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17])) (¬5). وذكر مسلم أيضاً من حديث سهل بن (سعد) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)) (¬6) قال أبو حازم: فحدثت به النعمان بن أبي عياش (الرزقي) فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب ذو الجواد المضمر السريع مائة عام لا يقطعها)) (¬7). وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, اقرؤا إن شئتم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة: 30] ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، واقرؤوا إن شئتم: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ [آل عمران: 185])) (¬8). وأما ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة شجرة يستظل الراكب في ظلها مائة سنة واقرؤوا إن شئتم: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ , ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب)) (¬9). ¬

(¬1) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (10/ 732) وقال: رواه البزار مرفوعا وموقوفا. . ورجال الموقوف رجال الصحيح وأبو سعيد لا يقول هذا إلا بتوقيف. (¬2) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 99). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 732): رواه البزار مرفوعا وموقوفا والطبراني في الأوسط إلا أنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله خلق جنة عدن بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة)) والباقي بنحوه ورجال الموقوف رجال الصحيح وأبو سعيد لا يقول هذا إلا بتوقيف. (¬3) رواه مسلم (2928) (¬4) رواه البخاري (3342)، ومسلم (163). (¬5) رواه مسلم (2824). (¬6) رواه مسلم (2827). (¬7) رواه مسلم (2828). (¬8) ((سنن الترمذي)) (3197) وقال: حسن صحيح، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. وروى البخاري (3244) ومسلم (2824)، الجزء الأول من الحديث. (¬9) رواه البخاري (3252، 3253).

وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب)) (¬1) .... وذكر ابن المبارك عن سليم بن عامر قال: ((كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الله بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية, وما كنت أدري في الجنة شجرة تؤذي صاحبها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما هي؟ قال: السدر فإن له شوكاً مؤذياً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس يقول: سِدْرٍ مَّخْضُودٍ خضد الله شوكه, فجعل مكان كل ذي شوكة ثمرة, فإنها لتنبت تمراً تفتق التمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام، ما فيها لون يشبه الآخر)) (¬2) ويروى ثمراً بالثاء المثلثة فيها كلها. وقال عليه السلام: وذكر سدرة المنتهى ((وإذا ثمرها كالقلال)) (¬3) ذكره مسلم بن الحجاج رحمه الله. وذكر مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) (¬4). وذكر مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون (أهل الغرف) من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغائر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده, رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) (¬5). وذكر مسلم أيضاً عن محمد بن سيرين قال: (أما تفاخروا وأما تذاكروا, الرجال أكثر في الجنة أم النساء) فقال أبو هريرة ألم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر, والتي بعدها على أضوأ كوكب دري في السماء, لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان, يرى مخ سوقها من وراء اللحم وما في الجنة أعزب)) (¬6). وذكر الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر, والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب في السماء, لكل واحد منهم زوجتان, على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها)) (¬7). وذكر مسلم بن الحجاج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر, والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة, لا يبولون, ولا يتغوطون, ولا يتمخطون, ولا يتفلون, أمشاطهم الذهب, ورشحهم المسك, ومجامرهم الأَلُوَّة، وأزواجهم الحور العين, أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء)) (¬8). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2525)، وابن حبان (16/ 425). وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (263). (¬3) رواه مسلم (162). (¬4) رواه مسلم (2829). (¬5) رواه مسلم (2831). (¬6) رواه مسلم (2734). (¬7) ((سنن الترمذي)) (2522) وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). كما رواه مسلم (2834) بلفظ آخر. (¬8) رواه مسلم (2834).

وذكر مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر, ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة, ثم هم بعد ذلك منازل لا يتغوطون, ولا يبولون, ولا يتمخطون, ولا يبصقون, أمشاطهم الذهب, ومجامرهم الأَلُوَّة, ورشحهم المسك, أخلاقهم على خلق رجل واحد, على طول أبيهم آدم عليه السلام ستون ذراعاً في السماء)) (¬1) ويروى: على خلق. وذكر أيضاً من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر, لا يبصقون فيها, ولا يتمخطون فيها, ولا يتغوطون فيها, آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة, ومجامرهم من الأَلُوَّة, ورشحهم المسك, ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن, لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد, يسبحون الله بكرة وعشياً)) (¬2). وذكر من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأكل أهل الجنة فيها ويشربون, ولا يتغوطون, ولا يتمخطون, ولا يبولون, ولكن طعامهم ذلك (جشاء) كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس)) (¬3). وذكر النسائي من حديث زيد بن أرقم قال: ((جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم أتزعمون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ فقال: إي والذي نفسي بيده إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل, والشرب, والجماع, والشهوة. قال الرجل: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة, وليس في الجنة أذى, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حاجة أحد منهم رشح يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر)) (¬4). وذكر الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: ذلك نهر أعطانيه الله، يعني في الجنة, أشد بياضاً من اللبن, وأحلى من العسل, فيه طير أعناقها كأعناق الجزر، قال عمر: إن هذه لناعمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آكلها أنعم منها)) (¬5) .... وذكر الترمذي أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً, وكذلك أهل النار)) (¬6). كذا قال ثلاثين، والأول أحسن إسناداً. وذكر مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس, لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه)) (¬7). وذكر مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري, وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً, وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً, وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً, فذلك قوله عز وجل: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) (¬8). العاقبة أو الموت والحشر والنشور لعبد الحق الأشبيلي الآذى– ص: 311 ¬

(¬1) رواه مسلم (2834). (¬2) رواه مسلم (2834). (¬3) رواه مسلم (2835). (¬4) رواه أحمد (4/ 371) (19333)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 454) (11478). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 381): رواته محتج بهم ي الصحيح، وصحح إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 305). (¬5) رواه الترمذي (2542)، وأحمد (3/ 236) (13505)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 523) (11703)، والحاكم (2/ 585). قال الترمذي: حسن غريب، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 69): رجاله رجال مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 210) كما قال ذلك في المقدمة. (¬6) رواه الترمذي (2562) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين. وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 543): غريب. وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 74): [فيه] رشدين سيئ الحفظ. (¬7) رواه مسلم (2836). (¬8) رواه مسلم (2837).

المطلب الثاني: مفتاح الجنة

المطلب الثاني: مفتاح الجنة واعلم أن الباب لابد له من مفتاح، وأن مفتاح الجنة هي كلمة الإخلاص، وهي شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعاً: ((مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله)) (¬1). قال الحافظ ابن رجب في كتابه (التوحيد): إسناده منقطع وسنده صحيح. البخاري عن وهب بن منبه: (أنه قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن ليس من مفتاح إلا له أسنان فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح) (¬2). ......... وفي المسند عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟ قلت: بلى. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬3). قال في حادي الأرواح: (ولقد جعل الله لكل مطلوب مفتاحاً يفتح به، فجعل مفتاح الصلاة الطهارة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((مفتاح الصلاة الطهور)) (¬4)، ومفتاح الحج الإحرام، ومفتاح البر الصدق، ومفتاح الجنة التوحيد، ومفتاح العلم حسن السؤال، وحسن الإصغاء، ومفتاح النصر والظفر الصبر، ومفتاح المزيد الشكر، ومفتاح الولاية المحبة، ومفتاح المحبة الذكر، ومفتاح الفلاح التقوى، ومفتاح التوفيق الرغبة والرهبة، ومفتاح الإجابة الدعاء، ومفتاح الإيمان التفكر فيما دعا الله عباده إلى التفكر فيه، ومفتاح الدخول على الله سلامة القلب، وسلامته له والإخلاص له في الحب والبغض والفعل والترك، ومفتاح حياة القلب تدبر القرآن, والتضرع بالأسحار, وترك الذنوب والأوزار، ومفتاح حصول الرحمة الإحساس في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده، ومفتاح حصول الرزق السعي مع الاستغفار والتقوى، ومفتاح العز طاعة الله ورسوله، ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار الآخرة، ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل، وهذا باب عظيم من أنفع أبواب العلم لمعرفة مفاتيح الخير والشر، فإن الله جعل للخير وللشر مفتاحاً وباباً يدخل فيه إليه، كما جعل الشرك والكبر والإعراض عما بعث الله به رسوله والغفلة عن ذكره والقيام بحقه مفتاحاً للنار، والخمر مفتاح كل إثم، والغناء مفتاح الزنا، وإطلاق النظرة في الصور مفتاح الطلب، والعشق والكسل والراحة مفتاح الخيبة والحرمان، والمعاصي مفتاح الكفر، والكذب مفتاح النفاق، والشح والحرص مفتاح البخل، وقطيعة الرحم وأخذ المال من غير حله والإعراض عما جاء به الرسول مفتاح كل بدعة وضلالة, فسبحان مسبب الأسباب والله الموفق) وإلى المفتاح أشار في النونية بقوله (¬5): هذا وفتح الباب ليس بممكن ... إلا بمفتاح على أسنان مفتاحه بشهادة الإخلاص والتوحيد ... تلك شهادة الإيمان أسنانه الأعمال وهي شرائع الإسلام ... والمفتاح بالأسنان لا تلغين هذا المثال فكم به ... من حل إشكال لذي العرفان @ البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – بتصرف – 3/ 962 ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 242) (22155). بلفظ: ((مفاتيح)) بدلاً من: ((مفتاح)). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 21): فيه انقطاع بين شهر ومعاذ وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل الحجاز ضعيفة وهذا منها، وقال في (10/ 85): رواه أحمد ورجاله وثقوا إلا أن شهرا لم يسمع من معاذ، وقال محمد جار الله الصعدي في ((النوافح العطرة)) (335): رجاله موثقون. (¬2) رواه البخاري معلقاً قبل حديث (1237)، ووصله أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 66). وانظر: ((تغليق التعليق)) لابن حجر (2/ 453 - 454). (¬3) رواه أحمد (5/ 228) (22049)، ورواه النسائي (6/ 97)، والطبراني (20/ 174) (17128) بلفظ: ((ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة))، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 366). وقال: إسناده صحيح إن شاء الله، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 100): رواه أحمد والطبراني ... رجالهما رجال الصحيح غير عطاء بن السائب وقد حدث عنه حماد بن سلمة قبل الاختلاط، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (1581): صحيح لغيره. (¬4) رواه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وأحمد (1/ 123) (1006). من حديث علي رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (2/ 184)، وقال ابن العربي في (عارضة الأحوذي)) (1/ 36): رواه أبو داود بسند صحيح. (¬5) ((شرح ابن عيسى)) (2/ 474).

المطلب الثالث: أبواب الجنة

المطلب الثالث: أبواب الجنة قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73]، وقال في صفة النار: حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر: 71]، بغير واو, فزعمت طائفة أن هذه الواو واو الثمانية دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية بخلاف أبواب النار فإنها سبعة, وذكره الإمام ناصر السنة ابن الجوزي في (التبصرة) وانتصر له. ... الواو عاطفة على قوله تعالى: جَاؤُوهَا وأن الجواب محذوف. ... (وهو اختيار أبي عبيدة، والمبرد، والزجاج، وغيرهم، قال المبرد: (وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم). قال أبو الفتح ابن جني: (وأصحابنا يدفعون زيادة الواو، ولا يجيزونه، ويرون أن الجواب محذوف للعلم به). فإن قيل: ما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة، وذكره في آية أهل النار؟ فالجواب: إن هذا أبلغ في الموضعين, فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة, حتى إذا جاءوها فتحت في وجوههم ففجئهم العذاب بغتة, فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة، فإن هذا أن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه، فإنها دار الإهانة والخزي، فلم يستأذن لهم في دخولها، وأما الجنة فدار كرامته تعالى، ومحل خواصه وأوليائه, فإذا انتهوا إليها صادفوها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم، ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله فكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم، وسيدهم، وأفضلهم فيقول: ((أنا لها)) (¬1). فيأتي تحت العرش، ويخر ساجداً لربه فيدعه ما شاء أن يدعه, ثم يأذن له في رفع رأسه، وأن يسأل حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه، ويفتحها تعظيماً لخطرها, وإظهاراً لمنزلة رسوله وكرامته عليه وإن مثل هذه الدار التي هي دار ملك الملوك إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن ينتهي إليها وما ركبه من الأطباق طبقاً فوق طبق) (¬2). قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ [الانشقاق: 19]: (يعني الشدائد والأهوال والموت، ثم البعث، ثم العرض). وقال عكرمة (¬3): (حالاً بعد حال رضيعاً، ثم فطيماً، ثم غلاماً، ثم شاباً، ثم شيخاً هذا معنى الآية الكريمة). وقيل غير ذلك من الشدائد، والمصائب شدة بعد أخرى حتى يأذن الله سبحانه لنبيه وخاتم رسله أن يشفع إليه في فتحها لهم, وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة، وحصول الفرح والسرور لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله غالية، ومنزلة عالية بين الناس, وبينها من العقاب، والمفاوز، والأخطار ما لا تنال إلا به, فما لمن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار, فليعد عنها إلى ما هو أولى به وقد خلق لها وهي له ... ¬

(¬1) جزء من حديث رواه مسلم (193). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 82 - 83). (¬3) ذكره البغوي في ((تفسيره)) (8/ 376).

تدبر قوله تعالى: زُمَرًا وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها: طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا أي: سلامتكم ودخولها يطيبكم، فإن الله حرمها إلا على الطيبين فيبشرونهم بالسلامة, والطيب, والدخول, والخلود، وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحالة من الهم, والغم, والخزي, والحزن فتحت لهم أبوابها, فوقفوا عليها وزيدوا على ما هم عليه من الخزي والنكال توبيخ خزنتها وتبكيتهم بقولهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا فاعترفوا وقَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71]. وكلمة العذاب قوله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13]. وحقت بمعنى وجبت، فيبشرونهم حينئذ بدخولها والخلود فيها, وأنها بئس المأوى لهم، وتأمل قول خزنة الجنة لأهليها: ادخلوها وقول خزنة النار لأهلها: ادخلو أبواب جهنم تجد تحته سراً لطيفاً, ومعنى بديعاً ظريفاً، وهو أنها لما كانت دار العقوبة فأبوابها أفظع كل شيء, وأشده حراً, وأعظمه غماً, يستقبل الداخل في العذاب ما هو أشد منها, ويدنو من الغم والخزي بدخول الأبواب فقيل: ادخلوا أبوابها صغاراً لهم, وإذلالاً وخزياً ثم قيل لهم: لا يقتصر بكم على مجرد ذلك, ولكن وراء ذلك الخلود في النار. وأما الجنة فهي دار الكرامة, والمنزل الذي أعد الله لأوليائه, فيبشرون من أول وهلة بالدخول إلى المقاعد والمنازل والخلود فيها، وتأمل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ [ص: 50 - 51] كيف تجد تحته معنى بديعاً، وهو أنهم إذا دخلوا لم تغلق أبوابها عليهم, بل تبقى مفتحة كما هي خلاف النار, فإذا دخلوها أغلقت عليهم، كما قال تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ [الهمزة: 8] أي: مطبقة, ومنه سمي الباب وصيداً, وهي مؤصدة في عمد ممدة, قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب. قال مقاتل: (يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب, ولا يخرج منها غم, ولا (يدخل فيها روح) ولا يدخل فيها نسيم آخر الأبد، وأيضاً فإن في فتح الأبواب حيث شاؤوا, ودخول الملائكة عليهم من كل باب في كل وقت, بالتحف والألطاف من ربهم, وأيضاً إشارة إلى أنها دار من لا يحتاج إلى غلق الأبواب كما في الدنيا ... وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في الجنة ثمانية أبواب: باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون)) (¬1) وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله ما على أحد من ضرورة من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وإني لأرجو أن تكون منهم)) (¬2) قال القرطبي: (قيل الدعاء من جميعها دعاء تنويه وإكرام ثم يدخل من الباب الذي غلب عليه العمل) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (1896)، ومسلم (1152). (¬2) رواه البخاري (3666) , ومسلم (1027). (¬3) انظر: ((التذكرة)) (ص: 536).

وأخرج مسلم عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ – أو فيسبغ – الوضوء ثم يقول: أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم اجعلني من التوابين. إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)) (¬1). زاد الترمذي: ((واجعلني من المتطهرين)) (¬2). زاد الإمام أحمد وأبو داود: ((ثم رفع نظره إلى السماء فقال: اللهم اجعلني ... )) (¬3) الحديث. وعند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه يرفعه: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال ثلاث مرات: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إلا فتح له ثمانية أبواب الجنة من أيها شاء دخل)) (¬4). وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد، وابن ماجه عن عتبة بن عبد الله السلمي مرفوعاً: ((ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل)) (¬5). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – بتصرف – 3/ 947 ¬

(¬1) رواه مسلم (234). (¬2) رواه الترمذي (55). وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (123) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال أحمد شاكر في ((شرح سنن الترمذي)) (1/ 78): إسناده صحيح مستقيم، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه أبو داود (170)، وأحمد (1/ 19) (121). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 240): حسن من هذا الوجه، ولولا الرجل المبهم لكان على شرط البخاري. (¬4) رواه أحمد (3/ 265) (13818). قال النووي في ((المجموع)) (1/ 457): إسناده ضعيف، وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 242): غريب. (¬5) رواه ابن ماجه (1313)، وأحمد (4/ 184) (17681). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 118): إسناده حسن، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

المطلب الرابع: درجات الجنة

المطلب الرابع: درجات الجنة قال الله تعالى: وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 95 - 96]. قال ابن محيريز: (هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين عاماً). وأخرج ابن المبارك عن الضحاك في قوله تعالى: لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ [الأنفال: 4] وقال بعضهم: أفضل من بعض فيرى الذي عقد فضل به فضله, ولا يرى الذي أسفل منه أنه فضل عليه أحد من الناس قلت: وهذا من تمام نعم الله على عبده لأن الأنفس مطبوعة على التألم بمشاهدة من هو فوقها إلا من وفقه الله، وهنا نكتة عنَّ لي أن أنبه عليها وهي: أن العاقل ينبغي له أن يتألم بسبق غيره له في الطاعات ووجوه الخير فيبادر إلى فعل مثل ما فعل ذلك المبادر إذا أعجبتك خلالاً منه ... فكنه تكن مثل من يعجبك فليس على الجود والمكرمات ... إذا جئتها حاجب يحجبك والله الموفق ... قوله تعالى: فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ الآيتين أوقع التفضل أولاً بدرجة ثم أوقعه ثانياً بدرجات فقيل: الأول بين القاعد, المعذور, والمجاهد. والثاني: بين القاعد بلا عذر والمجاهد. وقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران: 163] وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إلى قوله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 3 - 4]. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) (¬1). ولفظ البخاري في ((الأفق)) وهو أبين قال في ((حادي الأرواح)): (الغابر هو: الذاهب الماضي الذي قد تدلى للغروب وفي التمثيل به دون الكوكب – المسامت للرأس وهو أعلى فائدتان أحدهما: بعده عن العيون. والثانية: أن الجنة درجات بعضها فوق بعض وأعلى من بعض وإن لم تسامت العليا السفلى كالبساتين الممتدة من رأس الجبل إلى ذيله) (¬2). انتهى. وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة كما تراءون الكوكب في أفق السماء)) (¬3) وأخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون أو ترون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع في تفاضل الدرجات. قالوا: يا رسول الله أولئك النبيون قال: بلى، والذي نفسي بيده وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) (¬4). قال في (حادي الأرواح): ورجال هذا الإسناد احتج بهم البخاري في صحيحه. وفي هذا الحديث: (الغارب) وفي حديث أبي سعيد: (الغابر) وقوله: (الطالع) صفة للكوكب وصفة بكونه غارباً وبكونه طالعاً. ¬

(¬1) رواه البخاري (3256)، ومسلم (2831). (¬2) ((حادي الأرواح)) (ص: 54). (¬3) رواه البخاري (6555)، ومسلم (2830). (¬4) رواه أحمد (2/ 339) (8452)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 370). وقال: رواته محتج بهم في الصحيح، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3708).

وقد خرج هذا المعنى في الحديث الذي رواه ابن المبارك عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة ليتراءون في الغرف كما يرى الكوكب الشرقي والكوكب الغربي في الأفق في تفاضل الدرجات. قالوا: يا رسول الله أولئك النبيون قال: بلى والذي نفسي بيده وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) (¬1). قال: وهذا على شرط البخاري أيضاً. وفي المسند عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المتحابين لترى غرفهم في الجنة كالكوكب الطالع الشرقي والغربي فيقال: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله عز وجل)) (¬2). وفي المسند من حديث أبي سعيد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الجنة مائة درجة ولو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن وسعتهم)) وفيه عنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد. فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه)) (¬3). قال المحقق: وهذا صريح في أن درج الجنة تزيد على مائة. وأما حديث البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أن الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة)) (¬4). فالجواب عنه: أنه يحتمل أن تكون هذه المائة درجة من جملة الدرج أو تكون نهايتها هذه المائة، وفي ضمن كل درجة درج دونها. ... والثاني أوجه؛ لأن لفظ حديث البخاري معرفة الطرفين فيفيد الحصر على رأي البيانيين، وإن استوجه المحقق الأول، واستدل له بما خرجه الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى هؤلاء الصلوات الخمس، وصام شهر رمضان كان حقاً على الله أن يغفر له هاجر أو قعد حيث ولدته أمه. قلت: يا رسول الله ألا أخرج فأؤذن الناس؟ قال: ذر الناس يعملون, فإن في الجنة مائة درجة بين كل درجتين منهما مثل ما بين السماء والأرض، وأعلى درجة منها الفردوس، وعليها يكون العرش، وهي أوسط شيء في الجنة، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)) (¬5) فرواه بلفظة (في). ¬

(¬1) رواه ابن المبارك في مسنده (116). (¬2) رواه أحمد (3/ 87) (11847). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 425): رجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده السيوطي في ((البدور السافرة)) (404). (¬3) رواه أحمد (3/ 29) (11254). ورواه الترمذي (2532)، وأبو يعلى (2/ 530) (1398). قال الترمذي: غريب، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)). (¬4) رواه البخاري (7423). (¬5) رواه الترمذي (2530)، وابن ماجه (3512)، وأحمد (5/ 240) (22140). والحديث صححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي))، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: حديث صحيح وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح غير أنه منقطع.

وأخرج أيضاً عن عبادة بن الصامت مرفوعاً: ((في الجنة مائة درجة)) (¬1) فذكر نحوه وعنده أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في الجنة مائة درجة)) (¬2) وذكر نحوه وقال حديث حسن غريب، وفيه عن أبي سعيد مرفوعاً: ((إن في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم)) (¬3) ورواه الإمام أحمد بدون لفظة (في) كما تقدم فرويت هذه الأحاديث بلفظة في وبدونها. فإن كان المحفوظ ثبوتها فهي من جملة درجتها، وإن كان المحفوظ سقوطها فهي الدرج الكبار المتضمنة للدرج الصغار، ولا تناقض بين تقدير ما بين الدرجتين بالمائة وتقديرها بالخمسمائة لاختلاف السير في السرعة والبطء، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا تقريباً للإفهام يدل له حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: ((مائة درجة في الجنة ما بين الدرجتين ما بين السماء والأرض، وأبعدهما بين السماء والأرض. قلت: يا رسول الله: لمن؟ قال: لمجاهدين في سبيل الله)) (¬4). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 962 وهذه الجنات متفاضلة، ففيها جنات عُلَى كما قال سبحانه: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى [طه: 75]. وفيها درجات دون التي فوقها كما قال سبحانه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ إلى أن قال: وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن: 46 - 62]. والجنات بعضها فوق بعض كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)) (¬5). فقوله: ((من فوقهم)) يدل على ما ذكر، وهذه الجنات متباعدات كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله, ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة)) (¬6). فهذا تباعد ما بين درجات هذه المائة التي أعدت للمجاهدين، ودرجات الجنة كثيرة لم يرد حصرها في عدد, فهذه مائة أعدت للمجاهدين, وقال صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا, فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)) (¬7) وهذا يدل على أن درج الجنة لا حصر لها. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2531)، وأحمد (5/ 316) (22747)، والحاكم (1/ 153)، والضياء (8/ 328). قال الضياء: إسناده صحيح، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 55): إسناده صحيح لا غبار عليه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه الترمذي (2529). وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه الترمذي (2532)، وأحمد (3/ 29) (11254). قال الترمذي: حديث غريب، وصححه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (14/ 125). (¬4) رواه مسلم (1884)، والنسائي (6/ 19)، وأحمد (3/ 14) (11117). (¬5) رواه البخاري (3256)، ومسلم (2831). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (7423). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) رواه أبو داود (1464)، والترمذي (2914)، وأحمد (2/ 192) (6799)، وابن حبان (3/ 43) (766)، والحاكم (1/ 739). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (901) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 372) كما قال ذلك في المقدمة.

والجنات على كثرتها وعدم إحصائها إلا أنها ترجع إلى نوعين: جنتان ذهبيتان بكل ما اشتملتا عليه, وهما المخصوصتان بالمقربين، وجنتان فضيتان بكل ما اشتملتا عليه وهما لأصحاب اليمين (¬1) قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ إلى أن قال: وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن: 46 - 62]. قال صلى الله عليه وسلم: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما)) (¬2). والمؤمنون متفاضلون بتفاضل درجاتها، وأعلاهم وأكملهم درجة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، كما في الحديث المذكور قريباً، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) (¬3). أي: نعم هي منازل الأنبياء بإيجاب الله تعالى لهم ذلك, ولكن قد يتفضل الله تعالى على غيرهم بالوصول إلى تلك الدرجة (¬4). وأفضل الأنبياء درجة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول. ثم صلوا عليّ. فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً. ثم سلوا الله لي الوسيلة. فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا هو)) (¬5). فهذه منزلة في الجنة خاصة به صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم أول من يقرع باب الجنة فقد قال: ((أنا أول من يقرع باب الجنة)) (¬6) فيكون أول من يفتح له، قال صلى الله عليه وسلم: ((آتي باب الجنة يوم القيامة. فأستفتح. فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)) (¬7). ¬

(¬1) انظر: ((حادي الأرواح)) (ص 77)، و ((شرح النونية للهراس)) (2/ 356 - 358). (¬2) رواه البخاري (4878)، ومسلم (180). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (3256)، ومسلم (2831). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) انظر: ((فتح الباري)) (6/ 328). (¬5) رواه مسلم (384). من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما. (¬6) رواه مسلم (196). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬7) رواه مسلم (197). من حديث أنس رضي الله عنه.

ثم يتفاضل المؤمنون بعد الأنبياء في الجنات، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة)) (¬1). ولعل المراد بأول زمرة السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الأحاديث المذكورة فيهم أنهم يتقدمون الأمة, وأن من صفاتهم أنهم زمرة واحدة على صورة القمر. وأقل أهل الجنة منزلة المخرجون من النار بعد العقوبة، قال صلى الله عليه وسلم: ((يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع, فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة: الجهنميين)) (¬2). وهؤلاء يتفاضلون في خروجهم من النار، يخرج بعضهم قبل بعض على منازلهم في الإيمان كما في حديث الرؤية الطويل الذي فيه ((أن المجاوزين الصراط إذا رأوا أنهم قد نجو وبقي إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا)) (¬3). وآخر أهل النار خروجاً منها ما جاء فيه: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربي وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها)) وجاء في آخر الرواية: ((فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)) (¬4). وهذا هو أدنى أهل الجنة منزلة كما في حديث: ((سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي رب, كيف وقد نزل الناس منازلهم, وأخذوا أخذتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله, ومثله, ومثله, ومثله. فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك. فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت, غرست كرامتهم بيدي, وختمت عليها. فلم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر. قال ومصداقه في كتاب الله عز وجل: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17])) (¬5). وحظ الرجال من الجنة أعظم من حظ النساء ففي الحديث: ((أريت النار فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع, ورأيت أكثر أهلها النساء)) (¬6). وقال صلى الله عليه وسلم للنساء: ((تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم)) (¬7). وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل أهل الجنة, فهم أول من يدخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة. ونحن أول من يدخل الجنة)) (¬8). وهم أكثر أهل الجنة, إذ هم نصف أهل الجنة. ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟. قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: نعم، فقال: ((والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر)) (¬9). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص 406 ¬

(¬1) رواه البخاري (3254)، ومسلم (2834). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6559). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (7439). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6571)، ومسلم (186). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (189). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (1052). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬7) رواه مسلم (885). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. (¬8) رواه مسلم (855). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬9) رواه البخاري (6528)، ومسلم (221). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

المطلب الخامس: تربة الجنة

المطلب الخامس: تربة الجنة أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قلنا: يا رسول الله إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا، وشممنا النساء والأولاد قال: لو تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم. قال: قلنا: يا رسول الله, حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران, من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه, ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام، وتفتح لها أبواب السموات، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) (¬1). قوله: ((وملاطها المسك)) قال في النهاية: (الملاط الطين الذي يجعل بين ساقي البناء يملط به الحائط أي: يخلط. ... وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) (¬2) وهو قطعة من حديث المعراج. قوله: ((جنابذ اللؤلؤ)) بالجيم والنون المفتوحين، ثم ألف، ثم ذال معجمة القباب, وفي (مشارق الأنوار) للقاضي عياض ما نصه: وفي الحديث: ((وإذا فيها جنابذ اللؤلؤ)) كذا في كتاب مسلم، وفي البخاري في كتاب الأنبياء (¬3) من رواية غير المروزي فسروه بالقباب, واحدتها جنبذة بالضم، والجنبذة ما ارتفع من البناء وجاء في البخاري في الصلاة ((حبائل اللؤلؤ)) , وزعم قوم أنه تصحيف من جنابذ وقال: في حرف الجاء مع الباء ((فيها حبائل اللؤلؤ)) كذا لجميعهم في البخاري وفي مسلم ((جنابذ اللؤلؤ)) وهو الصواب وقد جاء في حديث آخر ((حافاته قباب اللؤلؤ)) والجنابذ جمع جنبذة وهي القبة وقال من ذهب إلى صحة الرواية: إن الحبائل القلائد العقود، أو يكون من حبال الرمل أي: فيها اللؤلؤ كحبال الرمل أي: وهو ما طال منه وضخم، قال: أو من الحبلة وهو ضرب من الحلي معروف. قال ابن قرقول في (استدراكاته) على القاضي عياض: وهذا كله تخييل ضعيف، بل هو لا شك تصحيف من الكاتب، والحبائل إنما تكون جمع حبالة، أو حبيلة. انتهى. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد عن تربة الجنة فقال: درمكة بيضاء مسك خالص، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق)) (¬4). ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 304) (8030). وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (15/ 189)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: صحيح بطرقه وشواهده. (¬2) رواه البخاري (3342)، ومسلم (163). (¬3) ((البخاري)) (3342). (¬4) رواه مسلم (2928).

قال سفيان بن عيينة، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد قد غلب أصحابك. قال: وبأي شيء غلبوا؟ قال: سألهم اليهود: كم عدد خزنة النار؟ فقالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون فقالوا: حتى نسأل نبينا، ولكن هم أعداء الله سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة، علي بأعداء الله فإني سائلهم عن تربة الجنة، وإنها درمكة. فلما أن جاءوا قالوا: يا أبا القاسم، كم عدة خزنة أهل النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه كلتيهما: هكذا وهكذا وقبض واحدة أي: تسعة عشر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تربة الجنة؟ فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: خبزة يا أبا القاسم فقال صلى الله عليه وسلم: الخبزة من الدرمك)) (¬1). فحصل من هذه الأحاديث ثلاث صفات في تربتها: قيل: زعفران، أو مسك، أو خبزة. قال في (حادي الأرواح): لا تعارض بينها لإمكان الجمع قال: ذهبت طائفة من السلف إلى أن تربتها متضمنة للنوعين: المسك، والزعفران. قال: ويحتمل معنين آخرين أحدهما: أن يكون التراب من: زعفران فإذا عجن بالماء صار مسكاً، والطين يسمى تراباً ويدل على هذا قوله (ملاطها المسك) والملاط الطين. وفي بعض الروايات: ((ترابها الزعفران وطينها المسك)) (¬2) فلما كانت تربتها طيبة وماؤها طيب وانضم أحدهما إلى الآخر حدث لهما طيب آخر فصار مسكاً. الثاني: أن يكون زعفراناً باعتبار لونه، مسكاً باعتبار رائحته، وهذا من أحسن شيء يكون البهجة والإشراق لون الزعفران ورائحة المسك. قال: وكذلك تشبيهها بالدرمك، وهو الخبز الصافي الذي يضرب لونه إلى صفرة مع لينها ونعومتها، قال: وهذا معنى ما ذكره سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أرض الجنة من فضة، وترابها مسك، فاللون في البياض لون الفضة، والرائحة رائحة المسك) (¬3). وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أرض الجنة بيضاء عرصتها صخور الكافور، وقد أحاط به المسك مثل كثبات الرمل، فيها أنهار مطردة، فيجتمع فيها أهل الجنة أدناهم وآخرهم فيتعارفون، فيبعث الله ريح الرحمة، فتهيج عليهم ريح المسك)) الحديث (¬4). وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قلت ليلة أسري بي: يا جبريل إنهم سيسألوني عن الجنة؟ قال: فأخبرهم: أنها من درة بيضاء، وأن أرضها عقيان)) (¬5). قال في (حادي الأرواح): (العقيان من الذهب فإن كان (ابن علاثة حفظه) فهي أرض الجنتين الذهبيتين، ويكون جبريل أخبره بأعلى الجنتين والله أعلم) (¬6). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1036 ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 361) (14926). قال الهيثمى (10/ 412): إسناده حسن، وحسنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند. (¬2) رواه أبو نعيم في ((صفة الجنة)) (154). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه أبو نعيم في ((صفة الجنة)) (155). (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في ((صفة الجنة)) (26)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 373). وقال: [لا يتطرق إليه احتمال التحسين]، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (6902): ضعيف جدا أو موضوع. (¬5) رواه أبو نعيم في ((صفة الجنة)) (145). ولم أقف عليه من رواية أبو الشيخ. (¬6) ((حادي الأرواح)) (ص: 199).

المطلب السادس: أنهار الجنة

المطلب السادس: أنهار الجنة أخبرنا الله تبارك وتعالى بأن الجنة تجري من تحتها الأنهار، وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] وأحيانا يقول: تجري تحتهم الأنهار: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَناتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:31]. وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن أنهار الجنة حديثا واضحاً بينا، ففي إسرائه صلوات الله وسلامه عليه: ((رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان: فنهران في الجنة وأما الظاهران: فالنيل والفرات)) (¬1) وفي (صحيح البخاري) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رفعت لي السدرة، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأما الظاهران: فالنيل والفرات، وأما الباطنان: فنهران في الجنة)). (¬2) وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة)). (¬3) (ولعل المراد من كون هذه الأنهار من الجنة أن أصلها منها كما أن أصل الإنسان من الجنة، فلا ينافي الحديث ما هو معلوم مشاهد من أن هذه الأنهار تنبع من منابعها المعروفة في الأرض، فإذا لم يكن هذا هو المعنى أو ما يشبهه، فالحديث من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها، والتسليم للمخبر عنها). ¬

(¬1) رواه مسلم (164). (¬2) رواه البخاري (3887). (¬3) رواه مسلم (2839).

وقال القاري: " إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنة، لما فيها من العذوبة والهضم، ولتضمنها البركة الإلهية، وتشرفها بورود الأنبياء إليها وشربهم منها ". ومن أنهار الجنة الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: إِنا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وقد رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحدثنا عنه، ففي (صحيح البخاري) عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينما أنا أسير في الجنة، إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طيبه- أو طينه – مسك أذفر)) شك هُدْبة. (¬1) وقد فسر ابن عباس الكوثر بالخير الكثير الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بشر لسعيد بن جبير راوي هذا التفسير عن ابن عباس: إن أناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه (¬2) وقد جمع الحافظ بن كثير الأحاديث التي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها عن الكوثر، فمن هذه الأحاديث ما رواه مسلم في (صحيحه) عن أنس، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت عليه إِنا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] قال: ((أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هو نهر وعدنيه الله عز وجل، عليه خير كثير)). (¬3) وساق حديث أنس عند أحمد في (مسنده) عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أعطيت الكوثر، فإذا نهر يجري على ظهر الأرض، حافتاه قباب اللؤلؤ، ليس مسقوفاً، فضربت بيدي إلى تربته، فإذا تربته مسك أذفر، وحصباؤه اللؤلؤ)). (¬4) وفي رواية أخرى في (المسند) عن أنس يرفعه: ((هو نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه مسك، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، ترده طيور أعناقها مثل أعناق الجزور)). (¬5) وقد ساق الحافظ ابن كثير روايات أخرى كثيرة في الموضوع فارجع إليه إن شئت المزيد. (¬6) وأنهار الجنة ليست ماء فحسب، بل منها الماء، ومنها اللبن، ومنها الخمر، ومنها العسل المصفى. قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن ماء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [محمد:15]. وفي (سنن الترمذي) بإسناد صحيح عن حكيم بن معاوية (وهو جد بهز بن حكيم) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة بحر العسل، وبحر الخمر، وبحر اللبن، وبحر الماء، ثم تنشق الأنهار بعد)) (¬7) فأنهار الجنة تنشق من تلك البحار التي ذكرها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نهر يسمى بارق يكون على باب الجنة، ويكون الشهداء في البرزخ عند هذا النهر، ففي (مسند أحمد)، و (معجم الطبراني)، و (مستدرك الحاكم) عن ابن عباس بإسناد حسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً)). (¬8) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص165 ¬

(¬1) رواه البخاري (6581). (¬2) رواه البخاري (4966). (¬3) رواه مسلم (400). (¬4) رواه أحمد (3/ 152) (12564). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2513) وشعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬5) رواه أحمد (3/ 236) (13500). وقال شعيب الأرناؤوط محققه: حديث صحيح وهذا إسناد حسن محمد بن عبدالله بن مسلم الزهري -وإن روى له الشيخان- فيه كلام ينزله عن رتبة الصحيح وباقي رجال الإسناد ثقات. (¬6) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 499 - 500). (¬7) رواه الترمذي (2571) , وأحمد (5/ 5) (20064) , وابن حبان (16/ 424) , والطبراني (19/ 424) , قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وقال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (2/ 253): [فيه] بهز بن حكيم أرجو أنه لا بأس به, وقال أبو نعيم في ((الحلية)) (6/ 221): غريب عن الجريري تفرد به عن حكيم, وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬8) رواه أحمد (1/ 266) (2390)، والطبراني في ((الأوسط)) (1/ 45)، والحاكم (2/ 84). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في تفسيره (2/ 142): إسناده جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 297): إسناده رجاله ثقات. وقال ابن حجر في ((أسئلة وأجوبة)) (32): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (3742): حسن.

المطلب السابع: عيون الجنة

المطلب السابع: عيون الجنة في الجنة عيون كثيرة مختلفة الطعوم والمشارب إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَناتٍ وَعُيُونٍ [الحجر:45]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات:41]، وقال في وصف الجنتين اللتين أعدهما لمن خاف ربه فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50]. وقال في وصف الجنتين اللتين دونهما فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضاخَتَانِ [الرحمن: 66]. وفي الجنة عينان يشرب المقربون ماءها صرفاً غير مخلوط، ويشرب منهما الأبرار الشراب مخلوطاً ممزوجاً بغيره. العين الأولى: عين الكافور قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 5 - 6]. فقد أخبر أن الأبرار يشربون شرابهم ممزوجاً من عين الكافور، بينما عباد الله يشربونها خالصاً. العين الثانية: عين التسنيم، قال تعالىٍ: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:22 - 28]. ومن عيون الجنة عين تسمى السلسبيل، قال تعالى: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً [الإنسان:17 - 18]. ولعل هذه هي العين الأولى نفسها. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص169

المطلب الثامن: قصور الجنة وخيامها

المطلب الثامن: قصور الجنة وخيامها يبني الله لأهل الجنة في الجنة مساكن طيبة حسنة كما قال تعالى: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَناتِ عَدْنٍ [التوبة:72]. وقد سمى الله في مواضع من كتابه هذه المساكن بالغرفات، قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]، وقال في جزاء عباد الرحمن: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا [الفرقان:75]، وقال تعالى واصفاً هذه الغرفات: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:20]. قال ابن كثير: أخبر عز وجل عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة وهي القصور أي الشاهقة، مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ [الزمر: 20]، طباق فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات. وقد وصف لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه القصور، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في (مسنده) وابن حبان في (صحيحه) عن أبي مالك الأشعري والترمذي عن عليٍّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)) (¬1) وقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن في الجنة خياماً، قال تعالى: حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72]. وهذه الخيام خيام عجيبة، فهي من لؤلؤ، بل هي من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، وفي بعض الروايات عرضها ستون ميلاً ففي (صحيح البخاري) عن عبدالله بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ثلاثون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون))، قال أبو عبد الصمد والحارث عن أبي عمران: ((ستون ميلاً)) (¬2) ورواه مسلم عن عبدالله بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلاً ٍ، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضاً)). (¬3) ¬

(¬1) رواه الترمذي (2527). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال: هذا حديث غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن. ورواه أحمد (5/ 343) (22956)، وابن حبان (2/ 262). من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2123). (¬2) رواه البخاري (3243). (¬3) رواه مسلم (2838).

وفي رواية عند مسلم: ((في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن)) (¬1) وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صفات قصور بعض أزواجه وبعض أصحابه، ففي (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي هريرة، قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) (¬2) وفي (صحيح البخاري) ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك، فقال عمر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله: أعليك أغار؟)) (¬3) وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالطريق الذي يحصل به المؤمن على مزيد من البيوت في الجنة، فالذي يبني لله مسجداً يبني الله له بيتاً في الجنة، ففي (مسند أحمد) عن ابن عباس بإسناد صحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بني لله مسجداً، ولو كمفحص قطاة لبيضها بني الله له بيتاً في الجنة)). (¬4) وفي (مسند أحمد) و (صحيحي البخاري ومسلم) و (سنن الترمذي) و (سنن ابن ماجه) عن عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بني مسجداً، يبتغي به وجه الله، بني الله له مثله في الجنة)). (¬5) وفي (صحيح مسلم) و (مسند أحمد) و (سنن أبي داود)، و (سنن النسائي)، و (سنن ابن ماجه) عن أم حبيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً، بني الله له بيتاً في الجنة)) (¬6) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص171 ¬

(¬1) رواه مسلم (2838). (¬2) رواه البخاري (3820)، ومسلم (2432). (¬3) رواه البخاري (3679)، ومسلم (2394). (¬4) رواه أحمد (1/ 241) (2157). وقال محققه شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6128). (¬5) رواه البخاري (450)، ومسلم (533)، والترمذي (318)، وابن ماجه (736)، وأحمد (1/ 61) (434). (¬6) رواه مسلم (728)، وأبو داود (1250)، والنسائي (3/ 261)، وابن ماجه (1141)، وأحمد (6/ 326) (26811).

المطلب التاسع: الثامن: عيم الجنةنور الجنة

المطلب التاسع: الثامن: عيم الجنةنور الجنة قال القرطبي: (قال العلماء: ليس في الجنة ليل ونهار، وإنما هم في نور دائم أبداً، وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، ذكره أبو الفرج بن الجوزي. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم:62 - 63] " أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في ٍأوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار). ويقول ابن تيمية في هذا الموضوع: (والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قِبل العرش). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص174

المطلب العاشر: ريح الجنة

المطلب العاشر: ريح الجنة أما ريحها فأخرج الطبراني عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد في مسيرة مائة عام)) (¬1). وأخرجه البخاري في صحيحه بلفظ: ((ليوجد من مسيرة أربعين عاماً)) (¬2). وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((ألا من قتل نفساً معاهداً له ذمة الله، وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)) (¬3). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال في (حادي الأرواح): (قال محمد بن عبد الواحد: وإسناده عندي على شرط الصحيح) (¬4). ... وقد رواه الطبراني عنه مرفوعاً ((من قتل نفساً معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة، وإن ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام)) (¬5) وأخرج عن أبي بكرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام)) (¬6). قال في (حادي الأرواح): (وهذه الألفاظ لا تعارض بينها بوجه، وقد أخرجا في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: ((لم يشهد عمي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا قال: فشق عليه قال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه, فإن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع قال: فهاب أن يقول غيرها. قال: فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أين؟ فقال: واها لريح الجنة أجده دون أحد قال: فقاتلهم حتى قتل قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة، وطعنة، ورمية فقالت أخته: عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه)) (¬7) (¬8). قال في (حادي الأرواح) (¬9): (وريح الجنة نوعان: ريح يوجد في الدنيا تشمه الأرواح أحياناً لا يدركه العباد، وريح يدرك بحاسة الشم للأبدان كما تشم روائح الأزهار، وغيرها، وهذا يشترك أهل الجنة في إدراكه في الآخرة من قرب وبعد، وأما في الدنيا فقد يدركه من شاء الله من أنبيائه، ورسله، وهذا الذي وجده أنس بن النضر رضي الله عنه يجوز أن يكون من هذا، وأن يكون من الأول). انتهى. ... الظاهر أنه من الثاني؛ لأنه قوله: (لريح الجنة أجده دون أحد، يشير إلى هذا)، فتأمل. ¬

(¬1) رواه النسائي (8/ 25) بلفظ: ((أربعين عاما)) بدلاً من ((مائة عام))، والحاكم (2/ 137)، والبيهقي (8/ 133) (16260) بلفظ ((ليوجد من كذا وكذا)) بدلاً من ((ليوجد في مسيرة مائة عام)). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬2) رواه البخاري (6914). (¬3) رواه الترمذي (1403). وقال: حسن صحيح، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (598) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) ((حادي الأرواح)) (ص: 108). (¬5) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 206) (663). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 297): رواه الطبراني في ((الأوسط)) عن شيخه أحمد بن القاسم ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح غير معلل بن نفيل وهو ثقة، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2356): إسناده على شرط الصحيح. (¬6) رواه الطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (6/ 296) وقال: فيه محمد بن عبد الرحمن العلاف ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. (¬7) رواه البخاري (2805)، ومسلم (1903). (¬8) ((حادي الأرواح)) (ص: 109). (¬9) ((حادي الأرواح)) (ص: 230).

وأخرج (أبو نعيم) عن أبي هريرة مرفوعاً: ((رائحة الجنة توجد من مسيرة خمسمائة عام)) (¬1). وأخرج الطبراني عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام والله لا يجدها عاق، ولا قاطع رحم، ولا شيخ زان، ولا جار إزاره خيلاء)) (¬2). وأخرج أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((من ادعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام)) (¬3). أخرج الطبراني، وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: ((تراح رائحة الجنة من مسيرة خمسمائة عام، ولا يجد ريحها منان بعمله، ولا عاق، ولا مدمن خمر)) (¬4). وأخرج أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) (¬5). ... والجمع بين هذه الأحاديث أنه يختلف ذلك باختلاف الشام، وهذا الذي أومأ إليه المحقق في (حادي الأرواح) (¬6) حيث قال: (وهذه الألفاظ لا تعارض بينها والله الموفق). قال في (حادي الأرواح) (¬7): (وأشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار آثاراً من آثار الجنة، وأنموذجاً منها من الرائحة الطيبة، واللذات المشتهاه، والمناظر البهية، والفاكهة الحسنة، والنعيم والسرور، وقرة العين). وأخرج أبو نعيم عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: ((يقول الله عز وجل للجنة: طيبي لأهلك فتزداد طيباً. فذلك البرد الذي يجده الناس بالسحر من ذلك)) (¬8)، كما جعل سبحانه نار الدنيا وآلامها وأحزانها مذكرة بنار الآخرة قال تعالى في هذه النار: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا [الواقعة: 73]. وأخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أن: ((شدة الحر والبرد من أنفاس جهنم)) (¬9). فلابد أن يشهد عباده أنفاس جنته، وما يذكرهم بها، والله المستعان. البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1075 ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (3/ 307) وفي ((صفة الجنة)) (2/ 42)، والحديث أصله في مسلم (2128). (¬2) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 18) (5664). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 128): فيه محمد بن كثير الكوفي وهو ضعيف جدا، وقال في (8/ 151): [فيه] محمد بن كثير عن جابر الجعفي وكلاهما ضعيف جدا. (¬3) رواه ابن ماجه (517). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 72): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)): ضعيف والمحفوظ في هذا الحديث سبعين عاما، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (787): جيد. (¬4) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5/ 159) (4938)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 307). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 151): فيه الربيع بن بدر وهو متروك. (¬5) رواه أبو داود (3664)، وابن ماجه (206)، وأحمد (2/ 338) (8438)، والحاكم (1/ 160). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح سنده ثقات على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (1/ 23). (¬6) ((حادي الأرواح)) (ص: 229). (¬7) ((حادي الأرواح)) (ص: 231). (¬8) رواه أبو نعيم في ((صفة الجنة)) (20). (¬9) رواه البخاري (533 - 534)، من حديث أبي هريرة وابن عمر. ومسلم (615)، (617).

المطلب الحادي عشر: أشجار الجنة وثمارها

الفرع الأول: كثرة أشجار الجنة وثمارها أشجار الجنة كثيرة طيبة متنوعة، وقد أخبرنا الحق أن في الجنة أشجار العنب والنخل والرمان، كما فيها أشجار السدر والطلح، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ:31 - 32]، فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمانٌ [الرحمن:68]، وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ [الواقعة:27 - 32]، والسدر هو شجر النبق الشائك، ولكنه في الجنة مخضود شوكه، أي منزوع. والطلح: شجر من شجر الحجاز من نوع العضاه فيه شوك، ولكنه في الجنة منضود معد للتناول بلا كد ولا مشقة. وهذا الذي ذكره القرآن من أشجار الجنان شيء قليل مما تحويه تلك الجنان، ولذا قال الحق: فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن: 52] ولكثرتها فإن أهلها يدعون منها بما يريدون، ويتخيرون منها ما يشتهون مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ [ص:51] وَفَاكِهَةٍ مِّما يَتَخَيَّرُونَ [الواقعة:20] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِما يَشْتَهُونَ [المرسلات:41 - 42]، وبالجملة فإن في الجنة من أنواع الثمار والنعيم كل ما تشتهيه النفوس وتلذه العيون يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]. وقال ابن كثير كلاماً لطيفاً دلل فيه على عظيم ثمار الجنة، إذ استنتج أن الله نبه بالقليل على الكثير، والهين على العظيم عندما ذكر السدر والطلح، قال: (وإذا كان السدر الذي في الدنيا لا يثمر إلا ثمرة ضعيفة وهو النبق، وشوكه كثير، والطلح الذي لا يراد منه في الدنيا إلا الظل، يكونان في الجنة في غاية من كثرة الثمار وحسنها، حتى إن الثمرة الواحدة منها تتفتق عن سبعين نوعاً من الطعوم، والألوان، التي يشبه بعضها بعضاً، فما ظنك بثمار الأشجار، التي تكون في الدنيا حسنة الثمار، كالتفاح، والنخل، والعنب، وغير ذلك؟ وما ظنك بأنواع الرياحين، والأزاهير؟ وبالجملة فإن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله منها من فضله). وأشجار الجنة دائمة العطاء، فهي ليست كأشجار الدنيا تعطي في وقت دون وقت، وفصل دون فصل، بل هي دائمة الإثمار والظلال مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النارُ [الرعد: 35] وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:32 - 33] أي دائمة مستمرة، وهي مع دوامها لا يمنع عنها أهل الجنة. ومن لطائف ما يجده أهل الجنة عندما تأتيهم ثمارها أنهم يجدونها تتشابه في المظهر، ولكنها تختلف في المخبر، كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]. وأشجار الجنة ذات فروع وأغصان باسقة نامية وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:46 - 48]، وهي شديدة الخضرة: وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:62 - 64]، ولا توصف الجنة بأنها مدهامة إلا إذا كانت أشجارها مائلة إلى السواد من شدة خضرتها، واشتباك أشجارها. أما ثمار تلك الأشجار فإنها قريبة دانية مذللة ينالها أهل الجنة بيسر وسهولة، مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54]، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا [الإنسان:14]. أما ظلها فكما قال تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً [النساء:57]، ووَظِلٍّ مَّمْدُودٍ [الواقعة:30]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات:41] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص176

الفرع الثاني: وصف بعض شجر الجنة

الفرع الثاني: وصف بعض شجر الجنة حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض شجر الجنة حديثاً عجباً ينبيك عن خلق بديع هائل يسبح الخيال في تقديره والتعرف عليه طويلاً، ونحن نسوق لك بعض ما حدثنا به الرسول صلى الله عليه وسلم. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص179 - الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام هذه شجرة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظم هذه الشجرة بأن أخبر أن الراكب لفرس من الخيل التي تعد للسباق يحتاج إلى مائة عام حتى يقطعها إذا سار بأقصى ما يمكنه، ففي (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام وما يقطعها)) (¬1) وفي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، واقرؤوا إن شئتم: (وظل ممدود) [الواقعة:30])). (¬2) ورواه مسلم عن أبي هريرة وسهل بن سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها)) (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص179 - سدرة المنتهى وهذه الشجرة ذكرها الحق في محكم التنزيل، وأخبر الحق أن رسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها عندها، وأن هذه الشجرة عند جنة المأوى، كما أعلمنا أنه قد غشيها ما غشيها مما لا يعلمه إلا الله عندما رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:13 - 17]. وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الشجرة بشيء مما رآه: ((ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: (أي جبريل) هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران، قلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات)). رواه البخاري ومسلم. (¬4) وفي (الصحيحين) أيضاً: ((ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ونبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، تكاد الورقة تغطي هذه الأمة، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)). (¬5). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص180 - شجرة طوبى ¬

(¬1) رواه البخاري (6553)، ومسلم (2828). (¬2) رواه البخاري (3252)، ومسلم (2826). (¬3) رواه البخاري (3251)، ومسلم (2826). (¬4) رواه البخاري (3887)، ومسلم (164). (¬5) رواه البخاري (3207)، ومسلم (164).

وهذه شجرة عظيمة كبيرة تصنع ثياب أهل الجنة، ففي (مسند أحمد)، و (تفسير ابن جرير)، و (صحيح ابن حبان) عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((طوبى شجرة في الجنة، مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)) (¬1) وقد دل على أن ثياب أهل الجنة تشقق عنها ثمار الجنة – الحديث الذي يرويه أحمد في (مسنده) عن عبدالله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب أهل الجنة خلقاً تخلق، أمن نسجاً تنسج؟ فضحك بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومم تضحكون، من جاهل سأل عالماً؟ ثم أكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: أين السائل؟ قال: هو ذا أنا يا رسول الله، قال: لا بل تشقق عنها ثمر الجنة، ثلاث مرات)). (¬2) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص180 - سيد ريحان الجنة أخبرنا الله أن في الجنة ريحاناً فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة: 88 - 89]، وأخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سيد ريحان أهل الجنة الحناء، ففي (معجم الطبراني الكبير) بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عبدالله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيد ريحان الجنة الحناء)) (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص181 - سيقان أشجار الجنة من ذهب ومن عجب ما أخبرنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سيقان أشجار الجنة من ذهب، ففي (سنن الترمذي)، و (صحيح ابن حبان)، و (سنن البيهقي)، بإسناد صحيح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب)) (¬4) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص182 - كيف يكثر المؤمن حظه من أشجار الجنة؟ طلب خليل الرحمن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء أن يبلغ أمته السلام وأن يخبرهم بالطريقة التي يستطيعون بها تكثير حظهم من أشجار الجنة، فقد روى الترمذي بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك أن الجنة أرض طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) (¬5) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص182 ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 71)، والطبري في ((تفسيره)) (13/ 101)، وابن حبان (2625). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1985): سنده لا بأس به في الشواهد. (¬2) رواه أحمد (2/ 224) (7095) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3/ 441) (5872) , قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) للألباني (1985). (¬3) لم أجده في المطبوع من الطبراني ولعله في المفقود منه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 157): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح خلا عبدالله بن أحمد بن حنبل وهو ثقة مأمون. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1420): سنده صحيح على شرط الشيخين. (¬4) رواه الترمذي (2525)، وابن حبان (16/ 425). وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) رواه الترمذي (3462) , والطبراني (10/ 173). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود, وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 439) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن.

المطلب الثاني عشر: دواب الجنة وطيورها

المطلب الثاني عشر: دواب الجنة وطيورها في الجنة من الطيور والدواب مالا يعلمه إلا الله تعالى، قال تعالى فيما يناله أهل الجنة من النعيم وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّما يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ [الواقعة: 21 - 22]، وفي (سنن الترمذي) عن أنس قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الكوثر؟ قال: ((ذاك نهر أعطانيه الله – يعني في الجنة – أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر)). قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((أكلتها أنعم منها)). (¬1) وأخرج أبو نعيم في (الحلية)، والحاكم في (مستدركه) عن ابن مسعود قال: ((جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله هذه الناقة في سبيل الله. فقال: لك بها سبعمائة ناقة مخطومة في الجنة)). (¬2). ورواه مسلم في (صحيحه) عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة)). (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص183 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2542) , وأحمد (3/ 220) (13330). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. (¬2) رواه الحاكم (2/ 99)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 116). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجه البخاري. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (634): وهو كما قالا. (¬3) رواه مسلم (1892).

المبحث الخامس: أصحاب الجنة

المطلب الأول: بعض الأعمال التي استحقوا بها الجنة أصحاب الجنة هم المؤمنون الموحدون، فكل من أشرك بالله أو كفر به، أو كذب بأصل من أصول الإيمان فإنه يحرم من الجنان، ويكون في النيران. والقرآن يذكر كثيراً أن أصحاب الجنة هم المؤمنون الذين يعملون الصالحات، وفي بعض الأحيان يفصل الأعمال الصالحة التي يستحق بها صاحبها الجنة. ومن المواضع التي نص القرآن على استحقاق أهل الجنة الجنة بالإيمان والأعمال الصالحة قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 25]. وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً [النساء: 57]، وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 42]، وقوله: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَناتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَناتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 9 - 10]. وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَناتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 31]. وقوله تعالى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَناتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى [طه: 75 - 86]. وفي بعض الأحيان يذكر أنهم استحقوا الجنة لتحقيقهم أمراً من أمور الإيمان أو عملاً صالحاً، وقد يفصل في الأعمال الصالحة، ويطيل في ذلك. ففي بعض الأحيان يذكر أنهم استحقوا الجنة بالإيمان والإسلام يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:68 - 70]. وأحياناً يذكر أنهم استحقوها لأنهم أخلصوا دينهم لله: إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَناتِ النَّعِيمِ [الصافات: 40 - 43].

وأحياناً يذكر استحقاقهم لها لقوة ارتباطهم بالله ورغبتهم إليه وعبادتهم له إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِما رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 15 - 18]. ومن الأعمال الصبر والتوكل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت: 58 - 59]. ومنها الاستقامة على الإيمان: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف: 13 - 14]، ومنها الإخبات إلى الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [هود: 23]، ومن ذلك الخوف من الله: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]. ومن ذلك بغض الكفرة المشركين، وعدم موادتهم لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22]. وفي بعض الأحيان تفصل الآيات في ذكر الأعمال الصالحة التي يستحق بها أصحابها الجنة تفصيلاً كثيراً، فذكر في سورة الرعد أنهم استحقوها باعتقادهم أن ما أنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، وبوفائهم بالعهود، وعدم نقضهم الميثاق، ووصلهم ما أمر الله بوصله، وخشيتهم لله، وخوفهم من سوء الحساب، وصبرهم لله، وإقام الصلاة، والإنفاق سراً وعلانية، ودرئهم بالحسنة السيئة أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِما رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدار [الرعد: 19 - 24] وفي مطلع سورة المؤمنون حكم أن الفلاح إنما هو للمؤمنين، ثم بين الأعمال التي تؤهلهم للفلاح، وأعلمنا أن فلاحهم إنما يكون بإدخالهم الفردوس خالدين فيها أبداً. قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1 – 11]. وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثة أعمال عظيمة يستحق بها أصحابها الجنة، فقد روى مسلم في (صحيحه) عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: (( ... وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)). (¬1) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص185 ¬

(¬1) رواه مسلم (2865).

المطلب الثاني: طريق الجنة شاق

المطلب الثاني: طريق الجنة شاق الجنة درجة عالية، والصعود إلى العلياء يحتاج إلى جهد كبير، وطريق الجنة فيه مخالفة لأهواء النفوس ومحبوباتها، وهذا يحتاج إلى عزيمة ماضية، وإرادة قوية، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)) ولمسلم حفت بدل حجبت (¬1) وفي (سنن النسائي) و (الترمذي) و (أبي داود) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها بالمكاره، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد)) (¬2) وقد علق النووي في (شرحه على مسلم) على الحديث الأول قائلاً: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم - من التمثيل الحسن، ومعناه لا يوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادة، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات، ونحو ذلك " (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص190 ¬

(¬1) رواه البخاري (6487)، ومسلم (2822) بلفظ: (حفت) بدلا من (حجبت). (¬2) رواه أبو داود (4744)، والترمذي (2560)، والنسائي (7/ 3)، وأحمد (2/ 332) (8379)، والحاكم (1/ 79). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬3) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (17/ 165).

المطلب الثالث: أهل الجنة يرثون نصيب أهل النار في الجنة

المطلب الثالث: أهل الجنة يرثون نصيب أهل النار في الجنة جعل الله لكل واحد من بني آدم منزلين: منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، ثم إن من كتب له الشقاوة من أهل الكفر والشرك يرثون منازل أهل الجنة التي كانت لهم في النار، والذين كتب لهم السعادة من أهل الجنة يرثون منازل أهل النار التي كانت لهم في الجنة، قال تعالى في حق المؤمنين المفلحين بعد أن ذكر أعمالهم التي تدخلهم الجنة: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 10 - 11]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " قال ابن أبي حاتم – وساق الإسناد إلى أبي هريرة رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله، فذلك قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون: 10])) (¬1). وقال ابن جُرَيْج، عن لَيْث، عن مجاهد: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ قال: ((ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة، ويهدم بيته الذي في النار)) (¬2). وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار، لأنهم خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له، فلما قام هؤلاء بما وجب عليهم من العبادة، وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له، أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل، بل أبلغ من هذا أيضاً، وهو ما ثبت في (صحيح مسلم) عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى)) (¬3) وفي لفظ له: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقال: هذا فكاكك من النار)) (¬4). وهذا الحديث كقوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63] وقوله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] (¬5) فهم يرثون نصيب الكفار في الجنان. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص192 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (12/ 213)، و ((تفسير ابن كثير)) (5/ 464). والحديث رواه ابن ماجه (4341). وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 266 - 267): هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (19/ 13). (¬3) رواه مسلم (2767) (51). (¬4) رواه مسلم (2767) (49). (¬5) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 464 - 465).

المطلب الرابع: الضعفاء أكثر أهل الجنة

المطلب الرابع: الضعفاء أكثر أهل الجنة أكثر من يدخل الجنة الضعفاء الذين لا يأبه الناس لهم، ولكنهم عند الله عظماء، لإخباتهم لربهم، وتذللهم له، وقيامهم بحق العبودية لله، روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى، قال: كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره)) (¬1). قال النووي في شرحه للحديث: ومعناه يستضعفه الناس، ويحتقرونه، ويتجبرون عليه، لضعف حاله في الدنيا، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء ... وليس المراد الاستيعاب (¬2) وفي (الصحيحين) و (مسند أحمد) عن أسامة بن زيد، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء)). (¬3) وفي (الصحيحين) عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) (¬4) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص194 ¬

(¬1) رواه البخاري (4918)، ومسلم (2853). (¬2) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (17/ 187). (¬3) رواه البخاري (5196)، ومسلم (2736). (¬4) رواه البخاري (6449)، ومسلم (2737).

المطلب الخامس: هل الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟

المطلب الخامس: هل الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟ تخاصم الرجال والنساء في هذا والصحابة أحياء، ففي (صحيح مسلم) عن ابن سيرين قال: اختصم الرجال والنساء: أيهم أكثر في الجنة؟ وفي رواية: إما تفاخروا، وإما تذاكروا: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فسألوا أبا هريرة، فاحتج أبو هريرة على أن النساء في الجنة أكثر بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء، لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)). (¬1) والحديث واضح الدلالة على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال، وقد احتج بعضهم على أن الرجال أكثر بحديث: ((رأيتكن أكثر أهل النار)) (¬2). والجواب أنه لا يلزم من كونهن أكثر أهل النار أن يكن أقل ساكني الجنة كما يقول ابن حجر العسقلاني (¬3)، فيكون الجمع بين الحديثين أن النساء أكثر أهل النار وأكثر أهل الجنة، وبذلك يكن أكثر من الرجال وجوداً في الخلق. ويمكن أن يقال: إن حديث أبي هريرة يدل على أن نوع النساء في الجنة أكثر سواء كن من نساء الدنيا أو من الحور العين، والسؤال هو: أيهما أكثر في الجنة: رجال أهل الدنيا أم نساؤها؟ وقد وفق القرطبي بين النصين بأن النساء يكن أكثر أهل النار قبل الشفاعة وخروج عصاة الموحدين من النار، فإذا خرجوا منها بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين كن أكثر أهل الجنة. ويدل على قلة النساء في الجنة ما رواه أحمد وأبو يعلى عن عمرو بن العاص قال: ((بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشعب إذ قال: انظروا هل ترون شيئا؟ فقلنا: نرى غرباناً فيها غراب أعصم، أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب في الغربان)). (¬4) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص195 قال في (حادي الأرواح) (¬5): فإن كن من نساء الدنيا فالنساء في الدنيا أكثر من الرجال، وإن كن من الحور العين لم يلزم أن يكن في الدنيا أكثر، والظاهر أنهن من الحور العين لما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: ((للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب)) (¬6). فإن قيل: كيف هذا مع حديث جابر المتفق عليه: ((شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد صلى قبل أن يخطب بغير أذان ولا إقامة، ثم خطب بعدما صلى فوعظ الناس وذكرهم، ثم أتى النساء فوعظهن ومعه بلال فذكرهن، وأمرهن بالصدقة قال: فجعلت المرأة تلقي خاتمها, وخرصها, والشيء كذلك, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فجمع ما هناك. قال: إن منكن في الجنة ليسير، فقالت امرأة: يا رسول الله لم؟ قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)) (¬7) وفي الحديث الآخر: ((إن أقل ساكني الجنة النساء)) (¬8). فالجواب كما في (حادي الأرواح): (إن هذا يدل على أنهن إنما كن في الجنة أكثر بالحور العين اللاتي خلقن في الجنة, وأقل ساكنيها باعتبار نساء الدنيا, فنساء الدنيا أقل أهل الجنة، وأكثر أهل النار) (¬9). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1036 ¬

(¬1) رواه مسلم (2834). (¬2) رواه البخاري (1462)، ومسلم (80). (¬3) انظر: ((فتح الباري)) (6/ 325). (¬4) رواه أحمد (4/ 197) (17805)، وأبو يعلى (13/ 271). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 274): ورجال أحمد ثقات. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1850): هذا سند صحيح. (¬5) ((حادي الأرواح)) (ص: 180). (¬6) رواه أحمد (2/ 345) (8523). قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬7) رواه البخاري (978)، ومسلم (885). (¬8) رواه مسلم (2738). (¬9) ((حادي الأرواح)) (ص: 180 - 181).

المطلب السادس: مقدار ما يدخل الجنة من هذه الأمة

المطلب السادس: مقدار ما يدخل الجنة من هذه الأمة يدخل من هذه الأمة الجنة جموع كثيرة الله أعلم بعددهم، ففي (صحيح البخاري) عن سعيد بن جبير قال: حدثني ابن عباس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت علي الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب)) (¬1) والسواد الأول الذي ظنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته هم بنو إسرائيل، كما في بعض الروايات في (الصحيح) ((فرجوت أن تكون أمتي فقيل: هذا موسى وقومه)). (¬2) ولا شك أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر من بني إسرائيل، ففي الحديث: ((فإذا سواد كثير)) قال ابن حجر في رواية سعيد بن منصور ((عظيم)) وزاد ((فقيل لي: انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر مثله))، وفي رواية ابن فضيل: ((فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل لي: انظر هاهنا، وهاهنا في آفاق السماء)) (¬3) وفي حديث ابن مسعود: ((فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال)) (¬4)، وفي لفظ لأحمد: ((فرأيت أمتي قد ملؤوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل: أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم يا رب)) (¬5) وقد ورد في بعض الأحاديث أن مع كل ألف من السبعين ألفاً سبعين ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات الله، ففي (مسند أحمد)، و (سنن الترمذي) و (ابن ماجه) عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم، ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات ربي)) (¬6)، ولا شك أن الثلاث حثيات تدخل الجنة خلقاً كثيراً. وقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يرجو أن تكون هذه الأمة نصف أهل الجنة، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذكر بعث النار، قال صلوات الله وسلامه عليه في آخره: ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبرنا. فقال: " أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة "، فكبرنا. فقال: " أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " فكبرنا. قال: " ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود)) (¬7) ¬

(¬1) رواه البخاري (6541). (¬2) رواه البخاري (5705). (¬3) رواه البخاري (5705). (¬4) رواه أحمد (1/ 401) (3806) , وابن حبان (16/ 341) , والطبراني (10/ 6) , والطيالسي (1/ 53) , قال ابن كثير في ((التفسير)) (2/ 79): إسناده صحيح من هذا الوجه, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 408): [روي] بأسانيد وأحد أسانيده رجاله رجال الصحيح , وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الموارد)) (2235). (¬5) رواه أحمد (1/ 454) (4339) , والحاكم (4/ 460) , وأبو يعلى (9/ 233) , قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد من أوجه ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي. (¬6) رواه الترمذي (2437)، وأحمد (5/ 268) (22357)، وابن ماجه (4286). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 172) - كما ذكر ذلك في المقدمة - وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬7) رواه البخاري (3348)، ومسلم (222) ..

بل ورد في بعض الأحاديث أن هذه الأمة تبلغ ثلثي أهل الجنة، ففي (سنن الترمذي) بإسناد حسن، و (سنن الدارمي)، و (البعث والنشور) للبيهقي عن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم)) (¬1) وفي (صحيح مسلم) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبياً ما صدقه من أمته إلا رجل واحد)) (¬2) والسر في كثرة من آمن من هذه الأمة أن معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكبرى كانت وحياً متلواً يخاطب العقول والقلوب، وهي معجزة باقية محفوظة إلى قيام الساعة، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص206 وأخرج عبد الله ولد الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لما نزلت ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم ربع أهل الجنة، أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة)) (¬4) قال الطبراني: تفرد به ابن المبارك عن الثوري. واعلم أنه لا تنافي بين هذه الروايات، وبين حديث الشطر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رجا أن يكونوا شطر أهل الجنة فأعطاه الله رجاءه، وزاده عليه شيئاً آخر قاله في (حادي الأرواح). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1035 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2546)، وابن ماجه (4289) , والدارمي (2/ 434) , وابن حبان (16/ 499) , وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 211) - كما ذكر ذلك في المقدمة – وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) رواه مسلم (196). (¬3) رواه البخاري (7274)، ومسلم (152). (¬4) رواه أحمد (2/ 391) (9069)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 111). وقال: تفرد برفعه ابن مبارك عن الثوري فيما قاله سليمان، وقال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: حسن لغيره.

المطلب السابع: أعلى أهل الجنة منزلة

المطلب السابع: أعلى أهل الجنة منزلة وأما أعلى أهل الجنة منزلة فهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة: 253] قال مجاهد وغيره: (منهم من كلم الله موسى، ورفع بعضهم درجات هو محمد صلى الله عليه وسلم)، وفي حديث الإسراء المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم لما جاوز موسى قال: ((رب لم أظن أن يرفع علي أحد)) (¬1) ثم علا فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاوز سدرة المنتهى. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (¬2). وفي صحيح مسلم أيضاً عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً: ((إن موسى عليه السلام سأل ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال: (يعني الله سبحانه وتعالى) رجل (أي: هو رجل) يجيء بعدما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: رب كيف وقد نزل الناس منازلهم, وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب. فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله. فقال في الخامسة: رضيت رب. قال: رب فأعلاهم منزلة. قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر)) (¬3). وأخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى خيامه، وأزواجه، ونعمه، وخدمه، وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23])) (¬4). ولهذا الحديث طرق، وروي موقوفاً على ابن عمر، ومرفوعاً كما هنا والله سبحانه وتعالى أعلم. البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1066 ¬

(¬1) رواه البخاري (7517)، ومسلم (162). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (384). (¬3) رواه مسلم (189). (¬4) رواه الترمذي (3330)، وأحمد (2/ 64) (5317). قال الترمذي: غريب، وصححه الشوكاني في ((الفتح الرباني)) (2/ 766).

المبحث السادس: سادة أهل الجنة من هذه الأمة

المطلب الأول: سيدا كهول أهل الجنة روى جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وأبو جحيفة، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين)) (¬1) ... الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص185 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3665)، وابن ماجه (95)، وأحمد (1/ 80) (602). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. والحديث روي من طرق عن أنس بن مالك، وأبي جحيفة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.

المطلب الثاني: سيدا شباب أهل الجنة

المطلب الثاني: سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثبت ذلك من طرق كثيرة تبلغ درجة التواتر ... فقد رواه الترمذي والحاكم والطبراني وأحمد وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) (¬1). ورواه الترمذي وابن حبان وأحمد والطبراني وغيرهم عن حذيفة رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصليت معه المغرب، ثم قام يصلي حتى العشاء، ثم خرج، فاتبعته، فقال: " عرض لي ملك استأذن ربه أن يسلم عليّ ويبشرني في أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) (¬2) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - بتصرف - ص185 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3768)، وأحمد (3/ 3) (11012)، والحاكم (3/ 182)، والطبراني (3/ 38). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث قد صح من أوجه كثيرة وأنا أتعجب أنهما لم يخرجاه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 204): رواه أحمد وأبويعلى ورجالهما رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه الترمذي (3781)، وأحمد (5/ 391) (23377)، وابن حبان (15/ 413)، والطبراني (3/ 37). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 457) – كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المطلب الثالث: سيدات نساء أهل الجنة

المطلب الثالث: سيدات نساء أهل الجنة السيد الحق هو الذي يثني عليه ربه ويشهد له، والسيدة الفاضلة هي التي يرضى عنها ربها، ويتقبلها بقبول حسن، وأفضل النساء هن اللواتي يحزن جنات النعيم، ونساء أهل الجنة يتفاضلن، وسيدات نساء أهل الجنة: خديجة، وفاطمة، ومريم وآسية، ففي (مسند أحمد)، و (مشكل الآثار) للطحاوي، و (مستدرك الحاكم)، بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: ((خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض أربعة أخطط، ثم قال: تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)). (¬1) ومريم وخديجة أفضل الأربع، ففي (صحيح البخاري) عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة)) (¬2) ومريم هي سيدة النساء الأولى وأفضل النساء على الإطلاق، فقد روى الطبراني بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم ابنة عمران، فاطمة، وخديجة، وآسية امرأة فرعون)) (¬3). وكونها أفضل النساء على الإطلاق صرح به القرآن: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ [آل عمران: 42]، وكيف لا تكون كذلك وقد صرح الحق بأنه تقبلها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [آل عمران: 37]. وهؤلاء الأربع نماذج رائعة للنساء الكاملات الصالحات، فمريم ابنة عمران أثنى عليها ربها في قوله: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12]. وخديجة الصديقة التي آمنت بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير تردد، وثبتته، وواسته بنفسها ومالها، وقد بشرها ربها في حياتها بقصر في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، فقد روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)). (¬4) وآسية امرأة فرعون هان عليها ملك الدنيا ونعيمها، فكفرت بفرعون وألوهيته، فعذبها زوجها فصبرت حتى خرجت روحها إلى بارئها وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظالِمِينَ [التحريم: 11]. وفاطمة الزهراء ابنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصابرة المحتسبة التقية الورعة فرع الشجرة الطاهرة، وتربية معلم البشرية. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص185 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 316) (2903)، والحاكم (2/ 539)، والطحاوي في ((المشكل)) (128). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا اللفظ. ووافقه الذهبي. وقال النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/ 341): إسناده حسن. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 226): رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم رجال الصحيح. وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 543). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1508): ورجاله ثقات رجال البخاري غير علباء بن أحمد، فهو من رجال مسلم. (¬2) رواه البخاري (3815). (¬3) رواه الطبراني (11/ 415). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 203): ورجال الكبير رجال الصحيح غير محمد بن مروان الذهلي وثقه ابن حبان. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) بعد حديث (1508): إسناده صحيح. (¬4) رواه البخاري (3820)، ومسلم (2432).

المطلب الرابع: العشرة المبشرون بالجنة

المطلب الرابع: العشرة المبشرون بالجنة نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - نصاً صريحاً على أن عشرة من أصحابه من أهل الجنة، ففي (مسند أحمد)، و (سنن الترمذي) عن عبدالرحمن بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)).وإسناده صحيح (¬1) وروى الحديث الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والضياء في المختارة عن سعيد بن زيد بلفظ فيه شيء من الاختلاف عن سابقه، ولفظه: ((عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة)) وإسناده صحيح. (¬2) وتذكر لنا كتب السنة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يوماً جالساً على بئر أريس وأبو موسى الأشعري بواب له، فجاء أبو بكر الصديق فاستأذن، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ائذن له وبشره بالجنة ثم جاء عمر فقال: ائذن له، وبشره بالجنة ثم جاء عثمان، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه)) (¬3) وروى ابن عساكر بإسناد صحيح عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((القائم بعدي في الجنة، والذي يقوم بعده في الجنة، والثالث والرابع في الجنة)) (¬4). ومراده بالقائم بعده: الذي يلي الحكم بعد موته، وهؤلاء الأربعة هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً. وروى الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها ((أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: " أنت عتيق من النار)) (¬5) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص185 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3747)، وأحمد (1/ 193) (1675). وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 436) - كما ذكر في مقدمته -. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 136): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (4649)، وابن ماجه (133)، وأحمد (1/ 188) (1631). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (1/ 110): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (3674)، والترمذي (3710)، وأحمد (4/ 406) (19660). (¬4) رواه ابن عساكر (39/ 108). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2319): الحديث صحيح. (¬5) رواه الترمذي (3679)، والحاكم (3/ 64). وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المطلب الخامس: بعض من نص على أنهم في الجنة غير من ذكر

المطلب الخامس: بعض من نص على أنهم في الجنة غير من ذكر 1 - 2 - جعفر بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب: من الذين أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم في الجنة جعفر وحمزة، ففي (سنن الترمذي)، و (مسند أبي يعلى)، و (مستدرك الحاكم) وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً يطير في الجنة بجناحين)) (¬1) وروى الطبراني، وابن عدي، والحاكم عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة البارحة، فنظرت فيها، فإذا جعفر يطير مع الملائكة، وإذا حمزة متكئ على سرير)). وإسناده صحيح. (¬2) وقد صح أن الرسول قال: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب)) (¬3) 3 - عبدالله بن سلام: روى أحمد والطبراني والحاكم بإسناد صحيح عن معاذ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عبدالله بن سلام عاشر عشرة في الجنة)) (¬4). 4 - زيد بن حارثة: روى الروياني والضياء عن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة، فاستقبلتني جارية شابة، فقلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة)) (¬5) 5 - زيد بن عمرو بن نفيل: روى ابن عساكر بإسناد حسن عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت الجنة، فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين)) (¬6) وزيد هذا كان يدعو إلى التوحيد في الجاهلية، وكان على الحنيفية ملة إبراهيم. 6 - حارثة بن النعمان: وروى الترمذي والحاكم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة، فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر)) (¬7) 7 - بلال بن رباح: روى الطبراني وابن عدي بإسناد صحيح عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة، فسمعت خَشفة بين يدي، قلت: ما هذه الخشفة؟ فقيل: هذا بلال يمشي أمامك)). (¬8) ¬

(¬1) رواه الترمذي (3763)، وأبو يعلى (11/ 350). وقال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من حديث عبدالله ابن جعفر وقد ضعفه يحيى بن معين وغيره وعبد الله بن جعفر هو والد علي بن المديني وفي الباب عن ابن عباس. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه الطبراني (2/ 107)، وابن عدي في ((الكامل)) (3/ 230) والحاكم (3/ 217). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (3363): صحيح. (¬3) رواه الحاكم (2/ 130). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. وقال: صحيح الإسناد. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (374): حديث ثابت. (¬4) رواه أحمد (5/ 242) (22157)، والطبراني (20/ 119)، والحاكم (1/ 177). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((الاستيعاب)) (3/ 54): حسن الإسناد صحيح. وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (2/ 321): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (3975): صحيح. (¬5) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (19/ 371). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1859): وهذا سند صحيح على شرط مسلم، والحديث عزاه في ((الجامع)) للروياني والضياء في ((المختارة)) عن بريدة. (¬6) رواه ابن عساكر (19/ 512). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1406): وهذا سند حسن. (¬7) رواه أحمد (6/ 36) (24126)، وابن وهب في ((الجامع)) (146)، والحاكم (3/ 229). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (913). (¬8) رواه الطبراني (8/ 236)، وابن عدي في الكامل (7/ 213). قال الألباني في ((صحيح الجامع)) (3369): صحيح.

وفي (المسند) بإسناد صحيح عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة ليلة أسري بي، فسمعت من جانبها وجساً، فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: بلال المؤذن)). (¬1) 8 – أبو الدحداح: روى مسلم في (صحيحه) وأبو داود والترمذي وأحمد عن جابر بن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كم من عذق معلق لأبي الدحداح في الجنة)) (¬2) وأبو الدحداح هذا هو الذي تصدق ببستانه: بيرحاء، أفضل بساتين المدينة عندما سمع الله يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245]. 9 - ورقة بن نوفل: روى الحاكم بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني قد رأيت له جنة أو جنتين)) (¬3) وورقة آمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءته خديجة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في أول مرة، وتمنى على الله أن يدرك ظهور أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لينصره. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص185 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 257) (2324). قال ابن كثير في تفسيره: إسناد صحيح ولم يخرجوه. وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده ضعيف وصحح ابن كثير إسناده في التفسير!. قلنا (الأرناؤوط): ولجله شواهد. (¬2) رواه مسلم (965)، وأبو داود (3178)، والترمذي (1013)، وأحمد (5/ 90) (20866). (¬3) رواه الحاكم (2/ 666). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (405): وهو كما قالا.

المطلب السادس: الجنة ليست ثمنا للعمل

المطلب السادس: الجنة ليست ثمناً للعمل الجنة شيء عظيم، لا يمكن أن يناله المرء بأعماله التي عملها، وإنما تنال برحمة الله وفضله، روى مسلم في (صحيحه) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يدخل أحد منكم عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة)). (¬1) وقد يشكل على هذا النصوص التي تشعر بأن الجنة ثمن للعمل، كقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]، وقوله: تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43]. ولا تعارض بين الآيات وما دل عليه الحديث، فإن الآيات تدل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة، وليست ثمناً لها. والحديث نفى أن تكون الأعمال ثمناً للجنة. وقد ضل في هذا فرقتان: الجبرية التي استدلت بالحديث على أن الجزاء غير مرتب على الأعمال، لأنه لا صنع للعبد في عمله، والقدرية استدلوا بالآيات، وقالوا: إنها تدل على أن الجنة ثمن للعمل، وأن العبد مستحق دخول الجنة على ربه بعمله. يقول شارح الطحاوية في هذه المسالة: (وأما ترتب الجزاء على الأعمال، فقد ضل فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة، وله الحمد والمنة، فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات. فالمنفي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يدخل أحد منكم عمله الجنة)) – باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمه الله وفضله. والباء التي في قوله: جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] وغيرها باء السبب، أي بسبب عملكم، والله تعالى هو خلق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص185 ¬

(¬1) رواه البخاري (5673)، ومسلم (2816).

المبحث السابع: صفة أهل الجنة ونعيمهم فيها

المبحث السابع: صفة أهل الجنة ونعيمهم فيها • المطلب الأول: نعيم أهل الجنة. • المطلب الثاني: طعام أهل الجنة وشرابهم. • المطلب الثالث: خمر أهل الجنة. • المطلب الرابع: أول طعام أهل الجنة. • المطلب الخامس: طعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه. • المطلب السادس: لماذا يأكل أهل الجنة ويشربون ويمتشطون؟. • المطلب السابع: آنية طعام أهل الجنة وشرابهم. • المطلب الثامن: لباس أهل الجنة وحليهم ومباخرهم. • المطلب التاسع: فرش أهل الجنة. • المطلب العاشر: خدم أهل الجنة. • المطلب الحادي عشر: سوق أهل الجنة. • المطلب الثاني عشر: زيارة أهل الجنة ربهم. • المطلب الثالث عشر: اجتماع أهل الجنة وأحاديثهم. • المطلب الرابع عشر: أماني أهل الجنة. • المطلب الخامس عشر: نساء أهل الجنة. • المطلب السادس عشر: المرأة لآخر أزواجها. • المطلب السابع عشر: الحور العين. • المطلب الثامن عشر: غناء الحور العين. • المطلب التاسع عشر: غيرة الحور العين على أزواجهنّ في الدنيا. • المطلب العشرون: يُعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل. • المطلب الحادي والعشرون: ضحك أهل الجنة من أهل النار. • المطلب الثاني والعشرون: التسبيح والتكبير من نعيم أهل الجنة. • المطلب الثالث والعشرون: رؤية الله ورضاه أفضل ما يُعطاه أهل الجنة.

المطلب الأول: نعيم أهل الجنة

المطلب الأول: نعيم أهل الجنة فضل نعيم الجنة على متاع الدنيا متاع الدنيا واقع مشهود، ونعيم الجنة غيب موعود، والناس يتأثرون بما يرون ويشاهدون، ويثقل على قلوبهم ترك ما بين أيديهم إلى شيء ينالونه في الزمن الآتي، فكيف إذا كان الموعود ينال بعد الموت؟ من أجل ذلك قارن الحق تبارك وتعالى بين متاع الدنيا ونعيم الجنة، وبين أن نعيم الجنة خير من الدنيا وأفضل، وأطال في ذم الدنيا وبيان فضل الآخرة، وما ذلك إلا ليجتهد العباد في طلب الآخرة ونيل نعيمها. وتجد ذم الدنيا ومدح نعيم الآخرة، وتفضيل ما عند الله على متاع الدنيا القريب العاجل في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [آل عمران: 198]، وقوله: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131]. وقال في موضع ثالث: زُيِّنَ لِلناسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَناتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد [آل عمران: 14 - 15]. ولو ذهبنا نبحث في سر أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا لوجدناه من وجوه متعددة: أولاً: متاع الدنيا قليل، قال تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى [النساء: 77]. وقد صور لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة بمثال ضربه فقال: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار بالسبابة - في اليم، فلينظر بم ترجع)) (¬1). ما الذي تأخذه الإصبع إذا غمست في البحر الخضم، إنها لا تأخذ منه قطرة. هذا هو نسبة الدنيا إلى الآخرة. ولما كان متاع الدنيا قليلاً، فقد عاتب الله المؤثرين لمتاع الدنيا على نعيم الآخرة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة: 38]. ¬

(¬1) رواه مسلم (2858).

الثاني: هو أفضل من حيث النوع، فثياب أهل الجنة وطعامهم وشرابهم وحليهم وقصورهم - أفضل مما في الدنيا، بل لا وجه للمقارنة، فإن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ففي (صحيح البخاري) و (مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) (¬1). وفي الحديث الآخر الذي يرويه البخاري ومسلم أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير مما طلعت عليه الشمس)) (¬2). وقارن نساء أهل الجنة بنساء الدنيا لتعلم فضل ما في الجنة على ما في الدنيا، ففي (صحيح البخاري) عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (3250). من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وليس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث لم يروه مسلم. (¬2) رواه البخاري (2793). والحديث لم يروه مسلم. (¬3) رواه البخاري (6568).

الثالث: الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها، فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط والبول، والروائح الكريهة، وإذا شرب المرء خمر الدنيا فقد عقله، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، والمحيض أذى، والجنة خالية من ذلك كله، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون ولا يتفلون، وخمر الجنة كما وصفها خالقها بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات: 46 - 47] وماء الجنة لا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه أَنْهَارٌ مِّن ماء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد: 15]، ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قاذورات نساء الدنيا، كما قال تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 25]. وقلوب أهل الجنة صافية، وأقوالهم طيبة، وأعمالهم صالحة، فلا تسمع في الجنة كلمة نابية تكدر الخاطر، وتعكر المزاج، وتستثير الأعصاب، فالجنة خالية من باطل الأقوال والأعمال، (لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ [الطور: 23]، ولا يطرق المسامع إلا الكلمة الصادقة الطيبة السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذابًا [النبأ: 35]، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا [مريم: 62]، لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الغاشية: 11]، إنها دار الطهر والنقاء والصفاء الخالية من الأشواب والأكدار، إنها دار السلام والتسليم لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا [الواقعة: 25 - 26]. ولذلك فإن أهل الجنة إذا خلصوا من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون بأن يقتص لبعضهم من بعض، فيدخلون الجنة وقد صفت منهم القلوب، وزال ما في نفوسهم من تباغض وحسد ونحو ذلك مما كان في الدنيا، وفي (الصحيحين) في صفة أهل الجنة عند دخول الجنة ((لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً)) (¬1). وصدق الله إذ يقول: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]. والغل: الحقد، وقد نقل عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب أن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يشربون من عين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ويشربون من عين أخرى فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم. ولعلهم استفادوا هذا من قوله تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان: 21]. الرابع: نعيم الدنيا زائل، ونعيم الآخرة باق دائم، ولذلك سمى الحق تبارك وتعالى ما زين للناس من زهرة الدنيا متاعاً، لأنه يتمتع به ثم يزول، أما نعيم الآخرة فهو باق، ليس له نفاد، مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ [النحل: 96]، إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ [ص: 54]، أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا [الرعد: 35]، وقد ضرب الله الأمثال لسرعة زوال الدنيا وانقضائها وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 45 - 46]. فقد ضرب الله مثلاً لسرعة زوال الدنيا وانقضائها بالماء النازل من السماء الذي يخالط نبات الأرض فيخضر ويزهر ويثمر، وما هي إلا فترة وجيزة حتى تزول بهجته، فيذوي ويصفر، ثم تعصف به الرياح في كل مكان، وكذلك زينة الدنيا من الشباب والمال والأبناء الحرث والزرع ... كلها تتلاشى وتنقضي، فالشباب يذوي ويذهب، والصحة والعافية تبدل هرماً ومرضاً، والأموال والأولاد قد يذهبون، وقد ينتزع الإنسان من أهله وماله، أما الآخرة فلا رحيل، ولا فناء، ولا زوال وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30 - 31]. الخامس: العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة يعقبه الحسرة والندامة ودخول النيران، كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص223 ¬

(¬1) رواه البخاري (3245)، ومسلم (2834). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المطلب الثاني: طعام أهل الجنة وشرابهم

المطلب الثاني: طعام أهل الجنة وشرابهم وأما طعام أهل الجنة، وشرابهم ومصرفه فقد قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات: 41 - 42]. وقال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24]. وقال تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 72 - 73]. وقال: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا [الرعد: 35] وقال تعالى: يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 25 - 26]. وأخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأكل أهل الجنة، ويشربون، ولا يتمخطون، ولا يتغوطون، ولا يبولون، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس)) وفيه أيضاً عنه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: فما بال الطعام؟ قال: ((جشاء ورشح كرشح المسك, يلهمون التسبيح والحمد)) (¬1) قوله: فما بال الطعام؟ قال: ((جشاء)) كذا في جميع نسخ مسلم. قال الوقشي ولعله (فمال)؛ لأنه جاء في رواية الزبيدي (أن يهودياً) يعني حديث ابن أرقم الذي أخرجه الإمام أحمد: قال في (مشارق الأنوار) والبال: يأتي بمعنى الحال كقوله ما بال هذه؟ أي: ما حالها وشأنها؟ فمعناه: ما بال عقبا الطعام؟ وما شأن عقباه؟ وأخرج الإمام أحمد، والنسائي بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم قال: ((جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون، قال: نعم. والذي نفس محمد بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل، والشرب، والجماع، والشهوة. قال: فإن الذي يأكل، ويشرب يكون له حاجة، وليس في الجنة أذى، قال تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كرشح المسك فيضمر بطنه)) (¬2). ورواه الحاكم في صحيحه بنحوه. وفي (حادي الأرواح) (¬3) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لتنظر إلى الطير في الجنة، فتشتهيه، فيخر بين يديك مشوياً)) (¬4). وأخرج الحاكم عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن في الجنة طيراً مثل البخاتي، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنها لناعمة يا رسول الله قال: أنعم منها من يأكلها يا أبا بكر)). (¬5) ¬

(¬1) رواه مسلم (2835). (¬2) رواه أحمد (4/ 371) (19333)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 454) (11478). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 381): رواته محتج بهم ي الصحيح، وصحح إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 305). (¬3) ((حادي الأرواح)) (ص: 269). (¬4) رواه البيهقي في ((البعث والنشور)) (307)، وابن أبي الدنيا في ((صفة الجنة)) (100)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (3/ 75). وقال: ليس بمستقيم ولا يتابع عليه. (¬5) رواه البيهقي في ((البعث والنشور)) (308)، وابن عدي في ((الكامل)) (7/ 122). وقال: [فيه] الفضل بن مختار لا يتابع عليه إما إسنادا وإما متنا.

وفي (حادي الأرواح) (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ [الواقعة: 18] يقول: الخمر لَا فِيهَا غَوْلٌ ولا صداع، وفي قوله: وَلَا يُنزِفُونَ [الواقعة: 19] لا تذهب عقولهم، وفي قوله: وَكَأْسًا دِهَاقًا [النبأ: 34] ممتلئة، وفي قوله: رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ [المطففين: 25] يقول: الخمر ختم بالمسك. وقال علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه: (ختامه مسك: قال: خلطه وليس بخاتم يختم). قال المحقق: (قلت يريد – والله أعلم – أن آخره مسك، فيخالطه، فهو من الخاتمة ليس من الخاتم). وعن مسروق: (الرحيق: الخمر، والمختوم: يجدون عاقبتها طعم المسك). وقال عبد الله في قوله تعالى: وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ [المطففين: 27] قال: (يمزج لأصحاب اليمين ويشربها المقربون صرفاً) وكذلك قال ابن عباس: (يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لمن دونهم). وقال عطاء: (التسنيم: اسم العين التي يمزج منها الخمر). وقال في (حادي الأرواح) (¬2) في قوله تعالى: عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الإنسان: 18] (قال بعضهم إنها جملة مركبة من فعل وفاعل، وسلسبيلاً: منصوب على المفعول أي: سلسبيلاً إليها قال: وليس هذا بشيء، وإنما السلسبيل كلمة مفردة وهي اسم للعين نفسها باعتبار صفتها). وقال قتادة في اشتقاقها: (سلسلة لهم يصرفونها حيث شاؤا)، وهو من الاشتقاق الأكبر. وقال مجاهد: (سلسلة السبيل حديدة الجرية). وقال أبو العالية: (تسيل عليهم في الطرق، وفي منازلهم، وهذا من سلاستها، وحدة جريتها). وقال آخرون: معناها طيب الطعم والمذاق. وقال أبو إسحاق: سلسبيل: صفة لما كان في غاية السلاسة فسميت العين بذلك, وصوب ابن الأنباري أن سلسبيل صفة للماء وليس باسم العين، واحتج بأن سلسبيل مصروف، ولو كان اسماً للعين لمنع من الصرف، وأيضاً فإن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (معناه أنها تسيل في حلوقهم انسلال) البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1112 ¬

(¬1) ((حادي الأرواح)) (ص: 270 - 271). (¬2) ((حادي الأرواح)) (ص: 273).

المطلب الثالث: خمر أهل الجنة

المطلب الثالث: خمر أهل الجنة من الشراب الذي يتفضل الله على أهل الجنة الخمر، وخمر الجنة خالي من العيوب والآفات التي تتصف بها خمر الدنيا، فخمر الدنيا تذهب العقول، وتصدع الرؤوس، وتوجع البطون، وتمرض الأبدان، وتجلب الأسقام، وقد تكون معيبة في صنعها أو لونها أو غير ذلك، أما خمر الجنة فإنها خالية من ذلك كله، جميلة صافية رائقة، يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات: 45 - 47]. لقد وصف الله جمال لونها بَيْضَاء ثم بين أنها تلذ شاربها من غير اغتيال لعقله، كما قال: وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشارِبِينَ [محمد:18]، ثم إن شاربها لا يمل من شربها لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات: 47]، وقال في موضع آخر يصف خمر الجنة: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة: 17 - 19]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: (لا تصدع رؤوسهم، ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة، وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة، ونزهها عن هذه الخصال). (¬1) وقال الحق في موضع ثالث: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 25 - 26]، والرحيق الخمر، ووصف هذا الخمر بوصفين: الأول أنه مختوم، أي موضوع عليه خاتم. الأمر الثاني: أنهم إذا شربوه وجدوا في ختام شربهم له رائحة المسك. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص230 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) (7/ 520).

المطلب الرابع: أول طعام أهل الجنة

المطلب الرابع: أول طعام أهل الجنة أول طعام يُتحِف الله به أهل الجنة زيادة كبد الحوت، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يتكفؤها الجبار بيده، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة " فأتى رجل من اليهود، فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى قال: تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال إدامهم بالام ونون. قالوا: وما هذا؟ قال: ثور ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفاً)). (¬1) قال النووي في شرح الحديث ما ملخصه: النزل: ما يعد للضيف عند نزوله، (ويتكفأها بيده)، أي: يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي، لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها، ومعنى الحديث: أن الله تعالى يجعل الأرض كالرغيف العظيم، ويكون طعاماً ونزلاً لأهل الجنة، والنون: الثور، والـ (بالام): لفظة عبرانية، معناها: ثور، وزائدة كبد الحوت: هي القطعة المنفردة المتعلقة في الكبد، وهي أطيبها. (¬2) وفي (صحيح البخاري) أن عبدالله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم أول قدومه المدينة أسئلة منها: ((ما أول شيء يأكله أهل الجنة؟ فقال: زيادة كبد الحوت)). (¬3) وفي (صحيح مسلم) عن ثوبان أن يهودياً سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت. قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها. قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين تسمى سلسبيلا)) قال: صدقت. (¬4) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص231 ¬

(¬1) رواه البخاري (6520)، ومسلم (2792). (¬2) ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (17/ 135). (¬3) رواه البخاري (3938). (¬4) رواه مسلم (315).

المطلب الخامس: طعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه

المطلب الخامس: طعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه قد يتبادر إلى الذهن أن الطعام والشراب في الجنة ينتج عنه ما ينتج عن طعام أهل الدنيا وشرابهم من البول والغائط والمخاط والبزاق ونحو ذلك، والأمر ليس كذلك، فالجنة دار خالصة من الأذى، وأهلها مطهرون من أوشاب أهل الدنيا، ففي الحديث الذي يرويه صاحبا (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال نافياً هذا الظن: ((أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها)) (¬1) وليس هذا خاص بأول زمرة تدخل الجنة، وإنما هو عام في كل من يدخل الجنة، ففي رواية عند مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل، لا يتغوطون، ولا يتبولون، ولا يبزقون)). (¬2) فالذي يتفاوت فيه أهل الجنة مما نص عليه في الحديث قوة نور كل منهم، أما خلوصهم من الأذى فإنهم يشتركون فيه جميعاً، فهم لا يتغوطون ولا يتبولون، ولا يتفلون، ولا يبزقون، ولا يمتخطون. وقد يقال: فأين تذهب فضلات الطعام والشراب، وقد وجه هذا السؤال إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل أصحابه، فأفاد أن بقايا الطعام والشراب تتحول إلى رشح كرشح المسك يفيض من أجسادهم، كما يتحول بعض منه أيضاً إلى جشاء، ولكنه جشاء تنبعث منه روائح طيبة عبقة عطرة، ففي (صحيح مسلم) عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول: ((إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يتبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون"، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء كجشاء المسك)) (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص232 ¬

(¬1) رواه البخاري (3245)، ومسلم (2834). (¬2) رواه مسلم (2834). (¬3) رواه مسلم (2835).

المطلب السادس: لماذا يأكل أهل الجنة ويشربون ويمتشطون؟

المطلب السادس: لماذا يأكل أهل الجنة ويشربون ويمتشطون؟ إذا كان أهل الجنة فيها خالدون، وكانت خالية من الآلام والأوجاع والأمراض، لا جوع فيها ولا عطش، ولا قاذورات ولا أوساخ، فلماذا يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولماذا يتطيبون ويمتشطون؟ أجاب القرطبي في التذكرة عن هذا السؤال قائلاً: (نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شربهم عن ظمأ، ولا تطيبهم عن نتن، وإنما هي لذّات متوالية، ونعم متتابعة، ألا ترى قوله تعالى لآدم: إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه: 118 - 119]. وحكمة ذلك أن الله تعالى عرفهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله عز وجل). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص234

المطلب السابع: آنية طعام أهل الجنة وشرابهم

المطلب السابع: آنية طعام أهل الجنة وشرابهم وأما آنيتهم فقال تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف: 71] والصحاف جمع صحفة، وهي القصاع قاله الكلبي، وقال الليث: (الصحفة: قصعة مسلنطحة عريضة، والجمع: صحاف) (¬1)، والأكواب: جمع كوب هو المستدير الرأس الذي لا أذن له, ومرت الإشارة إليها. وقال تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ [الإنسان: 17 - 18] فالأباريق هي: الأكواب غير أن لها خراطيم, فإن لم يكن لها خراطيم، ولا عرى فهي أكواب، وأباريق الجنة من الفضة في صفاء القوارير يرى من ظاهرها ما في باطنها، والعرب تسمي السيف إبريقاً لبريق لونه. قال تعالى: وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [الإنسان: 15 - 16] فالقوارير: هو الزجاج، وشفافته، وهذا من أحسن الأشياء وأعجبها، وقطع توهم كون تلك القوارير من زجاج بقوله: مِن فِضَّةٍ [الإنسان: 15]. وأخرج البخاري، ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) (¬2). وأخرج أبو يعلى الموصلي عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا فربما رأى الرجل الرؤيا فيسأل عنه إذا لم يكن يعرفه, فإذا أثني عليه معروفاً كان أعجب لرؤياه إليه، فأتته امرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة، فسمعت وجبة ارتجت لها الجنة، فنظرت فإذا فلان بن فلان، وفلان بن فلان فسمت اثني عشر رجلاً. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك, فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم فقيل: اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيدي، فغمسوا فيه، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر، فأكلوا من بسره ما شاؤوا، فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم)). فجاء البشير من تلك السرية فقال: أصيب فلان، وفلان حتى عدَّ اثني عشر رجلاً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة فقال: ((قصي رؤياك)) قصتها وجعلت تقول: جيء بفلان وفلان كما قال)) (¬3). ورواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه. قال في (حادي الأرواح) (¬4): (وإسناده على شرط مسلم). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1120 ¬

(¬1) (حادي الأرواح) (ص: 277)، ((لسان العرب)) (مادة: ص ح ف). (¬2) رواه البخاري (5426). (¬3) رواه أبو يعلى (6/ 44) (3289). قال ابن القيم في ((حادي الأرواح)) (ص: 176): [روى] بنحوه وإسناده على شرط مسلم، وصححه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1513). (¬4) ((حادي الأرواح)) (ص: 281).

المطلب الثامن: لباس أهل الجنة وحليهم ومباخرهم

المطلب الثامن: لباس أهل الجنة وحليهم ومباخرهم أهل الجنة يلبسون فيها الفاخر من اللباس، ويتزينون فيها بأنواع الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ، فمن لباسهم الحرير، ومن حلاهم أساور الذهب والفضة واللؤلؤ: قال تعالى: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 12]، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج: 23]، جَناتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر: 33]، وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]. وملابسهم ذات ألوان، ومن ألوان الثياب التي يلبسون الخضر من السندس والإستبرق يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 31]، عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان: 21]. ولباسهم أرقى من أي ثياب صنعها الإنسان، فقد روى البخاري في (صحيحه) عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بثوب من حرير، فجعلوا يعجبون من حسنه ولينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا)) (¬1) وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن لأهل الجنة أمشاطاً من الذهب والفضة، وأنهم يتبخرون بعود الطيب، مع أن روائح المسك تفوح من أبدانهم الزاكية، ففي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة الذين يدخلون الجنة: ((آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الأَلُوَّة – قال أبو اليمان: عود الطيب – ورشحهم المسك)) (¬2) ومن حليهم التيجان، ففي (سنن الترمذي) و (ابن ماجه) عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الخصال التي يُعطاها الشهيد: ((ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها)) (¬3). وثياب أهل الجنة وحليهم لا تبلى ولا تفنى، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)) (¬4). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص236 ¬

(¬1) رواه البخاري (3249) واللفظ له، ومسلم (2468). (¬2) رواه البخاري (3246)، ومسلم (2834). (¬3) رواه الترمذي (1663) واللفظ له، وابن ماجه (2799). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. قال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬4) رواه مسلم (2836).

المطلب التاسع: فرش أهل الجنة

المطلب التاسع: فرش أهل الجنة أعدت قصور الجنة، وأماكن الجلوس في حدائقها وبساتينها بألوان فاخرة رائعة من الفرش للجلوس والاتكاء ونحو ذلك، فالسرر كثيرة راقية والفرش عظيمة القدر بطائنها من الإستبرق، فما بالك بظاهرها، وهناك ترى النمارق مصفوفة على نحو يسر الخاطر، ويبهج النفس، والزرابي مبثوثة على شكل منسق متكامل، قال تعالى: فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية: 13 - 16]، مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن: 54]، مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ [الطور: 20]، ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة: 13 - 16]. واتكاؤهم عليها على هذا النحو نوع من النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة حين يجتمعون كما أخبر الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] وقال: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [الرحمن: 76]، مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ [الكهف: 31]. والمراد بالنمارق: المخاد، والوسائد: المساند، والزرابي: البسط، والعبقري: البسط الجياد. والرفرف: رياض الجنة. وقيل: نوع من الثياب، والأرائك: السرر. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص238

المطلب العاشر: خدم أهل الجنة

المطلب العاشر: خدم أهل الجنة يخدم أهل الجنة ولدان ينشئهم الله لخدمتهم، يكونون في غاية الجمال والكمال، كما قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ [الواقعة: 17 - 18]، وقال في موضع آخر: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا [الإنسان: 19]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان أهل الجنة مُّخَلَّدُونَ أي: على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ومن فسرهم بأنهم مخرصون، في آذانهم الأقرطة، فإنما عبر عن المعنى، لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير. وقوله تعالى: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا [الإنسان: 19]، أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلواً منثوراً، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن). (¬1) وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن هؤلاء الولدان هم الذين يموتون صغاراً من أبناء المؤمنين أو المشركين، وقد رد العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا القول، وبين أن الولدان المخلدون هم خلق من خلق الجنة قال: (والولدان الذين يطوفون على أهل الجنة: خلق من خلق الجنة ليسوا من أبناء الدنيا، بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة كمل خلقهم كأهل الجنة، على صورة أبيهم آدم). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص239 ¬

(¬1) رواه مسلم (2836).

المطلب الحادي عشر: سوق أهل الجنة

المطلب الحادي عشر: سوق أهل الجنة أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً, فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً.)) (¬1). الإمام أحمد في المسند، وقال: ((فيها كثبان المسك فإذا أخرجوا إليها هبت الريح)) (¬2). وأخرج ابن أبي عاصم في كتاب (السنة) أن سعيد بن المسيب لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال سعيد أوفيها سوق؟ قال: نعم. ((أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجنة إذا دخلوها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله تبارك وتعالى، فيبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، فيوضع لهم منابر من نور، ومنابر من مسك، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ياقوت، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم (وما فيهم دني) على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكرسي بأفضل منهم مجلساً. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وهل نرى ربنا عز وجل؟ قال: نعم هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا. قال: فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول: يا فلان ابن فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا. فيذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول: بلى أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبمغفرتي بلغت منزلتك هذه قال: فبيناهم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط قال: ثم يقول ربنا تبارك وتعالى: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما شئتم. قال: فيأتون سوقاً قد حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه، ولا يشترى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً. قال: فيقبل ذو البزة المرتفعة، فيلقى من هو دونه (وما فيهم دني) فيروعه ما يرى عليه من اللباس، والهيئة فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها. قال: ثم ننصرف إلى منازلنا: فيلقانا أزواجنا فيقلن: مرحباً وأهلاً لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه. فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار عز وجل وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا)) (¬3). ورواه الترمذي في صفة الجنة، وابن ماجه. البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1120 ¬

(¬1) رواه مسلم (2833). (¬2) رواه أحمد (3/ 284) (14067). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2124)، وقال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬3) رواه ابن أبي عاصم (585). قال الهيتمي في ((الزواجر)) (2/ 261): رواته ثقات.

المطلب الثاني عشر: زيارة أهل الجنة ربهم

المطلب الثاني عشر: زيارة أهل الجنة ربهم ذكر الترمذي عن سعيد بن المسيب أنه لقى أبا هريرة فقال أبو هريرة: ((أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة, فقال سعيد أفيها سوق؟ قال: نعم، أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم, ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا, فيزورون ربهم, ويبرز لهم عرشه, ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة, فتوضع لهم منابر من نور, ومنابر من اللؤلؤ, ومنابر من ياقوت, ومنابر من زبرجد, ومنابر من ذهب, ومنابر من فضة, ويجلس أدناهم وما فيهم من دني على كثبان المسك والكافور, ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً, قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا؟ قال: نعم, هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا، قال: كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم, ولا يبقى في ذلك المجلس رجل (إلا) حاضره الله محاضرة, حتى يقول للرجل فيهم: يا فلان بن فلان أتذكر يوم قلت كذا وكذا, فيذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول: يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبسعة مغفرتي بلغت بك منزلتك هذه. (فبينا) هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم, فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط, ويقول ربنا: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما (اشتهيتم) , فنأتي سوقاً قد حفت به الملائكة, (فيه) ما لم تنظر العيون إلى مثله, ولم تسمع الآذان, ولم يخطر على القلوب, فيحمل لنا ما اشتهينا, ليس يباع فيها ولا يشترى, وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً قال: فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عليه من اللباس (فما) ينقضي آخر حديثه (حتى) يتخيل (عليه) ما هو أحسن منه, وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها, ثم ننصرف إلى منازلنا, فتتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحباً وأهلاً لقد جئت وإن (لك) من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه, فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار جل جلاله (ويحق لنا) أن ننقلب ما انقلبنا)) (¬1). 541 - وذكر الترمذي من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم ينجنا من النار؟! ألم يدخلنا الجنة؟! قالوا: بلى، فيكشف الحجاب, فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه)). (¬2) العاقبة أو الموت والحشر والنشور لعبد الحق الأشبيلي الآذى– ص: 325 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2549). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 393): [فيه] عبد الحميد هو كاتب الأوزاعي مختلف فيه وبقية رواة الإسناد ثقات. وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)) (2549)، و ((ضعيف سنن ابن ماجه)) (5001)، و ((السلسلة الضعيفة)) (1722). (¬2) رواه الترمذي (2552). وصححه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (6/ 11) وابن رجب في ((سير الدلجة)) (4/ 432). والألباني في صحيح الترمذي (3105).

المطلب الثالث عشر: اجتماع أهل الجنة وأحاديثهم

المطلب الثالث عشر: اجتماع أهل الجنة وأحاديثهم أهل الجنة يزور بعضهم بعضاً، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون، ويذكرون ما كان منهم في الدنيا، وما من الله به عليهم من دخول الجنان، قال تعالى في وصف اجتماع أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]، وأخبرنا الله بلون من ألوان الأحاديث التي يتحدثون بها في مجتمعاتهم وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنا كُنا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنا كُنا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيم [الطور: 25 - 27]. ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان، ويدعونهم إلى الكفران، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات: 50 - 61] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص242

المطلب الرابع عشر: أماني أهل الجنة

المطلب الرابع عشر: أماني أهل الجنة يتمنى بعض أهل الجنة فيها أماني تتحقق على نحو عجيب، لا تشبه حال ما يحدث في الدنيا، وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض هذه الأماني وكيفية تحققها. فهذا واحد من أهل الجنة يستأذن ربه في الزرع، فيأذن له، فما يكاد يلقي البذر، حتى يضرب بجذوره في الأرض، ثم ينمو، ويكتمل، وينضج في نفس الوقت، ففي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحدث – وعنده رجل من أهل البادية -: ((إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟. قال: بلى، ولكن أحب الزرع، فبذر، فبادر الطرف نباته. واستواؤه، واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً، فإنهم أصحاب الزرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم –)). (¬1) وهذا آخر يتمنى الولد، فيحقق الله له أمنيته في ساعة واحدة، حيث تحمل وتضع في ساعة واحدة. وروى الترمذي في (سننه)، وأحمد في (مسنده)، وابن حبان في (صحيحه) بإسناد صحيح عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة، كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي)) (¬2) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص243 ¬

(¬1) رواه البخاري (2348). (¬2) رواه الترمذي (2563)، وأحمد (3/ 9) (11078)، وابن حبان (16/ 417). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المطلب الخامس عشر: نساء أهل الجنة

المطلب الخامس عشر: نساء أهل الجنة زوجة المؤمن في الدنيا زوجته في الآخرة إذا كانت مؤمنة إذا دخل المؤمن الجنة، فإن كانت زوجته صالحة، فإنها تكون زوجته في الجنة أيضاً: جَناتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّياتِهِمْ [الرعد: 23]، وهم في الجنات منعمون مع الأزواج، يتكئون في ظلال الجنة مسرورين فرحين هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ [يس: 56]، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف: 70]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص245

المطلب السادس عشر: المرأة لآخر أزواجها

المطلب السادس عشر: المرأة لآخر أزواجها روى أبو علي الحراني في (تاريخ الرقة) عن ميمون بن مهران قال: خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أم الدرداء، فأبت أن تتزوجه، وقالت: سمعت أن أبا الدرداء يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المرأة في آخر أزواجها، أو قال: لآخر أزواجها)) (¬1) ورجال هذا الإسناد موثقون غير العباس بن صالح فليس له ترجمة، ورواه أبو الشيخ في (التاريخ) بإسناد صحيح مقتصراً منه على المرفوع، ورواه الطبراني في (معجمه الأوسط) بإسناد ضعيف، ولكنه بمجموع الطريقين قوي، والمرفوع منه صحيح، وله شاهدان موقوفان: الأول يرويه ابن عساكر عن عكرمة ((إن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديداً عليها، فأتت أباها، فشكت ذلك إليه، فقال: يا بنية اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تزوج بعده جمع بينهما في الجنة)) (¬2). ورجاله ثقات إلا أن فيه إرسالاً لأن عكرمة لم يدرك أبا بكر إلا أن يكون تلقاه عن أسماء. والآخر أخرجه البيهقي في (السنن) أن حذيفة قال لزوجته: ((إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تزوجي بعدي، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا)) (¬3). فلذلك حرم الله على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينكحن من بعده، لأنهن أزواجه في الآخرة. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص245 ¬

(¬1) رواه أبو علي الحراني في ((تاريخ الرقة)) (3/ 39)، ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (3/ 275)، وأبو الشيخ في ((طبقات المحدثين)) (1120). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1281): قوي بالطرق. (¬2) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (69/ 16). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) بعد حديث (1281). ورجاله ثقات إلا أن فيه إرسالا لأن عكرمة لم يدرك أبا بكر إلا أن يكون تلقاه عن أسماء بنت أبي بكر. (¬3) رواه البيهقي (7/ 69). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) بعد حديث (1281): ورجاله ثقات لولا عنعنة أبي إسحاق - وهو السبيعي - واختلاطه. وله شاهد مرفوع أخرجه الخطيب في ((التاريخ)) (9/ 328) من طريق حمزة النصيبي عن ابن أبي مليكة عن عائشة مرفوعا به. لكن حمزة هذا متروك متهم فلا يستشهد به.

المطلب السابع عشر: الحور العين

المطلب السابع عشر: الحور العين يزوج الله المؤمنين في الجنة بزوجات جميلات غير زوجاتهم اللواتي في الدنيا، كما قال تعالى: كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ [الدخان: 54]. والحور: جمع حوراء، وهي التي يكون بياض عينها شديد البياض، وسواده شديد السواد. والعين: جمع عيناء، والعيناء هي واسعة العين. وقد وصف القرآن الحور العين بأنهن كواعب أتراب، قال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حدائق وأعناباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ: 31 - 33]. والكاعب: المرأة الجميلة التي برز ثدياها، والأتراب المتقاربات في السن. والحور العين من خلق الله في الجنة، أنشأهن الله إنشاءً فجعلهنّ أبكاراً، عرباً أتراباً إِنا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة: 35 - 37] وكونهن أبكاراً يقضي أنه لم ينكحهن قبلهم أحد، كما قال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 56]، وهذا ينفي قول من قال: إن المراد بالزوجات اللواتي ينشئهن الله في الجنة زوجاتهم في الدنيا إذ يعيدهن شباباً بعد الكهولة والهرم، وهذا المعنى صحيح، فالله يدخل المؤمنات الجنة في سن الشباب، ولكنهن لسن الحور العين اللواتي ينشئهن الله إنشاء. والمراد بالعُرُب: الغنجات المتحببات لأزواجهنّ. وقد حدثنا القرآن عن جمال نساء الجنة فقال: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة: 22 – 23] والمراد بالمكنون: المخفي المصان، الذي لم يغير صفاء لونه ضوء الشمس، ولا عبث الأيدي، وشبههن في موضع آخر بالياقوت والمرجان فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 56 - 58]، والياقوت والمرجان حجران كريمان فيهما جمال، ولهما منظر حسن بديع، وقد وصف الحور العين بأنهن قاصرات الطرف، وهن اللواتي قصرن بصرهن على أزواجهن، فلم تطمح أنظارهن لغير أزواجهن، وقد شهد الله لحور الجنة بالحسن والجمال، وحسبك أن الله شهد بهذا ليكون قد بلغ غاية الحسن والجمال فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن: 70 - 72]. ونساء الجنة لسن كنساء الدنيا، فإنهن مطهرات من الحيض والنفاس، والبصاق والمخاط والبول والغائط، وهذا مقتضى قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 25]. وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جمال نساء أهل الجنة، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون، ولا يمتخطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن)). (¬1) وانظر إلى هذا الجمال الذي يحدث عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل تجد له نظيراً مما تعرف؟ ((ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري. (¬2) وتحديد عدد زوجات كل شخص في الجنة باثنين يبدو أنه أقل عدد، فقد ورد أن الشهيد يزوج باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ففي (سنن الترمذي) و (سنن ابن ماجه). بإسناد صحيح عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((للشهيد عند الله ثلاث خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه)) (¬3). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص246 ¬

(¬1) رواه البخاري (3245)، ومسلم (2834). (¬2) رواه البخاري (2796). (¬3) رواه الترمذي (1663)، وابن ماجه (2799)، وأحمد (4/ 131) (17221). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (4/ 16) – كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

المطلب الثامن عشر: غناء الحور العين

المطلب الثامن عشر: غناء الحور العين وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحور العين في الجنان يغنين بأصوات جميلة عذبة، ففي (معجم الطبراني الأوسط) بإسناد صحيح عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط. إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان. وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يظعنّه)) (¬1) وروى سمويه في (فوائده) عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الحور العين لتغنين في الجنة، يقلن: نحن الحور الحسان، خبئنا لأزواج كرام)). (¬2) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص249 ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (5/ 149). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 419): رواه الطبراني في ((الصغير)) و ((الأوسط)) ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (1561): صحيح. (¬2) رواه سمويه كما ذكر السيوطي في ((الجامع الصغير)). وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (1602): صحيح.

المطلب التاسع عشر: غيرة الحور العين على أزواجهن في الدنيا

المطلب التاسع عشر: غيرة الحور العين على أزواجهنّ في الدنيا أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحور العين يغرن على أزواجهن في الدنيا إذا آذى الواحد زوجته في الدنيا، ففي (مسند أحمد)، و (سنن الترمذي) بإسناد صحيح عن معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك، يوشك أن يفارقك إلينا)) (¬1) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص250 ¬

(¬1) رواه الترمذي (1174)، وأحمد (5/ 242) (22154). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين أصلح وله عن أهل الحجاز وأهل العراق مناكير. قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (4/ 47): إسناده صحيح متصل. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 301) - كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المطلب العشرون: يعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل

المطلب العشرون: يُعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا من الجماع)). قيل: يا رسول الله، أو يطيق ذلك؟ قال: ((يعطى قوة مائة رجل)) رواه الترمذي (¬1) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص250 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2536). وقال: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث قتادة عن أنس إلا من حديث عمران القطان. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح.

المطلب الحادي والعشرون: ضحك أهل الجنة من أهل النار

المطلب الحادي والعشرون: ضحك أهل الجنة من أهل النار بعد أن يدخل الله أهل الجنة الجنة ينادون خصومهم من الكفار أهل النار مبكتين ومؤنبين (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظالِمِينَ [الأعراف:44]. لقد كان الكفار في الدنيا يخاصمون المؤمنين، ويسخرون منهم، ويهزؤون بهم، وفي ذلك اليوم ينتصر المؤمنون، فإذا بهم وهم في النعيم المقيم، ينظرون إلى المجرمين، فيسخرون منهم، ويهزؤون بهم، إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين: 22 - 36]. نعم، والله لقد جوزي الكفار بمثل ما كانوا يفعلون، والجزاء من جنس العمل، ويتذكر المؤمن في جنات النعيم ذلك القرين أو الصديق الذي كان يزين له الكفر في الدنيا، وكان يدعوه إلى تلك المبادئ الضالة التي تجعله في صف الكافرين أعداء الله، فيحدّث إخوانه عن ذلك القرين، ويدعوهم للنظر إليه في مقره الذي يعذب فيه، فعندما يرى ما يعاينه من العذاب – يعلم مدى نعمة الله عليه، وكيف خلصه من حاله، ثم يتوجه إليه باللوم والتأنيب فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصافات: 50 - 60] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص251

المطلب الثاني والعشرون: التسبيح والتكبير من نعيم أهل الجنة

المطلب الثاني والعشرون: التسبيح والتكبير من نعيم أهل الجنة الجنة دار جزاء وإنعام، لا دار تكليف واختبار، وقد يشكل على هذا ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة أول زمرة تدخل الجنة، قال في آخره: ((يسبحون الله بكرة وعشياً)) (¬1). ولا إشكال في ذلك إن شاء الله تعالى، لأن هذا ليس من باب التكليف، قال ابن حجر في شرحه للحديث: قال القرطبي: (هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام!، وقد فسره جابر في حديثه عند مسلم بقوله: ((يُلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس)) (¬2) ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا كلفة عليه فيه، ولا بد منه، فجعل تنفسهم تسبيحاً، وسببه أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب سبحانه، وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره). وقد قرر شيخ الإسلام أن هذا التسبيح والتكبير لون من ألوان النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة، قال: (هذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص253 ¬

(¬1) رواه البخاري (3245)، ومسلم (2834). (¬2) رواه مسلم (2835).

المطلب الثالث والعشرون: رؤية الله ورضاه أفضل ما يعطاه أهل الجنة

المطلب الثالث والعشرون: رؤية الله ورضاه أفضل ما يُعطاه أهل الجنة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) متفق عليه (¬1) وأعظم النعيم النظر إلى وجه الله الكريم في جنات النعيم، يقول ابن الأثير: (رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، بلغنا الله منها ما نرجو). وقد صرح الحق تبارك وتعالى برؤية العباد لربهم في جنات النعيم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23]، والكفار والمشركون يحرمون من هذا النعيم العظيم، والتكرمة الباهرة: كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وقد روى مسلم في (صحيحه) والترمذي في (سننه) عن صهيب الرومي – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أهل الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى))، زاد في رواية: ((ثم تلا هذه الآية: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26])). (¬2) وفي (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها – وفي رواية طولها – ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)). (¬3) والنظر إلى وجه الله تعالى هو من المزيد الذي وعد الله به المحسنين لَهُم ما يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35]، لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]، وقد فسرت الحسنى بالجنة، والزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، يشير إلى هذا الحديث الذي رواه مسلم ... ورؤية الله رؤية حقيقية، لا كما تزعم بعض الفرق التي نفت رؤية الله تعالى بمقاييس عقلية باطلة، وتحريفات لفظية جائرة، وقد سئل الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة عن قوله تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 23]، فقيل: إن قوماً يقولون: إلى ثوابه. فقال مالك: كذبوا، فأين هم عن قوله تعالى: إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15]؟ قال مالك: الناس ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعينهم، وقال: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة، لم يعبر الله عن الكفار بالحجاب، فقال: كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، رواه في (شرح السنة) ومن الذين نصوا على رؤية المؤمنين ربهم في الجنات الطحاوي في العقيدة المشهورة باسم (العقيدة الطحاوية)، قال: (والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23]، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سَلِم في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وردّ علم ما اشتبه عليه إلى عالمه). وقال شارح (الطحاوية) مبيناً مذاهب الفرق الضالة في هذه المسألة ومذهب أهل الحق: (المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية. وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة). ثم بين أهمية هذه المسألة فقال: (وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودن). ثم بين أن قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص254 ¬

(¬1) رواه البخاري (6549)، ومسلم (2829). (¬2) رواه مسلم (181)، والترمذي (3105). (¬3) النصف الأول من الحديث رواه البخاري (4879)، ومسلم (2838). والنصف الثاني: رواه البخاري (4878)، ومسلم (180). كلاهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

المبحث الثامن: المحاجة بين الجنة والنار

المبحث الثامن: المحاجة بين الجنة والنار أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن الجنة والنار تحاجتا عند ربهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ - زاد في رواية: وغرتهم – فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله – وفي رواية: حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله – فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويُزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً)) أخرجه البخاري ومسلم. (¬1). وللبخاري قال: ((اختصمت الجنة والنار إلى ربهما فقالت الجنة يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم. وقالت النار - يعنى - أوثرت بالمتكبرين. فقال الله تعالى للجنة أنت رحمتي. وقال للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها - قال - فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا، وإنه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول هل من مزيد. ثلاثا، حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ ويرد بعضها إلى بعض وتقول قط قط قط)). (¬2) وله في أخرى: - وكان كثيراً ما يقفه أبو سفيان الحميري، أحد رواته، قال: ((يقال لجهنم، هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب قدمه عليها، فتقول: قط قط)). (¬3) ولمسلم بنحو الأولى، وانتهى عند قوله: ((ولكل واحدة منهما ملؤها)) (¬4). وقال في رواية: ((فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟)) وفي آخره: ((فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع قدمه عليها، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلى بعض)) (¬5) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص266 ¬

(¬1) رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (7449). (¬3) رواه البخاري (4849). (¬4) رواه مسلم (2846) بلفظ: (منكما) بدلاً من (منهما). (¬5) رواه مسلم (2846).

المبحث التاسع: الجنة خالدة وأهلها خالدون

المبحث التاسع: الجنة خالدة وأهلها خالدون • المطلب الأول: عدم فناء الجنة. • المطلب الثاني: النصوص الدالة على أن الجنة خالدة وأهلها خالدون. • المطلب الثالث: القائلون بفناء الجنة.

المطلب الأول: عدم فناء الجنة

المطلب الأول: عدم فناء الجنة يؤمن أهل السنة والجماعة بأن الله عز وجل أعد لعباده المؤمنين جنة عرضها السموات والأرض يدخلها المؤمن فينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت وأنها دار باقية لا تفنى ولا نهاية لها عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] ..... -قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية، كالجنة ... ) (¬1). ........ قال الإمامان الحافظان، أبو حاتم وأبو زرعة - رحمهما الله-: (أدركنا العلماء في جميع الأمصار - حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً - فكان من مذهبهم ... الجنة حق والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبداً) (¬2). وقال الإمام أبو إسماعيل الصابوني - رحمه الله - (ويشهد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان وإنهما باقيتان لا يفنيان أبداً) (¬3). وقال الإمام الحافظ ابن حزم - رحمه الله -: (الجنة حق، والنار حق، وأنهما مخلوقتان مخلدتان هما ومن فهيما بلا نهاية ... كل هذا إجماع من جميع أهل الإسلام، ومن خرج عنه خرج عن الإسلام) (¬4). وغير هؤلاء كثير، ممن نقل الإجماع على أبدية الجنة وعدم فنائها. ذكر مستند الإجماع على عدم فناء الجنة: أخبر الله تعالى بأن أهل الجنة خالدون فيها خلوداً مؤبداً، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [البينة: 7 - 8]. وقال تعالى: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التغابن: 9] وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً [النساء: 122]. ووصفهم بعدم الخروج من الجنة، فقال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 47 - 48]. ووصف نعيمهم بعدم الانقطاع، فقال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108]. وقال تعالى: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 32 - 33]. وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال فيؤمر به فيذبح. قال ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [مريم: 39] وأشار بيده إلى الدنيا)) (¬5). المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين - بتصرف- ص: 884 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (18/ 307)؛ ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 581). (¬2) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/ 199). (¬3) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص: 264). (¬4) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص: 27). (¬5) رواه مسلم (2849).

المطلب الثاني: النصوص الدالة على أن الجنة خالدة وأهلها خالدون

المطلب الثاني: النصوص الدالة على أن الجنة خالدة وأهلها خالدون الجنة خالدة لا تفنى ولا تبيد، وأهلها فيها خالدون، لا يرحلون عنها ولا يظعنون، ولا يبيدون ولا يموتون، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56]، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَناتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107 - 108]. وقد سقنا عند الحديث عن خلود النار – الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح الموت بين الجنة والنار، ثم يقال لأهل الجنة ولأهل النار: ((يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)) (¬1). إن مقتضى النصوص الدالة أن الجنة تخلق خلقاً غير قابل للفناء، وكذلك أهلها، ففي الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يدخل الجنة ينعم، لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)). (¬2) واستمع إلى النداء العلوي الرباني الذي ينادي به أهل الجنة بعد دخولهم الجنة: ((إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا، فلا تبتئسوا أبدا، فذلك قوله عز وجل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43].)) (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص141 ¬

(¬1) رواه البخاري (4730) , ومسلم (2849) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2836). (¬3) رواه مسلم (2837).

المطلب الثالث: القائلون بفناء الجنة

المطلب الثالث: القائلون بفناء الجنة قال بفناء الجنة كما قال بفناء النار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة. وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة قال بفناء حركات أهل الجنة والنار، بحيث يصيرون إلى سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة. وكل هذا باطل، قال شارح الطحاوية: (فأما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر به، قال تعالى: وَأَما الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، أي غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ [هود:108]) وقد ذكر شارح الطحاوية اختلاف السلف في هذا الاستثناء فقال: (واختلف السلف في هذا الاستثناء: فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها، لا لكلهم. وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف. وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل: هو استثناء الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه. وقيل: (إلا) بمعنى الواو، وهذا على قول بعض النحاة، وهو ضعيف. وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن، فيكون الاستثناء منقطعاً ورجحه ابن جرير وقال: إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت، أي سوى ما شئت، ولكن ما شئت من الزيادة عليه. وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم – مع خلودهم – في مشيئة الله، لأنهم لا يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً [الإسراء:86]، وقوله تعالى: (فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، وقوله: قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [يونس:16]، ونظائره كثيرة، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وقيل: إن (ما) بمعنى (من) أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء. وقيل غير ذلك. وعلى كل تقدير، فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله: عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]. وكذلك قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ [ص:54]. وقوله: أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا [الرعد:35].وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56].وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ [هود:108]، - تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص143

الفصل الثاني: النار

المبحث الأول: تعريف النار النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين به، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسحن فيه المجرمين. وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه، رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران: 192]، أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة: 63]، وقال: إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15]. وكيف لا تكون النار كما وصفنا وفيها من العذاب والآلام والأحزان ما تعجز عن تسطيره أقلامنا، وعن وصفه ألسنتنا، وهي مع ذلك خالدة وأهلها فيها خالدون، ولذلك فإن الحق أطال في ذم مقام أهل النار في النار إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 66]، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص: 55 – 56]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص11

المبحث الثاني: الجنة والنار مخلوقتان

المبحث الثاني: الجنة والنار مخلوقتان قال الطحاوي في العقيدة السلفية التي تنسب إليه المعروفة بالعقيدة (الطحاوية): والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى: خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد. وقال ابن أبي العز الحنفي شارح (الطحاوية) في شرحه لهذا النص: أما قوله: إن الجنة والنار مخلوقتان، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة على ذلك، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية، فأنكرت ذلك، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة. وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا. وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة. وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث، لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة. فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم. ثم ساق الأدلة من الكتاب والسنة التي تدل على أنهما مخلوقتان، فمن نصوص الكتاب: قوله تعالى: عن الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد: 21]، وعن النار أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131]، إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا [النبأ: 21 – 22]. وقال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 13– 15]. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى. كما في (الصحيحين)، من حديث أنس رضي الله عنه، في قصة الإسراء، وفي آخره: ((ثم انطلق بي جبرائيل، حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) (¬1). وفي (الصحيحين) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)) (¬2) وحديث البراء بن عازب وفيه: ((ينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها)). (¬3) وفي (صحيح مسلم)، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت الحديث، وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أقدم. ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت)). (¬4) ¬

(¬1) رواه البخاري (3342)، ومسلم (163). (¬2) رواه البخاري (1379)، ومسلم (2866). (¬3) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 300). والحدبث سكت عنه أبو داود. وقال البيهقي: هذا حديث صحيح الإسناد. وحسنه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 280)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 116) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) رواه البخاري (1212)، ومسلم (901) ..

وفي (الصحيحين) واللفظ للبخاري، عن عبدالله بن عباس، قال: ((انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه: فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك كعكعت؟ فقال: إني رأيت الجنة، فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم، يا رسول الله؟ قال: بكفرهن قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط)) (¬1) وفي (صحيح مسلم) من حديث عائشة السابق أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بعد الصلاة: ((لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً، ولضحكتم قليلاً)). (¬2) وفي (الموطأ) و (السنن)، من حديث كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما نسمة المؤمن طيرٌ تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة)) (¬3) وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة. وفي (صحيح مسلم) و (السنن) و (المسند)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبرائيل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة، فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فنظر إليها، ثم رجع فقال: وعزتك، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. قال: ثم أرسله إلى النار، قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضاً، ثم رجع فقال: وعزتك، لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحفت بالشهوات، ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزتك، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)) (¬4) ونظائر ذلك في السنة كثيرة وقد عقد البخاري في (صحيحه) باباً قال فيه: باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة وساق في هذا الباب أحاديث كثيرة تدل على أن الجنة مخلوقة، منها الحديث الذي ينص على أن الله يُري الميت عندما يوضع في قبره مقعده من الجنة والنار (¬5)، وحديث اطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على الجنة والنار (¬6)، وحديث رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لقصر عمر بن الخطاب في الجنة (¬7)، وغير ذلك من الأحاديث، وقد كان ابن حجر مصيباً عندما قال: وأصرح مما ذكره البخاري في ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد قوي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها)) (¬8) (¬9) شرح العقيدة الصحاوية لابن أبي العز2/ 614 ¬

(¬1) رواه البخاري (1052)، ومسلم (907). (¬2) رواه مسلم (901). والحديث رواه البخاري (6631). (¬3) رواه النسائي (4/ 108)، وابن ماجه (4271)، ومالك (1/ 240). قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/ 614)، وابن حجر في ((توالي التأسيس)) (ص203)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬4) رواه مسلم مختصرا (2822)، وأبو داود (4744)، والترمذي (2560)، والنسائي (7/ 3)، وأحمد (2/ 332) (8379)، والحاكم (1/ 79). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬5) الحديث رواه البخاري (3240) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. (¬6) الحديث رواه البخاري (3241). من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. (¬7) الحديث رواه البخاري (3242). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) رواه أبو داود (4744)، وأحمد (2/ 332) (8379). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. والحديث رواه مسلم مختصرا (2822)، ورواه الترمذي (2560)، والنسائي (7/ 3)، والحاكم (1/ 79). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. (¬9) انظر: ((فتح الباري)) (6/ 369).

المبحث الثالث: في بيان وجود النار الآن

المبحث الثالث: في بيان وجود النار الآن أعلم أنه لم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون, وأهل السنة, والحديث قاطبة. وفقهاء الإسلام, وأهل التصوف والزهد, على اعتقاد ذلك وإثباته، مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، .... ، فإنهم دعوا الأمم إليها, وأخبروا بها, إلى أن نبغت نابغة من أهل البدع والأهواء فأنكرت أن تكون الآن مخلوقة موجودة، وقالت بل الله ينشئها يوم المعاد. وأن خلق النار قبل الجزاء عبث فإنها تصير معطلة مدداً متطاولة ليس فيها سكانها؛ فردوا من النصوص الأصول والفروع، وضللوا كل من خالف بدعتهم هذه بما لا يسمن ولا يغني من جوع. ولهذا صار السلف الصالح ومن نحا نحوهم يذكرون في عقائدهم أن الجنة والنار مخلوقتان الآن موجودتان في الحال، ويذكر من صنف في المقالات أن هذه مقالة أهل السنة والحديث كافة لا يختلفون فيها، منهم أبو الحسن الأشعري إمام الأشاعرة في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين). وقد ذكر الله تعالى النار في كتابه في مواضع كثيرة يتعسر حدها ويفوت عدها ووصفها. وأخبر بها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ونعتها فقال عز من قال فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24] وقال إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف: 29]. وقال إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [الكهف: 102] وقال بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [الفرقان: 11] وقال تعالى أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25] وقال وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] وقال وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] وقال النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] إلى غير ذلك من الأدلة القطعية التي كلها صيغ موضوعة للمعنى حقيقة فلا وجه للعدول عنها إلى المجازات إلا بصريح آية أو صحيح دلالة وأنى لهم ذلك؟ وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي, إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة, وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) (¬1). وفيهما أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأى في صلاة الكسوف النار فلم ير منظر أفظع من ذلك)) (¬2) وفي البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) (¬3) وفيه دلالة على وجودها حال اطلاعه, ورواه الترمذي والنسائي أيضاً. وفي الصحيح (باب صفة النار وأنها مخلوقة الآن) وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم)) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً, فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء, ونفس في الصيف, فأشد ما تجدون من الحر, وأشد ما تجدون من الزمهرير)) (¬4) رواه البخاري أي من ذلك التنفس. ¬

(¬1) رواه البخاري (1379)، ومسلم (2866). (¬2) حديث الكسوف رواه البخاري (51097)، ومسلم (907). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (5198). (¬4) رواه البخاري (3258).

وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمى من فيح جهنم, فأبردوها بالماء)) (¬1) رواه البخاري وفي رواية ((من فور جهنم)) (¬2) رواه عن رافع بن خديج. وكل ذلك يفيد وجود النار الآن، وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما: ((ولقد أدنيت النار مني حتى لقد جعلت أتقيها خشية أن تغشاكم)) (¬3) الحديث وفي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم: قال ((لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال رأيت الجنة والنار)) (¬4). وفي مسند أحمد ومسلم والسنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها, قال: فرجع إليه وقال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها, فأمر بها فحفت بالمكاره, فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها. قال فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها, فإذا هي يركب بعضها بعضاً، فرجع إليه: فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها, فأمر بها فحفت بالشهوات, فقال: ارجع إليها, فرجع إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)) (¬5). قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وفي الصحيحين من حديثه أيضاً يرفعه: ((حجبت الجنة بالمكاره, وحجبت النار بالشهوات)) (¬6) وفي الباب أحاديث كثيرة، وقال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي في عقائده: (الجنة والنار حق, وهما مخلوقتان اليوم, باقيتان إلى يوم القيامة) انتهى، ونحوه ومثله في الكتب الأخرى المؤلفة في أصول الدين. يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار لصديق حسن خان - بتصرف– ص: 13 ¬

(¬1) رواه البخاري (3261) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه البخاري (3264)، ومسلم (2209). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (¬2) رواه البخاري (3262)، ومسلم (2212). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 188) (6763)، والنسائي (3/ 137) (1482). قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): (9/ 197): إسناده حسن. (¬4) رواه مسلم (426). (¬5) رواه مسلم (8223)، أبو داود (4744)، والترمذي (2560)، والنسائي (7/ 3)، وأحمد (2/ 332) (8379)، والحاكم (1/ 79). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬6) رواه البخاري (6487)، ومسلم (2823). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المبحث الرابع: شبهة من قال النار لم تخلق بعد

المبحث الرابع: شبهة من قال النار لم تخلق بعد وقد ناقش شارح (الطحاوية) شبهة الذين قالوا: لم تخلق النار بعد، ورد عليها فقال: وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد، وهي: أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت، لقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص: 88]، وكُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وقد روى الترمذي في (جامعه)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر)) (¬1). وفيه أيضاً: من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة)) (¬2). قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى. قالوا: وكذا قوله تعالى: عن امرأة فرعون أنها قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم: 11]. فالجواب: إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يُحدث فيها شيئاً بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أحدث فيها عند دخولهم أموراً أخر - فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر. وأما احتجاجكم بقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص: 88]، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن – نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما!! فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية، وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام. فمن كلامهم: أن المراد كُلُّ شَيْء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هَالِكٌ، والجنة والنار خُلِقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش، فإنه سقف الجنة. وقيل: المراد إلا مُلْكَه. وقيل: إلا ما أريد به وجهه. وقيل: إن الله تعالى: أنزل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن: 26]، فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض، وطمعوا في البقاء، فأخبر تعالى: عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون، فقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص: 88] لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت. وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص المحكمة، الدالة على بقاء الجنة، وعلى بقاء النار أيضاً. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 13 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3462). وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 439) – كما أشار لذلك في مقدمته - والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). انظر: ((فتح الباري)) (6/ 369). (¬2) رواه الترمذي (3464)، والحاكم (1/ 680). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لانعرفه إلا من حديث أبي الزبير عن جابر. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المبحث الخامس: خزنة النار

المبحث الخامس: خزنة النار يقوم على النار ملائكة، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، لا يعصون الله الذي خلقهم، ويفعلون ما يؤمرون، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. وعدتهم تسعة عشر ملكاً، كما قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 26 - 30] وقد فتن الكفار بهذا العدد، فقد ظنوا أنه يمكن التغلب على هذا العدد القليل، وغاب عنهم أن الواحد من هؤلاء يملك من القوة ما يواجه به البشر جميعاً، ولذلك عقب الحق على ما سبق بقوله: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا [المدثر: 31]. قال ابن رجب: والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته. وهؤلاء الملائكة هم الذين سماهم الله بخزنة جهنم في قوله: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ [غافر: 49]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 19

المبحث السادس: صفة النار

المطلب الأول: مكان النار أما مكانها فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (جهنم في الأرض السابعة). رواه أبو نعيم (¬1). وخرج ابن منده عن مجاهد قال: (قلت لابن عباس رضي الله عنهما: أين النار؟ قال: تحت سبعة أبحر مطبقة) ...... وخرج ابن خزيمة، وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه: (إن الجنة في السماء، وإن النار في الأرض) (¬2). وابن أبي الدنيا عن قتادة: (كانوا يقولون: الجنة في السموات السبع، وإن جهنم في الأرضين السبع) (¬3). وفي حديث البراء في حق الكافر: ((يقول الله: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى, فتطرح روحه طرحاً)) (¬4) خرجه الإمام أحمد، وغيره وتقدم أول الكتاب بطوله. وأخرج الإمام أحمد بسند فيه نظر عن يعلى بن أمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البحر هو جهنم)) فقالوا ليعلى: ألا تركبها. يعني: البحور. قال: ألا ترون أن الله يقول: نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف: 29]. لا والذي نفس يعلى بيده لا أدخلها أبداً حتى أعرض على الله عز وجل ولا يصيبني منها قطرة حتى ألقى الله عز وجل. (¬5) قال الحافظ ابن رجب (¬6): (وهذا إن شئت فالمراد به أن البحار تفجر يوم القيامة فتصير بحراً واحداً، ثم يسجر ويوقد عليها فتصير ناراً، وتزاد في نار جهنم. وقد فسر قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير: 6] بنحو هذا). وقال ابن عباس: تسجر تصير ناراً. وفي رواية عنه: (تكون الشمس والقمر والنجوم في البحر, فيبعث الله عليها ريحاً دبورا فتنفخه حتى يرجع ناراً) رواه ابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، وأخرجا عنه أيضاً في قوله: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 54]. قال: (هو هذا البحر فتنشر الكواكب فيه، وتكور الشمس والقمر فيه فيكون هو جهنم). وقال سيدنا علي رضي الله عنه ليهودي: (أين جهنم؟ قال: تحت البحر قال علي: صدق، ثم قرأ: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) [التكوير: 6] رواه ابن أبي إياس. وخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ. قال: (قالت الجن للإنس: نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج) (¬7). ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في ((صفة الجنة)) (127). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في ((صفة النار)) (177). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في ((صفة النار)) (183). (¬4) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (ص 119) وابن منده في ((الإيمان)) (398)، والحاكم (1/ 93)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 355) (395). قال ابن منده: هذا إسناد متصل مشهور رواه جماعة عن البراء وهو ثابت على رسم الجماعة، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال البيهقي: صحيح الإسناد، وقال الهيثمي (3/ 50): رجاله رجال الصحيح. (¬5) رواه أحمد (4/ 223) (17989). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 389): رواه أحمد ورجاله ثقات، وقال السيوطي في ((البدور السافرة)) (309): رجاله ثقات. (¬6) ((التخويف من النار)) (ص: 47). (¬7) رواه ابن أبي الدنيا في ((الأهوال)) (23).

وفي سنن أبي داود عن ابن عمرو مرفوعاً: ((لا يركب البحر إلا حاجاً، أو معتمراً، أو غازياً في سبيل الله فإن تحت البحر ناراً، وتحت النار بحراً)) (¬1). وروي عن ابن عمر مرفوعاً: ((إن جهنم محيطة بالدنيا، وإن الجنة من ورائها فلذلك كان الصراط على جهنم طريقا إلى الجنة)) (¬2). قال الحافظ ابن رجب: (هذا حديث غريب منكر) (¬3). وقيل: إن النار في السماء. وخرج الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتيت بالبراق فلم نزايل طرفه أنا وجبريل حتى أتيت بيت المقدس، وفتح لنا أبواب السماء، ورأيت الجنة والنار)) (¬4). وخرج عنه أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ليلة أسري بي الجنة والنار في السماء فقرأت هذه الآية: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات: 22] فكأني لم أقرأها قط)) (¬5). ولا حجة في هذا ونحوه على أن النار في السماء لجواز أن يراها في الأرض وهو في السماء, وهذا الميت يرى وهو في قبره الجنة والنار وليست الجنة في الأرض, وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآهما وهو في صلاة الكسوف وهو في الأرض, وفي بعض طريق حديث الإسراء عن أبي هريرة أنه مر على أرض الجنة والنار في مسيره إلى بيت المقدس (¬6). ولم يدل شيء من ذلك على أن الجنة في الأرض، فحديث حذيفة إن ثبت فيه أنه رأى الجنة والنار في السماء، فالسماء ظرف للرؤية لا للمرئي أي: رأيت الجنة والنار حال كوني في السماء، يعني: صدرت الرؤيا مني وأنا في السماء، ولا تعرض في الحديث للمرئي فتأمل. البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني - بتصرف – 3/ 1313 وعن عبد الله ابن سلام قال: (إن أكرم خليفة لله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم, وإن الجنة في السماء) (¬7) أخرجه أبو نعيم، وعنده أيضاً عن ابن عباس ((أن الجنة في السماء السابعة)) ويجعلها الله تعالى حيث شاء يوم القيامة، ((وجهنم في الأرض السابعة)) (¬8) وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ((الجنة في السماء الرابعة, فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث شاء, والنار في الأرض السابعة فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث شاء)) (¬9) أخرجه ابن مندة (¬10). وقال مجاهد: قلت لابن عباس: (أين الجنة؟ قال: فوق سبع سموات، قلت: فأين النار؟ قال: تحت سبعة أبحر مطبقة) (¬11) رواه ابن منده، قال الشوكاني في فتح القدير: والأولى الحمل على ما هو الأعم من هذه الأقوال, فإن جزاء الأعمال مكتوب في السماء, والقدر, والقضاء ينزل منها, والجنة والنار فيها. انتهى. ... ¬

(¬1) رواه أبو داود (2489). وسكت عنه، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 18). (¬2) رواه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (2/ 291). قال ابن رجب في ((التخويف من النار)) (76): غريب منكر، وقال ابن حجر في ((لسان الميزان)) (2/ 359): هذا منكر جداً محمد بن حمزة واه. (¬3) ((التخويف من النار)) (ص: 48). (¬4) رواه الترمذي (3147)، وأحمد (5/ 392) (23380)، وابن حبان (1/ 233) (45)، والحاكم (2/ 391). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وحسن إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (874). (¬5) روي ذلك من قول مجاهد والضحاك وسفيان كما في ((تفسير الطبري)) (26/ 206) والعظمة لأبي الشيخ (4/ 1261). (¬6) ((التخويف من النار)) (ص: 49). (¬7) رواه أبو نعيم في ((صفة الجنة)) (126). (¬8) رواه أبو نعيم في ((صفة الجنة)) (127). (¬9) رواه أبو نعيم في ((صفة الجنة)) (129). (¬10) ذكره ابن القيم بإسناده عنه (44) و ((لوامع الأنوار البهية)) (ص: 237). (¬11) ذكره ابن القيم بإسناده (44) و ((لوامع الأنوار)) (ص: 237).

والحاصل أن الجنة فوق السماء السابعة, وسقفها العرش، وأن النار في الأرض السابعة على الصحيح المعتمد وبالله التوفيق) انتهى (¬1). ... قال السيوطي في (إتمام الدراية شرح النقاية): (ونقف عن النار, أي نقول فيها بالوقف, أي محلها حيث لا يعلمه إلا الله، فلم يثبت عندي حديث أعتمده في ذلك, وقيل: تحت الأرض لما روى ابن عبد البر وضعفه من حديث ابن عمر مرفوعاً ((لا يركب البحر إلا غاز أو حاج, أو معتمر, فإن تحت البحر ناراً)) (¬2) ...... وقيل: هي على وجه الأرض لما روى وهب أيضاً قال: (قال: أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالاً صغاراً – إلى أن قال – يا قاف, أخبرني عن عظمة الله, فقال: إن شأن ربنا لعظيم. إن ورائي أرضاً مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام, من جبال ثلج, يحطم بعضها بعضاً ولولا هي لاحترقت من جهنم). وروى الحارث بن أسامة في مسنده عن عبد الله بن سلام قال: (الجنة في السماء والنار في الأرض) وقيل: محلها في السماء). انتهى كلام السيوطي ومثله في التذكرة للقرطبي قال: (فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها, وأين هي من الأرض). انتهى. وقال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي في عقيدته: (ولم يصرح نص بتعيين مكانهما بل حيث شاء الله تعالى إذ لا إحاطة لنا بخلق الله وعوالمه)، انتهى. أقول وهذا القول أرجح الأقوال وأحوطها إن شاء الله تعالى. يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار لصديق حسن خان- بتصرف– ص: 23 ¬

(¬1) ((لوامع الأنوار البهية)) (ص: 239). (¬2) ((التمهيد)) (1/ 239 - 240).

المطلب الثاني: سعة النار وبعد قعرها

المطلب الثاني: سعة النار وبعد قعرها وأما قعرها وعمقها فعن خالد بن عمير قال: ((خطب عتبة بن غزوان فقال: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً والله لَتُملأَن أفعجبتم.)) (¬1) رواه مسلم موقوفاً هكذا، وكذا خرجه الإمام أحمد موقوفاً، وخرجه أيضاً مرفوعاً. قال الحافظ: والموقوف أصح (¬2). وخرج الترمذي عن عتبة بن غزوان أنه قال على منبر البصرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين وما تقض إلى قرارها)). قال: وكان عمر رضي الله عنه يقول: (أكثروا ذكر النار, فإن حرها شديد, وإن قعرها بعيد, وإن مقامعها من حديد) (¬3). قال الترمذي: (رواه الحسن عن عتبة ولا نعرف للحسن سماعاً من عتبة بن غزوان). وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمعنا وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفاً)) (¬4). وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو أن حجراً قذف به في نار جهنم لهوى فيها سبعين خريفاً قبل أن يبلغ قعرها)) (¬5) (¬6). وأخرج ابن المبارك عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن ما بين شفير جهنم مسيرة سبعين خريفاً من حجر يهوي أو صخرة تهوي عظمها كعشر عشراوات أي: نوق عشارية عظام سمان فقال له رجل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ قال: نعم غي وآثام) (¬7). قال الحافظ في التخويف (¬8): (وقد روي هذا مرفوعاً بإسناد فيه ضعف وزاد فيه: ((قيل وما غي وما آثام قال: بئران يسيل فيهما صديد أهل النار وهما اللتان ذكرهما الله في كتابه فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] وفي الفرقان يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68].)) (¬9). قال الحافظ: (والموقوف أصح) (¬10). وأخرج الإمام أحمد عن عبد الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على شفير جهنم, ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإذا قال: ألقه، ألقاه في مهوي أربعين خريفاً)) (¬11). ¬

(¬1) رواه مسلم (2967) موقوفاً. (¬2) ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 72). (¬3) رواه الترمذي (2575) وقال: لا نعرف للحسن سماعا من عتبة بن غزوان وإنما قدم عتبة بن غزوان البصرة في زمن عمر وولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه مسلم (2844). (¬5) رواه ابن حبان (16/ 509) (2575). وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2165): رجاله ثقات. (¬6) ((التخويف من النار)) (ص: 72 - 73). (¬7) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (302). (¬8) ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 74). (¬9) رواه الطبراني (8/ 175) (7747)، المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 255). وقال: [روي] موقوفا على أبي أمامة، وهو أصح. (¬10) ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 74). (¬11) رواه أحمد (1/ 430) (4097). قال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/ 162): في إسناده مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه جماعة، وحسن إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (6/ 74).

وفي التخويف للحافظ (¬1) بسند فيه عبد الله بن الوليد الرصافي لا يحفظ الحديث – وكان شيخاً صالحاً – أن أبا ذر رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقي منه مفصل إلا زال عن مكانه, فإن كان مطيعاً لله في عمله مضى به، وإن كان عاصياً لله في عمله انخرق به الجسر فهوى في جهنم مقدار خمسين عاماً. فقال له عمر رضي الله عنه: من يطلب العمل بعد هذا؟ قال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت الله أنفه, وألصق خده بالتراب, فجاء أبو الدرداء فقال له عمر: يا أبا الدرداء هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حدثنا بحديث حدثني به أبو ذر، قال: فأخبره أن مع الخمسين خمسين عاما يهوي أو نحو هذا)) (¬2). ........ وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار)) (¬3) وفي لفظ ((يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) (¬4). وأخرج الإمام أحمد والترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)) (¬5). وخرجه ابن ماجه وكذا البزار بنحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه. هذا عمقها. وأما سعتها فروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: قال: أجل والله ما تدرون, ما بين شحمة أذن أحدهم وعاتقه مسيرة سبعين خريفاً، تجري فيه أودية القيح والصديد والدم، قلنا: أنهار؟ قال: لا بل أودية، ثم قال: أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] فأين الناس يومئذ؟ قال: على جسر جهنم)) روه الإمام أحمد. (¬6) وخرج النسائي والترمذي منه المرفوع وصححه الترمذي وخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني - بتصرف– 3/ 1323 ¬

(¬1) ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 74). (¬2) رواه الطبراني (2/ 39) (1220)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 113). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 208): فيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (1810). (¬3) رواه البخاري (6477)، مسلم (2988). (¬4) رواه مسلم (2988). (¬5) رواه الترمذي (2314)، وأحمد (2/ 236) (7214). قال ابن حجر في ((الكافي الشاف)) (323): أصله في البخاري، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (15/ 107)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. (¬6) رواه أحمد (6/ 116) (24900)، والحاكم (2/ 473). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (561).

المطلب الثالث: دركات النار

المطلب الثالث: دركات النار النار متفاوتة في شدة حرها، وما أعده الله من العذاب لأهلها، فليست درجة واحدة، وقد قال الحق تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145]. والعرب تطلق: الدرك على كل ما تسافل، كما تطلق: الدرج على كل ما تعالى: فيقال: للجنة درجات وللنار دركات، وكلما ذهبت النار سفلاً كلما علا حرها واشتد لهيبها، والمنافقون لهم النصيب الأوفر من العذاب، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار. وقد تسمى النار درجات أيضاً، ففي سورة الأنعام ذكر الله أهل الجنة والنار، ثم قال: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ [الأنعام: 132]، وقال: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ, هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران: 162 - 163]، قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: (درجات الجنة تذهب علواً، ودرجات النار تذهب سفلاً) (¬1). وقد ورد عن بعض السلف أن عصاة الموحدين ممن يدخلون النار يكونون في الدرك الأعلى، ويكون في الدرك الثاني اليهود، وفي الدرك الثالث النصارى، وفي الدرك الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون. ووقع في بعض الكتب تسمية هذه الدركات: فالأول جهنم، والثاني لظى، والثالث الحطمة، والرابع السعير، والخامس سقر، والسادس الجحيم، والسابع الهاوية. ولم يصح تقسيم الناس في النار وفق هذا التقسيم، كما لم يصح تسمية دركات النار على النحو الذي ذكروه، والصحيح أن كل واحد من هذه الأسماء التي ذكروها: جهنم، لظى، الحطمة ... إلخ اسم علم للنار كلها، وليس لجزء من النار دون جزء الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 25 فعذاب جهنم متفاوت بعضه أشد من بعض، وعلى هذا فمنازل أهل النار متفاوتة بتفاوت دركاتها، وقد أخبر سبحانه أن المنافقين أسفل أهل النار إذ هم في الدرك الأسفل منها. وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أهون أهل النار عذاباً فقال: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه)) (¬2). وصرح صلى الله عليه وسلم أنه أبو طالب فقال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو متنعل بنعلين يغلي منهما دماغه)) (¬3). ولا شك أن عصاة المؤمنين الذين يدخلون النار فيعذبون فيها على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها .... لا شك أنهم أهون أهل النار عذاباً لأن عذابهم فيها مؤقت، أما بقية أهل النار من الكفار والمنافقين فكما قال الله عز وجل فيهم: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [فاطر: 36]. ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أهون أهل النار عذاباً)) في هذا الحديث أهلها المقيمين فيها الذين لا يخرجون منها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فأماتهم إماتة. حتى إذا كانوا فحماً، أذن بالشفاعة. فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبثوا على أنهار الجنة. ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل)) (¬4). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد عبدالرحمن الشظيفي - بتصرف – ص 413 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير البغوي)) (7/ 259). (¬2) رواه البخاري (6561). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (212). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (806)، ومسلم (182). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المطلب الرابع: سجر جهنم وتسعرها

المطلب الرابع: سجر جهنم وتسعرها روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله النار أرسل إليها جبريل قال له: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، قال: فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضاً, فرجع فقال: وعزتك لا يدخلها أحد سمع بها, فأمر بها فحفت بالشهوات, ثم قال له: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها, فذهب فنظر إليها ورجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)) خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي (¬1). وفي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ملكين أتياه في المنام فذكر رؤيا طويلة وفيها: قال: انطلقت, فأتينا على رجل كريه المرآة, كأكره ما أنت راء، فإذا هو عند نار يحشها ويسعى حولها قال: قلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق)) وفي آخر الحديث: ((قالا: فأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم)) وقد خرجه البخاري بتمامه، وخرج مسلم أوله ولم يتمه (¬2). وقوله: ((كريه المرآة)) أي المنظر, وقوله: ((يحشها)) أي يوقدها. وروى هذا الحديث أبو خلدة عن أبي رجاء عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله، وفي حديثه قال: ((فرأيت شجرة لو اجتمع تحتها خلق كثير لأظلتهم, وتحتها رجلان أحدهما يوقد ناراً والآخر يحتطب الحطب)) وفي آخر الحديث: ((قلت: فالرجلان اللذان رأيت تحت الشجرة، قال: ذلك ملكان من جهنم يحمون جهنم لأعداء الله إلى يوم القيامة)) (¬3) ... وجهنم تسجر كل يوم نصف النهار, وفي (صحيح مسلم) عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلِّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع, فإنها تطلع بين قرني شيطان, وحينئذ يسجد لها الكفار, ثم صل فإن الصلاة مشهودة (محظورة) حتى يستقل الظل بالرمح, ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل)) (¬4) وذكر بقية الحديث. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه من حديث أبي أمامة وغيره (¬5). وفي حديث صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا طلعت الشمس فصل حتى تعتدل على رأسك مثل المرح، فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسخر فيها جهنم وتفتح فيها أبوابها, حتى تزول عن حاجبك الأيمن)) خرجه عبدالله بن الإمام أحمد (¬6). وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس, فإنها حيئنذ تسعر جهنم, وشدة الحر من فيح جهنم)) (¬7). وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود قال: (أن الشمس تطلع بين قرني شيطان, أو في قرني شيطان, فما ترتفع قصمة في السماء إلا فتح لها باب من أبواب النار, فإذا كانت الظهيرة فتحت أبواب النار كلها, فكنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس, وعند غروبها, ونصف النهار) (¬8) خرجه يعقوب بن شيبة ورواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عياش أيضاً. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) (¬9) وفي رواية خرجها أبو نعيم: ((من فيح جهنم)) أو ((من فيح أبواب جهنم)) (¬10) التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار لا بن رجب - ص: 98 – 101 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4744)، والترمذي (2560)، والنسائي (7/ 3)، وأحمد (2/ 332) (8379)، والحاكم (1/ 79). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. والحديث رواه مسلم مختصرا (2822). (¬2) رواه البخاري (7047)، ومسلم (2275). (¬3) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (27/ 4). (¬4) رواه مسلم (832). (¬5) الحديث رواه الطبراني (8/ 288) (8106)، والبيهقي (2/ 454) (4559). وقال: له شاهد، (¬6) رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/ 312) (22713)، ورواه ابن ماجه (1042)، والحاكم (3/ 594). وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال البوصيري (1/ 229): هذا إسناد حسن، وقال الهيثمي (2/ 227): رواه عبد الله في زياداته في المسند، ورجاله رجال الصحيح، إلا أني لا أدري سمع سعيد المقبري منه أم لا؟ (¬7) رواه ابن حبان (4/ 418) (1550)، وأبو يعلى (11/ 457) (6581)، والبيهقي (3/ 302) (6023). قال ابن رجب في ((فتح الباري)) (3/ 288): منقطع، وضعف إسناده الألباني في ((صحيح ابن خزيمة)) (1275). (¬8) رواه أبو يعلى (8/ 390) (4977)، والبزار كما في ((مجمع الزوائد)) (2/ 237) وقال: رواه أبو يعلى والبزار ورجالهما ثقات، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (877). (¬9) رواه البخاري (536)، ومسلم (615). (¬10) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/ 274).

المطلب الخامس: أبواب النار

المطلب الخامس: أبواب النار أخبر الحق أن للنار سبعة أبواب كما قال تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر: 43 - 44]. قال ابن كثير في تفسير الآية: أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه، أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بحسب عمله ونُقِلَ عن علي بن أبي طالب قوله وهو يخطب: إن أبواب جهنم هكذا - قال أبو هارون - أطباقاً بعضها فوق بعض ونُقل عنه أيضاً قوله: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تمتلئ كلها (¬1). وعندما يردُ الكفار النار تفتح أبوابها، ثم يدخلونها خالدين وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71]، وبعد هذا الإقرار يقال لهم: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72]، وهذه الأبواب تغلق على المجرمين، فلا مطمع لهم في الخروج منها بعد ذلك، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ [البلد: 19 - 20]. قال ابن عباس: مُّؤْصَدَةٌ مغلقة الأبواب، وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش، أي أغلقه. (¬2) وقال الحق في سورة الهمزة: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ [الهمزة: 1 - 9]. فأخبر الحق أن أبوابها مغلقة عليهم، وقال ابن عباس: فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ يعني الأبواب هي الممددة، وقال قتادة في قراءة ابن مسعود: إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة، وقال عطية العوفي: هي عمد من حديد، وقال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، وعلى هذا فقوله: مُّمَدَّدَةٍ صفة للعمد، يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممددة مطولة، والممدود الطويل أرسخ وأثبت من القصير. وقد تفتح أبواب النار وتغلق قبل يوم القيامة، فقد أخبر المصطفى أن أبواب النار تغلق في شهر رمضان، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ومردة الجن)) (¬3). وخرّج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب)) (¬4) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 27 ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (17/ 106). (¬2) انظر: تفسير ابن كثير (8/ 409). (¬3) رواه مسلم (1079). (¬4) رواه الترمذي (682)، والنسائي (4/ 126)، وابن ماجه (1642). قال الترمذي: غريب. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 312) - كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

المطلب السادس: بعد أبواب جهنم بعضها من بعض وما أعد الله تعالى فيها من العذاب

المطلب السادس: بُعد أبواب جهنم بعضها من بعض وما أعد الله تعالى فيها من العذاب قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] قال: (من الكفار، والمنافقين, والشياطين، بين الباب والباب خمسمائة عام, فالباب الأول: يسمى جهنم لأنه يتجهم في وجوه الرجال والنساء، فيأكل لحومهم، وهو أهون عذاباً من غيره، والباب الثاني: يقال له: لظى نزاعة للشوى، ويقول آكلة لليدين والرجلين, تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن التوحيد وتولى عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والباب الثالث: يقال: له سقر، وإنما سمي سقر لأنه يأكل لحوم الرجال والنساء لا يبقى لهم لحماً على عظم، والباب الرابع يقال له: الحطمة. فقد قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ الآية تحطم العظام، وتحرق الأفئدة: قال تعالى: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ , تأخذه النار من قدميه، وتطلع على فؤاده، وترمي بشرر كالقصر، كما قال تعالى: تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ الآية, يعني سوداً فتطلع الشرر إلى السماء، ثم تنزل فتحرق وجوههم, وأيديهم, وأبدانهم، فيبكون الدمع حتى ينفذ، ثم يبكون الدماء، ثم يبكون القيح حتى تنفذ، حتى أن السفن لو أرسلت تجري فيما خرج من أعينهم لجرت، والباب الخامس يقال: له الجحيم, وإنما سمي الجحيم لأنه عظيم، الجمرة الواحدة منه أعظم من الدنيا. والباب السادس: يقال له: السعير وإنما سمي السعير لأن يسعر منذ خلق؛ فيه ثلاثمائة قصر في كل قصر ثلاثمائة بيت في كل بيت ثلاثمائة لون من العذاب, وفيه الحيات، والعقارب، والقيود، والسلاسل، والأغلال، والأنكال، وفيه جب الحزن، ليس في النار عذاب أشد منه، إذا فتح باب الجب حزن أهل النار حزناً شديداً. الباب السابع: يقال له الهاوية من وقع فيه لم يخرج منه أبداً. وفيه بئر الهباب إذا فتح تخرج منه نار تستعيذ منه النار، وفيه الذي قال الله عز وجل: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا أو جبل من نار تصعده أعداء الله على وجوههم, مغلولة أيديهم إلى أعناقهم, مجموعة أعناقهم إلى أقدامهم, والزبانية وقوف على رءوسهم, بأيديهم مقامع من حديد، إذا ضرب أحدهم بالمقمعة ضربة سمع صوتها الثقلان، وأبواب النار حديد، فرشها الشوك، غشاوتها الظلمة, أرضها نحاس, ورصاص, وزجاج، النار من فوقهم، والنار من تحتهم، لهم من فوقهم ظلل من النار. ومن تحتهم ظلل, أوقد عليها ألف عام حتى احمرت, وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مدلهمة مظلمة، قد مزجت بغضب الله). ذكره القتيبي في كتاب (عيون الأخبار). وذكر عن ابن عباس: (أن جهنم سوداء مظلمة لا ضوء لها ولا لهب، وهي كما قال تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ على كل باب سبعون ألف جبل, على كل جبل سبعون ألف شعب من النار، في كل شعب سبعون ألف شق من نار، في كل شق سبعون ألف واد من نار، في كل واد سبعون ألف قصر من النار، في كل قصر سبعون ألف حية, وسبعون ألف عقرب، لكل عقرب سبعون ألف ذنب، لكل ذنب سبعون ألف نقار, لكل نقار سبعون ألف قلة من سم، فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء, فتطير منها سرادق عن يمين الثقلين, وآخر عن شمالهم, وسرادق أمامهم, وسرادق من فوقهم, وآخر من ورائهم، فإذا نظر الثقلان إلى ذلك جثوا على ركبهم وكل ينادي رب سلم سلم). قال القرطبي (¬1): (ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو توقيف لأنه أخبار عن مغيب). انتهى. ثم نقل عن وهب بن منبه نحوه. وأقول: وهب يحدث عن الإسرائيليين كثيراً، ولا يقبل مثل ذلك عنه، ولا عن أمثاله ونظرائه إلا أن يرد به دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، وما ورد في ذلك من القرآن والحديث يكفي، ويشفي ويغني عن غيره. يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار لصديق حسن خان– ص: 113 ¬

(¬1) ((التذكرة)) (ص: 386).

المطلب السابع: وقود النار

المطلب السابع: وقود النار وقود النار الأحجار والفجرة الكفار، كما قال الحق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، وقال: فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24]. والمراد بالناس الذين توقد النار بهم الكفرة المشركون، وأما نوع الحجارة التي تكون للنار وقوداً فالله أعلم بحقيقتها، وقد ذهب بعض السلف إلى أن هذه الحجارة من كبريت، قال عبدالله بن مسعود: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في المستدرك. وقال بهذا القول ابن عباس ومجاهد وابن جريج. (¬1) وإذا كان القول هذا مأخوذاً من الرسول صلى الله عليه وسلم فنأخذ به، ولا نجادل فيه، وإن كان أمراً اجتهادياً مبنياً على العلم بطبائع الحجارة وخصائصها فهذا قول غير مسلّم، فإن من الحجارة ما يفوق حجارة الكبريت قوة واشتعالاً. والأوائل رأوا أن حجارة الكبريت لها خصائص ليست لغيرها من الحجارة فقالوا إنها مادة وقود النار، يقول ابن رجب: وأكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار. ويقال: إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت. وقد يوجد الله من أنواع الحجارة ما يفوق ما في الكبريت من خصائص، ونحن نجزم أن ما في الآخرة مغاير لما في الدنيا. ومما توقد به النار الآلهة التي كانت تعبد من دون الله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 98 – 99] وحصبها: وقودها وحطبها، وقال الجوهري: كل ما أوقدت به النار أو هيجتها فقد حصبتها، وقال أبو عبيدة: كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 30 ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (1/ 381)، وابن أبي حاتم (1/ 64)، والحاكم (2/ 287). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3675): صحيح.

المطلب الثامن: شدة حرها وعظم دخانها وشرارها، وزمهريرها

المطلب الثامن: شدة حرها وعظم دخانها وشرارها، وزمهريرها قال الله تعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:41 - 44] قال ابن عباس: (من دخان) وكذا قال مجاهد وعكرمة وغير واحد (¬1)، وعن مجاهد قال: (ظل من دخان جهنم وهو السموم) (¬2) وقال أبو مالك: (اليحموم ظل من دخان جهنم) (¬3) قال الحسن وقتادة في قوله: لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ: (لا بارد المدخل ولا كريم المنظر) (¬4) , والسموم: هو الريح الحارة, قاله قتادة وغيره (¬5). وهذا الآية تضمنت ذكر ما يتبرد به في الدنيا من الكرب والحر، وهو ثلاثة، الماء, والهواء, والظل، فهواء جهنم، السموم وهو الريح الحارة الشديدة الحر، وماؤها الحميم الذي قد اشتد حره، وظلها اليحموم, وهو قطع دخانها أجارنا الله من ذلك كله بكرمه ومنه. وقال تعالى: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات:30] , قال مجاهد: (هو دخان جهنم: اللهب الأخضر, والأسود, والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت). قال السدي: في قوله: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [المرسلات:32] قال: (زعموا أن شررها ترمي به كأصول الشجر ثم يرتفع فيمتد). وقال القرظي: (على جهنم سور, فما خرج من وراء سورها يخرج منها في عظم القصور, ولون القار) (¬6). وقال الحسن والضحاك في قوله: كَالْقَصْرِ: (هو كأصول الشجر العظام) (¬7). وقال مجاهد: (قطع الشجر والجبل) (¬8). وصح عن ابن مسعود قال: (شرر كالقصور والمدائن) (¬9). وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ يقول: كالقصر العظيم) (¬10). وفي (صحيح البخاري) عن ابن عباس قال: (كنا نرفع من الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل, نرفعه للشتاء نسميه القصر) (¬11). وقوله: كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ قال ابن عباس: (حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض تكون كأوساط الرجال) (¬12) وقال مجاهد: (هي حبال الجسور) (¬13). وقالت طائفة: (هي الإبل) منهم الحسن وقتادة والضحاك (¬14) وقالوا: (الصفر هي السود). وروي عن مجاهد أيضاً (¬15). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: جِمَالَتٌ صُفْرٌ قال: (يقول قطع النحاس) (¬16). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (23/ 129 - 130). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (17/ 213). (¬3) ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (5/ 222)، ((تفسير البحر المحيط)) لأبي حيان الأندلسي (8/ 157). (¬4) ((زاد المسير)) لابن الجوزي (8/ 144) عن ابن عباس رضي الله عنه. (¬5) ((تفسير البحر المحيط)) لأبي حيان (5/ 440). (¬6) رواه الطبري في تفسيره (24/ 137). (¬7) رواه الطبري في تفسيره (24/ 138). (¬8) ((تفسير الطبري)) (24/ 137)، ((تفسير السمعاني)) (6/ 131). (¬9) ((الكشف والبيان)) للثعلبي (10/ 110). (¬10) رواه الطبري في تفسيره (24/ 137). (¬11) رواه البخاري (4932). (¬12) رواه البخاري (4933). (¬13) رواه الطبري في تفسيره (24/ 140 - 141). (¬14) رواه الطبري في تفسيره (24/ 140). (¬15) ((تفسير الطبري)) (24/ 139 - 140). (¬16) رواه الطبري في تفسيره (24/ 141).

قال الله عز وجل: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [الرحمن:35] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ويقول: لهب النار وَنُحَاسٌ يقول: دخان النار) (¬1)، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح وغيرهما: أن النحاس دخان النار (¬2)، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ قال: (دخان) (¬3)، وقال أبو صالح: (الشواظ: اللهب الذي فوق النار ودون الدخان) (¬4)، قال منصور عن مجاهد: (الشواظ، هو اللهب الأخضر المتقطع) وعنه قال: (الشواظ قطعة من النار فيها خضرة) (¬5). قال الحسين بن منصور: أخرج الفضيل بن عياض رأسه من خوخة, فقال منصور عن مجاهد: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [الرحمن:35] ثم أدخل رأسه فانتحب ثم أخرج رأسه، فقال: هو اللهب المنقطع, ولم يستطع أن يجيز الحديث (¬6). وخرج النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ أبداً)) (¬7) التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار لابن رجب - ص: 110 – 112 أما حرها فقال تعالى: وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا فنفسني, فأذن لها في نفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سمومها, وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها)) (¬8). وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ناركم هذه ما يوقد ابن آدم جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم)) قالوا: والله إن كانت لكافية قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)) (¬9). وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه: ((وضربت بالبحر مرتين, ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد)) (¬10) وتقدم. ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (23/ 47). (¬2) ((تفسير الطبري)) (23/ 47). (¬3) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 3270). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 497). (¬5) ((تفسير الطبري)) (23/ 46)، و ((تفسير ابن كثير)) (7/ 497). (¬6) لم أقف عليه. (¬7) رواه الترمذي (1633)، والنسائي (6/ 12)، وأحمد (2/ 505) (10567)، والحاكم (4/ 288). قال الترمذي: حسن صحيح، والحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 117). (¬8) رواه البخاري (537)، ومسلم (617). (¬9) رواه البخاري (3265)، ومسلم (2843). (¬10) رواه أحمد (2/ 244) (7323). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (4/ 129): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3666).

وخرج الإمام عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن النار هذه جزء من مائة جزء من جهنم)) (¬1) وروى الطبراني: ((أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعاً من حره)) (¬2). قال الحافظ (¬3): (وروي عن الحسن مرسلاً من وجه ضعيف، والحديث تكلم فيه والله تعالى أعلم). وقال كعب الأحبار رحمه الله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها.) وقال عبد الملك بن عمير: (لو أن أهل النار كانوا في نار الدنيا لقالوا فيها). وقال بشير بن منصور: قلت لعطاء السلمي رحمه الله: (لو أن إنساناً أوقدت له نار وقيل له: من دخل هذه النار نجا من النار، فقال عطاء: لو قيل لي ذلك لخشيت أن تخرج نفسي فرحاً قبل أن أقع فيها) (¬4). فإن قلت قد ذكرت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أن هذه النار جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)) (¬5) وفي حديث آخر ((من مائة جزء)) (¬6) وكلا الحديثين ثابت عنه صلى الله عليه وسلم. قلت: لفظة سبعين وسبعمائة وسبعة آلاف ونحوها كثيراً ما يراد به التكثير كقوله تعالى: إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [التوبة: 80] وهذا كثير جداً في كلام العرب أو يقال: إن هذين الحديثين وردا بحسب اختلاف النارين اللتين من نار الدنيا, وكل أحد يشاهد أن بعض نار الدنيا أقوى وأشد حر من بعض، هذا معلوم بالحس لا ينكره أحد والله تعالى أعلم. وأما زمهريرها فروي أن بيتاً في جهنم يتميز فيه الكافر من برده يعني يتقطع ويتمزع وقال مجاهد: (إن في النار لزمهريراً يقيلون فيه، يهربون إلى ذلك الزمهرير فإذا وقعوا حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر) (¬7). وعن عبد الملك بن عمير أنه قال: (بلغني أن أهل النار يسألون خازنها أن يخرجهم إلى حَبَّانها فأخرجهم فقتلهم البرد حتى رجعوا إليها فدخلوها مما وجدوا من البرد) (¬8). وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كعباً رضي الله عنه قال: (إن في جهنم برداً هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم) (¬9). البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني – 3/ 1343 ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 379) (8910)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 337). وقال: رواته رواة الصحيح، وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/ 123): إسناده على شرط مسلم، وفي لفظه غرابة، وصحح إسناده السيوطي في ((البدور السافرة)) (323). (¬2) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 89) (2583). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 389): فيه سلام الطويل وهو مجمع على ضعفه، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (5401): موضوع. (¬3) ((التخويف من النار)) (ص: 94). (¬4) ((التخويف من النار)) (ص: 93 - 95). (¬5) رواه البخاري (3265)، ومسلم (2843). (¬6) رواه أحمد (2/ 379) (8910)، والمنذري (4/ 337). وقال: رواته رواة الصحيح، وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/ 123): إسناده على شرط مسلم، وفي لفظه غرابة، وصحح إسناده السيوطي في ((البدور السافرة)) (323). (¬7) رواه ابن أبي الدنيا في ((صفة النار)) (152). (¬8) رواه ابن أبي الدنيا في ((صفة النار)) (151). (¬9) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 370).

المطلب التاسع: النار تتكلم وتبصر

المطلب التاسع: النار تتكلم وتبصر الذي يقرأ النصوص من الكتاب والسنة التي تصف النار يجدها مخلوقاً يبصر، ويتكلم، ويشتكي، ففي الكتاب العزيز أن النار ترى أهلها وهم قادمون إليها من بعيد، فعند ذلك تطلق الأصوات المرعبة الدالة على مدى حنقها وغيظها على هؤلاء المجرمين، قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12]. وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: ((إن الرجل ليجر إلى النار، فتنزوي وينقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: مالك؟ فتقول: إنه يستجير مني، فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك، فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك، فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل إلى النار، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف)) (¬1). وقد خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج يوم القيامة عنق من النار، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، تقول: إني وُكّلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين)) (¬2). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 35 ¬

(¬1) رواه الطبري (19/ 244).قال ابن كثير في ((تفسيره)) (6/ 97): وهذا إسناد صحيح. (¬2) رواه الترمذي (2574)، وأحمد (2/ 336) (8411). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (16/ 184): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المطلب العاشر: رؤيا ابن عمر للنار

المطلب العاشر: رؤيا ابن عمر للنار وفي (الصحيحين) واللفظ للبخاري عن ابن عمر: ((أنه رأى في المنام أنه جاءه ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، يقبلا بي إلى جهنم ثم لقيه ملك في يده مقمعة من حديد، قالوا: لن تُرع. نعم الرجل أنت، لو كنت تكثر الصلاة، قال: فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، له قرون كقرن البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالاً معلقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عبدالله رجل صالح)) (¬1). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 36 ¬

(¬1) رواه البخاري (7028).

المطلب الحادي عشر: هل يرى أحد النار قبل يوم القيامة عيانا؟

المطلب الحادي عشر: هل يرى أحد النار قبل يوم القيامة عياناً؟ الذي نعلمه أن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه قد رأى النار كما رأى الجنة في حياته، ففي (الصحيحين) عن عبدالله بن عباس في صلاة الخسوف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني رأيت الجنة، فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء)) (¬1) وفي (صحيح البخاري) عن أسماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((قد دنت مني الجنة، حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها، ودنت مني النار حتى قلت: أي رب وأنا معهم؟ فإذا امرأة - حسبت أنه قال – تخدشها هرة. قلت: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل – قال نافع: حسبت أنه قال: - من خشيش أو خشاش الأرض)) (¬2) وفي (مسند أحمد) عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي، فرأيت فيها صاحب المحجن، والذي بحر البحيرة، وصاحب حمير، وصاحبة الهرة)) (¬3) وفي (صحيح مسلم) عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عرضت عليّ الجنة، حتى لو تناولت منها قطفاً أخذته، (أو قال: تناولت منها قطفاً، فقَصُرت يدي عنه)، وعرضت عليّ النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت عمرو بن مالك يجرُّه قصبه في النار)) (¬4)، وبعد أن يموت العباد تعرض عليهم في البرزخ مقاعدهم في الجنة إن كانوا مؤمنين، ومقاعدهم في النار إن كانوا كافرين. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 37 ¬

(¬1) رواه البخاري (1052)، ومسلم (907). (¬2) رواه البخاري (745). (¬3) رواه أحمد (4/ 245) (18167). وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (1972): صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط في ((المسند)): مرفوعه صحيح وهذا إسناد ضعيف لضعف مجالد. (¬4) رواه مسلم (904).

المطلب الثاني عشر: تأثير النار على الدنيا وأهلها

المطلب الثاني عشر: تأثير النار على الدنيا وأهلها روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((اشتكت النار إلى ربها، فقالت رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لنا بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير)) (¬1). وروى البخاري أيضاً عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) (¬2). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 39 ¬

(¬1) رواه البخاري (537)، ومسلم (617). (¬2) رواه البخاري (3259).

المبحث السابع: أهل النار

المطلب الأول: أهل النار المخلدون فيها التعريف بهم: أهل النار الخالدون فيها الذين لا يرحلون ولا يبيدون - هم الكفرة والمشركون. قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 36]، وقال: لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 99]، وقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: 74]، وقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [فاطر: 36]. وقال: وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 39]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:161 - 162]. وقال: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة: 63] وقال: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة: 17] ولما كانوا خالدين فيها فقد وصف الحق عذاب النار بأنه مقيم، أي لا ينقطع، كما أضافه إلى الخلد، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [النجم:37] وقال: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يونس: 52]. وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم: يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، خلود)) (¬1). وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود لا موت، ولأهل النار، يا أهل النار خلود لا موت)) (¬2) وهذا يقال بعد ذبح الموت كما في حديث ابن عمر عند البخاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم)) (¬3). وفي (صحيح مسلم) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت. قال: ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح. قال: ثم قال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم: 39])) (¬4). وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال: ((إذا كان يوم القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار)) (¬5) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 49 ¬

(¬1) رواه البخاري (6544)، ومسلم (2850). (¬2) رواه البخاري (6545). (¬3) رواه البخاري (6548)، ومسلم (2850). (¬4) رواه مسلم (2849). (¬5) رواه الترمذي (2558). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح دون قوله: (فلو أن أحدا).

المطلب الثاني: النار مسكن الكفرة المشركين

المطلب الثاني: النار مسكن الكفرة المشركين لما كان الكفرة المشركون خالدين في النار فإن النار تعتبر بالنسبة لهم سكناً ومأوى، كما أن الجنة مسكن المؤمنين، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران: 151]، أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يونس: 8]، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ [العنكبوت: 68]. وهي مأواهم تتولى أمرهم مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ [الحديد: 15]. وهي بئس المسكن والمثوى، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: 206]، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص:55 - 56]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 52

المطلب الثالث: الدعاة إلى النار

المطلب الثالث: الدعاة إلى النار أصحاب المبادئ الضالة، والمذاهب الباطلة المخالفون لشرع الله، الدعاة المؤمنون بباطلهم هم دعاة النار، أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة: 221]، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص:41]، ومن هؤلاء الشيطان أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان: 21]، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]. وهؤلاء الذين يدعون إلى النار في الدنيا يقودون أقوامهم وأتباعهم إلى النار في الآخرة، ففرعون مثلاً: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98]. وكل قادة الشر الذين يدعون إلى عقائد ومبادئ مخالفة للإسلام هم دعاة إلى النار، لأن الطريق الوحيد الذي ينجي من النار ويدخل الجنة هو طريق الإيمان وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر: 41]، كانوا يدعونه إلى فرعون وكفره وشركه، وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده والإيمان به. ولما كان الكفار دعاة إلى النار حرم الله على المؤمنين الزواج من المشركات، كما حرم على المؤمنات الزواج من المشركين وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة: 221]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 52

المطلب الرابع: أعظم جرائم الخالدين في النار

المطلب الرابع: أعظم جرائم الخالدين في النار لقد أطال القرآن في تبيان جرائم الخالدين الذين استحقوا بها الخلود في النيران، ونحن نذكر هنا أهمها: 1 - الكفر والشرك فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الذين كفروا يُنادَون عندما يكونون في النار. فيقال لهم: إن مقت الله لكم أعظم من مقتكم أنفسكم بسبب كفركم بالإيمان، ثم بين أن خلودهم في النار إنما هو بسبب كفرهم وشركهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 10]. وحدثنا الحق تبارك وتعالى أن خزنة النار يسألون الكفار عند ورودهم النار قائلين: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ [غافر: 50]، فيكون الجواب: أنهم استحقوا النار بسبب تكذيبهم المرسلين، وما جاؤوا به قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: 9]. وقال في المكذبين بالكتاب: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً [طه:99 - 101]. وقال في المكذبين بالكتاب المشركين بالله: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غافر: 70 - 76]. وقال في الكفرة المشركين المسوين آلهتم برب العالمين: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 94 - 98]. وقال في حق المكذبين بيوم الدين: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [الفرقان:11]، وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ [الرعد: 5]. وقال: مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 97 - 98]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص54 2 - عدم القيام بالتكاليف الشرعية مع التكذيب بيوم الدين وترك الالتزام بالضوابط الشرعية

فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن أهل الجنة يسألون أهل النار قائلين: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42] فيجيبون قائلين: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 43 - 47]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 55 3 - طاعة رؤساء الضلال وزعماء الكفر فيما قرروه من مبادئ الضلال وخطوات الكفر التي تصد عن دين الله ومتابعة المرسلين. قال تعالى: في هؤلاء: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت: 25 - 28]. وعندما يحل الكفار في النار، وتقلب وجوههم فيها يتندمون لعدم طاعتهم الله ورسوله، وطاعتهم السادة الكبراء: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب: 64 - 67]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 55 4 - النفاق: وعد الله المنافقين النار، وهو وعد قطعه على نفسه لا يخلفه وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [التوبة: 68]، وأخبرنا أن موقع المنافقين في النار هو دركاتها السفلى، وهي أشدها حراً، وأكثرها إيلاماً إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 56 5 - الكبر وهذه صفة يتصف بها عامة أهل النار، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 36]. وقد عقد مسلم في (صحيحه) باباً عنون له بقوله: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء وذكر فيه احتجاج الجنة والنار وما قالتا وما قال الله لهما، وساق فيه حديث أبي هريرة يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه أن النار قالت: ((يدخلني الجبارون والمتكبرون)) (¬1) وفي رواية قالت: ((أوثرت بالمتكبرين والجبارين. وقال الله لها: أنت عذابي أعذب بك من أشاء)) (¬2). وفي (صحيحي البخاري ومسلم) و (سنن الترمذي) عن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر)) (¬3)، وفي رواية لمسلم: ((كل جواظ زنيم متكبر)) (¬4) ومصداق هذا في كتاب الله تبارك وتعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60]، وقوله: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأحقاف: 20]، وقوله: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37 - 39]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 56 ¬

(¬1) رواه مسلم (2846) (34). (¬2) رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846) (35). (¬3) رواه البخاري (4918)، ومسلم (2853) (46). (¬4) رواه مسلم (2853) (47).

المطلب الخامس: جملة الجرائم التي تدخل النار

المطلب الخامس: جملة الجرائم التي تدخل النار سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما عمل أهل النار، وما عمل أهل الجنة؟ فأجاب: عمل أهل النار: الإشراك بالله تعالى، والتكذيب للرسل، والكفر، والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، والعمل رياءً وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة؛ أي: اعتقاداً وعملاً، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب للباطل، والاستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم جماع الذنوب التي تدخل النار، ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة له طويلة: ((وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلا ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك. وذكر البخل، والكذب، والشنظير، الفحاش)) (¬1). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 57 ¬

(¬1) رواه مسلم (2865).

المطلب السادس: أشخاص بأعيانهم في النار

المطلب السادس: أشخاص بأعيانهم في النار الكفار المشركون في النار لا شك في ذلك، وقد أخبرنا القرآن الكريم، كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن أشخاصاً بأعيانهم في النار، فمن هؤلاء فرعون موسى، يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98]. ومنهم: امرأة نوح وامرأة لوط، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10]. ومنهم: أبو لهب وامرأته تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ [المسد]. ومنهم: عمرو بن عامر الخزاعي، فقد رآه الرسول يجر أمعاءه في النار، ومنهم الذي قتل عمار وسلبه، ففي (معجم الطبراني) بإسناد صحيح عن عمرو بن العاص وعن ابنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل عمار وسالبه في النار)) (¬1). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 59 ¬

(¬1) لم أجده في ((معجم الطبراني الكبير)) ولعله في المفقود منه. ورواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (9/ 103). وأحمد (4/ 198) (17811)، والحاكم (3/ 437). وقال: وتفرد به عبدالرحمن بن المبارك وهو ثقة مأمون عن معتمر عن أبيه فإن كان محفوظا فإنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وإنما رواه الناس عن معتمر عن ليث عن مجاهد. ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 244): رواه أحمد والطبراني بنحوه .. ورجال أحمد ثقات. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده قوي.

المطلب السابع: كفرة الجن في النار

المطلب السابع: كفرة الجن في النار كفرة الجن يدخلون النار كما يدخلها كفرة الإنس، فالجن مكلفون كالإنس: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. وفي يوم القيامة يحشر الجن والإنس على حد سواء: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ [الأنعام: 128]، فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا [مريم: 68 - 70] ثم يقال للكفرة منهم: ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ [الأعراف: 38]، وعند ذلك يكبكبون في النار: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشعراء: 94 - 95]، وبذلك تتم كلمة الله القاضية بملء النار من كفرة الجن والإنس وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119] وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [فصلت: 25]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 60

المطلب الثامن: الذين لا يخلدون في النار

المطلب الثامن: الذين لا يخلدون في النار التعريف بهم: الذين يدخلون النار، ثم يخرجون منها هم أهل التوحيد الذين لم يشركوا بالله شيئاً، ولكن لهم ذنوب كثيرة فاقت حسناتهم، فخفت موازينهم، فهؤلاء يدخلون النار مدداً يعلمها الله تبارك وتعالى، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، ويخرج الله برحمته أقواماً لم يعملوا خيراً قط. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 61

المطلب التاسع: صفات أهل النار

المطلب التاسع: صفات أهل النار عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف, لو أقسم على الله لأبره, ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل, جواظ, مستكبر)) (¬1). و (العتل) قال مجاهد وعكرمة: (هو القوي) (¬2)، وقال أبو رزين: (هو الصحيح) (¬3). وقال عطاء بن يسار: عن وهب الذماري قال: (تبكي السماء والأرض من رجل أتم الله خلقه, وأرحب جوفه, وأعطاه معظماً من الدنيا, ثم يكون ظلوماً غشوماً للناس, لذلك العتل الزنيم) (¬4). وقال إبراهيم النخعي: (العتل: الفاجر, والزنيم: اللئيم في أخلاق الناس). وروى شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة جواظ, ولا جعظري, ولا العتل الزنيم, فقال رجل من المسلمين: ما الجواظ, الجعظري, والعتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجواظ الذي جمع ومنع, وأما الجعظري فالفظ الغليظ قال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وأما العتل الزنيم فشديد الخلق, رحيب الجوف, مصحح, أكول, شروب, واجد للطعام, ظلوم للأنام)) (¬5). وروى معاوية بن صالح عن كثير بن الحارث عن القاسم مولى معاوية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم قال: ((هو الفاحش اللئيم)) (¬6) وقال معاوية: وحدثني عياض بن عبدالله الفهري عن موسى بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك خرجه كله ابن أبي حاتم (¬7). وأما المستكبر فهو الذي يتعاطى الكبر على الناس والتعاظم عليهم, وقد قال الله تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60] وقد ذكرنا فيما سبق حديث: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر, يساقون إلى سجن في النار يقال له: بولس, تعلوهم نار الأنيار, يغشاهم الذل من كل مكان)) (¬8) فإن عقوبة التكبر الهوان والذل كما قال الله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20] وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل قال: ((الكبرياء ردائي, والعظمة إزاري, فمن نازعني واحداً منهما عذبته بناري)) يعني: ألقيته في جهنم (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (4918)، ومسلم (2853). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (8/ 193). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (23/ 536)، (¬4) رواه الطبري في تفسيره (23/ 536). (¬5) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 3309). (¬6) رواه الطبري في تفسيره (23/ 536)، وابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 3310). (¬7) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 3310). (¬8) رواه الترمذي (2492)، أحمد (2/ 179) (6677). من حديث جد عمرو بن شعيب. قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 537)، وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 474) كما قال ذلك في المقدمة. (¬9) رواه مسلم (2620) بلفظ ((العز إزاره))، ورواه أبو داود (4090)، وأحمد (2/ 414) (9348) كلاهما بلفظ ((قذفته))، وابن ماجه (3383)، وابن حبان (12/ 486) كلاهما بلفظ: ((ألقيته)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تحاجت الجنة والنار, فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين, والمتجبرين, وقالت الجنة: (فما لي) لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم (وغرتهم) , قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي فلا تمتلئ حتى يضع عليها رجله, فتقول: قط قط. فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض, ولا يظلم الله من خلقه أحداً, وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً)) (¬1) وفي رواية خرجها ابن أبي حاتم: ((فقالت النار مالي لا يدخلني إلا الجبارون, والمتكبرون, والأشراف, وأصحاب الأموال)) (¬2). وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((افتخرت الجنة والنار فقالت النار: يا رب يدخلني الجبابرة, والمتكبرون, والملوك, والأشراف، وقالت الجنة: أي رب يدخلني الضعفاء, والفقراء, والمساكين)) (¬3) ذكر الحديث بمعنى ما تقدم. وسبب هذا أن الله عز وجل حف الجنة بالمكاره, وحف النار بالشهوات كما قال تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37 - 41] وفي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حجبت الجنة بالمكاره, وحجبت النار بالشهوات)) (¬4) , وخرجه مسلم ولفظه: ((حفت الجنة بالمكاره, وحفت النار بالشهوات)) (¬5) وخرجه أيضاً من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬6). وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها, قال: فجاءها فنظر إليها وإلى ما أعد لأهلها فيها, قال: فرجع إليه فقال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها, فأمر بها فحفت بالمكاره, فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها, قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره, فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال: فاذهب إلى النار فانظر إلى ما أعددت لأهلها, فإذا هي يركب بعضها بعضاً, فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها, فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها, فرجع إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 2096). (¬3) رواه أحمد (3/ 13) (11114)، وابن خريمة في ((التوحيد)) (1/ 215). وقد أشار في المقدمة أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 115): رواه أحمد ورجاله ثقات لأن حماد بن سلمة روى عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط. (¬4) رواه البخاري (6487). (¬5) رواه مسلم (2823). (¬6) رواه مسلم (2822). (¬7) رواه أبو داود (4744)، والترمذي (2560)، والنسائي (7/ 3)، وأحمد (2/ 332) (8379)، والحاكم (1/ 79). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.

فتبين بهذا أن صحة الجسد وقوته, وكثرة المال, والتنعم بشهوات الدنيا, والتكبر والتعاظم على الخلق وهي صفات أهل النار التي ذكرت في حديث حارثة بن وهب, هي جماع الطغيان والبغي كما قال تعالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6 - 7] والطغيان وإيثار الحياة الدنيا وشهواتها من موجبات النار كما قال تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37 - 39]. وأما الضعيف في البدن, والاستضعاف في الدنيا من قلة المال والسلطان, مع الإيمان فهو جماع كل خير، ولهذا يقال: من العصمة أن لا تجد، فهذه صفة أهل الجنة التي ذكرت في حديث حارثة. وقد روي نحو حديث حارثة من وجوه متعددة وفي بعضها زيادات ... ومن حديث سراقة بن مالك بن جعشم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا سراقة, ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: أما أهل النار فكل جعظري, جواظ، مستكبر. وأما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون)) (¬1) ومن حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة وأهل النار، أما أهل الجنة فكل ضعيف متضعف, أشعث ذو طمرين, لو أقسم على الله لأبره، وأما أهل النار فكل جعظري, جواظ, جماع, مناع, ذي تبع)) (¬2) ... وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بصفة أهل الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله, قال: كل ضعيف متضاعف, ذو طمرين, لو أقسم على الله لأبره, ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا: بلى يا رسول الله, قال: كل جظٍ, جعظرٍ, مستكبر، قال: فسألته: ما الجظ؟ قال: الضخم, وما الجعظر؟ قال: العظيم في نفسه)) (¬3) ... وروى سليم بن عمر عن فرات البهراني عن أبي عامر الأشعري أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل النار فقال: لقد سألت عن عظيم, كل شديد قعبري, فقال: وما القعبري يا رسول الله؟ قال: الشديد على العشيرة, الشديد على الأهل, الشديد على الصاحب، قال: فمن أهل الجنة يا رسول الله؟ فقال: سبحان الله, لقد سألت عن عظيم, كل ضعيف مزهد)) (¬4). وفي المعنى أحاديث أخر، وفي (صحيح مسلم) عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: ((وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق, ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم, وعفيف متعفف ذو عيال. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له, الذين هم فيكم تبعاً لا يبغون أهلاً, ولا مالاً. والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه, ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك)) وذكر البخل, والكذب, والشنظير الفحاش (¬5). ففي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم أهل الجنة ثلاث أصناف. ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 175) (17621)، والطبراني (7/ 129) (6605)، والحاكم (3/ 717)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 38). وقال إسناده حسن، وهو أيضاً ما قاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 268). (¬2) رواه أحمد (2/ 214) (7010)، والحاكم (2/ 541). وقال: صحيح على شرط مسلم، وصحح إسناده ابن القيم في ((حادي الأرواح)) (112)، وقال الهيثمي (10/ 396): رجاله رجال الصحيح. (¬3) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 301 - 302) (4263). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 268): رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه عبد الله بن محمد بن أبي مريم وهو ضعيف. (¬4) ذكره السيوطي في ((جمع الجوامع)) (7892) وقال: [رواه] الشيرازي في ((الألقاب))، والديلمي عن أبى عامر الأشعري. (¬5) رواه مسلم (2865).

أحدهما- ذو السلطان المقسط المتصدق, وهو من كان له سلطان على الناس, فسار في سلطانه بالعدل, ثم ارتقى درجة الفضل. والثاني- الرحيم الرقيق القلب, الذي لا يخص برحمته قرابته, بل يرحم المسلمين عموماً، فتبين أن القسمين أهل الفضل والإحسان. والثالث: العفيف المتعفف, ذو العيال, وهو من يحتاج إلى ما عند الناس فيتعفف عنهم, وهذا أحد نوعي الجود أعني العفة عما في أيدي الناس لا سيما مع الحاجة. وقد وصف الله في كتابه أهل الجنة ببذل الندى, وكف الأذى ولو كان الأذى بحق, فقال: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133 - 134]، فهذا حال معاملتهم للخلق ثم وصف قيامهم بحق الحق فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135 - 136] فوصفهم الله عند الذنوب بالاستغفار، وعدم الإصرار, وهو حقيقة التوبة النصوح. وقريب من هذه الآية قوله تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد:11 - 18]، والعقبة قد فسرها ابن عباس بالنار، وفسرها ابن عمر بعقبة في النار ... فأخبر سبحانه أن اقتحامها، وهو قطعها ومجاوزتها يحصل بالإحسان إلى الخلق، إما بعتق الرقبة, وإما بالإطعام في المجاعة, والمطعم إما يتيم من ذوي القربى, أو مسكين قد لصق بالتراب فلم يبق له شيء. ولا بد مع هذا الإحسان أن يكون من أهل الإيمان, والآمر لغيره بالعدل والإحسان, وهو التواصي بالصبر, والتواصي بالمرحمة, وأخبر سبحانه أن هذه الأوصاف أوصاف أصحاب الميمنة. وأما أهل النار فقد قسمهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خمسة أصناف. الصنف الأول: الضعيف، الذي لا زبر له، ويعني بالزبر القوة والحرص على ما ينتفع به صاحبه في الآخرة من التقوى والعمل الصالح, وخرج العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((إن الله يبغض المؤمن الذي لا زبر له)) (¬1) قال بعض رواة الحديث: يعني الشدة في الحق, ولما حدث مطرف بن عبدالله بحديث عياض بن حمار هذا وبلغ قوله: ((الضعيف الذي لا زبر له)) فقيل له: أو يكون هذا؟ قال: نعم والله, لقد أدركتهم في الجاهلية وإن الرجل ليرعى على الحي ماله إلا وليدتهم يطؤها (¬2) ........ وهذا القسم شر أقسام الناس, ونفوسهم ساقطة, لأنهم ليس لهم همم في طلب الدنيا ولا الآخرة, وإنما همه شهوة بطنه وفرجه كيف اتفق له، وهو تبع للناس خادم لهم أو طواف عليهم سائل لهم. ¬

(¬1) رواه العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (4/ 246)، ترجمة (1841) مسمع بن محمد الأشعري. وقال: لا يتابع ولا يعرف بالنقل. ولا يتابع عليه بهذا الإسناد، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (1691). (¬2) رواه مسلم (2865).

والصنف الثاني: الخائن: لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه أي يعني لا يقدر على خيانة ولو كانت حقيرة يسيرة إلا بادر إليها واغتنمها, ويدخل في ذلك التطفيف في المكيال والميزان, وكذلك الخيانة في الأمانات القليلة كالودائع, وأموال اليتامى, وغير ذلك, وهو خصلة من خصال النفاق, وربما يدخل الخيانة من خان الله ورسوله في ارتكاب المحارم سراً مع إظهار اجتنابها. قال بعض السلف: كنا نتحدث أن صاحب النار من لا تمنعه خشية الله من شيء خفي له. الصنف الثالث: المخادع، الذي دأبه صباحاً ومساء مخادعة الناس على أهليهم وأموالهم والخداع من أوصاف المنافقين كما وصفهم الله تعالى بذلك, والخداع معناه إظهار الخير, وإضمار الشر لقصد التوصل إلى أموال الناس وأهليهم والانتفاع بذلك، وهو من جملة المكر والحيل المحرمة، وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار)) (¬1) الصنف الرابع: الكذب والبخل ... الصنف الخامس: الشنظير وقد فسر بالسيء الخلق، والفاحش هو الفاحش المتفحش. وفي (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)). وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبغض الفاحش الفاحش البذيء)) والبذيء الذي يجري لسانه بالسفه ونحوه من لغو الكلام. وفي (المسند) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بحسب امرئٍ من الشر أن يكون فاحشاً بذيئاً بخيلاً جباناً)) فالفاحش هو الذي يفحش في منطقه ويستقبل الرجال بقبيح الكلام من السب ونحوه، ويأتي في كلامه بالسخف وما يفحش ذكره. التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار لابن رجب – بتصرف - ص: 270 – 279 ¬

(¬1) رواه الطبراني (10/ 138) (10234)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 210)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 32). وقال: إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 82): رجاله ثقات، وفي عاصم بن بهدلة كلام لسوء حفظه، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)): حسن صحيح.

المبحث الثامن: الذنوب المتوعد عليها بالنار

المبحث الثامن: الذنوب المتوعد عليها بالنار • المطلب الأول: الفرق المخالفة للسنة. • المطلب الثاني: الممتنعون من الهجرة. • المطلب الثالث: الجائرون في الحكم. • المطلب الرابع: الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم. • المطلب الخامس: الكبر. • المطلب السادس: قاتل النفس بغير حق. • المطلب السابع: أكلة الربا. • المطلب الثامن: أكلة أموال الناس بالباطل. • المطلب التاسع: المصورون. • المطلب العاشر: الركون إلى الظالمين. • المطلب الحادي عشر: الكاسيات العاريات والذين يجلدون ظهور الناس. • المطلب الثاني عشر: الذين يعذبون الحيوان. • المطلب الثالث عشر: عدم الإخلاص في طلب العلم. • المطلب الرابع عشر: الذين يشربون في آنية الذهب والفضة. • المطلب الخامس عشر: الذي يقطع السدر الذي يظل الناس. • المطلب السادس عشر: جزاء الانتحار.

المطلب الأول: الفرق المخالفة للسنة

المطلب الأول: الفرق المخالفة للسنة روى أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم وغيرهم عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: ((ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)) (¬1). وهذا حديث صحيح. قال فيه الحاكم بعد سياقه لأسانيده: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح الحديث. ووافقه الذهبي. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: هو حديث صحيح مشهور. وصححه الشاطبي في (الاعتصام)، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الألباني طرقه وتكلم على أسانيده، وبين أنه حديث صحيح لا شك في صحته. وقد ذهب صديق حسن خان إلى أن الزيادة التي في الحديث وهي: كلها هالكة إلا واحدة ومثلها: ثنتان وسبعون في النار زيادة ضعيفة. ونقل تضعيف ذلك عن شيخه الشوكاني ومن قبله عن ابن الوزير ومن قبله عن ابن حزم. وقد استحسن قول من قال: إن هذه الزيادة من دسيس الملاحدة، فإن فيها التنفير عن الإسلام والتخويف من الدخول فيه. وقد رد الشيخ ناصر الدين الألباني على من ضعّف هذه الزيادة من وجهين: الأول: أن النقد العلمي الحديثي قد دل على صحة هذه الزيادة، فلا عبرة بقول من ضعفها. الثاني: أن الذين صححوها أكثر وأعلم من ابن حزم، لا سيما وهو معروف عند أهل العلم بتشدده بالنقد، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة، فكيف إذا خالف. وأما ابن الوزير فإنه يرد الزيادة من جهة المعنى لا من جهة الإسناد، وقد تكلم على هذا صديق حسن خان في (يقظة أولي الاعتبار) مبيناً أن مقتضى الزيادة أن الذي يدخل الجنة من هذه الأمة قليل، والنصوص الصحيحة الثابتة تدل على أن الداخلين من هذه الأمة الجنة كثير كثير، يبلغون نصف أهل الجنة. والرد على هذا من عدة وجوه: الأول: ليس معنى انقسام الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة أن يكون أكثر الأمة في النار، لأن أكثر الأمة عوام لم يدخلوا في تلك الفرق، والذين افترقوا وقعّدوا وأصّلوا مخالفين السنة قليل بالنسبة للذين جانبوا ذلك كله. الثاني: ليس كل من خالف أهل السنة في مسألة من مسائل يعد من الفرق المخالفة للسنة، بل المراد بهم الذين تبنوا أصولاً تصيرهم فرقة مستقلة بنفسها، تركوا من أجلها كثيراً من نصوص الكتاب والسنة، كالخوارج والمعتزلة والرافضة. أما الذين يتبنون الكتاب والسنة ولا يحيدون عنهما، فإنهم إذا خالفوا في مسألة من المسائل لا يعدون فرقة من الفرق. الثالث: الزيادة دلت على أن الفرق في النار، ولكنها لم توجب لهم الخلود في النار. ومن المعلوم أن بعض أهل هذه الفرق كفرة خالدون في النار، كغلاة الباطنية الذين يُظِهرون الإيمان ويُبطنون الكفر كالإسماعيلية والدروز والنصيرية ونحوهم. ومنهم الذين خالفوا أهل السنة في مسائل كبيرة عظيمة، ولكنها لا تصل إلى الكفر، فهؤلاء ليس لهم وعد مطلق بدخول الجنة، ولكنهم تحت المشيئة إن شاء الله غفر لهم وإن شاء عذبهم، وقد تكون لهم أعمال صالحة عظيمة تنجيهم من النار، وقد ينجون من النار بشفاعة الشافعين، وقد يدخلون النار، ويمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 61 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4597)، وأحمد (4/ 102) (16979)، والدارمي (2/ 314)، والحاكم (1/ 218). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده أبو الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (96) - كما أشار لهذا في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. وانظر كلامه في ((السلسلة الصحيحة)) (204).

المطلب الثاني: الممتنعون من الهجرة

المطلب الثاني: الممتنعون من الهجرة لا يجوز للمسلم أن يقيم في ديار الكفر إذا وجدت ديار الإسلام خاصة إذا كان مكثه في ديار الكفر يعرضه للفتنة، ولم يقبل الله الذين تخلفوا عن الهجرة، فقد أخبرنا الحق أن الملائكة تُبَكّت هذا الصنف من الناس حال الموت، ولا تعذرهم عندما يدعون أنهم كانوا مستضعفين في الأرض: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً [النساء: 97 - 98]، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا المستضعفين الذين لا يجدون حيلة للخروج، ولا يهتدون إلى الطريق الذي يوصلهم إلى ديار الإسلام. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 64

المطلب الثالث: الجائرون في الحكم

المطلب الثالث: الجائرون في الحكم أنزل الله الشريعة ليقوم الناس بالقسط، وأمر الله عباده بالعدل إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: 90]، وفرض على الحكام والقضاة الحكم بالعدل وعدم الجور إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ [النساء: 58]، وقد تهدد الحق الذين لا يحكمون بالحق بالنار، فقد روى بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار)) أخرجه أبو داود (¬1). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 64 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3573). وقال: هذا أصح شيء فيه. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 478) - كما أشار لهذا في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

المطلب الرابع: الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم

المطلب الرابع: الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم عقد ابن الأثير في كتابه الكبير (جامع الأصول) فصلاً ساق فيه كثيراً من الأحاديث التي تحذر من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنها ما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكذبوا عليَّ، فإنه من كذب عليَّ يلج النار)) (¬1). ومنها ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تقوّل عليَّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده في النار)) (¬2). ومنها ما رواه البخاري في (صحيحه)، وأبو داود في (سننه) عن عبدالله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (¬3). ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (¬4) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 65 ¬

(¬1) رواه البخاري (106)، ومسلم (1)، والترمذي (2660). (¬2) رواه البخاري (109). (¬3) رواه البخاري (107) بدون لفظة: (متعمداً)، وأبو داود (3651). (¬4) رواه البخاري (1291)، ومسلم (4).

المطلب الخامس: الكبر

المطلب الخامس: الكبر من الذنوب الكبار الكبر، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار (وفي رواية) أذقته النار)) رواه مسلم (¬1). وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر: بطر الحق، وغمط الناس)) رواه مسلم (¬2). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 66 ¬

(¬1) رواه مسلم (2620) بلفظ ((العز إزاره))، ورواه أبو داود (4090)، وأحمد (2/ 414) (9348) كلاهما بلفظ: ((قذفته))، وابن ماجه (4175)، وابن حبان (12/ 486) كلاهما بلفظ: ((ألقيته)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (91).

المطلب السادس: قاتل النفس بغير حق

المطلب السادس: قاتل النفس بغير حق قال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]. فلا يجوز في دين الله قتل النفس المسلمة إلا بإحدى ثلاث كما في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين، التارك للجماعة)) (¬1) وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) (¬2). قال ابن عمر: إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله (¬3). وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقاتل بعضهم بعضاً، وأخبر أن القاتل والمقتول في النار، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار قال: فقلت، أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)) (¬4). ولذا فإن العبد الصالح أبى أن يقاتل أخاه، خشية أن يكون من أهل النار، فباء القاتل بإثمه وإثم أخيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ [المائدة: 27 - 29]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 66 ¬

(¬1) رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676). (¬2) رواه البخاري (6862). (¬3) رواه البخاري (6863). (¬4) رواه البخاري (31)، ومسلم (2888).

المطلب السابع: أكلة الربا

المطلب السابع: أكلة الربا من الذنوب التي توبق صاحبها الربا، وقد قال الحق في الذين يأكلونه بعد أن بلغهم تحريم الله له: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 275]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 130 - 131]. وقد عده الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه واحداً من سبعة ذنوب توبق صاحبها، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) (¬1) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 67 ¬

(¬1) رواه البخاري (2766)، ومسلم (89).

المطلب الثامن: أكلة أموال الناس بالباطل

المطلب الثامن: أكلة أموال الناس بالباطل من الظلم العظيم الذي يستحق به صاحبه النار أكل أموال الناس بالباطل، كما قال تعالى:: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً [النساء: 29 - 30]. ومن أكل أموال الناس بالباطل أكل أموال اليتامى ظلماً، وقد خص الحق أموالهم بالذكر لضعفهم وسهولة أكل أموالهم، ولشناعة هذه الجريمة إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 68

المطلب التاسع: المصورون

المطلب التاسع: المصورون أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون الذين يضاهئون خلق الله، ففي (الصحيحين) عن عبدالله بن مسعود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أشدّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون)) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فتعذبه في جهنم)) متفق عليه (¬2) وعن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قال في النمرقة التي فيها تصاوير: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) متفق عليه (¬3). وعن عائشة أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أشدّ الناس عذاباً الذين يضاهون بخلق الله)) متفق عليه. (¬4) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال عزّ وجلّ: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة)) متفق عليه (¬5) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 68 ¬

(¬1) رواه البخاري (5950)، ومسلم (2109). (¬2) رواه مسلم (2110). (¬3) رواه البخاري (2105)، ومسلم (2107). (¬4) رواه البخاري (5954)، ومسلم (2107). (¬5) رواه البخاري (7559)، ومسلم (2111).

المطلب العاشر: الركون إلى الظالمين

المطلب العاشر: الركون إلى الظالمين من الأسباب التي تدخل النار الركون إلى الظالمين أعداء الله وموالاتهم: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 69

المطلب الحادي عشر: الكاسيات العاريات والذين يجلدون ظهور الناس

المطلب الحادي عشر: الكاسيات العاريات والذين يجلدون ظهور الناس من الأصناف التي تصلى النار الفاسقات المتبرجات اللواتي يفتن عباد الله، ولا يستقمن على طاعة الله، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا)) أخرجه مسلم، والبيهقي، وأحمد (¬1). قال القرطبي في الذين معهم سياط كأذناب البقر: وهذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن قال صديق حسن خان معقباً على قول القرطبي: بل هو مشاهد في كل مكان وزمان، ويزداد يوماً فيوماً عند الأمراء والأعيان، فنعوذ بالله من جميع ما كرهه الله. أقول: ولا زلنا نرى هذا الصنف من الناس في كثير من الديار يجلدون أبشار الناس، فتبّاً لهؤلاء وأمثالهم. والكاسيات العاريات كثيرات في زماننا، ولعله لم يسبق أن انتشرت فتنتهن كما انتشرت في زماننا، وهن على النعت الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم: كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 70 ¬

(¬1) رواه مسلم (2128)، وأحمد (2/ 355) (8650)، والبيهقي (2/ 234).

المطلب الثاني عشر: الذين يعذبون الحيوان

المطلب الثاني عشر: الذين يعذبون الحيوان روى مسلم في (صحيحه) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عُرضَت عليّ النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تُعذّب في هرة لها، ربطتها فلم تُطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت جوعاً)) (¬1) إذا كان هذا حال من يعذب هرة، فكيف من يتفنن في تعذيب العباد؟ فكيف إذا كان التعذيب للصالحين منهم بسبب إيمانهم وإسلامهم؟ الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 70 ¬

(¬1) رواه مسلم (904).

المطلب الثالث عشر: عدم الإخلاص في طلب العلم

المطلب الثالث عشر: عدم الإخلاص في طلب العلم ساق الحافظ المنذري كثيراً من الأحاديث التي ترهب من تعلّم العلم لغير الله، منها: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) يعنى ريحها. رواه أبو داود وابن ماجه، وابن حبان في (صحيحه)، والحاكم (¬1). وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، من فعل ذلك فالنار النار)) رواه ابن ماجة، وابن حبان في (صحيحه)، والبيهقي (¬2) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 71 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وابن حبان (1/ 279)، والحاكم (1/ 160). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح سنده ثقات على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد أسنده ووصله عن فليح جماعة غير ابن وهب. ووافقه الذهبي. وقال النووي في ((المجموع)) (1/ 23): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه ابن ماجه (254)، وابن حبان (77). قال العراقي في ((المغني)) (1/ 86): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

المطلب الرابع عشر: الذين يشربون في آنية الذهب والفضة

المطلب الرابع عشر: الذين يشربون في آنية الذهب والفضة روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجر في بطنه نار جهنم)) (¬1). وفي رواية لمسلم: ((إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب)). (¬2) وعن حذيفة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة)) متفق عليه (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 73 ¬

(¬1) رواه البخاري (5634)، ومسلم (2065). (¬2) رواه مسلم (2065). (¬3) رواه البخاري (5426)، ومسلم (2067).

المطلب الخامس عشر: الذي يقطع السدر الذي يظل الناس

المطلب الخامس عشر: الذي يقطع السدر الذي يظل الناس عن عبدالله بن حبيش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار)) رواه أبو داود (¬1). وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الذين يقطعون السدر يصبون في النار على رؤوسهم صباً)) (¬2) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 73 ¬

(¬1) رواه أبو داود (5239). وسكت عنه. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 201) – كما أشار لهذا في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه البيهقي (6/ 140). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) تحت حديث رقم (614): إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن شريك وهو ثقة.

المطلب السادس عشر: جزاء الانتحار

المطلب السادس عشر: جزاء الانتحار ثبت في (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سمّاً فقتل نفسه، فهو في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) (¬1). وفي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار)) (¬2) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 73 ¬

(¬1) رواه البخاري (5778)، ومسلم (109). (¬2) رواه البخاري (1365).

المبحث التاسع: كثرة أهل النار

المطلب الأول: النصوص الدالة على كثرة أهل النار جاءت النصوص كثيرة وافرة دالة على كثرة من يدخل النار من بني آدم، وقلة من يدخل الجنة منهم. قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103]، وقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20]. وقال الحق تبارك وتعالى لإبليس: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] فكل من كفر فهو من أهل النار على كثرة من كفر من بني آدم. ويدلك على كثرة الكفرة المشركين الذين رفضوا دعوة الرسل أنّ النبي يأتي في يوم القيامة ومعه الرهط، وهم جماعة دون العشرة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، بل إن بعض الأنبياء يأتي وحيداً لم يؤمن به أحد، ففي (صحيح مسلم) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)) (¬1) وجاءت نصوص كثيرة تدل على أنه يدخل في النار من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون من كل ألف، وواحد فقط هو الذي يدخل الجنة. فقد روى البخاري في (صحيحه) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، ثم يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ قال: أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل. ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة. قال: فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إنّ مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرقمة في ذراع الحمار)) (¬2). وروى عمران بن حصين ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1 - 2]، فلما سمع أصحابه ذلك حثوا المطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما دنوا حوله قال: أتدرون أي يوم ذاك؟ قال: ذاك يوم يُنادى آدم عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل، فيقول: يا آدم ابعث بعثاً إلى النار. فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد في الجنة. قال: فأبلس أصحابه، حتى ما أوضحوا بضاحكة. فلما رأى ذلك قال: أبشروا واعملوا، فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس قال: فسري عنهم، ثم قال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة)) رواه أحمد والترمذي والنسائي في كتاب التفسير في (سننهما)، وقال الترمذي: حسن صحيح (¬3) ¬

(¬1) رواه مسلم (220). (¬2) رواه البخاري (6530)، ومسلم (222). (¬3) رواه الترمذي (3169)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 410)، وأحمد (4/ 435) (19915). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الطبري في ((تفسيره)) (10/ 1/144): صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

وقد يقال كيف تجمع بين هذه الأحاديث وبين ما ثبت في (صحيح البخاري) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب، كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كل مائه تسعة وتسعون، فما يبقى منا؟ قال: إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود)) (¬1) والظاهر أن هذه الرواية لا تخالف الروايات الأخرى الصحيحة ... فإن ذلك العدد باعتبار معين، وهذا العدد باعتبار آخر. فالأحاديث التي تجعل النسبة تسعمائة وتسعة وتسعين يمكن تحمل على جميع ذرية أدم، وحديث البخاري الذي يجعلها تسعة وتسعين تحمل على جميع ذريته ما عدا يأجوج ومأجوج، ويقرب هذا الجمع كما يقول ابن حجر أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة، ويمكن أن يقال: إن الأحاديث الأولى تتعلق بالخلق أجمعين، فإذا جعلت نسبة من يدخل النار إلى من يدخل الجنة باعتبار الأمم جميعاً تكون النسبة، ويكون حديث البخاري الأخير مبيناً نسبة من يدخل النار من هذه الأمة دون سواها، قال ابن حجر: ويُقربه أي هذا القول قولهم في حديث أبى هريرة إذا أخذ منا، ثم قال: ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة، فيكون من كل ألف واحد إلى الجنة، ومرة من هذه الأمة، فيكون من كل ألف عشرة. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 75 ¬

(¬1) رواه البخاري (6529).

المطلب الثاني: السر في كثرة أهل النار

المطلب الثاني: السر في كثرة أهل النار ليس السبب في كثرة أهل النار هو عدم بلوغ الحق إلى البشر على اختلاف أزمانهم وأمكنتهم، فإن الله لا يؤاخذ العباد إذا لم تبلغهم دعوته، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، ولذلك فإن الله أرسل في كل أمة نذيراً، وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]. ولكن السبب وراء ذلك يعود إلى قلة الذين استجابوا للرسل وكثرة الذين كفروا بهم، وكثير من الذين استجابوا لم يكن إيمانهم خالصاً نقياً. وقد تعرض ابن رجب في كتابه (التخويف من النار) إلى السبب في قلة أهل الجنة، وكثرة أهل النار فقال: فهذه الأحاديث وما في معناها تدل على أن أكثر بني آدم من أهل النار، وتدل أيضاً على أن أتباع الرسل قليل بالنسبة إلى غيرهم، وغير أتباع الرسل كلهم في النار إلا من لم تبلغه الدعوة أو لم يتمكن من فهمها على ما جاء فيه من الاختلاف، والمنتسبون إلى أتباع الرسل كثير منهم من تمسك بدين منسوخ، وكتاب مبدل، وهم أيضاً من أهل النار كما قال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17]. وأما المنتسبون إلى الكتاب المحكم والشريعة المؤيدة والدين الحق فكثير منهم من أهل النار أيضاً، وهم المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وأما المنتسبون إليه ظاهراً وباطناً فكثير منهم فتن بالشبهات، وهم أهل البدع والضلال، وقد وردت الأحاديث على أن هذه الأمة ستفترق على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة، وكثير منها أيضاً فتن بالشهوات المحرمة المتوعد عليها بالنار وإن لم يقتض ذلك الخلود فيها فلم ينج من الوعيد بالنار، ولم يستحق الوعد المطلق بالجنة من هذه الأمة إلا فرقة واحدة، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهراً وباطناً، وسلم من فتنة الشهوات والشبهات، وهؤلاء قليل جداً لاسيما في الأزمان المتأخرة ولعل السبب الأعظم هو اتباع الشهوات، ذلك أن حب الشهوات مغروس في أعماق النفس الإنسانية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران: 14]. وكثير من الناس يريد الوصول إلى هذه الشهوات عن الطريق التي تهواها نفسه ويحبها قلبه، ولا يراعي في ذلك شرع الله المنزل، أضف إلى هذا تمسك الأبناء بميراث الآباء المناقض لشرع الله وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 23 - 24]. وإلف ما كان عليه الآباء وتقديسه داء ابتليت به الأمم، لا يقل أثره عن الشهوات المغروسة في أعماق الإنسان، إن لم يكن هو شهوة في ذاته. وقد روى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما خلق الله النار، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فلما رجع، قال: وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها)). أخرجه الترمذي وأبو داود، وزاد النسائي: بعد قوله: ((اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها)) (¬1) وفي (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)). أخرجه البخاري ومسلم، ولمسلم ((حفت)) (¬2) بدل: حجبت. قال صديق حسن خان: والمراد بالشهوات مرادات النفوس ومستلذاتها وأهويتها، وقال القرطبي: الشهوات كل ما يوافق النفس ويلائمها، وتدعو إليه، ويوافقها، وأصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به، الذي لا يتوصل إليه بعد أن يتخطى الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 80 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4744)، والترمذي (2560)، والنسائي (7/ 3)، وأحمد (2/ 332) (8379)، والحاكم (1/ 79). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. والحديث رواه مسلم مختصرا (2822)، (¬2) رواه البخاري (6487)، ومسلم (2822).

المطلب الثالث: أكثر من يدخل النار النساء

المطلب الثالث: أكثر من يدخل النار النساء وأما أكثر أهل النار أجارنا الله تعالى منها بمنه وكرمه فالنساء كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة الكسوف: ((رأيت النار، ورأيت أكثر أهلها النساء لكفرهن قيل: أيكفرن بالله قال: يكفرن العشير, ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط)) (¬1). وفي صحيح مسلم: ((اطَّلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) (¬2) ... فالحاصل أنه يدخل النار من ذرية آدم خلق أكثر من الجنة، والذين يدخلون النار من أمة محمد أكثر من الذين يدخلون الجنة منهم باعتبار الدخول الأول، وأكثر من يدخل النار من أمة محمد النساء، والله أعلم. البحور الزاخرة في علوم الآخرة لمحمد بن أحمد السفاريني - بتصرف – 3/ 1478 ¬

(¬1) رواه البخاري (1250)، ومسلم (907). (¬2) رواه مسلم (2737).

المبحث العاشر: عظم خلق أهل النار

المبحث العاشر: عظم خلق أهل النار يدخل أهل الجحيم النار على صورة ضخمة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقهم، ففي الحديث الذي يرفعه أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)) رواه مسلم (¬1). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)) (¬2) وقال زيد بن أرقم: ((إن الرجل من أهل النار ليعظم للنار، حتى يكون الضرس من أضراسه كأحد)). رواه أحمد وهو مرفوع، ولكن زيداً لم يصرح برفعه (¬3) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة)) رواه الترمذي (¬4) وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعاً، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل ورقان، ومقعده من النار ما بيني وبين الربذة)) أخرجه الحاكم وأحمد. (¬5) وهذا التعظيم لجسد الكافر ليزداد عذابه وآلامه، يقول النووي في شرحه لأحاديث مسلم في هذا الباب: هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه، وكل هذا مقدور لله تعالى: يجب الإيمان به لإخبار الصادق به. وقال ابن كثير معلقاً على ما أورده من هذه الأحاديث: ليكون ذلك أنكى في تعذيبهم، وأعظم في تعبهم ولهيبهم، كما قال شديد العقاب: لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ [النساء: 56] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص 85 ¬

(¬1) رواه مسلم (2852). والحديث رواه البخاري (6551). (¬2) رواه مسلم (2851). (¬3) رواه أحمد (4/ 366) (19285). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1601): وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط مسلم يزيد بن حيان التيمي من رجاله وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين. (¬4) رواه الترمذي (2577). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش. وقال ابن العربي في ((العواصم من القواصم)) (230): صحيح في إسناده. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) رواه أحمد (2/ 328) (8327)، والحاكم (4/ 637). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة إنما اتفقا على ذكر ضرس الكافر فقط. ووافقه الذهبي. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 352)، والهيتمي في ((الزواجر)) (2/ 254): إسناده جيد. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1105): صحيح.

المبحث الحادي عشر: طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم

المبحث الحادي عشر: طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم إن طعام أهل النار هوالضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين والغساق، قال تعالى: لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ [الغاشية: 6 - 7]، والضريع شوك بأرض الحجاز يقال له الشبرق. وعن ابن عباس: الشبرق: نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، فإذا هاج سمي ضريعاً. وقال قتادة: من أضرع الطعام وأبشعه. وهذا الطعام الذي يأكله أهل النار لا يفيدهم، فلا يجدون لذة، ولا تنتفع به أجسادهم، فأكلهم له نوع من أنواع العذاب. وقال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43 - 46] وقد وصف شجرة الزقوم في آية أخرى فقال: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 62 - 68]. وقال في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 51 - 56]. ويؤخذ من هذه الآيات أن هذه الشجرة شجرة خبيثة، جذورها تضرب في قعر النار، وفروعها تمتد في أرجائها، وثمر هذه الشجرة قبيح المنظر ولذلك شبهه برؤوس الشياطين، وقد استقر في النفوس قبح رؤوسهم وإن كانوا لا يرونهم، ومع خبث هذه الشجرة وخبث طلعها، إلا أن أهل النار يلقى عليهم الجوع بحيث لا يجدون مفراً من الأكل منها إلى درجة ملء البطون، فإذا امتلأت بطونهم أخذت تغلي في أجوافهم كما يغلي دردي الزيت، فيجدون لذلك آلاماً مبرحة، فإذا بلغت الحال بهم هذا المبلغ اندفعوا إلى الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهى حره، فشربوا منه كشرب الإبل التي تشرب وتشرب ولا تروى لمرض أصابها، وعند ذلك يقطع الحميم أمعاءهم وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [محمد: 15]. هذه هي ضيافتهم في ذلك اليوم العظيم، أعاذنا الله من حال أهل النار بمنه وكرمه. وإذا أكل أهل النار هذا الطعام الخبيث من الضريع والزقوم غصوا به لقبحه وخبثه وفساده إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل: 12 - 13]، والطعام ذو الغصة هو الذي يغص به آكله، إذ يقف في حلقه. ومن طعام أهل النار الغسلين، قال تعالى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ [الحاقة: 35 - 37]، وقال تعالى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَساقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص: 57 - 58]. والغسلين والغساق بمعنى واحد، وهو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، وقيل: ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم، وقال القرطبي: هو عصارة أهل النار. وقد أخبر الحق أن الغسلين واحد من أنواع كثيرة تشبه هذا النوع في فظاعته وشناعته.

أما شرابهم فهو الحميم، قال تعالى: وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [محمد: 15]، وقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنا أَعْتَدْنَا لِلظالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29]، وقال: وَيُسْقَى مِن ماء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:16 - 17]، وقال: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَساقٌ [ص: 57]. وقد ذكرت هذه الآيات أربعة أنواع من شراب أهل النار: الأول: الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهي حره، كما قال تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44]، والـ (آن): هو الذي انتهى حره، وقال: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5]، وهي التي انتهى حرها فليس بعدها حر. النوع الثاني: الغساق ... النوع الثالث: الصديد، وهو ما يسيل من لحم الكافر وجلده، وفي (صحيح مسلم) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن على الله عهداً لمن شرب المسكرات ليسقيه طينة الخبال. قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار)) (¬1). الرابع: المهل وقال ابن عباس: في تفسير المهل: ((غليظ كدردي الزيت)) (¬2). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص87 وأما لباس أهل النار فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه يُفصّل لأهل النار حلل من النار، كما قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: 19]. وكان إبراهيم التيمي إذا تلا هذه الآية يقول: سبحان من خلق من النار ثياباً. وقال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النارُ [إبراهيم: 48 - 49]. والقطران: هو النحاس المذاب. وفي (صحيح مسلم) عن أبي مالك الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)). (¬3) وخرجه ابن ماجه ولفظه: ((النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثياباً من قطران ودرعاً من جرب)) (¬4). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص91 ¬

(¬1) رواه مسلم (2002). (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (22/ 44). (¬3) رواه مسلم (934). (¬4) رواه ابن ماجه (1581). بلفظ: (ودرعاً من لهب) بدلاً من (ودرعا من جرب). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (2/ 45): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

المبحث الثاني عشر: عذاب أهل النار وصوره

المطلب الأول: شدة ما يكابده أهل النار من عذاب النار عذابها شديد، وفيها من الأهوال وألوان العذاب ما يجعل الإنسان يبذل في سبيل الخلاص منها نفائس الأموال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن ناصِرِينَ [آل عمران: 91]، وقال الحق في هذا المعنى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم ما فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة:36] وفي (صحيح مسلم) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب)). (¬1) إنها لحظات قليلة تُنسي أكثر الكفار نعيماً كلّ أوقات السعادة والهناء. وفي (الصحيحين) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم فيقول أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك (أحسبه قال:) ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك)) (¬2) إن شدة النار وهولها تفقد الإنسان صوابه، وتجعله يجود بكل أحبابه لينجو من النار، وأنى له النجاة: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى [المعارج: 11 - 16]. وهذا العذاب الهائل المتواصل يجعل حياة هؤلاء المجرمين في تنغيص دائم، وألم مستمر. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص93 ¬

(¬1) رواه مسلم (2807). (¬2) رواه البخاري (3334)، ومسلم (2805).

المطلب الثاني: صور من عذابهم

المطلب الثاني: صور من عذابهم تفاوت عذاب أهل النار لما كانت النار دركات بعضها أشد عذاباً وهولاً من بعض كان أهلها متفاوتون في العذاب، ففي الحديث الذي يرويه مسلم وأحمد عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل النار: ((إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته (وفي رواية) إلى عنقه)) (¬1). وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن أخف أهل النار عذاباً، ففي (صحيح البخاري) عن النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه)) (¬2). وفي رواية أخرى في (صحيح البخاري) أيضاً عن النعمان بن بشير: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل في القمقم)). (¬3) وفي رواية النعمان بن بشير عن مسلم: ((إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً)) (¬4) وفي (صحيح مسلم) عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل نعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه)) (¬5) وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذُكر عنده عمه أبو طالب، فقال: ((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه)) (¬6) وقد جاءت النصوص القرآنية مصدقة لتفاوت أصحاب النار في العذاب كقوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، وقوله: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [النحل: 88]. يقول القرطبي في هذا الموضوع: هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط، ليس ككفر من طغى وكفر وتمرد وعصى، ولا شك أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب والسنة، ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك فيهم وأفسد في الأرض وكفر، مساوياً لعذاب من كفر فقط وأحسن للأنبياء والمسلمين، ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضحضاح لنصرته إياه، وذبّه عنه وإحسانه إليه؟ وحديث مسلم عن سمرة يصح أن يكون في الكفار بدليل حديث أبي طالب، ويصح أن يكون فيمن يعذب من الموحدين. وقال ابن رجب: واعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي أدخلوا بها النار، ثم ساق الأدلة الدالة على ذلك، وساق قول ابن عباس: ليس عقاب من تغلظ كفره وأفسد في الأرض ودعا إلى الكفر كمن ليس كذلك. ثم قال ابن رجب: وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أهل الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم بحسنات أخرى له أو بما شاء الله من الأسباب، ولهذا يموت بعضهم في النار. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص95 ¬

(¬1) رواه مسلم (2845). (¬2) رواه البخاري (6561). (¬3) رواه البخاري (6562). (¬4) رواه مسلم (213). (¬5) رواه مسلم (211). (¬6) رواه البخاري (3885)، ومسلم (210).

المطلب الثالث: إنضاج الجلود

المطلب الثالث: إنضاج الجلود إن نار الجبار تحرق جلود أهل النار، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلوداً أخرى غير تلك التي احترقت، لتحترق من جديد، وهكذا دواليك، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 56] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص97

المطلب الرابع: الصهر

المطلب الرابع: الصهر من ألوان العذاب صب الحميم فوق رؤوسهم، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُود [الحج:19 - 20]. أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعود كما كان))، وقال: حسن غريب صحيح (¬1) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص98 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2582)، وأحمد (2/ 374) (8851)، والحاكم (2/ 419). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه ابن القطان في الوهم والإيهام (4/ 375)، والألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3470).

المطلب الخامس: اللفح

المطلب الخامس: اللفح أكرم ما في الإنسان وجهه، ولذلك نهانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ضرب الوجه، ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة على وجوههم عمياً وصما وبكماً وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مأواهم جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، ويلقون في النار على وجوههم وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:90]. وتلفح النار وجوههم وتغشاها أبداً لا يجدون حائلا يحول بينهم وبينها لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [الأنبياء:39]، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]، سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النارُ [إبراهيم:50]، أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:24]، وانظر إلى هذا المنظر الذي تقشعر لهوله الأبدان: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب: 66]، أرأيت كيف يقلب اللحم على النار، والسمك في المقلي، كذلك تقلب وجوههم في النار، نعوذ بالله من عذاب أهل النار. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص98

المطلب السادس: السحب

المطلب السادس: السحب ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:47 - 48]، ويزيد من آلامهم حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ [غافر:70 - 72]، قال قتادة: يسحبون مرة في النار وفي الحميم مرة. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص99

المطلب السابع: تسويد الوجوه

المطلب السابع: تسويد الوجوه يسود الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَما الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106]، وهو سواد شديد، كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 27] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص100

المطلب الثامن: إحاطة النار بالكفار

المطلب الثامن: إحاطة النار بالكفار أهل النار هم الكفار الذين أحاطت بهم ذنوبهم ومعاصيهم، فلم تبق لهم حسنة، كما قال تعالى في الرد على اليهود الذين قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، ولا يكون المرء كذلك إلا إذا كان كافراً مشركاً، يقول صديق حسن خان: " المراد بالسيئة هنا الجنس، ولابد أن يكون سببها محيطاً بها من جميع جوانبه، فلا تبقى له حسنة، وسدت عليها مسالك النجاة، والخلود في النار هو للكفار والمشركين، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، وبهذا يبطل تشبث المعتزلة والخوارج لما ثبت في السنة متواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار ". ولما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولذا فإن النار تحيط بالكفار من كل جهة، كما قال تعالى: لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظالِمِينَ [الأعراف:41]. والمهاد ما يكون من تحتهم، والغواش جمع غاشية، وهي التي تغشاهم من فوقهم، والمراد أن النيران تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، كما قال تعالى: يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:55]، وقال في موضع آخر: لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16]، وقد صرح بالإحاطة في موضع آخر: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]. وقد فسر بعض السلف المهاد بالفرش، والغواش باللحف. وتأتي الإحاطة من ناحية أخرى، ذلك أن للنار سوراً يحيط بالكفار، فلا يستطيع الكفار مغادرتها أو الخروج منها، كما قال تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنا أَعْتَدْنَا لِلظالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]. وسرادق النار سورها وحائطها الذي يحيط بها. الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص100

المطلب التاسع: إطلاع النار على الأفئدة

المطلب التاسع: إطلاع النار على الأفئدة ذكرنا أن أهل النار يضخم خلقهم في النار شيئاً عظيماً، ومع ذلك فإن النار تدخل في أجسادهم حتى تصل إلى أعمق شيء فيهم سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَواحَةٌ لِّلْبَشَرِ [المدثر:26 - 29]، قال بعض السلف في قوله: (لا تبقي ولا تذر)، قال: (تأكل العظم واللحم والمخ ولا تذره على ذلك). وقال الحق تبارك وتعالى: كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة [الهمزة:4 - 7]. قال محمد بن كعب القرظي: (تأكله النار إلى فؤاده، فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه). وعن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: (تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء، لقد بلغ منهم العذاب، ثم يبكي). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص102

المطلب العاشر: اندلاق الأمعاء في النار

المطلب العاشر: اندلاق الأمعاء في النار في (الصحيحين) عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) (¬1) ومن الذين يجرون أمعاءهم في النار عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين العرب، وقد رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجر قصبه في النار، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب)) (¬2). الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص103 ¬

(¬1) رواه البخاري (3267)، ومسلم (2989). (¬2) رواه البخاري (3521)، ومسلم (2856).

المطلب الحادي عشر: قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم

المطلب الحادي عشر: قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم أعد الله لأهل النار في النار سلاسل وأغلالاً وقيوداً ومطارق إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا [الإنسان:4] إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:12 - 13]، والأغلال توضع في الأعناق وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ:33]، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر:71]، والأنكال: القيود، سميت أنكالاً لأن الله يعذبهم وينكل بهم إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا [المزمل:12]، والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون كما يقيد المجرمون في الدنيا، وانظر إلى هذه الصورة التي أخبرنا بها الكتاب الكريم خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30 - 32]. وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد، وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار، فإذا بها تطوح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم، وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:21 - 22] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص103

المطلب الثاني عشر: قرن معبوداتهم وشياطينهم بهم في النار

المطلب الثاني عشر: قرن معبوداتهم وشياطينهم بهم في النار كان الكفار والمشركون يعظمون الآلهة التي يبعدونها من دون الله، ويدافعون عنها، ويبذلون في سبيل ذلك النفس والمال، وفي يوم القيامة يدخل الحق تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله النار إهانة لعابديها وإذلالاً لهم، ليعلموا أنهم كانوا ضالين، يعبدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً ما وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:98 - 99]. يقول ابن رجب: (لما عبد الكفار الآلهة من دون الله، واعتقدوا أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه، عوقبوا بأن جعلت معهم في النار إهانة لهم وإذلالاً، ونكاية لهم وإبلاغاً في حسرتهم وندامتهم، فإن الإنسان إذا قرن في العذاب بمن كان سبب عذابه كان أشد في ألمه وحسرته). ومن أجل ذلك يقذف في يوم القيامة بالشمس والقمر في النار، ليكونا مما توقد به النار، تبكيتاً للظالمين الذين كانوا يعبدونها من دون الله، ففي الحديث: ((الشمس والقمر مكوران في النار)) (¬1). يقول القرطبي: (وإنما يجمعان في جهنم، لأنهما قد عُبدا من دون الله لا تكون النار عذاباً لهم، لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم، هكذا قال بعض أهل العلم). ولهذا المعنى يقرن الكفار بشياطينهم ليكون أشداً لعذابهم: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُون [الزخرف:36 - 39] الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص105 ¬

(¬1) رواه البخاري (3200). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المطلب الثالث عشر: حسرتهم وندمهم ودعاؤهم

المطلب الثالث عشر: حسرتهم وندمهم ودعاؤهم عندما يرى الكفار النار يندمون أشد الندم، ولات ساعة مندم وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَما رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [يونس:54].، وعندما يطلع الكافر على صحيفة أعماله، فيرى كفره وشركه الذي يؤهله للخلود في النار، فإنه يدعو بالثبور والهلاك وَأَما مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: 10 - 12]. ويتكرر دعاؤهم بالويل والهلاك عندما يلقون في النار، ويصلون حرها وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:13 - 14]. وهناك يعلو صراخهم ويشتد عويلهم، ويدعون ربهم آملين أن يخرجهم من النار، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37]، وهم يعترفون في ذلك الوقت بضلالهم وكفرهم وقلة عقولهم وَقَالُوا لَوْ كُنا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]، قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ [غافر:11]. ولكن طلبهم يرفض بشدة، ويجابون بما تستحق أن تجاب به الأنعام قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:106 - 108]. لقد حق عليهم القول، وصاروا إلى المصير الذي لا ينفع معه دعاء ولا يقبل فيه رجاء وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالناسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة:12 - 14]. ويتوجه أهل النار بعد ذلك بالنداء إلى خزنة النار، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم كي يخفف الله عنهم شيئاً مما يعانونه وَقَالَ الَّذِينَ فِي النارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [غافر:49 - 50]. عند ذلك يسألون الشفاعة كي يهلكهم ربهم وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم ماكِثُونَ [الزخرف:77]. إنه الرفض لكل ما يطلبون، لا خروج من النار، ولا تخفيف من عذابها، ولا إهلاك، بل هو العذاب الأبدي السرمدي الدائم، ويقال لهم آن ذاك: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16].

هناك يشتد نحيبهم، وتفيض دموعهم، ويطول بكاؤهم فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [التوبة:82]، إنهم يبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون دماً، وتؤثر دموعهم في وجوههم كما يؤثر السيل في الصخر، ففي مستدرك الحاكم عن عبدالله بن قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أهل النار ليبكون، حتى لو أجريت السفن في دموعهم، لجرت وإنهم ليبكون الدم – يعني – مكان الدمع)) (¬1). وعن أنس بن مالك مرفوعاً بلفظ: ((يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى تصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو أرسلت فيه السفن لجرت)) (¬2). لقد خسر هؤلاء الظالمون أنفسهم وأهليهم عندما استحبوا الكفر على الإيمان، واستمع إلى عويلهم وهم يرددون حال العذاب يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:66 - 68]. وتأمل قوله تعالى يصف حالهم، ونعوذ بالله من حالهم فَأَما الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ [هود:106]، قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين وهو المرتفع جداً. وقيل: الزفير: ترديد النفس في الصدر من شدة الخوف حتى تنتفخ منه الأضلاع، والشهيق النفس الطويل الممتد، أو رد النفس إلى الصدر، والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه. وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه، والشهيق أن يخرج ذلك النفس (11) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص106 ¬

(¬1) رواه الحاكم (4/ 648). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1679): وحقه –أي: الحاكم - أن يزيد قوله: (على شرط الشيخين)، فإن رجاله كلهم من رجالهما. (¬2) رواه ابن ماجه (4324). وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): ضعيف، وصح مختصراً دون ذكر قوله: (ثم يبكون الدم) إلى (كهيئة الأخدود).

المبحث الثالث عشر: كيف يتقي الإنسان نار الله؟

المبحث الثالث عشر: كيف يتقي الإنسان نار الله؟ لما كان الكفر هو السبب في الخلود في النار فإن النجاة من النار تكون بالإيمان والعمل الصالح، ولذا فإن المسلمين يتوسلون إلى ربهم بإيمانهم كي يخلصهم من النار، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النارِ [آل عمران:16]، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:191 - 194]. وقد فصلت النصوص هذا الموضوع فبينت الأعمال التي تقي النار فمن ذلك محبة الله، ففي (مستدرك الحاكم) و (مسند أحمد) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يلقي الله حبيبه في النار)) (¬1) والصيام جنة من النار، ففي (مسند أحمد)، والبيهقي في (شعب الإيمان) بإسناد حسن عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: الصيام جنة يستجن بها من النار)). (¬2) وعند البيهقي في (الشعب) من حديث عثمان بن أبي العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الصوم جنة من عذاب الله)) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وإسناده صحيح (¬3). أما إذا كان الصوم في حال جهاد الأعداء فذاك الفوز العظيم، فعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) (¬4). رواه أحمد، والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي. ومما ينجي من النار مخافة الله، والجهاد في سبيل الله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، وروى الترمذي والنسائي في (سننهما) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)). (¬5) ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 104) (12037)، والحاكم (1/ 126). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((تفسيره)) (66/ 142): إسناده على شرط الصحيحين. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 216): رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (5/ 531): صحيح على شرط الشيخين. (¬2) رواه أحمد (3/ 396) (15299)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 294). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 107) والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 183): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (4308): حسن. (¬3) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 294). والحديث رواه النسائي (4/ 167)، وابن ماجه (1639)، وأحمد (4/ 217) (17939)، وابن خزيمة (3/ 301). بلفظ: (الصوم جنة من النار كجنة أحدكم من القتال). قال الألباني في ((صحيح الجامع)) و ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬4) رواه البخاري (2840) ومسلم (1153) , والترمذي (1623) , والنسائي (4/ 172) (2245) , وأحمد (3/ 83) (11807). (¬5) رواه الترمذي (1633)، والنسائي (6/ 12). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح ..

وفي (صحيح البخاري) عن ابن عبس وهو عبدالرحمن بن جبر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله، فتمسه النار)) (¬1)، وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)) (¬2) ومما يقي العبد من النار استجارة العبد بالله من النار، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:65 - 66]، وفي (مسند أحمد) و (سنن ابن ماجه) و (صحيح ابن حبان) و (مستدرك الحاكم) بإسناد صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما سأل أحد الله الجنة ثلاثاً، إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ولا استجار رجل مسلم الله من النار ثلاثاً، إلا قالت النار: اللهم أجره مني)) (¬3) وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر وفيه: ((أن الله عز وجل يسألهم وهو أعلم بهم، فيقول: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد مخافة، فأشهدكم أني قد غفرت لهم)) (¬4) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر- ص111 ¬

(¬1) رواه البخاري (2811). (¬2) رواه مسلم (1891). (¬3) رواه ابن ماجه (4340)، وأحمد (3/ 155) (12607)، وابن حبان (3/ 293)، والحاكم (1/ 717). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 25) - كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. والحديث رواه الترمذي والنسائي في (سننيهما). (¬4) رواه البخاري (6408).

المبحث الرابع عشر: بقاء النار وعدم فنائها

المطلب الأول: النار خالدة لا تبيد قال تعالى أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [النساء: 257] وهذه الآية في مواضع من القرآن الكريم وقال تعالى يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [النساء: 14] وقال تعالى فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء: 93] وقال تعالى: أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة: 17] وقال تعالى: فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا [التوبة: 63] وقال فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا [النحل: 29] وهذه في غير موضع من القرآن، وقال لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء: 99] وقال فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ المؤمنون: 103 - 104 وقال إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: 74] وقال: فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا [الحشر: 17] وقال: فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا [البينة: 6] وقال: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل الله أهل الجنة الجنة, وأهل النار النار, ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت, ويا أهل النار لا موت, كل خالد فيما هو فيه)) (¬1) أخرجه الشيخان وفي رواية عنه عندهما ((فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يجاء بالموت في صورة كبش أملح, فيوقف بين الجنة والنار, ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون مشفقين، ويقال: يا أهل النار فيطلعون فرحين، فقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار, ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت فيها، ويا أهل النار خلود ولا موت فيها)) (¬3) أخرجه البخاري ومسلم. وفي هذا عدة أحاديث عن أبي هريرة عن الترمذي وصححه, والحاكم, وابن ماجة، وعن أنس عن أبي يعلى, والبزار, والطبراني وفيه: ((فيذبح كما تذبح الشاة, فيأمن هؤلاء, وينقطع رجاء هؤلاء))، فثبت بما ذكر من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة خلود أهل الدارين خلوداً مؤبداً كل بما هو فيه من نعيم وعذاب أليم. وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة, فأجمعوا على أن عذاب الكفار لا ينقطع, كما أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع، ودليل ذلك الكتاب والسنة. يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار لصديق حسن خان– ص: 17 ويعتقد أهل السنة والجماعة أن النار مخلوقة وأعدها الله عز وجل لمن يستحقها من عباده .. وأن الكفار والمشركين خالدون فيها أبداً، وأنها دار باقية لا تفنى ولا ينقطع عذابها. -قال شيخ الإسلام رحمه الله -: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا ينفى بالكلية، كالجنة والنار والعرش) (¬4). ....... نقل الإجماع على عدم فناء النار كثير من أهل العلم مؤكدين أن عدم فناء النار هو اعتقاد أهل السنة والجماعة. ¬

(¬1) رواه البخاري (6544)، ومسلم (2850). (¬2) رواه البخاري (6548)، ومسلم (2850). (¬3) رواه البخاري (4730)، ومسلم (2849). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (18/ 307)؛ ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 581).

فقال الإمامان الحافظان الرازيان – رحمهما الله – أبو حاتم وأبو زرعة: (أدركنا العلماء في جميع الأمصار – حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً – فكان من مذهبهم ... الجنة حق والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبداً) (¬1). وقال الإمام ابن بطة العكبري - رحمه الله - بعد قوله: (ونحن الآن ذاكرون شرح السنة ووصفها وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سمي بها واستحق الدخول في جملة أهلها وما إن خالفه أو شيئاً منه دخل في جملة من عبناه وذكرناه، وحذر منه من أهل البدع والزيغ مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة مذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا ... (فذكر جملة من معتقد أهل السنة إلى أن قال) .. وأما عذاب النار فدائم أبداً بدوام الله، وأهلها فيها مخلدون خالدون) (¬2). ونقل ذلك عن أهل السنة أيضاً الإمام أبو إسماعيل عثمان الصابوني – رحمه الله – فقال: (ويشهد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما باقيتان لا يفنيان أبداً، وأن ... أهل النار – الذين هم أهلها خلقوا لها – لا يخرجون منها أبداً) (¬3). وقال الإمام الحافظ ابن حزم - رحمه الله -: (الجنة حق، والنار حق داران مخلوقتان مخلدتان هما ومن فهيما بلا نهاية ... كل هذا إجماع من جميع أهل الإسلام، ومن خرج عنه خرج عن الإسلام) (¬4). ويقرر ذلك الإمام العلامة حافظ المغرب ابن عبد البر – رحمه الله – بقوله: (قال أهل السنة: إن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما لا تبيدان) (¬5). ويؤكد ذلك أيضاً الإمام الحافظ قوام السنة أبو القاسم إسماعيل التيمي الأصبهاني – رحمه الله – بقوله: (أهل السنة يعتقدون أن الجنة والنار خلقتا للبقاء ولا يفنيان أبداً) (¬6). وانظر أيضاً ما قاله الإمام أحمد في (الرد على الجهمية) (¬7)؛ وابن خزيمة في كتاب (التوحيد) (¬8)؛ وأبو جعفر الطحاوي في عقيدته المشهورة بـ (الطحاوية) (¬9)؛ وأبو الحسن البربهاري في (شرح السنة) (¬10)؛ والآجري في (الشريعة) (¬11)، وابن أبي زيد في (القيروانية) (¬12)، وابن حزم في (المحلى) (¬13). ذكر مستند الإجماع على عدم فناء النار: أخبر الله تعالى بأن أهل النار خالدون فيها خلوداً مؤبداً، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء: 168 - 169]. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا [الأحزاب: 64]. ووصفهم بعدم الخروج من النار، فقال تعالى: وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167]، وقال تعالى: يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [المائدة: 37]. وقضى عليهم بعدم الموت وعدم تخفيف العذاب، فقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36]. ¬

(¬1) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 199). (¬2) ((الشرح والإبانة)) (ص: 208). (¬3) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (¬4) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص: 27). (¬5) ((فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر)) (2/ 116). (¬6) ((الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة)) (2/ 434). (¬7) (ص: 58). (¬8) (2/ 875) (¬9) (ص: 264). (¬10) (ص: 74). (¬11) (3/ 1343، 1371). (¬12) ((شرح القيروانية)) (ص: 51). (¬13) (1/ 11).

وحرم عليهم دخول الجنة، فقال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]. وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحييون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم – أو قال خطاياهم – فأماتتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة ... )) الحديث. (¬1). من هذه النقولات والأدلة يتبين لنا أن أهل السنة والجماعة مجمعون على أبدية النار وعدم فنائها .. وقد صرح شيخ الإسلام بنقل الاتفاق عن سلف الأمة وأئمتها على ذلك، ولهذا لم يعقب على الأشعري عندما نقل كلامه في (درء تعارض العقل والنقل) فقال – رحمه الله –: (قال الأشعري: قال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنة والنار آخر، وأنهما لا تزالان باقيتين) (¬2)، وكذلك في كتاب نقد مراتب الإجماع فقد نقل ابن حزم – رحمه الله - الاتفاق على: (أن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية) (¬3). فلم يعقب شيخ الإسلام على ذلك ولم ينقد نقله لهذا الاتفاق، مع نقده لمسائل كثيرة نقل ابن حزم فيها الإجماع. وقد اشتهر عن شيخ الإسلام القول بفناء النار .. !! والجواب عن ذلك من وجوه: أولاً: أن هذا الذي اشتهر، لو سلمنا بصحته عن شيخ الإسلام – ولم ينقل نص صريح بذلك عنه – فإن غاية ما فيه رأي رآه في أول حياته ثم تبين له خلافه، وذلك جمعاً بين ما ثبت عنه من نقل الاتفاق على عدم فناء النار وما ينسب له من القول بفنائها، ولا يمكن أن ينقل الاتفاق على ذلك ثم يقول بخلافه .. !! وقد قال شيخ الإسلام بحياة الخضر (¬4) ثم تبين له بعد ذلك الصواب في خلافه فقال – رحمه الله -: (والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت) (¬5) .. ولهذا قال الألباني – رحمه الله – في مسألة فناء النار واعتماد شيخ الإسلام على بعض الآثار الضعيفة: (ولعل ذلك كان منه إبان طلبه للعلم، وقبل توسعه في دراسة الكتاب والسنة، وتضلعه بمعرفة الأدلة الشرعية) (¬6). ثانياً: لو قال قائل إننا لا ندري أي القولين قبل الآخر .. !!، فلا يقال إن هذا رأي رآه في أول حياته ثم تبين له خلافه .. !! ... هب أن الأمر كذلك .. فلقد رسم الله عز وجل لنا قاعدة عظيمة محكمة وذلك بقوله: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7]، فإذا ورد نصان أحدهما محكم لا يحتمل إلا معنى واحداً، والآخر متشابه يحتمل أكثر من معنى فإن حال الراسخين في العلم يردون المتشابه إلى المحكم فيصبح الكل محكماً، قال محمد بن جرير الطبري – رحمه الله -: (وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منها: ما احتمل من التأويل أوجها) (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (185). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 358). (¬3) ((مراتب الإجماع)) (ص: 268). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 339). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 100). (¬6) ((مقدمة رفع الأستار)) (ص: 25). (¬7) ((تفسير الطبري)) (3/ 174).

وإذا طبقنا هذه القاعدة العظيمة على مسألتنا، نجد أن نقل الاتفاق على عدم فناء النار نص محكم جلي لا يحتمل إلا وجهاً واحداً؛ وهو الاتفاق على عدم فناء النار .. وقول البعض إن كلام شيخ الإسلام محمول على القول بعدم فناء الجنة والنار معاً .. قول مردود وذلك أن عبارته صريحة في نقل الاتفاق على الجميع باعتبار كل واحدة منفصلة فهو يضرب أمثلة على مخلوقات لا تفنى ولا تعدم بالكلية فيقول – رحمه الله -: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك) (¬1). فهو نص محكم لا يحتمل إلا وجهاً واحداً وهو الاتفاق على عدم فناء النار، وأما ما ينسب إليه من القول بفناء النار فهو قول متشابه، ولهذا اختلفت آراء العلماء في توجيهه، فإذا رددنا المتشابه من قوله إلى المحكم أصبح الكل محكماً، ويكون قول شيخ الإسلام كسائر أقوال أهل السنة. ثالثاً: أنه لو سلم أن هذا رأي لشيخ الإسلام وثابت عنه ولم يكن رأياً متقدماً في الزمن – أي في أول حياته – ولم يكن متشابهاً بل كلام محكم، فإنه يكون رأياً له – رحمه الله - .. والحق أحق وأولى بالاتباع .. فهو العلم الذي لا يجارى والبحر المتلاطم أمواجه .. ولكنه بشر غير معصوم .. !! وهو مأجور على اجتهاده. بقي أن يقال هل يوجد مخالف من السلف قبل شيخ الإسلام لهذا الإجماع؟! لم أقف على مخالف لهذا الإجماع .. والإجماع فيها قائم وسالم لا معارض له .. ويدل لذلك أمور: أولاً: النصوص الكثيرة التي نقلها سلف الأمة وأئمة هذا الدين من الإجماع على عدم فناء النار وخلود الكفار فيها خلوداً مؤبداً، وقد أشرنا إلى بعضها آنفاً، مع اختلاف أزمانهم وبلدانهم ولن يتتابع هؤلاء الأئمة في نقل الإجماع على مسألة وفيها من يخالف هذا الإجماع من العلماء فضلاً عن أن يكون المخالف من الصحابة!!. ثانياً: الذين ذكروا بعض المخالفين لفناء النار .. فقد نقلوا الإجماع على خلود الكفار فيها خلوداً مؤبداً. فيقول ابن القيم – رحمه الله -: (الذي يدل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل النار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يفتر عنهم وأنهم خالدون فيها) (¬2). ويقول – رحمه الله -: (الذي دل عليه القرآن أن الكفار خالدون في النار أبداً، وأنهم غير خارجين منها وهذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين) (¬3). ثالثاً: الآثار التي استدل بها من يقول بفناء النار .. فقد بين العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني – رحمه الله – في كتابه الموسوم (رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار) ومحقق الكتاب العلامة الألباني – رحمه الله – بينا أنها آثار لا تصح والصحيح منها غير صريح، فهي إما غير صحيحة أو غير صريحة! فكيف يخالف بها الإجماع المنقول عن سلف الأمة وأئمتها!! المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين - بتصرف – ص: 887 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (18/ 307). (¬2) ((حادي الأرواح)) (ص: 314). (¬3) ((حادي الأرواح)) (ص: 314).

المطلب الثاني: القائلون بفناء النار

المطلب الثاني: القائلون بفناء النار المخالفون لمذهب أهل الحق في هذه المسألة ... : 1 - الجهمية: القائلون بفناء النار وفناء الجنة أيضاً، وقد حكى الإمام أحمد في آخر كتاب (الرد على الزنادقة) مذهب الجهمية بأن النار والجنة تفنيان، ورد عليهم ذاكراً النصوص الدالة على عدم فنائهما. 2 - الخوارج والمعتزلة: يقولون بخلود كل من يدخل النار، ولو كانوا من أهل التوحيد، وسر هذا القول أن الخوارج يكفرون المسلمين بالذنوب، فكل من ارتكب ذنباً، فإنه كافر خالد مخلد في نار جهنم، والمعتزلة يرون أن من ارتكب ذنباً في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا كافر، ويجرون عليه أحكام الإسلام في الدنيا، ولكنه في الآخرة مخلد في نار جهنم، وقد سقنا كثيراً من النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يخرجون من النار. 3 - اليهود: الذين يزعمون أنهم يعذبون في النار وقتاً محدوداً، ثم يخلفهم غيرهم فيها، وقد أكذبهم الله في زعمهم، ورد عليهم مقالتهم وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 80 - 81]. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [آل عمران: 23 - 24]. ونقل ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس أنه قال في تفسير آية البقرة: (قال أعداء الله اليهود: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب). وذكر ابن جرير عن السدي قوله: (قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا، نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل، فلذلك أمرنا أن نختن، قالوا: فلا يدعون منا في النار أحداً إلا أخرجوه). (¬1) وذكر أيضاً ابن عباس قال: (ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوباً: إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهي إلى شجرة الزقوم ثابتة في أصل الجحيم، وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر، وفيها شجرة الزقوم، فزعم أعداء الله أنه خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياماً معدودة). قال ابن جرير: (وإنما يعني بذلك يعني بذلك المسير الذي ينتهي في أصل الجحيم، فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل، فلا عذاب وتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [البقرة:80]. يعنون بذلك الأجل، فقال ابن عباس: (لما اقتحموا من باب جهنم ساروا في العذاب، حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة، قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياماً معدودة، فقد خلا العدد، وأنتم في الأبد، فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون). (¬2) 4 - قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي، فإنه زعم أن أهلها يعذبون فيها مدة، ثم تنقلب طبائعهم نارية يتلذذون بالنار لموافقتها لطبائعهم، قال ابن حجر في الفتح: (وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة). (¬3) ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (1/ 381). (¬2) ((تفسير الطبري)) (1/ 381). (¬3) ((فتح الباري)) (11/ 421).

5 - قول من زعم أن أهلها يخرجون منها، وتبقى على حالها خالدة لا تبيد. 6 - قول أبي هذيل العلاف من أئمة المعتزلة الذاهب إلى أن حياة أهل النار تفنى، ويصيرون جماداً لا يتحركون، ولا يحسون بألم، قال بذلك لأنه يقول بامتناع حوادث لا نهاية لها، فخالف الأدلة الصريحة القطيعة الثبوت بمقاييس عقلية باطلة. ... وقد تتابع العلماء في التأليف لبيان خطأ هذا المذهب، يقول ابن حجر العسقلاني بعد حكايته لهذا القول: (وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول، ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد) (¬1)، وهذا الكتاب الذي أشار إليه هو (الاعتبار ببقاء الجنة والنار) لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي المتوفى سنة 756. وقال صديق حسن خان: (وقد ألف العلامة الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي رسالة سماها: (توفيق الفريقين على خلود أهل الدارين)، وفي الباب رسالة للسيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير، ورسالة للقاضي العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني، حاصلهما بقاء الجنة والنار وخلود أهلهما فيهما). (¬2) ... ومن الذين تعرضوا لهذه المسألة القرطبي في (التذكرة)، فقد ساق النصوص الدالة على خلود الجنة والنار، والمخبرة بأن الموت يذبح بين الجنة والنار ثم يقال: (يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت) ثم قال: (هذه الأحاديث مع صحتها في خلود أهل الدارين فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة ولا راحة ولا نجاة). (¬3) ورد القرطبي على الذين قالوا بفناء النار، وبين أن الذي يفنى إنما هو النار التي يدخلها عصاة الموحدين، قال: (فمن قال: إنهم يخرجون منها، وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى وتزول، فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول. وإنما تخلى جهنم وهي الطبقة العلية التي فيها العصاة من أهل التوحيد، وهي التي ينبت على شفيرها الجرجير). (¬4) ونقل القرطبي عن فضل بن صالح المعافري قال: (كنا عند مالك بن أنس ذات يوم، فقال لنا: انصرفوا، فلما كان العشية رجعنا إليه، فقال: إنما قلت لكم انصرفوا، لأنه جاءني رجل يستأذن علي زعم أنه قدم من الشام في مسألة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في أكل الجرجير، فإنه يتحدث عنه أنه ينبت على شفير جهنم؟ فقلت له: لا بأس به (¬5). فقال: أستودعك الله، وأقرأ عليك السلام، ذكره الخطيب أبو بكر أحمد رحمه الله، وذكر أبو بكر البزار، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ((يأتي على النار زمان تخفق الرياح أبوابها، ليس فيها أحد، يعني من الموحدين)) (¬6) هكذا رواه موقوفاً عن عبد الله بن عمرو، وليس فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو مرفوع). (¬7) الجنة والنار لعمر سليمان الأشقر – ص 42 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (11/ 422). (¬2) ((يقظة أولي الاعتبار))، لصديق حسن خان (ص: 42)، ورسالة الصنعاني طبعها المكتب الإسلامي بيروت، وقد حققها وكتب لها مقدمة ضافية الشيخ ناصر الدين الألباني فأجاد. (¬3) ((التذكرة)) للقرطبي (ص: 436). (¬4) هذا القول لا يصح فيه خبر ثابت، وكأن قائله أراد منه خمود النار التي يكون فيها عصاة الموحدين حتى ينبت النبات على حوافها. (¬5) هذه القصة إن كانت صحيحة فقد تكلف هذا السائل في سفره لتبين أمر هو في غاية الوضوح. (¬6) رواه البزار في ((المسند)) (6/ 442). قال العيني في ((عمدة القاري)) (19/ 52): وهذا وإن كان موقوفا فإن مثله لا يقال بالرأي. (¬7) ((التذكرة للقرطبي)) (ص: 437).

قال القرطبي: أجمع علماء أهل السنة على أن أهل النار مخلدون فيها غير خارجين منها, كإبليس وفرعون, وهامان, وقارون, وكل من كفر وتكبر, وطغى وتجبر, فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، وقد وعدهم الله عذاباً أليماً فقال عز وجل: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ وأجمع أهل السنة أيضاً على أنه لا يبقى فيها مؤمن, ولا يخلد فيها إلا كافر جاحد. فاعلمه. وقد زل هنا بعض من ينتمي إلى العلم والعلماء: فقال إنه يخرج من النار كل كافر, ومبطل, وشيطان, وجاحد ويدخل الجنة, وإنه جائز في العقل أن تنقطع صفة الغضب، فيعكس عليه فيقال: وكذلك جائز في العقل: أن تنقطع صفة الرحمة, فيلزم عليه أن تدخل الأنبياء والأولياء النار يعذبون فيها، وهذا فاسد مردود بوعده الحق وقوله الصدق قال تعالى في حق أهل الجنان عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] أي غير مقطوع وقال: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] وقال: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق: 25] وقال: لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [التوبة: 21 - 22] وقال في حق الكافرين: لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ [الأعراف: 40] وقال فَاليَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية: 35] وهذا واضح. وبالجملة فلا مدخل للعقول فيمن اقتطع أصله بالإجماع والنقول. ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، انتهى. يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار لصديق حسن خان– ص: 17

الكتاب السابع: الإيمان بالقضاء والقدر

المطلب الأول: القضاء لغة هو بالمد، ويقصر، أصله، قضاي، فلما جاءت الياء بعد ألف زائدة متطرفة همزت وجمعه أقضية (¬1). قال ابن فارس: (القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته) (¬2). وقال في (النهاية): (القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه) (¬3). ويتبين مما تقدم أن معنى القضاء في اللغة هو إحكام الشيء وإتمام الأمر، وهذا هو أصل معنى القضاء، وإليه ترجع جميع معاني القضاء الواردة في اللغة، وقد يأتي بمعنى القدر (¬4). وقد ورد لفظ القضاء ومشتقاته كثيراً في القرآن الكريم، وكل معانيه، التي قد تأتي متداخلة أحياناً، ترجع إلى الأصل السابق، فمن المعاني التي ورد بها: 1 - معنى الأمر، ومنه قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23]، أي: أمر سبحانه وتعالى بعبادته وحده لا شريك له (¬5). 2 - معنى الأداء والإنهاء، وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ [الحجر: 66]، أي: تقدمنا إليه وأنهينا (¬6). 3 - معنى الحكم، ومنه قوله تعالى: فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ [طه: 72] اصنع, واحكم, وافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك (¬7). 4 - ومعنى الفراغ، ومنه قوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 12] أي: فرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين, ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ [القصص: 29] أي: فرغ من الأجل الأوفى والأتم (¬8). 5 - ومعنى الأداء، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ [البقرة: 200] أديتموها وفرغتم منها (¬9) وهذا داخل في المعنى السابق. 6 - ومعنى الإعلام، ومنه قوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 4] أي: تقدمنا وأخبرنا بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزل إليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين (¬10). 7 - وبمعنى الموت، يقال: ضربه فقضى عليه، أي: قتله (¬11) قال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص: 15] , أي قتله. هذه هي أهم معاني (القضاء) في اللغة، وهناك اشتقاقات أخرى ذكرتها كتب اللغة (¬12) ومن خلال عرض هذه المعاني يتبين ما بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي من رابط قوي، فتقدير الله للأمور، وكتابته لذلك، وكونها تجري بحكمة ودقة على حسب ما أرادها سبحانه وقضاها، كل هذه المعاني يوحي بها المعنى اللغوي. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص: 25 ¬

(¬1) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2463)، وانظر: ((لسان العرب)) (15/ 186) , و ((تاج العروس)) (10/ 296). (¬2) ((معجم مقاييس اللغة)): (5/ 99). (¬3) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)): لابن الأثير (4/ 78)، وانظر: ((لسان العرب)) (15/ 186)، و ((تاج العروس)) (10/ 296). (¬4) انظر: ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 422). (¬5) انظر: ((تفسير الطبري)) (15/ 62)، وانظر: ((لسان العرب)) (15/ 186)، و ((تاج العروس)) (10/ 296)، ((مفردات القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 421) مادة (قضى). (¬6) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 460)، وانظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (4/ 407)، وانظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2463)، و ((لسان العرب)) (15/ 187) مادة (قضى). (¬7) انظر: ((تفسير الطبري)) (16/ 189)، و ((تفسير ابن كثير)) (5/ 298). (¬8) انظر: ((تفسير الطبري)) (24/ 99)، وابن كثير (7/ 156)، ((تفسير البغوي)) (5/ 172)، وانظر: ((مفردات القرآن)) (ص: 421)، و ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2463)، و ((لسان العرب)) (15/ 186، 187) مادة قضى. (¬9) انظر: ((تفسير الطبري)) (2/ 295)، و ((تفسير ابن كثير)) (1/ 355)، وانظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2664)، و ((ترتيب القاموس المحيط)) (3/ 641). (¬10) انظر: ((تفسير الطبري)) (15/ 20، 21)، و ((تفسير ابن كثير)) (5/ 43)، وانظر: ((لسان العرب)) (15/ 187). (¬11) انظر: ((الصحاح)) (6/ 2463)، و ((لسان العرب)) (15/ 187)، وانظر: ((تهذيب الصحاح)) (3/ 1051). (¬12) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2463)، و ((تهذيب الصحاح)) (3/ 1051)، و ((لسان العرب)) (15/ 186)، و ((تاج العروس)) (10/ 296) مادة (قضى)، وانظر: ((أساس البلاغة)) للزمخشري (ص: 513).

المطلب الثاني: القدر لغة

المطلب الثاني: القدر لغة قدر: (القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته) وهو بتسكين الدال وفتحها مع فتح القاف, وقد نقل الصغاني عن الفراء أنه قد يأتي بضم القاف (قدر) ولما كان لفظ القدر يأتي بسكون الدال وفتحها قال اللحياني: إن القدر – بالفتح - الاسم، والقدر- بالسكون - المصدر ويطلق القدر على الحكم والقضاء, ومن ذلك حديث الاستخارة وفيه: ((فاقدره لي ويسره لي)). والقدر، بتحريك الدال وإسكانها، الطاقة ومن ذلك قوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ [البقرة:236] بفتح الدال، وقرئ بإسكانها. ويأتي القدر بمعنى التضييق، ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16] وعليه فسر قوله –تعالى- عن يونس-عليه السلام-: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ الأنبياء: 87 [أي: لن نضيق عليه.] وقدرت الشيء أقدره من التقدير، ومنه الحديث: ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) (¬1) أي: قدروا له عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يومياً، وقيل: قدروا له منازل القمر، فإنه يدلكم على أن الشهر تسع وعشرون أو ثلاثون (¬2). وقدر كل شيء ومقداره: مقياسه، يقال قدره به قدراً إذا قاسه، والقدر من الرحال والسروج: والوسط، وقدرت الشيء قدارة، أي: هيأت ووقت، ومنه قول الأعشى: فأقدر بذرعِك بيننا ... إن كنت بوَّأْتَ القدارة والقدرة، اليسار، والغنى، والقوة (¬3). هذه هي أهم المعاني لـ (القدر) في اللغة. وهناك معان أخرى جانبية تعرضت لها كتب اللغة (¬4). ويتبين مما سبق ما بين المعنى اللغوي لكل من القضاء والقدر والمعنى الشرعي - كما سيأتي - من رابط قوي، فكل منهما يأتي بمعنى الآخر، ومن معاني القضاء ترجع إلى إحكام الأمر وإتقانه وإنفاذه، ومن معانيه الأمر، والحكم، والإعلام، كما أن معاني القدر ترجع إلى التقدير، والله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلق، فعلمها وكتبها وشاءها وخلقها، وهي مقضية ومقدرة فتقع حسب أقدارها، ويتبين من خلال ذلك ما بين معنى القضاء والقدر في اللغة والشرع من ترابط. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص: 27 ¬

(¬1) رواه البخاري (1900)، ومسلم (1080). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (¬2) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/ 41). (¬3) انظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 161، 786)، و ((معجم مقاييس اللغة)) (5/ 62، 74)، وانظر: ((تاج العروس)) (3/ 481، 482)، و ((ترتيب القاموس المحيط)) (3/ 570)، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 361). (¬4) انظر في مادة (قدر) ((الصحاح)) للجوهري (2/ 786) وما بعدها، و ((التكملة والذيل والصلة)) (3/ 159) وما بعدها، و ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 62 – 63)، و ((لسان العرب)) (5/ 74) وما بعدها، و ((تاج العروس)) (3/ 481) وما بعدها، و ((أساس البلاغة)) للزمخشري (ص: 495).

المبحث الثاني: معنى القضاء والقدر شرعا، والفرق بينهما

المطلب الأول: معنى القضاء والقدر شرعاً هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها (¬1). القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص: 30 ¬

(¬1) انظر: ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية (ص: 21)، وانظر أيضاً: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 29).

المطلب الثاني: الفرق بين القضاء والقدر

المطلب الثاني: الفرق بين القضاء والقدر انقسم العلماء في ذلك إلى فريقين: الفريق الأول: قالوا بأنه لا فرق بين القضاء والقدر، فكل واحد منهما في معنى الآخر، فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر، ولذلك إذا أطلق القضاء وحده فسر بالقدر، وكذلك القدر، فلا فرق بينهما في اللغة، كما أنه لا دليل على التفريق بينهما في الشرع. الفريق الثاني: قالوا بالفرق بينهما، ولكن هؤلاء اختلفوا في التمييز بينهما على أقوال: القول الأول: رأي أبي حامد الغزالي, أن هناك - بالنسبة لتدبير الله وخلقه - ثلاثة أمور: 1 - الحكم: وهو التدبير الأول الكلي، والأمر الأزلي. 2 - القدر: وهو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة، بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص (¬1). القول الثاني: من فرق بينهما بأن القضاء: هو الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر: الحكم بوقوع الجزيئات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل (¬2). القول الثالث: أن القدر هو التقدير والقضاء هو التفصيل والتقطيع فالقضاء أخص من القدر الذي هو كالأساس (¬3). القول الرابع: ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المعد للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: (أتفر من القضاء؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله) (¬4) تنبيهاً على أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله, فإذا قضي فلا مدفع له (¬5) والاستشهاد بالحادثة ضعيف لأنها لم ترد بهذا اللفظ القول الخامس: قول الماتريدية وقد فرقوا بينهما: بأن القضاء هو الخلق الراجع إلى التكوين، أي: الإيمان على وفق القدر السابق، والقدر هو ما يتعلق بعلم الله الأزلي، وذلك بجعل الشيء بالإرادة على مقدار محدد قبل وجوده (¬6). القول السادس: قول الأشاعرة وجمهور أهل السنة: أ- أن القضاء هو إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على وفق ما توجد عليه في وجودها الحادث. ب- والقدر إيجاد الله الأشياء على مقاديرها المحددة في كل ما يتعلق بها (¬7) هذه هي أهم الأقوال في الفرق بين القضاء والقدر، ونلخص منها إلى ما يلي: 1 - الذين فرقوا بينهما ليس لهم دليل واضح من الكتاب والسنة يفصل في القضية. 2 - عند إطلاق أحدهما يشمل الآخر (¬8) , وهذا يوحي بأنه لا فرق بينهما في الاصطلاح ولذا فالراجح أنه لا فرق بينهما. 3 - ولا فائدة من هذا الخلاف، وعلى هذا فيكون التعريف السابق للقضاء والقدر شرعاً هو الراجح. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص: 30 ¬

(¬1) انظر: كتاب ((الأربعين في أصول الدين)) للغزالي (ص: 24)، وانظر: ((الدين الخالص)) (3/ 154). (¬2) انظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 149، 477)، وانظر: ((عمدة القاري)) لبدر الدين العيني (23/ 145). (¬3) انظر: ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 422)، وانظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (9/ 343). (¬4) رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219) بلفظ: (أفراراً من قدر الله؟ ... قال عمر: نفر من قدر إلى الله إلى قدر الله). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬5) ((مفردات ألفاظ القرآن)) (ص: 422). (¬6) انظر: ((العقائد النسفية مع شرحها)) (ص: 112 - 113)، و ((العقيدة الإسلامية وأسسها)) لعبدالرحمن حبنكة الميداني (2/ 414)، و ((لمحات في وسائل التربية الإسلامية وغاياتها)) لمحمد أمين المصري (ص: 198)، و ((أركان الإيمان)) لوهبي الألباني (ص: 303). (¬7) انظر: ((العقيدة الإسلامية وأسسها)) (2/ 414)، و ((الدرر السنية)) (1/ 255)، و ((الدين الخالص)) لمحمد صديق خان (3/ 154). (¬8) انظر: ((تفسير فتح البيان في مقاصد القرآن)) لمحمد صديق خان (7/ 375).

المبحث الثالث: نشأة القول بالقدر (القدرية الأولى)

المبحث الثالث: نشأة القول بالقدر (القدرية الأولى) الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان، وقد بيَّن هذا الكتاب والسنة مفهوم القدر، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العمل والأخذ بالأسباب هو من القدر ولا ينافيه ولا يناقضه، وحذر أمته من الذين يكذبون بالقدر، أو يعارضون به الشرع. وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً عندما خرج على أصحابه يوماً وهم يتنازعون في القدر، حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فُقئ في وجنتيه الرمان، فقال: ((أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه)) (¬1). واستجاب الصحابة رضوان الله عليهم لعزيمة نبيهم وتوجيهه، فلم يُعرف عن أحد منهم أنه نازع في القدر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته. ولم يَردْ إلينا أن واحداً من المسلمين نازع في القدر في عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان، وكل ما ورد إلينا أن أبا عبيدة عامر بن الجراح اعترض على رجوع عمر بالناس عن دخول الشام عندما انتشر بها الطاعون، وقال لعمر بن الخطاب: (يا أمير المؤمنين أفراراً من قدر الله؟) فقال عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت إن كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان: إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدرة الله) (¬2). وروى اللالكائي أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية (من أرض الشام فقال في خطبته: من يضلل الله فلا هادي له, وكان الجثاليق بين يديه، فقال: إن الله لا يضل أحداً، وعندما كررها عمر بن الخطاب نفض الجثاليق ثوبه ينكر قول عمر. فقال له عمر بعد أن تُرجم له كلامه: كذبت يا عدو الله خلقك الله، والله يضلك، ثم يميتك، فيدخلك النار إن شاء الله ... إن الله خلق الخلق، وقال: حين خلق آدم نثر ذريته في يده، وكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وكتب أهل النار وما هم عاملون، ثم قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه فتفرق الناس وما يختلف في القدر اثنان) (¬3). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص15 وقد اختلفت الآراء حول نشأة القول بالقدر في الإسلام، وعلى يد من نشأ القول به, وأهم الأقوال التي قيلت في ذلك هي: ¬

(¬1) رواه الترمذي (2133). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث صالح المري وصالح المري له غرائب ينفرد بها لا يتابع عليها. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن. (¬2) رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219). (¬3) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 659).

القول الأول: تكاد تجمع المصادر على أن أول من قال بالقدر (معبد الجهني) , وأن ذلك كان بالبصرة في أواخر عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وكل من ترجم لمعبد الجهني هذا قال عنه: إنه أول من تكلم بالقدر (¬1)، أو ابتدع القول بالقدر، ومعلوم أن المقصود إنما هو نفي القدر، ودليل هذا القول: رواية مسلم في صحيحه في الحديث المشهور فقد روى عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني, فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين, فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر, فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد, فاكتنفته أنا وصاحبي, أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله, فظننت أن صاحبي سيكل الأمر إلي، فقلت: أبا عبدالرحمن, إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم (وذكر من شأنهم) وأنهم يزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف ... ) الحديث (¬2)، وهذا يفيد أن معبداً هو أول من قال بالقدر. وهناك من يقول: إن أول من ابتدع القول بالقدر رجل من أهل البصرة من المجوس اسمه (سيسويه) (¬3) وقال محمد بن شعيب الأوزاعي: (أول من نطق بالقدر رجل من أهل العراق يقال له: (سوسن) , وكان نصرانياً فأسلم ثم تنصر) وهؤلاء يقولون: إن معبداً الجهني أخذ عن (سوسن) القول بالقدر (¬4). وقد يكون من المحتمل أن الفكرة من أساسها كانت عند هذا الرجل النصراني الذي تظاهر بالإسلام, أو عند هذا المجوسي سيسويه، ولكنه لم يستطع بشخصه أن يجاهر بها ويذيعها بين الناس لعدم ثقة الناس به، فتأثر به معبد الجهني الذي نطق بها علانية ونشرها, فاشتهرت عنه. ويلاحظ أن اسم (سيسويه) و (سوسن) متقاربان، فلعلهما شخص واحد. وهناك من المعاصرين من ينكر أي أثر للنصارى أو لرجل نصراني على معبد الجهني حول فكرة القول بالقدر، مدعياً (أن محاولة ربط عقائد أصحاب مذهب الإرادة الحرة بنصراني أسلم ثم تنصر محاولة غير صحيحة، سار عليها أصحاب الفرق المختلفة) (¬5). وهذه دعوة لا يعتمد عليها في القضية، إذ المعتمد في النفي أو الإثبات إنما هو الروايات التاريخية في صحتها أو عدم صحتها، والكتاب نفسه ذكر في كتابه الذي قال فيه هذا الكلام فصلاً طويلاً عن أثر (المسيحية) في نشأة علم الكلام والفرق (¬6). هذا هو القول الأول، وقد أخذ عن معبد الجهني قوله بنفي القدر شخص آخر اسمه غيلان الدمشقي ويعد ثاني من تكلم بالقدر. ¬

(¬1) وهو ما ذكره البخاري في ((التاريخ الأوسط)) (1/ 236)، والذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (4/ 185). (¬2) رواه مسلم (8). من حديث عمر رضي الله عنه. (¬3) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (3/ 536)، و ((الإبانة)) لابن بطة (2/ 298). (¬4) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 232)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 750)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 298). (¬5) ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) لعلي سامي النشار (1/ 319). (¬6) ((نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)) لعلي سامي النشار (1/ 90) وما بعدها.

وهؤلاء هم القدرية الأوائل الذين أنكروا القدر, وأنكروا علم الله السابق بالأمور، وهذا معنى ما في حديث مسلم أنهم: يزعمون ألا قدر, وأن الأمر أنف، أي: مستأنف لم يسبق لله - تعالى - فيه علم, وهؤلاء هم الذين تبرأ منهم من سمع بهم من الصحابة كعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وابن العباس، وأنس بن مالك، وعبدالله بن أبي أوفى، وعقبة بن عامر الجهني، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم (¬1) , وهؤلاء أيضاً هم الذين قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله، القدرية يكفرون (¬2). القول الثاني: أن أول ما حدث القول بالقدر في الحجاز، قبل معبد الجهني، وأن ذلك وقع لما احترقت الكعبة وعبدالله بن الزبير رضي الله عنه محصورا بمكة فقال أناس: احترقت بقدر الله تعالى, وقال: أناس لم تحترق بقدر الله (¬3). القول الثالث: أن أول من نادى بالقدر في الشام هو (عمرو المقصوص) , وكان عمرو هذا معلماً لمعاوية الثاني, وأثر عليه كثيراً, فاعتنق أقواله في القدر، حتى إنه لما أن تولى الخلافة كان عمرو هذا هو الذي أثر عليه فاعتزلها حتى مات، ووثب بنو أمية على عمرو المقصوص وقالوا: أنت أفسدته وعلمته، ثم دفنوه حياً حتى مات, وهذا القول ضعيف، لأن معاوية بن يزيد كان رجلاً صالحاً، وعمرو المقصوص لم أجد من ذكر قصته من المؤرخين غير ابن العبري. هذه هي أهم الأقوال في أول من قال بالقدر، ولا شك أن القول الأول هو أشهرها وأرجحها، ولا مانع أن تكون هناك أقوال مفردة قبل ذلك، ويكون كل قول هو الأول باعتبار البلد الذي ابتدئ القول بالقدر فيه، لكن الذي نشأ به القول الأول بالقدر وكان له رجال كانوا سبباً في نشره فيما بعد، هو ما بدأه معبد الجهني، وغيلان الدمشقي. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص 177 - 120 ثم أخذ هذا المذهب عن معبد رؤوس الاعتزال وأئمته كواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيلان الدمشقي. فأما واصل بن عطاء رأس الاعتزال، فقد زعم أن الشر لا يجوز إضافته إلى الله، لأن الله حكيم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحتم عليهم شيئاً، ثم يجازيهم عليه. وقرر في مقالته: أن العبد هو الفاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله، والربُّ تعالى أقدره على ذلك كله. وذهب النظام من المعتزلة إلى أن الله لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة لله. ¬

(¬1) انظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 19)، وانظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 368). (¬2) انظر: ((حاشية كتاب التوحيد)) لعبدالرحمن بن قاسم، (ص: 365). (¬3) انظر: ((إكمال المعلم)) و ((مكمل الإكمال)) وهما شرحان لـ ((صحيح مسلم)) (1/ 51)، وانظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 368).

وهذه الفرقة هي التي أطلق عليها علماؤنا: اسم القدرية. وسموا بذلك لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه، وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون هذا الاسم إلى مخالفيهم من أهل الهدى، فيقولون: أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله، وإنكم أولى بهذا الاسم منا (11). وقد ذكر النووي في شرحه على (صحيح مسلم): (أن بعض القدرية قال: لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية، لاعتقادكم إثبات القدر). (¬1) قال ابن قتيبة والإمام (يريد الإمام الجويني): (هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهتة وتواقح، فإن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويضيفون القدر والأفعال إلى الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم، ومُدَّعي الشيء لنفسه، ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره، وينفيه عن نفسه) (¬2). وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى القدرية مجوس هذه الأمة، والحديث أخرجه أبو داود في (سننه) والحاكم في (مستدركه على الصحيحين)، وقال: صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر (¬3). والسبب في تسمية هذه الفرقة بمجوس هذه الأمة (مضاهاة مذهبهم المجوس في قولهم بالأصلين: النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثَنَوِيَّة، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى، والشر إلى غيره، والله – سبحانه وتعالى – خالق الخير والشر جميعاً، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه – سبحانه وتعالى – خلقاً وإيجاداً، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً). ونشأ في آخر عهد بني أمية أقوام يزعمون أن العبد مجبور على فعله، ليس له خيار فيما يأخذ أو يدع، وبعضهم يثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، وأول من ظهر عنه هذا القول هو الجهم بن صفوان، وتفرع عن هذه البدعة أقوال شنيعة، وضلال كبير. وقد انتشر هذا القول في الأمة الإسلامية وتقلده كثير من العباد والزهاد والمتصوفة، وإذا كان الفريق الأول أشبه المجوس فإن هذا الفريق أشبه المشركين الذين قالوا: لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ. [الأنعام:148]. وهذا الفريق شرٌّ من الفريق الأول، لأن الأولين عظموا الأمر والنهي، وأخرجوا أفعال العباد عن تكون خلقاً لله، وهذا الفريق أثبت القدر، واحتج به على إبطال الأمر والنهي. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر – ص21 ¬

(¬1) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 154). (¬2) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 154). (¬3) رواه أبو داود (4691)، والحاكم (286). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين: إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن.

الفصل الثاني: حكم الإيمان بالقضاء والقدر، ومراتبه

المطلب الأول: حكم الإيمان بالقضاء والقدر الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال (أي جبريل عليه السلام): صدقت)) (¬1). والنصوص المخبرة عن قدرة الله أو الآمرة بالإيمان بالقدر كثيرة، فمن ذلك قوله تعالى: إِنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]. وقوله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب: 38]، وقوله: وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً [الأنفال:42]. وقال: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]. وقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 1 - 3]. وروى مسلم في (صحيحه) عن طاووس قال: ((أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر حتى العجزُ والكَيْس، أو الكَيْس والعَجْز)) (¬2). وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة قال: ((جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 48: 49])) (¬3). والنصوص في ذلك كثيرة جداً فإن النصوص الدالة على علم الله وقدرته ومشيئته وخلقه تدل على قدره تبارك وتعالى، فالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله ومشيئته وخلقه، ... وذكر النصوص الواردة في ذلك. والقدر يدل بوضعه – كما يقول الراغب الأصفهاني فيما نقله عنه ابن حجر العسقلاني – على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم. فلله تعالى القدرة المطلقة، وقدرته لا يعجزها شيء، ومن أسمائه – تبارك وتعالى – القادر والقدير والمقتدر، والقدرة صفة من صفاته. فالقادر اسم فاعل من قدر يقدر. والقدير فعيل منه، وهو للمبالغة، ومعنى (القدير) الفاعل لما يشاء، على قدر ما تقتضيه الحكمة لا زائداً عليه، ولا ناقصاً عنه، ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله عز وجل. قال تعالى: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف:33]. و (المقتدر) مفتعل من اقتدر، وهو أبلغ من (قدير) ومنه قوله: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [القمر: 55]. وقد سئل الإمام أحمد – رحمة الله تعالى – عن القدر: فقال: (القدر قدرة الله). قال ابن القيم: (وقال الإمام أحمد: القدرُ قدرة الله. واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جداً، وقال: هذا يدل على دقة أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكاره إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها) وقد صاغ ابن القيم لهذا المعنى شعراً فقال: واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد ... لما حكاه عن الرضا الربان فحقيقة القدر الذي حار الورى ... في شأنه هو قدرة الرحمن ¬

(¬1) رواه مسلم (8). (¬2) رواه مسلم (2655). (¬3) رواه مسلم (2656).

ولذا فإن الذين يكذبون بالقدر لا يثبتون قدرة الله تعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (مَنْ لم يقل بقول السلف فإنه لا يُثبِت لله قدرة، ولا يثبته قادراً كالجهمية ومن اتبعهم، والمعتزلة المجبرة والنافية: حقيقة قولهم أنه ليس قادراً، وليس له الملك، فإن المُلك إما أن يكون هو القدرة، أو المقدور، أو كلاهما، وعلى كل تقدير فلا بدَّ من القدرة، فمن لم يثبت له قدرة حقيقية لم يثبت له ملكاً) (¬1). والذين كذبوا بالقدر لم يوحدوا الله عز وجل، فإن نفاة القدر يقولون: خالق الخير غير خالق الشر، ويقول من كان منهم في ملتنا: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى، وربما قالوا: ولا يعلمها أيضاً، ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقعة بغير قدرته ولا صنعه، فيجحدون مشيئته النافذة، وقدرته الشاملة. وقد تقاطر أهل العلم على تقرير القدر والنصِّ على وجوب الإيمان به، وما من عالم من علماء أهل السنة الذين هم أعلام الهدى وأنوار الدجا إلا وقد نصَّ على وجوب الإيمان به، وبدَّع وسفَّه من أنكره وردَّه. يقول النووي رحمه الله تعالى في شرحه لأحاديث القدر من (صحيح مسلم): (وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر، وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها) (¬2). وقال في موضع آخر: (تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى) (¬3). ويقول ابن حجر رحمه الله تعالى: (مذهب السلف قاطبة أن الأمور كلَّها بتقدير الله تعالى، كما قال تعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ [الحجر: 21]) (¬4). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص11 ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 30). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/ 195). (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 155). (¬4) ((فتح الباري)) (11/ 478).

المطلب الثاني: الأدلة على وجوب الإيمان بالقدر

المطلب الثاني: الأدلة على وجوب الإيمان بالقدر الفرع الأول: الأدلة العامة من القرآن الكريم على وجوب الإيمان بالقدر الأدلة العامة من القرآن الكريم على وجوب الإيمان بالقدر: وردت في كتاب الله تعالى آيات تدل على أن الأمور تجري بقدر الله تعالى وعلى أن الله تعالى علم الأشياء وقدرها في الأزل، وأنها ستقع على وفق ما قدرها الله سبحانه وتعالى ومن هذه الآيات: قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] ... 2 - وقوله تعالى سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب:38] (أي قضاء مقضياً، وحكماً مبتوتاً، وهو كظل ظليل, وليل أليل، وروض أريض في قصد التأكيد) (¬1). 3 - وقوله تعالى عن موسى عليه السلام: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه: 40] أي أنه جاء موافقاً لقدر الله تعالى وإرادته على غير ميعاد (¬2). 4 - وقوله تعالى: فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات: 21 - 23]. أي: جعلنا الماء في مقر يتمكن فيه وهو الرحم مؤجلاً إلى قدر معلوم قد علمه الله سبحانه وحكم به, فقدرنا على ذلك فنعم القادرون نحن, أو: فقدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن – على قراءتين- (¬3) والقراءة الثانية (قدّرنا) بالتشديد توافق قوله تعالى: مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:19]. فهذه الآيات تفيد الإخبار عن قدر الله الشامل لكل شيء، وأخبار القرآن مقطوع بها. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود -بتصرف- ص: 39 الفرع الثاني: الأدلة العامة من السنة النبوية على وجوب الإيمان بالقدر دلت نصوص السنة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً، ولكن نعرض لبعضها، ... فمنها: 1 - حديث جبريل المشهور – برواياته المختلفة (¬4). 2 - حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)) (¬5) , فنفى الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر وأن ما يجري عليه إنما هو بقدر من الله لا يتغير أبداً, ونفي الإيمان عمن لم يؤمن بالقدر يدل على وجوبه. ¬

(¬1) ((فتح البيان في مقاصد القرآن)) تفسير صديق حسن خان (7/ 375). (¬2) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 287). (¬3) انظر: ((تفسير القرآن الجليل)) للنسفي (5/ 308)، و ((فتح البيان)) (10/ 190 - 191)، وانظر بالنسبة للقراءات وتوجيهها في الآية: ((حجة القراءات)) لأبي زرعة عبدالرحمن بن نجلة (ص: 743 - 744) تحقيق سعيد الأفعاني. (¬4) الحديث رواه مسلم (8)، ورواه أبو داود (4695)، والترمذي (2610)، وابن ماجه (63)، وأحمد (1/ 51) (367)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 528) (11721)، وابن خزيمة (4/ 127) (2504)، وابن حبان (1/ 389) (168)، والبيهقي (10/ 203) (20660). من حديث عمر رضي الله عنه. (¬5) رواه الترمذي (2144). وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن ميمون، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

3 - حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت, وبالبعث بعد الموت, ويؤمن بالقدر)) (¬1) فالمراد بالحديث نفي أصل الإيمان عن من لم يؤمن بهذه الأربع: شهادة أن لا إله إلا الله, وشهادة أن محمداً رسول الله، ويؤمن بالموت: أي فناء الدنيا، أو المراد: اعتقاد أن الموت يحصل بأمر الله لا بفساد المزاج كما يقول الطبائعيون، ويؤمن بالبعث بعد الموت, ويؤمن بالقدر, وأن كل ما يجري بقدر الله تعالى وقضائه, ونفي أصل الإيمان عمن لم يؤمن بهذه الأمور يدل على وجوب الإيمان بها. 4 - حديث طاوس قال: أدركت أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس, أو الكيس والعجز)) (¬2)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:48 - 49])) (¬3) وهذان الحديثان يدلان على التصريح بإثبات القدر وأنه عام في كل شيء، حتى أن العاجز قد قدر عجزه, والكيس قد قدر كيسه، فكل ذلك مقدر في الأزل, معلوم لله مراد له, وهذا يدل على وجوب الإيمان بالقدر. 5 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر, ولا عدل عادل, والإيمان بالأقدار)) (¬4) فإذا كان الإيمان بالأقدار من أصل الإيمان فيجب الإيمان به. 6 - وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من التكذيب بالقدر، وذلك في الحديث الذي رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة عاق, ولا مدمن خمر, ولا مكذب بقدر)) (¬5) ولا شك أن هذه الأمور المنفي دخول الجنة بسببها متفاوتة وأعظمها التكذيب بالقدر، فالتصديق بالقدر واجب وسبب لدخول الجنة. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - بتصرف- ص: 40 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2145)، وابن ماجه (81)، وأحمد (1/ 97) (758)، والحاكم (1/ 87). وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 100) كما قال ذلك في المقدمة، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (2/ 111)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه). (¬2) رواه مسلم (2655) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً. (¬3) رواه مسلم (2656) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه أبو داود (2532)، والبيهقي (9/ 156) (18261)، وسعيد بن منصور (2/ 176) (2367)، وأبو يعلى (7/ 287) (4311)، والديلمي (2/ 86) (2465). قال البيهقي في ((الاعتقاد)) (220): له شواهد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 83) كما قال في المقدمة. (¬5) رواه أحمد (6/ 441) (27524)، والبزار (10/ 45)، وابن أبى عاصم (1/ 141) (321)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (7/ 203). قال البزار: إسناده حسن، وقال الهيثمي: فيه سليمان بن عتبة الدمشقي وثقه أبو حاتم وغيره وضعفه ابن معين وغيره، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 320)، وحسنه الألباني في ((كتاب السنة)) (321)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1048).

المبحث الثاني: مراتب الإيمان بالقدر

تمهيد الإيمان بالقدر يقوم على أربعة مراتب، من أقرَّ بها جميعاً فإن إيمانه بالقدر يكون مكتملاً، ومن انتقص واحداً منها أو أكثر فقد اختل إيمانه بالقدر، وهذه المراتب هي: الأول: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط. الثاني: الإيمان بكتابة الله في اللوح المحفوظ لكل ما هو كائن إلى يوم القيامة. الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته التامة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. الرابع: خلقه تبارك وتعالى لكل موجود، لا شريك له في خلقه. وسنتناول هذه المراتب الأربعة بشيء من التفصيل. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص26

المطلب الأول: المرتبة الأولى، الإيمان بعلم الله الشامل

المطلب الأول: المرتبة الأولى، الإيمان بعلم الله الشامل وقد كثر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تقرير هذا الأصل العظيم، فعلم الله محيط بكل شيء، يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الموجود والمعدوم، والممكن والمستحيل. وهو عالم بالعباد وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم، ومن منهم من أهل الجنة، ومن منهم من أهل النار من قبل أن يخلقهم، ويخلق السماوات والأرض.

وكل ذلك مقتضى اتصافه – تبارك وتعالى – بالعلم، ومقتضى كونه – تبارك وتعالى – هو العليم الخبير السميع البصير. قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الحشر:22] وقال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. وقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا الساعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ: 3]. وقال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125]. وقال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32]. وقال الحق مقرراً علمه بما لم يكن لو كان كيف سيكون وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [الأنعام:28]، فالله يعلم أن هؤلاء المكذبين الذين يتمنون في يوم القيامة الرجعة إلى الدنيا أنهم لو عادوا إليها لرجعوا إلى تكذيبهم وضلالهم. وقال في الكفار الذين لا يطيقون سماع الهدى: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال:23]. ومن علمه تبارك وتعالى بما هو كائن علمه بما كان الأطفال الذين توفوا صغاراً عاملين لو أنهم كبروا قبل مماتهم. روى البخاري في (صحيحه) عن ابن عباس قال: ((سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين)) (¬1). وروى مسلم عن عائشة أم المؤمنين قالت: توفي صبي، فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولا تدرين أن الله خلق الجنة والنار، فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً)) (¬2). وفي رواية عند مسلم أيضاً عن عائشة قالت: ((دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)) (¬3). وهذه الأحاديث تتحدث عن علم الله في من مات صغيراً، لا أنّ هؤلاء يدخلهم الله النار بعلمه فيهم من غير أن يعملوا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم في أبناء المشركين: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) (أي يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم، ويبعث إليهم رسولاً في عرصة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار)) فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم، وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم). (¬4) ¬

(¬1) رواه البخاري (6597). (¬2) رواه مسلم (2662). (¬3) رواه مسلم (2662). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 246).

الأدلة العقلية على أن الله علم مقادير الخلائق قبل خلقهم: والحق أن وجود هذا الكون، ووجود كل مخلوق فيه يدل دلالة واضحة على أن الله علم به قبل خلقه، (فإنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل، لأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالإيجاد مستلزم للعلم). وأيضاً فإن (المخلوقات فيها من الأحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها، لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم). واستدل العلماء على علمه تبارك وتعالى بقياس الأولى: (فالمخلوقات فيها ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالماً). والاستدلال بهذا الدليل له صيغتان: أحدهما: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين: أحدهما عالم والآخر غير عالم، كان العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع. الثاني: كل علم في المخلوقات فهو من الله تبارك وتعالى، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه، بل هو أحق به، ذلك أن كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق أحق به، وكلَ نقص تنزه عنه مخلوق ما، فتنزه الخالق عنه أولى. وكل هذه الأدلة يمكنك أن تلمحها في قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. ويستدل على علمه – تبارك وتعالى – بإخباره بالأشياء والأحداث قبل وقوعها وحدوثها، فقد أخبر الحق في كتبه السابقة عن بعثة رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وصفاته وأخلاقه وعلاماته، كما أخبر عن الكثير من صفات أمته، وأخبر في محكم كتابه أن الروم سينتصرون في بضع سنين على الفُرس المجوس، ووقع الأمر كما أخبر، والإخبار عن المغيبات المستقبلة كثير في الكتاب والسنة. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص26

المطلب الثاني: المرتبة الثانية، الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء

المطلب الثاني: المرتبة الثانية، الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء • الفرع الأول: مرتبة الكتابة. • الفرع الثاني: أدلة مرتبة الكتابة.

الفرع الأول: مرتبة الكتابة

الفرع الأول: مرتبة الكتابة دلت النصوص من الكتاب والسنة على أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في (صحيحه) عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء)) (¬1). ورواه الترمذي بلفظ: ((قدرَّ الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) (¬2). وفي (سنن الترمذي) أيضاً عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان، وما هو كائن إلى الأبد)) (¬3). واللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير الخلائق سماه القرآن بالكتاب، وبالكتاب المبين، وبالإمام المبين وبأم الكتاب، والكتاب المسطور. قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [البروج: 21 - 22]. وقال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70] وقال: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12]. وقال: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ [الطور: 1 - 3]. وقال: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:4] الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص30 ¬

(¬1) رواه مسلم (2653). (¬2) رواه الترمذي (2156) , وأحمد (2/ 169) (6579). قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب, وصححه الزرقاني في ((مختصر المقاصد)) (706) , والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه الترمذي (2155). وقال: وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

الفرع الثاني: أدلة مرتبة الكتابة

الفرع الثاني: أدلة مرتبة الكتابة وهي أن الله تعالى كتب مقادير المخلوقات، والمقصود بهذه الكتابة، الكتابة في اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه الله من شيء، فكل ما جرى ويجري فهو مكتوب عند الله، وأدلة هذه المرتبة كثيرة نذكر منها: أ- الأدلة من القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [الأنعام: 38] على أحد الوجهين, وهو أن المقصود بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، فالله أثبت فيه جميع الحوادث (¬1) , فكل ما يجري مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ. 2 - وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] (فأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة) (¬2) والآية دالة على مرتبة الكتابة عند من فسر الزبور بالكتب بعد الذكر, والذكر أم الكتاب عند الله وهو اللوح المحفوظ (¬3). 3 - وقال تعالى في قصة أسرى بدر: لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68] أي: لولا كتاب سبق به القضاء والقدر عند الله أنه قد أحل لكم الغنائم, وأن الله رفع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم العذاب, لمسكم العذاب (¬4) فالآية دليل على الكتاب السابق. 4 - وقال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70] وهذه الآية من أوضح الأدلة الدالة على علمه المحيط بكل شيء, وأنه علم الكائنات كلها قبل وجودها, وكتب الله ذلك في كتابه اللوح المحفوظ (¬5) فالآية جمعت بن المرتبتين. 5 - وقال تعالى: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [النمل:75]. أي: خفية, أو سر من أسرار العالم العلوي والسفلي إلا في كتاب مبين قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة, فما من حادث جلي أو خفي إلا وهو مطابق لما كتب في اللوح المحفوظ (¬6) , فالآية دليل على الكتابة السابقة لكل ما سيقع. 6 - وقال تعالى في آية جمعت بين مرتبتي العلم والكتابة: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس: 61] فما يعزب عن ربك، أي: ما يغيب عن علمه, وبصره, وسمعه ومشاهدته أي شيء حتى مثاقيل الذر، بل ما هو أصغر منها، وهذه مرتبة العلم, وقوله: إِلاَّ فِي كِتَابٍ مرتبة الكتابة، وكثيراً ما يقرن الله سبحانه وتعالى بين هاتين المرتبتين (¬7). هذه بعض أدلة مرتبة الكتابة من القرآن، وننتقل إلى بيان بعض أدلتها من السنة. ب- الأدلة من السنة: ¬

(¬1) انظر: ((فتح البيان في مقاصد القرآن)) (3/ 157). وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 248). والوجه الثاني: أن المقصود بالكتاب القرآن، انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 40). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (5/ 379). (¬3) انظر: ((تفسير النسفي)) (3/ 257)، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 378). (¬4) انظر: ((تفسير ابن سعدي)) (3/ 191) تحقيق: محمد زهري النجار. (¬5) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 448)، وانظر أيضاً: ((تفسير النسفي)) (3/ 389). (¬6) انظر: ((تفسير ابن سعدي)) (5/ 598). (¬7) انظر: ((تفسير ابن سعدي)) (3/ 366).

1 - من أوضح أدلة هذه المرتبة ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء)) (¬1) فالدليل من الحديث قوله: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض)). 2 - وفي الحديث الطويل الذي رواه علي رضي الله عنه بيان أن كل نفس قد كتب مكانها من الجنة والنار, وقد كتبت شقية أو سعيدة ونصه: قال: ((كنا في جنازة في بقيع الغرقد، ومعه مخصرة فنكس, فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد, ما من نفس منفوسة إلا وكتب الله مكانها من الجنة والنار, وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة قال: فقال رجل: يا رسول الله, أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة, ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير عمل أهل الشقاوة, فقال: اعملوا فكل ميسر, أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة, وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5 - 10])) (¬2) وهذا دليل واضح على الكتابة السابقة ومنها كتابة أهل الجنة وأهل النار. 3 - وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين أن ما مضت به المقادير، وسبق علم الله به، قد تمت كتابته في اللوح المحفوظ، وجف القلم الذي كتب به، وامتنعت فيه الزيادة والنقصان، فعن جابر رضي الله عنه قال: ((جاء سراقة بن مالك بن جعشم -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله, بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام, وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام, وجرت به المقادير, قال: ففيم العمل؟ قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه, فسألت ما قال؟ فقال: اعملوا فكل ميسر)) (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم (2653). (¬2) رواه البخاري (1362)، ومسلم (2647). (¬3) رواه مسلم (2648).

4 - ومن الأحاديث المشهورة حديث: أول ما خلق الله القلم، وفيه أن الله أمره بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، فعن أبي حفصة قال: ((قال عبادة بن الصامت لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال: رب وماذا أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني)) (¬1) , وفي رواية أخرى عن عبدالواحد بن سليم قال: ((قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح، فقلت له: يا أبا محمد: إن أهل البصرة يقولون في القدر, قال: يا بني أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم, قال: فاقرأ الزخرف. قال: فقرأت: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ فقال: أتدري ما أم الكتاب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه كتاب كتبه الله قبل أن يخلق السموات, وقبل أن يخلق الأرض, فيه أن فرعون من أهل النار, وفيه تبت يد أبي لهب وتب، قال عطاء: فلقيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول صلى الله عليه وسلم فسألته: ما كانت وصية أبيك عند الموت؟ قال: دعاني أبي فقال لي: يا بني, اتق الله, واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله, وتؤمن بالقدر خيره وشره، فإن مت على غير هذا دخلت النار. وإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب. فقال: ما أكتب؟ قال اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد)) (¬2) فقوله للقلم بعد خلقه: ((اكتب مقادير كل شيء)) , جمع مقدار وهو الشيء الذي يعرف به قدر الشيء, وكميته, كالمكيال والميزان, وقد يستعمل بمعنى القدر نفسه وهو الكمية والكيفية, وفي الرواية الأخرى: ((اكتب القدر)) , والمقصود بأم الكتاب في الآية التي استشهد بها عطاء: اللوح المحفوظ, فالروايتان فيهما دليل على مرتبة الكتابة, حيث أمر الله القلم بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4700)، وابن أبي عاصم (102)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (1/ 58) (59)، والبيهقي (10/ 204) (20664)، والضياء (8/ 274) (336). والحديث سكت عنه أبو داود، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود))، وحسنه ابن عثيمين في ((مجموع الفتاوى)) (4/ 205). (¬2) رواه الترمذي (2155)، والطيالسي (ص: 79)، والضياء (8/ 351) (429). قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 95) كما قال ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

5 - وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا, فقال: للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة, وأسماء آبائهم, وقبائلهم, ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم, ولا ينقص منهم أبداً, ثم قال للذي في شماله: وهذا كتاب من رب العالمين, فيه أسماء أهل النار, وأسماء آبائهم, وقبائلهم, ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ... الحديث)) (¬1)، فقوله: ((وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟)). الظاهر من الإشارة أنهما حسيان, وقيل: تمثيل واستحضار للمعنى الدقيق الخفي في مشاهدة السامع حتى كأنه ينظر إليه رأي العين ... ولا يستبعد إجراؤه على الحقيقة، فإن الله قادر على كل شيء, والدليل من الحديث قوله: هذا كتاب من رب العالمين لكل من أهل الجنة وأهل النار, مكتوبة فيه أسماؤهم وقبائلهم، ففي ذلك إثبات الكتابة لما قضاه الله وقدره وعلمه. وبعد الكلام على أدلة هاتين المرتبتين: مرتبة العلم، ومرتبة الكتابة، يحسن أن نذكر هنا أنه يتعلق بهاتين المرتبتين عدة تقادير وهي بإيجاز: أ- التقدير الأول: كتابة ذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة عندما خلق الله القلم. ودليل هذا التقدير الحديث الأول من أدلة مرتبة الكتابة والذي تقدم قبل قليل، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: ((جف القلم بما أنت لاق)) (¬2). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2141)، وأحمد (2/ 167) (6563)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 452) (11473)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 168). قال الترمذي: حسن غريب صحيح، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 12): [رواته] كلهم عدول، وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 171): روي هذا الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم- من وجوه متعددة. (¬2) رواه البخاري (5076).

ب- التقدير حين أخذ الميثاق على بني آدم وهم على ظهر أبيهم آدم، ودليله حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سئل عن هذه الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى [الأعراف: 172] الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: ((إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريته، قال: خلقت هؤلاء للجنة, وبعمل أهل الجنة يعملون, فقال رجل: يا رسول الله, ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار)) (¬1) وهناك روايات أخرى ذكرها ابن كثير, والسيوطي وليس هذا موضع مناقشة مسألة الميثاق والخلاف فيه، وإنما المقصود هنا أن من رجح أن المقصود بالآية الفطرة قالوا: إن الروايات الواردة في ذلك ترجع إلى القدر السابق. ج- التقدير العمري عند أول تخليق النطفة، وهذا دليله حديث عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: بكتب رزقه, وأجله, وعمله, وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) (¬2) د- التقدير الحولي في ليلة القدر، ودليله قوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] أي: (يقضى فيها أمر السنة كلها من معايش الناس ومصائبهم، وموتهم وحياتهم، إلى مثلها من السنة الأخرى). هـ - التقدير اليومي، ودليله قوله - تعالى -: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] قال صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: ((من شأنه أن يغفر ذنباً, ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويخفض آخرين)) (¬3) القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص: 45 - 51 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4703)، والترمذي (3075)، وأحمد (1/ 44) (311)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 347) (11190)، وابن حبان (14/ 37) (6166)، والحاكم (1/ 80). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر وذكر بعضهم بينهما رجلاً مجهولاً، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وقال ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (2/ 6): منقطع بهذا الإسناد ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 97) كما قال في المقدمة. (¬2) رواه مسلم (2643). (¬3) رواه ابن ماجه (168)، والبزار (1/ 39)، وابن حبان (2/ 464) (689)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 278) (3140). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وحسن إسناده البزار والبوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 29)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

المطلب الثالث: المرتبة الثالثة، الإيمان بمشيئة الله الشاملة وقدرته النافذة

المطلب الثالث: المرتبة الثالثة، الإيمان بمشيئة الله الشاملة وقدرته النافذة • الفرع الأول: مرتبة المشيئة. • الفرع الثاني: أدلة مرتبة المشيئة.

الفرع الأول: مرتبة المشيئة

الفرع الأول: مرتبة المشيئة وهذا الأصل يقضي بالإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة ولا سكون في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئته، فلا يكون في ملكه إلا ما يريد. والنصوص المصرحة بهذا الأصل المقررة له كثيرة وافرة، قال تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29]، وقال: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ [الأنعام: 111]، وقال: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، وقال: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 36]، وقال: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الأنعام: 39]. ومشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة يجتمعان فيما كان وما سيكون، ويفترقان فيما لم يكن ولا هو كائن. فما شاء الله تعالى كونه فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ الله تعالى إياه لا يكن لعدم مشيئة الله تعالى ليس لعدم قدرته عليه، قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة: 253]، وقال: وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المائدة:48]، وقال: وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام: 35]، وقال: وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ [الأنعام: 107]، وقال: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، وقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا [الفرقان: 45]، والآيات في هذا كثيرة تدل على عدم وجود ما لم يشأ وجوده لعدم مشيئته ذلك، لا لعدم قدرته عليه، فإنه على كل شيء قدير تبارك وتعالى. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص32

الفرع الثاني: أدلة مرتبة المشيئة

الفرع الثاني: أدلة مرتبة المشيئة أي: أن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله سبحانه وتعالى فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يخرج عن إرادته شيء، وقد وردت أدلة كثيرة جداً لهذه المرتبة من الكتاب والسنة: فمن أدلتها من الكتاب: 1 - قوله تعالى في معرض الحديث عن أهل الكتاب ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتبع أهواءهم وأمره أن يلتزم الحكم بما أنزل الله مبيناً أن لكل من الأمم الثلاث: اليهود والنصارى وأمة محمد، شريعة ومنهاجاً في كل من التوراة والإنجيل والقرآن (وقد نسخ القرآن ما قبله) وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [المائدة:48] أي: لجعلكم على شريعة واحدة، وكتاب واحد، ورسول واحد، لكن لما لم يشأ الله ذلك بل شاء الابتلاء والاختبار فكنتم على الحالة التي أنتم عليها (¬1) فمشيئة الله مطلقة والنافذ هو ما يشاؤه سبحانه وتعالى فهذا دليل على مرتبة المشيئة. 2 - وقد ورد في القرآن الكريم - في الحديث عن بعض الأنبياء وغيرهم - تعليقهم كل أمر بمشيئة الله سبحانه وتعالى, فنوح عليه الصلاة والسلام لما قال له قومه: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف:70] , قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [هود: 33]. وشعيب عليه السلام بعد ما طلب منه قومه أن يعود إلى ملتهم بيَّن أنه لا يمكن له أن يعود إلى ملتهم بعد أن نجاه الله منها هو والمؤمنون معه, ولا ينبغي لهم ذلك إلا إذا شاء الله ذلك فقال: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [الأعراف: 89] , فعلق أعظم شيء وهو الإيمان والكفر على مشيئة الله. ويوسف عليه السلام قال لأهله بعد أن التقى بهم: ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ [يوسف:99]. وقال موسى عليه السلام للخضر: قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69] , والله سبحانه وتعالى وجه نبيه قائلاً: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23 - 24] , فهذه الآيات تدل على استقرار عقيدة المسلمين ويقينهم بهذه المرتبة من مراتب القدر. 3 - وفي القرآن آيات كثيرة تدل على أن حوادث الدنيا إنما تجري وفق مشيئته سبحانه وتعالى, فهو الذي يؤتي الملك من يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, وهو الذي يعز من يشاء, ويذل من يشاء, فتدول الدول, ويعز الذليل, ويذل العزيز كل ذلك بمشيئة الله قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] , وهو الذي يصور الخلق في الأرحام كيف يشاء ذكوراً, وإناثاً, أشقياء, وسعداء, مختلفين في صفاتهم وأشكالهم حسناً وقبحاً, قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6] ¬

(¬1) انظر: ((روح البيان في مقاصد القرآن)) لصديق حسن خان (3/ 44).

4 - وفي إثبات أن الله مريد لكل ما يخلقه جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم، فحين يبين سبحانه أن الذين شقوا في النار, وأنهم خالدون في النار مادامت السموات والأرض, يعقب على ذلك بقوله: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [هود:107] فلا يرده أحد عن مراده سبحانه, وبعد أن بين - تعالى - أنه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار, عقب على ذلك بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ , وفي آية أخرى يبين الله تعالى أنه هو الذي يريد الهداية والإضلال قال تعالى: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [الأنعام:125]. أدلة هذه المرتبة من السنة: عقد البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب التوحيد باباً عرض فيه لبعض النصوص الواردة في أثبات المشيئة والإرادة، فقال: (باب في المشيئة والإرادة) , ثم أورد بعض الآيات والأحاديث الواردة, ونحن نذكر شيئاً منها مما أورده البخاري وغيره: 1 - فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: ((اشفعوا تؤجروا, ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء)) (¬1) , فأوصى بالشفاعة وذلك فيما ليس بمحرم, وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه، ثم بين أن الله يقضي على لسان رسوله ما شاء أي: يظهر على لسان رسوله بالوحي أو الإلهام ما قدره في علمه بأنه سيقع, فهذا يدل على مرتبة المشيئة. 2 - وقد ((أقر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أجابه بعد سؤاله له هو وفاطمة بقوله: ألا تصليان؟ فأجابه بقوله: أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. قال علي: فانصرف حيث قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً, ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه وهو يقول: وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54])) (¬2)؛ ففي هذا الحديث إثبات المشيئة لله تعالى وأن العبد لا يفعل شيئاً إلا بإرادة الله, أما انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وضربه فخذه واستشهاده بالآية، فمعناه: أنه تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا، ولهذا ضرب فخذه وقيل: قال تسليماً لعذرهما, وأنه لا عتب عليهما, وقيل غير ذلك (¬3). 3 - وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) (¬4) والشاهد قوله: ((كقلب واحد يصرفه حيث يشاء))؛ فمعناه أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده كلهم, فيهدي ويضل كما يشاء, ففيه دلالة على مرتبة المشيئة, والحديث من أحاديث الصفات الثابتة والتي يجب الإيمان بها وبما دلت عليه من الصفات من غير تأويل أو تعطيل, وقد أخطأ النووي رحمه الله حيث ذكر في معنى الحديث قولين باطلين: أحدهما: أنه من أحاديث الصفات وينبغي الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة, بل يؤمن بأنها حق, وأن ظاهرها غير مراد, والثاني: أن يتأول بحسب ما يليق بها, فعلى هذا المراد المجاز, وكلا القولين خطأ, إذ ذهب أهل السنة إلى إثباتها كما جاءت, والإيمان بها وبما دلت عليه على ما يليق بجلال الله وعظمته. ¬

(¬1) رواه البخاري (1432). (¬2) رواه البخاري (1127). من حديث علي رضي الله عنه. (¬3) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 11). (¬4) رواه مسلم (2654).

4 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت, ارحمني إن شئت, ارزقني إن شئت, وليعزم مسألته إنه يفعل ما يشاء لا مكره له)) (¬1) , ففيه إثبات المشيئة لله تعالى فهو الغفور الرحيم, والرزاق إذا شاء, وهو سبحانه يفعل ما يشاء لا مكره له, والحديث فيه الحث على العزم في المسألة والجزم فيها، دون ضعف أو تعليق على المشيئة, وإنما نهى عن التعليق على المشيئة لأنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه, والله سبحانه وتعالى لا مكره له كما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هنا (¬2). 5 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما ((أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني والله عدلاً، بل ما شاء الله وحده)) (¬3) والحديث واضح الدلالة على إثبات مرتبة المشيئة, وأن الله تعالى له المشيئة المطلقة, وأن للعباد مشيئة خاضعة لمشيئة الله تعالى, والنهي في الحديث إنما هو عن قرن مشيئة الله بمشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم, حيث عطفها بالواو التي هي لمطلق الجمع من غير ترتيب ولا تعقيب، والرسول مثل غيره من العباد، فالكل خاضعون لمشيئة الله، ومشيئتهم تابعة لمشيئة الله. 6 - ومن الأحاديث الدالة على الإرادة والمشيئة: الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) (¬4) فقوله: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) فيه إثبات مرتبة الإرادة، وأن الأمور كلها تجري بمشيئة الله تعالى ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((وإنما أنا قاسم والله معطي)) أي: إنما أنا أقسم ما أمرني الله بقسمته، والمعطي حقيقة هو الله تعالى, فالأمور كلها بتقدير الله تعالى والإنسان مصرف مربوب, ومن الأحاديث الدالة على الإرادة حديث حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن ملكاً موكلاً بالرحم, إذا أراد الله أن يخلق شيئاً بإذن الله لبضع وأربعين ليلة .. )) الحديث (¬5) فالله هو المريد لخلق الآدمي، والأحاديث الدالة على مرتبة المشيئة والإرادة كثيرة جداً. (¬6) القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص: 57 ¬

(¬1) رواه البخاري (7477). (¬2) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (17/ 6، 7)، وانظر أيضا: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 140). (¬3) رواه أحمد (1/ 214) (1839)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 245) (10825)، والبيهقي (3/ 217) (5603)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (8/ 104). والحديث حسن إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 200)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 253). (¬4) رواه البخاري (71)، ومسلم (1037). (¬5) رواه مسلم (2645). (¬6) انظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 44، 47).

المطلب الرابع: المرتبة الرابعة، الإيمان بأن الله خالق كل شيء

الفرع الأول: مرتبة الخلق قررت النصوص أن الله خالق كل شيء، فهو الذي خلق الخلق وكوَّنهم وأوجدهم، فهو الخالق وما سواه مربوب مخلوق اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62]، بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ [يسن:81]، الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، يَا أَيُّهَا الناسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء [النساء: 1]، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33]، والنصوص في هذا كثيرة طيبة. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص33

الفرع الثاني: أدلة مرتبة الخلق

الفرع الثاني: أدلة مرتبة الخلق أي: أن الله تعالى خالق كل شيء, ومن ذلك أفعال العباد، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وهو خالقه ... أدلة هذه المرتبة من القرآن الكريم: 1 - قال تعالى في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام حيث كسر أصنامهم ثم جاء إليه قومه يناقشونه مسرعين فقال لهم كما حكى الله عنه: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:95 - 96]، أي خلقكم وعملكم فتكون (ما) مصدرية، وقيل: إنها بمعنى الذي، فيكون المعنى: والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيدكم وهو الأصنام (¬1) وقد ذكر ابن كثير القولين ثم قال: (وكلا القولين متلازم، والأول أظهر) (¬2) وقد علل ذلك بما يؤيده من رواية البخاري في أفعال العباد عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يصنع كل صانع وصنعته)) (¬3) , وتلا بعضهم عند ذلك وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] , فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة فالله تعالى خالق الخلق وأفعالهم كما دلت على ذلك الآية والحديث. 2 - وقد وردت آيات كثيرة تدل دلالة واضحة على أن كل شيء مما في هذا الكون مخلوق لله سبحانه وتعالى, وقد وردت هذه الآيات بلفظ العموم فقال تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] , وفي آية أخرى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر:62] , وهذه نصوص واضحة في الدلالة على مرتبة الخلق، وقد جاءت الآية الأولى في معرض إنكار أن يكون للشركاء خلق كخلقه، سبحانه وتعالى فنفى ذلك سبحانه آمراً رسوله أن يقرر هذه الحقيقة التي تفصل في الأمر وتدل على وحدانية الله تعالى وانفراده بالخلق والرزق: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وفي موضع آخر جاءت هذه الآية لبيان قدرة الله تعالى وكماله ودلائل وحدانيته: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62] , أما الآية الثانية فقد جاءت أيضاً لبيان قدرة الله التامة حيث جعل لعبادة الليل والنهار ثم بين سبحانه أنه خالق كل شيء. 3 - وقال تعالى ممتناً على الصحابة رضوان الله عليهم بعد أن أمرهم بالتثبت في خبر الفاسق. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7] , والشاهد قوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ .. وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ... فهو سبحانه هو الذي جعل الإيمان محبوباً أو أحب الأشياء إليكم، وهو الذي حسنه بتوفيقه وقربه منكم، وهو الذي جعل ما يضاد الإيمان من الكفر والفسوق والعصيان مكروها عندكم، وذلك بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر وعدم إرادة فعله، فالفاعل في كل ذلك هو الله تعالى (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((زاد المسير في علم التفسير)) لابن الجوزي (7/ 70). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 22). (¬3) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (102). وصححه ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 507)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1636) وقال: على شرط مسلم. (¬4) انظر: ((فتح البيان في مقاصد القرآن)) لصديق خان (9/ 74)، وانظر: ((تفسير ابن السعدي)) (7/ 131)، وانظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 57).

وهناك آيات أخرى كثيرة تدل على أن الله تعالى هو المضل، والهادي, والمؤيد لعباده المؤمنين، والهازم لأعدائهم، وأنه المضحك, والمبكي, والمميت, والمحيي, وكل ذلك دليل على مرتبة الخلق، وقد أورد ابن كثير عند تفسيره لآية الحجرات السابقة، حديثاً يدل على هذه المرتبة عن ابن رفاعة الزرقي قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً، فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت, ولا هادي لما أضللت, ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما بعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك, ورحمتك, وفضلك, ورزقك، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول, اللهم إني أسالك النعيم يوم العيلة, والأمن يوم الخوف, اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا, وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين, وأحينا مسلمين, وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين, اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك, ويصدون عن سبيلك, واجعل عليهم رجزك وعذابك, اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق)) (¬1) فترى في هذا الحديث بأن الله تعالى هو الفاعل لهذه الأمور، وهذا دليل على مرتبة الخلق. أدلة هذه المرتبة من السنة: 1 - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول: ((اللهم أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل, والهرم وعذاب, القبر اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ... )) الحديث (¬2) والشاهد قوله: ((اللهم آت نفسي تقواها وزكها ... ))، فالفاعل هو الله تعالى, فهو الذي يطلب منه ذلك ولفظ ((خير)) ليس للتفضيل بل لا مزكي للنفس إلا الله، ولهذا قال بعد ذلك: أنت وليها ومولاها (¬3). فهو سبحانه الملهم للنفس الخير والشر، قال تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8] , قال سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8] , أي: فالخلق والإنسان قادر على سلوك أيهما شاء ومخير فيه، وقال ابن زيد في معنى الآية: (جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى) (¬4). 2 - وعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى عليّ المغيرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: خلف الصلاة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) (¬5). والشاهد قوله: ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 424) (15531)، والبزار (9/ 175)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (538). وقال: [فيه] عبد الواحد بن أيمن مشهور ليس به بأس في الحديث، روى عنه أهل العلم، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 124): رجاله رجال الصحيح، وصححه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/ 163) والألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (538). (¬2) رواه مسلم (2722). (¬3) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (17/ 41). (¬4) ((الكشف والبيان)) للثعلبي (10/ 213)، و ((زاد المسير)) (9/ 140)، و ((تفسير البغوي)) (8/ 438). (¬5) رواه البخاري (844)، ومسلم (593).

((اللهم لا مانع لما أعطيت, ولا معطي لما منعت)) , فالمعطي والمانع هو الله تعالى فهو الفاعل لهما، وهذا يدل على أن الخالق هو الله سبحانه وتعالى وقوله: ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، أو لا ينجيه حظه منك, بل ينفعه عمله الصالح. 3 - وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ((يا عبدالله بن قيس، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت بلى يا رسول الله، قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬1) والشاهد قوله: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) , ففيها الاعتراف بأنه لا صانع غير الله، ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك من أمره شيئاً، فمعناها: لا حركة, ولا استطاعة, ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى (¬2) وقيل: معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: ((لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعة الله إلا بمعونته)) (¬3)، وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه, وكله متقارب, والكنز هنا: معناه ثواب مدخر في الجنة عند الله وهو ثواب نفيس (¬4). 4 - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب، وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا صمنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا المشركون قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا (¬5). وفي رواية أخرى للبخاري: ((ولا تصدقنا ولا صلينا)) (¬6) بدل: ((ولا صمنا ولا صلينا)) وبهذه الرواية يستقيم الوزن، قال ابن حجر: (وهو المحفوظ) (¬7) , ودليل هذه المرتبة قوله: ((لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا))، فإنها دليل على أن الله هو خالق العباد وأفعالهم, ومنها الهداية، والصدقة، والصلاة. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود بتصرف - ص: 57 - 61 ¬

(¬1) رواه البخاري (4025) بلفظ: ((ألا أدلك على كلمة)) بدلاً من ((ألا أدلك على كنز))، ومسلم (2704). (¬2) انظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (5/ 243)، ((لسان العرب)) (11/ 184) مادة: (حول). (¬3) رواه البزار (5/ 374)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 446) (664)، والديلمي (5/ 375) (8478). بلفظ: ((إلا بعون الله)) بدلاً من ((إلا بمعونته)). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 102): رواه البزار بإسنادين أحدهما: منقطع وفيه عبد الله بن خراش، والغالب عليه الضعف، والآخر: متصل حسن، وقال الحسيني في ((البيان والتعريف)) (2/ 289): سنده لا بأس به. (¬4) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (17/ 26 - 27)، وانظر: ((عمدة القاري)) للعيني (23/ 154). (¬5) رواه البخاري (6620). (¬6) رواه البخاري (7236)، ومسلم (1803). (¬7) ((فتح الباري)) (11/ 516).

الباب الثاني: قواعد في باب القضاء والقدر، وحدود نظر العقل في القدر

المبحث الأول: أفعال الله كلها عدل ورحمة وحكمة وقد نزه نفسه في غير موضع من القرآن أن يظلم أحدا من خلقه فلا يؤتيه أجره أو يحمل عليه ذنب غيره فقال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [سورة طه: 112] وقال تعالى: قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 28 - 29]:، وقال تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّما جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [سورة هود:101] وفي الحديث الصحيح الإلهي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)) (¬1) ذلك أمر محمود منه ولا يقول أحد إن الظالم معذور لأجل القدر فرب العالمين إذا أنصف بعض عباده من بعض وأخذ للمظلومين حقهم من الظالمين كيف يكون ذلك ظلما منه لأجل القدر وكذلك الواحد من العباد إذا وضع كل شيء موضعه فجعل الطيب مع الطيب في المكان المناسب له وجعل الخبيث مع الخبيث في المكان المناسب له كان ذلك عدلا منه وحكمة فرب العالمين إذا وضع كل شيء موضعه لم يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ولم يجعل المتقين كالفجار ولا المسلمين كالمجرمين والجنة طيبة لا يصلح أن يدخلها إلا طيب ولهذا لا يدخلها أحد إلا بعد القصاص الذي ينظفهم من الخبث كما ثبت في (الصحيح) عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أن المؤمنين إذا عبروا الجسر وهو الصراط المنصوب على متن جهنم فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة)) (¬2) ¬

(¬1) رواه مسلم (2577). (¬2) رواه البخاري (6535) بلفظٍ مقاربٍ ..

وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن ما يقوله القدرية من الظلم والعدل الذي يقيسون به الرب على عباده من بدعهم التي ضلوا بها وخالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وكذلك من قابلهم فنفى حكمة الرب الثابتة في خلقه وأمره وما كتبه على نفسه من الرحمة وما حرمه على نفسه من الظلم وما جعله للمخلوقات والمشروعات من الأسباب التي شهد بها النص مع العقل والحس واتفق عليها سلف الأمة وأئمة الدين كقوله تعالى: وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن ماء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:164] وقوله تعالى: فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ (57) [الأعراف:57] ونحو ذلك فإن هذه الأقاويل أصلها مأخوذ من الجهم بن صفوان إمام غلاة المجبرة وكان ينكر رحمة الرب ويخرج إلى الجذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا يريد بذلك أنه ما ثم إلا إرادة رجح بها أحد المتماثلين بلا مرجح لا لحكمة ولا رحمة ولهذا كان الذين وافقوه على قوله من المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة يتناقضون لأنهم إذا خاضوا في الشرع احتاجوا أن يسلكوا مسالك أئمة الدين في إثبات محاسن الشريعة وما فيها من الأمر بمصالح العباد وما ينفعهم من النهي عن مفاسدهم وما يضرهم وأن الرسول الذي بعث بها بعث رحمة كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقد وصفه الله تعالى بقوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ [الأعراف:156 - 157] ولو كان المعروف لا معنى له إلا المأمور به والمنكر لا معنى له إلا ما حرم لكان هذا كقول القائل يأمرهم بما يأمرهم عما ينهاهم ويحل لهم ما أحل لهم ويحرم عليهم ما حرم عليهم وهذا كلام لا فائدة فيه فضلا عن أن يكون فيه تفضيل له على غيره)) مجموع الفتاوى لابن تيمية -17/ 175 والظلم ممتنع منه باتفاق المسلمين، لكن تنازعوا في الظلم الذي لا يقع. فقيل هو الممتنع وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلماً، لأن الظلم إما التصرف في ملك الغير، وإما مخالفة الأمر الذي يجب عليه طاعته، وكلاهما ممتنع منه. وقيل: بل ما كان ظلماً من العباد فهو ظلم منه. وقيل: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فهو سبحانه لا يظلم الناس شيئاً، قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112]. قال المفسرون: هو أن يحمل عليه سيئات غيره ويعاقب بغير ذنبه، والهضم أن يهضم من حسناته. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [هود:102]. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- ص108

المبحث الثاني: تقسيم القدر إلى خير وشر وبيان عدم جواز نسبة الشر على الله

المبحث الثاني: تقسيم القدر إلى خير وشر وبيان عدم جواز نسبة الشر على الله قال ابن القيم رحمه الله: معنى قول السلف من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره ... أن القدر لا شر فيه بوجه من الوجوه فإنه علم الله وقدرته وكتابه ومشيئته وذلك خير محض وكمال من كل وجه فالشر ليس إلى الرب تعالى بوجه من الوجوه لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله وإنما يدخل الشر الجزئي الإضافي في المقضي المقدر ويكون شرا بالنسبة إلى محل وخيرا بالنسبة إلى محل آخر وقد يكون خيرا بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه كما هو شر له من وجه بل هذا هو الغالب. وهذا كالقصاص وإقامة الحدود وقتل الكفار فإنه شر بالنسبة إليهم لا من كل وجه بل من وجه دون وجه وخير بالنسبة إلى غيرهم لما فيه من مصلحة الزجر والنكال ودفع الناس بعضهم ببعض وكذلك الآلام والأمراض وإن كانت شرورا من وجه فهي خيرات من وجوه عديدة ... فالخير والشر من جنس اللذة والألم والنفع والضرر وذلك في المقضي المقدر لا في نفس صفة الرب وفعله القائم به فإن قطع يد السارق شر مؤلم ضار له وأما قضاء الرب ذلك وتقديره عليه فعدل خير وحكمة ومصلحة ... فإن قيل فما الفرق بين كون القدر خيرا شرا وكونه حلوا ومرا قيل الحلاوة والمرارة تعود إلى مباشرة الأسباب في العاجل والخير والشر يرجع إلى حسن العاقبة وسوءها فهو حلو ومر في مبدأه وأوله وخير وشر في منتهاه وعاقبته وقد أجرى الله سبحانه سنته وعادته أن حلاوة الأسباب في العاجل تعقب المرارة في الآجل ومرارتها تعقب الحلاوة فحلو الدنيا مر الآخرة ومر الدنيا حلو الآخرة وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل اللذات تثمر الآلام والآلام تثمر اللذات والقضاء والقدر منتظم لذلك انتظاما لا يخرج عنه شيء البتة والشر مرجعه إلى الآلام وأسبابها، والخير مرجعه إلى اللذات وأسبابها والخير المطلوب هو اللذات الدائمة والشر المرهوب هو الآلام الدائمة فأسباب هذه الشرور وإن اشتملت على لذة ما وأسباب تلك الخيرات وإن اشتملت على ألم ما، فألم تعقبه اللذة الدائمة أولى بالإيثار والتحمل من لذة يعقبها الألم الدائم، فلذة ساعة في جنب ألم طويل كلا لذة وألم ساعة في جنب لذة طويلة كلا ألم. في امتناع إطلاق القول نفيا وإثباتا أن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له هذا موضع خلاف اختلف فيه مثبتوا القدر ونفاته فقال النفاة لا يجوز أن يقال أن الله سبحانه مريد للشر أو فاعل له قالوا لا يريد الشر وفاعله شرير هذا هو المعروف لغة وعقلا وشرعا كما أن الظالم فاعل الظلم والفاجر فاعل الفجور ومريده والرب يتعالى ويتنزه عن ثبوت معاني أسماء السوء له فإن أسمائه كلها حسنى وأفعاله كلها خير فيستحيل أن يريد الشر فالشر ليس بإرادته ولا بفعله قالوا وقد قام الدليل على أن فعله سبحانه غير مفعوله والشر ليس بفعل له فلا يكون مفعولا له وقابلهم الجبرية فقالوا بل الرب سبحانه يريد الشر ويفعله قالوا لأن الشر موجود فلا بد له من خالق ولا خالق إلا الله وهو سبحانه إنما يخلق بإرادته فكل مخلوق فهو مراد له وهو فعله ووافقوا إخوانهم على أن الفعل عين المفعول والخلق نفس المخلوق ثم قالوا والشر مخلوق له ومفعول فهو فعله وخلقه وواقع بإرادته قالوا وإنما لم يطلق القول أنه يريد الشر ويفعل الشر أدبا لفظيا فقط كما لا يطلق القول بأنه رب الكلاب والخنازير ويطلق القول بأنه رب كل شيء وخالقه قالوا وأما قولكم أن الشرير مريد الشر وفاعله فجوابه من وجهين: أحدهما: إنما يمنع ذلك بأن الشرير من قام به الشر وفعل الشر لم يقم بذات الرب فإن أفعاله.

لا تقوم به إذ هي نفس مفعولاته وإنما هي قائمة بالخلق وكذلك اشتقت لهم منها الأسماء كالفاجر والفاسق والمصلي والحاج والصائم ونحوها الجواب الثاني: أن أسماء الله تعالى توقيفية ولم يسم نفسه إلا بأحسن الأسماء قالوا والرب تعالى أعظم من أن يكون في ملكه مالا يريده ولا يخلقه فإنه الغالب غير المغلوب.

وتحقيق القول في ذلك أنه يمتنع اطلاق إرادة الشر عليه وفعله نفيا وإثباتا في إطلاق لفظ الإرادة والفعل من إبهام المعنى الباطل ونفي المعنى الصحيح فإن الإرادة تطلق بمعنى المشيئة وبمعنى المحبة والرضا فالأول كقوله إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وقوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ وقوله: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً والثاني كقوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فالإرادة بالمعنى الأول تستلزم وقوع المراد ولا تستلزم محبته والرضا به وبالمعنى الثاني لا تستلزم وقوع المراد وتستلزم محبته فإنها لا تنقسم بل كل ما أراده من أفعاله فهو محبوب مرضي له ففرق بين إرادة أفعاله وإرادة مفعولاته فإن أفعاله خير كلها وعدل ومصلحة وحكمة لا شر فيها بوجه من الوجوه وأما مفعولاته فهي مورد الانقسام وهذا إنما يتحقق على قول أهل السنة أن الفعل غير المفعول والخلق غير المخلوق كما هو الموافق للعقول والفطر واللغة ودلالة القرآن والحديث وإجماع أهل السنة كما حكاه البغوي في شرح السنة عنهم وعلى هذا فهاهنا إرادتان ومرادان إرادة أن يفعل ومرادها فعله القائم به وإرادة أن يفعل عبده ومرادها مفعوله المنفصل عنه وليسا بمتلازمين فقد يريد من عبده أن يفعل ولا يريد من نفسه إعانته على الفعل وتوفيقه له وصرف موانعه عنه كما أراد من إبليس أن يسجد لآدم ولم يرد من نفسه أن يعينه على السجود ويوفقه له ويثبت قلبه عليه ويصرفه إليه ولو أراد ذلك منه لسجد له لا محالة وقوله فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ إخباره عن إرادته لفعله لا لأفعال عبيده وهذا الفعل والإرادة لا ينقسم إلى خير وشر كما تقدم وعلى هذا فإذا قيل هو مريد للشر أوهم أنه محب له راض به وإذا قيل أنه لم يرده أوهم أنه لم يخلقه ولا كونه وكلاهما باطل ولذلك إذا قيل أن الشر فعله أو أنه يفعل الشر أوهم أن الشر فعله القائم به وهذا محال وإذا قيل لم يفعله أو ليس بفعل له أوهم أنه لم يخلقه ولم يكونه وهذا محال فأنظر ما في إطلاق هذه الألفاظ في النفي والإثبات من الحق والباطل الذي يتبين بالاستفصال والتفصيل وأن الصواب في هذا الباب ما دل عليه القرآن والسنة من أن الشر لا يضاف إلى الرب تعالى لا وصفا ولا فعلا ولا يتسمى باسمه بوجه من الوجوه وإنما يدخل في مفعولاته بطريق العموم كقوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: 1 - 2] فما هاهنا موصولة أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول أي من شر الذي خلقه أو من شر مخلوقه وقد يحذف فاعله كقوله حكاية عن مؤمني الجن وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10] وقد يسند إلى محله القائم به كقول إبراهيم الخليل الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 78 - 80] , وقول الخضر أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف: 79] , وقال في بلوغ الغلامين فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف: 82] وقد جمع الأنواع الثلاثة في الفاتحة في قوله اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6 - 7] والله تعالى إنما نسب إلى نفسه الخير دون الشر فقال تعالى قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] وأخطأ من قال المعنى بيدك الخير والشر لثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس في اللفظ ما يدل على إرادة هذا المحذوف بل ترك ذكره قصدا أو بيانا أنه ليس بمراد. الثاني: أن الذي بيد الله تعالى نوعان فضل وعدل كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع)) (¬1) فالفضل لإحدى اليدين والعدل للأخرى وكلاهما خير لا شر فيه بوجه الثالث: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك)) (¬2) كالتفسير للآية ففرق بين الخير والشر وجعل أحدهما في يدي الرب سبحانه وقطع إضافة الآخر إليه مع إثبات عموم خلقه لكل شيء. شفاء العليل لابن القيم – 2/ 733 ¬

(¬1) رواه البخاري (7411)، ومسلم (193). (¬2) رواه مسلم (771).

المبحث الثالث: قدره سبحانه ليس فيه ظلم لأحد

المبحث الثالث: قدره سبحانه ليس فيه ظلم لأحد والله – سبحانه وتعالى – منزه عن الظلم، ومتصف بالعدل؛ فلا يظلم أحداً مثقال ذرة، وكل أفعاله عدل ورحمة. قال الله تعالى: وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [ق:29]. وقال: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] وقال: إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]. والله تعالى لا يسأل عما يفعل وعما يشاء لقوله تعالى: لا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].فالله تعالى خلق الإنسان وأفعاله، وجعل له إرادة، وقدرة، واختياراً، ومشيئة، وهبها الله له لتكون أفعاله منه حقيقة لا مجازا، ثم جعل له عقلاً يميز به بين الخير والشر، ولم يحاسبه إلا على أعماله التي هي بإرادته واختياره؛ فالإنسان غير مجبر بل له مشيئة واختيار؛ فهو يختار أفعاله وعقائده؛ إلا أنه تابع في مشيئته لمشيئة الله، وكل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فالله تعالى هو الخالق لأفعال العباد، وهم الفاعلون لها؛ فهي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً، ومن العبد فعلاً وكسبا، قال تعالى: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28]. ولقد رد الله تعالى على المشركين حين احتجوا بالقدر، وقالوا: لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ. فرد الله عليهم كذبهم، بقوله: قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:148]. وأهل السنة والجماعة: يعتقدون أن القدر سر الله في خلقه، لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ضلالة؛ لأن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وأهل السنة والجماعة: يسلمون تسليماً مطلقاً لقول الله تبارك وتعالى: قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]. ويحاجون به من خالفهم من الفرق الضالة والمنحرفة. وهذا هو الذي آمن به السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان؛ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص159

المبحث الرابع: مشيئة الله عز وجل نافذة

المبحث الرابع: مشيئة الله عز وجل نافذة ومن ذلك قوله تعالى إخبارا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّنَا [الأعراف: 89] وهذا يبطل تأويل القدرية: المشيئة في مثل ذلك بمعنى الأمر فقد علمت أنه من الممتنع على الله أن يأمر بالدخول في ملة الكفر والشرك به ولكن استثنوا بمشيئته التي يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء ثم قال شعيب: وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [الأعراف: 89] فرد الأمر إلى مشيئته وعلمه فإن له سبحانه في خلقه علم محيط ومشيئته نافذة وراء ما يعلمه الخلائق فامتناعنا من العود فيها هو مبلغ علومنا ومشيئتنا ولله علم آخر ومشيئة أخرى وراء علومنا ومشيئتنا فلذلك رد الأمر إليه ومثله قول إبراهيم: وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام: 80] فأعادت الرسل بكمال معرفتها بالله أمورها إلى مشيئة الرب وعلمه ولهذا أمر الله رسوله أن لا يقول لشيءٍ أنه فاعله حتى يستثني بمشيئة الله فإنه إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله ... وبالجملة فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد. شفاء العليل لابن القيم -بتصرف- ص64

المبحث الخامس: الفرق بين المشيئة والإرادة (الإرادة الكونية والإرادة الشرعية)

المبحث الخامس: الفرق بين المشيئة والإرادة (الإرادة الكونية والإرادة الشرعية) والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية خلقية، وإرادة دينية شرعية. فالإرادة الشرعية هي المتضمنة المحبة والرضا، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات. فالإرادة الشرعية كقوله تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقوله: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 26 - 28] وقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]. فهذا النوع من الإرادة لا تستلزم وقوع المراد، إلا إذا تعلق به النوع الثاني من الإرادة، وهذه الإرادة تدل دلالة واضحة على أنه لا يحب الذنوب والمعاصي والضلال والكفر، ولا يأمر بها ولا يرضاها، وإن كان شاءَها خلقاً وإيجاداً. وأنه يحب ما يتعلق بالأمور الدينية ويرضاها ويثيب عليها أصحابها، ويدخلهم الجنة، وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وينصر بها العباد من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين. وهذه الإرادة تتناول جميع الطاعات حدثت أو لم تحدث. والإرادة الكونية القدرية هي الإرادة الشاملة لجميع الموجودات، التي يقال فيها: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة مثل قوله تعالى: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125]. وقوله: وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ [هود:34]. وقوله: وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]. وقوله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39]. وهذه الإرادة إرادة شاملة لا يخرج عنها أحد من الكائنات، فكل الحوادث الكونية داخلة في مراد الله ومشيئته هذه، وهذه يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه، وأهل طاعته الذين يحبهم ويحبونه، ويصلي عليهم هو وملائكته، وأهل معصيته الذين يبغضهم ويمقتهم ويلعنهم اللاعنون. وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي دون ما لم يحدث منها. والمخلوقات مع كل من الإرادتين أربعة أقسام: الأول: ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فأمره وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك ما كان. والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار والفجار، فتلك كلها إرادة دين، وهو يحبها ويرضاها وقعت أم لم تقع. والثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره الله وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها، ولم يرضها، ولم يحبها، إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا ما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي. والسعيد من عباد الله من أراد الله منه تقديراً ما أراد الله به تشريعاً، والعبد الشقي من أراد الله به تقديراً ما لم يرد به تشريعاً، وأهل السنة والجماعة الذين فقهوا دين الله حق الفقه، ولم يضربوا كتاب الله بعضه ببعض، علموا أنَّ أحكام الله في خلقه تجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال الصادرة عن العباد بهاتين العينين كان بصيراً، ومن نظر إلى الشرع دون القدر، أو نظر إلى القدر دون الشرع كان أعور، مثل قريش الذين قالوا: لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [الأنعام:148]. قال الله تعالى: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:148]. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص104

الفصل الثاني: حدود نظر العقل في القدر

المبحث الأول: الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة يقول أبو المُظَفَّر السمْعَاني فيما حكاه عنه ابن حجر العسقلاني: (سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلَّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سِرٌّ من أسرار الله تعالى، اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب). ويقول الطحاوي رحمه الله تعالى: وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]. وقال الآجُرِّيُّ: (لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر، لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمن العبد أن يبحث عن القدر فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد، فيضل عن طريق الحق). وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من السنة اللازمة: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لِمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها. ومن لم يعرف تفسير الحديث، ولم يبلغه عقله، فقد كفى ذلك، وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر). وقال علي بن المديني مثل قول الإمام أحمد في القدر. وهذا الذي قرره أهل العلم في القدر يضع لنا عدَّة قواعد في غاية الأهمية: الأولى: وجوب الإيمان بالقدر. الثانية: الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة، وترك الاعتماد في ذلك على نظر العقول ومحض القياس. فالعقل الإنساني لا يستطيع بنفسه أن يضع المعالم والركائز التي تنقذه في هذا الباب من الانحراف والضلال، والذين خاضوا في هذه المسألة بعقولهم ضلوا وتاهوا فمنهم من كذَّب بالقدر، ومنهم من ظن أن الإيمان بالقدر يُلزم القول بالجبر، ومنهم من ناقض الشرع بالقدر، وكل انحراف من هذه الانحرافات سبب مشكلات في واقع البشر وحياتهم ومجتمعاتهم، فالانحراف العقائدي يسبب انحرافاً في السلوك وواقع الحياة. الثالثة: ترك التعمق في البحث في القدر، فبعض جوانبه لا يمكن للعقل الإنساني مهما كان نبوغه أن يستوعبها، وبعضها الآخر لا يستوعبها إلا بصعوبة كبيرة. قد يقال: أليس في هذا المنهج حجر عل العقل الإنساني؟ والجواب أن هذا ليس بحجر على الفكر الإنساني، بل هو صيانة لهذا العقل من أن تتبدد قواه في غير المجال الذي تحسن التفكير فيه، إنه صيانة للعقل الإنساني من العمل في غير المجال الذي يحسنه ويبدع فيه. إن الإسلام وضع بين يدي الإنسان معالم الإيمان بالقدر، فالإيمان بالقدر يقوم على أن الله علم كلَّ ما هو كائن وكتبه وشاءَه وخلقه، واستيعاب العقل الإنساني لهذه الحقائق سهل ميسور، ليس فيه صعوبة، ولا غموض وتعقيد.

أما البحث في سر القدر والغوص في أعماقه فإنه يبدد الطاقة العقلية ويهدرها، إنّ البحث في كيفية العلم والكتابة والمشيئة والخلق، بحث في كيفية صفات الله، وكيف تعمل هذه الصفات، وهذا أمر محجوب علمه عن البشر، وهو غيب يجب الإيمان به، ولا يجوز السؤال عن كنهه، والباحث فيه كالباحث عن كيفية استواء الله على عرشه، يقال له: هذه الصفات التي يقوم عليها القدر معناها معلوم، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة. إن السؤال عن الكيفية هو الذي أتعب الباحثين في القدر، وجعل البحث فيه من أعقد الأمور وأصعبها، وأظهر أن الإيمان به صعب المنال، وهو سبب الحيرة التي وقع فيها كثير من الباحثين. ولذا فقد نصَّ جمع من أهل العلم على المساحة المحذورة التي لا يجوز دخولها في باب القدر، وقد سقنا قريباً مقالة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى التي يقول فيها: (من السَّنة اللازمة الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لِمَ؟ ولا كيف؟). لقد خاض الباحثون في القدر في كيفية خلق الله لأفعال العباد مع كون هذه الأفعال صادرة عن الإنسان حقيقة، وبحثوا عن كيفية علم الله بما العباد عاملون، وكيف يكلف عباده بالعمل مع أنه يعلم ما سيعملون، ويعلم مصيرهم إلى الجنة أو النار. وضرب الباحثون في هذا كتاب الله بعضه ببعض، وتاهوا وحاروا ولم يصلوا إلى شاطئ السلامة، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من أن تسلك هذا المسار وتضرب في هذه البيداء، ففي (سنن الترمذي) بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه)) (¬1). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص45 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2133). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث صالح المري وصالح المري له غرائب ينفرد بها لا يتابع عليها. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن.

المبحث الثاني: مدى إدراك العقل للعلل والأوامر والأفعال وما فيها من حسن وقبح

المبحث الثاني: مدى إدراك العقل للعلل والأوامر والأفعال وما فيها من حسن وقبح ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف إلى أن لأوامر الله ومخلوقاته عللاً وحِكماً، فإنه لا يأمر إلا لحكمة، ولا يخلق إلا لحكمة. وبعض هذه الحِكم تعود إلى العباد، وبعضها يعود إلى الله تعالى، فما يعود إلى العباد هو ما فيه خيرهم وصلاحهم في العاجل والآجل، وما يعود إلى الله تعالى هو محبته أن يُعبد ويطاع ويتاب إليه ويُرجى ويُخاف منه ويتوكل عليه ويُجاهد في سبيله، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وقال: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]. والنصوص الدالة على أن لله حِكَماً في خلقه وأمره كثيرة وافرة، يصعب حصرها، والعقول البشرية تستطيع أن تدرك شيئاً من هذه الحكم. وذهب جمهور أهل العلم أيضاً إلى أن العقل يستطيع أن يدرك ما في الأفعال من حسن وقبح، فالعقول تدرك أن الظلم والكذب والسرقة وقتل النفوس قبيح، وأن العدل والصدق وإصلاح ذات البين وإنقاذ الغرقى حسن وجميل.) الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص49

المبحث الثالث: الحكم الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع

المبحث الثالث: الحكم الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع الأول: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يَرِدْ الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع حسن ذلك وقبحه، لكن لا يلزم في العقول أن الإنسان معاقب على فعل القبيح من هذا النوع في الآخرة إن لم يرد الشرع بذلك، ومن ادعى أن الله يمكن أن يعاقب العباد على أفعالهم القبيحة من الشرك والكفر ونحو ذلك من غير إرسال رسول فقد أخطأ. الثاني: إذا أمر الشارع بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشرع. الثالث: أن يأمر الشارع بشيء امتحاناً واختباراً كما أمر الله إبراهيم بأن يذبح ولده إسماعيل. فالشارع ليس له قصد في ذبح الابن، ولكنه الابتلاء والاختبار. والمعتزلة أقرت بالنوع الأول دون الثاني والثالث. والأشعرية ذهبت إلى أن جميع الأوامر والنواهي الشرعية هي من قسم الامتحان، والأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء وجمهور أهل العلم فأثبتوا الأقسام الثلاثة. وهذا الذي عليه جمهور أهل السنة من أفعال الله معللة وأن العقل بإمكانه أن يدرك ما في الأفعال من حسن وقبح، يفتح الباب أما العقول الإنسانية لتبحث في الحِكَم الباهرة التي خلق الله من أجلها المخلوقات، وشرع من أجلها ما شرعه من أحكام، وهو باب كبير، يحصل العباد منه على علم عظيم، يثبت الإيمان، ويزيد اليقين، ويُعِّرف العباد بإبداع الخالق العظيم الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7]، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد وعد الحق تبارك وتعالى أن يُري عباده من آياته العظيمة ما يظهر صدق ما جاء به الرسول، وأنزله في الكتاب سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]. وقد جاءت النصوص آمرة بالتدبر والتأمل والنظر في آياته المنزلة، وآياته المخلوقة المبدعة أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [محمد: 24] قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس:101] أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس: 24 – 26] الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص49

الباب الثالث: تقدير الله أفعال العباد، وثمار الإيمان بالقدر

تمهيد لا يخرج العباد وأفعالهم عن غيرها من المخلوقات، فقد علم الله ما سيخلقه من عباده، وعلم ما هم فاعلون، وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ، وخلقهم الله كما شاء، ومضى قدر الله فيهم، فعملوا على النحو الذي شاءه فيهم، وهدى مَن كتب الله له السعادة، وأضل مَن كتب عليه الشقاوة، وعلم أهل الجنة ويسرهم لعمل أهلها، وعلم أهل النار ويسرهم لعمل أهلها، ... قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وقال: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [الصافات:52]، وقال: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11]. وقال: مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178]، وقال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125]. وجاءت أحاديث كثيرة تواتر معناها على أن رب العباد علم ما العباد عاملون، وقدّر ذلك وقضاه وفرغ منه، وعلم ما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاء، وأخبرت مع ذلك كله أن القدر لا يمنع من العمل، ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) (¬1). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص35 ¬

(¬1) رواه البخاري (7551)، ومسلم (2649). من حدبث: عمران بن حصين.

المبحث الأول: النصوص الدالة على تقدير الله أفعال العباد

المبحث الأول: النصوص الدالة على تقدير الله أفعال العباد 1 - الأحاديث الدالة على أن أعمال العباد جفَّت بها الأقلام وجرت بها المقادير روى مسلم في (صحيحه) عن جابر قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله، بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جَفَّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: ((لا، بل فيما جفَّت به الأقلام وجرت بها المقادير)). قال: ففيم العمل؟ فقال: ((اعملوا فكلٌّ ميسر)) وفي رواية: ((كل عامل ميسَّر لعمله)) (¬1). وروى الترمذي في (سننه) أن عمر بن الخطاب قال للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه، أمر مبتدع أو مبتدأ، أو فيما فرغ منه؟ فقال: ((فيما فرغ منه يا ابن الخطاب، وكلٌّ ميسَّر، أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء)) (¬2). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص35 ¬

(¬1) رواه مسلم (2648). (¬2) رواه الترمذي (2135). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 6)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المبحث الثاني: علم الله بأهل الجنة وأهل النار

المبحث الثاني: علم الله بأهل الجنة وأهل النار وروى البخاري عن عمران بن حصين قال: قال رجل: يا رسول الله، ((أَيُعْرف أهل الجنة من أهل النار؟ فقال: نعم. قال: فلم يعملون؟ قال: كلٌّ يعمل لما خلق له، أو يسر له)) (¬1). وروى مسلم في (صحيحه) عن علي قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد. فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرةٌ. فنكّس. فجعل ينكث بمخصرته، ثم قال: ((ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت شقيّه أو سعيدة)). قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا، وندع العمل؟ فقال: ((من كان من أهل السعادة، فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة)). فقال: ((اعملوا فكل ميسر، أمّا أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأمّا أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)). ثم قرأ: فَأَما مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَما مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5 - 10] (¬2). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص36 ¬

(¬1) رواه البخاري (6596). (¬2) رواه مسلم (2647). والحديث رواه البخاري (4948).

المبحث الثالث: استخراج ذرية آدم من ظهره بعد خلقه وقسمهم إلى فريقين: أهل الجنة وأهل النار

المبحث الثالث: استخراج ذرية آدم من ظهره بعد خلقه وقسمهم إلى فريقين: أهل الجنة وأهل النار وأخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الله مسح ظهر آدم بعد خلقه له، واستخرج ذريته من ظهره أمثال الذر، واستخرج منهم أهل الجنة وأهل النار. روى مالك والترمذي وأبو داود عن مسلم بن يسار قال: سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذه الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنا كُنا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172]. قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها فقال: ((إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)). فقال رجل: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الله الجنة. وإذا خلق الله العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله الله النار)) (¬1). وروى الإمام أحمد في (مسنده) بإسناد صحيح إلى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفه - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قُبُلاً قال: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنا كُنا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172 - 173])) (¬2). وروى أحمد في (مسنده) بإسناد صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كَفِّه اليسرى: إلى النار ولا أبالي)) (¬3) وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((أنَّ الله - عز وجل - خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل)) فلذلك أقول جفَّ القلم على علم الله. رواه الترمذي عن عبدالله بن عمرو (¬4). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص37 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4703)، والترمذي (3075)، ومالك (2/ 898). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلاً مجهولاً. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 97) - كما أشار لذلك في مقدمته - وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه أحمد (1/ 272) (2455). والحديث رواه الحاكم (1/ 80) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر. ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 83): إسناده جيد قوي على شرط مسلم. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 28): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1623) بعد ذكره لكلام الحاكم والذهبي: وحقهما أن يقيداه بأنه على شرط مسلم، فإن كلثوم بن جبر من رجاله وسائرهم من رجال الشيخين. وقال محققه شعيب الأرناؤوط: رجاله ثقات رجال الشيخين غير كلثوم بن جبر من رجال مسلم وثقه أحمد وابن معين وذكره ابن حبان في الثقات وقال النسائي ليس بالقوي. (¬3) رواه أحمد (6/ 441) (27528). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 188): رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (49): صحيح. (¬4) رواه الترمذي (2642). وقال: هذا حديث حسن. ووافقه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 316). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

المبحث الرابع: كتابة الله لأهل الجنة وأهل النار

المبحث الرابع: كتابة الله لأهل الجنة وأهل النار وروى الترمذي في (سننه) عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان: فقال: ((أتدرون ما هذان الكتابان؟)) فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: ((هذا الكتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثمَّ أُجمل آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً. ثمَّ قال للذي في شماله: هذا كتاب من ربِّ العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثمَّ أُجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً)). فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان الأمر قد فرغ منه؟ فقال: ((سدِّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل. وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما. ثم قال: ((فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير)) (¬1). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص39 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2141). وقال: حسن غريب صحيح. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 336): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن.

المبحث الخامس: التقدير في ليلة القدر والتقدير اليومي

المبحث الخامس: التقدير في ليلة القدر والتقدير اليومي أن الله قدَّر مقادير عباده قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ودلّ الكتاب والسنة على أن هناك تقديرين تقدير حولي وتقدير يومي، فأما التقدير الحولي ففي ليلة القدر، ففيها يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر، وما يقوم به العباد من أعمال ونحو ذلك، قال تعالى: إِنا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنا كُنا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنا كُنا مُرْسِلِينَ [الدخان: 3 - 5]. أما التقدير اليومي فهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق، قال تعالى: يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] روى ابن جرير عن منيب بن عبدالله عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال: ((أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين)) (¬1). وجملة أقوال المفسرين في الآية: أن الله من شأنه في كل يوم أن يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ويعز قوماً ويذل قوماً، ويشفي مريضاً، ويفك عانياً، ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنباً، إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص40 ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (23/ 40).

المبحث السادس: كتابة ما قدر للإنسان وهو جنين في رحم أمه

المبحث السادس: كتابة ما قدر للإنسان وهو جنين في رحم أمه ورد في الأحاديث أن الله يرسل ملكاً للجنين في رحم أمه فيكتب رزقه وأجله وشقاءَه وسعادته، ففي (صحيحي البخاري ومسلم) عن عبدالله هو ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: ((إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها)) (¬1). وفي (صحيح البخاري) عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وكل الله بالرحم ملكاً، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب ذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل، فيكتب كل ذلك في بطن أمه)) (¬2). وروى الترمذي في (سننه) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله)). فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: ((يوفقه لعمل صالح قبل أن يموت)) (¬3). وروى مسلم في (صحيحه) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له بعمل أهل الجنة)) (¬4). وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)) (¬5). ومما يحسن أن يساق في هذا الباب لما فيه من العبرة، قصة الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار، ففي (صحيح البخاري) عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن رجلاً من أعظم المسلمين غناءً في غزوة غزاها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا. فاتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدِّ الناس على المشركين، حتى جُرح فاستعجل الموت، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه، حتى خرج من بين كتفيه. فأقبل الرجل إلى الرسول مسرعاً: فقال: أشهد أنك رسول الله. فقال: وما ذاك؟ قال: قلت لفلان من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين، فعرفت أنه لا يموت على ذلك، فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((إن العبد ليعمل عمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة. ويعمل عمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم)) (¬6). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص34 ¬

(¬1) رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643). (¬2) رواه البخاري (6595). (¬3) رواه الترمذي (2142). وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬4) رواه مسلم (2651). (¬5) رواه مسلم (112). (¬6) رواه البخاري (6607).

الفصل الثاني: ثمار الإيمان بالقدر

تمهيد إن عقيدة القدر التي جاء بها الإسلام مبرأة من التخاذل والكسل والخمول الذي أصاب قطاعاً كبيراً من الأمة الإسلامية عبر العصور باسم الإيمان بالقدر، والمسؤول عن ذلك هو انحراف المسلمين في باب القدر حيث لم يفقهوه على وجهه. ومن تأمل في عقيدة القدر التي جاء بها الإسلام وجد لها ثماراً كبيرة طيبة، كانت ولازالت سبباً في صلاح الفرد والأمة الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص109

المبحث الأول: الإيمان بالقدر يدعو إلى العمل والنشاط والسعي بما يرضي الله

المبحث الأول: الإيمان بالقدر يدعو إلى العمل والنشاط والسعي بما يرضي الله فالإيمان بالقدر مع أنه عقيدة يجب الإيمان بها, وركن من أركان الإيمان يكفر منكره، وليس له في الإسلام نصيب، وهذا وحده كاف في بيان أهميته, ووجوب الاعتناء به، إلا أن له آثاراً محسوسة ملموسة في حياة الناس، ومن ثم تميز هذا الركن عن بعض أركان الإيمان لامتزاجه في حياة الناس وأعمالهم وتصرفاتهم في كل لحظة. 1 - القدر من أكبر الدواعي التي تدعو إلى العمل والنشاط والسعي بما يرضي الله في هذه الحياة, والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمور بثبات وعزم ويقين. أما دعوى أن الإيمان بالقدر يدعو إلى الكسل والتواكل في حياة المسلمين فهذا مما روجه ويروجه الملحدون فهم يقولون: إن عقيدة القدر تدعو الإنسان إلى التعلل بالمكتوب, فيكسل ولا يقوم بالواجب الملقى عليه, ويضربون مثلاً لذلك بواقع الأمة الإسلامية المتخلف, والحقيقة أن واقع الأمة الإسلامية المتردي إنما نشأ ووجد لأسباب عديدة داخلية وخارجية, ومن الأسباب الداخلية: جهل المسلمين بحقيقة الإسلام, وعدم تفاعلهم معه التفاعل الجهادي الصادق الذي غير واقع الأرض أول مرة، ومن جوانب الجهل بحقيقة الإيمان والإسلام، الجهل بعقيدة القضاء والقدر، وذلك حين فهموا أن معنى القدر التسليم لما يقدره الله بالقعود عن تغيير ما أصاب الإنسان من فقر, أو مرض, أو جهل، لأن كل ذلك مقدر من عند الله فلا ينبغي مقاومته, وإنما يجب الاستسلام له وفقط، وكذلك حين فهموا أنه لا حاجة إلى الكد والعمل في طلب الرزق, لأن الرزق سيأتي صاحبه ولا ضرورة للنشاط والحركة. فإذا وجد في المسلمين من يفهم هذا الفهم المنحرف في باب القدر والأخذ بالأسباب فليس عيباً في الإسلام وإنما هو عيب المسلمين الذين يفهمون هذا الفهم, لأن الكتاب والسنة مملوءان بالأوامر والتوجيهات للإنسان أن يعمل الصالحات, ويطلب الرزق, ويعمر الكون, وقد طبق هذه التوجيهات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلموا وكدوا, وأتعبوا أنفسهم في ابتغاء مرضاة الله, فجاهدوا, وصبروا, وفتحوا البلاد والعباد, وأقاموا حكم الله تعالى في الأرض, وما وجد فيهم من يقعد به إيمانه بالقدر عن ذلك, بل كان القدر أكبر داع وأكبر عامل لهم ليقوموا بما قاموا به رضوان الله عليهم. فالمؤمنون مأمورون بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى, والإيمان بأن الأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله, لأن الله هو الذي خلق الأسباب, وهو الذي خلق النتائج, ويحرم على المسلم ترك الأخذ بالأسباب, ولو ترك إنسان السعي في طلب الرزق كان آثماً مع أن الأرزاق بيد الله تعالى, والرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: أرأيت رقى نسترقي بها, وتقى نتقي بها, وأدوية نتداوى بها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: ((هي من قدر الله)) (¬1) فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل, والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكن قلبه معتمداً على الله لا على سبب من الأسباب, والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة, فإن كانت الأسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله كما يؤدي الفرائض, وكما يجاهد العدو, ويحمل السلاح, ويلبس جنة الحرب, ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به الجهاد. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2065). من حديث يعمر العذري والد أبي خزامة رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (841) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.

ومن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم (¬1)، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (¬2) قال شارح الطحاوية: (وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب, وأن الأمور كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب, وهذا فاسد, فإن الاكتساب: منه فرض, ومنه مستحب, ومنه مباح, ومنه مكروه, ومنه حرام ... وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين، يلبس لامة الحرب, ويمشي في الأسواق للاكتساب) (¬3). وقد قال عمر رضي الله عنه لأبي عبيدة لما جاء الخبر بانتشار الوباء في الشام، ورأى عمر الرجوع فقال له أبو عبيدة: ((أفراراً من قدر الله فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة, نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان: إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله)) (¬4). هكذا فهم الصحابة رضوان الله عليهم العلاقة بين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب, وأن الأخذ بالأسباب داخل في معنى الإيمان بالقدر ولا ينافيه. وحين أراد المسلمون تغيير الواقع بالجهاد أخذوا بأسباب الجهاد كلها, ثم توكلوا على الله تعالى ولم يقولوا: إن الله قدر نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين، واكتفوا بذلك عن الاستعداد والجهاد, والصبر, وخوض المعارك, بل فعلوا كل هذه الأمور, فنصرهم الله, وأعز الله بهم الإسلام. واليوم إذا وجد من يقعد عن تغيير الواقع المؤسف للمسلمين بحجة أنه واقع بقدر من الله فهذا منه جهالة عظيمة بحقيقة هذا الدين، وبحقيقة القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان, وإننا لنسمع كثيراً من اليائسين الذين يكررون دائماً عبارات التيئيس للدعاة والمصلحين، مثل قولهم: إن الزمان هو الذي فسد, وإن الإصلاح صعب, وهذا آخر الزمان, وهو زمان غربة الإسلام, إلى آخر العبارات التي تنم عن جهل كبير, ويأس قاتل, وما أدري لو عايش هؤلاء غربة الإسلام الأولى حين كانت الدنيا كلها مطبقة على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين كانوا قلة مستضعفين ما أدري لو عايش هؤلاء تلك الغربة ماذا سيقلون وماذا سيفعلون؟ (¬5) القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص 293 ¬

(¬1) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (8/ 528 - 529). (¬2) رواه مسلم (2664). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 301). (¬4) رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬5) ((العقائد الإسلامية)) لسيد سابق (ص: 98 - 99)، وانظر: ((الإيمان: أركانه, حقيقته، نواقضه)) للدكتور محمد نعيم ياسين (ص: 112–114)، و ((علم التوحيد)) لمحمد قطب (ص206 - 208)، و ((الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية)) لصبحي محمصاني (ص: 58 - 62)، و ((العقيدة الإسلامية سفينة النجاة)) لكمال عيسى (ص: 428 - 429).

المبحث الثاني: من آثار الإيمان بالقدر أن يعرف الإنسان قدر نفسه

المبحث الثاني: من آثار الإيمان بالقدر أن يعرف الإنسان قدر نفسه ومن آثار الإيمان بالقدر أن يعرف الإنسان قدر نفسه. فلا يتكبر ولا يبطر ولا يتعالى أبداً لأنه عاجز عن معرفة المقدور, ومستقبل ما هو حادث, ومن ثم يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائماً، وهذا من أسرار خفاء المقدور (¬1). القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود – ص: 296 ¬

(¬1) انظر: ((لمحات في وسائل التربية الإسلامية وغايتها)) د. محمد أمين المصري (ص: 186)، و ((مجموعة بحوث فقهية)) (ص: 241).

المبحث الثالث: الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات

المبحث الثالث: الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات, وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله، لأنه هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، وهو يعلم أنه حين يحسد غيره إنما يعترض على المقدور، وهكذا فالمؤمن يسعى لعمل الخير، ويحب للناس ما يحب لنفسه، فإن وصل إلى ما يصبوا إليه حمد الله وشكره على نعمه، وإن لم يصل إلى شيء من ذلك صبر ولم يجزع، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل مالم ينله, لأن الله هو الذي يقسم الأرزاق فيعطي ويمنع، وكل ذلك ابتلاء وامتحان منه سبحانه وتعالى لخلقه (¬1). القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص 297 ¬

(¬1) انظر: ((لمحات وسائل التربية الإسلامية)) لمحمد أمين المصري (ص: 178)، و ((الإيمان باليوم الآخر وبالقضاء والقدر)) للشيخ أحمد عز الدين البيانوني (ص: 144–145).

المبحث الرابع: الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سببا في استقامة المسلم

المبحث الرابع: الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سبباً في استقامة المسلم الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سبباً في استقامة المسلم, وخاصة في معاملته للآخرين، فحين يقصر في حقه أحد أو يسيء إليه، أو يرد إحسانه بالإساءة, أو ينال من عرضه بغير حق، تجده يعفو ويصفح لأنه يعلم أن ذلك مقدر، وهذا إنما يحسن إذا كان في حق نفسه، أما في حق الله فلا يجوز العفو, ولا التعلل بالقدر، لأن القدر إنما يحتج به في المصائب لا في المعائب (¬1). القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود – ص: 293 - 300 ¬

(¬1) انظر: ((مجموعة بحوث فقهية)) بحث ((الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في سلوك الإنسان)) للدكتور عبدالكريم زيدان (ص: 236).

المبحث الخامس: الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة

المبحث الخامس: الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله, ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضاً دائم الافتقار إلى ربه تعالى، يستمد منه العون على الثبات، ويطلب منه المزيد، وهو أيضاً كريم يحب الإحسان إلى الآخرين، فتجده يعطف عليهم. والإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن أيضاً الانكسار والاعتراف لله تعالى, حيث يقع منه الذنب, ومن ثم يطلب من الله العفو والمغفرة، ولا يحتج بالقدر على ذنوبه، وإن كانت مقدرة عليه؛ لأنه يعلم أن الاحتجاج باطل, ومنهي عنه, ومخالف لمقتضى الشرع (¬1). القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص 299 ¬

(¬1) انظر: ((مجموعة بحوث فقهية)): بحث ((الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في سلوك الإنسان)) للدكتور عبدالكريم زيدان (ص240 - 244).

المبحث السادس: من آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته

المبحث السادس: من آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته من آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، يبين للناس حقيقة الإيمان, ويوضح لهم مقتضياته، وواجباتهم تجاه ربهم تبارك وتعالى، كما يبين لهم حقائق الكفر, والشرك, والنفاق ويحذرهم منها، ويكشف الباطل, وزيفه, ودعاته, وحماته, ويقول كلمة الحق أمام الظالمين, ويفضح ما هم فيه من كفر وظلم وما يقومون به من إفساد وتضليل, يفعل المؤمن كل ذلك وهو راسخ الإيمان واثق بالله، متوكل عليه، صابر على كل ما يحصل له في سبيله, لأنه موقن أن الآجال بيد الله وحده، وأن الأرزاق عنده وحده، وأن العبيد لا يملكون من ذلك شيئاً مهما وجد لهم من قوة وأعوان. إن المؤمن الصادق لا يذل إلا لله، ولا يخضع إلا له، ولا يخاف إلا منه، وحين يكون كذلك تجده يسلك الطريق المستقيم، ويثبت عليه، ويدعو إليه، ويصر على ما يلقاه في سبيل الدعوة من عداء المعتدين، وحرب الظالمين، ومكر الماكرين، ولا يصده شيء من ذلك، لأن هؤلاء لا يملكون من أمر الحياة ولا أمر الأرزاق شيئاً، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يبقى في نفس المؤمن الداعية ذرة من خوف وهو يؤمن بقضاء الله وقدره، فما قدر سيكون، وما لم يقدر لن يكون، وهذا كله مرجعه إلى الله، والعباد لا يملكون من ذلك شيئا (¬1). القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص 299 ¬

(¬1) انظر: ((الإيمان: أثره في حياة الإنسان)) للدكتور حسن الترابي (ص: 48).

المبحث السابع: الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك

المبحث السابع: الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك لقد زعم كثير من الفلاسفة أن الخير من الله، والشر من صنع آلهة من دونه، وإنما قالوا هذا القول فراراً من نسبة الشر إلى الله تعالى. والمجوس زعموا أن النور خالق الخير، والظلمة خالقة الشر. والذين زعموا من هذه الأمة أن الله لم يخلق أفعال العباد، أو لم يخلق الضال منها أثبتوا خالقين من دون الله. ولا يتم توحيد الله إلا لمن أقرَّ أن الله وحده الخالق لكل شيء في الكون، وأن إرادته ماضية في خلقه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فكل المكذبين بالقدر لم يوحدوا ربهم، ولم يعرفوه حق معرفته، والإيمان بالقدر مفرق طريق بين التوحيد والشرك. فالمؤمن بالقدر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد ومعبود واحد، ومن لم يؤمن هذا الإيمان فإنه يجعل من الله آلهة وأرباباً. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر – ص: 109

المبحث الثامن: الاستقامة على منهج سواء في السراء والضراء

المبحث الثامن: الاستقامة على منهج سواء في السراء والضراء العباد بما فيهم من قصور وضعف لا يستقيمون على منهج سواء، قال تعالى: إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وإذا مسه الخير منوعاً إِلا الْمُصَلِّينَ [المعارج: 19 - 22]. والإيمان بالقدر يجعل الإنسان يمضي في حياته على منهج سواء، لا تبطره النعمة، ولا تيئسه المصيبة، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم وحسنات من الله، لا بذكائه وحسن تدبيره وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: 53]. ولا يكون حاله حال قارون الذي بغى على قومه، واستطال عليهم بما أعطاه الله من كنوز وأموال: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 76 - 78]. فإذا أصاب العبد الضراء والبلاء علم أن هذا بتقدير الله ابتلاء منه، فلا يجزع ولا ييأس، بل يحتسب ويصبر، فيكسب هذا الإيمان في قلب العبد المؤمن الرضا والطمأنينة مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22 - 23]. وقد امتدح الله عباده: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنا لِلّهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 156 - 157]. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص110 والإنسان قد خلق محباً للحياة، راغباً في متاعها، حريصاً على نفع نفسه, كارهاً للآلام والمصائب التي تحل به، وهو أيضاً يحب الخير لنفسه ويمنعه غيره، ويكره الشر لنفسه ويجزع منه كما قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [نوح: 19 - 21]. فإن أصابه الخير بطر واغتر به, وإن أصابه الشر والمصيبة جزع, وحزن, ولا يعصم الإنسان من البطر والطغيان إذا أصابه الخير، والحزن إذا أصابه الشر إلا الإيمان بالقدر، وأن ما وقع فقد جرت به المقادير, وسبق به علم الله, يقول الإمام الشوكاني: (ومن فوائد رسوخ الإيمان بهذه الخصلة أي: الإيمان بالقدر أنه يعلم أنه ما وصل إليه من الخير على أي صفة كان، وبيد من اتفق فهو منه عز وجل، فيحصل له بذلك من الحبور والسرور ما لا يقدر قدره، لما له سبحانه من العصمة التي تضيق أذهان العباد عن تصورها، وتقصر عقولهم عن إدراك أدنى منازلها ... وما أحسن ما قال الحربي – رحمه الله -: من لم يؤمن بالقدر لم يتهن بعيشه) (¬1) وهذا صحيح فما تعاظمت القلوب بالمصائب, وضاقت بها الأنفس، وحرجت بها الصدور إلا من ضعف الإيمان. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود- ص 296 ¬

(¬1) ((قطر الولي على حديث الولي للشوكاني)) (ص: 396).

المبحث التاسع: المؤمن بالقدر دائما على حذر

المبحث التاسع: المؤمن بالقدر دائماً على حذر المؤمنون بالقدر دائماً على حذر فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 99] فقلوب العباد دائمة التقلب والتغير، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والفتن التي توجه سهامها إلى القلوب كثيرة، والمؤمن يحذر دائماً أن يأتيه ما يضله كما يخشى أن يختم له بخاتمة سيئة، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة، والإكثار من الصالحات، ومجانبة المعاصي والموبقات. كما يبقى قلب العبد معلقاً بخالقه، يدعوه ويرجوه ويستعينه، ويسأله الثبات على الحق، كما يسأله الرشد والسداد. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص111

المبحث العاشر: مواجهة الصعاب والأخطار بقلب ثابت

المبحث العاشر: مواجهة الصعاب والأخطار بقلب ثابت إذا آمن العبد بأنَّ كل ما يصيبه مكتوب، وآمن أن الأرزاق والآجال بيد الله، فإنه يقتحم الصعاب والأهوال بقلب ثابت وهامة مرفوعة، وقد كان هذا الإيمان من أعظم ما دفع المجاهدين إلى الإقدام في ميدان النزال غير هيابين ولا وجلين، وكان الواحد منهم يطلب الموت في مظانه، ويرمى بنفسه في مضائق يظن فيها هلكته، ثم تراه يموت على فراشه، فيبكي إن لم يسقط في ميدان النزال شهيداً، وهو الذي كان يقتحم الأخطار والأهوال. وكان هذا الإيمان من أعظم ما ثبَّت قلوب الصالحين في مواجهة الظلمة والطغاة، ولا يخافون في الله لومة لائم، لأنهم يعلمون أن الأمر بيد الله، وما قدر لهم سيأتيهم. وكانوا لا يخافون من قول كلمة الحق خشية انقطاع الرزق، فالرزق بيد الله، وما كتبه الله من رزق لا يستطيع أحد منعه، وما منعه الله لعبد من عبيده لا يستطيع أحد إيصاله إليه. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص111 والإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائم، فتثبت في ساحات الجهاد ولا تخاف الموت، لأنها توقن أن الآجال محددة لا تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة. ولما كانت هذه العقيدة راسخة في قلوب المؤمنين ثبتوا في القتال, وعزموا على مواصلة الجهاد، فجاءت ملاحم الجهاد تحمل أروع الأمثلة على الثبات والصمود أمام الأعداء مهما كانت قوتهم، ومهما كان عددهم، لقد أيقنوا أنه لن يصيب الإنسان إلا ما كتب له، سواء كان قاعداً في بيته، أو يتقلب في ساحات القتال من معركة إلى معركة، فكيف يجبن، وكيف يفر من القتال خوفاً من الموت، والموت إذا جاء سيأتيه على آية حال هو. هكذا كان الأمر في حس المؤمنين فأقبلوا على القتال والجهاد في سبيل الله في ثبات وعزم ويقين، وكانت لهم بطولات ما عرفت في أمة من الأمم غيرهم. وإذا قد وجد من المثبطين من المنافقين وغيرهم من يتخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدعياً أن السلامة في تخلفه، ومتربصاً بالمؤمنين الدوائر كان الرد عليهم يأتي من الله تعالى مبيناً أن المؤمنين يقومون بما أوجبه الله عليهم طاعة لله ورسوله, وهم يعتقدون أن كل ما يصيبهم قد جرت به المقادير, قال تعالى: إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ [التوبة: 51 - 52]، وحين قال المنافقون: هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ [آل عمران:154]، جاء الجواب: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا جاء الرد عليهم: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]. وهكذا وعى المؤمنون هذه الحقيقة فأيقنوا أنه لا يموت إلا من كتب عليه الموت، ولو كان في مضجعه في بيته، وأيقنوا أيضاً أنهم لا يرتقبون إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة ومنهم من نصره الله نصراً مبيناً.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ويربيهم على عقيدة القدر, لأنها هي العدة التي تجعل المؤمن شجاعاً لا يخاف إلا الله، وهي التي تجعله يلاقي المصائب والصعاب راضياً مطمئناً، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) (¬1) وفي رواية أخرى: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)) (¬2) وهذا الحديث يدل على أن الإيمان بالقدر يبعث على الشجاعة والاتجاه إلى الله وحده في وقت الشدائد فيبقى المؤمن عزيزاً لا يذل إلا لله وحده (¬3). القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص 293 - 300 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/ 293) (2669)، والحاكم (3/ 624). قال الترمذي: صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا. (¬2) رواه أحمد (1/ 307) (2804)، والطبراني (11/ 123) (11243)، والحاكم (3/ 623) والبيهقي في ((الاعتقاد)) (147). قال الحاكم: هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين وقد روي الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا، وقال البيهقي: له شواهد عن ابن عباس، وصححه عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/ 333). (¬3) انظر: ((لمحات في وسائل التربية الإسلامية)) (2/ 178 - 181)، و ((الإيمان كما يصوره الكتاب والسنة)) للدكتور: علي عبدالمنعم عبدالحميد (ص: 170) – و ((تبسيط العقائد الإسلامية)) لحسن أيوب (ص: 105).

الباب الرابع: المذاهب في القدر، وأسباب الضلال فيه، وحكم الاحتجاج به

المبحث الأول: مذهب المكذبين بالقدر ذهب بعض الضالين في هذا الباب إلى نفي القدر، وزعموا أن الله – تعالى عما يقولون – لا يعلم بالأشياء قبل حصولها، ولم يتقدم علمه بها، وقالوا: إنما يعلم الله بالموجودات بعد خلقها وإيجادها. وزعم هؤلاء كذباً وزوراً أن الله إذا أمر العباد ونهاهم لا يعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه، ولا يعلم من يدخل الجنة ممن يدخل النار، حتى إذا استجاب العباد لشرعه أو رفضوا – علم السعداء منهم والأشقياء، ويرفض هؤلاء الضلال الإيمان بعلم الله المتقدم، كما يكذبون بأن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض، كما ثبت في الكتاب والسنة. وقد نشأ القول بهذا في آخر عهد الصحابة، فأول من قال به معبد الجهني، ثم تقلد عنه هذا المذهب الفاسد رؤوس المعتزلة وأئمتهم كواصل بن عطاء الغزال، وعمرو بين عبيد، ورويت عنهم في هذا أقوال شنيعة فيها تكذيب لله ولرسوله في أن الله علم الأشياء وكتبها قبل خلقها. وقد خشي الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته هذا الضلال الذي وقعت فيه هذه الفرقة، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه ابن عساكر عن أبي محجن وابن عبد البر في (الجامع) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أخاف على أمتي من بعدي ثلاثاً: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم، وتكذيباً بالقدر)) (¬1). وروى أبو يعلى في (مسنده) والخطيب في (التاريخ) وابن عَدِيّ في (الكامل) بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخاف على أمتي من بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وتصديقاً بالنجوم)) (¬2) وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الضلال، ففي الحديث الذي يرويه الطبراني في (معجمه الأوسط)، والحاكم في (مستدركه) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه قال: ((أُخِّر الكلام في القدر لشرار أمتي)) (¬3) ¬

(¬1) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (940)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (58/ 401). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1127): الحديث له شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة. (¬2) رواه أبو يعلى (7/ 162)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/ 34). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 203): رواه أبو يعلى مقتصراً على اثنتين من الخمس، وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف ووثقه ابن عدى. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (215): صحيح. (¬3) رواه الطبراني (6/ 96)، والحاكم (2/ 514). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (1124): حسن.

وروى الطبراني في (معجمه الكبير) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أمر هذه الأمة لا يزال مقارباً حتى يتكلموا في الولدان وفي القدر)) (¬1). وسمى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الفريق بمجوس هذه الأمة، لأن المجوس يقولون بوجود خالقين اثنين: النور والظلمة، وهذا الفريق يقولون بوجود خَالِقين، بل يزعمون أن كلَّ واحد خالق من دون الله، وقد أمر الرسول صلى الله وسلم بهجران هذا الفريق، فلا يزارون ولا يعادون، ففي الحديث الذي يرويه أحمد وأبو داود عن ابن عمر أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) (¬2). وقد صاح الصحابة بأصحاب هذه الضلالة من كل ناحية، وأنكروا عليهم ما جاؤوا به من الضلال والباطل، ونهوا الناس عن مخالطة هؤلاء ومجالستهم، وأوردوا عليهم النصوص الفاضحة لباطلهم، المقررة للحق في باب القدر. ففي (سنن الترمذي) عن نافع أنَّ ابن عمر جاءَه رجل فقال: إنَّ فلاناً يَقرأ عليك السلام، فقال له: بلغني أنّه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر)) (¬3). وفي الترمذي عن ابن عمر أيضاً يرفعه: ((يكون في أمتي خسف ومسخ وذلك في المكذبين في القدر)) (¬4). وفي (سنن الترمذي) أيضاً عن عبد الواحد بن سليم قال: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له: يا أبا محمد، إن أهل البصرة يقولون: لا قدر. قال يا بني، أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فاقرأ الزخرف. قال: فقرأت: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 1 - 4]. قال: أتدري ما أم الكتاب؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه كتاب كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض، فيه أن فرعون من أهل النار، وفيه تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]. ¬

(¬1) رواه الطبراني (12/ 162)، والحاكم. من حديث ابن عباس وليس من حديث أبي أمامة رضي الله عنهم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا نعلم له علة ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1675): وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم رجال البخاري. (¬2) رواه أبو داود (4691) واللفظ له، وأحمد (2/ 125) (6077). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 445): صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. (¬3) رواه الترمذي (2152). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن. (¬4) رواه الترمذي (2153). وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 102) – كما أشار لذلك في المقدمة -.

قال عطاء: فلقيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ما كانت وصية أبيك عند الموت؟ قال: دعاني أبي فقال لي: يا بني، اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره، فإن مت على غير هذا أدخلت النار، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم قال: اكتب. فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان، وما هو كائن إلى الأبد)) (¬1). وقد نص الأئمة على كفر هذه الطائفة التي لم تقر بعلم الله، وممن نص على كفرهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد. وقد تلاشت هذه الطائفة التي تكذب بعلم الله السابق أو كادت، يقول السفاريني: قال العلماء: المنكرون لهذا انقرضوا، وهم الذين كفرهم الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة. وقال القرطبي: قد انقرض هذا المذهب، فلا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على وجه الاستقلال، وهو مع كونه مذهباً باطلاً أخف من المذهب الأول. قال: والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فراراً من تعلق القديم بالمحدث. وقال النووي: قال أصحاب المقالات من المتكلمين: انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه، وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر، ولكن يقولون: الخير من الله، والشر من غيره تعالى الله عن قولهم (¬2). والقدرية يعترفون بأن الله خلق الإنسان مريداً، لكن يجعلونه مريداً بالقوة والقبول، أي قابلاً لأن يريد هذا ويريد هذا، وأمّا كونه مريداً لهذا المُعَيَّنِ، وهذا المُعَيَّنِ، فهذا عندهم ليس مخلوقاً. فهؤلاء في الحقيقة مجوس ثَنَوِيَّة، بل أعظم منهم، فإن الثَنويّةَ أثبتوا خالِقَين للكون كله، وهؤلاء أثبتوا خالقين لكل فرد من الأفراد، ولكل فعل من الأفعال، بل جعلوا المخلوقين كلهم خالقين، ولولا تناقضهم لكانوا أكفر من المجوس. وطرد قولهم ولازمه وحاصلة هو إخراج أفعال العباد عن خلق الله - عز وجل - وملكه، وأنها ليست داخلة في ربوبيته عز وجل، وأنه يكون في ملكه ما لا يريد، ويريد مالا يكون، وأنهم أغنياء عن الله عز وجل، فلا يستعينون على طاعته ولا ترك معصيته، ولا يعوذون بالله من شرور أنفسهم ولا سيئات أعمالهم ولا يستهدونه الصراط المستقيم. والقدرية بزعمهم أرادوا تنزيه الله وتقديسه عندما زعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنَّ الكافر هو الذي شاء الكفر، وحجتهم في ذلك أن هذا يؤدي إلى الظلم، إذ كيف يشاء الله الكفر من الكافر ثم يعذبه عليه. ولكنهم -كما يقول شارح الطحاوية - صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شرٌّ منه فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم - والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل. ومشيئة الله الكفر من الكافر ليس ظلماً له كما يدعي أهل الظلم من القدرية؛ فلله الحجة البالغة، وله في عباده من الحِكَمِ مالا يعلمه إلا هو تبارك وتعالى. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2155). وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 95) - كما أشار لذلك في المقدمة - وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 154).

ففي (صحيح مسلم) عن أبي الأسود الدِّيلي، قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجّة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال: فقال: أفلا يكون ظلماً؟ قال: ففزعت فزعاً شديداً. وقلت: كل شيء خَلْق الله ومِلْك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك. إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: ((لا، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [الشمس: 7 - 8])) (¬1). وفي (سنن أبي داود) عن ابن الديلمي قال: أتيت أُبي بن كعب، فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي، قال: لو أن الله عذَّب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله، ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبدالله بن مسعود، فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فقال مثل ذلك (¬2). والقدرية بمسلكهم هذا جعلوا لأهل الضلال سبيلاً عليهم، فقد ذكر عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة، وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم. فقال المجوسي: حتى يريد الله. فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد. قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان، هذا شيطان قوي. وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص53 ¬

(¬1) رواه مسلم (2650). (¬2) رواه أبو داود (4699)، والبيهقي (10/ 204). والحديث سكت عنه. قال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4212): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

المبحث الثاني: محاورة أهل السنة للقدرية

المبحث الثاني: محاورة أهل السنة للقدرية ولم يستطع منطق المعتزلة أن يقف في مجال الحجاج مع عوام أهل السنة فضلاً عن علمائهم وأهل الرأي فيهم. يذكر أهل العلم أن أعرابياً أتى عمرو بن عبيد، فقال له: إن ناقتي سُرقت، فادع الله أن يردها عليَّ. قال عمرو بن عبيد: اللهم إن ناقة هذا الفقير سُرقت، ولم تُرِدْ سرقتها، اللهمّ ارددها عليه. فقال الأعرابي: الآن ذهبت ناقتي، وأيست منها. قال: كيف؟ قال: لأنه إذا أراد أن لا تُسرق فسرِقت، لم آمن أن يريد رجوعها فلا ترجع، ونهض من عنده منصرفاً (¬1). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص60 إجابة أبو عصام القسطلاني لقدري وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى، وأوردني الضلال ثم عذبني أيكون منصفاً؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء (¬2). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص61 محاورة عبد الجبار الهمداني وأبي إسحاق الإسفراييني ودخل عبد الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة - على الصاحب ابن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني أحد أئمة السنة، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. فقال الأستاذ فوراً: سبحان من لا يقع في ملكه إلا من يشاء. فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعْصَى؟ فقال الأستاذ: أيُعْصَى ربنا قهراً؟ فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى عَليَّ بالردى، أحسن إليّ أم أساء؟ فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء فبهت القاضي. وفي (تاريخ الطبري) أن غيلان قال لميمون بن مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتي به ليناقشه: أشاء الله أن يُعصى؟ فقال له ميمون: أفَعُصيَ كارهاً؟ (¬3). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص61 بيْنَ عمر بن عبد العزيز وغَيْلان الدمشقي ¬

(¬1) انظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 740). (¬2) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (166). (¬3) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 516).

وحاور عمر بن عبد العزيز غيلان الدمشقي أحد رؤوس الاعتزال، فقال له عمر: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر. فقال: يَكْذِبون عليَّ يا أمير المؤمنين. قال: اقرأ عليَّ سورة (يس). قال: فقرأ عليه: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْمًا ما أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:1 - 9]. قال غيلان: لا والله لكأني يا أمير المؤمنين لم أقرأها قط إلا اليوم. أشهد يا أمير المؤمنين أني تائب من قولي بالقدر. فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه، وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين (¬1). قال معاذ بن معاذ: حدثني صاحب لي قال: مرَّ التيمي بمنزل ابن عون فحدثه بهذا الحديث، قال ابن عون: أنا رأيته مصلوباً بدمشق (¬2). وقال أبو جعفر الخطمي: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يُكْذَبُ عليَّ يا أمير المؤمنين، يقال عليَّ ما لا أقول. قال: ما تقول في العلم؟ قال: نفذ العلم. قال: أنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت. يا غيلان، إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك إن تقر به فتخصم، خير لك من أن تجحد فتكفر. ثم قال له: أتقرأ (يس)؟ فقال: نعم. قال: اقرأ. قال: فقرأ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: 1 - 7]. قال: قف كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين. قال: زد. فقرأ: إِنا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس: 8 - 9]. فقال له عمر: قل وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [يس:9 - 10]. قال: كيف ترى؟. قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط، وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبداً. قال: اذهب. فلما ولىَّ قال: اللهم إن كان كاذباً بما قال فأذقه حر السلاح. قال: فلم يتكلم زمن عمر، فلما كان يزيد بن عبد الملك كان رجلاً لا يهتم بهذا ولا ينظر فيه. قال: فتكلم غيلان. فلما ولي هشام أرسل إليه فقال له: أليس قد كنت عاهدت الله لعمر لا تتكلم في شيء من هذا أبداً؟ قال: أقلني، فوالله لا أعود. قال: لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قال: اقرأ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فقرأ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِياكَ نَعْبُدُ وإِياكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 2 - 5]. قال: قف. على ما استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه، أو على أمر في يدك أو بيدك؟ اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه. والقدرية النفاة حُرموا الاستعانة بالله الواحد الأحد، لأنهم زعموا أن الله لا يقدر على أفعال العباد، وأن العبد هو الخالق لفعله، فكيف يستعينون بالله على مالا يقدر عليه. ¬

(¬1) انظر: ((الشريعة)) للآجري (ص138). (¬2) رواه الهيثمي في ((غاية المقصد)) (2/ 774).

وهؤلاء يعتمدون فيما يفعلون على حولهم وقوتهم وعملهم، وهم يطلبون الجزاء والأجر من الله كما يطلب الأجير أجره من مستأجره، والله ليس محتاجاً إلى العباد وأعمالهم، بل نفع ذلك عائد إلى العباد أنفسهم، ومع كون العباد هم المحتاجين إلى الأعمال، فلا غنى لهم عن الاستعانة بالله إِياكَ نَعْبُدُ وإِياكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]. فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص62 بين هشام بن عبد الملك ورجلا يقول بالقدر بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلاً قد ظهر يقول بالقدر، وقد أغوى خلقاً كثيراً، فبعث إليه هشام فأحضره، فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: وما هو؟ قال: تقول: إن الله لم يقدر على خلق الشرّ؟ قال: بذلك أقول، فأحضِر من شئت يحاجني فيه، فإن غلبته بالحجة والبيان علمتُ أني على الحق، وإن غلبني بالحجة فاضرب عنقي. قال: فبعث هشام إلى الأوزاعي فأحضره لمناظرته، فقال له الأوزاعي: إن شئتَ سألتك عن واحدة، وإن شئتَ عن ثلاث، وإن شئتَ عن أربع؟ فقال: سل عما بدا لك، قال الأوزاعي: أخبرني عن الله عز وجل هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة. ثم قلت له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر؟ قال: هذه أشدّ من الأولى، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه اثنتان. ثم قلت له: هل تعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ قال: هذه أشدّ من الأولى والثانية، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه ثلاث قد حلّ بها ضرب عنقه. فأمر به هشام فضربت عنقه. ثم قال للأوزاعي: يا أبا عمرو، فسّر لنا هذه المسائل، قال: نعم يا أمير المؤمنين. سألته: هل يعلم أن الله قضى على ما نهى؟ نهى آدم عن أكل الشجرة ثم قضى عليه بأكلها. وسألته: هل يعلم أن الله حال دون ما أمر؟ أمر إبليس بالسجود لآدم، ثم حال بينه وبين السجود. وسألته: هل يعلم أن الله أعان على ما حرّم؟ حرّم الميتة والدم، ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه. قال هشام: والرابعة ما هي يا أبا عمرو؟ قال: كنت أقول: مشيئتك مع الله أم دون الله؟ فإن قال: مع الله فقد اتخذ مع الله شريكاً، أو قال: دون الله، فقد انفرد بالربوبية، فأيهما أجابني فقد حلّ ضرب عنقه بها، قال هشام: حياة الخلق وقوام الدين بالعلماء. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة لهبة الله بن الحسن اللالكائي - 4/ 795

الفصل الثاني: شبهات وجوابها

المبحث الأول: معنى المحو والإثبات في الصحف، وزيادة الأجل ونقصانه قد يشكل على بعض الناس مواضع في كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله وسلم، فيقول بعضهم: إذا كان الله علم ما هو كائن، وكتب ذلك كله عنده في كتاب فما معنى قوله: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39]. وإذا كانت الأرزاق والأعمال والآجال مكتوبة لا تزيد ولا تنقص فما توجيهكم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه)) (¬1). وكيف تفسرون قول نوح لقومه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح: 3 - 4]. وما قولكم في الحديث الذي فيه أن الله جعل عمر داود عليه السلام مائة سنة بعد أن كان أربعين سنة (¬2). والجواب أن الأرزاق والأعمار نوعان: نوع جرى به القدر وكتب في أم الكتاب، فهذا لا يتغير ولا يتبدل، ونوع أعلم الله به ملائكته فهذا هو الذي يزيد وينقص، ولذلك قال الله تعالى: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39]. وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي قدر الله فيه الأمور على ما هي عليه. ففي كتب الملائكة يزيد العمر وينقص، وكذلك الرزق بحسب الأسباب، فإن الملائكة يكتبون له رزقاً وأجلاً، فإذا وصل رحمه زيد له في الرزق والأجل، وإلا فإنه ينقص له منهما. والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد، فإن الله يأمر الملك أن يكتب لعبده أجلاً، فإن وصل رحمه، فيأمره بأن يزيد في أجله ورزقه. والملك لا يعلم أيزاد له في ذلك أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لم يتقدم ولم يتأخر. يقول ابن حجر العسقلاني: الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، والذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي، فيقع فيه المحو والإثبات، كالزيادة في العمر والنقص، وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله (¬3). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص66 ¬

(¬1) رواه البخاري (5986)، ومسلم (2557). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه الترمذي (3076). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) ((فتح الباري)) (11/ 488).

المبحث الثاني: التوفيق بين الأقدار وبين كل مولود يولد على الفطرة

المبحث الثاني: التوفيق بين الأقدار وبين كل مولود يولد على الفطرة وقد يقول بعض الناس كيف يكون الله قدر كل شيء مع أنه صح عن رسولنا أن كل مولود يولد على الفطرة؟ فالجواب أنه لا تناقض ولا تعارض بين النصوص المبينة أن كل شيء بقدر، والنصوص المخبرة بأن كل مولود يولد على الفطرة. فالله فطر عباده على السلامة من الاعتقادات الباطلة كما فطرهم على قبول العقائد الصحيحة، ثم إذا ولدوا أحاطت بهم شياطين الإنس والجن، فأفسدت فطرهم وغيَّرتها، وثبَّت الله من شاء الله هدايته على الحق. والله يعلم من يثبت على الفطرة السويّة السليمة، ومن تتغير فطرته، علم ذلك في الأزل وكتبه، فلا منافاة بين هذه النصوص ولا تعارض بينهما، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في (صحيحه) عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله: ((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)) (¬1). والله يعلم من الذي تجتالهُ الشياطين وتغرر به، ويعلم من يثبت على الحق، ويهدى للصواب. وإذا عرفت هذا الذي بيناه علمت كيف تُوَجِّه قوله صلى لله عليه وسلم: ((خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً، وخلق فرعون في بطن أمه كافراً)). رواه ابن عدي في (الكامل)، والطبراني في (الأوسط) (¬2). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص68 ¬

(¬1) رواه مسلم (2865). (¬2) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (1/ 350)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (10/ 224). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 193): رواه الطبراني وإسناده جيد. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3237).

المبحث الثالث: معنى قوله: وما أصابك من سيئة فمن نفسك

المبحث الثالث: معنى قوله: وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وقد يحتج بعض الناس للقدرية النفاة بقوله تعالى: ما أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلناسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا [النساء:79]، ويظنون أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي. وهؤلاء أخطؤوا الفهم، فالمراد بالحسنات هنا النعم، والمراد بالسيئات المصائب، يدلنا على صحة هذا الفهم سياق النص. قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء: 78 - 79]. فالله يحكي عن المنافقين أنهم كانوا إذا أصابتهم حسنة مثل الرزق والنصر والعافية، قالوا: هذه من الله، وإذا أصابتهم سيئة مثل ضَرْبٍ ومرضٍ وخوفٍ من عدو قالوا: هذه من عندك يا محمد. أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا الناس لأجله، وابتلينا لأجله بهذه المصائب. فالحسنات هنا النعم، والسيئات المصائب، وهذه كقوله تعالى: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120]، وقوله: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 186]. ثم قرر الحق أن المصائب والنعم لا تخرج عن قدر الله ومشيئته قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء: 78]. ثم بين الحق تبارك وتعالى أن السيئات التي هي المصائب ليس لها سبب إذا أذنب العبد إلا من نفسه، وأما ما يصيب العبد من الخير فلا تنحصر أسبابه، لأنه من فضل الله، يحصل بعمل العبد وبغير عمله من إنعام الله عليه، فالواجب على العباد أن يشكروا ربهم ويحمدوه على ما أنعم به عليهم، كما يجب أن يكثروا من التوبة والأوبة والاستغفار مما اقترفوه من ذنوب سببت لهم المصائب والبلايا. وإذا أنت تأملت في قوله: ما أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلناسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا علمت أن الحسنة والسيئة هي فعل الله بالعباد التي هي المصائب والنعم، أما قوله فَمِن نَّفْسِكَ أي بسبب ذنوب العبد وخطاياه، وهذا وإن كان مقدراً إلا أن الله قدر أن تكون المصيبة بسبب الذنب. أما الحسنات والسيئات التي هي أفعال العباد فلا يقال فيها: فَمِن نَّفْسِكَ وإنما يقول: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [القصص: 84]. وإنما قال هنا: جاء لأن الحسنة فعل الجائي، ولذلك صرح بهذا في جانب الذنوب والمعاصي: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [القصص:84]. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص69

المبحث الرابع: كيف يخلق الله الشر ويقدره؟

المبحث الرابع: كيف يخلق الله الشر ويقدره؟ وقد يشاغب بعض القدرية فيقولون: إنَّ الله مقدس عن فعل الشر، وإن الواجب على العباد أن ينزهوا ربهم عن الشر وفعله، وهؤلاء خلطوا حقاً بباطل فالتبست عليهم الأمور وجواب هذه الشبهة أن الله تعالى لا يخلق الشرَّ المحض الذي لا خير فيه، ولا منفعة فيه لأحد، وليس فيه حِكْمَة ولا رحمة، ولا يعذب الناس بلا ذنب، وقد بين العلماء أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما ما في خلق إبليس والحشرات والكواسر من الحكمة والرحمة. فالشيء الواحد يكون خلقه باعتبار خيراً، وباعتبار آخر شراً، فالله خلق إبليس يبتلي به عباده، فمنهم من يمقته، ويحاربه ويحارب منهجه، ويعاديه ويعادي أولياءَه، ويوالي الرحمن ويخضع له، ومنهم من يواليه ويتبع خطواته. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص70

الفصل الثالث: التاركون للعمل اتكالا على القدر

الفصل الثالث: التاركون للعمل اتكالاً على القدر ضل فريق آخر في باب القدر فقالوا: إذا كان الله عالماً بكل شيء نفعله، وعالماً بمصيرنا إلى الجنة أو النار، وكان هو الخالق لأفعالنا، فلماذا نعمل وننصب؟ ولماذا لا نترك الأقدار تجري في أَعِنَّتِهَا، وسيأتينا ما قدر لنا شئنا أم أبينا. وقد تَعمَّقَتْ هذه الضلالة عند طوائف من العُباد والزهاد وأهل التصوف، ولم تقله طائفة واحدة بعينها من طوائف أهل المقالات، وكان ولا يزال هذا القول على ألسنة كثير من جهال المسلمين وأهل الزيغ والزندقة. وهذا الفريق يؤمن بالقدر، وأن الله عالم بكل شيء، وخالق لكل شيء، ومريد لجميع الكائنات، ولكنهم زعموا أن كل ما خلقه الله وشاءه فقد رضيه وأحبه، وزعموا أنه لا حاجة بالعباد إلى العمل والأخذ بالأسباب، فما قُدِّر لهم سيأتيهم، وزعموا أن العباد مجبورون على أفعالهم، فالإنسان عندهم ليس له قدرة تؤثر في الفعل، بل هو مع القدر كالريشة في مهب الريح، وكالساقط من قمة جبل شامخ إلى واد بعيد غورهُ، سحيق قَعُره، لا يملك وهو يتردى فيه من أمره شيئاً. لقد ترك هؤلاء العمل احتجاجاً بالقدر قبل وقوعه، واحتجوا بالقدر على ما يقع منهم من أعمال مخالفة للشرع، ووصل بهم الحال إلى عدم التفريق بين الكفر والإيمان، وأهل الهدى والضلال، لأن جميع ذلك خلق الله، فلم التفريق؟ إن هذه العقيدة المنحرفة أضلت عقولاً كثيرة وانحرف مسارها عن جادة الحق والصواب، فاضطربت عندها موازين العدل والحق، وعطلت هذه العقيدة المنحرفة طاقات هائلة في العالم الإسلامي، أقعدتها عن العمل، بل جيَّرت أعمالها لمصلحة أعداء الإسلام في بعض الأحيان. لقد كان من آثار هذه العقيدة الزعم بأن الله أحب الكفر والشرك والقتل والزنا والسرقة وعقوق الوالدين وغير ذلك من الذنوب والمعاصي، لأنهم يزعمون أن كل شيء خلقه الله وأوجده فهو يحبه ويرضاه. ومن آثارها أن أصحابها تركوا الأعمال الصالحة الخيرة التي توصلهم إلى الجنة وتنجيهم من النار، وارتكبوا كثيراً من الموبقات بدعوى أن القدر آت آت، وكل ما قدر للعبد سيصيبه، فلماذا العمل والتعب والنصب.

لقد ترك هؤلاء الأخذ بالأسباب، فتركوا الصلاة والصيام، كما تركوا الدعاء والاستعانة بالله والتوكل عليه، لأنه لا فائدة منها، فالذي يريده الله ماض قادم لا ينفع معه دعاء ولا عمل. ورضي كثير من هؤلاء بظلم الظالمين وإفساد المفسدين، لأن ما يفعلوه قدر الله وإرادته. وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يهتموا بإقامة الحدود والقصاص، لأن ما وقع من المفاسد والجرائم مقدر لا بدَّ منه. وقد عرض شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لهذا الفريق ومعتقده وحاله في مواضع من كتبه، فقال: الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، فهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق، وأنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وهذا هو الذي يُبتلى به كثيراً - إمّا اعتقاداً وإما حالاً - طوائف من الصوفية والفقراء حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرمات، وإسقاط الواجبات، ورفع العقوبات. وقال أيضاً فيهم: " هؤلاء رأوا أن الله خالق المخلوقات كلها، فهو خالق أفعال العباد، ومريد الكائنات، ولم يميزوا بعد ذلك بين إيمان وكفر، ولا عرفان ولا نكر، ولا حق ولا باطل، ولا مهتدي ولا ضال، ولا راشد ولا غوي، ولا نبي ولا متنبيء، ولا ولي لله ولا عدو، ولا مرضي لله ولا مسخوط، ولا محبوب لله ولا ممقوت، ولا بين العدل والظلم، ولا بين البر والعقوق، ولا بين أعمال أهل الجنة وأعمال أهل والنار، ولا بين الأبرار والفجار، حيث شهدوا ما تجتمع فيه الكائنات من القضاء السابق والمشيئة النافذة والقدرة الشاملة والخلق العام، فشهدوا المشترك بين المخلوقات، وعموا عن الفارق بينهما. وقد يغلو أصحاب هذا الطريق حتى يجعلوا عين الموجودات هي الله، ويمسكون بموافقة الإرادة القدرية في السيئات الواقعة منهم، كقول الحريري: أنا كافر برب يعصى، وقول بني إسرائيل: أصبحت منفعلاً لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات وقد يسمون هذا حقيقة باعتبار أنه حقيقة الربوبية. وعرض ابن القيم لهذه الفرقة وضلالاتها في كتابه القيم (شفاء العليل) فقال: ثم نبغت طائفة أخرى زعمت أن حركة الإنسان الاختيارية - ولا اختيار - كحركة الأشجار عند هبوب الرياح، وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة مجبور، وأنه غير ميسر لما خلق له، بل هو عليه مجبور ومقصور. ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين، ولمنهاجهم مقتفين، فقرروا هذا المذهب وانتموا إليه، وحققوه، وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف مالا يطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد، ولا هو بمقدوره، وإنما هو تكليف بفعل من هو منفرد بالخلق، وهو على كل شيء قدير، فكلف عباده بأفعاله، وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها، وليسوا في الحقيقة لها فاعلين. ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العُباد، فقالوا: ليس في الكون معصية البتَّة، إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد، كما قيل: أصبحت منفعلاً لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال: إن كنت عصيت أمره، فقد أطعت إرادته، ومطيع الإرادة غير ملوم، وهو في الحقيقة غير مذموم، وقرر محققوهم من المتكلمين في هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحدة، فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبه.

ولقد ظنت هذه الفرقة بالله أسوأ الظنون، ونسبته إلى أقبح الظلم، وقالوا: إن أوامر الرب ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السماوات، وكتكليف الميت إحياء الأموات، والله يعذب عباده أشدَّ التعذيب على فعل مالا يقدرون على تركه، وعلى ترك مالا يقدرون على فعله، بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور، وليس أحد ميسر له، بل هو عليه مقهور، ونرى العارف منهم ينشد مترنماً، ومن ربه متشكياً ومتظلماً: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: ... إياك إياك أن تبتل بالماء وقد تنبه ابن القيم إلى أن هذا الصنف من البشر قصدوا تحميل ذنوبهم على الأقدار، وتبريئها من الذنوب والأوزار، وقالوا إنها في الحقيقة فعل الخلاق العليم. وتنبه المقدم لكتاب (الشفاء) إلى أن هذا السبب هو الذي جعل الاتجاه السائد في كل العصور هو الجبر فقال: عقيدة الجبر تحمل عن الإنسان تبعاته، وتضع عنه أوزار ما اقترف من الإثم، وتلقي التبعة على القوة التي حركت الإنسان، ودفعت رغبته وقادته في تصرفاته، فكاد السواد الأعظم من الناس يدين بالجبر، فمن كان وثنياً اعتقد بأن أمره بيد الآلهة التي يعبدها، يلقي التبعة على الدهر، ويعتقد أن المرء طوع تقلب الحدثان. ومن يقول أنه مؤمن بالله يعتقد أن الأقدار تُسيرِّه كيف تشاء، وأنه مسلوب الإرادة عديم الاختيار، حتى اتخذ هذا البحث مظهراً جديداً في العصور الحديثة، حيث قال المجبرة منهم: إن إرادة الإنسان مقيدة بالغرائز والوراثة والبيئة، وليس للإنسان يد في إحداث هذه الأمور، وإذن فليس له اختيار فيما يقترف من ذنب وإثم، لأن الإرادة لا أثر لها في البواعث النفسية، بل هي ثمرة هذه البواعث، وهي خاضعة لمؤثرات نفسية أو خارجية خضوعاً لا محيص عنه. ولما انتشرت فكرة الجبر بين المسلمين في العصور المتأخرة عن طريق الطرق الزائغة والمتصوفة أضرَّت ضرراً عظيماً، سيما مع ترك الأسباب. قال بعضهم: جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غيابته الجنين ومقالة هذا الفريق تؤدي إلى الكفر بالله، والتكذيب بما جاء في كتبه، وأخبرت به رسله، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمن أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي، ولم يثبت القدر، وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بين جميع الخلق، فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات، ولم يفرق بين المأمور والمحظور والمؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية لم يؤمن بأحد من الرسل، ولا بشيءٍ من الكتب، وكان عنده آدم وإبليس سواء، ونوح وقومه سواء، وموسى وفرعون سواء، والسابقون الأولون والكفار سواء. وقال فيهم أيضاً: من يقر بتقدم علم الله وكتابه، ولكن يزعم أن ذلك يغني عن الأمر والنهي والعمل، وأنه لا يحتاج إلى العمل، بل من قضى بالسعادة دخل الجنة، بلا عمل أصلاً، ومن قضى بالشقاوة شقي بلا عمل، فهؤلاء أكفر من أولئك (يعني المكذبين بالقدر) وأضل سبيلاً، ومضمون قول هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى بكثير. وقال أيضاً: هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، لكن حرفوا وبدلوا وآمنوا ببعض وكفروا ببعض. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص72

الفصل الرابع: الرد على القدرية الجبرية

الفصل الرابع: الرد على القدرية الجبرية • المبحث الأول: الوجه الأول خطؤهم في إطلاق اسم الجبر على ما يؤديه الإنسان من أفعال. • المبحث الثاني: الوجه الثاني إنكار الاختيار في أفعال العباد نقص في العقل. • المبحث الثالث: الوجه الثالث زعمهم أن كل شيء قدره الله وخلقه فقد رضيه وأحبه. • المبحث الرابع: الوجه الرابع زعمهم أن الإيمان بالقدر يقضي بترك الأعمال وإهمال الأسباب. • المبحث الخامس: الوجه الخامس احتجاجهم بالقدر. • المبحث السادس: هل الرضا بالمقدور واجب؟. • المبحث السابع: الوجه السادس الزعم بأن تكليف العباد غير ما فعلوا هو من باب التكليف بما لا يطاق. • المبحث الثامن: الوجه السابع يلزم من قوله التسوية بين المُخْتَلِفَيْن.

المبحث الأول: الوجه الأول خطؤهم في إطلاق اسم الجبر على ما يؤديه الإنسان من أفعال

المبحث الأول: الوجه الأول خطؤهم في إطلاق اسم الجبر على ما يؤديه الإنسان من أفعال استعمل هؤلاء لفظاً لم يرد به الكتاب والسنة، والواجب على العباد أن يستخدموا الألفاظ التي جاءت بها النصوص، روى اللالكائي بإسناده إلى بقية قال: سألت الأوزاعي والزبيدي عن الجبر؟ فقال الزبيدي: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر ويقهر، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب. وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). وورد مثل هذه الأقوال عن جمع من علماء السلف مثل سفيان الثوري وأبي إسحاق الفزاري وغيرهم. وإنما أنكروا إطلاق القول بأن الإنسان مجبر على فعله، لأن لفظ (الجبر) مجمل، فقد يراد بالإجبار معنى الإكراه كقولك: أجبر الأب ابنته على النكاح وجبر الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه ومعنى الإجبار هنا الإكراه، فيكون معنى قولهم: أجبر الله العباد، أي: أكرههم، لا أنه جعلهم مريدين لأفعالهم مختارين لها عن حبٍّ ورضا. وإطلاق هذا على الله تبارك وتعالى خطأ بين، فإن الله أعلى وأجل من أن يجبر أحداً، وإنما يجبر غيره العاجز عن أن يجعله مريداً للفعل مختاراً له محباً له راضياً به، والله سبحانه قادر على ذلك، فهو الذي جعل المريد للفعل المحب له الراضي به مريداً له محباً له راضياً به، فكيف يقال أجبره وأكرهه، كما يجبر المخلوق المخلوق. وأما إطلاق الجبر مراداً به أن الله جعل العباد مريدين لما يشاء منهم مختارين له من غير إكراه فهذا صحيح، وقال بعض السلف في معنى الجبار: هو الذي جبر العباد على ما أراد. ولما كان لفظ الجبر لفظ مجمل يطلق على هذا وهذا منع السلف من إطلاقه نفياً أو إثباتاً. ذكر شيخ الإسلام عن أبي بكر الخلال في كتابه (السنة) أن المروزي قال للإمام أحمد: يا أبا عبد الله، رجل يقول إن الله أجبر العباد، فقال: هكذا لا نقول، وأنكر ذلك وقال: يُضلُّ الله من يشاء ويهدي من يشاء. وذكر عن المروذي أن رجلاً قال: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه آخر، فقال: إن الله جبر العباد، أراد بذلك إثبات القدر، فسألوا عن ذلك أحمد بن حنبل، فأنكر عليهما جميعاً على الذي قال جَبَر، وعلى الذي قال لم يجبر حتى تاب، وأمره أن يقول: يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وذكر عن إسحاق الفزاري قال: جاءني الأوزاعي فقال: أتاني رجلان فسألاني عن القدر، فأجبت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما. قلت: رحمك الله، أنت أولى بالجواب. قال: فأتاني الأوزاعي ومعه الرجلان، فقال: تكلما. فقالا: قدم علينا ناس من أهل القدر، فنازعونا في القدر ونازعناهم فيه، حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا: إن الله جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرَّم علينا. فقلت: يا هؤلاء، إن الذين أتوكم بما أتوكم به قد ابتدعوا بدعة، وأحدثوا حدثاً، وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه. فقال الأوزاعي: أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق. (¬2). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص78 ¬

(¬1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 700). (¬2) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 554).

المبحث الثاني: الوجه الثاني إنكار الاختيار في أفعال العباد نقص في العقل

المبحث الثاني: الوجه الثاني إنكار الاختيار في أفعال العباد نقص في العقل الذين يزعمون أن الإنسان ليس له إرادة يفعل بها ألغوا عقولهم، فضلوا وأضلوا، وإلا فإننا نعلم من أنفسنا أن حركتنا ليست كحركة الجماد، الذي لا يملك شيئاً لذاته في تحركه وسكونه. بل إننا نفرق بين الحركات غير الإرادية التي تجري في أجسادنا وبين الحركات الإرادية، فحركة القلب، وحركة الرئتين، وجريان الدم في دورته في عروق الإنسان، وآلاف العمليات المعقدة التي تجري في أجسادنا - من غير أن نعرفها ونعلم بها - ليس لنا فيها خيار، بل هي حركات اضطرارية ليس للإنسان إرادة في إيجادها وتحقيقها، ومثل ذلك حركة المرعوش الذي لا يملك إيقاف اهتزاز يده. أما أكل الإنسان وشربه وركوبه، وبيعه وشراؤه، وقعوده وقيامه، وزواجه وطلاقه، ونحو ذلك فهو يتم بإرادة وقدرة ومشيئة، والذين يسلبون الإنسان هذه القدرة ضلت عقولهم، واختلفت عندهم الموازين. والقرآن مليء بإسناد الأفعال إلى من قاموا بها كقوله تعالى: وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى (20) سورة [يس:20] فَلَما أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15] فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [القصص:79] والنصوص في هذا كثيرة يصعب إحصاؤها التي تسند الأفعال إلى من قاموا بها. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص81

المبحث الثالث: الوجه الثالث زعمهم أن كل شيء قدره الله وخلقه فقد رضيه وأحبه

المبحث الثالث: الوجه الثالث زعمهم أن كل شيء قدره الله وخلقه فقد رضيه وأحبه وهذا زعم باطل، فالله شاء وجود الكفر والشرك والذنوب والمعاصي من الزنا والسرقة وعقوق الوالدين والكذب وقول الزور، وأكل مال الناس بالباطل، ولكنه كرهها وأبغضها ونهى عباده عنها. قال ابن القيم: أخبرني شيخ الإسلام قدس الله روحه أنه لام بعض هذه الطائفة على محبة ما يبغض الله ورسوله. فقال له الملوم: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وجميع ما في الكون مراده، فأي شيء أبُغضُ منه؟ فقال له الشيخ: إذا كان الله قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب عليهم وذمهم، فواليتهم أنت وأحببت أفعالهم ورضيتها، تكون موالياً له أو معادياً له؟ قال: فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة (¬1). الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص82 ¬

(¬1) انظر: ((شفاء العليل)) (ص4).

المبحث الرابع: الوجه الرابع زعمهم أن الإيمان بالقدر يقضي بترك الأعمال وإهمال الأسباب

المبحث الرابع: الوجه الرابع زعمهم أن الإيمان بالقدر يقضي بترك الأعمال وإهمال الأسباب لقد أخطأ هذا الفريق في دعواه أن الإيمان بالقدر لا يحتاج العبد معه إلى العمل، وذهل هؤلاء عن حقيقة القدر، فالله قدرَّ النتائج وأسبابها، ولم يقدر المسببات من غير أسباب، فمن زعم أن الله قدر النتائج والمسببات من غير مقدمتها وأسبابها فقد أعظم على الله الفرية. فالله إذا قدرَّ أن يرزق فلاناً رزقاً جعل لذلك الرزق أسباباً ينال بها، فمن ادعى أن لا حاجة به إلى السعي في طلب الرزق وأنَّ ما قدر له من رزق سوف يأتيه سعي أو لم يسع لم يفقه قدر الله في عباده. وإذا قدر الله أن يرزق فلاناً ولداً، فإنه يكون قدر له أن يتزوج ويعاشر زوجه، فالأسباب هي من الأقدار. والله يقدر أن فلاناً يدخل الجنة، ويقدر مع ذلك أن هذا الإنسان يؤمن ويعمل الصالحات، ويستقيم على أمر الله، ويقدر أن فلاناً يكون من أهل النار، ويقدر أسباب ذلك من تركه الإيمان والأعمال الصالحة. ويقدر أن فلاناً يمرض فيتناول الدواء فيشفى، فالله قدر المرض، وقدر السبب الذي يزيل المرض ويحقق الشفاء. والله يقدر أن فلاناً يدعوه ويستغيث به، فيجيب دعاءَه ويقبل رجاءَه، ويقدر أن فلاناً لا يدعوه ولا يرجوه، فيكله إلى نفسه، ويبقيه في تعسه، فالله قدر المسببات وقدر أسبابها، ومن زعم أن المسبب يقع من غير سبب فإنه لم يفقه دين الله، ولم يعرف قدر الله، وهو كمن يزعم أن الولد يأتي من غير سبب، وأن الزرع يحصل من غير ماء ولا تراب، وأن الشبع يحدث من غير طعام، والري يكون من غير تناول شراب. والنصوص الدالة على هذا الذي شرحناه وبيناه كثيرة وافرة.

ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة، فقد أمرت بالعمل والسعي في طلب الرزق، واتخاذ العدة لمواجهة الأعداء، والتزود للأسفار. قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] وقال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] وقال: وَأَعِدُّواْ لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60] وأمر المسافرين للحج بالتزود وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزادِ التَّقْوَى [البقرة: 197] وأمر بالدعاء والاستعانة وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ [الأعراف:128]. وأمر باتخاذ الأسباب الشرعية التي تؤدي إلى رضوانه وجنته كالصلاة والصيام والزكاة والحج. وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل حياة المرسلين جميعاً والسائرين على نهجهم كلها شاهدة على أخذهم بالأسباب، والجد والاجتهاد في الأعمال. إن الأخذ بالأسباب هو من قدر الله تبارك وتعالى، وليس مناقضاً للقدر ولا منافياً له. وقد فقَّه الرسول صلى الله عليه سلم بمعنى القدر، وأنه لا يُوجبُ ترك العمل، بل يوجب الجد والاجتهاد فيه لبلوغه ما يطمح الإنسان في نيله وتحقيقه، فقد سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن فائدة العمل إذا كانت الأعمال مقدرة مقضية جفَّ بها القلم، وفرغ منها رب العالمين، فقال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) (¬1) وقرأ عليه السلام: فَأَما مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَما مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5 - 10]. وقال بعض الصحابة الذين فقهوا عن الله ورسوله مراده لما سمع أحاديث القدر: ما كنت بأشدّ اجتهاداً مني الآن. إن الذي يفقه عن الله مراده في القدر يعلم أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال، بل يدفع إلى الجد والاجتهاد والحرص على تحصيل ما ينفعه في الدنيا والآخرة. إلا أنه يجب التنبه إلى أن العبد وإن أخَذَ بالأسباب فإنه لا يجوز أن يعتمد عليها، ويتوكل عليها، بل يجب أن يتوكل على خالقها ومنشئها. وقد قال علماؤنا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع. وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلاً، ولا بدَّ له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر، وهذا مما يبين أن الله ربُّ كل شيء ومليكه، وأن السماوات والأرض وما بينهما والأفلاك وما حوته لها خالق مدبر غيرها، وذلك أن كل ما يصدر عن فلك أو كوكب أو ملك أو غير ذلك، فإنك تجده ليس مستقلاً بإحداث شيء من الحوادث، بل لا بدَّ له من مشارك ومعاون، وهو مع ذلك له معارضات وممانعات. ¬

(¬1) رواه البخاري (4949)، ومسلم (2647). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

فكل سبب له شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه، ولم يُصرف عنه ضده لم يحصل سببه، فالمطر وحده لا ينبت إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتمُّ حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ومجموع ذلك لا يفيد إن تصرف المفسدات. والعقلاء من البشر يعلمون أنهم لا يستقلون بفعل ما يريدون، فكثير منهم تتهيأ له الأسباب، ثم يحال بينه وبين ما يشتهي وما يريد حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24]. يذكر اللالكائي أن رجلاً طلب من جاريته أن تسقيه، فجاءته بقدح من زجاج، فصبت له ماء، فوضعه على راحته، ثم رفعه إلى فيه، ثم قال: يزعم ناس أني لا أستطيع أن أشرب هذا، ثم قال: هي حرة إن لم أشربه (يعني جاريته التي صبت الماء) فما كان من الجارية إلا ضربت القدح بِردن قميصه، فوقع القدح وانكسر وأهرق الماء (¬1). وهكذا أثبتت الجارية لهذا المسكين أنه لا يقدر على كل ما يريد ما لم يقدره الله، فلقنته درساً، وحررت نفسها من رق العبودية. وكم من ثري أو قوي أو مُقدّم قوم ظن أن الدنيا خضعت له وأعطته زمامها، وجد نفسه عاجزاً لا يستطيع أن يفعل شيئاً، قد يقعده عن فعل ما يشتهي عدو طاغ، أو مرضٌ مُقْعِدٌ، أو خيانة صديق. أو طمع محب وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ: 54]. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص83 ¬

(¬1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 426).

المبحث الخامس: الوجه الخامس احتجاجهم بالقدر

المبحث الخامس: الوجه الخامس احتجاجهم بالقدر وهؤلاء يحتجون بالقدر على ترك العمل، فتجد الواحد عندما يدعى إلى الصلاة والصيام وقراءة القرآن يقول: لو شاء الله لي أن أعمل هذا عملته، كما يحتجون به على ما يوقعونه بالناس من الظلم والفساد، أو ما يقع من ظلم وفساد، فيقولون في المظالم والمناكر والمفاسد التي تقع: هذه إرادة الله ومشيئته وليس لنا حيلة في ذلك، وقد أدى هذا بهم إلى ترك الباطل يستشري في ديار الإسلام. وترى هذا الصنف من البشر خاضعين للظلمة، بل إن بعضاً منهم يصبح أعواناً للظلمة، وتراهم يخاطبون الناس قائلين: ليس لكم إلا أن تصبروا على مشيئة الله وقدره فيكم. وترى بعض هؤلاء يفعلون الموبقات ويرتكبون المنكرات من الزنا والفسوق والعصيان ويحتجون لأفعالهم بالقدر. وهؤلاء إن اعتقدوا أن كل شيء واقع فهو حجة أضحكوا العقلاء منهم، وأوقعوا أنفسهم في مأزق لا يجدون منه خلاصاً، وابن القيم يذكر وقائع من هؤلاء تزري بأصحاب العقول، وتجعل أصحابها في مرتبة أقل من البهائم، يذكر عن واحد من هؤلاء أنه رأى غلامه يفجر بجاريته، فلما أراد معاقبتهما، وكان غلامه يعرف مذهبه في القدر، فقال له: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك. فقال له ذلك الجاهل: لَعِلْمُكَ بالقضاء والقدر أحب إليَّ من كل شيء، أنت حرّ لوجه الله.

ورأى آخر رجلاً يفجر بزوجته، فأقبل يضربها وهي تقول: القضاء والقدر، فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أوَّه تركت السنة، وأخذت بمذهب ابن عباس. فتنبه، ورمى بالسوط من يده، واعتذر إليها، وقال: لولا أنت لضللت. ورأى آخر رجلاً يفجر بامرأته، فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاء الله وقدره. فقال: الخيرة فيما قضى الله. فلقب بالخيرة فيما قضى الله. ولو كان الاحتجاج بالقدر صحيحاً لأمكن لكل واحد أن يقتل ويفسد ويأخذ الأموال ويظلم العباد، فإذا سئل عن أفعاله احتج بالقدر، وكل العقلاء يعلمون بأن هذه الحجة مرفوضة غير مرضية، وإلا فإن الحياة تفسد. وكثير من الذين يحتجون بالقدر لظلمهم وفسقهم وضلالهم يثورون إذا ما وقع عليهم الظلم، ولا يرضون من غيرهم أن يحتج على ظلمه لهم بالقدر. إن المنهج الذي فقهه علماؤنا عن ربنا ونبينا أنه يجب علينا أن نؤمن بالقدر، ولكن لا يجوز لنا أن نحتج به على ترك العمل، كما لا يجوز لنا أن نحتج به على مخالفتنا للشرع، وإنما يحتج بالقدر على المصائب دون المعايب. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (¬1): العبد له في المقدور حالان: حال قبل القدر وحال بعد القدر. فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه، فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك، وإن كان ذنباً استغفر إليه من ذلك. وله في المأمور حالان: حال قبل الفعل، وهو العزم على الامتثال والاستعانة بالله على ذلك، وحال بعد الفعل وهو الاستغفار من التقصير وشكر الله على ما أنعم به من الخير. قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [غافر:55] أمره أن يصبر على المصائب المقدرة، ويستغفر من الذنب. وقال تعالى: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]. وقال يوسف: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]. فذكر الصبر على المصائب والتقوى بترك المعايب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (¬2). إن العبد المؤمن الحصيف لا يترك العمل بدعوى أنَّ قدر الله ماض فيه، بل الواجب عليه أن يأخذ الأمر بقوة، يعلم ما يطلبه الله، ويفكر فيما يفيده وينفعه، ثم يبذل قصارى جهده في القيام بأمر الله، وبالأخذ بالأسباب للأمور التي يظن أن فيها نفعه وصلاحه، فإذا لم يوفق فلا يقضي وقته بالتحسر والتأسف، وإنما يقول في هذا الموضع قدر الله وما شاء فعل. إن الإيمان بالقدر والاحتجاج به يأتي لمعالجة المشكل النفسي الذي يذهب الطاقة الإنسانية ويبددها في حال الفشل والإخفاق، ولا يكون مانعاً من العمل والإبداع في مقبل الزمان. استدلالهم بحديث احتجاج آدم بالقدر: وقد يستدل من قلَّ عمله بحديث احتجاج آدم وموسى على الاحتجاج بالقدر في المعايب، وهو حديث صحيح روته كتب (الصحاح)، و (السنن). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 76). (¬2) رواه مسلم (2664). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى. قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أُهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله فحج آدم موسى)) (¬1). وليس في هذا الحديث حجة للذين يحتجون بالقدر على القبائح والمعايب، فآدم عليه السلام لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وموسى عليه السلام لم يلم أباه آدم على ذنب تاب منه، وتاب الله عليه منه واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم من موسى على المصيبة التي أخرجت آدم وأولاده من الجنة. فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعايب. فعلى العبد أن يستسلم للقدر إذا أصابته مصيبة الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنا لِلّهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعونَ [البقرة:156]، أما المذنبون فليس لهم الاحتجاج بالقدر، بل الواجب عليهم أن يتوبوا ويستغفروا فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [غافر:55] فأرشد إلى الصبر في المصائب والاستغفار من الذنوب والمعايب. والله ذم إبليس لا لاعترافه بالمقدر في قوله: قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39]، وإنما على احتجاجه بالقدر. وأجاب ابن القيم عن الإشكال الذي وقع في حديث احتجاج آدم بالقدر بجواب آخر فقال: الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته، كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءَة من الحول والقوة. يوضحه أن آدم قال لموسى: أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق؟ فإذا أذنب الرجل ذنباً ثم تاب منه توبة، وزال أمره حتى كأن لم يكن، فأنَّبهُ عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول: هذا أمر كان قد قدر علي قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكره حجة له على باطل ولا محظور في الاحتجاج به. وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به، ففي حال المستقبل بأن يرتكب فعلاً محرماً أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه، وإصراره، فيبطل به حقاً، ويرتكب به باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله. (¬2) الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص87 ¬

(¬1) رواه البخاري (3409)، ومسلم (2652). (¬2) انظر: ((شفاء العليل)) (ص18).

المبحث السادس: هل الرضا بالمقدور واجب؟

المبحث السادس: هل الرضا بالمقدور واجب؟ إذا كانت المعاصي بقضاء الله فكيف لنا أن نكره قضاءَه ونبغضه، والجواب: أنه لا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم آية ولا حديث يأمر العباد بأن يرضوا بكل مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها، ولكن الواجب على الناس أن يرضوا بما أمر الله به، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به. قال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّما قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]. وينبغي للعبد أن يرضى بما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوباً، مثل أن يبتليه بفقر أو مرض أو ذل وأذى الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، وأما الرضا بها فهو مشروع، ولكن هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين لأصحاب أحمد وغيرهم: أصحهما أنه مستحب ليس بواجب. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص93

المبحث السابع: الوجه السادس الزعم بأن تكليف العباد غير ما فعلوا هو من باب التكليف بما لا يطاق

المبحث السابع: الوجه السادس الزعم بأن تكليف العباد غير ما فعلوا هو من باب التكليف بما لا يطاق وزعم من ذهب هذا المذهب أن فاعلي المعاصي والذنوب لا يستطيعون غير ما فعلوا، وتكليفهم بخلاف ما فعلوا تكليف بما لا يطاق، وتكليف مالا يطاق جاءت الشريعة بنفيه في قوله: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، واحتجوا بمثل قوله تعالى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف:101]، وقوله: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [هود:20]، وقوله: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9]. قالوا: فهذه الآيات مصرحة بأنهم لم يكونوا يستطيعون الفعل، وهؤلاء ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وزعموا أنه متناقض، وحاشاه أن يكون كذلك. والجواب عما شغبوا به أن الاستطاعة المنفية في الآيات التي احتجوا بها ليست هي الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي، فإن تلك إذا انتفت انتفى الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحمد والذم، والثواب والعقاب. ومعلوم أن العباد في هذه الحال مأمورون منهيون موعودون متوعدون، فعلم أن المنفية ليست هي المشروطة في الأمر والنهي. فالاستطاعة المنفية في الآيات التي احتجوا بها ليست بسبب استحالة الفعل أو عجزهم عنه، وإنما هي بسبب تركهم له والاشتغال بضده، كالكافر كلفه الله الإيمان في حال كفره، لأنه غير عاجز عنه ولا مستحيل فعله، فهو كالذي لا يقدر على العلم لاشتغاله بالمعيشة. أما الاستطاعة التي هي مناط التكليف، فهي المذكورة في مثل قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى الناسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، وقوله: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)) (¬1). ومعلوم أن الله لا يكلف مالا يطاق لوجود ضده من العجز، فلا يكلف المقعد بأن يصلي قائماً، ولا يكلف المريض بالصيام، ولا يكلف الأعمى بالجهاد والقتال، لخروج ذلك عن المقدور. وقد اتفق أهل العلم أن العبد إذا عجز عن بعض الواجبات سقط عنه ما عجز عنه، فمن قطعت منه رجله سقط عنه غسلها، ومن لم يستطع اغتسال الجنابة أو القيام أو الركوع ونحو ذلك سقط عنه ما عجز عنه. وبذلك يظهر لك أن عدم الاستطاعة المذكورة في الآيات التي احتج بها هذا الفريق غير مشروطة في شيء من الأمر والنهي والتكليف باتفاق المسلمين، والاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي في الآيات التي سقناها هي التي لم يكلف الله أحداً شيئاً بدونها. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص93 ¬

(¬1) رواه البخاري (1117) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

المبحث الثامن: الوجه السابع يلزم من قوله التسوية بين المختلفين

المبحث الثامن: الوجه السابع يلزم من قوله التسوية بين المُخْتَلِفَيْن لقد أدى هذا المذهب بأصحابه والقائلين به إلى التسوية بين الأخيار والفجار، والأبرار والأشرار، وأهل الجنة وأهل النار، وقد فرق بينهم العليم الخبير أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجارِ [ص:27 - 28]، وقال: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، وقال: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35 - 36]. الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص95

الفصل الخامس: مذهب أهل السنة والجماعة في القدر

الفصل الخامس: مذهب أهل السنة والجماعة في القدر بيان المذهب الحق في القدر ونقصد بذلك مذهب السلف، وأهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين، وتابعيهم إلى يوم القيامة، وهم الذين كانوا على الحق سائرين وهم الذين ثبتوا على طريق الهدى والرشاد حين بدأت بذور الفتن والفرقة تدب بين المسلمين, فنشأت هذه النحل والمقالات الفاسدة وصار لها دعاتها ومؤيدوها ومناصروها، وأصبحت كل فرقة تدعي أنها على الحق، وتستدل لأقوالها بأدلة من الكتاب والسنة، تزعم أنها تؤيد ما ذهبت إليه, بل قد تنسب أقوالها ومذاهبها إلى بعض الصحابة وكبار التابعين, وكان من آثار ذلك أن اختلطت المفاهيم، وضل فئام من الناس عن منهج الله المستقيم بكامله, أو في جانب من جوانب العقيدة. أما أهل الحق فقد ثبتوا عليه، رغم المحن والشدائد وهب العلماء من السلف يبينون للناس العقيدة الصحيحة، ودلائلها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ويردون على أهل الأهواء مذاهبهم وعقائدهم الفاسدة، ويدحضونها بالعلة وبالرهان، ويبينون ما هي عليه من زيف وباطل, وجاهد علماء السلف في ذلك، حتى نصرهم الله وأيدهم, فبقي مذهبهم هو مذهب عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وبقيت عقيدة السلف متميزة واضحة تمام الوضوح، يتلقاها الخلف عن السلف، أما النحل والأهواء الفاسدة، فإنها وإن بقيت، وبقي لها مؤيدوها إلا أن ما فيها من باطل قد وضح للناس والحمد لله رب العالمين. وعقيدة أهل الحق من السلف في القدر واضحة صحيحة مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, قد جلاها ووضحها علماء السلف رضوان الله عليهم ... وأنهم يؤمنون بالقدر خيره وشره، حلوه ومره من الله تعالى. 1 - وهو يشمل أربع مراتب في درجتين: الدرجة الأولى: أن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً, وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق, فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه, جفت الأقلام وطويت الصحف. وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً, فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء, وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً, فيؤمر بأربع كلمات فيقال له: اكتب رزقه، وأجله، وعمله وشقي أو سعيد. فهذه الدرجة تشمل مرتبتين: الأولى: العلم، والثانية: الكتابة. الدرجة الثانية: مشيئة الله النافذة, وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى, لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات, فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه فلا خالق غيره, ولا رب سواه, ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته, وطاعة رسله, ونهاهم عن معصيته, وهو سبحانه يحب المتقين, والمحسنين, والمقسطين, ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء, ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد. فهذه الدرجة تشمل مرتبتين: الأولى الإرادة والمشيئة والثانية: الخلق والتكوين. 2 - أما أفعال العباد فهي داخلة في المرتبة الرابعة، ومذهب السلف فيها: أن الله خالق أفعال العباد، والعباد فاعلون حقيقة، والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة والله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود – بتصرف – ص: 247 - 248

الفصل السادس: من أقوال السلف في القدر

الفصل السادس: من أقوال السلف في القدر - يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في عقيدته التي نقلها ابن الجوزي: (ونؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره من الله) ويقول أيضاً: (أجمع سبعون رجلاً من التابعين, وأئمة المسلمين، وأئمة السلف, وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها الرضا بقضاء الله, والتسليم لأمر الله, والصبر تحت حكمه, والأخذ بما أمر الله به، والنهي عما نهى عنه، وإخلاص العمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين) (¬1). وفي مسائل الإمام أحمد: (أخبرنا أبو بكر قال: حدثنا أبو داود قال: سمعت أحمد قال له رجل: تلجئني القدرية إلى أن أقول: الزنا بقدر، والسرقة بقدر، قال: الخير والشر من الله) (¬2). - وقد نقل الإمام البخاري في كتابه (خلق أفعال العباد) عدة روايات تدل على أن الله خالق أفعال العباد، ثم قال: (قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك. قال أبو عبدالله محمد بن إسماعيل: سمعت عبدالله بن سعيد يقول: مازلت أسمع من أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة, قال أبو عبدالله: حركاتهم وأصواتهم، واكتسابهم، وكتابتهم، مخلوقة) (¬3) وقال: (فالله في ذاته هو الخالق, وحظك واكتسابك من فعلك خلق، لأن كل شيء دون الله يصنعه وهو خلق) (¬4). - ويقول شيخ المالكية في المغرب ابن أبي زيد القيرواني: (والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا, ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] , يضل من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من عمله، وقدره من شقي أو سعيد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحد عنه غنى، خالقاً لكل شيء, ألا هو رب العباد، ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم) (¬5). - ويذكر الإمام البيهقي في كتابه: (الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة) روايات عديدة تبين مذهب السلف، وأن الله خالق أفعال العباد، وقال معقباً على بعضها: (فثبت أن الأفعال كلها خيرها وشرها صادرة عن خلقه وإحداثه إياها، ولأنه قال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى [الأنفال:17] , وقال: أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:64] , فسلب عنهم فعل القتل والرمي والزرع مع مباشرتهم إياه، وأثبت فعلها لنفسه, ليدل بذلك على أن المعنى المؤثر في وجودها بعد عدمها هو إيجاده وخلقه, وإنما وجدت من عباده مباشرة تلك الأفعال بقدرة حادثة أحدثها خالقنا - عز وجل - على ما أراد فهي من الله - سبحانه وتعالى - خلق, على معنى أنه هو الذي اخترعها بقدرته القديمة, وهي من عبادة كسب, على معنى تعلق قدرة حادثة بمباشرتهم التي هي أكسابهم) (¬6). ثم قال: (أخبرنا أبو عبدالله الحافظ، قال: نا الزبير بن عبدالواحد الحافظ, قال حدثني حمزة بن علي العطار، قال: نا الربيع بن سليمان, قال سئل الشافعي رضي الله عنه عن القدر فأنشأ يقول: ¬

(¬1) ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 228)، وانظر: ((المدرسة السلفية)) لمحمد عبد الستار نصار (2/ 525). (¬2) انظر: ((السنة)) للخلال (3/ 543). (¬3) ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (106). (¬4) ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (108). (¬5) ((مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني)) (ص: 6 - 7). (¬6) ((الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد)) (ص: 143 - 144).

(فـ) ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن وعلى نحو قول الشافعي رضي الله عنه في إثبات القدر لله, ووقوع أعمال العباد بمشيئته, درج أعلام الصحابة والتابعين وإلى مثل ذلك ذهب فقهاء الأمصار: الأوزاعي, ومالك بن أنس, وسفيان الثوري, وسفيان بن عيينة, والليث بن سعد, وأحمد بن حنبل, وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم رضي الله عنهم, وحكينا عن أبي حنيفة رحمه الله مثل ذلك, وهو فيما أخبرنا أبو عبدالله الحافظ قال: سمعت أبا بكر محمد بن جعفر المزكي يقول: نا أبو العباس أحمد بن سعيد بن مسعود المري قال: نا سعد بن معاذ قال: ثنا إبراهيم بن رستم قال: سمعت أبا عصمة يقول: سألت أبا حنيفة من أهل الجماعة قال: من فضل أبا بكر وعمر، وأحب عليًّا وعثمان، وآمن بالقدر خيره وشره من الله ... ) (¬1). - ويقول الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبدالرحمن الصابوني في رسالته (عقيدة السلف أصحاب الحديث): (ومن قول أهل السنة والجماعة في أكساب العباد أنها مخلوقة لله تعالى لا يمترون فيه، ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا القول وينفيه، ويشهدون أن الله تعالى يهدي من يشاء, ويضل من يشاء, لا حجة لمن أضله الله عليه, ولا عذر له لديه .. ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخير والشر والنفع والضر بقضاء الله وقدره لا مرد لهما، ولا محيص ولا محيد عنهما، ولا يصيب المرء إلا ما كتبه له ربه .. ومن مذهب أهل السنة وطريقتهم مع قولهم بأن الخير والشر من الله، وبقضائه لا يضاف إلى الله ما يتوهم منه نقص على الانفراد فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير والخنافس والجعلان، وإن كان لا مخلوق إلا والرب خالقه .. ومن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل مريد لجميع أعمال العباد، خيرها وشرها، لم يؤمن أحد إلا بمشيئته, ولم يكفر أحد إلا بمشيئته, ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء ألا يعصى ما خلق إبليس, فكفر الكافرين، وإيمان المؤمنين، بقضائه سبحانه وتعالى وقدره, وإرادته ومشيئته، أراد كل ذلك وشاءه وقضاه, ويرضى الإيمان والطاعة, ويسخط الكفر والمعصية) (¬2). - ويقول الإمام ابن قتيبة رحمه الله: (وعدل القول في القدر أن تعلم أن الله عدل لا يجور, كيف خلق, وكيف قدر، وكيف أعطى، وكيف منع, وأنه لا يخرج من قدرته شيء, ولا يكون في ملكوته من السموات والأرض إلا ما أراد, وأنه لا دين لأحد عليه، ولا حق لأحد قبله، فإن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل، وإن العباد يستطيعون ويعملون، ويجزون بما يكسبون، وإن لله لطيفة يبتدئ بها من أراد, ويتفضل بها على من أحب، يوقعها في القلوب فيعود بها إلى طاعته، ويمنعها من حقت عليه كلمته، فهذه جملة ما ينتهي إليه علم ابن آدم من قدر الله عز وجل, وما سوى ذلك مخزون عنه) (¬3) القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود – ص: 249 - 254 ¬

(¬1) ((الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد)) (ص: 162 - 163). (¬2) ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص: 29 - 31). (¬3) ((الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمُشبِّهة)) (ص: 22).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان: وهو أنَّ الله خالق كلّ شيء ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد. وأنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءَه، بل هو القادر على كل شيء ولا يشاء شيئاً إلا وهو قادر عليه. وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم: قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة. فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون مجموع فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية - 8/ 449 وقال: وسلف الأمة وأئمتها متفقون على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة. ومتفقون على أنه لا حجّة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرّم فعله، بل لله الحجة البالغة على عباده. مجموع فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية - 8/ 452 وقال: ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع إيمانهم بالقضاء والقدر وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن العباد لهم مشيئة وقدرة، يفعلون بقدرتهم ومشيئتهم ما أقدرهم الله عليه مع قولهم: إن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله. مجموع فتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية - 8/ 459 - عقيدة الإمام أبي بكر محمد الحسين الآجُرِّي في القدر قال رحمه الله: مذهبنا في القدر أن نقول: إن الله عز وجل خلق الجنة وخلق النار، ولكل واحدة منهما أهل، وأقسم بعزته أنه يملأ جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين. ثم خلق آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة. ثم جعلهم فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير. وخلق إبليس، وأمره بالسجود لآدم عليه السلام، وقد علم أنه لا يسجد للمقدور، الذي قد جرى عليه من الشقوة التي سبقت في العلم من الله عز وجل، لا معارض لله الكريم في حكمه، يفعل في خلقه ما يريد، عدلاً من ربنا قضاؤه وقدره. وخلق آدم وحواء عليهما السلام، للأرض خلقهما، وأسكنهما الجنة، وأمرهما أن يأكلا منها رغداً ما شاءا، ونهاهما عن شجرة واحدة أن لا يقرباها، وقد جرى مقدوره أنهما سيعصيانه بأكلهما من الشجرة. فهو تبارك وتعالى في الظاهر ينهاهما، وفي الباطن من علمه: قد قدر عليهما أنهما يأكلان منها: لا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]. لم يكن لهما بُدُّ من أكلهما، سبباً للمعصية، وسبباً لخروجهما من الجنة، إذ كانا للأرض خلقاً، وأنه سيغفر لهما بعد المعصية، كل ذلك سابق في علمه، لا يجوز أن يكون شيء يحدث في جميع خلقه، إلا وقد جرى مقدوره به، وأحاط به علماً قبل كونه أنه سيكون. خلق الخلق، كما شاء لما شاء، فجعلهم شقياً وسعيداً قبل أن يخرجهم إلى الدنيا، وهم في بطون أمهاتهم، وكتب آجالهم، وكتب أرزاقهم، وكتب أعمالهم، ثم أخرجهم إلى الدنيا، وكل إنسان يسعى فيما كُتِبَ له وعليه.

ثم بعث رسله، وأنزل عليهم وحيه، وأمرهم بالبلاغ لخلقه، فبلغوا رسالات ربهم، ونصحوا قومهم، فمن جرى في مقدور الله عز وجل أن يؤمن آمن، ومن جرى في مقدوره أن يكفر كفر، قال الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2] أحب من أراد من عباده، فشرح صدره للإيمان والإسلام، ومقت آخرين، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلن يهتدوا أبداً، يضل من يشاء ويهدي من يشاء لا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]. الخلق كلهم له، يفعل في خلقه ما يريد، غير ظالم لهم، جل ذكره عن أن ينسب ربنا إلى الظلم، إنما يظلم من يأخذ ما ليس له بملك، وأما ربنا عز وجل فله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرَّى، وله الدنيا والآخرة، جل ذكره، وتقدست أسماؤه، أحب الطاعة من عباده، وأمر بها، فجرت ممن أطاعه بتوفيقه لهم، ونهى عن المعاصي، وأراد كونها من غير محبته منه لها، ولا للأمر بها، تعالى الله عز وجل أن يأمر بالفحشاء، أو يحبها، وجل ربنا وعز أن يجري في ملكه ما لم يرد أن يجري، أو شيء لم يحط به علمه قبل كونه، قد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وبعد أن يخلقهم، قبل أن يعملوا قضاء وقدراً. قد جرى القلم بأمره عز وجل في اللوح المحفوظ بما يكون، من برّ أو فجور، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد، ويعدهم عليه الجزاء العظيم، لولا توفيقه لهم ما عملوا ما استوجبوا به منه الجزاء سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21] وكذا ذم قوماً عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها، وأضاف العمل إليهم بما عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء. قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: هذا مذهبنا في القدر (¬1). الشريعة للآجري -1/ 319 ويقول الطحاوي رحمه الله في القدر: خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً وضرب لهم آجالاً، ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته. وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد، إلا ما شاء الله لهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلاً. وكلهم متقلبون في مشيئته بين فضله وعدله. وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره. آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلًّا من عنده. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز – 1/ 125 ¬

(¬1) انظر: ((الشريعة)) (ص144).

وقال: وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار، جملة واحدة، لا يزاد في ذلك العدد، ولا ينقص منه. وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له ... والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله ... وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]. فمن سأل: لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين. فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منوّرٌ قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم، لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك العلم المفقود. ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد قدر، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى في أنه كائن، ليجعلوه غير كائن، لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبدَ لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه. وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض، ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]. وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب:38]، فويل لمن صار في القدر لله خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز-1/ 317

الفصل السابع: أسباب الضلال في القدر وحكم الاحتجاج به

المبحث الأول: أسباب الضلال في القدر والسبب في ضلال كل من القدرية النفاة والقدرية المجبرة في هذا الباب أن كل واحد من الفريقين رأى جزءاً من الحقيقة وعمي عن جزء منها، فكان مثله مثل الأعور الذي يرى أحد جانبي الشيء، ولا يرى الجانب الآخر، فالقدرية النفاة الذين نفوا القدر قالوا: إن الله لا يريد الكفر والذنوب والمعاصي ولا يحبها ولا يرضاها، فكيف نقول إنه خلق أفعال العباد وفيها الكفر والذنوب والمعاصي. والقدرية المجبرة آمنوا بأن الله خالق كل شيء، وزعموا أن كل شيء خلقه وأوجده فقد أحبّه ورضيه. وأهل السنة والجماعة أبصروا الحقيقة كلها، فآمنوا بالحق الذي عند كل واحد من الفرقين، ونفوا الباطل الذي تلبس كل واحد منها. فهم يقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها، ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها وينهى عنها. وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله، وإن كان واجباً أو مستحباً. ولو قال: إن أحب الله، حنث إن كان واجباً أو مستحباً. والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية خلقية، وإرادة دينية شرعية الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص105

المبحث الثاني: حكم الاحتجاج بالقدر

المبحث الثاني: حكم الاحتجاج بالقدر عقيدة الإيمان بالقدر لقيت كما لقي غيرها من أركان الإيمان كثيراً من الاعتراضات, وأثيرت حولها كثير من الشبهات، وليس هذا بمستغرب ما دام الصراع بين الحق والباطل موجوداً منذ أن استكبر إبليس على ربه، وأبى السجود لآدم عليه السلام، وإلى أن تقوم الساعة. ولم يكن هناك داع لطرق هذا الموضوع ... لولا أن القدر قد اشتهر عنه بصفة خاصة: في بطون الكتب, وعلى ألسنة الناس في كل زمان ومكان هذا الموضوع الذي هو موضوع الاحتجاج به, فكل من عرض له موضوع القدر, أو تحدث عنه, أو كتب فيه تجده يناقش هذه المسألة. ومن المعلوم أن كثراً من الكافرين والمشركين والضالين، والمقصرين في عبادة الله والمنحرفين عن منهج الله قد وجدوا في القدر مجالاً للاحتجاج به على كفرهم, وفسادهم, وتقصيرهم. ولذلك ورد في الكتاب والسنة, وأقوال العلماء ما يرد على هؤلاء جميعاً ويدحض حججهم كلها. لهذا كله كان من تمام الكلام في القدر أن نناقش أهم هذه الأسئلة التي تثار حوله، والمقصود: الأسئلة التي تثار حول القدر على وفق عقيدة السلف أهل السنة والجماعة، وإلا فالأسئلة التي أثيرت وتثار على مذاهب المنحرفين في القدر كثيرة وكثيرة جداً، ومن ثم فسنقصر الحديث على الأسئلة التي أثيرت حول عقيدة السلف في القدر فقط. وستكون طريقتنا أن نذكر كل حجة على شكل سؤال, ثم نعقبه مباشرة بالمناقشة والبيان، وهكذا في الحجة الثانية وإلى آخر الحجج. السؤال الأول: وهو سؤال عام يجمع حججاً عديدة، ولذلك كان من أشهر الحجج وأكثرها شيوعاً عند كل من انحرف عن الطريق المستقيم في باب القدر، وملخصه: أن كل من أذنب ذنباً، أو ارتكب معصية فإنه يحتج بأنه مقدر عليه، وأنه أمر مقدور، حاصل لا محالة، ومن ثم فما ذنب العاصي في معصيته، ما دامت مكتوبة عليه، وهؤلاء يستدلون بأن آدم عليه السلام قد احتج بالقدر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: حج آدم موسى، وذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى, اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، ثلاثاً)) (¬1). جواب هذا السؤال ومناقشته من وجوه: 1 - أنه قد علم بالاضطرار أن الاحتجاج بالقدر حجة باطلة وداحضة باتفاق كل ذي عقل, ودين من جميع العالمين، ويوضح هذا أن الواحد من هؤلاء إما أن يرى القدر حجة للعبد، وإما أن لا يراه حجة للعبد، فإن كان القدر حجة للعبد فهو حجة لجميع الناس، فإنهم كلهم مشتركون في القدر، فحينئذ يلزم أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه، ويأخذ ماله، ويفسد حريمه, ويضرب عنقه, ويهلك الحرث والنسل, وهؤلاء جميعاً كذابون متناقضون, فإن أحدهم لا يزال يذم هذا, ويبغض هذا, ويخالف هذا, حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه، وينكرون عليه، فإن كان القدر حجة لمن فعل المحرمات, وترك الواجبات, لزمهم ألا يذموا أحداً, ولا يبغضوا أحداً, ولا يقولوا في أحد: إنه ظالم ولو فعل ما فعل، ومعلوم أن هذا لا يمكن أحداً فعله، ولو فعل الناس هذا لهلك العالم، فتبين أن قولهم فاسد في العقل كما أنه كفر في الشرع. ¬

(¬1) رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652).

وهذا يدل على ما يختلج في النفوس من شهوات وشبهات, ولذلك تراهم يحتجون بالقدر على أفعالهم ومعاصيهم, وفي نفس الوقت ينتقمون ممن اعتدى عليهم أو ظلمهم، ولو احتج عليهم بالقدر لما قبلوا، بل لو كان الاعتداء بما يحسن الاحتجاج بالقدر عليه كالمصائب التي يقدرها الله سبحانه وتعالى لاعترضوا ولم يقبلوا أن يحتج بالقدر من كانت على يديه هذه المصائب دون عمد منه أو تفريط, وعند الاستقراء تجد أن هؤلاء يحتجون بالقدر في ترك حق ربهم، ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقاً لهم، ولا مخالفة أمرهم، ويقول ابن تيمية عن هؤلاء: (ولهذا تجد المحتجين والمستندين إليه من النساك, والصوفية، والفقراء, والعامة, والجند, والفقهاء وغيرهم يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس، فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلاً، بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم، وهذا أصل شريف من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس) (¬1) , ومعلوم أن الصوفية هم شر من ابتلي في هذا الباب حيث اعتقدوا أن ما وقع فالله يحبه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فالمقدور هو محبوب لله تعالى مهما كان. 2 - أنه يلزم على الاحتجاج بالقدر لازم باطل ألا وهو تعطيل الشرائع، وحين تعطل الشرائع يلزم عليها أن يكون إبليس, وفرعون, وقوم نوح, وعاد وكل من عذبه الله بسبب مخالفته أمره معذوراً, ويلزم أيضاً ألا يفرق بين المؤمنين والكفار, ولا بين أولياء الله وأولياء الشيطان, وهذه كلها لوازم معلوم بطلانها بالضرورة. والقدرية ثلاثة أصناف: الأولى: القدرية المشركية، وهم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي فقالوا: لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [الأنعام:148]، وهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع وإن كانوا معترفين بربوبية الله العامة لكل مخلوق. الثانية: القدرية الإبليسية: وهم الذين يصدقون بالشرع والقدر، ولكن عندهم أن هذا تناقض, وهؤلاء كثير في سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة. الثالثة: القدرية المجوسية، وهم الذين يجعلون لله شركاء في خلقه، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشر، ويقولون إن الذنوب ليست واقعة بمشيئة الله ولا قدرته، وهؤلاء هم المعتزلة الذين يعظمون الأمر والنهي، ولكنهم يشركون معه في باب القدر، ولهذا سموا بالقدرية المجوسية، فهؤلاء لا ينظرون إلى القدر في المصائب ولا في المعائب، في حيث أن الأولين يحتجون بالقدر في المصائب والمعائب، وكل منهم ضال في هذا الباب, وهو مقصر إما في جانب الشرع، أو في جانب القدر. ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولم تقطع يد سارق، ولا أقيم حد على زان، ولا جوهد في سبيل الله. 3 - أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وهو متمكن من الإيمان قادر عليه, وكما هو معلوم فإن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل لكل مكلف، ومن ثم فالإنسان قادر متمكن، وقد خلق الله فيه القدرة على الإيمان، وحينئذ فحين لا يؤمن يكون هو الذي لا يريد الإيمان، ومادام الأمر كذلك فليس لأحد أن يقول: لماذا لم يجعلني الله مريداً للإيمان، لأنه لو أراد الإيمان لقدر عليه، ومادام الإنسان مريداً قادراً فاحتجاجه بالقدر باطل. وينبغي أن يعلم أن الاحتجاج بالقدر إنما يرد على من لا يقر للإنسان بإرادة ولا قدرة كالجهمية والأشاعرة، أما على مذهب أهل السنة الحقيقي فلا يرد، لأنهم يقولون إن الإنسان مريد وفاعل حقيقة، وله قدرة يقع بها الفعل. ¬

(¬1) ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 58 - 59).

4 - وأقرب مثال على بطلان الاحتجاج بالقدر أن يقال: إذا كان معلوماً أن الله قد علم وكتب أن فلاناً يتزوج امرأة ويطؤها ويولد له، وأن فلاناً يبذر البذر فينبت الزرع ... إلخ ولا يمكن لأحد أن يحتج بالقدر هنا فيقول: أنا لا أتزوج أو أطأ امرأة، فإن كان قدر الله أن يولد لي ولد فسيولد، أو يقول: أن لا أبذر البذر، فإن كان قدر الله أن تنبت أرضي زرعاً فستنبت، لأن من قال هذا عد من أجهل الجاهلين، إذا وضح هذا المثال فنقول: إن الله تعالى علم وكتب أن فلاناً يؤمن ويعمل صالحاً فيدخل الجنة، وفلاناً يعصي ويفسق فيدخل النار، وحينئذ فمن قال: إن كنت من أهل الجنة فأنا سأدخلها بلا عمل صالح، كان قوله قولاً باطلاً متناقضاً، لأنه علم أنه يدخل الجنة بعمله الصالح، فلو دخلها بلا عمل كان هذا مناقضاً لما علمه الله وقدره، وهذا شبيه بمن قال: أنا لا أطأ امرأة, وإن كان قد قدر أن يأتيني منها ولد فسيأتيني (¬1). ومعلوم أن جميع الأسباب قد تقدم علم الله بها، وكتابته لها، وتقديره إياها، وقضاؤه بها، كما تقدم ربط ذلك بالمسببات، ومنها الأسباب التي بها يخلق الله النبات من المطر وغيره، فمن ظن أن الشيء إذا علم وكتب أنه يكفي ذلك في وجوده, ولا يحتاج إلى ما به يكون من الفاعل الذي يفعله وسائر الأسباب فهو ضال جاهل من وجهين: أحدهما: (من جهة كونه جعل العلم جهلاً: فإن العلم يطابق المعلوم، ويتعلق به على ما هو عليه، وهو سبحانه قد علم أن المكونات تكون بما يخلقه من الأسباب, لأن ذلك هو الواقع فمن قال: إنه يعلم شيئاً بدون الأسباب, فقد قال على الله الباطل, وهو بمنزلة من قال: إن الله يعلم أن هذا الولد ولد بلا أبوين، وأن هذا النبات نبت بلا ماء، فإن تعلق العلم بالماضي والمستقبل سواء) (¬2)، فالله أخبر أن الأعمال هي سبب في الثواب والعقاب, فلو قال قائل: إن الله قد أخرج آدم بلا ذنب, وأنه قد قدر عليه، أو قال: إن الله قد غفر لآدم بلا توبة، وأنه قد علم ذلك، كان هذا كذباً وبهتاناً, بخلاف ما إذا أقر بأن آدم قد أذنب، وأنه قد تاب فتاب الله عليه، وكل ذلك مقدر، فإنه يكون صادقاً، ويقاس على ذلك ما ذكره الله سبحانه وتعالى من أن السعادة والشقاوة تكون بالأعمال المأمور بها والمنهي عنها (¬3). ¬

(¬1) انظر: ((القدر)) لابن تيمية (ص: 265–266)، وانظر: ((رسالة في تحقيق التوكل)) لابن تيمية (ص: 93) ضمن ((جامع الرسائل)) لابن تيمية. (¬2) ((القدر)) لابن تيمية (ص: 277). (¬3) ((القدر)) لابن تيمية (ص: 278 - 279).

والثاني: (أن العلم بأن الشيء سيكون, والخبر عنه بذلك, وكتابة ذلك لا يوجب استغناء ذلك عما به يكون من الأسباب التي لا يتم إلا بها، كالفاعل، وقدرته، ومشيئته، فإن اعتقاد هذا غاية في الجهل, إذ هذا العلم ليس موجباً بنفسه لوجود المعلوم باتفاق العلماء بل هو مطابق له على ما هو عليه، لا يكسبه صفة، ولا يكتسب منه صفة، بمنزلة علمنا بالأمور التي قبلنا، كالموجودات التي كانت قبل وجودنا، مثل علمنا بالله وأسمائه وصفاته، فإن هذا العلم ليس مؤثراً في وجود المعلوم باتفاق العلماء, وإن كان من علومنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم, كعلمنا بما يدعونا إلى الفعل، ويعرفنا صفته وقدره، فإن الأفعال الاختيارية لا تصدر إلا ممن له شعور وعلم, إذ الإرادة مشروطة بوجود العلم، وهذا التفصيل الموجود في علمنا بحيث ينقسم إلى علم فعلي له تأثير في المعلوم، وعلم انفعالي لا تأثير له في وجود المعلوم هو فصل الخطاب في العلم) (¬1) , وهكذا علم الله تبارك وتعالى فعلمه بنفسه - سبحانه - لا تأثير له في وجود المعلوم، أما علمه بمخلوقاته التي خلقها بمشيئته وإراداته فهو مما له تأثير في وجود معلوماته, ولهذا كان الخلق مستلزماً للعمل ودليلاً عليه، (وأما إذا أخبر بما سيكون قبل أن يكون، فعلمه وخبره حينئذ ليس هو المؤثر في وجوده، لعلمه وخبره، به بعد وجوده، لثلاثة أوجه: أحدهما: أن العلم والخبر عن المستقبل كالعلم والخبر عن الماضي. الثاني: أن العلم المؤثر هو المستلزم للإرادة المستلزمة للخلق، ليس هو ما يستلزم الخبر ... الثالث: أنه لو قدر أن العلم والخبر بما سيكون له تأثير في وجود المعلوم المخبر به، فلا ريب أنه لا بد مع ذلك من القدرة والمشيئة فلا يكون مجرد العلم موجباً له بدون القدرة والإرادة، فتبين أن العلم والخبر والكتاب لا يوجب الاكتفاء بذلك عن الفاعل القادر المريد، ومما يدل على ذلك، أن الله سبحانه وتعالى يعلم ويخبر بما يكون من مفعولات الرب، كما يعلم أنه سيقيم القيامة ويخبر بذلك، ومع ذلك فمعلوم أن هذا العلم والخبر لا يوجب وقوع المعلوم المخبر به بدون الأسباب التي جعلها الله أسباباً له) (¬2). ومن ثم فالاحتجاج بعلم الله السابق باطل، وبهذا تبطل كثير من الشبه التي تثار حول القدر. 5 - أما حديث احتجاج آدم وموسى، فقد تكلم فيه العلماء وأطالوا الإجابة عنه، وغالب أجوبتهم بعيدة عن الصواب، ومن الأجوبة: أ- أن آدم حج موسى لأنه أبوه، فحجه كما يحج الرجل ابنه، وهذا فاسد؛ لأن الحجة يجب المصير إليها سواء كانت مع الأب أو الابن, أو العبد أو السيد. ب – وقيل: إن آدم حج موسى لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة، وهذا كالذي قبله، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تلوم الأمم التي قبلها المخالفة لرسلها. ج- وقيل: حجه لأنه لامه في غير دار التكليف، ولو لامه في دار التكليف لكانت حجة لموسى عليه، وهذا فاسد، كما ذكر ابن القيم، لوجهين: أحدهما: أن آدم لم يقل له لمتني في غير دار التكليف، وإنما قال: أتلومني على أمر قدر عليّ قبل أن أخلق، فلم يتعرض للدار، وإنما احتج بالقدر السابق. والثاني: أن الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف، فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة. ¬

(¬1) ((القدر)) لابن تيمية (ص: 280) (¬2) ((القدر)) لابن تيمية (ص: 281).

د- وقيل: إنه حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة، وتفرد الرب - سبحانه وتعالى- بربوبيته، وقالوا: إن مشاهدة العبد الحكم لا يدع له استقباح سيئة؛ لأنه شهد نفسه عدماً محضاً، قالوا ومن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم، وهذا قول بعض الصوفية، ويقول عنه ابن القيم: (وهذا المسلك أبطل مسلك سلك في علم الحديث ... ولو صح لبطلت الديانات جملة، وكان القدر حجة لكل مشرك, وكافر, وظالم، ولم يبق للحدود معنى, ولا يلام جانٍ على جنايته، ولا ظالم على ظلمه، ولا ينكر منكر أبداً) (¬1) هـ - وقيل: إنما حجه لأنه كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لومه، وهذا لا يصح أيضاً لوجوه منها: - أن آدم لم يذكر ذلك في جوابه, ولا جعله حجة على موسى، ومنها: أن موسى عليه الصلاة والسلام، أعرف بالله من أن يلومه على ذنب قد تاب منه (¬2). وإذا تبين فساد هذه الأقوال فما هو الجواب الصحيح في معنى هذا الحديث؟ الجواب الصحيح: (أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر، فإنه باطل، وموسى عليه السلام، كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه، وتاب الله عليه, واجتباه، وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة لا على الخطيئة, فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب) (¬3). وقد ذكر هذا الجواب ابن القيم – رحمه الله – وحكاه عن ابن تيمية، ثم قال: (وقد يتوجه جواب آخر، وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته، كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد, ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً, ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه: أن آدم قال لموسى، أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق، فإذا أذنب الرجل ذنباً ثم تاب منه توبة، وزال أمره حتى كأن لم يكن، ثم أنبه مؤنب عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول: هذا أمر كان قد قدر عليَّ قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكره حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به، وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً, ويرتكب باطلاً كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله) (¬4). وهذا الذي ذكره ابن القيم جواب جيد، وإن كان ظاهره أنه يرجع إلى الجواب الأول، لأن من أذنب ذنباً ثم تاب منه، وجاء الخبر من الله أنه تاب عليه من هذا الذنب، فإذا كان قد ترتب على هذا الذنب عقوبة معجلة فهي من قبيل المصائب، والله أعلم. هذا هو ملخص الرد على سؤال الاحتجاج بالقدر، وربما يدخل فيها بعض الأسئلة التي سترد فيما بعد، فلعل في هذه الإجابة ما يغني عن كثير من الأمور التي تحتاج إلى جواب. ¬

(¬1) ((شفاء العليل)) (ص: 14). (¬2) ((شفاء العليل)) (ص: 14). (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 154 - 155)، وانظر: ((القدر)) لابن تيمية (ص: 108، 178)، و ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/ 89)، و ((منهاج السنة)) (2/ 10)، و ((رسالة الاحتجاج بالقدر)) لابن تيمية (ص: 26)، و ((شفاء العليل)) (ص: 18)، و ((الكواشف الجليلة)) (ص: 525). (¬4) ((شفاء العليل)) (ص: 18).

السؤال الثاني: وملخصه: لماذا منّ الله سبحانه وتعالى بالهداية على المؤمنين، دون الكافرين، وإذا كان – تعالى- قد بين طرق الهدى للناس، فلماذا أعان المؤمن حتى أصبح مؤمناً طائعاً، ولم يعن الكافر فأصبح عاصياً كافراً؟ وجواب ذلك كما يلي: 1 - أن الزعم بأن منة الله بالهداية على المؤمنين دون الكافرين ظلم منه، باطل لأمرين: أحدهما: أن هذا تفضل من الله، كما قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] وكما قالت الأنبياء: إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم:11]، فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد قوة وعلم، وصحة، وجمال، ومال، والله – سبحانه وتعالى- قد تفضل على جميع عباده بنعم جليلة لا تحصى، ولو عبدوا الله بأنواع العبادات والقربات طوال أعمارهم ليلاً ونهاراً لما جاءت إلا في مقابل جزء صغير من نعم الله وأفضاله عليهم، ولذلك فالله – تعالى- يدخل عباده الجنة برحمته لا بأعمالهم، وأعمالهم سبب لدخول الجنة لا بدل لها، فإذا تفضل على بعض عباده بالهداية كان ذلك له سبحانه، ولا يعد ظلماً. والثاني: أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والله سبحانه وتعالى إنما يضع العقوبة في محلها، فإذا بين سبحانه الهدى للناس جميعاً، وأقام الحجة عليهم, أقدرهم على الإيمان وعدمه, كان كل ذلك محض العدل منه، فحين يمن على بعض عباده بالإيمان ولا يمن على بعضهم لا يكون ذلك ظلماً منه سبحانه وتعالى (¬1). 2 - أن الله – سبحانه وتعالى – قد قامت حجته على من منعهم الهدى، وذلك بتخليته بينهم وبين الهدى، فالله تعالى قد أرسل لهم الرسل ليردوهم إلى الصراط المستقيم, ويدلهوهم عليه، كما أقام لهم أسباب الهداية ظاهراً وباطناً، ولم يحل سبحانه وتعالى بينهم وبين تلك الأسباب التي توصلهم إلى الهداية، فلم يكلف سبحانه الصغير والمجنون، فالله لم يمنعهم من الهدى، ولم يحل بينهم وبينه، وحين تكون الحجة قائمة عليهم لا يبقى لمعترض اعتراض على توفيق الله ومنته لبعض عباده بالهدى والتوفيق (¬2)، وكم لله سبحانه وتعالى من النعم على الكفار (¬3). 3 - أما قول من يقول: لماذا أعان المؤمن دون الكافر؟ فهذا باطل لوجوه: أحدها: أن حقيقة هذا القول: لماذا لم يهد الله جميع الناس، وهذا فاسد لأن لله تعالى، حكماً عظيمة وجليلة في خلق الناس متفاوتين، ولو شاء سبحانه وتعالى أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، ولكنه، تعالى لم يفعل لحكم عظيمة، ظهر بعضها للعباد, وبعضها لم ظهر (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((منهاج السنة)) (1/ 92 - 93). (¬2) انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 80). (¬3) انظر: ((الفصل)) لابن حزم (3/ 187). (¬4) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 284)

الثاني: أن الإعانة من أفعاله تعالى, ومن ثم فما فعله سبحانه وتعالى فلحكمة, وما لم يفعله فلانتفاء الحكمة، أما الطاعة فهي من فعل الإنسان، وتعود مصلحتها له، فإذا أعان الله عبداً من عباده كان فضلاً منه، وإذا خذله كان ذلك عدلاً منه، ولما كان من المعلوم أن الله تعالى قد بين الهدى للناس وأقام الحجة عليهم، فحينئذ من أقبل على الله مؤمناً به مصدقاً برسوله، فالله تعالى يعينه على الهدى ويمكنه منه، أما من كذب رسله وأعرض عن هداه فإن الله تعالى يخذله ولا يمكنه من الهدى كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، فهم الذين استحبوا العمى على الهدى فعاقبهم الله بالخذلان, وسد أبواب الهداية عنهم عقوبة لهم (¬1) , (فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته ومحبته، وذكره وشكره، فأبى العبد إلا إعراضاً وكفراً، قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره، وصده عن الإيمان، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى، وذلك عدل منه فيه) (¬2). الثالث: أن التكليف إرشاد وهدى، وتعريف للعباد بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، فمن عرف أن هذا الفعل يضره وهذا ينفعه، فعليه أن يذل لله ويخضع له حتى يعينه على فعل ما ينفعه، ولا يقول: أنا لا أفعل حتى يخلق الله فيَّ الفعل، كما أنه لو هجم عليه عدو أو سبع فإنه يهرب ويفر ولا يقول: سأنتظر حتى يخلق الله في الهرب (¬3). الرابع: أن إعانة الله تعالى للكفار قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة يتضمن مفسدة أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، ومثال ذلك، أن الجهاد في سبيل الله لا شك أنه طاعة، ولكن حين يفضي إلى بعض المفاسد التي ترتب على خروج المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أن الله تعالى ثبط المنافقين لأنه كرهه منهم، قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46] فأهم المفاسد المترتبة على خروج هؤلاء مع المؤمنين: زيادة المؤمنين خبالاً أي: فساداً وشرا، وإيضاعهم خلالهم بالسعي بينهم بالفساد والشر، وإرادتهم الفتنة، وفي المؤمنين سماعون لهم قابلون منهم، مستجيبون لهم، فينتج من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشرور والمفاسد ما هو أعظم من مصلحة خروجهم (¬4). ومن هذا المثال يتضح أن لله حكماً حين يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه. الخامس: أن الله خلق الإنسان وهو متمكن من الإيمان، قادر عليه، فلو أراده لفعله, فإذا لم يؤمن كان ذلك دليلاً على أنه لم يرده، لا بعجزه وعدم قدرته، لأنها موجودة، وحينئذ: (فمن أراد الطاعة وعلم أنها تنفعه، أطاع قطعاً إذا لم يكن عاجزاً، فإن نفس الإرادة الجازمة للطاعة مع القدرة توجب الطاعة، فإنها مع وجود القدرة والداعي التام توجب وجود المقدور) (¬5) ومن لم يرد الطاعة فإنه لا يفعلها، ولا يطلب أن يخلقها الله تعالى فيه ويعينه عليها، لأنه لو أرادها لفعلها (¬6). ¬

(¬1) انظر: ((القضاء والقدر)) لمحمد متولي الشعراوي (ص: 49 - 50). (¬2) ((شفاء العليل)) (ص: 86). (¬3) انظر: ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 7). (¬4) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 285)، وانظر: ((منهاج السنة)) (2/ 38). (¬5) ((منهاج السنة)) (2/ 7). (¬6) ((منهاج السنة)) (2/ 7).

السادس: ننبه إلى خطأ المعتزلة في هذا الباب، فإنهم قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، وقالوا: إن الله إذا أمر العباد فيلزمه أن يعينهم، فلما رأوا أن بعض العباد لم يعن ومات كافراً، قالوا: لا يجوز أن يكون الله خالقاً لأفعال العباد، لأن من أمر غيره بأمر فلا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله، كالبشر والطلاقة وتهيئة المقاعد والمساند ونحو ذلك، وقد أجاب عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فبين أن قول المعتزلة هذا يكون على وجهين: أحدهما: أن يكون الآمر أمر غيره لمصلحة تعود إليه، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يصلح ماله، فهذا تلزم إعانته، والثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالآمر بالمعروف إذا أعان المأمور على البر والتقوى، فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة، فهذا أيضاً تلزم إعانته، ولكن تبقى حالة وهي: ما إذا كان الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور، لا نفع يعود إليه من فعله، كالناصح فإنه قد يأمر غيره وينهاه مريداً للنصيحة، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل, إذ ليس كل ما يكون من مصلحته أن يأمر غيره وينصحه، يكون من مصلحته أن يعينه عليه، بل قد تكون مصلحته إرادة ما يضاده، كالرجل الذي يستثير غيره في خطبة امرأة، فإنه يأمره أن يتزوجها لأن ذلك مصلحة المأمور, وإن كان يرى أن مصلحته في أن يتزوجها هو دونه، فإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين ففي حق الله تعالى أولى - ولله المثل الأعلى - فالله أمر خلقه على ألسنة رسله بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، فمنهم من استجاب وأعانه الله ومنهم من لم يعنه، ولا يلزمه سبحانه إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة، فتبين أن الله إذا أمر العباد بما يصلحهم بالأمر لم يلزم من ذلك أن يعينهم، وهذا ما غلط فيه المعتزلة (¬1). 4 - إذا تبين ما سبق، وأن الاعتراض مردود، وحجة الله قد قامت على عباده، فتبقى مسألة: وهي: أصل القدر، وهو كونه - تعالى - قدر المقادير فأوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى، مع كونه – تعالى- غنياً عن خلقه الغنى التام، فما أصل القدر؟ الجواب ما قاله الطحاوي: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه, لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان, وسلم الحرمان, ودرجة الطغيان, فالحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة, فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين) (¬2) وعلم القدر قال عنه علي رضي الله عنه: (القدر سر الله فلا تكشفه) (¬3) وسماه الطحاوي بالعلم المفقود، لأن الله طواه عن الخلق (¬4) , ونحن نؤمن بأن له تعالى في خلقه حكماً عظيمة, وإذا كان هناك من الحكم ما هون خاف فلا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها، ولا من جهلنا انتفاء حكمته تبارك وتعالى (¬5). السؤال الثالث: يقول مورد هذا السؤال: إذا كانت المعاصي مقدرة من الله، فلماذا يعاقب عليها؟ والجواب عليه من وجوه: 1 - هذا السؤال ليس بعيداً عن السؤال السابق، وفيما سبق من جوابه ما يغني عن جواب هذا السؤال, ولكن نزيد الأمر بياناً وتمحيصاً بإضافة الوجوه التالية: ¬

(¬1) انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 3839). (¬2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 276). (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 277) (¬4) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 292) (¬5) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 292)

2 - أن الله سبحانه وتعالى قد أنعم على جميع عباده - وفيهم العصاة - بنعم عظيمة, ومنها أمران عظيمان هما أصل السعادة: أحدهما: أن الله خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة، فكل مولود يولد على الفطرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ... )) (¬1) وحينئذ فإذا تركت النفس وفطرتها لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته شيئاً، ولم تشرك به, ولم تجحد ربوبيته، ولكن إذا اقترن بها شيطان من شياطين الإنس أو الجن فقد يزين لها الإغواء، فتنحرف عن الهدى. الثاني: أنه سبحانه وتعالى هدى الناس هداية عامة, وذلك بما أودعه فيهم من المعرفة, وبما أرسل من الرسل, وبما أنزل من الكتب، وقد هدى الله جميع العباد إلى معرفته والإيمان، حتى قامت الحجة عليهم، فإذا ما أعرض الإنسان عن الهدى كان هو المريد لذلك المختار له، ومن ثم فهو الذي يتحمل عاقبة إعراضه وكفره (¬2). 3 - أن الأعمال والأقوال من الطاعات والمعاصي من العبد، بمعنى أنها قائمة به، وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها المتحرك، الذي يعود حكمها عليه، وهي مع ذلك مخلوقة لله - سبحانه وتعالى- وهذا لا يعارض كونها فعلاً للعبد، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وبناء على ذلك: فمن فعل المعاصي، فقد فعلها باختياره فهو الذي أعرض وتولى عن الهدى, وهو الذي توجه إلى المعصية وفضلها على الطاعة, فإذا اعترض العاصي هنا وقال: إن المعصية كانت مكتوبة عليَّ. فيقال له: قبل أن تقترف المعصية، ما يدريك عن علم الله تعالى؟ فما دمت لا تعلم، ومعك الاختيار والقدرة، وقد وضحت لك طرق الخير والشر، فحينئذ إذا عصيت فأنت مختار للمعصية، المفضل لها على الطاعة, المعرض عن الهدى, وإذا كان الأمر كذلك فتتحمل عقوبة معصيتك, ولا حجة لك مطلقاً (¬3). 4 - ومما يوضح الوجه السابق أن يقال: إذا كانت المعصية مقدرة من عند الله فكيف يعاقب عليها، نقول له: إذا كان الله قد علم وكتب أن فلاناً سيعصي وقدر الله سيقع لا محالة، كما علمه سبحانه، فهل يقال: إنه مستحق للعقوبة بذلك, أم أن الله أخبر أنه لا يعاقب إلا بعد وقوع المعصية منه؟ أم أن الأمر سيان؟ فإذا كان من المقطوع به أن العقاب لا يقع إلا بعد وقوع المعاصي من العباد، دل ذلك على أن القدر السابق لا حجة فيه للعاصي, فالله سبحانه قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم، وما هم عاملون، وما هم إليه صائرون, ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه, وابتلاهم من الأمر والنهي، والخير والشر، بما أظهر معلومه، فاستحقوا المدح والذم، والثواب والعقاب، بما قام بهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم السابق، ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأرسل رسله وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، إعذاراً إليهم، وإقامة للحجة عليهم، لئلا يقولوا: كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟ إذا فقول القائل: كيف يعاقب العاصي وقد قدر عليه المعصية؟ باطل ومردود. 5 - والسؤال بصيغته يدل على أن المقصود من إيراده من جانب المنحرفين إثارة الشبهة والإفساد، ولذلك تجدهم يركزون على ناحية المعاصي فقط، فيقولون: كيف يقدر الله المعاصي، ثم يعاقب عليها، ولكنهم يتجاهلون الشق الثاني من السؤال الذي يجب أن يرد مع الشق الأول، وهو: إذا كانت الطاعات بقدر الله فلماذا يثيب الله عليها؟ ¬

(¬1) رواه البخاري (6599)، ومسلم (2658). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 173). (¬3) ((شفاء العليل)) (ص: 35)، وانظر: ((القضاء والقدر)) للشعراوي (ص: 56).

إذن لماذا يوردون الشق الأول دون الثاني؟ ولماذا يفرقون بين السؤالين؟ إن الهوى ومحاولة إيجاد مبررات الانحراف والعصيان هو الداعي لذلك (¬1) كما قال بعض العلماء: (أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وفق هواك تمذهبت به) (¬2). 6 - وأخيراً يقال: إن العقاب على المعاصي يقع لأن الإنسان يفعلها بإرادته واختياره، ولذلك لا يعاقب ما ليس من اختياره، فلو كان في جسم الإنسان برص أو عيب خلق فيه، فإنه لا يستحسن ذمه ولا عقابه على ذلك، فعلم أن الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول (¬3). السؤال الرابع: وملخصه: كيف يأمر الله الكافر بالإيمان، ولا يريده منه؟ ويقول يلزم أن يكون الكافر مطيعاً لأنه فعل ما هو مراد الله تعالى. والجواب من وجوه: 1 - أن منشأ الضلال في هذا السؤال هو التسوية بين الإرادة والمشيئة وبين المحبة والرضا، ... والقول الحق الذي تعضده أدلة الكتاب والسنة، وأدلة العقول، وملخص القول الحق: أن هناك فرقاً بين الإرادة والمحبة والرضى، إذ إن النصوص دالة على أن كل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وإرادته، وهذا يشمل الطاعات والمعاصي، ثم إن النصوص دلت على أن الله لا يحب الكفر ولا المعاصي ولا الفساد، وقد اتفقت الأمة على أن الله يكره المنهيات دون المأمورات، ويحب المأمورات دون المنهيات، فالطاعات يريدها الله من العباد الإرادة المتضمنة لمحبته لها، ورضاه بها، إذا وقعت وإن لم يفعلها، والمعاصي يبغضها ويكره من يفعلها من العباد وإن شاء أن يخلقها هو لحكمة اقتضت ذلك، ولا يلزم إذا كرهها للعبد لكونها تضر بالعبد أن يكره أن يخلقها هو لما له فيه من الحكمة، وكون الإرادة لا تستلزم المحبة مما هو مستقر في فطر العقول وفي واقع الناس، كإرادة المريض للدواء الذي يبغضه، وكمحبة المريض للطعام الذي يضره، ومحبة الصائم للطعام والشراب الذي لا يريد أن يأكله ولا يريد أن يشربه, ومحبة الإنسان للشهوات التي لا يريدها والتي يكرهها بعقله ودينه، فإذا عقل ثبوت أحدهما دون الآخر, وأن أحدهما لا يستلزم الآخر, فكيف لا يمكن ثبوت ذلك في حق الخالق تعالى ولله المثل الأعلى (¬4). إن هذا كاف في الإجابة على هذا السؤال ولكن نزيد الأمر وضوحاً بإضافة الوجوه التالية: 2 - أن يقال: المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لله، مرضي له، فما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد، والمراد لغيره: هو المراد بالعرض، وهذا قد لا يكون مقصوداً لما يريد، ولا فيه مصلحة بالنظر إلى ذاته، ولكنه وسيلة إلى مقصوده فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((القضاء والقدر)) للشعراوي (ص: 54). (¬2) ((منهاج السنة)) (1/ 362). (¬3) انظر: ((منهاج السنة)) (1/ 361 - 362). (¬4) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 279–280)، و ((منهاج السنة)) (2/ 35 - 36). (¬5) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 280–281)، و ((منهاج السنة)) (2/ 36).

ومما يوضح ما سبق ما عقب عليه شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة فقد قال: (وعلى هذا ينبني مسألة محبة الرب – عز وجل – نفسه، ومحبته لعباده، فإن الذين جعلوا المحبة والرضا هو المشيئة العامة قالوا: إن الرب لا يحب في الحقيقة ولا يحب، وتأولوا محبته – تعالى – لعباده بإرادة ثوابهم، ومحبتهم له بإرادة طاعتهم له والتقرب إليه، ومنهم طائفة كثيرة قالوا: هو محبوب يستحق أن يحب، ولكن محبته لغيره بغيره بمعنى مشيئته، وأما السلف، والأئمة, وأئمة الحديث، وأئمة التصوف وكثير من أهل الكلام والنظر .. فأقروا بأنه محبوب لذاته، بل لا يستحق أن يحب لذاته إلا هو، وهذا حقيقة الألوهية، وهو حقيقة ملة إبراهيم ومن لم يقر بذلك لم يفرق بين الربوبية والإلهية، ولم يجعل الله معبوداً لذاته، ولا أثبت التلذذ بالنظر إليه ... وأما الذين أثبتوا أنه محبوب، وأن محبته لغيره بمعنى مشيئته، فهؤلاء ظنوا أن كل ما خلقه فقد أحبه وهؤلاء قد يخرجون إلى مذاهب الإباحة فيقولون: إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى ذلك، وأن العارف إذا شهد المقام لم يستحسن حسنة، ولم يستقبح سيئة, لشهوده القيومية العامة وخلق الرب لكل شيء) (¬1) ومن هذا يتبين أن الانحراف في هذه المسألة، مسألة هل الإرادة مستلزمة للمحبة؟ قد لا يقف عند حد، بل قد يوصل إلى الكفر وإبطال الشرائع. 3 - أن الإرادة نوعان: إرادة تتعلق بالأمر، وإرادة تتعلق بالخلق، فالإرادة المتعلقة بالأمر: أن يريد من العبد فعل ما أمره، وهذه الإرادة متضمنة للمحبة والرضا، وهي الإرادة الدينية الشرعية، وأما إرادة الخلق، فأن يريد ما يفعله هو، وهي المشيئة, وهي الإرادة الكونية القدرية، وحينئذ فالطاعة موافقة للأمر المستلزم لتلك الإرادة، فتكون طاعة محبوبة مرضياً عنها, أما المعصية فليست مرادة لله تعالى، بالاعتبار الأول، أي الإرادة الدينية، وحين تكون موافقة للنوع الثاني أي الإرادة الكونية لا تكون طاعة بمجرد ذلك (¬2) وبهذا التفصيل في باب الإرادة تزول كل الإشكالات. ومما يوضح هذا الأمر أن يقال: الإرادة نوعان: أحدهما: بمعنى المشيئة وهو: أن يريد الفاعل أن يفعل فعلاً فهذه الإرادة المتعلقة بفعله, والثاني: أن يريد من غيره أن يفعل فهذه الإرادة لفعل الغير, وكلا النوعين مفعول في الناس وكل من الجهمية والقدرية قال بنوع واحد فقط, فالجبرية قالوا بالنوع الأول فقط لأن الأمر عندهم يتضمن الإرادة، والقدرية قالوا بالنوع الثاني لأن الله عندهم لا يخلق أفعال العباد، ولكن القول الصحيح إثبات النوعين من الإرادة كما أثبت ذلك السلف والأئمة لأن الله تعالى أمر الخلق بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم, ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله فأراد هو - سبحانه - أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلاً له, ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فتبين أن جهة خلقه - سبحانه - لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه بيان ظاهر, مصلحة للعبد أو مفسدة (¬3). 5 - بالوجوه السابقة يتضح جواب هذا السؤال, فالله - تعالى - أمر الكافر بالإيمان وحين أمره هيأ له أسبابه، ففطره على الفطرة السليمة، وبين له طرق الهدى, وأعطاه الإرادة والقدرة على الفعل, ولكن كونه سبحانه لم يرد الإيمان منه كوناً, لا يعارض هذا ولا يتناقض معه، وليس فيه حجة لأحد، إذ إن الطاعة هي في موافقة الأمر لا موافقة الإرادة، فتبين بذلك أن الله قد يأمر الكافر بالإيمان شرعاً ولا يريده منه كوناً. ¬

(¬1) ((منهاج السنة)) (2/ 37). (¬2) انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 38). (¬3) انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 35).

وكذلك فإن الكافر لا يكون مطيعاً لأنه فعل ما هو مراد لله كوناً، لأن الكفر قد نهى الله عنه، ولا يلزم من كونه - تعالى - أراد أمراً أن يكون محبوباً له، وهذا كما أنه تعالى خلق كثيراً من الشرور وهي مبغضة له غير محبوبة، ولكن خلقها لأنها تفضي إلى محبوبات له كثيرة, وأقرب مثال إلى ذلك خلق الله لإبليس لعنه الله الذي هو مادة الفساد في الأديان والأعمال والاعتقادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد, ومع ذلك فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه, ووجودها أحب إليه من عدمها منها: ظهور أسمائه القهرية مثل: القهار، والعدل، والضار، والشديد العقاب. ومنها ظهور أسمائه المتضمنة لحلمة وعفوه ومغفرته. ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس ما وجدت، كعبودية الجهاد، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعبودية الصبر ومخالفة الهوى ... إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن تعدادها وحصرها (¬1). السؤال الخامس: وخلاصة هذا السؤال: إذا كان الكفر بقضاء الله، فيلزم عدم الرضا بقضاء الله وقدره. وجوابه كما يلي: 1 - أن يقال: إننا لا نسلم بأن الرضا واجب لكل المقتضيات، ولا دليل على وجوب ذلك من كتاب ولا سنة، ولا قاله أحد من السلف والله – تعالى – أخبر بأنه لا يرضى بأمور مع أنها مخلوقة له، فهو – سبحانه – يكره أموراً كثيرة ويبغضها ويمقتها، وقد أمرنا الله أن نكرهها ونبغضها, وذلك كالكفر والمعاصي وغيرها (¬2). وقد تنازع الناس في الفقر والمرض والذل، هل يجب الرضا به أم يستحب على قولين، والراجح أنه لا يجب بل هو مستحب وإنما أوجب تعالى الصبر على ذلك (¬3) 2 - ويقال أيضاً: المسألة تحتاج إلى تفصيل. أ- فالقضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله كعلمه, وكتابه, وتقديره, ومشيئته, فالرضا به واجب لأنه من تمام الرضا بالله رباً, وإلهاً, ومالكاً, ومدبراً. ب – أما الرضا بالقضاء الذي هو المقضي، ففيه تفصيل، لأن القضاء نوعان: ديني وكوني. فالديني: يجب الرضا به وهو من لوازم الإسلام، أما الكوني: فمنه ما يجب الرضا به كالنعم التي يجب شكرها، ومن تمام شكرها الرضا بها، ومنه ما لا يجوز الرضا به كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله، وإن كانت بقضائه وقدره، ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب (¬4). 3 - وقد قيل في الإجابة: إن المقدورات لها وجهان: وجه يرضى بها منه وهو إضافتها إلى الله خلقاً ومشيئة، ووجه فيه تفصيل وهو تعليقها بالعبد، فمنه ما يرضى به كالطاعات، ومنه مالا يرضى به كالكفر غير المفعول (¬5). وهذان الجوابان فيهما ضعف، فيحتاجان إلى إيضاح، فنقول: من المعلوم أن لله في خلقه حكماً عظيمة، وقد خلق تعالى الشرور والمفاسد لكونها تفضي إلى محبوبات لله كثيرة، فيقال: العبد يجب عليه أن يكره الذنوب ويبغضها لأن الله تعالى يبغضها ويمقتها, ويجب عليه أن يرضى بالحكمة التي خلقها الله لأجلها فهي من جهة فعل العبد لها مكروهة مسخوطة, ومن جهة خلق الرب لها محبوبة مرضية، لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة فنرضى بقضاء الله وقدره (¬6). السؤال السادس: وخلاصته: ما الفائدة من التكليف مع سبق الأقدار؟ وجوابه من وجوه: ¬

(¬1) انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 236) وما بعدها. (¬2) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 287)، وانظر: ((منهاج السنة)) (2/ 49). (¬3) انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 49). (¬4) انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 278). (¬5) انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 278)، وانظر: ((منهاج السنة)) (2/ 51). (¬6) انظر: ((منهاج السنة)) (2/ 50).

1 - أن هذا سؤال فاسد، لأن معناه إنكار أن يكون لله تعالى أية حكمة في خلق السموات والأرض، وخلق البشر, لأن العلم السابق كاف في ثبوت هذه الحكم, وهذا من أبطل الباطل. وظهور ما لله تعالى من الحكم في خلقه وفي تعريض عباده للابتلاء والامتحان هي حكم عظيمة جليلة لا تحصى, إنما يتم ذلك بوقوعه كما قدره الله, ولا يمكن أن يقال إنها حاصلة بدون ذلك. 2 - وإقامة الحجة على العباد لا يمكن أن تتم إلا بعد إيجادهم، وتمكينهم وتبيين طرق الهدى لهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، حتى يعرفوا طريق الهدى وطريق الشر، فيختاروا أحد الطريقين، وبعد ذلك ينالوا جزاءهم في الدار الآخرة إما النعيم وإما العذاب ولو لم يقع الابتلاء والامتحان في الدنيا ثم عوقبوا في الآخرة على مقتضى القدر لاحتجوا على الله. والقول بأن العلم السابق كاف في وقوع المقدور قد بينا بطلانه في الرد على السؤال الثاني. 3 - والله سبحانه وتعالى (أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليهم أحكام أسمائه وصفاته, فيظهر كماله المقدس وإن كان لم يزل كاملاً فمن كماله ظهور آثار كماله في: خلقه، وأمره, وقدره, ووعده, ووعيده, ومنعه, وإعطائه, وإكرامه, وإهانته ... ) (¬1). هذه هي أهم الأسئلة التي وردت وترد في باب القدر، ناقشناها وبينا وجه الحق فيها، وإن كانت هناك أسئلة أخرى فهي إما راجعة إلى أحد الأسئلة التي ذكرناها، أو أنها ضعيفة لا تستحق الرد، أو أنها جاءت اعتراضاً على المذاهب المنحرفة في القدر, ولا تأتي على مذهب السلف أهل السنة والجماعة. القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود -بتصرف - ص 271 - 290 ¬

(¬1) انظر: ((شفاء العليل)) (ص: 243).

الكتاب الثامن: حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة

المبحث الأول: تعريف الإيمان لغة الإيمان لغة: مصدر آمن يؤمن إيماناً فهو مؤمن (¬1)، وأصل آمن أأمن بهمزتين لينت الثانية (¬2)، وهو من الأمن ضد الخوف (¬3). قال الراغب: (أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف) (¬4). وقال شيخ الإسلام: (فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد) (¬5) وقد عرف الإيمان بعدة تعريفات: فقيل: هو التصديق، وقيل: هو الثقة، وقيل: هو الطمأنينة، وقيل: هو الإقرار. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص17 وله في لغة العرب استعمالان: 1 - فتارة يتعدى بنفسه فيكون معناه التأمين أي إعطاء الأمان، وآمنته ضد أخفته، وفي الكتاب العزيز: الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [قريش: 4] فالأمن ضد الخوف وفي الحديث الشريف: ((النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم، أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمة ما توعد)) (¬6) قال ابن الأثير الأمنة في هذا الحديث جمع أمين، وهو الحافظ وقوله عز وجل: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: 125] قال أبو إسحاق: أراد ذا أمن فهو آمن وأمن وأمين وفي الكتاب العزيز: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين: 3] أي الآمن يعني مكة. وقوله عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان: 51] أي قد أمنوا فيه الغير واستأمن إليه: دخل في أمانة، وقد أمنه وآمنه وقرئ في سورة براءة: (إنهم لا إيمان لهم) [التوبة: 12] (¬7) أي أنهم إن أجاروا وأمنوا المسلمين لم يفوا وغدروا، والإيمان هاهنا الإجارة والأمنة والأمانة نقيض الخيانة وفي الحديث: ((المؤذن مؤتمن)) (¬8) مؤتمن القوم: الذي يثقون فيه ويتخذونه أميناً حافظاً، تقول: اؤتمن الرجل فهو مؤتمن، يعني أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم والمؤمن من أسماء الله تعالى. قيل: في صفة الله الذي أمن الخلق من ظلمه وقيل: المؤمن الذي آمن أولياءه عذابه وقيل: المؤمن الذي يصدق عباده ما وعدهم قال ابن الأثير: (في أسماء الله تعالى المؤمن وهو الذي يصدق عباده وعده فهو من الإيمان التصديق، أو يؤمنهم في القيامة عذابه، فهو من الأمان ضد الخوف). 2 - وتارة يتعدى بالباء أو الكلام فيكون معناه التصديق. وفى التنزيل: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] أي بمصدق، آمنت بكذا، أي صدقت. والمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر. والأصل في الإيمان الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه كما صدق بلسانه فقد أدى الأمانة، وهو مؤمن، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه فهو غير مؤد للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وهو منافق. ¬

(¬1) ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/ 513). (¬2) ((الصحاح)) للجوهري (5/ 2071). (¬3) ((الصحاح)) للجوهري (5/ 2071)، و ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (ص1518). (¬4) ((المفردات)) (ص35). (¬5) ((الصارم المسلول)) (ص519). (¬6) رواه مسلم (2531). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬7) انظر: ((تفسير الطبري)) 6/ 329. (¬8) رواه أبو داود (517)، والترمذي (207)، وأحمد (2/ 232) (7169). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 87): صحيح متفق عليه - أي: اتفق العلماء على صحته -. وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (809): هذا حديث حسن صحيح من حديث أبي صالح. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (1/ 232) (217): صحيح.

قال الزجاج: أما قوله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا [الأحزاب: 72] والذي عندي فيه أن الأمانة ههنا النية التي يعتقدها الإنسان فيما يظهره باللسان من الإيمان، ويؤديه من جميع الفرائض في الظاهر، لأن الله عز وجل ائتمنه عليها ولم يظهر عليها أحداً من خلقه، فمن أضمر التوحيد والتصديق مثل ما أظهر فقد أدى الأمانة، ومن أضمر التكذيب، وهو مصدق باللسان في الظاهر فقد حمل الأمانة ولم يؤدها. وقوله عز وجل: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61]، وقال ثعلب: يصدق الله ويصدق المؤمنين. ومنه قوله عز وجل: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ [البقرة: 136]، وأَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ [البقرة: 75]، ويفهم من الكلام السابق، أن التصديق كما يكون بالقلب واللسان يكون بالجوارح أيضاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (¬1). قال الجوهري: (والصديق بوزن السكيت: الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي - 1/ 31 ولكن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى رأي آخر في معنى الإيمان اللغوي، وهو من آرائه السديدة، واختياراته الموفقة؛ حيث اختار معنى (الإقرار) للإيمان. لأنه رأى أن لفظة (أقر) أصدق في الدلالة والبيان على معنى الإيمان الشرعي من غيرها؛ لأمور وأسباب ذكرها ثم ناقشها بالمعقول، ورد بتحقيق علمي رصين قول من ادعى: أن الإيمان مرادف للتصديق، وذكر فروقاً بينهما؛ تمنع دعوى الترادف. قال رحمه الله: (فكان تفسيره أي الإيمان بلفظ الإقرار؛ أقرب من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقا) (¬2). وقال أيضاً: (ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار؛ لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد) (¬3). وقال رحمه الله في رده على من ادعى الترادف بين الإيمان والتصديق: (إنه -أي الإيمان- ليس مرادفاً للتصديق في المعنى؛ فإن كل مخبر عن مشاهدة، أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت؛ فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال: كذب. وأما لفظ الإيمان؛ فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة، كقول: طلعت الشمس وغربت، أنه يقال: آمناه، كما يقال: صدقناه. ولهذا؛ المحدثون والشهود ونحوهم، يقال: صدقناهم، وما يقال: آمنا لهم؛ فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر؛ كالأمر الغائب الذي يؤمن عليه المخبر، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ: آمن له؛ إلا في هذا النوع) (¬4). وقال أيضاً: (إن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب؛ كلفظ التصديق؛ فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت، أو كذبت، ويقال: صدقناه، أو كذبناه، ولا يقال: لكل مخبر: آمنا له، أو كذبناه. ¬

(¬1) وهو جزء من حديث أوله: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة ... )) رواه البخاري (6243)، ومسلم (2657). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 291). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 638). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 291).

ولا يقال: أنت مؤمن له، أو مكذب له؛ بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب) (¬1). والمعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت، أو كذبت، ويقال: صدقناه، أو كذبناه، وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (أكثر أهل العلم يقولون: إن الإيمان في اللغة: التصديق، ولكن في هذا نظر! لأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة؛ فإنها تتعدى بتعديها، ومعلوم أن التصديق يتعدى بنفسه، والإيمان لا يتعدى بنفسه؛ فنقول مثلاً: صدقته، ولا تقول آمنته! بل تقول: آمنت به، أو آمنت له. فلا يمكن أن نفسر فعلاً لازماً لا يتعدى إلا بحرف الجر بفعل متعد ينصب المفعول به بنفسه، ثم إن كلمة (صدقت) لا تعطي معنى كلمة (آمنت) فإن (آمنت) تدل على طمأنينة بخبره أكثر من (صدقت). ولهذا؛ لو فسر (الإيمان) بـ (الإقرار) لكان أجود؛ فنقول: الإيمان: الإقرار، ولا إقرار إلا بتصديق، فتقول أقر به، كما تقول: آمن به، وأقر له كما تقول: آمن له) (¬2). واعلم أخي المسلم علمنا الله وإياك طريقة السلف الصالح: أن الحقائق قد تعرف بالشرع كالإيمان، وقد تعرف باللغة كالشمس، وقد تعرف بالعرف كالقبض. وأن التعريف الشرعي قد يتفق مع التعريف اللغوي، وقد يختلف؛ بحيث يكون بالمعنى الشرعي أشمل من اللغوي، ولكن العبرة بالمعنى الشرعي الذي نتعبد الله تعالى به. وهكذا في مسمى الإيمان؛ إذ التصديق أحد أجزاء المعنى الشرعي على الصحيح المشهور عند أئمة أهل السنة والجماعة، وعلى ذلك دلت نصوص الكتاب والسنة. فالمعنى المختار للإيمان لغة: هو الإقرار القلبي: ويكون الإقرار: باعتقاد القلب: أي تصديقه بالأخبار. عمل القلب: أي إذعانه وانقياده للأوامر. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص8 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 291). (¬2) انظر ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 229).

المبحث الثاني: تعريف الإيمان شرعا

المبحث الثاني: تعريف الإيمان شرعا هو التصديق الجازم، والإقرار الكامل، والاعتراف التام؛ بوجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، واستحقاقه وحده العبادة، واطمئنان القلب بذلك اطمئناناً تُرى آثاره في سلوك الإنسان، والتزامه بأوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه. وأن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رسول الله، وخاتم النبيين، وقبول جميع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا وعن دين الإسلام؛ من الأمور الغيبية، والأحكام الشرعية، وبجميع مفردات الدين، والانقياد له صلى الله عليه وسلم بالطاعة المطلقة فيما أمر به، والكف عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وزجر؛ ظاهراً وباطناً، وإظهار الخضوع والطمأنينة لكل ذلك. وملخصه: (هو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة). الباطنة: كأعمال القلب، وهي تصديق القلب وإقراره. الظاهرة: أفعال البدن من الواجبات والمندوبات. ويجب أن يتبع ذلك كله: قول اللسان، وعمل الجوارح والأركان، ولا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر؛ لأن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، وجزء منه. فمسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة؛ كما أجمع عليه أئمتهم وعلماؤهم، هو: (تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية). الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص13 وقد ذهب عامة أهل السنة إلى أن الإيمان الشرعي هو اعتقاد وقول وعمل. قال الإمام محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني: (والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب، والعمل بالأركان). وقال الإمام البغوي: (اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان .. وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة). وقال الحافظ ابن عبد البر: (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية ... إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيماناً ... ). (قال الإمام الشافعي في (كتاب الأم) .. وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من بعدهم ممن أدركنا: أن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر). وروى الإمام اللالكائي عن الإمام البخاري قوله: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. (¬1) والنصوص عن الأئمة كثيرة جداً في قولهم: إن الإيمان قول وعمل، نقل كثيراً منها المصنفون في عقيدة أهل السنة من الأئمة المتقدمين كالإمام اللالكائي وابن بطه وابن أبي عاصم وغيرهم. ولا فرق بين قولهم: إن الإيمان قول وعمل، أو قول وعمل ونية، أو قول وعمل واعتقاد. فكل ذلك من باب اختلاف التنوع، فمن قال من السلف: إن الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح. ومن زاد الاعتقاد رأى لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك، فزاد الاعتقاد بالقلب. ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد (قول القلب)، وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية (عمل القلب)، فزاد ذلك. خلاصة ما سبق من حقيقة الإيمان الشرعي أنها (مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب: وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به) نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – 1/ 33 ¬

(¬1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 173 - 174).

المبحث الثالث: العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي

المبحث الثالث: العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي: عرفنا أن من معاني الإيمان لغة: التصديق، وأن التصديق يكون بالقلب واللسان والجوارح، وهكذا الإيمان الشرعي، عبارة عن تصديق مخصوص، وهو ما يسمى عند السلف، بقول القلب، وهذا التصديق لا ينفع وحده، بل لابد معه من الانقياد والاستسلام، وهو ما يسمى بعمل القلب ويلزم من ذلك قول اللسان، وعمل الجوارح، وهذه الأجزاء مترابطة، لا غنى لواحدة منها عن الأخرى ومن آمن بالله عز وجل، فقد أمن من عذابه نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – 1/ 31 فالمنهج الصحيح إذن لفهم الألفاظ الشرعية هو أن نتلقى تفسيرهم وفهم السلف لمعاني هذه الألفاظ أولاً، ثم نضبط بهذا الفهم ألفاظ النصوص، وليس العكس، أي ليس استخراج المعاني من النظر المباشر إلى الدلالات اللغوية لألفاظ النصوص، كما ذهب إلى ذلك من ذهب من أهل الأهواء والبدع ...... ولكن قوماً خرجوا على هذا المنهج، وعدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله، وأخذوا يتكلمون في المسميات الشرعية بطرق مبتدعة ومقدمات لغوية وعقلية مظنونة، فقالوا: إن الإيمان لا تدخل فيه الأعمال وإنما هو التصديق المجرد؛ فخالفوا بذلك كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف. وقد بنوا قولهم هذا على مقدمتين مظنونتين (¬1): المقدمة الأولى: قولهم إن الإيمان في اللغة هو التصديق، والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق. المقدمة الثانية: قولهم إن التصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب، فالأعمال ليست من الإيمان. وقد تصدى علماء السنة والجماعة لهؤلاء القوم، فردوا عليهم قولهم، ودحضوا شبهاتهم، وكشفوا زيغهم وضلالهم. ويتلخص الرد على أصحاب هذا الاتجاه من خلال استعراض أصول ثلاثة .... الأصل الأول: إن أهل اللغة لم يثبت عنهم أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق: أما عن الأصل الأول فنقول: إن أهل اللغة، إما يقصد بهم المتكلمون باللغة قبل الإسلام، فهؤلاء لم نشهدهم ولا نقل لنا أحد عنهم أن الإيمان عندهم قبل نزول القرآن هو التصديق (¬2)، فمن يزعم أنهم لم يعرفوا في اللغة إيماناً غير ذلك من أين لهم هذا النفي الذي لا تمكن الإحاطة به؟ بل هو قول بلا علم (¬3). وإما يقصد بأهل اللغة نقلتها، كأبي عمرو والأصمعي والخليل ونحوهم، فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب وغير ذلك بالإسناد، ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان، فضلاً عن أن يكونوا أجمعوا عليه، بل نسأل: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين يعلم هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟ (¬4). بل إن بعضهم يذهب إلى أن الإيمان في اللغة مأخوذ من الأمن الذي هو ضد الخوف (¬5)، والبعض الآخر يذهب إلى أنه بمعنى الإقرار وغيره (¬6). ¬

(¬1) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 274). (¬2) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 118). (¬3) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 121). (¬4) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 117). (¬5) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 278). (¬6) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 117).

ولو قدر أن بعضهم نقل كلاماً عن العرب يُفهم منه أن الإيمان هو التصديق، فهم آحاد لا يثبت بنقلهم تواتر، بل نقلهم ذلك ليس بأبلغ من نقل المسلمين كافة لمعاني القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) إذ ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله، بل ليس لأحد أن يحمل كلام أحد من الناس إلا على ما عرف أنه أراده، لا على ما يحتمله ذلك اللفظ في كلام كل أحد (¬2). فنحن لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن، والقرآن نزل بلغة قريش، والذين خوطبوا به كانوا عرباً، وقد فهموا ما أريد به، وهم الصحابة، ثم الصحابة بلغوا لفظ القرآن ومعناه إلى التابعين حتى انتهى إلينا، فلم يبق بنا حاجة إلى أن تتواتر عندنا تلك اللغة من غير طريق تواتر القرآن (¬3). إن الألفاظ لا ينطق بها ولا تستعمل إلا مقيدة، إذ لا يوجد في الكلام حال إطلاق محض للألفاظ، بل الذهن يفهم من اللفظ في كل موضع ما يدل عليه اللفظ في ذلك الموضع (¬4). والشارع قد استعمل الألفاظ أيضاً مقيدة لا مطلقة، كقوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] وكذلك قوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة: 158]. فذكر حجاً خاصاً وهو حج البيت، فلم يكن لفظ الحج متناولاً لكل قصد، بل لقصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه من غير تغيير. فالحج المخصوص الذي أمر الله به دلت عليه الإضافة أو التعريف باللام، فإذا قيل: الحج فرض عليك، كانت لام العهد تبين أنه حج البيت (¬5). وكذلك لفظ الزكاة، بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب، وسماها الزكاة المفروضة، فصار لفظ الزكاة إذا عرف باللام ينصرف إليها لأجل العهد، ولفظ الإيمان أمر به مقيداً بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكذلك لفظ الإسلام بالاستسلام لله رب العالمين، وكذلك لفظ الكفر مقيداً، فخطاب الله ورسوله للناس بهذه الأسماء، كخطاب الناس بغيرها، وهو خطاب مقيد خاص لا مطلق يحتمل أنواعاً (¬6). وقد بين الرسول تلك الخصائص، والاسم دل عليها، فلا يقال إنها منقولة، ولا إنه زيد في الحكم دون الاسم، بل الاسم إنما استعمل على وجه يختص بمراد الشارع، لم يستعمل مطلقاً، وهو إنما قال: (أقيموا الصلاة) بعد أن عرفهم الصلاة المأمور بها، فكان التعريف منصرفاً إلى الصلاة التي يعرفونها، لم ينزل لفظ الصلاة وهم لا يعرفون معناه، وكذلك الإيمان والإسلام وقد كان معنى ذلك عندهم من أظهر الأمور (¬7). فالواجب أن يعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل في القرآن والسنة، وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ، فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله (¬8). الأصل الثاني: أن لفظ الإيمان ليس مرادفاً للفظ التصديق معنى واستخداماً: وأما عن الأصل الثاني، فإن لفظ الإيمان يباين لفظ التصديق، سواء من حيث مواقع الاستخدام في اللغة أو من حيث المعنى. فأما من حيث الاستخدام فإن الإيمان يختلف عن التصديق من عدة وجوه: ¬

(¬1) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 118). (¬2) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 33). (¬3) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 119). (¬4) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 101). (¬5) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 383). (¬6) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 284، 285). (¬7) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 285، 286). (¬8) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 101).

أحدها: أن يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26]. وقال: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83] (¬1). فإن قيل: فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا؟ قيل: اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعف عمله، إما بتأخيره، أو بكونه اسم فاعل أو مصدراً، أو باجتماعهما فيقال: فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه، ثم إذا ذكر باسم الفاعل قيل: هو عابد لربه، متق لربه، خائف لربه (¬2) فقول القائل: ما أنت بمصدق لنا، أدخل فيه اللام كونه اسم فاعل، وإلا فإنما يقال: صدقته، لا يقال: صدقت له، ولو ذكروا الفعل لقالوا: ما صدقتنا، وهذا بخلاف لفظ الإيمان، فإنه يتعدى إلى الضمير باللام دائماً، لا يقال: آمنته قط، وإنما يقال: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقاً (¬3). الثاني: أن الإيمان لا يستعمل في جميع الإخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة ونحوها مما يدخلها الريب، فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق، فإنه عام متناول لجميع الإخبار (¬4) فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال كذب. وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب (¬5)، فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر، كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ، آمن له، إلا في هذا النوع (¬6)، فاللفظ متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة، كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قالوا: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17]. أي لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه، ولو كنا صادقين؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لم يأمن لهم (¬7). الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب، كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت وكذبت، ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعاً، بلا تكذيب، فلا بد أن يكون الإيمان تصديقاً مع موافقة وموالاة وانقياد، لا يكفي مجرد التصديق (¬8). ¬

(¬1) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 275)، و ((الإيمان الأوسط)) (ص: 71). (¬2) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 275)، و ((الأوسط)) (ص: 72). (¬3) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 276)، و ((الإيمان الأوسط)) (ص: 72). (¬4) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 276)، و ((الإيمان الأوسط)) (ص: 71). (¬5) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 276). (¬6) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 276). (¬7) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 277). (¬8) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: 277).

الرابع: أن الحقائق الثابتة في نفسها التي قد تعلم بدون خبر، أو الذوات التي تحب أو تبغض، وتوالي أو تعادي، وتطاع أو تعصى، ويذل لها أو يستكبر عنها، تختص كل هذه المعاني بلفظ الإيمان والكفر ونحو ذلك، لا يكاد يستعمل فيها لفظ التصديق والتكذيب؛ لأن التصديق إخبار عن صدق المخبر، والتكذيب إخبار عن كذب المخبر، فهما نوعان من الخبر، وهما خبر عن الخبر، لذا فهما يستخدمان في إثبات أو نفي الخبر المتعلق بالحقائق دون الحقائق ابتداء (¬1). ويشهد لهذا الدعاء المأثور المشهور عند استلام الحجر: (اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم) (¬2) فقال: إيماناً بك، ولم يقل: تصديقاً بك، كما قال: تصديقاً بكتابك. وقال تعالى عن مريم: وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا [التحريم: 12] فجعل التصديق بالكلمات والكتب (¬3). ولا يوجد في كلام السلف: صدقت بالله، أو فلان صدق بالله، أو صدق بالله، ونحو ذلك، بل القرآن والحديث وكلام الخاصة والعامة مملوء من لفظ الإيمان بالله، وآمن بالله، ونؤمن بالله (¬4). والرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يؤمن به ويؤمن له، يؤمن به من جهة أن رسالته مما أخبر بها، فالإيمان به من حيث نبوته غيب عنا أخبرنا به، ويؤمن له من جهة أنه مخبر علينا أن نطيعه، وليس كل غيب آمنا به علينا أن نطيعه (¬5). وأما عن مخالفة الإيمان للتصديق في المعنى، فهو أن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، فكان تفسيره بالإقرار أقرب – وإن كان بينهما فرق – فالإقرار مأخوذ من قرّ يُقرّ، وهو قريب من آمن يأمن، فالمؤمن من دخل في الأمن، كما أن المقرّ دخل في الإقرار (¬6). ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين (¬7): أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق، والشهادة، ونحوهما، وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار. والثاني: إنشاء الالتزام، كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]. وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد، فإنه سبحانه قال: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران: 81] فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول. ¬

(¬1) ((الإيمان الأوسط)) لابن تيمية (ص: 73، 74). (¬2) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 157) (492)، والبيهقي (5/ 79) (9034) بدون لفظة: ((ووفاء بعهدك)). من حديث علي رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 243): فيه الحارث وهو ضعيف وقد وثق. وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1049). (¬3) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 74، 75). (¬4) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 75). (¬5) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 75، 76). و ((الإيمان)) (ص: 78). (¬6) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 72). (¬7) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 73).

وكذلك لفظ (الإيمان) فيه إخبار وإنشاء التزام، بخلاف لفظ (التصديق) المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر، لا يقال فيه: آمن له، بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمناً للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر - المقابل للإيمان - في نفي الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفي التزام الطاعة والانقياد، فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين (¬1). الأصل الثالث: أن التصديق لا يكون بالقلب فقط ولا بالقلب واللسان فقط: وأما عن الأصل الثالث فنقول: هب أن الإيمان قد رادف التصديق في بعض النقول، فما هو المقصود بالتصديق في هذه النقول؟ إذا كان تصديق القلب داخلاً في المراد، فليس المراد ذلك وحده، بل المراد التصديق بالقلب واللسان، فإن مجرد تصديق القلب دون اللسان لا يعلم حتى يخبر به عنه (¬2)! ولا يوجد قط في كلام العرب أن من علم وجود شيء مما يخاف ويرجى، ويجب حبه وتعظيمه، وهو مع ذلك لا يحبه ولا يعظمه، ولا يخافه ولا يرجوه، بل يجحد به ويكذب به بلسانه، لم يقولوا: هو مصدق به، ولو صدق به مع العمل بخلاف مقتضاه، لم يقولوا: هو مؤمن به (¬3). وأما الاستدلال بقوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17] فليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر، فلو قلت: ما أنت بمسلم لنا، ما أنت بمؤمن لنا صح المعنى، لكن لما قلت: إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال الله: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ، ولو قال القائل: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، والتزموا الصلاة، وافعلوا الصلاة، كان المعنى صحيحاً، لكن لا يدل هذا على معنى: أقيموا. فكون اللفظ يرادف اللفظ، يراد دلالته على ذلك (¬4). ولو فرض أن الإيمان في اللغة التصديق، فمعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء، بل بشيء مخصوص وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة (¬5). والقرآن ليس فيه ذكر إيمان مطلق غير مفسر، بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد وإما مطلق مفسر، فالمقيد كقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] وقوله: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83]. والمطلق المفسر كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ونحو ذلك. وكل إيمان مطلق في القرآن فقد بين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمناً إلا بالعمل مع التصديق (¬6). وقد جرى عرف اللغة عند العرب على أن الاسم يكون مطلقاً وعاماً، ثم يدخل فيه قيد أخص من معناه، فبتقدير أن يكون في لغتهم التصديق، فإنه قد بين الشارع لهم أنه لا يكتفي بتصديق القلب واللسان، فضلاً عن تصديق القلب وحده، بل لابد أن يعمل بموجب ذلك التصديق، فبين لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجل مؤمناً إلا به، هو أن يكون تصديقاً على هذا الوجه، وهذا بين في القرآن والسنة من غير تغيير للغة ولا نقل لها (¬7). ¬

(¬1) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 73). (¬2) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 119 - 120). (¬3) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 120). (¬4) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 120، 275). (¬5) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 121). (¬6) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 121 - 122). (¬7) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 122، 123).

وأخيراً نقول: إن الأفعال نفسها تسمى تصديقاً، كما ثبت في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (¬1). وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف (¬2). قال الجوهري: (والصديق مثال الفسيق: الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل) (¬3). وقال الحسن البصري: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال) (¬4). وقال سعيد بن جبير: (والتصديق أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن، وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه، عرف أنه ذنب، واستغفر الله وتاب منه ولم يصر عليه، فذلك هو التصديق) (¬5). وقال الأوزاعي: (والإيمان بالله باللسان، والتصديق به العمل) (¬6). وهكذا نرى أن الإيمان - وإن كان أصله التصديق - فهو تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والحج قصد مخصوص، والصيام إمساك مخصوص، وهذا التصديق له لوازم صارت لوازمه داخلة في مسماه عند الإطلاق، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، ويبقى النزاع لفظياً: هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو باللزوم؟ (¬7). حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لمحمد عبدالهادي المصري - بتصرف – ص: 23 ذهب كثير من المتكلمين وغيرهم؛ بل هو العُمدة عند جماهير المرجئة أن الإيمان في مفهوم اللغة العربية هو مجرد التصديق، استدلالاً بقوله تعالى في أول سورة يوسف: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17]. الصواب: أن معنى الإيمان في اللغة ليس مرادفاً للتصديق، بل التصديق وزيادة، من الإقرار والإذعان والتسليم ونحوها، لعدة اعتبارات. أن معنى الآية في الحقيقة: ما أنت بمُقر لنا ولا تطمئن إلى قولنا ولا تثق به ولا تتأكد منه ولو كناَّ صادقين، فإنهم لو كانوا كذلك فصدقهم، لكنه لم يتأكد ولم يطمئن إلى قولهم. وهذه بلاغة في اللغة. أن لفظة الإيمان يقابلها الكفر، وهو ليس التكذيب فقط بل قدر زائد عليه، وإنما الكذب يقابل لفظة التصديق. فلما كان الكفر في اللغة ليس مقصوراً على التكذيب، فكذلك ما يقابل الكفر وهو الإيمان لا يقابل التصديق، وليس مقصوراً عليه. أن لفظ الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار المشاهدة وغيرها، وإنما يُستعمل في الأمور الغائبة مما يدخلها الريب والشك، فإذا أقر بها المستمع قيل آمن، بخلاف التصديق، فإنه يتناول الإخبار عن الغائب والشاهد، وإخوة يوسف أخبروا أباهم عن غائب غير مشاهد فصح أن الإيمان أخص من التصديق. أن لفظ الإيمان تكرر في الكتاب والسنة كثيراً جداً، وهو أصل الدين الذي لا بد لكل مسلم من معرفته، فلابد أن يؤخذ معناه من جميع موارده التي ورد فيها في الوحيين لا من آية واحدة؛ الاحتمالُ مُتطرق إلى دلالتها! أن الإيمان مخالف للتصديق في الاستعمال اللغوي وفي المعنى: فأما اللغة فقد مضت في الجواب الثالث؛ فالاستعمال اللغوي للإيمان يُتعدى فيه إلى المُخبِر باللام وإلى المُخبَر عنه بالباء كقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الأعراف: 158]. ¬

(¬1) رواه البخاري (5889)، ومسلم (6924)، وأحمد (2/ 343) (8507) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 278). (¬3) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 278). (¬4) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 278). (¬5) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 279). (¬6) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 280). (¬7) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 281).

أما المعنى: فإن الإيمان مأخوذ من الأمن وهو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قرَّ يَقُر، وهو قريب من آمن يأمن. وأما الصدق فهو عدم الكذب، ولا يلزم أن يوافقه طمأنينة إلا إذا كان المُخبر الصادق يُطمئن إلى خبره وحاله. أن لفظ الإيمان يتعدى إلى غيره باللام دائماً نحو قوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26]، وقول فرعون في الشعراء: آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الشعراء: 49]، وقوله تعالى في يونس: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83]، وقوله: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 47]. وقوله: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111]، وآيات عديدة. أما لفظ التصديق وصدق ليصدق فإنه يتعدى بنفسه نحو: قوله تعالى في الصافات: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِناَّ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 105]. وفي أولها: بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 37]. وفي سورة الزمر: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر: 74] فكلها بمقابل الكذب. لو فرضنا أن معنى الإيمان لغة التصديق، لوجب أن لا يختص بالقلب فقط بل يكون تصديقاً باللسان، وتصديقاً بالجوارح كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه .. ((العينان تزنيان .. )) (¬1) الحديث. كذلك لو قلنا: إن الإيمان أصله التصديق، فإنه تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والصوم إمساك مخصوص يتبيَّن بالمعنى الشرعي حيث يكون للتصديق لوازم شرعية دخلت في مسماه (¬2) مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل - ص20 ويمكن أن نجمل الأمور التي ذكرها شيخ الإسلام في دفع دعوى الترادف بين الإيمان والتصديق في النقاط التالية: 1 - أن لفظة آمن تختلف عن لفظة صدق من جهة التعدي، حيث إن آمن لا تتعدى إلا بحرف إما الباء أو اللام كما في قوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت: 26]، وقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285]. فيقال: آمن به وآمن له، ولا يقال: آمنه، بخلاف لفظة صدق فإنه يصح تعديتها بنفسها فيقال: صدقه. 2 - أنه ليس بينهما ترادف في المعنى، فإن الإيمان لا يستخدم إلا في الأمور التي يؤتمن فيها المخبر مثل الأمور الغيبية، لأنه مشتق من الأمن، أما الأمور المشاهدة المحسوسة فهذه لا يصلح أن يقال فيها: آمن وإنما يقال: صدق، لأن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت كما يقال: كذبت، أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب. ¬

(¬1) رواه أحمد 2/ 344 (8507). والحديث رواه البخاري بنحوه (6243)، ومسلم (2657). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) هذه الأوجه وغيرها بسطها ابن تيمية في مواضع من كتبه: ((شرك الأصفهانية)) (142 - 143)، و ((مجموع الفتاوى)) (10/ 269 - 276)، وغيرهم.

2 - أن لفظة إيمان في اللغة لا تقابل بالتكذيب، فإذا لم يصدق المخبر في خبره يقال: كذبت، وإذا صدق يقال: صدقت فيقال: صدقناه: أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط. 4 - أن الإيمان في اللغة مشتق من الأمن الذي هو ضد الخوف، فآمن أي: صار داخلا في الأمن، فهو متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قال إخوة يوسف لأبيهم: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] أي لا تقر بخبرنا ولا تثق به ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين، لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لم يأمن لهم. أما التصديق فلا يتضمن شيئا من ذلك. فهذه الأمور تدفع دعوى الترادف بين الإيمان والتصديق، كما يظنه طائفة من الناس، وبناء عليها فالإيمان ليس هو التصديق فحسب، وإنما هو تصديق وأمن أو تصديق وطمأنينة، وهو متضمن للالتزام بالمؤمن به سواء كان خبراً أو إنشاءً، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر غيره بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمناً للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، فإن صدقه دون التزام بطاعته، فهذا يسمى تصديقاً ولا يسمى إيماناً (¬1). ولهذا فإن اللفظ المطابق لآمن من جهة اللغة هو لفظ أقر، لتوافقه مع لفظ آمن في الأمور المتقدمة، فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قر يقر، وهو قريب من آمن يؤمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره والكاذب بخلاف ذلك كما يقال الصدق طمأنينة، والكذب ريبة، فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام ثم إنه يكون على وجهين: أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما، وهذا الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار. والثاني: إنشاء الالتزام كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام بخلاف لفظ التصديق المجرد (¬2). ولذا فالإيمان لغة هو الإقرار، لأن التصديق إنما يطابق الخبر فقط، وأما الإقرار فيطابق الخبر والأمر ولأن قر وآمن متقاربان، فالإيمان دخول في الأمن، والإقرار دخول في القرار (¬3). زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص18 ¬

(¬1) انظر ((الفتاوى)) (7/ 290) و (7/ 534). (¬2) انظر ((الفتاوى)) (7/ 530). (¬3) انظر ((الفتاوى)) (7/ 638).

الفصل الثاني: حقيقة الإيمان الشرعية عند أهل السنة

تمهيد: أهمية مسألة الإيمان مسألة الإيمان من مسائل العقيدة الجليلة التي وقع الاختلاف فيها، والافتراق عليها قديماً في المسلمين؛ بل لا يبعد إذا قيل إنها أول مسائل الاختلاف في هذه الأمة التي وقع النزاع فيها بين طوائفها، فخالف فيها المبتدعة الأمة الإسلامية! ومن ثم ترتب عليها اختلافات أخر في مسائل وثيقة الصلة بمسألة الإيمان. ومسائل الإيمان يعبر عنها العلماء بمسألة (الأسماء والأحكام) بمعنى: اسم العبد في الدنيا هو هل مؤمن أو كافر أو ناقص الإيمان ... ؟ وحكمه في الآخرة أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، أم ممن يدخل النار ثم يخرج منها ويخلد في الجنة؟ ولأهمية هذه المسائل ضمنها أهل السنة والجماعة في مباحث العقيدة الكبار، وقال الحافظ ابن رجب مبيناً أهمية هذه المسألة: (وهذه المسائل، أعني مسائل الإسلام والإيمان، والكفر والنفاق مسائل عظيمة جداً. فإن الله عز وجل علّق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار. والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين. ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان. وقد صنّف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسائل تصانيف متعددة، وممن صنّف في الإيمان من أئمة السلف: الإمام أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن أسلم الطوسي، -رحمهم الله تعالى- وكثرت فيه التصانيف بعدهم من جميع الطوائف) اهـ (¬1). وهكذا شأن الابتداع في الدين، فما يبتدع أحد بدعة - ولا سيما في أصول الدين وباب السنة - إلا اتسعت اتساعاً كبيراً شبراً فباعاً فميلاً .. وحسبك أن تعلم ما يقابل هذا الاتساع من خفاء السنن واندراسها. ولا يبتدع مبتدع من أهل الأهواء بدعة في هذا الباب إلا ويأتي عقبه من يبتدع بدعة تضاد بدعته وتقابلها، حتى يكون الحق عند من يجده وسطاً بين البدعتين، وهذا تلاحظه في: بدعة الخوارج الوعيدية ومن تبعهم في مسائل الإيمان، ومقابلة المرجئة بطوائفها لهم ببدعتهم، والحق وسط بينهما! وفي باب الصفات ببدعة الممثلة المشبهة، ومقابلة المعطلة لهم. وفي باب القدر والإرادة بين بدعة القدرية نفاة القدر، وما قابلها من بدعة الجبرية الغلاة في إثباته. وفي باب الصحابة والإمامة بين بدعة الخوارج النواصب وما قابلهم من بدعة الروافض. والحق في كل هو الوسط بين تلك البدع! مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص: 12 ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 30).

المبحث الأول: الإيمان عند أهل السنة والجماعة

المبحث الأول: الإيمان عند أهل السنة والجماعة الإيمان اعتقاد وقول وعمل الإيمان أصله في القلب: قال عز وجل: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 8]، وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحشر: 7]، وقال أيضاً: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة: 22] وقال أيضاً: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106] وقال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه)) (¬1). إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة في أن إيمان القلب شرط في الإيمان، ولا يصح الإيمان بدونه، وأنه إذا وجد سرى ذلك إلى الجوارح ولابد. وإيمان القلب ليس مجرد العلم والمعرفة والتصديق بالله عز وجل، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم - بل لابد مع ذلك من الانقياد والاستسلام، والخضوع والإخلاص، مما يدخل تحت عمل القلب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق القلب وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا: قول القلب، قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب " فلا بد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولا بد فيه من عمل القلب، مثل حب الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها جزءاً من الإيمان ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن ضرورة لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (¬2). فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر، والعمل بالإيمان المطلق ... ويقول أيضاً: الإيمان أصله معرفة القلب وتصديقه وقوله، والعمل تابع لهذا العلم والتصديق ملازم له، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بها. ويقول رحمه الله مبيناً شدة الترابط بين الأصل والفرع: (إذا قام بالقلب التصديق به، والمحبة له (قول القلب، وعمله) لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه). ويقول الإمام المروزي رحمه الله: أصل الإيمان التصديق بالله، وبما جاء من عنده، وعنه يكون الخضوع لله لأنه إذا صدق بالله خضع له، وإذا خضع أطاع .. ومعنى التصديق هو المعرفة بالله، والاعتراف له بالربوبية، بوعده، ووعيده، وواجب حقه، وتحقيق ما صدق به من القول والعمل .. ومن التصديق بالله يكون الخضوع لله، وعن الخضوع تكون الطاعات، فأول ما يكون عن خضوع القلب لله الذي أوجبه التصديق من عمل الجوارح والإقرار باللسان (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4880)، والترمذي (2032)، وأحمد (4/ 420) (19791). من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبي داود. وقال الحافظ العراقي في ((المغني)) (2/ 250): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬2) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬3) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 695 - 696).

ويقول أيضاً: (وإنما المعرفة التي هي إيمان، هي معرفة تعظيم الله، وجلاله، وهيبته، فإذا كان كذلك، فهو المصدق الذي لا يجد محيصاً عن الإجلال، والخضوع لله بالربوبية، فبذلك ثبت أن الإيمان يوجب الإجلال لله، والتعظيم له، والخوف منه، والتسارع إليه بالطاعة على قدر ما وجب في القلب من عظيم المعرفة) (¬1). ويقول: (أصل الإيمان هو التصديق، وعنه يكون الخضوع، فلا يكون مصدقاً إلا خاضعاً، ولا خاضعاً إلا مصدقاً، وعنهما تكون الأعمال) (¬2). يتضح لنا من النقل السابق أن العلم والمعرفة والتصديق (أي قول القلب)، إن لم يصحبها الانقياد والاستسلام والخضوع، (أي عمل القلب والجوارح) لم يكن المرء مؤمناً، بل تصديق هذا شر من عدمه لأنه ترك الانقياد مع علمه ومعرفته. والدليل على أن التصديق والمعرفة فقط لا تنفع صاحبها وصف الله به إبليس بقوله: خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ [الأعراف: 12] وقوله: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82]، فأخبر أنه قد عرف أن الله خلقه، ولم يخضع لأمره فيسجد لآدم كما أمره، فلم ينفعه معرفته إذ زايله الخضوع. والدليل على ذلك أيضاً شهادة الله على قلوب بعض اليهود أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليهم كما يعرفون أبناءهم، فلا أحد أصدق شهادة على ما في قلوبهم من الله، إذ يقول لنبيه: فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ [البقرة: 89]، وقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة: 146]، وقال: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] فشهد على قلوبهم بأنها عارفة عالمة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يوجب لهم اسم الإيمان بمعرفتهم وعلمهم بالحق إذ لم يقارن معرفتهم التصديق والخضوع لله ولرسوله بالتصديق له والطاعة (¬3). ومما يجدر ذكره أن بعض السلف يطلق التصديق أو اعتقاد القلب ويقصد به قول القلب وعمله جميعاً، أو عمل القلب وحده. ¬

(¬1) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 775 - 776) ويلاحظ من هذا النقل، والذي قبله أنه لا فرق بين مفهومي التصديق، والمعرفة عند الإمام المروزي وكلاهما داخل تحت قول القلب. (¬2) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 715 - 716). (¬3) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 696، 698).

يقول الإمام أحمد رحمه الله: وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار، فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرا ومصدقا بما عرف، فهو من ثلاثة أشياء، وإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً (¬1) فالملاحظ من كلام الإمام أحمد أنه يعني بالتصديق عمل القلب ويعني بالمعرفة قول القلب، أما الإقرار فقول اللسان (¬2) وقال الإمام أبو ثور لما سئل عن الإيمان ما هو؟: (فاعلم يرحمنا الله وإياك أن الإيمان تصديق بالقلب والقول باللسان وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله عز وجل واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به أنه ليس بمسلم ولو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، قال لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن، فلما لم يكن بالإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمناً ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمناً، حتى يكون مصدقاً بقلبه مقراً بلسانه فإذا كان تصديق بالقلب وإقرار باللسان كان عندهم مؤمناً وعند بعضهم لا يكون حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء إذا اجتمعت مؤمناً ... ) (¬3). ثم رد على من أخرج العمل من الإيمان فالغالب أنه يقصد بالتصديق هنا (قول القلب وعمله) والله أعلم. يقول ابن تيمية: وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب، ولا بد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب، أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل حب الله، وخشية الله والتوكل عليه، ونحو ذلك، فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها (¬4). ويقول الإمام ابن القيم موضحاً ذلك: ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيماناً لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم مؤمنين صادقين (¬5). ونختم هذا البحث بالتأكيد على أهمية الخضوع والاستسلام والانقياد (عمل القلب والجوارح) وأنه أساس دعوة الأنبياء والرسل، وأن قضيتهم مع أقوامهم دائماً ليست قضية المعرفة والعلم المجرد (أي قول القلب). قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 14]. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 393). (¬2) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (7/ 397): (فأراد أحمد بالتصديق أنه مع المعرفة به صار القلب مصدقا له، تابعاً له، محباً له، معظماً له .. وهذا أشبه بأن يحمل عليه كلام الإمام أحمد). (¬3) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (4/ 849 - 850). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 506). (¬5) ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص44 - 45).

فالكفار والمنافقون غالباً ما يقرون بالربوبية والرسالة ولكن الكبر والبغض وحب الرياسة والشهوات ونحوها تصدهم عن الطاعة والإخلاص والمتابعة (أي توحيد الألوهية) ومن ثم فلا ينفعهم ذلك، ولا ينجيهم من عذاب الله عز وجل في الآخرة ولا من سيف المؤمنين في الدنيا، فيجب على الدعاة إلى الله أن ترتكز دعوتهم على ذلك، وأن لا يقتصروا بالاهتمام بتوحيد الربوبية دون الدعوة إلى توحيد الألوهية، وإنما يكون اهتمامهم بالربوبية طريقاً ومنطلقاً لترسيخ وتثبيت توحيد الألوهية وعبادة الله وحده لا شريك له. قول اللسان (الإقرار باللسان) قول اللسان جزء من مسمى الإيمان، والمقصود بقول اللسان: الأعمال التي تؤدى باللسان: كالشهادتين والذكر وتلاوة القرآن والصدق والنصيحة والدعاء وغير ذلك مما لا يؤدى إلا باللسان وهذه الأعمال منها ما هو مستحب ومنها ما هو واجب ومنها ما هو شرط لصحة الإيمان ولنبدأ أولاً بالنصوص الدالة على أن قول اللسان يدخل في مسمى الإيمان ومنها: 1 - قوله عز وجل: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]، ثم قال عز وجل: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ [البقرة: 137]. قال الحليمي: فأمر المؤمنين أن يقولوا آمَنَّا ثم أخبر بقوله تعالى: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ أن ذلك القول منهم إيمان، وسمي قولهم مثل ذلك إيمانا، إذ لا معنى لقوله: فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ. إلا فإن آمنوا بأن قالوا: مثل ما قلتم فكانوا مؤمنين كما آمنتم فصح أن القول إيمان) (¬1). 2 - وقال عز وجل في آية أخرى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: 84 - 85] هذا الإيمان منهم لما رأوا البأس لم ينقلهم من الكفر ولم ينفعهم فثبت أنه لو كان قبلها لنفعهم بأن ينقلهم من الكفر إلى الإيمان وبذلك يكون هذا القول منهم لو كان قبل رؤية البأس لكان إيمانا (¬2). 3 - ومن الأحاديث الشريفة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)) (¬3) فقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف أن العصمة المزايلة للكفر تثبت بالقول فبذلك يثبت أن القول إيمان لأن الإيمان هو العاصم من السيف (¬4). 4 - ومن الأحاديث أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (¬5). فهذا الحديث أصل في دخول الأعمال والأقوال في مسمى الإيمان ... نكتفي بهذه الأدلة الصريحة على دخول قول اللسان في مسمى الإيمان ونأتي إلى مسألة مهمة وهي: الشهادتان أصل قول اللسان وهما شرط في صحة الإيمان: ¬

(¬1) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 26). (¬2) انظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 26). (¬3) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬4) انظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 27). (¬5) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

اتفق أهل السنة على أن النطق بالشهادتين شرط لصحة الإيمان قال الإمام النووي تعليقاً على حديث ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (¬1) (وفيه أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما واعتقاد جميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) وقال أيضاً: واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا. (¬3). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر. (¬4) وقال أيضاً (فأما الشهادتان) إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها) (¬5) وقال أيضاً (إن الذي عليه الجماعة أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة، وأن القول من القادر عليه شرط في صحة الإيمان) (¬6) وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي عند كلامه على حديث شعب الإيمان (وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها إجماعاً كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعاً، كترك إماطة الأذى عن الطريق .. وقال الإمام ابن رجب الحنبلي: (ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام) (¬7) ويقول الحافظ ابن حجر تعليقاً على حديث ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير .. )) الحديث (¬8) (فيه دليل على اشتراط النطق بالتوحيد .. ) (¬9) والمقصود بالشهادتين كما لا يخفى ليس مجرد النطق بهما، بل التصديق بمعانيهما وإخلاص العبادة لله، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإقرار ظاهراً وباطناً بما جاء به فهذه الشهادة هي التي تنفع صاحبها عند الله عز وجل، ولذلك ثبت في الأحاديث الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه)) (¬10) وفي رواية ((صدقاً)) (¬11) وفي رواية ((غير شاك)) (¬12) ((مستيقناً)) (¬13). ¬

(¬1) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 212). (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 149). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 302) (¬5) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 609). (¬6) ((الصارم المسلول)) (ص525) والمقصود بالقول هنا: شهادة ألا إله إلا الله. قال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 46): (فأما القول المراد به النطق بالشهادتين).اهـ. وهذا ليس حصراً لقول اللسان بالشهادتين وإنما الكلام عن القول الذي هو شرط في الإيمان. (¬7) انظر: ((جامع العلوم والحكم)) (ص23). (¬8) رواه البخاري (44)، ومسلم (193). من حديث أنس بن مالك. (¬9) ((فتح الباري)) (1/ 104). (¬10) رواه أحمد (5/ 236) (22113)، وابن حبان (1/ 429) (200). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2355) وقال: صحيح على شرط الشيخين. (¬11) رواه البخاري (128). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬12) رواه مسلم (27). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬13) رواه مسلم (31). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الإمام المروزي: ثم قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس لوفد عبد القيس: ((آمركم بالإيمان، ثم قال أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله)) (¬1) فبدأ بأصله والشاهد بلا إله إلا الله هو المصدق المقر بقلبه يشهد بها لله بقلبه، ولسانه يبتدئ بشهادة قلبه والإقرار به ثم يثني بالشهادة بلسانه والإقرار به ليس كما شهد المنافقون إذ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] والله يشهد إنهم لكاذبون، فلم يكذب قلوبهم أنه حق في عينه، ولكن كذبهم من قولهم، فقال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون: 1] أي كما قالوا، ثم قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] فكذبهم من قولهم، لا أنهم قالوا بألسنتهم باطلاً ولا كذباً، وكذلك حين أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل بقوله: ((الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله)) (¬2) لم يرد شهادة باللسان كشهادة المنافقين ولكن أراد شهادة بدؤها من القلب بالتصديق بالله بأنه واحد) (¬3). قال القرطبي ردا على من زعم أن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان: بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح وهو باطل قطعاً (¬4) وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب تعليقاً على قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دونه حرم ماله ودمه، وحسابه على الله)) (¬5) قال: (وهذا من أعظم ما يبين معنى (لا إله إلا الله) فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها، ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع) (¬6) والمقصود من النقل السابق التأكيد على أن التلفظ بالشهادتين وحده لا يفي لصحة الإيمان والنجاة في الآخرة ما لم يقترن ذلك بخضوع وانقياد وتصديق وإخلاص على حسب ما جاء في النصوص الأخرى وأجمل عبارة مختصرة يمكن أن تقال بهذه المناسبة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (وتواترت النصوص بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال) (¬7) نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – 1/ 38 ومن أصول أهل السنة والجماعة التي اتفقوا عليها في مسمى الإيمان على اختلاف عباراتهم في التعبير – إجمالاً وتفصيلاً – وذلك خوفاً من الاشتباه، أو الالتباس؛ أن الإيمان مركب من: (قول، وعمل). أو (قول، وعمل، ونية). أو (قول، وعمل، ونية، واتباع السنة). أي: أن مسمى الإيمان يطلق عند أهل السنة والجماعة على ثلاث خصال مجتمعة، لا يجزئ أحدهما عن الآخر، وهذه الأمور الثلاثة جامعة لدين الإسلام: (اعتقاد القلب، إقرار اللسان، عمل الجوارح). وبعبارة أخرى عندهم: قول القلب، وقول اللسان. عمل القلب، وعمل الجوارح. ¬

(¬1) رواه البخاري (53)، ومسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه مسلم (8). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬3) ((تعظيم قدرة الصلاة)) (2/ 707، 708) (¬4) ((المفهم على صحيح مسلم)) نقلاً من ((فتح المجيد)) (ص32). (¬5) رواه مسلم (23). من حديث طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه. (¬6) ((فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)) لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص81). (¬7) نقلاً عن ((فتح المجيد)) لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص38).

ويمكن توضيح ذلك؛ بالتفصيل التالي: أولاً - قول القلب: هو معرفته للحق، واعتقاده، وتصديقه، وإقراره، وإيقانه به؛ وهو ما عقد عليه القلب، وتمسك به، ولم يتردد فيه، قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 33 - 34]. وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 57]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير)) (¬1). قول اللسان: إقراره والتزامه. أي: النطق بالشهادتين، والإقرار بلوازمها. قال تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: 13]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ... )) (¬2). ثانياً: عمل القلب: نيته، وتسليمه، وإخلاصه، وإذعانه، وخضوعه، وانقياده، والتزامه، وإقباله إلى الله تعالى، وتوكله عليه – سبحانه – ورجاؤه، وخشيته، وتعظيمه، وحبه وإرادته. قال الله تعالى: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52]. وقال تعالى: وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل: 19 - 21]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه)) (¬3). عمل الجوارح: أي فعل المأمورات والواجبات، وترك المنهيات والمحرمات. فعمل اللسان: ما لا يؤدى إلا به؛ كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار؛ من التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والدعاء، والاستغفار، والدعوة إلى الله تعالى، وتعليم الناس الخير، وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى باللسان؛ فهذا كله من الإيمان. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ [فاطر: 29]. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب: 41]. وعمل الجوارح: مثل الصلاة، والقيام، والركوع، والسجود، والصيام، والصدقات، والمشي في مرضاة الله تعالى؛ كنقل الخطا إلى المساجد، والحج، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من أعمال شعب الإيمان. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج: 77 - 78]. وقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 63 - 64]. فهذه الخصال الثلاث: (اعتقاد القلب، إقرار اللسان، عمل الجوارح). اشتمل عليها مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة؛ فمن أتى بجميعها؛ فقد اكتمل إيمانه. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص15 ¬

(¬1) رواه البخاري (44). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (¬3) رواه أبو داود (4880)، والترمذي (2032)، وأحمد (4/ 420) (19791). من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبي داود. وقال الحافظ العراقي في ((المغني)) (2/ 250): إسناده جيد. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.

المبحث الثاني: أصل النزاع في تعريف الإيمان

تمهيد استقرأ الشيخ أبو العباس ابن تيمية هذا الأصل الجامع للنزاع في الإيمان من خلال سبره لأقوال الطوائف في الإيمان وتمحيصه لحقائقها، وهو المطلع على أقوال أهل المقالات اطلاعاً لم يُعرف له نظير. وهذه الأصول هي في الواقع قواعد قعَّدها – رحمه الله- في مواقف تلك الطوائف من دلائل الوحي في مسألة الإيمان، وأجوبتهم عليها. وهي: مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص17

الأصل الأول

الأصل الأول قال رحمه الله في الإيمان الأوسط: وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه. فلم يقولوا بذهاب بعض وبقاء بعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان)). (¬1). مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص17 ¬

(¬1) رواه البخاري (7510)، ومسلم (193). من حديث أنس رضي الله عنه.

الأصل الثاني

الأصل الثاني ما ضمَّنه شرحه للأصفهانية حيث قال: وأصل هؤلاء أنهم ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مُستحقاً للثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والحمد والذم. بل إما لهذا وإما لهذا، فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها ... اهـ (¬1). وهذا هو معنى أن يجتمع في العبد: إيمان وكفر، وإسلام ونفاق، وسنة وبدعة، وطاعة ومعصية .. وهو الحق الذي دلت عليه نصوص الإيمان من الكتاب والسنة. مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص17 ¬

(¬1) في ((شرح الأصفهانية)) (137 - 138)، وانظر: ((الفرقان بين الحق والباطل)) (13 - 48).

الأصل الثالث

الأصل الثالث ما ذكره العلماء- رحمهم الله- من طريقة أهل البدع في تلقي النصوص والسنة الشريفة (الوحي) سواء كانوا من الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، أو من المرجئة على تنوع مراتبهم وأصنافهم، فهم لا يجمعون بين نصوص الوعد والوعيد؛ بل إنهم – في استدلالهم، ينفردون فيهما بما يؤيد مذاهبهم. أ- فالوعيدية يستدلون بنصوص الوعيد، ويهملون نصوص الوعد، أو لا يجمعونها مع نصوص الوعيد في التلقي والاستدلال. ب- وكذلك المرجئة يعوِّلون على نصوص الوعد، دون اعتبار للنصوص الواردة في الوعيد، وجمعها في التلقي والاستدلال مع نصوص الوعد. فكلاهما آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. أما أهل السنة والجماعة فآمنوا بالكتاب كله، وعولَّوا على النصوص جميعها، فنظروا إلى نصوص الوعيد مع نصوص الوعد، فلم يضطربوا ولم يفرقوا بين المتماثلات وإنما كانوا الأمة الوسط، وأسعد الفريقين بالمذهب الحق. مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص18

الأصل الرابع

الأصل الرابع أن الإيمان وكذا الكفر، لكل منهما خصالٌ وشعبٌ عديدة، ومراتب متعددة، فمن الإيمان شعب إذا زالت زال الإيمان كله كالصدق في الحديث والحياء. وكذلك الكفر منه شعب إذا وقعت وقع الكفر الأكبر كالاستهزاء والسب لله ولدينه ولرسوله، ومنه شعب إذا وقعت لم يقع الكفر الأكبر المخرج عن الملة، كسب المسلم وقتاله والنياحة وغير ذلك، وإنما يكون مقترفها واقعاً في الكفر الأصغر، وهو الكفر العملي، وهو لا يخرج من الملة (¬1). مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص19 ¬

(¬1) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 237)، و ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 516 - 520)، وكتاب ((الصلاة)) لابن القيم (54 - 61)، و ((الرسائل المفيدة)) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (27/ 29)، و ((أعلام السنة المنشورة)) للحافظ الحكمي (73 - 75) وغيرها كثير!

المبحث الثالث: معنى الإقرار والتصديق في كلام السلف

المبحث الثالث: معنى الإقرار والتصديق في كلام السلف أن إيمان القلب يشتمل على أصلين: الأول: قول القلب. الثاني: عمل القلب. وقد ورد عن بعض السلف تفسير إيمان القلب: بالتصديق، أو الإقرار، أو الاعتقاد. ويوصف قول القلب بالعلم أو المعرفة إضافة إلى عمل القلب. فهذه سبعة معان مضافة للقلب وردت في عبارات السلف. وبمعرفة حقيقة هذه المعاني يتضح الفرق بين أقوال القلوب وأعمالها، والعلاقة بينها. حيث إن بعض الناس قد يخلط بين أقوال القلوب وأعمالها، فتخفى عليهم بعض أحكام أعمال القلوب. ولذا سوف أوضح – إن شاء الله – هذه المعاني، وبيان مراد السلف بها، من خلال المسائل الثلاث التالية: المسألة الأولى: المراد بتصديق القلب يطلق تصديق القلب على شيئين: الأول: التصديق الخبري العلمي الذهني، بمعنى أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى المخبر والخبر ذاته مجردا عما سوى ذلك من أعمال القلوب. وهذا هو قول القلب. الثاني: التصديق العملي، أي تصديق الخبر بالامتثال والانقياد. وهذا هو الذي قصده السلف عند إطلاق التصديق. فمن قال من السلف بأن الإيمان هو: التصديق، فإنه يقصد بذلك المعنيين؛ قول القلب وعمله. أو عمل القلب المتضمن لتصديقه. قال الإمام الآجري رحمه الله: (اعلموا – رحمنا الله وإياكم – أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح) (¬1). وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة ولغة العرب وأقوال السلف على أن التصديق ليس محصورا في التصديق الخبري. بل ورد كذلك في التصديق العملي، فمن شواهد ذلك: 1) قوله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 104 - 105]، أي قد امتثلت الأمر وحققته فكأنه قد ذبح ابنه. لأن المقصود هو عمل القلب. 2) قوله تعالى: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33]. فقد فسرها ابن عباس رضي الله عنهما – أن الصدق هو شهادة أن لا إله إلا الله. فمن جاء مصدقا بها من المؤمنين ومصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو المتقي (¬2). 3) قوله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]. قال ابن كثير رحمه الله: قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال) (¬3). وبهذا يتضح معنى تصديق القلب عند السلف إذا أفرد، وأنهم يريدون بذلك التصديق الخبري المستلزم لعمل القلب، أو عمل القلب المتضمن لقوله، أو هما جميعا. ومن الخطأ أن يظن أن مرادهم بالتصديق عند الإطلاق هو مجرد نسبة الصدق إلى الخبر، أو ما أشبهه كالمعرفة المجردة، أو العلم المجرد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولا بد فيه من شيئين: ¬

(¬1) ((الشريعة)) (2/ 611) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 849). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 70). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 284).

تصديق القلب، وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب. ولابد فيه من عمل القلب، مثل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وغير ذلك من أعمال القلوب، التي أوجبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلها من الإيمان) (¬1). وقال أيضاً: (الإيمان وإن كان يتضمن التصديق، فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة، وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له والاستلام، وهو عمل في القلب جماعة الخضوع والانقياد للأمر فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد) (¬2). وقال ابن القيم رحمه الله: (ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا، لكن إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين .. فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق. والثاني: محبة القلب، وانقياده) (¬3). وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: (ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو: التصديق على ظاهر اللغة؛ أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا وباطنا بلا شك، لم يعنوا مجرد التصديق) (¬4). فالحاصل أن لفظ تصديق القلب عند السلف له أربعة معان: 1) أن يراد به قول القلب فقط، وهذا فيما إذا قرن بعمل القلب. 2) أن يراد به عمل القلب المتضمن لقوله. 3) أن يراد به قول القلب المستلزم لعمل القلب. 4) أن يراد به قول القلب وعمله جميعا. وأما أن يفرد ويراد به قول القلب فقط فهذا لم يرد عن السلف، بل هو من اصطلاحات أهل البدع. ثم ليعلم أن التصديق بمعناه الخبري، الذي هو مجرد أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى المخبر والخبر من غير إذعان وقبول؛ يساوي تماما عند السلف والأئمة معنى العلم أو المعرفة، إذ لا يوجد فرق بين العلم والمعرفة والتصديق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد والذي يجعل قول القلب، أمر دقيق. وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما. وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق – إلى أن قال رحمه الله والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن الانقياد وغيره من أعمال القلوب بأنه صادق) (¬5). والمتتبع لبعض تعاريف السلف للإيمان يجد أنهم يعبرون عن التصديق بالمعرفة، وعن المعرفة بالتصديق، بل ويعرفون المعرفة بأنها التصديق، والتصديق بأنه المعرفة. قال الإمام المروزي رحمه الله: (وإنما المعرفة التي هي إيمان: هي معرفة تعظيم الله وجلاله وهيبته، فإذا كان كذلك فهو المصدق الذي لا يجد محيصا عن الإجلال لله بالربوبية) (¬6). ¬

(¬1) ((الإيمان)) (176). (¬2) ((الصارم المسلول)) (3/ 966) وانظر ((الإيمان)) (ص: 120). (¬3) ((الصلاة)) (ص:28). (¬4) ((معارج القبول)) (2/ 17). (¬5) ((الإيمان)) (381). (¬6) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 775).

وقال أيضاً: (ومعنى التصديق: هو المعرفة بالله، والاعتراف له بالربوبية، وبوعده، ووعيده، وواجب حقه، وتحقيق ما صدق به من القول والعمل) (¬1). وقال ابن القيم رحمه الله: (ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار، والانقياد، والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا) (¬2). فتبين من خلال هذه النقول أنه لا فرق بين المعرفة والتصديق المجرد. المسألة الثانية: المراد باعتقاد القلب الاعتقاد في اللغة مصدر عقد يعقد عقدا، مأخوذ من العقد، والربط، والشد بقوة (¬3). وأما اعتقاد القلب عند السلف الصالح فهو يتضمن ركنين قلبيين: الأول: المعرفة والعلم والتصديق. ويطلق عليه قول القلب، وهذا المعنى عندما يقترن الاعتقاد بعمل القلب (¬4). الثاني: الالتزام والانقياد والتسليم. ويطلق عليه عمل القلب، وهذا المعنى للاعتقاد عند السلف إذا جاء مفردا. وبهذا يتبين أن من قال من السلف بأن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح. فمراده بالاعتقاد هنا قول القلب وعمله. ولهذا بوّب الإمام ابن منده رحمه الله في كتابه الإيمان بابا بعنوان: (ذكر خبر يدل على أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالأركان، يزيد وينقص) (¬5). وكذا بوّب الإمام اللالكائي رحمه الله بقوله: (سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان تلفظ باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح) (¬6). ثم ذكر الأدلة الدالة على أنه اعتقاد بالقلب. وتقدم أن من أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، أنهم تارة يقولون: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح (¬7). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. جعل القول والعمل اسما لما ظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب. ولابد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب؛ أعمال القلب المقارنة لتصديقه مثل حب الله، وخشية الله، والتوكل عليه، ونحو ذلك) (¬8). وأما إذا ذكر الاعتقاد مع عمل القلب، فإنه يراد به عند السلف قول القلب. المسألة الثالثة: المراد بإقرار القلب: إقرار القلب يطلق على شيئين: الأول: على قول القلب. وهذا عند ذكره مع عمل القلب. ¬

(¬1) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 695). (¬2) ((زاد المعاد)) (3/ 638). (¬3) ((معجم مقاييس اللغة)) (4/ 86) ((الصحاح)) (2/ 510) ((لسان العرب)) (3/ 296) ((القاموس المحيط)) (383). (¬4) ذكر ابن القيم رحمه الله في ((إغاثة اللهفان)) (1/ 13) أن أقوال القلب هي العقائد. وأعمال القلب هي الإرادة والمحبة والكراهية وتوابعها. (¬5) ((الإيمان)) (ب1/ 341). (¬6) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/ 830)، وانظر ((التمهيد)) (9/ 243). وعرف الشيخ محمد بن صالح العثيمين في كتابه ((شرح ثلاثة الأصول)) (ص: 76) – الإيمان بأنه: (اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح). (¬7) ((الإيمان لابن تيمية)) (ص: 162). (¬8) ((الإيمان الأوسط المطبوع ضمن مجموع الفتاوى)) (7/ 506).

الثاني: على عمل القلب. ويكون المراد به الالتزام، وهذا عند الإطلاق، كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]. فالإقرار هنا ليس معناه الخبر المجرد، بل معناه الالتزام للإيمان والنصرة للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو الإيمان بما فيه عمل القلب. ويقابل الإقرار بالمعنى الأول الإنكار والجحود. وبالمعنى الثاني يقابله الإباء والامتناع. كما أن الكفر منه كفر إنكار وجحود. ومنه كفر إباء وامتناع ككفر إبليس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولفظ الإقرار: يتناول الالتزام والتصديق، ولابد منهما، وقد يراد بالإقرار مجرد التصديق بدون التزام الطاعة) (¬1). وقد تقدم كلام شيخ الإسلام أن قول القلب: هو تصديقه وإقراره ومعرفته (¬2). وعليه فيقال في الإقرار كما قيل في التصديق والاعتقاد. وخلاصة هذا المبحث: أن التصديق والاعتقاد والإقرار يتناول عند السلف: 1) قول القلب فقط، وذلك عند اقترانها بعمل القلب. 2) قول القلب المستلزم لعمل القلب. 3) عمل القلب، المتضمن لقول القلب. 4) قول القلب وعمله جميعا. وكل ذلك بحسب التقييد والإطلاق. فيتبين بذلك مراد السلف في عباراتهم، وأنه لا اختلاف بينها. وأما معرفة القلب وعلمه فلا إشكال في أن المراد بها قول القلب فقط. أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السنة والجماعة وعند مخالفيهم للعتيبي-141 ¬

(¬1) ((الإيمان)) (ص: 380). (¬2) ((الإيمان)) (ص: 176).

المبحث الرابع: معنى قول السلف الإيمان قول وعمل

المبحث الرابع: معنى قول السلف الإيمان قول وعمل من الواضح لكل ذي عقل سليم أن معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل هو: أنه التزام وتنفيذ وإقرار واعتقاد وطاعة -بالقلب واللسان والجوارح- ولكن المرجئة باستخدامهم المتكلف لمنطق اليونان والفلسفة الأعجمية العجماء- فهموا أن هذه العبارة حد منطقي غير جامع ولا مانع، إذ لم يفهموا إلا أن القول هو ألفاظ اللسان والعمل حركات الجوارح، فاعترضوا على قول السلف -من هذا الوجه- بأنهم أهملوا إيمان القلب! وتبعهم في هذا بعض المتأخرين ممن تأثر بمنطق هؤلاء ومنهجهم في التفكير. وبعضهم ذهب به الخبث إلى التحايل على العبارة نفسها، فقالوا: صحيح أن الإيمان قول وعمل، ولكن من قال بلسانه: لا إله إلا الله- فقد عمل أما عمل الجوارح فليس من الإيمان فأخرجوا عبارة السلف عن معناها البدهي الفطري إلى هذا المعنى السقيم الساقط. ولهذا اقتضى الأمر إيضاح معنى كلام السلف بشيء من التفصيل، فنقول: إن الإيمان عند السلف حقيقة شرعية في غاية الوضوح، فهي ترادف وتساوي كلمة الدين، حتى إن كثيراً منهم كان نص عبارته: الدين قول وعمل، وليس في معنى الدين خفاء يحتاج معه أي مسلم إلى تكلفات منطقية وسفسطة كلامية، بل لم يكن هنالك حاجة إلى تعريفه أو بيان معناه أصلاً، وكيف يعرفون أمراً يعيشونه ويعملونه ويقرءون حقائقه كل حين. فلما ابتدعت المرجئة قولها: إن الإيمان قول فقط -متأثرة بالمنطق الغريب عن الإسلام والفطرة واللغة- أكذبَهم السلف وردوا دعواهم قائلين: بل هو قول وعمل، فمن ها هنا نشأت العبارة. فلا المرجئة الذين ابتدعوا ذلك -أول مرة- أرادوا ألفاظ اللسان المجردة عن إيمان القلب، ولا السلف الذين ردوا عليهم أرادوا ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل إيمان القلب أيضاً. ولكن المعركة الجدلية المستمرة ودافع الهوى والشبهة وترك منطق الفطرة والبديهة إلى منطق اليونان؛ كل ذلك جعل المرجئة يتحايلون على الألفاظ، ويماحكون في المعاني لتصحيح نظريتهم. والحاصل: أن أعمال القلوب لم تكن موضع نزاع بين السلف وأصناف المرجئة المتقدمين، إلا فرقة شاذة هي فرقة الجهم بن صفوان ومن وافقه كالصالحي، وهي فرقة كفرها السلف بهذا، وبمقالاتها الأخرى في الصفات والقدر, ...... وإنما أصبحت أعمال القلوب محل نزاع كبير بعد أن تبنى الأشاعرة مذهب جهم في الإيمان، وحصروه في عمل قلبي واحد وهو التصديق، ومال إليهم الماتريدية الذين كان أصل مذهبهم على إرجاء المتقدمين الحنفية، فحينئذٍ بعدت الشقة وعظمت الظاهرة حتى آل الأمر إلى أن تصبح عقيدة الإرجاء الجهمي هي عقيدة عامة الأمة في القرون الأخرى، ..... وهذا ما استدعى علماء السنة في عصر انتشار الظاهرة إلى إيضاح معنى قول السلف وبسط القول في أعمال القلوب وأهميتها، وهذا ما نفعله هنا نقلاً عنهم وإيضاحاً لكلامهم: يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: (أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك: أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح. فأما قول القلب: فهو التصديق الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم الناس في هذا على أقسام: أ- منهم من صدق به جملةً ولم يعرف التفصيل. ب- ومنهم من صدق جملةً وتفصيلاً. ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق -مجملاً أو مفصلاً- ومنهم من يغفل عنه ويذهل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة, أو تقليد جازم.

قال: وهذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيم الله ورسوله وتعزير الله ورسوله وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال. فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة المعلول. ويتبع الاعتقاد قول اللسان، ويتبع عمل القلب عمل الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك (¬1)). وقال بعد أن نقل عبارات السلف المذكورة .... : (وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد، كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11]. وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله. فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر ((¬2). قال: (وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب، ولا بد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل: حب الله وخشية الله، والتوكل على الله ونحو ذلك. فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها ((¬3). وقد سبق ضمن كلامه الشبيه بهذا ..... قوله: (إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح ((¬4). وقوله: (فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً) (¬5) وعند هذه العبارة علق المحقق بقوله: وعلى هامش النسخة الهندية: وقول القلب هو إقراره ومعرفته وتصديقه، وعمله هو انقياده لما صدق به. ويقول الإمام ابن القيم: (إن الإيمان قول وعمل، والقول قول القلب واللسان, والعمل عمل القلب والجوارح، وبيان ذلك أن من عرف الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمناً كما قال عن قوم فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]. وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح: وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت:38]. وقال موسى لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102]. فهؤلاء حصلوا قول القلب -وهو المعرفة والعلم- ولم يكونوا بذلك مؤمنين، وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمناً، بل كان من المنافقين. وكذلك: من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة، فيحب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويوالي أولياء الله ويعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده، وينقاد لمتابعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعته والتزام شريعته ظاهراً وباطناً. وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه حتى يفعل ما أمر به، فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه) (¬6) ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 672). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 505 - 506). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 506). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 171). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 170). (¬6) ((عدة الصابرين)) (ص: 88 - 89).

والحاصل أن السلف وعلماء أهل السنة والجماعة في كل عصر إنما يستخدمون في منهج التفكير المنطق الفطري البدهي الذي يقسم عمل الإنسان بحسبه قسمين: ظاهر وباطن. فالباطن: قول القلب وعمله، والظاهر: قول اللسان وعمل الجوارح. فعلى هذا قالوا: الإيمان قول وعمل، أي: شامل للظاهر والباطن، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك ما هو معروف -بداهةً وفطرةً- من أن حقيقة الإنسان قسمان: قلب وأعضاء، وأعماله قسمان: أقوال وأفعال، فيكون أشمل عبارة أن يقال: قول وعمل بالقلب والأعضاء، وهذا هو مراد السلف قطعاً، وإنما اكتفوا عن آخر الجملة بأولها؛ لأن منهجهم الفطري في التفكير ومنهجهم البليغ في التعبير هو القصد إلى المطلوب بإيجاز دون العروج على ما هو معلوم بداهة. وبهذا يظهر أن عبارة قول وعمل على إيجازها جامعة مانعة، لا من جهة أنها حد منطقي -أي تعريف للماهية- ولكن من جهة أنها كشف عن الحقيقة وبيان لها. ولذلك فإنني -بعد طول تأمل- أختار هذه العبارة وأفضلها على عبارة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان ونحوها، على أن تشرح بما أوضحنا آنفاً، ومن أسباب الاختيار: أنها المنقولة عن متقدمي السلف، مع إيجازها وشمولها. أن العبارة الأخرى لا تسلم أيضاً من الفهم الخطأ. فإن فهم بعض الناس -المرجئة وغيرهم- أن: (قول وعمل) تعني قول اللسان وعمل الجوارح دون قول القلب وعمله أمر تنكره البديهة وترده، ولكن العبارة الأخرى توقع في لبس قلَّ من يفطن له ولا يستطيع كل أحد رده، وهو أن هذه الثلاثة- أي الاعتقاد والقول والعمل- منفصلة بعضها عن بعض، بمعنى أن الطاعات -التي هي فروع الإيمان وشعبه- على ثلاثة أقسام: قسم قلبي، وقسم لساني، وقسم عملي وعلى هذا قد يفهم أنه يمكن أن يتحقق في الإنسان ركنان من ثلاثة بأن يتحقق لديه الاعتقاد والقول مع عدم العمل بالكلية، وهذا الذي جزم السلف باستحالة وقوعه. وبيان ذلك يتضح من خلال تأمل كلام أحد علماء السنة المحققين- وهو الحافظ ابن حجر -رحمه الله- وهو من هو علماً وفهماً وإحاطة بأقوال السلف، فانظر إليه حين يقول- شرحاً لترجمة البخاري، وهو قول وفعل يزيد وينقص: (فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى. فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص ..... والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله. وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم .. ) (¬1) إلخ فقارئ كلامه يفهم منه التناقض بين تعريفي السلف في موضوع العمل، فإنه في التعريف الأول: قول وعمل يعتبر ركناً، في حين أنه حسب التعريف الأخير: اعتقاد وقول وعمل ليس إلا شرط كمال فقط. ويفهم منه -كذلك- أن الفرق بين المرجئة والسلف، أن السلف: زادوا على تعريف المرجئة العمل وجعلوه شرط كمال، وعليه فمن ترك العمل بالكلية فهو عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، وعند السلف مؤمن تارك لشرط الكمال فحسب. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (1/ 46).

ويمكن أن نفهم منه أيضاً أن تعريف المرجئة والمعتزلة أوجه من تعريف السلف، لأن المرجئة عرفوه بركنين والمعتزلة بثلاثة والسلف عرفوه -حسب فهمه- بركنين وشرط كمال، والتعريفات إنما تذكر الأركان لا الشروط ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - بتصرف – 1/ 221 ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح (¬1). فهذه خمسة أمور اشتمل عليها مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول القلب، وعمله، وقول اللسان، وعمله، وعمل الجوارح. والأدلة على دخول هذه الأمور في مسمى الإيمان كثيرة وفيرة وفيما يلي ذكر بعضها: أولا: قول القلب، وهو تصديقه وإيقانه، قال الله تعالى: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 33 - 34] وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75] وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] وقال تعالى في المرتابين الشاكين: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167]. وفي حديث الشفاعة ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة)) (¬2)، وغير ذلك من الأدلة. ثانيا: قول اللسان وهو النطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإقرار بلوازمهما، قال الله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]، وقال تعالى: وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص: 53] وقال تعالى: وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ [الشورى: 15] وقال تعالى: إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: 13] وقال صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله .. )) (¬3) وما في معنى هذا من النصوص. ¬

(¬1) ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية (ص: 161) بشرح الهراس. (¬2) رواه البخاري (13/ 473) ومسلم (1/ 177). (¬3) رواه البخاري (25)، ومسلم (138). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ثالثا: عمل القلب، وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد، والإقبال على الله عز وجل، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه، قال الله تعالى: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 52] وقال: وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل: 20] وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]، وقال: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60] وغير ذلك من النصوص الدالة على وجوب التوكل والخوف والرجاء والخشية والخضوع والإنابة وغير ذلك من أعمال القلوب، وهي كثيرة جدا في الكتاب والسنة. رابعا: عمل اللسان، وهو العمل الذي لا يؤدى إلا به كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح والتحميد والتكبير والدعاء والاستغفار وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى باللسان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ [فاطر: 29]، وقال: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف: 27]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا [الأحزاب: 41 - 42] وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المزمل: 20]. وغير ذلك من نصوص الشرع الدالة على أعمال اللسان والطاعات التي تؤدى به. خامسا: عمل الجوارح، وهو العمل الذي لا يؤدى إلا بها مثل القيام والركوع والسجود والمشي في مرضاة الله، كمثل الخطا إلى المساجد وإلى الحج وإلى الجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى بالجوارح، قال الله تعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج: 77 - 78] وقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 63 - 64]، والنصوص في هذا كثيرة جدا (¬1). قال محمد بن حسين الآجري في باب (القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان, وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمناً إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث) قال: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح. ¬

(¬1) ((معارج القبول)) للحكمي (2/ 17).

ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا، ولا تجزئ معرفة القلب ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمناً، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين .. ) (¬1). ثم ساق من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية ما يدل على ذلك ويؤيده. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص:21 - 25 قال حافظ الحكمي رحمه الله تعالى في شرح قوله في منظومة سلم الوصول اعْلَمْ بِأَنَّ الدينَ قوْلٌ وعَمَلْ ... فَاحْفَظْهُ وَافْهَمْ مَا عَلَيْهِ ذَا اشْتَمَلْ قال: (اعلم) يا أخي وفقني الله وإياك والمسلمين (بأن الدين) الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ورضيه لأهل سماواته وأرضه وأمر أن لا يعبد إلا به ولا يقبل من أحد سواه ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه ولا أحسن دينا ممن التزمه واتبعه هو (قول) أي بالقلب واللسان (وعمل) أي بالقلب واللسان والجوارح فهذه أربعة أشياء جامعة لأمور دين الإسلام. الأول قول القلب وهو تصديقه وإيقانه قال الله تعالى: وَالذِّي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المحُسْنِين [الزمر: 33 - 34] وقال الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75] وقال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] صدقوا ثم لم يشكوا وفي حديث الدرجات العلى: ((بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) (¬2) وقال الله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] وقال الله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136] الآيات وقال الله تعالى: وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ [الشورى: 15] وغير ذلك من الآيات. وفي حديث الشفاعة: ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة)) (¬3) الحديث. وفي حديث الآخرة: ((فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان)) (¬4). ¬

(¬1) ((الشريعة)) للآجري (19) وانظر ((شرح اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (4/ 832). (¬2) رواه البخاري (3256)، ومسلم (2831). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (7410)، ومسلم (193). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (7510)، ومسلم (193). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وقال الله تعالى في المكذبين: أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [يس: 10] وقال الله تعالى في المرتابين الشاكين: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] وقال فيهم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ [المائدة: 41] وقال الله تعالى فيهم: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] أي: في قولهم نشهد أي كذبوا إنهم لا يشهدون بذلك بقلوبهم إنما هو بألسنتهم تقية ونفاقا ومخادعة. الثاني: قول اللسان وهو النطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والإقرار بلوازمها قال الله تعالى: وَقُولُوا آمَنَّا [البقرة: 136] وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص: 53]، وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ [الشورى: 15] وقال الله تعالى: إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ [الزخرف: 86] إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: 13] وقال صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله)) (¬1) وما في معناه مما سنذكر وما لا نذكر. ¬

(¬1) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

والثالث عمل القلب وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والإقبال على الله عز وجل والتوكل عليه ولوازم ذلك وتوابعه قال الله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الذِّينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه [الأنعام: 52] إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله [الإنسان: 9] الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2] وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] وقال الله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 3]، وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين [البينة: 5]، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي [الزمر: 14]، وقال الله تعالى: وَالذِّينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله [البقرة: 165]، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31]، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7]، وقال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء: 125] وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان: 22]، فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج: 34] فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) (¬2). و ... قال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) (¬3) الحديث وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (16)، ومسلم (43). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (15)، ومسلم (44). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل صالح يقربني إلى حبك)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين)) (¬2) ... ¬

(¬1) رواه الترمذي (3235)، وأحمد (5/ 243) (22162). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه أحمد (3/ 424) (15531)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 156)، والبزار في ((البحر الزخار)) (9/ 63) (3147). من حديث رفاعة بن رافع الزرقي. قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه رواه عنه رفاعة بن رافع وحده، ولا نعلم رواه عبيد إلا عبد الواحد بن أيمن وهو رجل مشهور ليس به بأس في الحديث روى عنه أهل العلم. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 176): رواه أحمد والبزار واقتصر على عبيد بن رفاعة عن أبيه وهو الصحيح ... ورجال أحمد رجال الصحيح. وقال الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (261): صحيح.

الرابع عمل اللسان والجوارح فعمل اللسان ما لا يؤدى إلا به كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار وغير ذلك وعمل الجوارح ما لا يؤدى إلا بها مثل القيام والركوع والسجود والمشي في مرضاة الله كنقل الخطا إلى المساجد وإلى الحج والجهاد في سبيل الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما يشمله حديث شعب الإيمان قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ [فاطر:29] الآيات وقال الله تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف: 27] وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب: 41] وقال الله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205] الآيات وقال الله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء: 111] وقال الله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا [الكهف: 46] وهي ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)) (¬1) ¬

(¬1) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 212)، والحاكم (1/ 725)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 425) (606). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (3214): صحيح ..

وقال الله تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55] الآيات، وقال الله تعالى: وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المزمل: 20] وقال الله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] الآيات وقال الله تعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج: 77 - 78] الآيات وقال الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 63 - 64] الآيات وقال الله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 9] وقال الله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 111 - 112]. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها وإنما المقصود تقرير هذه الأمور من أصول الدين فإذا حققت هذه الأمور الأربعة تحقيقاً بالغاً وعرفت ما يراد بها معرفة تامة وفهمت فهما واضحا ثم أمعنت النظر في أضدادها ونواقضها تبين لك أن أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة: كفر جهل وتكذيب، وكفر جحود، وكفر عناد واستكبار، وكفر نفاق فأحدها يخرج من الملة بالكلية وإن اجتمعت في شخص فظلمات بعضها فوق بعض والعياذ بالله من ذلك لأنها إما أن تنتفي هذه الأمور كلها قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح أو ينتفي بعضها فإن انتفت كلها اجتمع أنواع الكفر غير النفاق إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ [البقرة: 6 - 7].

وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق فكفر الجهل والتكذيب قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس: 39] وقال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 84]. وإن كتم الحق مع العلم بصدقه فكفر الجحود والكتمان قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 14] وقال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة: 89] وقال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة: 146 - 147]. وإن انتفى عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة والإذعان مع انقياد الجوارح الظاهرة فكفر نفاق سواء وجد التصديق المطلق أو انتفى وسواء انتفى بتكذيب أو شك قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ - إلى قوله - وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 8 - 20] وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع معرفة بالقلب والاعتراف باللسان فكفر عناد واستكبار ككفر إبليس وكفر غالب اليهود شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه أمثال حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم وكفر من ترك الصلاة عنادا واستكبارا ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) (¬1). ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا وباطنا بلا شك لم يعنوا مجرد التصديق فإن إبليس لم يكذب في أمر الله تعالى له بالسجود وإنما أبى عن الانقياد كفرا واستكبارا واليهود كانوا يعتقدون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه وفرعون كان يعتقد صدق موسى ولم ينقد بل جحد بآيات الله ظلما وعلوا فأين هذا من تصديق من قال الله تعالى فيه: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33] الآيات وأين تصديق من قال الله فيهم: قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة: 93] وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 76] من تصديق من قالوا وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] والله الموفق معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص735 ¬

(¬1) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

وأقوال السلف الصالح في هذه المسألة متفقة على أن الإيمان قول وعمل، وسنذكر بعض أقوالهم على النحو التالي: يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. (¬1) وعقد الإمام الآجري رحمه الله باباً في كتابه (الشريعة) قائلاً: باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، ولا يكون مؤمناً إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث (¬2). وقال الإمام ابن بطة رحمه الله في تعريف الإيمان: معناه التصديق بما قاله، وأمر به وافترضه، ونهى عنه من كل ما جاءت به الرسل من عنده، ونزلت فيه الكتب، وبذلك أرسل المرسلين، فقال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] والتصديق بذلك قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان. (¬3) ... تنوعت عبارات السلف الصالح في تعريف الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة وكل هذا صحيح، فليس بين هذا العبارات اختلاف معنوي، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: إذا قالوا: قول وعمل فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام، ونحو ذلك إذا أطلق فإن القول المطلق، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فقول باللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد (كقوله تعالى يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11] وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب، هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله، فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر. ¬

(¬1) انظر: ((السنة)) للإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل (1/ 307)، وله عدة روايات في تعريف الإيمان. (¬2) ((الشريعة)) للإمام الآجري (ص119). (¬3) ((الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة)) (ص176).

ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك، فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط. فقالوا: بل هو قول وعمل، والذين جعلوه (أربعة أقسام) فسروا مرادهم، كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة (¬1) ... يقول ابن تيمية في هذا الشأن: إن الإيمان قول وعمل، فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو الفعل، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد، ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح، إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها، فمتى لم توجب زكاء النفس، ولا صلاحها، فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب. (¬2)) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف – ص17 قال الإمام محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني: (والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب، والعمل بالأركان). (¬3). وقال الإمام البغوي: (اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان .. وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة). (¬4) وقال الحافظ ابن عبد البر: (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية ... إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيماناً (¬5) ... ). (قال الإمام الشافعي في (كتاب الأم) .. وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من بعدهم ممن أدركنا: أن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة عن الآخر) (¬6). وروى الإمام اللالكائي عن الإمام البخاري قوله: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص (¬7). والنصوص عن الأئمة كثيرة جداً في قولهم: إن الإيمان قول وعمل، نقل كثيراً منها المصنفون في عقيدة أهل السنة من الأئمة المتقدمين كالإمام اللالكائي وابن بطه وابن أبي عاصم وغيرهم. ولا فرق بين قولهم: إن الإيمان قول وعمل، أو قول وعمل ونية، أو قول وعمل واعتقاد. فكل ذلك من باب اختلاف التنوع، فمن قال من السلف: إن الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح. ومن زاد الاعتقاد رأى لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك، فزاد الاعتقاد بالقلب. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 170 - 171) بتصرف يسير، وانظر: (7/ 505 - 506). (¬2) ((الصارم المسلول)) (ص 369 - 370). (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 146). (¬4) ((شرح السنة)) (1/ 38 - 39). (¬5) ((التمهيد)) (9/ 238) وانظر (9/ 243) منه. (¬6) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 887). (¬7) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 886)، وذكره الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 47).

ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد (قول القلب)، وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية (عمل القلب)، فزاد ذلك (¬1). خلاصة ما سبق من حقيقة الإيمان الشرعي أنها (مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب: وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به) (¬2). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – 1/ 31 أجمع السلف ... (أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك أنه قول القلب، وعمل القلب، ثم قول اللسان، وعمل الجوارح) (¬3). فقول القلب هو: الـ (تصديق بالقلب، وإقراره، ومعرفته) (¬4). ويراد به: (التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم) (¬5). (وهذا أصل القول) (¬6). وأما عمل القلب فـ (هو حب الله ورسوله، وتعظيم الله ورسوله، وتعزير الرسول وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه، والإخلاص له، والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال، فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد، إيجاب العلة المعلول) (¬7). (وهذا أصل العمل) (¬8). (والفرق بين أقوال القلب وأعماله؛ أن أقواله هي العقائد التي يعترف بها ويعتقدها، وأما أعمال القلب فهي حركته التي يحبها الله ورسوله، وهي محبة الخير وإرادته الجازمة، وكراهية الشر والعزم على تركه) (¬9). وأما قول اللسان فهو (الإقرار بالله وبما جاء من عنده والشهادة لله بالتوحيد، ولرسوله بالرسالة، ولجميع الأنبياء والرسل، ثم التسبيح والتكبير، والتحميد، والتهليل، والثناء على الله، والصلاة على رسوله، والدعاء، وسائر الذكر) (¬10). وأما عمل الجوارح فهو (أفعال سائر الجوارح من الطاعات والواجبات التي بني عليها الإسلام، أولها إتمام الطهارات كما أمر الله عز وجل، ثم الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والزكاة على ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وترك الصلاة كفر، وكذلك جحود الصوم والزكاة والحج، والجهاد فرض على كفاية مع البر والفاجر، وسائر (الأعمال) التطوع التي يستحق بفعلها اسم زيادة الإيمان، والأفعال المنهي عنها التي بفعلها يستحق نقصان الإيمان) (¬11). فأعمال الجوارح تنشأ عن أعمال القلوب وهي أصله، وقول اللسان ينشأ عن قول القلب وهو أصله. قال شيخ الإسلام: (فالإيمان لا بد فيه من هذين الأصلين: ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 171). (¬2) ((الصلاة وحكم تاركها)) لابن القيم (ص: 54). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 672). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 186). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 672). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 540). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 672). (¬8) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 540). (¬9) ((شرح العقيدة الواسطية)) لصالح الفوزان (ص: 179). (¬10) ((الإيمان)) لابن منده (1/ 362). (¬11) ((الإيمان)) لابن منده (1/ 362)

التصديق بالحق، والمحبة له، فهذا أصل القول، وهذا أصل العمل. ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والعمل الظاهر ضرورة ... وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة ... ) (¬1). فلهذا كانت هذه الأربعة أجزاء في الإيمان وأركانه التي قام عليها بناؤه. قال ابن القيم: (إن الإيمان قول وعمل؛ والقول قول القلب واللسان، والعمل عمل القلب والجوارح. وبيان ذلك أن من عرف الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمناً، كما قال عن قوم فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ [النمل: 14]. وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت: 38]. وقال موسى لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ [الإسراء: 102]. فهؤلاء حصلوا قول القلب، وهو المعرفة والعلم، ولم يكونوا بذلك مؤمنين. وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمناً، بل كان من المنافقين. وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة، فيحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده، وينقاد لمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته والتزام شريعته ظاهراً وباطناً. وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه حتى يفعل ما أمر به، فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه) (¬2). (فإن انتفت كلها اجتمع أنواع الكفر غير النفاق ... وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق فكفر الجهل والتكذيب ... وإن كتم الحق مع العلم بصدقه فكفر الجحود والكتمان ... وإن انتفى عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة والإذعان مع انقياد الجوارح الظاهرة فكفر نفاق، سواء وجد التصديق المطلق أو انتفى، وسواء انتفى بتكذيب أو شك ... وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان فكفر عناد واستكبار ... ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (¬3)) (¬4). براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 57 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 540). (¬2) ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 129). (¬3) رواه البخاري (52)، ومسلم (4178). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬4) ((معارج القبول)) لحافظ حكمي (2/ 22 - 23).

المبحث الخامس: أصول من كلام أئمة أهل السنة

الأصل الأول: لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا يكون إيمان إلا بإسلام. فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل البدن من الروح (فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر، فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حياً إلا مع الروح، بمعنى أنهما متلازمان لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر) (¬1). ومثلهما –أيضاً- (كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد، كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه) (¬2). ومثلهما - أيضاً – (كفسطاط قائم في الأرض له ظاهر وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط مثل الإسلام، له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في وسط الفسطاط، مثله كالإيمان، لا قوام للفسطاط إلا به، فقد احتاج الفسطاط إليها، إذ لا قوام له ولا قوة إلا بها، كذلك الإسلام في أعمال الجوارح، لا قوام له إلا بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب، لا نفع له إلا بالإسلام، وهو صالح الأعمال) (¬3). براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 93 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 367). (¬2) ((شرح الطحاوية)) لعلي بن علي بن أبي العز الدمشقي (2/ 490). (¬3) من كلام أبي طالب المكي، انظر: ((كتاب الإيمان)) لابن تيمية (ص: 318).

الأصل الثاني: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بالإيمان

الأصل الثاني: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بالإيمان وهذا قول أئمة الإسلام: الأوزاعي ومالك وسعيد بن عبدالعزيز التنوخي، كانوا (ينكرون قول من يقول: إن الإيمان إقرار بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بالإيمان) (¬1). وقال عطاء: (فألزم الاسم العمل، وألزم العمل الاسم). ويزيد في إيضاح ما تقدم – مع وضوحه – قول عبدالله بن عبيد بن عمير الليثي: (الإيمان بالله مع العمل، والعمل مع الإيمان، ولا يصلح هذا إلا مع هذا حتى يقدمان على الخير إن شاء الله) (¬2). وأما أهل البدع فقد فرقوا بين الإيمان والعمل، قال الإمام القدوة الثبت أبو علي الفضيل بن عياض التميمي: (فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليس من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله عز وجل أمره. ويقول أهل السنة: إن الله – عز وجل – قرن العمل بالإيمان، وأن فرائض الله - عز وجل - من الإيمان، قالوا: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [البقرة: 82] فهذا موصول العمل بالإيمان. ويقول أهل الإرجاء: إنه مقطوع غير موصول. وقال أهل السنة: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء: 124] فهذا موصول. وأهل الإرجاء، يقولون: بل هو مقطوع. وقال أهل السنة: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن [الإسراء: 19] فهذا موصول، وكل شيء في القرآن من أشباه ذلك، فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع. وأهل الإرجاء يقولون: هو مقطوع متفرق. ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل، وكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون) (¬3). فانظر إلى هذا الإلزام الذي ألزمته أهل السنة المرجئة، وهو يدل على أن المرجئة الذين أنكر السلف قولهم لا ينكرون الوعيد في حق العصاة، ولا ينكرون بأن من لم يأت بالعمل أنه تارك للفرائض، وأنه معرض للوعيد، لكنهم يرفضون دخول العمل في الإيمان، وأن من لم يأت به ليس مؤمناً، وهذا هو مرادهم من فصل العمل عن الإيمان. (وقد جاء عن الإمام الشافعي في مناظرته أحد المرجئة الذين قالوا: إن الإيمان قول. قال الإمام الشافعي: ومن أين قلت؟ قال: من قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [البقرة: 277]. فصار الواو فصلاً بين الإيمان والعمل؛ فالإيمان قول، والأعمال شرائع. فقال الشافعي: وعندك الواو فصل؟ قال: نعم. قال: فإذا كنت تعبد إلهين: إلهاً في المشرق، وإلهاً في المغرب؛ لأن الله تعالى يقول: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17] فغضب الرجل، وقال: سبحان الله! أجعلتني وثنياً. فقال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك. قال: كيف؟ قال: بزعمك أن الواو فصل. فقال الرجل: فإني أستغفر الله مما قلت، بل لا أعبد إلا رباً واحداً، ولا أقول بعد اليوم: إن الواو فصل، بل أقول: إن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص) (¬4). فقول المرجئ (والأعمال شرائع) يدل على أن الأعمال عندهم مطلوبة، وهذا محل اتفاق عندهم، قال عبدالقاهر البغدادي – عند كلامه على الأصول التي اجتمع عليها أهل السنة يعني الأشاعرة -: (قالوا في الركن الثالث عشر: المضاف إلى الإيمان والإسلام: إن أصل الإيمان المعرفة والتصدق بالقلب، وإنما اختلفوا في تسمية الإقرار وطاعات الأعضاء إيماناً مع اتفاقهم على وجوب الطاعات المفروضة، وعلى استحباب النوافل المشروعة ... ). وجمهورهم على أن تارك الطاعات المفروضة معرض للوعيد، لكنهم يختلفون مع السلف في إدخالها في الإيمان، أي في ترتيب الإيمان على وجودها، والكفر على انتفائها، وهذا ما تدل عليه مقولة السلف: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان. براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 94 ¬

(¬1) ((صريح السنة)) (ص: 25)، و ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) لللالكائي (4/ 930). (¬2) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) لللالكائي (4/ 930). (¬3) ((السنة)) عبدالله بن أحمد بن حنبل الشيباني (1/ 376). (¬4) أخرج هذه المناظرة أبو نعيم في ((الحلية)) (9/ 110).

الأصل الثالث: لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل عمل إلا بقول

الأصل الثالث: لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل عمل إلا بقول لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل عمل إلا بقول قالها سعيد بن جبير، وتتابع أئمة أهل السنة عليها: فمن قائل: لا يجوز القول إلا بالعمل. ومن قائل: لا يكون قول إلا بعمل. ومن قائل: لا يستقيم قول إلا بعمل. ومن قائل: لا يصلح قول إلا بعمل. ومن قائل: لا ينفع قول إلا بعمل. وهي متواردة على معنى واحد، وهو (أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمناً) (¬1). براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 97 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 120).

الأصل الرابع: الإيمان قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر

الأصل الرابع: الإيمان قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر الإيمان: قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر. قاله الزهري وقد جاء نحو هذا القول في حديث مرسل، عن محمد بن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بالله والعمل قرينان، لا يصلح واحد منهما إلا مع صاحبه)) (¬1). وبوب عليه الحافظ المسند شيخ الحرم في زمانه محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني في كتابه (الإيمان): باب ملازمة العمل للإيمان. ونص على مضمونه عدد من أئمة أهل السنة في عقائدهم: - الإمام المزني – رحمه الله: قال: (والإيمان قول وعمل مع اعتقاده بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، وهما سيان ونظامان وقرينان لا نفرق بينهما، لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان) (¬2). - وقال أبو طالب المكي: (الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما بدون صاحبه). - وقال ابن أبي زمنين: (والإيمان بالله هو باللسان والقلب، وتصديق ذلك العمل. فالقول والعمل قرينان لا يقوم أحدهما إلا بصاحبه) (¬3). براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 98 ¬

(¬1) رواه العدني في ((الإيمان)) (ص: 79). قال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (2245):هذا إسناد ضعيف لإرساله. (¬2) ((شرح السنة)) للمزني (ص: 78). (¬3) ((رياض الجنة بتخريج أصول السنة)) لابن أبي زمنين (ص: 207)

الأصل الخامس: أن ترك الفرائض ليس بمنزلة ركوب المحارم

الأصل الخامس: أن ترك الفرائض ليس بمنزلة ركوب المحارم أن ترك الفرائض ليس بمنزلة ركوب المحارم وقد ذكر هذا الإمام الثقة الحافظ الفقيه أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي، قال رحمه الله: (والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصراً بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم، وليس بسواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر) (¬1). براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 99 ¬

(¬1) ((السنة)) لعبدالله بن أحمد (1/ 347 - 348).

الأصل السادس: قول أهل السنة إنا لا نكفر بالذنب، إنما يراد به المعاصي لا المباني

الأصل السادس: قول أهل السنة إنا لا نكفر بالذنب، إنما يراد به المعاصي لا المباني قال شيخ الإسلام: (نحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي: كالزنا والشرب. وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور، وعن أحمد في ذلك نزاع، وإحدى الروايات عنه: أنه يكفر من ترك واحدة منها، وهو اختيار أبي بكر وطائفة من أصحاب مالك، كابن حبيب. وعنه رواية ثانية: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط. ورواية ثالثة: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة إذا قاتل الإمام عليها. ورابعة: لا يكفر إلا بترك الصلاة. وخامسة: لا يكفر بترك شيء منهن. وهذه أقوال معروفة للسلف. قال الحكم بن عتيبة: (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الحج متعمداً فقد كفر، ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر). وقال سعيد بن جبير: (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر بالله). وقال الضحاك: (لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة) (¬1). وقال عبدالله بن مسعود: (من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له)، رواه أسد بن موسى (¬2). وقال عبدالله بن عمرو: (من شرب الخمر ممسياً أصبح مشركاً، ومن شربه مصبحاً أمسى مشركاً، فقيل لإبراهيم النخعي: كيف ذلك؟ قال: لأنه يترك الصلاة) (¬3). وبهذا يعلم أن من قال بكفر تارك أحد المباني الأربعة لم يخرج من أقوال أهل السنة، وإن كنا نرى أن قوله قول مرجوح في غير الصلاة، والله أعلم. براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 99 ¬

(¬1) ((الأموال)) لابن زنجويه (1064). (¬2) رواه الطبراني (9/ 199) (8974). (¬3) انظر هذه الآثار الحديثية والروايات الفقهية في ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 287 - 288).

الأصل السابع: في بيان الفرق بين ترك الصلاة وترك العمل

الأصل السابع: في بيان الفرق بين ترك الصلاة وترك العمل يخلط بعض من يتكلم في موضوعنا بين مسألة ترك الصلاة، ومسألة ترك العمل، ولم يميز بينهما؛ إما لدخول الشبهة عليه، وإما للتشغيب على مخالفه، حتى تمنطق بعضهم مناقشاً مخالفه في محاورة من نسج خياله هذى بها أمام أصحابه قائلاً: نقول لهم: ما تقولون في رجل ترك الزكاة والصيام والحج لكنه يصلي، أيكفر؟ قال: فإن قالوا لا يكفر، قيل لهم: فما تقولون في رجل فعل جميع الأركان: الزكاة والصوم والحج إلا الصلاة، أيكفر؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: إذاً المسألة مسألة ترك الصلاة، وهي مسألة خلافية، خالف فيها كثير من العلماء، فلماذا تنكرون على العلماء، وترمونهم بالإرجاء!! وقد طار فرحاً هذا المتمنطق بهذا الخيال الذي ظن أنه مفحم لخصمه وناقض لمذهبه. فلقطع الطريق أمام كل مشغب، ولتجلية الموضوع لكل من اشتبه عليه الأمر أقول: 1 - (شعار المسلمين الصلاة؛ ولهذا يعبر عنها بها، فيقال: اختلف أهل الصلاة، واختلف أهل القبلة. والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين. وفي الصحيح: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا)) (¬1). وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة) (¬2). 2 - توافرت النصوص عن الصحابة في إكفار تارك الصلاة ولم ينقل عن أحدهم خلاف ذلك. فعن أبي المليح الهذلي، قال: سمعت عمر رضي الله عنه على المنبر يقول: (لا إسلام لمن لم يصل) (¬3). وقال أيضاً رضي الله عنه: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) (¬4) بعد إفاقته لما طعن بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه عليه. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من ترك الصلاة فلا دين له) (¬5). وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا إيمان لمن لا صلاة له) (¬6). 3 - حكى جماعة من أهل العلم إجماع الصحابة على إكفار تارك الصلاة، فمن ذلك: أ) قال مجاهد بن جبر: (قلت لجابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الصلاة (¬7). وقوله (عندكم) أي عند الصحابة رضي الله عنهم. ب) وقال عبدالله بن شقيق: (لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) (¬8). وعبدالله بن شقيق روى (عن عمر وأبي ذر والكبار) قاله الذهبي في الكاشف (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (384) بلفظ: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تحقروا الله في ذمته)). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 613). (¬3) رواه ابن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) رقم (930)، وابن سعد في ((الطبقات)) (6/ 157). (¬4) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 54)، وابن أبي شيبة في ((الإيمان)) برقم (103)، وابن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) رقم (925، 927). (¬5) رواه ابن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) برقم (935). (¬6) رواه ابن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) برقم (945)، واللالكائي برقم (1536). قال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)): صحيح موقوف. والحديث روي مرفوعاً عن غير واحد: فرواه العدني مرفوعاً في كتاب ((الإيمان)) (ص: 126)، من حديث أبي بكر بن حويطب. ورواه الربيع مرفوعاً في مسنده (ص: 54)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬7) رواه ابن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) برقم (892)، واللالكائي برقم (1538)، والخلال في ((السنة)) (1379). (¬8) رواه ابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (137)، واللالكائي (1538)، والخلال في ((السنة)) (1379). (¬9) ((2/ 86).

ج) وقال الحسن البصري رحمه الله: (بلغني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر؛ أن يدع الصلاة من غير عذر) (¬1). والحسن تابعي كبير، قد أدرك كبار الصحابة، فقوله المذكور إن لم يكن سماعاً من كثير من الصحابة، فلا أقل من أن يكون حكاية عالم فقيه مطلع على الخلاف والإجماع، والعلماء يعتدون بمن هو أقل من الحسن في مثل هذا، والله أعلم. د) وقال أيوب السختياني رحمه الله: (ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه) (¬2). قلت: أيوب سيد الفقهاء والعلماء في زمانه، وهو إمام حافظ ثبت قد نقل الاتفاق على أن ترك الصلاة كفر، وهذا يدل على أن الخلاف في المسألة حادث بعد وفاته أو قبله بقليل، وقد كانت وفاته سنة (131هـ) وسيأتي في كلام ابن نصر ما يشهد لهذا. هـ) الإمام محمد بن نصر المروزي، قال رحمه الله: ( ... ثم ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتل من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك، ثم اختلف أهل العلم بعد ذلك في تأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة رضي الله عنهم في إكفار تاركها، وإيجاب القتل على من امتنع من إقامتها) (¬3). 4 - ظهر خلاف بعد الصحابة احتج له أصحابه بأدلة قيّمها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلمة جامعة، قال فيها: (وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد، كان جواباً لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتوالي، - كما تقدم - وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة؛ كقوله: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ... أدخله الله الجنة)) (¬4) ونحو ذلك من النصوص) (¬5). 5 - لا خلاف بين أهل السنة في أن الإيمان: اعتقاد وقول وعمل، وأن من لم يأت بهذه الثلاثة فليس مؤمناً: قال الإمام الشافعي – وهو في المشهور عنه لا يرى كفر تارك الصلاة -: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم، يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر). وقال إسحاق بن راهويه: (غلت المرجئة حتى صار من قولهم أن قوماً يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات، وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض، من غير جحود لها إنا لا نكفره يرجأ أمره إلى الله بعد؛ إذا هو مقر، فهؤلاء الذين لا شك فيهم، يعني في أنهم مرجئة) (¬6). وقال – في تارك الصلاة -: (من ترك الصلاة متعمداً حتى ذهب وقتها، الظهر إلى المغرب، والمغرب إلى نصف الليل، فإنه كافر بالله العظيم، يستتاب ثلاثة أيام، فإن لم يرجع، وقال: تركها لا يكون كفراً ضربت عنقه - يعني: تاركها وقائل ذلك -، وأما إذا صلى وقال ذلك، فهذه مسألة اجتهاد) (¬7). ا. هـ. ففرق إسحاق – رحمه الله – بين المسألتين وجعل مسألة تكفير تارك الصلاة إذا كان يصلي مسألة اجتهادية مع قوله بكفره، بخلاف مسألة تارك العمل فقد جعل المخالف في تكفيره مرجئاً. ومما تقدم يعلم أمران: ¬

(¬1) رواه الخلال في ((السنة)) (1372)، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (877)، (¬2) رواه ابن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) (978). (¬3) ((تعظيم قدر الصلاة)) لابن نصر (2/ 925). (¬4) رواه البخاري (3435)، ومسلم (28). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬5) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 613 - 614). (¬6) ((فتح الباري)) لابن رجب (1/ 21). (¬7) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 293).

الأول: أن القولين متفقان على تكفير تارك جنس العمل؛ لأن هذا الأمر مبني على تعريف أهل السنة والجماعة للإيمان وأنه قول وعمل. الثاني: أنهما يفترقان في تحديد العمل الذي يكفر به تاركه، فأصحاب القول الأول يرون أنه عمل مخصوص، وهو الصلاة؛ وبالتالي فتارك الصلاة عندهم كافر ولو أتى بسائر الأعمال. وأما أصحاب القول الثاني فلا يكفر عندهم تارك الصلاة ما دام يقوم ببعض الأعمال. وهذا الأمر - وهو تحديد العمل الذي يكفر به تاركه - مبناه على النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة وعدمه، وهو محل خلاف، كما تقدم بيانه. ومن هنا نقول: إن المحاورة المذكورة إنما نسجت على أحد قولي أهل السنة في ترك الصلاة، وليس على قولهم في ترك العمل الذي هو جزء من الإيمان وركن فيه. قال شيخ الإسلام - مبيناً ما بين الأمرين من ارتباط -: (فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل، كما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف، وعلى ما هو مقرر في موضعه. فالقول: تصديق الرسول. والعمل: تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمناً. والقول الذي يصير به مؤمناً قول مخصوص؛ فكذلك العمل هو الصلاة) (¬1). فقد بنى – رحمه الله – القول بكفر تارك الصلاة على مقدمات مسلم بها عند أهل السنة، وهي: 1 - أن الإيمان لا بد فيه من قول وعمل. 2 - أن القول تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. 3 - أن القول الذي لا بد منه، هو قول مخصوص. 4 - أن العمل هو تصديق القول، أي: (إذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمناً). وهذه المقدمات محل اتفاق بين أهل السنة، ولذا قدمها ليبني عليها القول بكفر تارك الصلاة حيث قال: (والقول الذي يصير به مؤمناً، قول مخصوص، فكذلك العمل هو الصلاة) أي بما أن الإيمان لا بد فيه من عمل، وهو تصديق القول، وقد صار القول عندهم قولاً مخصوصاً وهو كلمة التوحيد، فكذلك ينبغي أن يكون العمل الذي لا بد منه عمل مخصوص، وهو الصلاة. ففرق - رحمه الله - بين المسألتين إذ جعل الأولى - مسألة تارك العمل - مقدمة مسلماً بها عند أهل السنة، والثانية - مسألة تارك الصلاة - محل خلاف، ثم بنى الثانية على الأولى. وقوله هذا يتفق مع قوله: (ومن قال: بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات – سواء جعل فعل تلك الواجبات لازماً له أو جزءاً منه، فهذا نزاع لفظي – كان مخطئاً خطئاً بيناً، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها) (¬2) ا. هـ. 6 - عد بعض السلف تكفير تارك الصلاة مما يميز أهل السنة عن المرجئة. قال ابن معين: (قيل لعبدالله بن المبارك: إن هؤلاء يقولون: من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به فهو مؤمن مستكمل الإيمان. قال عبدالله: لا نقول نحن كما يقول هؤلاء، من ترك الصلاة متعمداً من غير علة، حتى أدخل وقتاً في وقت فهو كافر) (¬3). قلت: جعل ابن المبارك مما يميزه عن المرجئة تكفير تارك الصلاة، وهذا – والله أعلم – لا لعدم تكفيرهم تارك الصلاة، فإنه قول جماعة من الأئمة، وإنما لقولهم: هو مؤمن كامل الإيمان. وقد يكون كلامه من المنطوق الذي لا مفهوم له، فمن قال بكفر تارك الصلاة فقد باين المرجئة وخالفهم، ولا يعني هذا أن من لم يكفره لم يباينهم. ¬

(¬1) ((شرح العمدة – كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 86). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 621). (¬3) رواه محمد بن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 926).

وأما من قال إن من لم يكفر تارك الصلاة كسلاً فقد تأثر بالإرجاء شعر أم لم يشعر فقد أخطأ، كما أن قول من قال إن من كفر تارك الصلاة (فقد التقى مع الخوارج في بعض قولهم). خطأ لا ينبغي. إذا تبين ما تقدم، فليعلم أن بعضهم قد اعترض علينا بما جاء في فتاوى اللجنة الدائمة، وهذا نصه: (س: يقول رجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا يقوم بالأركان الأربعة الصلاة والزكاة والصيام والحج، ولا يقوم بالأعمال الأخرى المطلوبة في الشريعة الإسلامية، هل يستحق هذا الرجل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بحيث لا يدخل النار، ولو لوقت محدود؟ ج: من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وترك الصلاة والزكاة والحج جاحداً لوجوب هذه الأركان الأربعة أو لواحد منها بعد البلاغ، فهو مرتد عن الإسلام يستتاب، فإن تاب قبلت توبته، وكان أهلاً للشفاعة يوم القيامة إن مات على الإيمان، وإن أصر على إنكاره قتله ولي الأمر لكفره وردته، ولا حظّ له في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وإن ترك الصلاة وحدها كسلاً وفتوراً فهو كافر كفراً يخرج به من ملة الإسلام في أصح قولي العلماء، فكيف إذا جمع إلى تركها ترك الزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام؟! وعلى هذا لا يكون أهلاً لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره إن مات على ذلك. ومن قال من العلماء: إنه كافر كفراً عملياً لا يخرجه عن حظيرة الإسلام بتركة لهذه الأركان، يرى أنه أهل للشفاعة فيه، وإن كان مرتكباً لما هو من الكبائر إن مات مؤمناً. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم) (¬1). فيقال: إن هذه الفتوى تحتمل أحد وجهين: الأول: أن يقال: إن الفتوى في حق رجل ترك الأركان الأربعة، لكنه لا زال يقوم ببعض الأعمال المطلوبة شرعاً، وإن وقع في السؤال ما يدل على نفي ذلك، فليس في الجواب سوى الاقتصار على ترك الأركان وهي الأربعة. الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتوى في حق من ترك جنس العمل، لكن تحقيق ترك الجنس في حق الشخص المعين لا يعرف في الظاهر إلا بالإصرار على الترك، وهو أن يعيش فترة من الزمن بعد تركه للعمل مع القدرة عليه وعدم المانع، وهذا ما لم تتحقق اللجنة من توفره. ويدل على هذا قول اللجنة في آخر الفتوى – تعقيباً على القول الثاني-: (إن من مات مؤمناً) فهذا قيد احترزت به اللجنة من هذه الصورة، والله أعلم. والقول بأحد هذين الوجهين لا بد منه، لأن اللجنة التي أصدرت هذه الفتوى، هي اللجنة التي أصدرت البيان التحذيري من كتاب (ضبط الضوابط) ووصفته بأنه كتاب (يدعو إلى مذهب الإرجاء المذموم) ومما جاء فيه قول كاتبه: (وللأسف فقد تأثر بعض الناس بهذا الفكر، وزعموا أن من نطق بالشهادتين ولم يأت بناقض، ولم يقم بشيء من أركان الإسلام الخمسة سواها فليس بمسلم، بل هو من أهل الخلود في النار، ثم نسبوا ذلك إلى مذهب أهل السنة، ونسبوا من خالفهم في ذلك إلى الإرجاء) (¬2). هذا نقوله من باب الجمع بين كلام علمائنا، ولا نصنع كما صنع من انحرف في هذا الباب من ضرب كلامهم بعضه ببعض هروباً وحيدة عن الحق الواضح إلى ما اشتبه، وهذه سمة من سمات أهل الأهواء، نعوذ بالله من سماتهم. براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 101 ¬

(¬1) ((فتاوى اللجنة الدائمة)) جمع الشيخ أحمد الدويش (2/ 23 - 24). (¬2) ((ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه)) لأحمد بن صالح الزهراني (ص: 40).

الأصل الثامن: الإيمان ثلاث درجات انظر: ((حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة)) محمد عبدالهادي المصري (ص: 55)، و ((نواقض الإيمان الاعتقادية)) د. محمد بن عبدالله بن علي الوهيبي (1/ 94). .

الأصل الثامن: الإيمان ثلاث درجات (¬1). المؤمنون متفاوتون في مراتب إيمانهم، فمنهم من معه أصل الإيمان - الحد الأدنى - دون حقيقته الواجبة، ومنهم من بلغ درجات الكمال الواجب، ومنهم من بلغ درجات الكمال المستحب، وفي قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32] إشارة إلى المراتب الثلاث. براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 93 ¬

(¬1) انظر: ((حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة)) محمد عبدالهادي المصري (ص: 55)، و ((نواقض الإيمان الاعتقادية)) د. محمد بن عبدالله بن علي الوهيبي (1/ 94).

الأصل التاسع: في بيان الأعمال الظاهرة الدالة على حقيقة إيمان القلب

الأصل التاسع: في بيان الأعمال الظاهرة الدالة على حقيقة إيمان القلب تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأنه (لا إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام) يعني كما أنه لا بد في الإسلام من إيمان يصححه، فكذلك لا بد في الإيمان من إسلام يصححه، أي عمل ظاهر يدل على أن في القلب إيماناً صحيحاً. فإذا أتى إنسان بالشهادتين حكمنا بإسلامه في الظاهر لكن الحكم بالإسلام لا يستلزم ثبوت الإيمان الباطن. فالإسلام يحكم به في الظاهر لكل من جاء بالشهادتين مع جواز أن يكون في الباطن كافراً منافقاً، وعليه فلا منافاة بين الحكم بالإسلام لمن جاء بالشهادتين، وبين القول بأن الإيمان الباطن يستلزم العمل الظاهر. وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة، ومن زعم خلاف ذلك، فقال بوجود إيمان صحيح في القلب دون أن يظهر أثره على الجوارح، قال بقول المرجئة الذي قالوا: الإيمان قول بلا عمل. وهؤلاء كان السلف يردون عليهم بذلك أدلة دخول العمل في الإيمان، دون الخوض في ماهية الأعمال المطلوبة، إذ هي فرع من الأصل المتنازع فيه، ولا حاجة للخوض في الفرع حتى يقر المنازع بالأصل. براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 121

الأصل العاشر: أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ولازمة لها

الأصل العاشر: أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ولازمة لها قال ابن القيم عن أعمال القلوب -: (هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة، وأن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموات، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث. فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هي أصلها، وأحكام الجوارح متفرعة عليها) (¬1). وقال شيخ الإسلام: (ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت، فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (¬2). وقال أبو هريرة: القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده. فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد) (¬3). وقال – أيضا -: ( ... وشرح حديث جبريل الذي فيه بيان أن الإيمان أصله في القلب، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإسلام علانية، والإيمان في القلب)) (¬4)، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (¬5). فإذا كان الإيمان في القلب، فقد صلح القلب، فيجب أن يصلح سائر الجسد، فلذلك هو ثمرة ما في القلب؛ فلهذا قال بعضهم: الأعمال ثمرة الإيمان. وصحته – أي الجسد – لما كانت لازمة لصلاح القلب دخلت في الاسم، كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع) (¬6). وقال – أيضاً -: (وفصل الخطاب في هذا الباب: أن اسم الإيمان قد يذكر مجرداً، ويذكر مقروناً بالعمل أو بالإسلام) (¬7). ¬

(¬1) ((بدائع الفوائد)) (3/ 224). (¬2) رواه البزار في مسنده (1/ 488) (3267)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (1/ 235) (382). والحديث في الصحيحين بلفظ: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)). رواه البخاري (52)، ومسلم (4178). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 187). (¬4) رواه أحمد (3/ 134) (12404)، وأبو يعلى في مسنده (5/ 301) (2923)، وابن أبي شيبة (11/ 11) (30955). من حديث أنس رضي الله عنه. قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (6/ 353): غير محفوظ. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 57): رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه، والبزار باختصار، ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون. والحديث ضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2280). (¬5) رواه البزار في مسنده (1/ 488) (3267)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (1/ 235) (382). والحديث في الصحيحين بلفظ: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)). رواه البخاري (52)، ومسلم (4178). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/ 39). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/ 271).

فإذا ذكر مجرداً تناول الأعمال؛ كما في الصحيحين: (( ... الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (¬1)، وفيهما أنه قال لوفد عبدالقيس: ((آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)) (¬2). وإذا ذكر مع الإسلام – كما في حديث جبريل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان – فرق بينهما، فقال: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ... )) إلى آخره (¬3). وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام علانية، والإيمان في القلب)) (¬4) فلما ذكرهما جميعاً، ذكر أن الإيمان في القلب، والإسلام ما يظهر من الأعمال. وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة، لأنها لوازم ما في القلب؛ لأنه متى ثبت الإيمان في القلب والتصديق بما أخبر به الرسول وجب حصول مقتضى ذلك ضرورة، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه ألبتة، فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة، ولا يكون لها أثر في الظاهر. ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: 81]. وقوله: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] ونحوها. ¬

(¬1) رواه البخاري (9)، ومسلم (162). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (1334)، ومسلم (124). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (50)، ومسلم (106). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه أحمد (3/ 134) (12404)، وأبو يعلى في مسنده (5/ 301) (2923)، وابن أبي شيبة (11/ 11) (30955). من حديث أنس رضي الله عنه. قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (6/ 353): غير محفوظ. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 57): رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه، والبزار باختصار، ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون. والحديث ضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2280).

فالظاهر والباطن متلازمان، لا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (¬1)، وقال عمر لمن رآه يعبث في صلاته: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) (¬2). وفي الحديث: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه)) (¬3). ولهذا كان الظاهر لازماً للباطن من وجه، وملزوماً له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزوماً لا من جهة كونه لازماً، فإن الدليل ملزوم المدلول، يلزم من وجود الدليل وجود المدلول، ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه، والدليل يطرد ولا ينعكس بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس) (¬4). براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 126 ¬

(¬1) رواه البزار في مسنده (1/ 488) (3267)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (1/ 235) (382). والحديث في الصحيحين بلفظ: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)). رواه البخاري (52)، ومسلم (4178). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬2) لم أقف عليه من قول عمر رضي الله عنه، ولكن وقفت عليه من قول سعيد المسيب؛ رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (ص: 419)، وعبدالرزاق (2/ 266) (3308)، وابن أبي شيبة (2/ 289) (6854)، والبيهقي معلقاً (2/ 285) (3365). والحديث روي مرفوعاً؛ حيث رواه الحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (3/ 210) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال العراقي في ((المغني)) (1/ 105): سنده ضعيف، والمعروف أنه من قول سعيد بن المسيب. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (910): فالحديث موضوع مرفوعا، ضعيف موقوفا بل مقطوعا، ثم وجدت للموقوف طريقا آخر؛ فقال أحمد في ((مسائل ابنه صالح)) (ص: 83): حدثنا سعيد بن خثيم قال حدثنا محمد بن خالد عن سعيد بن جبير قال: نظر سعيد إلى رجل وهو قائم يصلي ... إلخ. قلت: وهذا إسناد جيد، يشهد لما تقدم عن العراقي أن الحديث معروف عن ابن المسيب. اهـ. (¬3) رواه أحمد (3/ 198) (13071)، وابن أبي الدنيا في ((الصمت)) (9)، والخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (442). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 213): رواه أحمد وفي إسناده علي بن مسعدة وثقه جماعة وضعفه آخرون. وقال العراقي في ((المغني)) (2/ 767): رواه ابن أبي الدنيا في ((الصمت)) والخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) بسند فيه ضعف. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2841): رجاله ثقات رجال مسلم غير الباهلي وهو حسن الحديث. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/ 272 - 273).

الأصل الحادي عشر: جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب

الأصل الحادي عشر: جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب قال شيخ الإسلام: (والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 47 – 51]. فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان) (¬1). وقال - رحمه الله -: (لكنهم – أي مرجئة الفقهاء – إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً، فإنها لازمة لها) (¬2). وقال -رحمه الله -: (وأيضاً فإخراجهم – أي مرجئة الفقهاء – العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضاً، وهذا باطل قطعاً، فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعاً بالضرورة، وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضاً؛ لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن. وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، بل من كان مؤمناً بالله ورسوله بقلبه هل يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه، وهو قادر على أن ينظر إليهم ويخص على نصر الرسول بما لا يضره، هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول؟! فمن المعلوم أن هذا ممتنع؛ فلهذا كان الجهاد المتعين بحسب الإمكان من الإيمان، وكان عدمه دليلاً على انتفاء حقيقة الإيمان ... ) (¬3). وقال - أيضاً -: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان، فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضاً وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين، ومن قصد إخراج العمل الظاهر، قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن) (¬4). وقال - رحمه الله -: ( ... وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره) (¬5). وقال - عندما تحدث عن أغلاط المرجئة -: (ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه) (¬6). وقال: ( ... فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم) (¬7). براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 129 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 221). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 194). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 556). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 554). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 609). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 554). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 294).

الأصل الثاني عشر: (الإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة (توجب وقوع المقدور) أو (لا يتخلف عنها العمل) أو (توجب فعل المراد) ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/ 489). .

الأصل الثاني عشر: (الإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة (توجب وقوع المقدور) أو (لا يتخلف عنها العمل) أو (توجب فعل المراد) (¬1). قال شيخ الإسلام: (فالإيمان لا بد فيه من هذين الأصلين: التصديق بالحق، والمحبة له، فهذا أصل القول، وهذا أصل العمل. ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والعمل الظاهر ضرورة كما تقدم ... وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه ودليله ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب. فكل منهما يؤثر في الآخر لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه) (¬2). وقال - رحمه الله -: (والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد ووجود المقدور عليه منه، فالعبد إذا كان مريداً للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها صلى، فإذا لم يصل مع القدرة دل ذلك على ضعف الإرادة. وبهذا يزول الاشتباه في هذا المقام، فإن الناس تنازعوا في الإرادة بلا عمل، هل يحصل بها عقاب؟ وكثر النزاع في ذلك ... والفصل في ذلك أن يقال: فرق بين الهم والإرادة، فالهم قد لا يقترن به شيء من الأعمال الظاهرة، فهذا لا عقوبة فيه بحال ... وأما الإرادة الجازمة فلا بد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور، ولو بنظرة أو حركة رأس أو لفظة أو خطوة أو تحريك بدن ... ) (¬3). وقال - رحمه الله -: (وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب، والإسلام ظاهر، كما في المسند عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب)) (¬4) و ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬5)، ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطناً، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد) (¬6). ¬

(¬1) ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/ 489). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 540 - 541). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 525 - 527). (¬4) رواه أحمد (3/ 134) (12404)، وأبو يعلى في مسنده (5/ 301) (2923)، وابن أبي شيبة (11/ 11) (30955). من حديث أنس رضي الله عنه. قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (6/ 353): غير محفوظ. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 57): رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه، والبزار باختصار، ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعفه آخرون. والحديث ضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2280). (¬5) رواه البخاري (50)، ومسلم (106). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 553).

وذكر - رحمه الله - في ثنايا كلام له، أن من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، قال – رحمه الله -: (فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب - أي وجوب الصلاة - وامتنع عن الفعل لا يقتل أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل) (¬1). وهذه الأصول الثلاثة الأخيرة تتفق في دلالتها على أمر واحد، وهو (ارتباط الظاهر بالباطن) وشيخ الإسلام يبني عليها القول بكفر تارك الفرائض الأربع، قال - رحمه الله -: (وأما الفرائض الأربع، فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة، فهو كافر ... وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئاً من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء، هي روايات عن أحمد ... وهذه المسألة لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. والثاني: في إثبات الكفر الباطن. فأما الطرف الثاني: فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً - كما تقدم -، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (42) [القلم: 42 - 43]) (¬2). براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة لمحمد بن سعيد الكثيري – ص: 131 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 616). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 611).

الفصل الثالث: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

المبحث الأول: الإيمان حقيقة مركبة إن أصل الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في موضوع العمل هو أن المرجئة لا يقرون بهذه التركيبية، بل يعتقدون أن الإيمان شيء واحد؛ هو تصديق القلب دون سائر أعمال القلب والجوارح ... وهم يوافقون على أن من أتى بجميع أعمال الجوارح الواجبة والمستحبة ظاهراً، لكن قلبه مع ذلك خال من الإيمان إنه لا يكون مؤمنا – وذلك باستثناء الخلاف اللفظي الذي شذت به الكرامية، حيث يطلق عليه اسم الإيمان – مع إقرارها أنه كافر مخلد في النار، فخالفوا في الاسم لا في الحكم – ولكنهم يخالفون في عكس هذه القضية وهى أن أحداً لم يعمل عملاً من الأعمال الواجبة والظاهرة قط، حتى أنه لم ينطق بكلمة الشهادة وهو مع ذلك مؤمن كامل الإيمان. وهي القضية التي ينفي أهل السنة وجودها في الواقع أصلا – كما سنرى -، والفرق بينهما وبين القضية الأولى والتي يقر بها المرجئة من حيث الوجود والعدم يرجع إلى الفرق بين مفهوم الإيمان المفترض وجوده عند الطائفتين، فلما كان الإيمان عند المرجئة هو التصديق على النحو الذي فسروه به – لم يصعب عليهم تصور وجوده مع فقد كل الأعمال الواجبة، لكنه لما كان عند أهل السنة له معنى آخر مركب، لم يتصوروا أن يوجد باطن الإيمان ولا يوجد شيء من ظاهره؛ لأن ذلك من قبيل افتراض وجود الأصل اللازم والعلة التامة، مع انتفاء المجزوم والمعلوم، فهو نفى لتلك العلامة التركيبية المزجية. وهذا ما قرره السلف كثيراً؛ كقول أبى ثور في إلزام المرجئة: (أرأيتم أن رجلاً قال: أعمل ما أمر الله به ولا أقر به، أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئا أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر جاز أن يكون الآخر مؤمناً – إذا عمل ولم يقر – لا فرق بين ذلك .... ) (¬1)، ويمكن تحرير ذلك باستخدام السبر والتقسيم فيقال: إن تعلق العمل بالإيمان منحصر في أربع حالات لا خامس لها (¬2): أن يجتمعا معاً – أي إيمان القلب وعمل الجوارح. أن ينتفيا معا. أن توجد أعمال الجوارح مع انتفاء إيمان القلب. أن يوجد إيمان القلب مع انتفاء عمل الجوارح. فأما القضية الأولى فمتفق عليها (مؤمن). فأما القضية الثانية فمتفق عليها (كافر). أما القضية الثالثة فمتفق عليها (منافق) وأما القضية الرابعة فمختلف فيها. فالمرجئة يلحقون حكمها بحكم الأولى، بل يقولون: إن إيمان من تنطبق عليه القضية الأولى كإيمان من تنطبق عليه القضية الرابعة سواء بسواء؛ إذ الأعمال عندهم خارجة عن الإيمان، والإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه –كما سبق بيانه، فهو لدى الاثنين سواء، بل قالوا ما هو أسوء من ذلك؛ وهو إن ارتكاب جميع المحرمات وترك جميع الطاعات لا يذهب شيئاً من الإيمان؛ إذ لو ذهب منه شيء لم يبق منه شيء (¬3). وهذا القدر المشترك بينهم كاف في الرد عليهم جميعا رداً واحداً –أي من يعتبر النطق ومن لا يعتبره-. وأما أهل السنة والجماعة فينفون وجود الحالة الرابعة في الواقع أصلاً؛ بناء على مفهومهم الخاص للإيمان. فتبين إن فساد تصور المرجئة للإيمان أدى إلى تصور هذه الحالة، وعليه: فبيان خطأ قولهم هذا يستلزم فساد تصورهم للإيمان بلا ريب، وإن الإيمان الذي يتكلمون عنه ويصفونه ليس الإيمان الشرعي بحال. ¬

(¬1) ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة))، اللالكائي (3/ 851) (¬2) وهي قسمة نظرية فقط، وإلا فعلى الحقيقة لا وجود للقسم الرابع. (¬3) وهذا ما اتفقت عليه فرقهم، كلها كما سبق بيانه في فصل ((أصول مذاهب المرجئة)) السابق.

كما إنه يدل على تناقض من وافقهم من الفقهاء المنتسبين إلى السنة والأئمة في بعض الأحكام الظاهرة –كالقول بأن تارك الصلاة المصر على تركها حتى ضربت عنقه بالسيف إنما قتل حدا؛ إذ إن مذهب المرجئة في حكم تارك الصلاة يتفق ومفهوم الإيمان عندهم، لكن من يعتقد أن الإيمان قول وعمل – ويكون ذلك مذهب إمامه –كيف يوافقهم على إن تارك جميع العمل لا يكفر، إلا إذا انتفى منهم تصديق القلب أي كان مستحلاً أو غير مقر بالوجوب ويوافقهم على أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ومهين المصحف عمداً وقاتل النبي كافر ظاهراً، ويجوز أن يكون مؤمناً في الباطن؟! (¬1) وأهل السنة حين يقرون أن ترك العمل ترك لركن الإيمان الذي لا يكون إلا به، لا يعتمدون على تفلسف أو نظريات ذهنية، وإنما ينطلقون من منطلق واقعي وعلمي في غاية الوضوح؛ وهو أن هذه الحالة الرابعة لا وجود لها في واقع الجيل الأول، ولا في تصوره، وكذا لا وجود لها في الواقع النفسي المحسوس، كما لا يمكن أن تتفق مع حقيقة الإيمان الشرعية التي تشهد النصوص بأنها مركبة من القول والعمل معاً، كما لا تتفق مع النصوص الأخرى الكثيرة في حكم التولي عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وترك الامتثال لأوامره، والتخاذل عن القيام بفرائضه. وهو كذلك مناقض لما ورد عن السلف الأخيار، والأئمة الأعلام في هذا الأمر ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي – 2/ 636 ¬

(¬1) انظر عن هذه الأخيرة: ((الإيمان))، (ص: 384 – 386)، ولهذا تجد كلام أحدهم باعتباره فقيها – كما إذا كتب في الردة من المصنفات الفقهية – يغاير كلامه إذا كتب باعتباره متكلما!!

المبحث الثاني: أدلة أهل السنة على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان

المبحث الثاني: أدلة أهل السنة على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان أدلة أهل السنة على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان منها: قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 143] ثبت في سبب نزول هذه الآية كما في حديث البراء الطويل وغيره وفي آخره ((أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)) (¬1) ووضع البخاري هذا الحديث في مواضع ومنها (باب: الصلاة من الإيمان) (¬2) قال الحليمي: أجمع المفسرون على أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس، فثبت أن الصلاة إيمان، وإذا ثبت ذلك، فكل طاعة إيمان إذ لم أعلم فارقاً في هذه التسمية بين الصلاة وسائر العبادات (¬3) كذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 1 - 4] ومثله جميع الآيات المشابهة كقوله عز وجل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور: 62] ففي هذه الآيات إشارة إلى أن جميع الأعمال المذكورة من واجبات الإيمان فلهذا نفي الإيمان عمن لم يأت بها، فإن حرف إنما يدل على إثبات المذكور ونفي غيره (¬4). ومن الأدلة الصريحة في ذلك حديث وفد عبد القيس وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بالإيمان بالله وحده)) وقال: ((هل تدرون ما الإيمان بالله وحده))؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا من الغنائم الخمس)) الحديث (¬5). ففي هذا الحديث فسر الرسول صلى الله عليه وسلم للوفد الإيمان هنا بقول اللسان، وأعمال الجوارح (ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق مع العلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود) (¬6) ¬

(¬1) رواه البخاري (40). (¬2) ((فتح الباري)) (1/ 95). (¬3) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 37)، وانظر: ((الإيمان)) لابن منده (1/ 329) و ((الجامع لشعب الإيمان)) للبيهقي (1/ 121). (¬4) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 18). (¬5) رواه البخاري (53)، ومسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬6) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص389).

ومن الأدلة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) الحديث (¬1) وما في معناه من الأحاديث في نفي الإيمان عمن ارتكب الكبائر وترك الواجبات كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) (¬2) يقول ابن رجب تعليقاً على ذلك: فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته. (¬3) ويقول ابن تيمية: ثم إن نفي الإيمان عند عدمها دال على أنها واجبة فالله ورسوله لا ينفيان اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة إلا بأم القرآن)) (¬4). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) (¬5) (¬6). ومن الأحاديث أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الإيمان)) (¬7) ومثله: ((حسن العهد من الإيمان)) (¬8) وغيرها كثير. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله، وأنكح لله فقد استكمل إيمانه)) (¬9). وهذا يدل على أن هذه الأعمال جزء من مسمى الإيمان يكمل بوجودها وينقص بنقصها، ومثل ذلك جميع الآيات والأحاديث الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه كما سيأتي (لأن الأعمال إذا كانت إيمانا كان بكمالها تكامل الإيمان، وبتناقصها تناقص الإيمان وكان المؤمنون متفاضلين في إيمانهم كما هم متفاضلون في أعمالهم، وحرم أن يقول قائل (إيماني وإيمان الملائكة والنبيين واحد) لأن الطاعات كلها إذا كانت إيماناً فمن كان أكثر طاعة كان أكثر إيماناً ومن خلط الطاعات بالمعاصي كان أنقص إيماناً ممن أخلص الطاعات) (¬10). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي - 1/ 50 ¬

(¬1) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه أحمد (3/ 135) (12406)، وابن حبان (1/ 422) (194). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الذهبي في ((المهذب)): سنده قوي، وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (7179): صحيح. (¬3) ((جامع العلوم والحكم)) (ص25). (¬4) رواه البخاري (756)، ومسلم (394). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬5) رواه أحمد (3/ 135) (12406)، وابن حبان (1/ 422) (194). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الذهبي في ((المهذب)): سنده قوي، وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (7179): صحيح. (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/ 14). (¬7) رواه مسلم (223). من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. (¬8) رواه أبو عبيد (ص28)، والحاكم (1/ 62). من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد اتفقا على الاحتجاج برواته في أحاديث كثيرة وليس له علة، ووافقه الذهبي في ((التلخيص))، وحسنه الألباني في ((الإيمان)) (ص28)، وفي ((صحيح الجامع)) (2056). (¬9) رواه أبو داود (4681). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. ورواه الترمذي (2521)، وأحمد (3/ 438) (15655). من حديث معاذ الجهني رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وحسَّن الألباني كلا الطريقين في ((السلسلة الصحيحة)) (380) ثم قال: والحديث بمجموع الطريقين صحيح. (¬10) ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (1/ 51).

المبحث الثالث: عناصر الإيمان

تمهيد: يطلق لفظ (الإيمان) عند السلف على ثلاثة عناصر مجتمعة، وهذه العناصر هي: العنصر الأول: الاعتقاد بالقلب. العنصر الثاني: الإقرار باللسان. العنصر الثالث: العمل بالجوارح. وحول هذه العناصر (مجتمعة) تدور تعريفات السلف المتنوعة للإيمان، إجمالاً وتفصيلاً وشرحاً وتوضيحاً. ولمزيد بيان نعرض لكل عنصر من هذه العناصر على حدة بالتعريف والتحليل، مدعمين ذلك ببعض النقول عن سلف الأمة وأئمتها. حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لمحمد عبد الهادي المصري – ص 25

العنصر الأول الاعتقاد بالقلب

المسألة الأولى: الاعتقاد بالقلب الاعتقاد عند السلف يتضمن ركنين قلبيين لا يغني أحدهما عن الآخر، ويلزم تحقيقهما مجتمعين في القلب ليدخل صاحبه في مسمى الإيمان: الركن الأول: المعرفة والعلم والتصديق. ويطلق عليه (قول القلب). الركن الثاني: الالتزام والانقياد والتسليم. ويطلق عليه (عمل القلب). أما عن الركن الأول وهو قول القلب، أو معرفة القلب للحق وتصديقه به، فلا نحسب أن أحداً من العقلاء يدفعه أو يجادل فيه فيقول مثلاً: إن الإيمان لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق. يقول الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله -: (من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً، فإن فساد هذا القول معلوم من دين الإسلام) اهـ (¬1). وقد أورد صاحب (معارج القبول) سبعة شروط لمن ينطق بكلمة التوحيد قيد بها انتفاعه بالشهادتين في الدنيا والآخرة من الدخول في الإسلام والفوز بالجنة والنجاة من النار، فوضع بداهة على رأس هذه الشروط شرط المعرفة لحقيقة معناها فقال: (العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتاً، المنافي للجهل بذلك، قال الله – عز وجل -: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19]. وقال تعالى: إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ [الزخرف: 86] أي: بلا إله إلا الله وَهُمْ يَعْلَمُونَ بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم) اهـ (¬2). ويقول البيضاوي في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ [البقرة: 21] في سورة البقرة: (فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها – أي العبادة – بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع، فإن من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به) اهـ (¬3). وأما عن الركن الآخر، وهو الالتزام والانقياد والتسليم والخضوع ولوازم ذلك كله من عمل القلب كالمحبة والتعظيم والتوكل والخشية والرجاء، فإن سلف الأمة وأئمتها متفقون على أنه للركن الأول وملازم له ولا يكون العبد مؤمناً إلا بهما. وإلا فإن مجرد التصديق بالله ورسوله دون المحبة والتعظيم والانقياد لهما ليس إيماناً باتفاق هؤلاء الأئمة، بل هذا ظاهر ثابت بدلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام (¬4). والتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيماناً ألبتة، بل هو كتصديق فرعون واليهود وإبليس (¬5). يقول الإمام ابن تيمية: (فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولا بد فيه من شيئين: - تصديق بالقلب، وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب. قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب، فلا بد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله. ولا بد فيه من عمل القلب، مثل حب الله ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان) اهـ (¬6). ويشرح الإمام محمد بن نصر المروزي في كتابه (الصلاة) حديث جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان فيقول: (أما قوله: الإيمان أن تؤمن بالله: فأن توحده وتصدق به بالقلب واللسان. وتخضع له ولأمره بإعطاء العزم للأداء لما أمر، مجانباً للاستنكاف والاستكبار والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محآبه صلى الله عليه وسلم، واجتنبت مساخطه) اهـ (¬7). ¬

(¬1) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 376، 377). (¬2) ((معارج القبول)) (1/ 307 - 308). (¬3) ((تفسير البيضاوي)) (ص: 16). (¬4) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 381). (¬5) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 291، 292). (¬6) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 176). (¬7) ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 392 - 393)

ويعلق الإمام ابن القيم على قصة وفد نجران فيقول في الفقه المستفاد من هذه القصة: (ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل: المعرفة، والإقرار، والانقياد، والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً) اهـ (¬1). إن معرفة القلب وتصديقه بالحق إذا صادفت قلباً سليماً خالياً من الحسد والكبر والانشغال بالشهوات والأهواء وما إلى ذلك، فإن هذا القلب سيخضع للحق حتماً وينقاد له، لأن القلوب مفطورة على حب الحق وإرادته، ولا شيء أحب إلى هذه القلوب السليمة من الله عز وجل (¬2). ولكن قد يعرض للقلوب ما يفسدها، إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن أتباعه. فالنصارى مثلاً رغم عبادتهم لا علم لهم، واليهود رغم أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، لا يتبعونه لما فيهم من الكبر والحسد الذي يوجب بغض الحق ومعاداته. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون)) (¬3)؛ لأن هؤلاء لهم معرفة بلا قصد صحيح، وهؤلاء لهم قصد في الخير بلا معرفة له، فلا يبقى في الحقيقة معرفة نافعة ولا قصد نافع (¬4). إن أهم عناصر الإيمان التي يجب بحثها وعرضها وتركيز انتباه الناس إليها هو عنصر عمل القلب، فهو صلب قضية الإيمان في كل وقت وحين، وحجر زاوية الدين الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين. إن قضية الرسل مع أقوامهم كانت دائماً قضية الخضوع والانقياد والتسليم لله ورسله, ولم تكن أبداً قضية المعرفة والتصديق، مهما حاولوا طمس هذه الحقيقة والتشويش عليها تحت زعم تكذيب الأنبياء والرسل، وصدق الله حيث يقول: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33]. ويقول سبحانه وتعالى: بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: 70]. ويقول عز وجل: لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 78]. القضية إذن هي: محبة الحق وابتغاؤه والخضوع له، أو كراهيته والصد عنه والإباء والاستكبار والاستنكاف عن التسليم له والانقياد لحكمه. إن الكبر والحسد والتطلع إلى الزعامة والرياسة وحب الشهوات والاستغراق فيها وأمثال ذلك من المكاسب الدنيوية العاجلة، هي التي تصد القلوب ابتداء عن التسليم للحق وإرادته والخضوع له وتعظيمه، بل وربما ران الهوى على القلب تماماً فطمس بصيرته وأعماه، حتى إن القلب ليتعلق تماماً بما دون الله من الأغيار فيستغرقه حبها وإرادتها والاعتقاد بها تماماً، بل وقد يدخله الشك والريبة، بل والتكذيب للحق نفسه. إن الحق دائماً واضح أبلج لكل ذي عينين – إلا من شذ ممن أعمى الله بصيرته قبل بصره – ولم تكن قضية المعرفة إلا مقدمة يبدأ بها الرسول لتذكير قومه بالحق، ثم لا يلبث أن يعرض عليهم صلب رسالته وجوهر دعوته: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59] أي أطيعوه، وابتغوا محبته، وعظموه، وانقادوا لشرعه، واستسلموا لرسله، إلى آخر لوازم ذلك كله. ¬

(¬1) ((زاد المعاد)) (3/ 42). (¬2) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 79). (¬3) رواه الترمذي (2953)، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 381) بلفظ: ((ضلاّل)) بدلاً من ((ضالون)). من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 70، 71).

إن اختلاط هذه القضية في أذهان كثير من المنتسبين لدين الله، وعدم وضوحها يؤدي إلى عدة أمور كلها خطير: الأمر الأول: هو إسقاط قيمة عمل القلب - بدرجات متفاوتة - باعتباره ركناً أصلياً لا يتم إلا به، وذلك على المستوى الذهني أو النظري للشخص، مما يبعد به عن إدراك حقيقة دين الله، ويسقط به في دركات متفاوتة من البدع، بعيداً عن منهج السلف، وذلك بقدر ما تبهت في ذهنه قيمة هذا الركن الأصلي للإيمان. الأمر الثاني: هو اختلال الموازين التي يزن بها المرء واقعه هو تجاه ربه ودينه ورسوله، مما يؤدي به إلى الإخلال الفعلي بهذا الركن الإيماني من قلبه، فتحت زعم أنه يصدق بالله ورسوله، وطالما أن الإيمان عنده هو مجرد التصديق فقط، يفقد المرء تدريجياً دون أن يدري – وتحت ضغط الشهوات – المحبة الواجبة لله ورسوله، والتعظيم الواجب لهما، والانقياد الواجب لحكمهما، ويمتلئ قلبه بحب الأغيار وتعظيمها والانقياد لها، وينمو النفاق في قلبه ويترعرع حتى يكون في الحال التي قال الله تعالى فيها: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [عمران: 167]، وقد يفقد إيمانه تماماً – والعياذ بالله – دون أن يشعر، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2]. الأمر الثالث: هو اختلال الموازين التي يزن بها المرء واقع الآخرين من حوله، والتي يجب أن تتفق مع منهاج الله وأحكامه، فيخطئ المرء نتيجة لذلك في التعامل مع هذا الواقع وفق منهاج الله ولا يطبق أحكام الله على مناطها الصحيح. فطالما أن هذا الواقع المحيط لم يعلن تكذيبه لله والرسول (بصريح اللفظ)، وطالما أن الإيمان عنده هو التصديق فقط، فإن هذا الواقع عنده واقع مؤمن بالله ورسوله، حتى وإن سب الله ورسوله!. وهذا الواقع عنده مؤمن بالله ورسوله، حتى وإن فسق عن حكم الله ورسوله!. وهذا الواقع عنده مؤمن بالله ورسوله، حتى وإن هزأ بدين الله وسخر من سنة رسوله! ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقبل أن ننتقل من الكلام في عنصر الاعتقاد القلبي نورد ثلاث ملاحظات هامة: (1) الملاحظة الأولى: أن التصديق المقصود هنا هو التصديق الخبري أو العلمي، بمعنى أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى المخبر والخبر ذاته، مجرداً عما سوى هذا من جنس عمل القلب من الانقياد والطاعة والمحبة وأمثالها، وإلا فمن أطلق لفظ (التصديق) على التصديق الخبري العلمي وعلى لوازمه وتوابعه من عمل القلب، وقال إن الاعتقاد المطلوب هو التصديق، فإن الخلاف معه خلاف لفظي فقط. وقد استخدم كثير من السلف والأئمة لفظ التصديق بهذا المعنى الأخير، ولذلك يقول صاحب (معارج القبول): (ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو: التصديق على ظاهر اللغة، أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهراً وباطناً بلا شك، لم يعنوا مجرد التصديق) اهـ (¬1). والإمام القسطلاني عندما يعرّف الإيمان بأنه التصديق سرعان ما يعقب على ذلك بقوله: (فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم) (¬2). ¬

(¬1) ((معارج القبول)) (2/ 19، 20). (¬2) ((إرشاد الساري)) (1/ 82).

ويقول الإمام ابن القيم في مجال شرح عمل القلب: (ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ... فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق، والثاني: محبة القلب وانقياده) (¬1). ويقول ابن القيم: (فإن الإيمان ليس مجرد التصديق – كما تقدم بيانه – وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد) اهـ (¬2). (2) الملاحظة الثانية: أن (التصديق) بمعناه الخبري - وهو مجرد أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى المخبر والخبر من غير إذعان وقبول - يساوي تماماً عند السلف والأئمة معنى (العلم) أو (المعرفة): إذ لم يتصور هؤلاء الأئمة بل وجمهور العقلاء فرقاً واحداً معقولاً بين العلم والمعرفة، وبين التصديق. يقول ابن تيمية: (فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يجعل قول القلب، أمراً دقيقاً، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق ... والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقاً مجرداً عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق) اهـ (¬3). (3) والملاحظة الثالثة: أن (المعرفة) أو قول القلب التي اشترطها السلف كركن أصلى للإيمان غير (المعرفة) التي اشترطها المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، فالمعرفة التي اشترطها السلف هي تحقق العلم المنافي للجهل، أي: أن يعرف المرء حقيقة ما يؤمن به، سواء تحققت هذه المعرفة عن طريق التقليد أو عن طريق النظر والاستدلال. وأما المعرفة التي اشترطها المعتزلة وأمثالهم فهي أن يعرف المرء أصول دينه عن طريق النظر والدليل العقلي وحده، لا عن طريق التقليد أو السماع. يقول البدر العيني: (قال أهل السنة: من اعتقد أركان الدين من التوحيد والنبوة والصلاة والزكاة والصوم والحج، تقليداً، فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها وقال: لا آمن ورود شبهة تفسدها، فهو كافر. وإن لم يعتقد جواز ذلك بل جزم على ذلك الاعتقاد، فقد اختلفوا فيه ... وقال عامة المعتزلة: إنه ليس بمؤمن ولا كافر. وقال أبو هاشم: إنه كافر. فعندهم إنما يحكم بإيمانه إذا عرف ما يجب الإيمان به من أصول الدين، بالدليل العقلي على وجه يمكنه مجادلة الخصوم وحل جميع ما يورد عليه من الشبه، حتى إذا عجز عن شيء من ذلك لم يحكم بإسلامه) (¬4). حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لمحمد عبد الهادي المصري – ص 25 ¬

(¬1) ((كتاب الصلاة)) لابن القيم (ص: 19، 20). (¬2) ((كتاب الصلاة)) لابن القيم (ص: 25). (¬3) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 381 - 383). (¬4) ((عمدة القاري)) (1/ 106، 107).

المسألة الثانية: أهمية عمل القلب

المسألة الثانية: أهمية عمل القلب القلب هو موضع الإيمان الأصلي، وإيمانه أهم أجزاء الإيمان، ومن هنا كان قوله وعمله هو أصل الإيمان الذي لا يوجد بدونه مهما عملت الجوارح من الإيمان، ولا خلاف بين عقلاء بني آدم في أن كل حركة بالجارحة لا تكون إلا بإرادة قلبية، وإلا فهي من تصرفات المجانين أو حركات المضطرين فاقدي الإرادة. فالقلب ليس ملك الأعضاء فحسب، بل هو أعظم من ذلك، إذ هو مصدر توجيهها ومنبع عملها وأساس خيرها وشرها، فإذا كانت إرادته إيمانية كانت الأفعال العضوية إيمانا، وإذا كانت إرادته إرادة كفر ونفاق أو عصيان كانت تلك مثلها. والنصوص في ذلك كثيرة. منها: 1 - يقول الله تعالى في حق من حققوا الولاء والبراء: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22] 2 - ويقول: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7] 3 - ويقول في حق الأعراب: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] 4 - ويقول: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154] وغير ذلك كالآيات الدالة على الطبع والختم على قلوب الكافرين أو كونها في أكنه أو مغلقة – ونحوها. وكل آية ورد فيها قوله: بِذَاتِ الصُّدُورِ (¬1). ومن السنة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات)) (¬2). ويقول: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) (¬3). ويقول - كما روى الإمام أحمد في المسند -: ((الإسلام علانية، والإيمان في القلب، وأشار إلى صدره ثلاث مرات قائلا: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا)) (¬4). ويقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) (¬5). فهذه النصوص تدل على أن القلب هو الأصل، وأن إيمانه هو جزء الإيمان الأساس الذي يقوم عليه الجزء الظاهر ويتفرع منه، ويرتبط به ارتباط العلة بالمعلول، بل ارتباط أجزاء الحقيقة الواحدة الجامعة، ومن هنا لم يسم المنافق مؤمنا قط وإن كثر عمل جوارحه بالجهاد والصلاة. بل المؤمن المجاهد إذا نوى بجهاده طلب الدنيا أو الرياء حبط عمله وتبدلت المثوبة في حقه عقوبة وعذابا، وهذا ما يدل على أهمية عمل القلب، وقد سبق تفصيل لذلك في فصل حقيقة النفس الإنسانية. ¬

(¬1) وهي كثيرة، وتدل على ارتباط أعمال القلب بأعمال الجوارح، لأنها كثيرا ما ترد في أعمال الجوارح. (¬2) رواه مسلم (2564). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬4) رواه أحمد (3/ 134) (12404). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 57): رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه، والبزار باختصار ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعّفه آخرون، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (6906): منكر. (¬5) رواه الترمذي (2140)، وابن ماجه (3107)، وأحمد (3/ 112) (12128)، والحاكم (1/ 707). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن، وحسنه أيضاً ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 99) كما أشار لذلك في المقدمة، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 112): رجاله رجال مسلم في الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

ومن العجيب أن المرجئة استدلت ببعض الأدلة السابقة على إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، وأن أعمال الجوارح - بل بقية أعمال القلب - ليست من الإيمان، فهذا هو ذا (الإيجي) في (المواقف) يذكر مذهب أصحابه الأشاعرة: وهو أنه التصديق، ومذهب الماتريدية، وهو أنه التصديق مع الكلمتين، ويذكر (مذهب السلف وأصحاب الأثر: أنه مجموع هذه الثلاثة، فهو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان) (¬1). ثم يقول في الانتصار لمذهبه: (لنا وجوه (¬2): الأول: الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ [المجادلة: 22]، وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ [النحل: 106]. ومنه الآيات الدالة على الختم على القلوب، ويؤيده دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ثبت قلبي على دينك)) (¬3) وقوله لأسامة - وقد قتل من قال لا إله إلا الله - ((هلا شققت عن قلبه)) (¬4).) (¬5). والرد عليهم واضح، فإن النصوص الدالة على الجزء الباطن من الإيمان لا تنفي وجود الجزء الظاهر - لا سيما ولهذا الجزء نصوص مماثلة - وغاية ما فيها بيان أن إيمان القلب هو الأصل والأساس لإيمان الجوارح كما تقدم. ثانيا: من جهة ثانية هذه النصوص لا تدل على التصديق بل على أمر زائد عنه، فما كتبه الله في قلوب المعادين لأعدائه وما زينه في قلوب المؤمنين وما نفى دخوله في قلوب الأعراب وهكذا، ليس هو التصديق المجرد كما يحسبون وإنما هو أعمال قلبية كالمحبة والرضا واليقين ونحوها. ثالثا: ومن جهة ثالثة يرد عليهم بأن من تأمل هذه النصوص التي أوردها صاحب المواقف يجد أنها تدل على إيمان الجوارح بنوع من أنواع الدلالة، وأن الإيمان المذكور في بعضها ليس هو الإيمان العام المقابل لكلمة (الكفر) والمرادف لكلمة (الدين)، بل هو الإيمان الخاص المقابل لكلمة (الإسلام) إذا اجتمعا، أي على النحو الذي دل عليه الحديث السابق: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب)) (¬6) ولا مجال للبسط أكثر من هذا. ¬

(¬1) ((المواقف)) (3/ 527، 528). (¬2) انظر إلى تصريحه بمذهب السلف وأصحاب الأثر ثم تصريحه بمخالفة أصحابه، ومع هذا يزعم معاصروهم أنهم أهل السنة والجماعة أو منهم!! (¬3) رواه الترمذي (2140)، وابن ماجه (3107)، وأحمد (3/ 112) (12128)، والحاكم (1/ 707). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن، وحسنه أيضاً ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 99) كما أشار لذلك في المقدمة، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 112): رجاله رجال مسلم في الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه مسلم (96). من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. (¬5) ((المواقف)) (3/ 528)، ثم ذكر وجهين آخرين الرد عليهما واضح .... (¬6) رواه أحمد (3/ 134) (12404). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 57): رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه، والبزار باختصار ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين وضعّفه آخرون، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (6906): منكر.

ومن أفسد الأصول التي بناها المرجئة على هذا الاعتقاد - أي انحصار الإيمان في التصديق القلبي وحده - أنهم حصروا الكفر في التكذيب القلبي أيضا، حتى أنهم لم يعتبروا الأعمال الكفرية الصريحة كالسجود للصنم، وإهانة المصحف، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا دلالات على انتفاء التصديق القلبي، وليست مكفرة بذاتها (¬1). وكذلك لهذه العقيدة آثار عميقة المدى على الأمة، بل هي في عصرنا هذا أساس للضلال والتخبط الواقع في مسألة التكفير، ومنها نشأ التوسع في استخدام (شرط الاستحلال) حتى اشترطوا في أعمال الكفر الصريحة، كإهانة المصحف، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلغاء شريعة الله، فقالوا: لا يكفر فاعلها إلا إذا كان مستحلا بقلبه!! واشترط بعضهم مساءلة المرتد قبل الحكم عليه، فإن أقر أنه يعتقد أن فعله كفر، وإن قال أنه مصدق بقلبه ويعتقد أن الإسلام أفضل مما هو عليه من الردة لم يكفروه (¬2)!! ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي – 2/ 534 ¬

(¬1) وهذا من الأصول الثابتة في مذاهب الأشاعرة قديما وحديثا، انظر مثلا: ((المواقف)) (3/ 536)، وبراءة الأشعريين (1/ 149)، ومن أعظم الرد عليهم أن الأشعري نفسه في ((المقالات)) (1/ 132،133،141) ذكر هذه الأقوال نفسها عن فرق المرجئة: كالجهمية والصالحية والمريسية وهذا يدل على صحة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه مرارا، وما استنتجناه من بحثنا هذا، وهو أن الأشاعرة على مذهب جهم والصالحى وإن غيروا قليلا. (¬2) وغرضهم هو التثبيت في إطلاق الكفر – بزعمهم – وهذا إلى أفعال الحمقى أقرب منه إلى أفعال المثبتين، وإلا فهل يذهب عاقل إلى طاغوت محارب للشريعة أو إلى زعيم حزب شيوعي فيسأله هل يعتقد أن الإسلام أفضل؟؟!!

المسألة الثالثة: إثبات عمل القلب

المسألة الثالثة: إثبات عمل القلب لما كان إيمان القلب من الأهمية .... كان لا بد أن يكون حظ الحديث عنه من الذكر الحكيم الذي أنزله الله لإصلاح حياة العالمين وتزكيتها هو الحظ الأوفر، وهكذا جاء في القرآن آيات كثيرة تبين أعمال القلب وأهميتها في الإيمان أصلا أو وجوبا، ولو ذهبنا في جمعها واستقصائها لطال المقام جدا. وحسبنا أن نورد ما يتجلى به صحة مذهب أهل السنة والجماعة وشذوذ المرجئة المنكرين لدخول أعمال القلب في الإيمان عدا التصديق القلبي، ويتضح أن مصدر القوم في التلقي لم يكن الكتاب والسنة، وإلا فكيف يضربون صفحا عن هذه الآيات المحكمات، ويعتمدون أكثر ما يعتمدون على آية واحدة ليست في مورد الإيمان الشرعي، بل حكاها الله تعالى عن قوم قالوها في التصديق الخبري المجرد، وهو قوله تعالى على لسان إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف: 17]!! وهذه بعض أعمال القلب مقرونة بما تدل عليها من الآيات، منها ما هو في حق المؤمنين، ومنها ما هو في حق الكفار دالا على أمور سوى التكذيب الذي لم يقر المرجئة بغيره، ونظرا لكثرتها اكتفيت بما ورد فيها العمل مسندا إلى القلب - أو الصدر - بالمنطوق الصريح. 1 - الوجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] 2 - الإخبات: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54] 3 - السلامة من الشرك دقيقه وجليله: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء 88، 89] 4 - الإنابة: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق: 33]. 5 - الطمأنينة: وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] .. أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ [الرعد: 28] واشترطها في المكره إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106] فكيف بغيره. 6 - التقوى: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] .. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3] 7 - الانشراح: فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ [الأنعام:125] أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ [الزمر: 22]. 8 - السكينة: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ [الفتح: 4] 9 - اللين: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] وقد أسنده للقلب والجوارح هنا. 10 - الخشوع: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] 11 - الطهارة: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] وهي في آية الحجاب، فدلت على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح. 12 - الهداية وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] وهى مما يدل على تلازم أعمال القلب. مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11] 13 - العقل: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [الحج: 46] 14 - التدبر: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] 15 - الفقه: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف: 179]

16 - الإيمان: مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ [المائدة: 41]. وفى الإيمان الخاص: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ولهذا كان فيهم الصنف الذي سماه الله: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60]. 17 - السلامة من الغل للمؤمنين وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] 18 - الرضا والتسليم فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. ويلاحظ أن الإسناد فيها للنفس لا للقلب أو الصدر، لحكمة دقيقة هي أن النفس مكمن الهوى والاعتراض. ومما ورد مسنداً إلى القلب غير المؤمن: 1 - الإنكار: فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [النحل: 22]. 2 - الكبر: إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ [غافر: 56]، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر: 35]. 3 - الإعراض واللهو: (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 2 - 3] 4 - الاشمئزاز وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: 45]. 5 - الزيغ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] .. فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]. 6 - العمى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] 7 - القفل، وعدم الفقه، وعدم العقل: وقد تقدم ما يدل عليها. 8 - المرض: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً [البقرة:10] 9 - القسوة: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] 10 - الغمرة: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا [المؤمنون: 63] 11 - الران: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] 12 - العداوة للحق وأهله: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) سورة آل عمران والآيات في ذلك وعلاقته بأعمال الجوارح كثيرة أيضا. وأكثر مما ذكرنا الآيات الواردة في أعمال القلوب، ولكن لم يذكر فيها لفظه، كآيات الخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والرضا وغيرها. وإنما المقصود إثبات هذا الجزء العظيم من الإيمان الذي أهمله أكثر المسلمين وليس المرجئة خاصة، وقد حصل المقصود إن شاء الله ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - بتصرف – 2/ 547

العنصر الثاني الإقرار باللسان

العنصر الثاني الإقرار باللسان الإقرار باللسان عند السلف عنصر أصلي من عناصر الإيمان، فلا يتصور تحقق الإيمان القلبي التام من قول القلب وعمله دون تحقق الإقرار باللسان، فهو على هذا الأساس يكون من جهة، عبارة عن (إنشاء) عقد جديد يتضمن الالتزام والانقياد، ومن جهة أخرى يكون عبارة عن (إخبار) عما في النفس من اعتقاد. فمن استخدم لفظ (الإقرار) بمعناه العام هذا من الإخبار والالتزام وقال إن الإيمان هو الإقرار، فالخلاف معه خلاف لفظي، ومن استخدم اللفظ في المعنى الأخير وحده وهو الإخبار لزمه في تعريف الإيمان أن يضيف إليه الاعتقاد بالقلب. يقول ابن تيمية: (ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين: أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق، والشهادة، ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار. والثاني: إنشاء الالتزام، كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد ... فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول – وكذلك لفظ الإيمان – فيه إخبار وإنشاء التزام) اهـ (¬1). فالإقرار باللسان إذن نتيجة تلقائية للتعبير عن تحقق الإيمان القلبي من تصديق بالحق وانقياد له. (ولذلك فإن العرب لا تعرف في لغتها التصديق والتكذيب إلا ما كان معنى ولفظاً أو لفظاً يدل على معنى، فلا يوجد في كلام العرب أن يقال: فلا صدق فلاناً أو كذبه إذا كان يعلم بقلبه أنه صادق أو كاذب ولم يتكلم بذلك. فمن لم يصدق بلسانه مع القدرة لا يسمى في لغة القوم مؤمناً، كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فمن صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذ لم يجعل الله أحداً مصدقاً للرسل بمجرد العلم والتصديق الذي في قلوبهم، حتى يصدقوهم بألسنتهم. ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين، حيث اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين مع القدرة على ذلك فهو كافر، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها) (¬2). يقول البدر العيني: (اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على ما قاله النووي: إن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار، لا يكون من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق مع ذلك بالشهادتين. قال: فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً، بل يخلد في النار إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية، أو لتغير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمناً بالاعتقاد من غير لفظ) اهـ (¬3). ولا بد أن نقرر هنا – وبناء على كل ما سبق - أن التلفظ بالشهادتين إذن ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود هو الإعلان عن تحقيق مدلولهما من: الإقرار بالتوحيد (ولوازمه من النبوة والبعث). ترك الشرك والتبرئ منه. التزام شرائع الإسلام. فإذا لم تعبر الشهادة عن نفس هذه المعاني لم تقبل من قائلها، حتى تكون تعبيراً واقعياً عن مدلولها. وإذا عبر عن نفس هذه المعاني بكلمات أخرى قبلت من قائلها، حتى يلقن الشهادتين أو يتعلمهما أو يحسن التكلم بهما. ¬

(¬1) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 72، 73). (¬2) راجع: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 126، 131، 135، 207، 287). وراجع ((الإيمان الأوسط)) (ص: 95، 151). (¬3) ((عمدة القاري)) (1/ 110).

والمتتبع لأقوال الأئمة في هذا الأمر يلاحظ مدى تعدد اجتهاداتهم في اعتبار أو رفض الدلالات المختلفة التي تعبر عن تحقق مدلول الشهادتين، وذلك حسب حال القائل، والظروف والملابسات المختلفة التي تحيط به مما يؤكد على هذه الحقيقة وهي أن العبرة دائماً بالحقائق والمعاني والدلالات وليس بالألفاظ المجردة. يقول الإمام ابن القيم: (وقد اختلف أئمة الإسلام في الكافر إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله ولم يزد، هل يحكم بإسلامه بذلك؟ على ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد. أحدها يحكم بإسلامه بذلك، والثانية لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بشهادة أن لا إله إلا الله، والثالثة أنه إذا كان مقرا بالتوحيد حكم بإسلامه، وإن لم يكن مقرا لم يحكم بإسلامه حتى يأتي به) اهـ (¬1). ويقول البدر العيني: (وإذا نطق بهما لم يشترط معهما أن يقول: أنا بريء من كل دين خالف دين الإسلام على الأصح، إلا أن يكون من كفار يعتقدون اختصاص الرسالة بالعرب، ولا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ. ومن أصحابنا من اشترط التبرؤ مطلقاً، وهو غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)) (¬2). ومنهم من استحبه مطلقاً كالاعتراف بالبعث. أما إذا اقتصر الكافر على قوله لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله، فالمشهور من مذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يكون مسلماً. ومن أصحابنا من قال: يصير مسلماً ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جعل مرتداً. وحجة الجمهور الرواية السالفة، وهي مقدمة على هذه، لأنها زيادة من ثقة، وليس فيها نفي للشهادة الثانية، وإنما فيها تنبيه على الأخرى. وأغرب القاضي حسين فشرط في ارتفاع السيف عنه أن يقر بأحكامها مع النطق بها، فأما مجرد قولها فلا، وهو عجيب منه. وقال النووي: اشترط القاضي أبو الطيب من أصحابنا الترتيب بين كلمتي الشهادة في صحة الإسلام، فيقدم الإقرار بالله على الإقرار برسوله، ولم أر من وافقه ولا من خالفه. وذكر الحليمي في منهاجه ألفاظاً تقوم مقام لا إله إلا الله، في بعضها نظر لانتفاء ترادفها حقيقة، فقال: ويحصل الإسلام بقوله: لا إله غير الله، ولا إله سوى الله أم ما عدا الله، ولا إله إلا الرحمن أو البارئ، أو لا رحمن أو لا بارئ إلا الله، أو لا ملك أو لا رزاق إلا الله، وكذا لو قال: لا إله إلا العزيز أو العظيم أو الحكيم أو الكريم. وبالعكس قال: لو قال: أحمد أبو القاسم رسول الله فهو كقوله: محمد) اهـ (¬3). ويقول الشوكاني: (وعن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا أصبح أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقال: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم إني أبرأ مما صنع خالد، ومرتين)) رواه أحمد والبخاري (¬4). وهو دليل على أن الكناية مع النية كصريح لفظ الإسلام. قوله: صبأنا صبأنا، أي دخلنا في دين الصابئة، وكان أهل الجاهلية يسمون من أسلم صابئاً، وكأنهم قالوا: أسلمنا أسلمنا ... وقد استدل المصنف بأحاديث الباب على أنه يصير الكافر مسلماً بالتكلم بالشهادتين ولو كان ذلك على طريق الكناية بدون تصريح ... ¬

(¬1) ((زاد المعاد)) (2/ 42). (¬2) رواه البخاري (25)، ومسلم (138). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) ((عمدة القاري)) (1/ 110، 111). (¬4) رواه أحمد (2/ 150) (6382)، والبخاري (4084). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

قال الحافظ في (الفتح) عند الكلام على حديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (¬1) في باب قتل من أبى من قبول الفرائض من كتاب استتابة المرتدين والمعاندين ما لفظه: وفيه منع قتل من قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها، وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلماً؟ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله: إلا بحق الإسلام. قال البغوي: الكافر إذا كان وثنياً أو ثنوياً لا يقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع الأحكام، ويبرأ من كل دين خالف الإسلام. وأما من كان مقراً بالوحدانية منكراً للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله. فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلا بد أن يقول: إلى جميع الخلق، فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج إلى أن يرجع عن اعتقاده. قال الحافظ: ومقتضى قوله يجبر، أنه إذا لم يلتزم يجرى عليه حكم المرتد، وبه صرح القفّال، واستدل بحديث الباب وادعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهي غفلة عظيمة، فإن ذلك ثابت في الصحيحين في كتاب الإيمان منهما (¬2) كما قدمنا الإشارة إلى ذلك. اهـ.) (¬3). فالقضية إذن هي قضية تحقق أصل الإيمان في القلب، ثم التعبير عن تحقق هذا الأصل باللسان. فالشهادة إذن ليست حجاباً من الكلمات التي يتمتم بها قائلها فترفع عنه السيف في الدنيا ثم تستره من العذاب في الآخرة، دون أن يكون لها أية حقيقة في قلبه وفي ظاهر أمره، من العلم والمعرفة والتصديق بالحق على ما هو عليه فعلاً، ثم الخضوع والانقياد والاستسلام له، ومحبته والالتزام به وتعظيمه ولوازم ذلك كله، من كراهية الباطل والانخلاع عنه والتبرئ منه، والالتزام بشريعة الرسول والدخول في طاعته ومحبته وتوقيره صلى الله عليه وسلم. حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لمحمد عبد الهادي المصري – ص 33 مسألة: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله إن قول القلب: هو متعلق التوحيد الخبري الاعتقادي. وعمل القلب: وهو متعلق التوحيد الطلبي الإرادي. فإن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر يتضمن توحيد الأسماء والصفات، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عن ربه من الكتب وما فيها، والملائكة وأعمالهم وصفاتهم، والنبيين ودعوتهم وأخبارهم، وأحوال البرزخ والآخرة، والمقادير وسائر المغيبات. فالإقرار بهذا والتصديق به مجملا أو مفصلا هو قول القلب، وهو التوحيد الخبري الاعتقادي. وعمل القلب ... يتضمن توحيد الله عز وجل بعبادته وحده حبا وخوفا ورجاء ورغبة ورهبة وإنابة وتوكلا وخشوعا واستعانة ودعاء وإجلالا وتعظيما وانقيادا، وتسليما لأمره الكوني وأمره الشرعي، ورضا بحكمه القدري والشرعي، وسائر أنواع العبادة التي صرفها لغير الله شرك (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (25)، ومسلم (138). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (25)، ومسلم (138). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) ((نيل الأوطار)) للشوكاني (8/ 9، 10) باب ما يصير به الكافر مسلماً. (¬4) كما يتضمن عمل القلب أعمالا دون ذلك مما افترضها الله وجعلها من واجبات الإيمان، كمحبة المؤمنين والنصح لهم، والتواضع، والشفقة، واجتناب الكبر والحسد، ونحو ذلك.

وهذان هما نوعا التوحيد الذي جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب، وشهادة أن لا إله إلا الله - التي هي رأس الأعمال وأول واجب على العبد - إنما هي إنشاء للالتزام بهذين النوعين ومن ثم سميت كلمة التوحيد، ومن هنا كان أجهل الناس بالتوحيد من ظن أن المطلوب بقول: لا إله إلا الله هو التلفظ بها باللسان فقط. ... أن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة - على اللسان أو الجوارح - لا بد أن يكون تعبيرا عما في القلب وتحقيقا له ومظهرا لإرادته وإلا كان صاحبه منافقا النفاق الشرعي أو العرفي وأخص من ذلك العبادات، فكل عبادة قولية وفعلية لا بد أن يقترن بها من عمل القلب وما يفرق بينها وبين أفعال الجمادات أو الحركات اللاإرادية أو أفعال المنافقين. فما بالك برأس العبادات وأعظمها، بل أعظم شيء في الوجود، الذي يرجح بالسموات والأرض وعامرهن غير الله تعالى: وهي شهادة أن لا إله إلا الله؟! ولهذا يتفاوت قائلوا هذه الكلمة تفاوتا عظيما بحسب تفاوت ما في قلوبهم من التوحيد. فلولا تفاوت أقوال القلوب وأعمالها - ولو أن المراد من كلمة الشهادة هو نطقها- لما كان لموحد فضل على موحد ولما كان لصاحب البطاقة- الآتي حديثه - فضل على سواه من قائليها، ولما كان لقائلها باللسان فضل عن قائلها بالقلب واللسان، ولما كان لمن قالها من خيار الصحابة السابقين فضل عن من قالها يتعوذ بها من السيف في المعركة. وانظر إلى هذا الحوار بين العزيز الحكيم وبين عبده موسى الكليم، حيث قال موسى: ((يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال كل عبادك يقولون هذا!!! – زاد في رواية: إنما أريد أن تخصني به – قال: يا موسى، لو أن السموات السبع – وعامرهن غيري – والأرضون السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفه مالت بهن لا إله إلا الله)) (¬1). فكل المسلمين يقولون (لا إله إلا الله)، ولكن ما قائل كقائل، لأن ما في القلوب يتفاوت مثل تفاوت السماوات والأرض، والذرة التي لا تكاد ترى. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (اعلم أن أشعة (لا إله إلا الله) تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدرة قوة الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس: نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر: كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا. وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنفذه من سارقه، أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا من لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره) (¬2). ¬

(¬1) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 209) (10670)، وأبو يعلى في ((المسند)) (2/ 528) (1393)، وابن حبان (14/ 102) (6218)، والحاكم (1/ 710)،. من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 85): رواه أبو يعلى ورجاله وثقوا وفيهم ضعف، وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب والترهيب)) (923). (¬2) ((مدارج السالكين)) (1/ 329 - 330).

(وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه - كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع، والعطاء، والحب، والبغض - ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله)) (¬1) وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالدا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة) (¬2). (والشارع - صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان. وقول القلب: يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب، علما ومعرفة ويقينا وحالا - ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام - كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائه مرة حطت عنه خطاياه – أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)) (¬3) وليس هذا مرتبا على مجرد اللسان. نعم من قالها بلسانه، غافلا عن معناها، معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا من ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب (¬4). ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات، لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة. وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك، وذكر من هو معرض عنك غافل ساه، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبه غيرك وإيثاره عليك، وهل يكون ذكرهما واحدا؟ أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك، عندك سواء؟ وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته – وهو في تلك الحال – على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت. فهذا أمر آخر، وإيمان آخر. ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها. وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت – مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها – ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها وهو ملآن، وحتى أمكنها الرقى من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، ومن غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها. فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان) (¬5) ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي – 2/ 534 ¬

(¬1) رواه البخاري (425)، ومسلم (33). من حديث عتبان بن مالك السالمي رضي الله عنه. (¬2) ((مدارج السالكين)) (1/ 330). (¬3) رواه البخاري (6405)، ومسلم (2691). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) حديث البطاقة رواه الترمذي (2639)، وابن ماجه (3488)، وأحمد (2/ 213) (6994)، والحاكم (1/ 46). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490): حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (33/ 595)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 173) كما أشار لذلك في المقدمة، وصححه السفاريني الحنبلي في ((لوائح الأنوار السنية)) (2/ 197)، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 22): رجاله موثقون، وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 273): حسن. (¬5) ((مدارج السالكين)) (1/ 331 - 332).

العنصر الثالث العمل بالجوارح

العنصر الثالث العمل بالجوارح • المسألة الأولى: العلاقة بين إيمان القلب وعمل الجوارح. • المسألة الثانية: دقة عبارات السلف في تقرير التلازم بين الإيمان والعمل.

المسألة الأولى: العلاقة بين إيمان القلب وعمل الجوارح

المسألة الأولى: العلاقة بين إيمان القلب وعمل الجوارح إن العلاقة بين إيمان القلب وعمل الجوارح لمن أهم قضايا الإيمان، ومن عدم فهمها دخل الضلال على المرجئة بل على أكثر المسلمين، حين ظنوا أنه يمكن أن يكون إنسان كامل الإيمان في القلب مع عدم عمل الجوارح مطلقا. كما ظنوا أن تماثل الناس في أعمال الجوارح يقتضى تماثل إيمانهم وأجورهم، ولم يدركوا أنه بحسب علاقة عمل الجارحة بعمل القلب يكون الحكم على العمل والثواب عليه، فقد يتفق العملان في المظهر والأداء، وبينهما مثل ما بين السماء والأرض في الدرجة والأجر. وأساس فهم هذه القضية أن نعلم حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان على ضوء مذهب السلف. فقد قررنا أن الإيمان قول وعمل وأن ذلك يشمل القلب والجوارح معا ...... ، فهذان الركنان - القول والعمل - أو الأربعة الأجزاء - قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح - يتركب منهما هيئة مجتمعة أو حقيقة جامعة لأمور، هذه الهيئة والحقيقة هي (الإيمان الشرعي) كما أن حقيقة الإنسان مركبة من الجسد والروح أو العقل والوجدان، وكما أن الشجرة تتركب من الجذور الضاربة في الأرض والساق والأغصان الظاهرة. ومما يوضح ذلك تشبيه تركيب الإيمان بالتركيب الكيميائي: مثلما يتركب الملح مثلا من الكلور والصوديوم أو يتركب جزيء الماء من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين بحيث لو انتفى التركيب لانتفت الحقيقة مطلقا وتحولت الأجزاء إلى أشياء مختلفة تماما. ولكن لا يقف التركيب عند هذا الحد، بل يجب أن نضيف إليه أن هذه الأجزاء أو الهيئة المركبة تتكون تفصيلا من بضع وسبعين شعبة، وكل شعبة منها قابلة للتفاوت بين أعلى درجات الكمال وأدنى درجات النقص أو الاضمحلال والعدم. وبهذا نفهم اندراج كل الأعمال والطاعات فرضا أو نفلا في مسمى الإيمان المطلق ودخولها في حقيقته الجامعة، كما يظهر تفاوت الناس في الإيمان ودرجاته، ومن أظهر الأدلة على هذا التركيب والامتزاج أنه قد وردت النصوص بتسمية الإيمان عملا وتسمية العمل إيمانا: فأما تسمية الأعمال إيمانا فنصوص كثيرة جدا، حتى إن البخاري رحمه الله عقد في كتاب الإيمان من الصحيح تراجم كثيرة لذلك: مثل (باب الجهاد من الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، باب صوم رمضان من الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان) ونحو ذلك، وأورد في ذلك الأحاديث الصحيحة التي شاركه في إخراجها كتب السنة الأخرى. وأما تسمية الإيمان عملا فقد عقد أيضا له (باب من قال إن الإيمان هو العمل، لقوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72]. وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92 - 93]: عن قول لا إله إلا الله. وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات: 61]). ثم روى البخاري بسنده عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال ((إيمان بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (26)، ورواه مسلم (83).

وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن عبيدالله بن أسلم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1)، وعن عبدالله بن حبشي الخثعمي (¬2)، ورواه أبو داود الطيالسي عن أبي هريرة (¬3) أيضاً ورواه غيرهم عن أبي ذر (¬4). ومن ذلك قوله تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37]. فقوله: بما عملوا يشمل إيمانهم بقلوبهم وأعمالهم الصالحة بجوارحهم المذكورين قبل. وهذا ما فهمه السلف الصالح وأجمعوا على معناه - كما سبق في فصل حقيقة الإيمان الشرعية -، قال الوليد بن مسلم: (سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبدالعزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل. ويقولون: لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان) (¬5). وقد سبق إيراد قول الإمام الأوزاعي رحمه الله: (كان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل)، وقول الشافعي رحمه الله: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ أحد الثلاثة إلا بالآخر) (¬6). ولنوضح ذلك بمثالين: أحدهما من أعمال الجوارح والآخر من أعمال القلوب، يظهر في كل منها حقيقة العلاقة التلازمية وحقيقة التفاوت: 1 - الصلاة: وهي من أعمال الجوارح، وقد ورد تسميتها إيماناً في القرآن، قال تعالي: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي صلاتكم إلى بيت المقدس (¬7) , وهي بلا ريب أعظم شعب الإيمان العملية الظاهرة بعد الشهادتين، فلو تأملنا لوجدنا أنها تشمل أجزاء الإيمان الأربعة، وهي قول القلب: وهو إقراره وتصديقه بوجوبها، وعمل القلب: وهو الانقياد والإذعان بالإرادة الجازمة وتحريك الجوارح لفعلها والنية حال أدائها، وعمل اللسان: وهو القراءة والأذكار الواردة فيها، وعمل الجوارح: وهو القيام والركوع والسجود وغيرها. 2 - الحياء: ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 342) (19032). من حديث ماعز وليس عبيدالله بن أسلم رضي الله عنهما. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 166): رواه أحمد إلى ماعز رواة الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 210): رجال أحمد رجال الصحيح، وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (3/ 337): رواته ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1091). (¬2) رواه أحمد (3/ 411) (15437)، ورواه النسائي (8/ 469). والحديث حسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 16) كما أشار لذلك في المقدمة، وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. (¬3) رواه الطيالسي (ص: 329) (2518). والحديث رواه البخاري (26)، ومسلم (83). (¬4) رواه البخاري (2518)، ومسلم (84). (¬5) رواه الطبري في ((صريح السنة)) (ص: 25)، واللالكائي في ((اعتقاد أهل السنة)) (4/ 930) (1586). (¬6) انظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 57) و ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 280). (¬7) انظر الفتح (1/ 95) كما ورد تسميتها إيمانا في حديث وفد عبد الفيس السابق وغيره، ومع ذلك أخرج المرجئة الصلاة من الإيمان وأولو الآية بأن المراد ليس صلاتكم بل التصديق بها، انظر المواقف ص 386

وهو عمل قلبي، وقد صح تسميته إيمانا في حديث الشعب وغيره، ومع ذلك فلا يمكن تصور وجوده في القلب إلا بظهور أثره على اللسان والجوارح، وبمقدار حياء الجوارح يقاس حياء القلب. وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، منها في الأفعال قصة الثلاثة الذين دخلوا علي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الحلقة، فدخل أحدهم فيها وأعرض الثالث، وأما الأوسط فتردد ثم جلس خلفهم، فقال عنه النبي صلي الله عليه وسلم ((وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه)) (¬1)، أي إنما منعه من الذهاب حياؤه، فشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالحياء بناء على فعله، فلو ذهب لقال فيه ما قال فيمن ذهب. وأما الحياء في القول، فمنه قول علي رضي الله عنه: ((كنت رجلا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله)) (¬2)، فما في قلب علي رضي الله عنه من الحياء منعه من السؤال بنفسه، وهذا مما يعلمه كل إنسان في نفسه، أي متى يستحي وممن يستحي بحسب ما في قلبه. ثم يأتي بعد هذا مسألة التفاوت في الصلاة والتفاوت في الحياء، فصلاة يقترن بها الخشوع وحضور القلب وحسن الأداء لا تكون كأخرى منقورة نقر الغراب، وكذلك حياء مقرون به زيادة التقوى وحسن السمت وورع اللسان لا يكون كحياء رجل ليس لديه إلا ما يمسكه عما يفعله أو يقوله من لا حياء له. ومثل هذا التفاوت هو الواقع في الإيمان كله بحسب كمال الشعب جميعها أو كمال بعضها دون بعض أو فقدان بعضها بالكلية. هذا في الأفعال، والحال في التروك كذلك، فلنمثل لها أيضا بمثالين: 1 - ترك الزنا: وهو عمل الجارحة، وهو من الإيمان بدليل نفي الشارع الإيمان عمن فعله، وهو يشمل قول القلب، أي الإقرار بحرمته وتصديق الشارع في ذلك؛ وعمل القلب، وهو الانقياد والإذعان بالكره والنفور والإرادة الجازمة لإمساك الجوارح عنه؛ وعمل الجوارح، وهو الكف عن فعله ومقدماته. فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإن عمل قلبه مفقود بلا شك - خاصة حين الفعل -، لأن الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل، فمن هنا نفى الشارع عنه الإيمان تلك اللحظة ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (¬3)، لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان كله خلافا للخوارج، فلو أظهر ما يدل على انتفاء إيمان القلب واستحلاله له لكان خارجا من الملة عند أهل السنة والجماعة، أما مجرد الفعل فإنما يدل على انتفاء عمل القلب لا قوله. 2 - ترك الحسد: وهو من أعمال القلب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع والإيمان في قلب (¬4)، فلا يتصور خلو القلب من الحسد مع وجود آثاره ودلائله على الجوارح، كما لا يستطيع أحد أن يدعي أن فلانا حسود مع عجزه عن الإتيان بدليل ظاهر من عمله. ¬

(¬1) رواه البخاري (66)، ومسلم (2176). من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (178)، ومسلم (303). من حديث علي رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه النسائي (6/ 12) بلفظ: ((ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد))، وأحمد (2/ 340) (8460) بلفظ: ((ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والشح))، وابن حبان (10/ 466) (4606)، والحاكم (2/ 82)، والبيهقي (9/ 161) (18289)، وفي ((شعب الإيمان)) (5/ 266) (6609). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الطبري في ((مسند عمر)) (1/ 102): إسناده صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 303)، وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 280) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)).

وقد أخبرنا الله تعالى عن إخوة يوسف وما صنعوا بأخيهم حسدا له على مكانته من أبيه، ومن المحال أن يصدر منهم هذا مع خلو قلوبهم من الحسد، إذ أن أعمال الجوارح إنما هي تنفيذ وتحقيق لإرادة القلب الجازمة، فوجودها في الحالة السوية - أي حالة عدم الإكراه ونحوه - يقطع بوجود أصلها القلبي. وهذا بخلاف اتهام المنافقين للصحابة رضي الله عنهم، الذي أخبر الله عنه بقوله فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح: 15]، لأن المنافقين ادعوا أن مانع المؤمنين من استصحابهم إياهم إلى المغانم هو الحسد، وهي تهمة لم يأتوا عليها بدليل إلا المنع نفسه، والله تعالى أمر المؤمنين أن يقولوا لهم: لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح: 15]. فهذا سبب المنع، فإذا اتهمهم أولئك بعد هذا بالحسد لم يكن لهذا الاتهام موقع. والمقصود أنه مع عدم حصول أي دليل أو إشارة للحسد في أعمال أي إنسان لا يصح ولا يقبل من أحد أن يدعي أن قلبه مملوء حسدا، وهذا يعرفه الناس جميعا - المرجئة وغيرهم - في سائر أعمال القلوب، لكن المرجئة تناقض هذا فيما هو أعظم وأهم، فتزعم أنه يمكن أن يكون القلب مملوءا بالإيمان ولا يظهر من ذلك على الجوارح شيء ‍‍‍‍! بل تزعم وجوده في القلب مع أن أعمال الجوارح كلها بخلافه، في حين أنها لا تصدق أن إنسانا سليم القلب من الحسد إذا كانت أعماله كلها دالة عليه. نعم، أعمال القلوب هي الأصل وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((التقوى هاهنا)) (¬1)، وقال: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (¬2). ونحو ذلك مما سبق أو سيأتي من النصوص. ولهذا تحصل حالة شاذة خفية، وهي أن يضعف إيمان القلب ضعفا لا يبقى معه قدرة على تحريك الجوارح لعمل خير، مثله مثل المريض الفاقد الحركة والإحساس، إلا أن في قلبه نبضاً لا يستطيع الأطباء معه الحكم بوفاته مع أنه ميئوس من شفائه، فهو ظاهرا في حكم الميت وباطنا لديه هذا القدر الضئيل من الحياة الذي لا حركة معه، وهذه هي حالة الجهنميين الذين يخرجهم الله من النار مع أنهم لم يعملوا خيرا قط، وسيأتي تفصيل الحديث عن هذه الحالة (¬3)، وإنما أشرت إليها هنا ليسلم لنا تصور الأصل، حتى إذا تم إيضاحه عرجنا على الحالات الشاذة. ولقد وصل الشذوذ بالمرجئة الغالية - كالأشاعرة ومن حذا حذوهم - إلى حد القول بأن لا إله إلا الله باللسان ليس شرطاً في الإيمان عندهم، بل قالوا: يكفي حصول الإيمان في القلب لنجاة صاحبه عند الله، وأما أحكام الدنيا فإنما جعلت الشهادتان أمارة على ما في القلب لنحكم على قائلها بالإيمان، وهذا هو الغاية من الشهادتين عندهم، وليس لهم على هذا من شبهة إلا شبهة أن الإيمان محله كله القلب، وأن ما يظهر على الجوارح مجرد أمارات وثمرات - على ما سبق تفصيله في بابه - وافترضوا تبعا لذلك من المسائل التي تحيلها العقول الشيء الكثير. فالقوم لما خفيت عليهم حقيقة الإيمان الجامعة وترابط أجزائه المحكم وقعوا في هذه الغلطة الكبرى، التي كان لانتشارها من الآثار المدمرة في الأمة الإسلامية ما تنوء بشرحه المجلدات، وحسبك ما وقعت فيه الأمة من شرك أكبر - قديما وحديثا - وهي تحسب أنها في ذروة الإيمان، لأن القلب مصدق للرسول واللسان ناطق بأن لا إله إلا الله!! ومن هنا كان لزاما علينا إيضاح الدلائل القاطعة لأهل السنة والجماعة على أن للقلب أعمالا سوى التصديق ينخرم الإيمان بانخرامها، وقبل ذلك نبين أهمية قول: لا إله إلا الله، وعلاقة سائر الأقوال المتعبد بها بإيمان القلب، تلك العلاقة التي هي علاقة امتزاج وتركيب، ولهذا لم يوجد في مذهب أهل السنة أبدا استخدام عبارة (مؤمن باطنا، كافر ظاهرا)، ولا إمكان وجود ذلك. ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 521 ¬

(¬1) رواه مسلم (2564). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬3) في مبحث الشبهات النقلية من الباب الأخير.

المسألة الثانية: دقة عبارات السلف في تقرير التلازم بين الإيمان والعمل

المسألة الثانية: دقة عبارات السلف في تقرير التلازم بين الإيمان والعمل لقد قرر السلف رحمهم الله هذه القاعدة التي هي أهم قاعدة من قواعد الإيمان والدين على الإطلاق أيما تقرير وحرروها أيما تحرير وذلك لعلمهم بأن الخطأ في هذه القاعدة أو الجهل بها وبما يترتب عليها ليس كالجهل بغيرها من القواعد العقدية (فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث، ولا كالخطأ في غيره من الأسماء، إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق) (¬1) ولذلك فإن السلف رحمة الله عليهم قد صرحوا في أوضح عبارة وأبين دلالة بأن فاقد العمل ليس بمؤمن وقد عبروا بجميع عبارات النفي بعدم صحة الإيمان بلا عمل إطلاقا، فلم تبق عبارة لنفي الإيمان عمن لم يجمع بين القول والعمل إلا وعبروا بها كي لا يبقى مجال للشك في معنى هذه القاعدة وتقعيدها بإجماع السلف بأدق الكلمات وأوضح العبارات. وفيما يلي نص عباراتهم وصريح كلماتهم على تأصيل هذه القاعدة: 1 - فمن تعبيرات السلف النفي المطلق للإيمان الذي ليس معه عمل (والمقصود بالعمل هو العمل الظاهر مع عمل القلب لا عمل القلب وحده كما يزعم البعض) (¬2) وهذا ما سيأتي بيانه من كلامهم رحمهم الله وفي مبحث خاص إن شاء الله. 1 - قال سفيان بن عيينة رحمه الله (الإيمان قول وعمل ولا يكون قول إلا بعمل) (¬3). 2 - وقال الحسن رحمه الله (الإيمان قول، ولا قول إلا بعمل، ولا قول وعمل إلا بنية ولا قول وعمل، ونية إلا بسنة) (¬4). 3 - وقال الإمام الآجري رحمه الله (باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح لا يكون مؤمنا إلا بأن يجتمع فيه الخصال الثلاث) (¬5). وقال رحمه الله (وقد قال تعالى في كتابه وبين في غير موضع أن الإيمان لا يكون إلا بعمل وبينه النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما قالت المرجئة الذين لعب بهم الشيطان) (¬6). وقال أيضاً: (فالأعمال – رحمكم الله – بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمل جوارحه، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمنا، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيبا لإيمانه وكان العمل بما ذكرناه تصديقا لإيمانه، وبالله التوفيق) (¬7). وفي كلام الإمام الآجري هذا بيان واضح بأن الإيمان الحقيقي المقبول عند الله المانع من الخلود في النار الموجب لدخول الجنة لا يمكن إلا بعمل الجوارح الظاهرة بعد عمل القلب واللسان وأنه يستحيل أن يدعي الإنسان الإيمان بلسانه ولم يأت بالعمل فإن ذلك كما قال رحمه الله تكذيب لإيمانه كما أن العمل تصديق لصحة إيمانه وما أقر به على لسانه (¬8). 4 - وبمثله قال تلميذه ابن بطة رحمه الله (باب بيان الإيمان وفرضه وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات لا يكون العبد مؤمنا إلا بهذه الثلاث (¬9). ¬

(¬1) ((الإيمان)) (309). (¬2) وعلى هذا الأساس بنى مرجئة العصر منهجهم في الإيمان. (¬3) ((الشريعة)) للآجري (2/ 604). (¬4) ((أصول السنة)) لابن أبي زمنين (109)، ((الشريعة)) للآجري (3/ 639). (¬5) ((الشريعة)) للآجري (2/ 611). (¬6) ((الشريعة)) للآجري (2/ 614). (¬7) ((الشريعة)) للآجري (2/ 614). (¬8) فهل بعد هذا البيان يأتي من يقرر خلاف ذلك وينسبها إلى السلف زورا وبهتانا. (¬9) ((الإبانة/الإيمان)) (2/ 760).

وقال أيضاً (في مواضع كثيرة من القرآن، أمر الله فيها بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، والجهاد في سبيل الله، وإنفاق الأموال، وبذل النفس في ذلك، والحج بحركة الأبدان، ونفقة الأموال فهذا كله من الإيمان والعمل به فرض لا يكون المؤمن إلا بتأديته) (¬1). 2 - ومن تعبيرات السلف رحمهم الله قولهم (لا يصلح قول إلا بعمل) روى ذلك عبدالله بن الإمام أحمد رحمهما الله بسنده في كتاب السنة عن الأئمة: محمد بن مسلم الطائفي وفضيل بن عياض والثوري، رحم الله الجميع (¬2). وقال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رحمهم الله: (لا يصلح قول إلا بعمل) (¬3). 3 - ومن تعبيراتهم أيضاً قولهم رحمهم الله (لا يستقيم الإيمان إلا بالعمل). 1 - قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بموافقة للسنة (¬4). 2 - وقال داود بن أبي هند رحمه الله (لا يستقيم قول إلا بعمل ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة) (¬5). 3 - وقال الثوري رحمه الله (كان الفقهاء يقولون لا يستقيم قول إلا بعمل ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة) (¬6). 4 - ومن تعبيراتهم أيضاً: أنه لا ينفع الإيمان إلا بعمل: قال الحسن رحمه الله (الإيمان كلام وحقيقته العمل فإن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول) (¬7). 1 - وروى معمر عن الزهري رحمهما الله: (والإيمان قول وعمل قرينان لا ينفع أحدهما إلا بالآخر) (¬8). 2 - وقال الحميدي رحمه الله: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل وقول إلا بنية ولا قول وعمل إلا بسنة) (¬9). 3 - وقال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله: (وأن الإيمان والعمل قرينان لا ينفع أحدهما بدون صاحبه) (¬10). 4 - وقال الإمام ابن بطة رحمه الله (واعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل لم يثن على المؤمنين ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم والنجاة من العذاب الأليم، ولم يخبرهم برضاهم عنهم إلا بالعمل الصالح والسعي الرابح وقرن القول بالعمل والنية بالإخلاص، وحتى صار اسم الإيمان مشتملا على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها من بعض ولا ينفع بعضها دون بعض حتى صار الإيمان قولا باللسان وعملا بالجوارح ومعرفة القلب خلافا لقول المرجئة الضالة الذين زاغت قلوبهم وتلاعبت الشياطين بعقولهم وذكر الله عز وجل ذلك في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته) (¬11). 5 - وعبروا أيضاً بقولهم أن الإيمان لا يجزئ إلا بالعمل: وقد ذكرنا قول الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركناهم أن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر) (¬12). 1 - وقال الإمام الآجري رحمه الله: (الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا، وقول باللسان وعمل بالجوارح لا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة لا يجزئ بعضها عن بعض) (¬13). ¬

(¬1) ((الإبانة/الإيمان)) (2/ 713). (¬2) ((السنة)) لعبد الله (1/ 337). (¬3) ((تقريب التهذيب)) (2/ 340). (¬4) ((شرح الاعتقاد)) لللالكائي (5/ 886) و ((الإبانة/الإيمان)) (2/ 807). (¬5) ((أصول السنة)) لابن أبي زمنين (209). (¬6) ((الإبانة/الإيمان)) (2/ 807). (¬7) ((الشريعة)) للآجري (2/ 634). (¬8) ((الإيمان)) لابن تيمية (231). (¬9) ((أصول السنة آخر مسند الحميدي)) (2/ 546). (¬10) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 335). (¬11) ((الإبانة/الإيمان)) (2/ 779). (¬12) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي)) (5/ 956). (¬13) ((الشريعة)) (2/ 686).

وقال أيضاً (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق اللسان حتى يكون عمل الجوارح، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمنا دل على ذلك القرآن والسنة وقول علماء المسلمين) (¬1). 2 - وقال تلميذه ابن بطة رحمه الله (اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به والتصديق له ولكنه وبكل ما جاءت به السنة وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولا وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به وفرض من الأعمال لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها ولا يكون العبد مؤمنا إلا بأن يجمعها كلها حتى يكون مؤمنا بقلبه مقرا بلسانه عاملا مجتهدا بجوارحه، ثم لا يكون أيضاً مع ذلك مؤمنا حتى يكون موافقا للسنة في كل ما يقوله ويعمله متبعا للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن ومضت به السنة وأجمع عليه علماء الأمة) (¬2). 6 - ومن عبارات السلف رحمهم الله: أنه لا يقبل الإيمان إلا بعمل: قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: (وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقها العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه ولم يصدق بعمله لم يقبل منه وكان في الآخرة من الخاسرين). وقال ابن بطة رحمه الله ( ... وأن الله لا يقبل قولا إلا بعمل ولا عملا إلا بقول) (¬3). 7 - وعبروا أيضاً بنفي صحة الإيمان بلا عمل: 1 - قال الإمام الآجري رحمه الله (لا يصح الدين إلا بالتصديق بالقلب والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وما أشبه ذلك) (¬4). قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني- ص210 ¬

(¬1) ((الشريعة)) (2/ 611). (¬2) ((الإبانة/الإيمان)) (2/ 610 - 761). (¬3) ((الإبانة/الإيمان)) (2/ 795). (¬4) ((الشريعة)) (2/ 563).

الفصل الرابع: مفهوم الإيمان والكفر عند الفرق

المبحث الأول: تعريف الكفر الكفر لغة: الستر والتغطية قال أبو عبيد: وأما الكافر فيقال والله أعلم: إنما سمي كافرا لأنه متكفِّر به كالمتكفِّر بالسلاح وهو الذي قد ألبسه السلاح حتى غطّى كل شيء منه، وكذلك غطى الكفر قلب الكافر، ولهذا قيل لليل: كافر؛ لأنه ألبس كل شيء. قال لبيد يذكر الشمس: حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجنَّ عورات الثغور ظلامُها وقال أيضاً: في ليلة كفر النجومَ غمامُها ... ويقال: الكافر سمي بذلك للجحود، كما يقال: كافرني فلان حقي إذا جحده حقه) (¬1). وقال ابن قتيبة: أمَّا الكافر، فهو من قولك: كفَرْت الشيء إذا غطَّيْته، ومنه يقال: تكفَّر فلان في السِّلاح إذا لَبِسَه. وقال بعضهم: ومنه كافور النَّخْل وهو قشر الطَّلْعة تقديره فاعُول لأنَّه يغطّي الكُفُرَّى. ومنه قيل: ليلٌ كافر لأنَّه يسْتُر كل شيء. قال لبيد وذكر الشمس: حتى إذا ألقت يداً في كافِر وأجنَّ عَوْراتِ الثّغور ظَلامُها قوله: ألقت يداً في كافر، أي دخل أولها في الغور، وهو مثل قول الآخر يصف ظليما أو نعامة: فتذكَّرا ثَقَلاً رشيداً بعدما ... ألقَتْ ذُكاء يمينها في كافر وذُكاء: هي الشمس، ومنه يقال للصُّبْح: ابن ذُكاء؛ لأنَّ ضوءه من الشمس، فكأن الأصل في قولهم: كافر، أي ساتر لِنِعَم الله عليه. وكان بعض المُحَدِّثين يذهب في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)) (¬2) إلى التكفُّر في السلاح، يريد: ترجعوا بعد الولاية أعداء يتكفَّر بعضكم لبعض في الحرب) (¬3). وقال الأزهري: وقال الليث: يقال: إنه سُمِّيَ الكافر كافراً لأن الكُفر غطَّى قلبه كلَّه ... ومعنى قول الليث: قيل له كافر لأن الكفر غطَّى قلبه، يحتاج إلى بيان يدلُّ عليه، وإيضاحه أن الكفر في اللغة معناه التَّغطية، والكافر ذو كفر أي ذو تغطية لقلبه بكفره، كما يقال للابس السِّلاح: كافر وهو الذي غطاه السلاح. ومثله رجل كاسٍ: ذو كسوة، وماء دافق: ذو دَفق. وفيه قول آخر: وهو أحسن مما ذهب إليه الليث. وذلك أن الكافر لما دعاه الله جل وعز إلى توحيده فقد دعاه إلى نعمة يُنعم بها عليه إذا قبلها، فلما ردَّ ما دعاه إليه من توحيده كان كافراً نعمة الله أي مغطياً لها بإبائه حاجباً لها عنه. وأخبرني المنذري عن الحراني عن ابن السكيت أنه قال: إذا لبس الرجل فوق درعه ثوبا فهو كافرٌ، وقد كفر فوق درعه. قال: وكل ما غطى شيئاً فقد كفره، ومنه قيل لليل: كافر لأنه ستر بظلمته كل شيء وغطَّاه ... قال: ومنه سُمِّي الكافر كافراً لأنه ستر نعم الله. قلت: ونعم الله جل وعز: آياته الدالة على توحيده ... والعرب تقول للزارع: كافر لأنه يكفر البذر المبذور في الأرض بتراب الأرض التي أثارها ثم أمرَّ عليها مالَقَه، ومنه قول الله جل وعزَّ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20] أي أعجب الزُّرَّاع نباته مع علمهم به فهو غاية ما يستحسن، والغيث هاهنا: المطر، والله أعلم) (¬4). والكفر شرعا: ضد الإيمان، فيكون قولا وعملا واعتقادا وتركا، كما أن الإيمان قول وعمل واعتقاد. وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، خلافا لمن حصر الكفر في التكذيب أو الجحود بالقلب أو بالقلب واللسان، ونفى أن يكون بالعمل أو بالترك. ¬

(¬1) ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (3/ 13). (¬2) رواه البخاري (12)، ومسلم (65). (¬3) ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/ 247). (¬4) ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/ 194)، و ((لسان العرب)) (5/ 145) مادة: كفر.

قال شيخ الإسلام: الكفر عدم الإيمان بالله ورسوله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب أو إعراض عن هذا حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة (¬1). وقال ابن حزم: وهو في الدين صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه، ببلوغ الحق إليه، بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معا، أو عمل عملا جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان (¬2). وقال الإمام إسحاق بن راهويه: ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى ومما جاء من عنده ثم قتل نبيا أو أعان على قتله، ويقول: قتل الأنبياء محرم، فهو كافر (¬3). وقال البربهاري: ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله، أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبح لغير الله، أو يصلي لغير الله، وإذا فعل شيئا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام (¬4). وقال شيخ الإسلام: فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجةٍ عامداً لها عالماً بأنها كلمة الكفر، فإنه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا، ولا يجوز أن يقال إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام (¬5). وقال: إن سب الله أو سب رسوله: كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل (¬6). وقال أيضا: فمن صدق الرسول، وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه، فهو كافر قطعا بالضرورة (¬7). وقال ابن القيم: وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارا، وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل (¬8). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 127 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 335). (¬2) ((الإحكام في أصول الأحكام)) (1/ 49). (¬3) نقله في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 930). (¬4) ((شرح السنة للبربهاري)) (ص81). (¬5) ((الصارم المسلول)) (3/ 975). (¬6) ((الصارم المسلول)) (3/ 955). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 556). (¬8) ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص45).

المبحث الثاني: الخوارج والمعتزلة وقولهم في أصحاب الذنوب

المبحث الثاني: الخوارج والمعتزلة وقولهم في أصحاب الذنوب ذهب الخوارج والمعتزلة إلى أن الإيمان قول وعمل، لكنه لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه، وهو شيء واحد إن ذهب بعضه ذهب كله. وهذا ما دعاهم إلى القول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار، لكنهم اختلفوا في حكمه في الدنيا، فقالت الخوارج بكفره، وقالت المعتزلة إنه في منزلة بين المنزلتين. قال الإمام ابن منده في معرض بيانه لاختلاف الناس في الإيمان ما هو: وقالت الخوارج: الإيمان فعل الطاعات المفترضة كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح (¬1). وقال القاضي أبو يعلى: وأن الإيمان الشرعي جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، الواجبة والمندوبة، وهذا قول أكثر المعتزلة. وقال منهم أبو هاشم والجبائي: إن ذلك مختص بالواجبات دون التطوع (¬2). وقال شيخ الإسلام: (ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الطاعة كلها من الإيمان فإذا ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان) (¬3). وقال: وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم أنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان)) (¬4) (¬5). هذا ويرى الخوارج والمعتزلة أن الإسلام والإيمان شيء واحد (¬6). قولهم في أصحاب الذنوب: سبق تقرير أن أهل السنة لا يكفرون أصحاب المعاصي ولا يسلبونهم اسم الإيمان بالكلية. أما الخوارج فقد ذهبوا إلى كفر مرتكب الكبيرة وخلوده في النار وأنه يعذب فيها عذاب الكفار. قال أبو الحسن الأشعري في بيان معتقدهم: (وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، إلا النجدات فإنها لا تقول بذلك. وأجمعوا على أن الله سبحانه يعذب أصحاب الكبائر عذابا دائما إلا النجدات أصحاب نجدة) (¬7). وأما النجدات فقالوا: (لا ندري لعل الله يعذب المؤمنين بذنوبهم، فإن فعل فإنما يعذبهم في غير النار، بقدر ذنوبهم، ولا يخلدهم في العذاب، ثم يدخلهم الجنة، وزعموا أن من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة، ثم أصر عليها فهو مشرك، وأن من زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر فهو مسلم) (¬8). وقال الشهرستاني: (وكبار فرق الخوارج ستة: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والعجاردة، والإباضية، والثعالبة، والباقون فروعهم، ويجمعهم القول بالتبرؤ من عثمان وعلي، ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، ويكفرون أصحاب الكبائر، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقا واجبا) (¬9). وذكر الدكتور غالب العواجي حفظه الله أن أكثر الخوارج على تكفير العصاة كفر ملة، وأنهم خارجون عن الإسلام مخلدون في النار مع سائر الكفار. بينما ذهبت الإباضية إلى أنهم كفار كفر نعمة، ومع هذا فإنهم يحكمون على صاحب المعصية بالنار إذا مات عليها، ويحكمون عليه في الدنيا بأنه منافق، ويجعلون النفاق مرادفا لكفر النعمة (¬10). وأما المعتزلة فمشهور قولهم في أصحاب الكبائر أنهم ليسوا مؤمنين ولا كفارا، بل هم بمنزلة بين المنزلتين، لكنهم مخلدون في النار، كما تقول الخوارج، غير أنهم قالوا: إن عذابهم ليس كعذاب الكفار. ¬

(¬1) ((الإيمان)) لابن منده (1/ 331)، وانظر: ((الفصل)) لابن حزم (3/ 227). (¬2) ((مسائل الإيمان)) (ص156). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 510). (¬4) رواه البخاري (22)، مسلم (84) كلاهما بلفظٍ مقاربٍ. (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 510). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 414). (¬7) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 168). (¬8) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 175). (¬9) ((الملل والنحل)) (1/ 107). (¬10) ((فرق معاصرة)) (1/ 109).

قال الأشعري في المقالات: (وكانت المعتزلة بأسرها قبله - أي قبل الجبائي - إلا الأصم، تنكر أن يكون الفاسق مؤمنا، وتقول: إن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر، وتسميه منزلة بين المنزلتين، وتقول: في الفاسق إيمان لا نسميه به مؤمنا، وفي اليهودي إيمان لا نسميه به مؤمنا) (¬1). وقال: (وأما الوعيد: فقول المعتزلة فيه وقول الخوارج قول واحد؛ لأنهم يقولون: إن أهل الكبائر الذين يموتون على كبائرهم في النار خالدين فيها مخلدين، غير أن الخوارج يقولون: إن مرتكبي الكبائر ممن ينتحل الإسلام يعذبون عذاب الكافرين، والمعتزلة يقولون: إن عذابهم ليس كعذاب الكافرين) (¬2). وحكَى عنهم اختلافا كثيرا في تحديد الصغيرة والكبيرة، وفي غفران الصغائر باجتناب الكبائر، وغير ذلك مما لا حاجة لذكره. ولا شك أن قول الخوارج والمعتزلة من البدع المشهورة المخالفة للكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة. قال شيخ الإسلام: (ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار، فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا أيضا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته، ففي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) (¬3)، (¬4). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – 1/ 189 ¬

(¬1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 331). (¬2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 240). (¬3) رواه البخاري (7474)، ومسلم (199) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 222).

المبحث الثالث: مذهب الجهمية

المطلب الأول: قولهم في الإيمان ذهب جهم ومن وافقه إلى أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وأن الكفر هو الجهل به فقط، وأن قول اللسان وعمل القلب والجوارح ليس من الإيمان، وأن الإيمان شيء واحد لا يتفاضل ولا يستثنى منه. وهذا أفسد قول قيل في الإيمان، ولهذا كفر أحمد ووكيع وغيرهما من قال بذلك. قال الأشعري في المقالات: اختلفت المرجئة في الإيمان ما هو؟ وهم اثنتا عشرة فرقة: فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعمل بالجوارح فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به، وهذا قول يحكى عن جهم بن صفوان (¬1). وقال الشهرستاني في بيان أقوال جهم: ومنها قوله: من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده؛ لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد، فهو مؤمن. قال: والإيمان لا يتبعض، أي لا ينقسم إلى عقد وقول وعمل. قال: ولا يتفاضل أهله فيه، فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد؛ إذ المعارف لا تتفاضل. وكان السلف كلهم من أشد الرادين عليه، ونسبته إلى التعطيل المحض (¬2). وقال شيخ الإسلام بعد نقل كلام الأشعري عن فرق المرجئة: (فهذه الأقوال التي ذكرها الأشعري عن المرجئة يتضمن أكثرها أنه لابد في الإيمان من بعض أعمال القلوب عندهم، وإنما نازع في ذلك فرقة يسيرة كجهم والصالحي) (¬3). وقال: (ولابد أن يكون مع التصديق شيء من حب الله وخشية الله، وإلا فالتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس إيمانا البتة، بل هو كتصديق فرعون واليهود وإبليس، وهذا هو الذي أنكره السلف على الجهمية. قال الحميدى: سمعت وكيعا يقول: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة. وفى رواية أخرى عنه: وهذا كفر. قال محمد بن عمر الكلابي: سمعت وكيعا يقول: الجهمية شر من القدرية. قال: وقال وكيع: المرجئة الذين يقولون الإقرار يجزئ عن العمل، ومن قال هذا فقد هلك، ومن قال: النية تجزئ عن العمل فهو كفر، وهو قول جهم، وكذلك قال أحمد بن حنبل) (¬4). وقال: (بل قد كفر أحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان) (¬5). وقال: (وأما جهم فكان يقول: إن الإيمان مجرد تصديق القلب وإن لم يتكلم به، وهذا القول لا يعرف عن أحد من علماء الأمة وأئمتها، بل أحمد ووكيع وغيرهما كفروا من قال بهذا القول، ولكن هو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه، ولكن قالوا مع ذلك: إن كل من حكم الشرع بكفره حكمنا بكفره واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة) (¬6). ¬

(¬1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 214). (¬2) ((الملل والنحل)) (1/ 74)، وانظر: ((الفصل)) لابن حزم (3/ 227). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 549). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 307). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 120)، وانظر (14/ 121)، (7/ 405)، (10/ 272). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 47)، وسيأتي بيان مذهب الأشعري وأصحابه.

ويلاحظ هنا أن شيخ الإسلام يسوي بين القول بأن الإيمان هو المعرفة، والقول بأنه مجرد التصديق، وقد قال في بيان ذلك: (وأيضا فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يُجعل قول القلب، أمرٌ دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه. وبتقدير صحته، لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق) (¬1)، إلى أن قال: (والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسُر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق) (¬2) ... والحاصل أن جهما ومن وافقه يرون أن الإيمان هو مجرد المعرفة أو التصديق، وأن ذلك ينفع صاحبه ولو لم يتكلم قط بالإسلام، ولا فعل شيئا من واجباته. ومع ذلك فقد التزم جهم بتكفير من كفره الشرع كإبليس وفرعون، زاعما أنه لم يكن في قلبيهما شيء من المعرفة بالله. ولاشك أن إلزام الجهمية بالقول بإيمان إبليس وفرعون لوجود التصديق منهما- كما سيأتي- إلزام لا محيد لهم عنه، ولهذا اضطربوا في الجواب عنه. قال ابن القيم: (ومن قال إن الإيمان هو مجرد اعتقاد صدق الرسول فيما جاء به وإن لم يلتزم متابعته، وعاداه وأبغضه، وقاتله، لزمه أن يكون هؤلاء كلهم مؤمنين، وهذا إلزام لا محيد عنه، ولهذا اضطرب هؤلاء في الجواب عن ذلك لما وَرد عليهم، وأجابوا بما يستحي العاقل من قوله، كقول بعضهم: إن إبليس كان مستهزئا ولم يكن يقر بوجود الله ولا بأن الله ربه وخالقه، ولم يكن يعرف ذلك، وكذلك فرعون وقومه لم يكونوا يعرفون صحة نبوة موسى، ولا يعتقدون وجود الصانع. وهذه فضائح نعوذ بالله من الوقوع في أمثالها، ونصرة المقالات وتقليد أربابها تحمل على أكثر من هذا، ونعوذ بالله من الخذلان) (¬3). وقد دلت الأدلة على أن إبليس كان عارفا بالله، مصدقا بربوبيته، وكذلك كان فرعون، كما قال سبحانه عن إبليس: قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39]، وقال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]. وقال عن فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:14]، وقال حاكياً قول موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا [الإسراء:102]، فدل هذا على أن إبليس وفرعون كانا مصدقين، وأن الكفر لا يختص بالتكذيب، أو الجهل، كما زعم جهم ومن وافقه. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – 1/ 199. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 398). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 400). (¬3) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 94).

المطلب الثاني: مفهوم الكفر عند الجهمية

المطلب الثاني: مفهوم الكفر عند الجهمية سبق أن الكفر عند جهم هو الجهل بالله فقط، على ما حكاه الأشعري، ونقله شيخ الإسلام عنه. فجهم حصر الإيمان في معرفة القلب، وجعل الكفر ما ضاد ذلك، أي ذهاب المعرفة أو التصديق، فلم ير الكفر غير ذلك. قال شيخ الإسلام ناقلا عن الأشعري: وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به، وهذا قول يحكى عن الجهم بن صفوان. قال: وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون الجوارح) (¬1). وقال الشهرستاني: (ومنها قوله (أي جهم): من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده، لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد فهو مؤمن) (¬2). وجهمٌ وإن حصر الكفر في جهل القلب وتكذيبه، إلا أنه التزم تكفيرَ من أتى المكفرات الظاهرة في الدنيا، والحكم بأنه مؤمن في الباطن من أهل الجنة! إلا من جاء النص على أنه كافر معذب في الآخرة. قال شيخ الإسلام: (ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جهم ومن وافقه أنه لازم التزموه، وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن، لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا. فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرا في الآخرة. قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء فإنها عندهم شيء واحد فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع) (¬3). وحصر الكفر في القلب مما ذهب إليه كثير من أهل الإرجاء- من غير الجهمية- أيضا، لكن منهم من لا يقصره على التكذيب والجهل، بل يضيف إليه ما يناقض عمل القلب كالعداوة والاستخفاف. وهؤلاء جميعا يوافقون أهل السنة في تكفير من أتى الكفر الظاهر كسبِّ الله أو التكلم بالتثليث، أو السجود للصنم، لكنهم لا يرون ذلك كفرا في ذاته، بل هو علامة على الكفر. ومن هؤلاء أبو الحسين الصالحي، حيث وافق جهما في أن الكفر هو الجهل بالله فقط، وأن قول القائل: إن الله ثالث ثلاثة ليس كفرا، ولكنه لا يظهر إلا من كافر؛ لأن الله كفر من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر (¬4). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 543). وانظر زيادة بيان حول مفهوم الكفر عند جهم، والفرق بينه وبين الأشعري، في (2/ 290) من هذا البحث. (¬2) ((الملل والنحل)) (1/ 74). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 401). (¬4) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 214)، و ((مجموع الفتاوى)) (7/ 544)،و ((الملل والنحل)) (1/ 142)، و ((الفرق بين الفرق)) (ص195).

وهذا ما اختاره الأشعري في أحد قوليه، قال شيخ الإسلام: (وقد ذكر الأشعري في كتابه الموجز قول الصالحي هذا وغيره، ثم قال: والذي أختاره في الأسماء قول الصالحي) (¬1). ومن هؤلاء: بشر المريسي، وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر، ولا السجود لغير الله كفر، ولكنه عَلَم على الكفر؛ لأن الله بين أنه لا يسجد للشمس إلا كافر (¬2). ومنهم: أبو معاذ التومني وأصحابه، وكان يقول: من قتل نبيا أو لطمه كفر، وليس من أجل اللطمة كفر، ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له (¬3). قال ابن حزم في بيان مذهب الجهمية ومن وافقهم: (وقال هؤلاء: إن شتم الله وشتم رسول الله ليس كفرا، لكنه دليل على أن في قلبه كفرا) (¬4). وقال: (وأما سب الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفرا. قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى. وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام، وهو أنهم يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وإن أعلن بالكفر وعبادة الأوثان بغير تقية ولا حكاية، لكن مختارا ذلك في الإسلام. قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد؛ لأنه خلاف لإجماع الأمة ولحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ومن بعدهم، لأنه لا يختلف أحد لا كافر ولا مؤمن في أن هذا القرآن هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه وحي من الله تعالى- وإن كان قوم كفار من الروافض ادعوا أنه نقص منه وحرف-، فلم يختلفوا أن جملته كما ذكرنا، ولم يختلفوا في أن فيه التسمية بالكفر، والحكم بالكفر قطعا على من نطق بأقوال معروفة، كقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:72]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ [التوبة:74]، فصح أن الكفر يكون كلاما. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 544)، وانظر: (7/ 509). وكثيرا ما يقرن شيخ الإسلام بين جهم والصالحي، ويجعل الأشاعرة ممن نصروا قولهما في الإيمان. ولاشك أن جهما والصالحي متفقان على أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وأن الكفر هو الجهل به فقط، كما حكاه الأشعري عنهما في المقالات، ونقله شيخ الإسلام /، لكن عند التحقيق يتبين أن الصالحي يخالف جهما في مسألتين: الأولى: أنه زعم أن (معرفة الله هي المحبة له، وهي الخضوع لله) ((المقالات)) (1/ 214) و ((مجموع الفتاوى)) (7/ 544) فأثبت عمل القلب، لكن جعله نفس المعرفة. وأما جهم فلا يثبت عمل القلب، كما تقدم. لكن مذهب الصالحي باطل أيضا؛ ويلزم منه القول بأن إبليس وفرعون لم يكونا مصدقين، لذهاب عمل القلب منهما، ولعل شيخ الإسلام كان يشير إلى الصالحي ومن تبعه حين قال: والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان، فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا، وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 554). وانظر ما سبق (ص70 - 77) عن العلاقة بين التصديق وعمل القلب، وما سيأتي عند الكلام على الفرق بين "معرفة" جهم و"تصديق" الأشاعرة، (ص247). الثانية: أن ظاهر ما نقل عن الصالحي أنه يحكم بالكفر باطنا، لمن أتى المكفرات الظاهرة، وأما جهم فقد التزم أن من قال الكفر أو فعله، فهو كافر في الظاهر مؤمن في الباطن، والأشعري تبع قول الصالحي، وخالف جهما في هذا،. (¬2) ((المقالات)) (1/ 140)، و ((مجموع الفتاوى)) (7/ 548)، و ((الفرق بين الفرق)) (ص193). (¬3) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 141). (¬4) ((الفصل)) لابن حزم (3/ 239).

وقد حكم الله تعالى بالكفر على إبليس، وهو عالم بأن الله خلقه من نار، وخلق آدم من طين، وأمره بالسجود لآدم وكرمه عليه، وسأل الله تعالى النظرة إلى يوم يبعثون. ثم يقال لهم: إذْ ليس شتم الله تعالى كفرا عندكم فمن أين قلتم إنه دليل على الكفر؟ فإن قالوا: لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر. قيل لهم: محكوم عليه بنفس قوله لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط، فقوله هو الكفر، ومن قطع على أنه في ضميره؟ وقد أخبر الله تعالى عن قوم يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:11] فكانوا بذلك كفاراً، كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وهم مع ذلك كفار بالله تعالى قطعا بيقين، إذ أعلنوا كلمة الكفر) (¬1). والحاصل أن الجهمية ومن وافقهم يحصرون الكفر في جهل القلب أو تكذيبه، ومع ذلك يكفرون من أتى المكفرات المجمع عليها، كسبِّ الله، والسجود للصنم، ويقولون: إن الشارع جعل ذلك أمارة على الكفر، وقد يكون صاحبه مؤمنا في الباطن. هذا هو مسلكهم العام في هذه القضية، ينفون التلازم بين الظاهر والباطن، ويزعمون أن الإيمان يكون تاما صحيحا في القلب مع وجود كلمات الكفر الأكبر وأعماله في الظاهر، وأنه إن حكم لفاعل ذلك بالكفر ظاهرا، فلا يمنع أن يكون مؤمنا باطنا، سعيدا في الدار الآخرة. لكن إذا أورد عليهم نص أو إجماع أن شخصا ما كافر ظاهرا وباطنا، معذب في الآخرة عذاب الكفر، كإبليس وفرعون، قالوا: هذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قبله! قال شيخ الإسلام: (فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا السابُّ الشاتم في الباطن عارفا بالله موحدا له مؤمنا به، فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنا وظاهرا، قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك) (¬2). وقال: (ومن هنا يظهر خطأ قول جهم بن صفوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاصٍ لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن. قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود، فإذا أُورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة، قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه. فالكفر عندهم شيء واحد، وهو الجهل، والإيمان شيء واحد، وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو؟ ¬

(¬1) ((مختصر الإيصال)) ملحق بـ ((المحلى)) (12/ 435) وما بعدها. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 557)، وانظر: (7/ 583).

وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة، وقد كفر السلف كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم من يقول بهذا القول، وقالوا: إبليس كافر بنص القرآن، وإنما كفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم، لا لكونه كذّب خبرا. وكذلك فرعون وقومه، قال الله تعالى فيهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:14]، وقال موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا [الإسراء:102] بعد قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا [الإسراء:100 - 101] فموسى وهو الصادق المصدوق يقول: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر، فدل على أن فرعون كان عالما بأن الله أنزل الآيات وهو من أكبر خلق الله عنادا وبغيا، لفساد إرادته وقصده، لا لعدم علمه. قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:14]، وكذلك اليهود الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة:146] وكذلك كثير من المشركين الذين قال الله تعالى فيهم: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] (¬1). وقال بعد ذكر ما ألزم به الإمام أحمد هؤلاء من القول بإيمان من شد الزنار في وسطه، وصلى للصليب، وأتى الكنائس والبيع، لأنه مقر بالله، قال: (قلت: هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم، جمع في ذلك جُملا يقول غيره بعضها. وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه، ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جهم ومن وافقه أنه لازمٌ التزموه وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن، لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرا في الآخرة قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد. فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع) (¬2)، بل خالفوا (ما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة وجماهير النظار؛ فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع هذا يجحد ذلك، لحسده إياه أو لطلب علوه عليه أو لهوى النفس، ويحمله ذلك الهوى على أن يعتدي عليه، ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه. وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون، لكن إما لحسدهم، وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه وما يحصل لهم به من الأغراض، كأموال ورياسة وصداقة أقوام وغير ذلك، فيرون في اتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم، أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم، فيكونون من أكفر الناس، كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق) (¬3). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – 1/ 204. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 188) وما بعدها. وانظر: (7/ 146) وما بعدها. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 401) وما بعدها. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 191).

المطلب الثالث: أغلاط جهم

المطلب الثالث: أغلاط جهم ذكر شيخ الإسلام ما وقع فيه جهم من الانحراف، في مواضع من كتبه، وذلك لعظم خطرها وضررها وفسادها، ولكونه قد تابعه عليها جماعة كبيرة من المنتسبين إلى أهل السنة، قال: (وأصل جهم في الإيمان تضمن غلطا من وجوه: منها: ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته، بدون أعمال القلب كحب الله وخشيته ونحو ذلك. ومنها: ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار، فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق، وجزموا بأن إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك) (¬1). وقال: (وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم غلطوا في ثلاثة أوجه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الذي في القلب، تصديق بلا عملٍ للقلب كمحبة الله وخشيته وخوفه والتوكل عليه والشوق إلى لقائه. والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة. والثالث: قولهم: كل من كفَّره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى. وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم، ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان، وهو معظِّم للسلف وأهل الحديث، فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف) (¬2). وقال: (ومن كان موافقا لقول جهم في الإيمان بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان، يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة، وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم، حتى في مسألة سب الله ورسوله، رأيت طائفة من الحنبليين والشافعيين والمالكيين إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا: إن هذا كفر باطنا وظاهرا. وإذا تكلموا بكلام أولئك قالوا: هذا كفر في الظاهر وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا تام الإيمان، فإن الإيمان عندهم لا يتبعض) (¬3). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – 1/ 214. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 749)، وانظر: (7/ 582 - 584)، فقد ذكر فيها ستة أغلاط من أغلاطهم، وانظر: (7/ 190) واكتفى فيها بذكر أصلين مما غلطت فيه الجهمية. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 363) وما بعدها. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 403)

المبحث الرابع: مذهب الكرامية

المبحث الرابع: مذهب الكرامية وقد ذهبت الكرامية إلى أن الإيمان قول باللسان فقط، وأنه شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ولا يستثنى فيه. قال الأشعري في المقالات: (والفرقة الثانية عشرة من المرجئة: الكرامية، أصحاب محمد بن كرَّام، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب، وأنكروا أن تكون معرفة القلب أو شيء غير التصديق باللسان إيمانا، وزعموا أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله كانوا مؤمنين على الحقيقة، وزعموا أن الكفر بالله هو الجحود والإنكار له باللسان) (¬1). ... الكرامية تسمي المنافق مؤمنا، ولكنهم يحكمون بأنه مخلد في النار ... وقال ابن منده: (وقالت طائفة منهم - أي المرجئة -: الإيمان فعل اللسان دون القلب، وهم أهل الغلو في الإرجاء) (¬2). وقال ابن حزم: (وذهب قوم إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان بالله تعالى، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فإذا فعل ذلك فهو مؤمن من أهل الجنة، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه) (¬3). ... وما ذكره ابن حزم هنا خطأ على الكرامية، فإنهم لا يحكمون بنجاة المنافق، بل يقولون إنه مخلد في النار. قال شيخ الإسلام: (والكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء، ولا يستثنون في الإيمان، بل يقولون: هو مؤمن حقا، لمن أظهر الإيمان، وإذا كان منافقا فهو مخلد في النار عندهم، فإنه إنما يدخل الجنة من آمن باطنا وظاهرا. ومن حكى عنهم أنهم يقولون: المنافق يدخل الجنة، فقد كذب عليهم، بل يقولون: المنافق مؤمن؛ لأن الإيمان هو القول الظاهر، كما يسميه غيرهم مسلما؛ إذ الإسلام هو الاستسلام الظاهر. ولا ريب أن قول الجهمية أفسد من قولهم من وجوه متعددة شرعا ولغة وعقلا. وإذا قيل: قول الكرامية قول خارج عن إجماع المسلمين، قيل: وقول جهم في الإيمان قول خارج عن إجماع المسلمين قبله، بل السلف كفروا من يقول بقول جهم في الإيمان) (¬4). وقال: (فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمنا في الباطن، باتفاق جميع أهل القبلة حتى الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمنا، ويقولون: الإيمان هو الكلمة، يقولون: إنه لا ينفع في الآخرة إلا الإيمان الباطن. وقد حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، إنما نازعوا في الاسم لا في الحكم، بسبب شبهة المرجئة في أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل) (¬5). ويشير شيخ الإسلام بكلامه عن شبهة المرجئة، إلى أن الكرامية جعلوا الإيمان شيئا واحدا هو القول، ولم يضيفوا إليه الاعتقاد فرارا من القول بتبعيضه وتجزئته. قال شيخ الإسلام: (مع أن الكرامية لا تنكر وجوب المعرفة والتصديق، ولكن تقول: لا يدخل في اسم الإيمان، حذرا من تبعضه وتعدده؛ لأنهم رأوا أنه لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه، بل ذلك يقتضي أن يجتمع في القلب إيمان وكبر (¬6)، واعتقدوا الإجماع على نفي ذلك، كما ذكر هذا الإجماع الأشعري وغيره. ¬

(¬1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 233). (¬2) ((الإيمان)) لابن منده (1/ 331). (¬3) ((الفصل)) (3/ 227). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 141). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 215) وما بعدها، وانظر: ((التدمرية)) (ص193). (¬6) لعل الصواب: وكفر.

وهذه الشبهة التي أوقعتهم مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه، ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب. فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لاسيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء) (¬1). شذوذ قول الكرامية: وقد تبين مما سبق أن الكرامية جمعوا بين بدعة الإرجاء وإخراج العمل من الإيمان، وبين الشذوذ اللفظي في تسميتهم المنافق مؤمنا. قال شيخ الإسلام مقارنا بين قول جهم في إخراج أعمال القلوب من الإيمان، وبين قول الكرامية: (وهذا القول شاذ - أي قول جهم - كما أن قول الكرامية الذين يقولون هو مجرد قول اللسان شاذ أيضا). إلى أن قال: (وقول ابن كرام فيه مخالفة في الاسم دون الحكم، فإنه وإن سمى المنافقين مؤمنين، يقول: إنهم مخلدون في النار، فيخالف الجماعة في الاسم دون الحكم. وأتباع جهم يخالفون في الاسم والحكم جميعا) (¬2). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 217 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 394). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 550). وقد حكى ابن حزم عن ابن كرام وأصحابه أنهم يقولون: من اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله عز وجل، ولي له عز وجل، من أهل الجنة، ثم ذكر أن بعض الكرامية تقول ذلك، وسمى منهم محمد بن عيسى الصوفي الألبيري، ثم قال: (وقالت طائفة من الكرامية: المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار) انتهى من الفصل (5/ 73، 74). وقد ذكر شيخ الإسلام في مواضع من كتبه أن نسبة القول بإيمان المنافق عند الله ونجاته في الآخرة إلى الكرامية، غلط عليهم. انظر ما سيأتي في الجزء الثاني ص288

المبحث الخامس: مذهب الأشاعرة

المطلب الأول: قولهم في الإيمان أما أبو الحسن الأشعري - إمام الطائفة - فقد اشتهر عنه القولان: موافقة السلف، وموافقة جهم. فقد نصر قول السلف في كتابيه: مقالات الإسلاميين، والإبانة. قال في حكاية ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: (ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق، ولا غير مخلوق ... ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله سبحانه ينزلهم حيث شاء. ويقولون: أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم. ويؤمنون بأن الله سبحانه يخرج قوما من الموحدين من النار، على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬1). ثم قال: (هذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه. وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل، وإليه المصير) (¬2). وقال في (الإبانة): فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم، وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاءوا به من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا) ثم سرد جملة من الاعتقاد، ثم قال: (وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلّم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬3). وقال: ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا (¬4). فهذا قوله الموافق لأهل السنة، وأما قوله الآخر، فقد سبقت حكايته في قول شيخ الإسلام: (وقد ذكر الأشعري في كتابه الموجز قول الصالحي هذا وغيره ثم قال: والذي أختاره في الأسماء قول الصالحي) (¬5). وقول الصالحي -على ما حكاه الأشعري في المقالات- (أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط، فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به، وأن قول القائل: إن الله ثالث ثلاثة ليس بكفر، ولكنه لا يظهر إلا من كافر، وذلك أن الله سبحانه أكفر من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر. وزعموا أن معرفة الله هي المحبة له وهي الخضوع لله ... والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وهو خصلة واحدة، وكذلك الكفر. والقائل بهذا القول أبو الحسين الصالحي) (¬6). ¬

(¬1) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 347). (¬2) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 350). (¬3) ((الإبانة)) (ص52، 59). (¬4) ((الإبانة)) (ص57). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 544). وقال أبو المعين النسفي بعد نقل مذهب الصالحي: وقد قال الأشعري في بعض كتبه: إن الذي أختاره في الإيمان هو ما ذهب إليه الصالحي. ((تبصرة الأدلة)) (2/ 799). (¬6) ((المقالات)) (1/ 214).

وقد نص شيخ الإسلام في مواضع من كتبه على أن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان، ومن ذلك قوله: وبهذا وغيره يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن اتبعهما في الإيمان كالأشعري في أشهر قوليه، وأكثر أصحابه، وطائفة من متأخري أصحاب أبى حنيفة، كالماتريدي ونحوه، حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب، يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يُعدم وإما أن يوجد، لا يتبعض، وأنه يمكن وجود الإيمان تاما في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعا من غير إكراه، وأن ما عُلم من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر فلأن ذلك مستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب (¬1) وأن الأعمال الصالحة الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب، بل يوجد إيمان القلب تاما بدونها، فإن هذا القول فيه خطأ من وجوه ... (¬2). وقوله: (والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب. ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم. ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه (¬3). والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم) (¬4). وقال شيخ الإسلام: (وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان، مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من أنه يُستثنى في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه نصر مذهب أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، ولا يخلدون في النار، وتقبل فيهم الشفاعة ونحو ذلك. وهو دائما ينصر في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم قولَ أهل الحديث، لكنه لم يكن خبيرا بمآخذهم، فينصره على ما يراه هو من الأصول التي تلقاها عن غيرهم، فيقع في ذلك من التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء، كما فعل في مسألة الإيمان، ونصر فيها قول جهم مع نصرِه للاستثناء، ولهذا خالفه كثير من أصحابه في الاستثناء، كما سنذكر مأخذه في ذلك، واتبعه أكثر أصحابه على نصر قول جهم في ذلك. ومن لم يقف إلا على كتب الكلام ولم يعرف ما قاله السلف وأئمة السنة في هذا الباب، فيظن أن ما ذكروه هو قول أهل السنة، وهو قول لم يقله أحد من أئمة السنة، بل قد كفر أحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره أبو الحسن، وهو عندهم شر من قول المرجئة) (¬5). وقال أيضا: (وقال أبو عبدالله الصالحي: إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم، فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب، وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر، كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة، وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة. وهذا أشهر قولي أبى الحسن الأشعري، وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما، ولهذا عدَّهم أهل المقالات من المرجئة. والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث: إن الإيمان قول وعمل، وهو اختيار طائفة من أصحابه، ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان. والإيمان المطلق عنده ما يحصل به الموافاة، والاستثناء عنده يعود إلى ذلك، لا إلى الكمال والنقصان والحال) (¬6). قلت: وممن عد الأشاعرة من المرجئة: ابن حزم (¬7). ونقل الشهرستاني عن الأشعري قوله: (الإيمان هو التصديق بالجنان. وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه، فمن صدق بالقلب، أي أقر بوحدانية الله تعالى، واعترف بالرسل تصديقا لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب، صح إيمانه، حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمنا ناجيا، ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك) (¬8). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – 1/ 225 ¬

(¬1) في نسخة ((مجموع الفتاوى)) وردت هنا كلمة: الأفعال، وكتب في الهامش: بياض في الأصل، وقد رأى محقق ((الإيمان الأوسط)) حذفها. انظر: شرح حديث جبريل أو ((الإيمان الأوسط))، تحقيق الدكتور علي بن بخيت الزهراني (ص493). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 582). (¬3) وسيأتي تحقيق مذهب الأشاعرة، وبيان أن متأخريهم يدخلون أعمال القلوب في الإيمان. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 195). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 195). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 509). (¬7) ((الفصل)) (3/ 227). (¬8) ((الملل والنحل)) (1/ 88).

المطلب الثاني: أشاعرة وافقوا السلف

المطلب الثاني: أشاعرة وافقوا السلف ثمة طائفة من الأشاعرة وافقت السلف في الإيمان، كأبي علي الثقفي، وأبي العباس القلانسي. قال شيخ الإسلام: (فأما أبو العباس القلانسي وأبو على الثقفي وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ القاضي أبي بكر وصاحب أبي الحسن، فإنهم نصروا مذهب السلف. وابن كلاب نفسه، والحسين بن الفضل البجلي ونحوهما، كانوا يقولون: هو التصديق والقول جميعاً، موافقة لمن قاله من فقهاء الكوفيين، كحماد بن أبى سليمان ومن اتبعه مثل أبى حنيفة وغيره) (¬1). وقال: (قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد لأبي المعالي، بعد أن ذكر قول أصحابه، قال: وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات، فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضا ونفلا، والانتهاء عما نهى عنه تحريما وأدبا، قال: وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي من متقدمي أصحابنا، وأبو العباس القلانسي، وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد الله بن مجاهد. قال: وهذا قول مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومعظم أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين) (¬2). وقال ابن السبكي: (وإلى مذهب السلف ذهب الإمام الشافعي ومالك وأحمد والبخاري وطوائف من أئمة المتقدمين والمتأخرين. ومن الأشاعرة: الشيخ أبو العباس القلانسي، ومن محققيهم الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو القاسم القشيري، وهؤلاء يصرحون بزيادة الإيمان ونقصانه ... ) (¬3). القول المعتمد عند الأشاعرة: وأعني بذلك ما استقر عليه المذهب الأشعري، ودوَّنه المتأخرون في كتبهم، مما أصبح يدرَّس في كثير من الجامعات والمعاهد، بغض النظر عن رأي الأشعري، أو المتقدمين من أصحابه. وحاصل ما ذهبوا إليه: أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأن قول اللسان شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، وأن عمل الجوارح شرط كمال في الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص. وهذه بعض النقولات التي توضح مذهبهم: قال الجرجاني في شرح المواقف: (المقصد الأول في حقيقة الإيمان: اعلم أن الإيمان في اللغة) هو (التصديق) مطلقا (قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف:17] أي بمصدق فيما حدثناك به، وقال عليه الصلاة والسلام: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» أي تصدق)، ويقال: فلان يؤمن بكذا، أي يصدقه ويعترف به. (وأما في الشرع وهو متعلق ما ذكرنا من الأحكام) يعني الثواب على التفاصيل المذكورة (فهو عندنا) يعني أتباع الشيخ أبي الحسن (وعليه أكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ) ووافقهم على ذلك الصالحي وابن الراوندي من المعتزلة (التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا) فهو في الشرع تصديق خاص (وقيل:) الإيمان (هو المعرفة تقوم بالله) وهو مذهب جهم بن صفوان) انتهى (¬4). وقال الشيخ إبراهيم اللقاني في جوهرة التوحيد: وفُسِّر الإيمان بالتصديقِ ... والنطقُ فيه الخُلْفُ بالتحقيقِ فقيل شرط كالعملْ وقيل بلْ ... شطرٌ والإسلام اشرحنَّ بالعملْ مثال هذا الحج والصلاةُ ... كذا الصيام فادْرِ والزكاةُ ورُجِّحت زيادةُ الإيمانِ ... بما تزيدُ طاعةُ الإنسانِ ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 119). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 143) وما بعدها، وقد نقله شيخ الإسلام في ((التسعينية)) أيضا (2/ 659) وعقب عليه بقوله: (فإنه ليس الغرض هنا ذكر أقوال السلف والأئمة، واعتراف هؤلاء بما اجترءوا عليه من مخالفة السلف والأئمة وأهل الحديث في الإيمان، مع علمهم بذلك، لما عنت لهم من شبهة الجهمية والمرجئة). (¬3) ((طبقات الشافعية الكبرى)) (1/ 130). (¬4) ((شرح المواقف)) (8/ 351)، وانظر: ((المواقف)) للإيجي (ص384).

ونقصُه بنقصهِ وقيلَ لا ... وقِيل لا خُلْفَ كذا قَد نُقِلا وقال ابنه الشيخ عبد السلام في شرحه المسمى بإتحاف المريد: (وفُسِّر الإيمان) أي حدَّه جمهور الأشاعرة والماتريدية وغيرهم (بالتصديق) المعهود شرعا، وهو تصديق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة، أي فيما اشتهر بين أهل الإسلام وصار العلم به يشابه العلم الحاصل بالضرورة، بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال، وإن كان في أصله نظريا، كوحدة الصانع، ووجوب الصلاة ونحوها، ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالا كالإيمان بغالب الأنبياء والملائكة، ولابد من التفصيل فيما يلاحظ كذلك، وهو أكمل من الأول، كالإيمان بجمع من الأنبياء والملائكة كآدم ومحمد وجبريل عليهم الصلاة والسلام، فلو لم يصدق بوجوب الصلاة ونحوها عند السؤال عنه يكون كافرا) (¬1). وبيَّنَ أن الخلاف في النطق بالشهادتين هو في حق المتمكن القادر، أما العاجز كالأخرس ومن اخترمته المنية قبل النطق من غير تراخ، فهو مؤمن ناج. ثم قال: (فقال محققو الأشاعرة والماتريدية وغيرهم: النطق من القادر (شرط) في إجراء أحكام المؤمنين الدنيوية عليه لتناط به تلك الأحكام، هذا فهم الجمهور، وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء، بل اتفق له ذلك فهو مؤمن عند الله غير مؤمن في أحكام الشرع الدنيوية. ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق، فبالعكس، حتى نطّلع على باطنه فنحكم بكفره. أما الآبي فكافر في الدارين، والمعذور مؤمن فيهما. وقيل إنه شرط في صحة الإيمان، وهو فهْمُ الأقل، والنصوص معاضدة لهذا المذهب كقوله تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22] وقوله عليه الصلاة والسلام: ((اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) (¬2).) (¬3). والمعتمد عندهم هو القول الأول، أي أن قول اللسان شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، كما صرح بذلك الصاوي والبيجوري وابن الأمير (¬4). قال الصاوي: (وقيل شرط في صحة الإيمان. المعتمد الأول). وقال البيجوري عن القول بأن النطق شرط صحة: (وهو قول ضعيف كالقول بأنها شطر منه، والراجح أنها شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، فهي شرط كمال في الإيمان على التحقيق) (¬5). ¬

(¬1) ((إتحاف المريد)) مطبوع مع ((حاشية ابن الأمير)) (ص89) وما بعدها. (¬2) رواه الترمذي (2140)، وابن ماجه (3834) واللفظ له، وأحمد (3/ 112) (12128)، والحاكم (1/ 707). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن. ووافقه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 99) - كما أشار لذلك في مقدمته – وقال الحاكم: إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) ((إتحاف المريد)) (ص92). (¬4) ((شرح الصاوي على الجوهرة)) (ص132)، و ((شرح البيجوري)) (ص45)، و ((حاشية ابن الأمير على إتحاف المريد)) (ص92)، و ((شرح أم البراهين)) لأحمد عيسى الأنصاري (ص83). (¬5) ((حاشية البيجوري على متن السنوسية الصغرى)) (ص57)، وانظر: ((حاشية الشرقاوي على شرح الهدهدي على السنوسية)) (ص136).

تنبيه: قول الأشاعرة السابق عن الآبي، وكفره في الدارين، يدل على خطأ من ألزمهم القول بإيمان أبي طالب؛ لأنه مصدق. قال البيجوري: (وأما الآبي بأن طُلب منه النطق بالشهادتين، فأبى، فهو كافر فيهما، ولو أذعن في قلبه، فلا ينفعه ذلك ولو في الآخرة) (¬1). وقد سبق – عن أهل السنة- أن من لم ينطق بالشهادتين مع القدرة وعدم المانع فهو كافر ظاهرا وباطنا. فقول اللسان ركن في حقيقة الإيمان- وليس شرطا لإجراء الأحكام في الدنيا فقط- بل لا يُتصور وجود الإيمان بدونه إلا في حال العذر كالخرس، فتقوم الإشارة مكانه. وأما الخوف فليس مانعا من النطق به؛ إذ لا يشق النطق به سرا. وبالجملة فحيث قام الإيمان بالقلب امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، ولا عبرة في هذا بقول جهم ولا من وافقه. وأما عمل الجوارح: فهو شرط كمال الإيمان عندهم. قال في إتحاف المريد: (وقوله: (كالعمل): تشبيه في مطلق الشرطية، يعني أن المختار عند أهل السنة في الأعمال الصالحة أنها شرط كمال للإيمان، فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال ولا عناد ولا شك في مشروعيتها مؤمن فوَّت على نفسه الكمال، والآتي بها ممتثلا محصل لأكمل الخصال) (¬2). وقال الصاوي: (لأن المختار عند أهل السنة أن الأعمال الصالحة شرط كمال للإيمان) (¬3). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – 1/ 231 ¬

(¬1) ((شرح البيجوري على الجوهرة المسمى بتحفة المريد)) (ص45). وسيأتي تصريح الصاوي بأن أبا طالب كان يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالصدق، من غير إذعان، فكان كافرا. انظر: هامش (ص248) وقد ذهب بعض المتكلمين والمتصوفة إلى القول بإيمان أبي طالب، واعتمدوا في ذلك على حجج واهية، زاعمين أن امتناع أبي طالب عن النطق بالشهادة لم يكن إباء، وهو مخالف لما جاء في الصحيحين: (( ... حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وأبى أَنْ يَقُولَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)) رواه البخاري (4772) ومسلم (24). وروى مسلم (25) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ: ((قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) قَالَ: لَوْلا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. فأنزل الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. قال النووي: (وأما قوله عز وجل): إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبى طالب، وكذا نقل إجماعهم على هذا الزجاج وغيره) انتهى من ((شرح صحيح مسلم)) (1/ 215). وإذا انتفت عنه الهداية في هذا الموطن، ومات على ذلك، فكيف يقال بنجاته! (¬2) ((إتحاف المريد)) (ص92) وما بعدها، وانظر: ((شرح البيجوري)) (ص45، 49، 51). وقوله: (المختار عند أهل السنة ... ) يعني الأشاعرة. ولا شك أن قولهم بأن العمل شرط كمال، هو من جملة ما خالفوا فيه أهل السنة، بل العمل ركن وجزء في الإيمان، لا يصح بدونه، كما سيأتي إيضاحه مفصلا في الباب الثالث إن شاء الله. (¬3) ((شرح الصاوي على الجوهرة)) (ص132). وسيأتي في الفصل الثاني من الباب الرابع، ذكر نقولات أخرى عن الأشاعرة في أن العمل شرط كمال للإيمان، وذلك في جواب الشبهة الخامسة من الشبهات العقلية.

المطلب الثالث: قولهم في الزيادة والنقصان

المطلب الثالث: قولهم في الزيادة والنقصان والمرجح عندهم إثبات الزيادة والنقصان في الإيمان. قال الصاوي: (تقدم أن أعمال الجوارح من كمال الإيمان، فمن صدق بقلبه، ونطق بلسانه ولم يعمل بجوارحه فهو مؤمن ناقص الإيمان، فلما كان له مدخلية في كمال الإيمان، شَرع - أي صاحب الجوهرة - يتكلم على زيادته بالعمل، ونقصه بنقصه، فقال: (ورُجحت ... الخ) وهذا الترجيح لجمهور الأشاعرة والماتريدية، ومالك والشافعي وأحمد. وحجتهم العقل والنقل، أما العقل: فلأنه يلزم عليه مساواة إيمان المنهمكين في الفسق والمعاصي لإيمان الأنبياء والملائكة، واللازم باطل فكذا الملزوم. وأما النقل: فقوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:3]، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ((قلت يا رسول الله: إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار)) (¬1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح)) (¬2)، وقال عمر في حق أبي بكر: ليت عملي مدى عمري كيوم وليلة لأبي بكر، إنما أنا حسنة من حسناته. (¬3). ومراد عمر باليوم والليلة يوم وفاته عليه الصلاة والسلام، وليلة الغار، فإنه رافقه في الغار، وثبت الناس حين دهشوا يوم الوفاة. وأيضا: فإن المشاهَد للشخص في نفسه أنه عند كثرة عبادته وذكره وإقباله على الله يجد في نفسه رقة ونورا، لم يوجد عند عدم الطاعة) (¬4). وقال في (إتحاف المريد): (ورُجحتْ زيادة الإيمان) أي ورجح جماعة من العلماء القول بقبول الإيمان الزيادة ووقوعها فيه، (بما تزيد طاعة) أي بسبب زيادة طاعة (الإنسان) وهي فعله المأمور به، واجتناب المنهي عنه (ونقصه) أي الإيمان من حيث هو لا بقيد محل مخصوص، فلا يرد الأنبياء والملائكة إذ لا يجوز على إيمانهم أن ينقص (بنقصها) يعني الطاعة إجماعا (¬5)، هذا مذهب جمهور الأشاعرة ... (وقيل) أي وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه وكثير من المتكلمين: الإيمان (لا) يزيد ولا ينقص؛ لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه ما ذكر) (¬6). وادعى الرازي أن الخلاف لفظيٌ، فرعُ تفسير الإيمان، فإن قلنا: هو التصديق فلا يقبل الزيادة والنقصان، وإن قلنا: هو الأعمال قبل ذلك (¬7). والمرجح عند الأشاعرة أن الخلاف حقيقي، وأن التصديق نفسه يزيد وينقص. قال في شرح المواقف: (والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان) (¬8). وقال في إتحاف المريد: (لأن الأصح أن التصديق القلبي يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها) (¬9). هذا ما عليه متأخرو الأشاعرة، وهو الذي استقر عليه مذهبهم. وقد ذهب إلى القول بالزيادة والنقصان جماعة من متقدميهم أيضا، كالبيهقي، وأبي منصور عبد القاهر البغدادي، وأبي القاسم القشيري، والآمدي، ثم النووي وصفي الدين الهندي وتقي الدين السبكي، على ما ذكره التاج السبكي في الطبقات (¬10). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 238 ¬

(¬1) لم أجده. (¬2) عزاه في المقاصد الحسنة، ص (555) إلى (إسحاق بن راهويه والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن عمر من قوله). وقال في الفوائد المجموعة، ص (335): (وسنده موقوفا على عمر صحيح ومرفوعا ضعيف). (¬3) رواه الحاكم (3/ 6)، عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر قال فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر وليوم من أبي بكر خير من آل عمر. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين لولا إرسال فيه ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في ((التلخيص)). وانظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (3/ 180)، و ((كنز العمال)) (12/ 733). (¬4) ((شرح الصاوي)) (ص134 - 136). (¬5) قوله: (إجماعا) راجع إلى إيمان الأنبياء والملائكة، كما بينه ابن الأمير في حاشيته. (¬6) ((إتحاف المريد)) (ص99 - 102). (¬7) ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (ص571). (¬8) ((شرح المواقف)) (8/ 360). (¬9) ((إتحاف المريد)) (ص105)، وانظر: ((شرح البيجوري على الجوهرة)) (ص51)، و ((شرح الصاوي)) (ص138) (¬10) ((طبقات الشافعية الكبرى)) (1/ 130 - 133)، وانظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص191)، و ((شرح النووي على مسلم)) (1/ 148).

المطلب الرابع: قولهم في الاستثناء في الإيمان

المطلب الرابع: قولهم في الاستثناء في الإيمان اختلف الأشاعرة في الاستثناء، ومن جوَّزه منهم فباعتبار الموافاة، ومرادهم أن الإيمان هو ما مات عليه العبد، ويوافي به ربه، وهذا مجهول للعبد فيستثني لذلك. قال البغدادي: (والقائلون بأن الإيمان هو التصديق من أصحاب الحديث مختلفون في الاستثناء فيه، فمنهم من يقول به، وهو اختيار شيخنا أبي سهل محمد بن سليمان الصعلوكي وأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك. ومنهم من ينكره، وهذا اختيار جماعة من شيوخ عصرنا، منهم أبو عبد الله ابن مجاهد، والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرائيني. وكل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان، قال بالموافاة (¬1)، وقال: كل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن، ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا عُلم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمنا. والواحد من هؤلاء يقول: أعلم أن إيماني حق، وضده باطل، وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنا حقا، فيستثني في كونه مؤمنا، ولا يستثني في صحة إيمانه) (¬2). وقال الجويني بعد تقرير أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص: (فإن قيل: قد أُثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال: إنه مؤمن إن شاء الله، فما محصول ذلك؟ قلنا: الإيمان ثابت في الحال قطعا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو عَلم على الفوز وآية النجاة، إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا التشكيك في الإيمان الناجز) (¬3). ومن كلام الأشاعرة في مسألة الموافاة، قول القرطبي: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه، فكل من علم الله أنه يوافي بالإيمان، فالله محب له، موال له، راض عنه. وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط عليه، معادٍ له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به. والكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب. فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عيه معادٍ له. والذي لا يعاقب هو الموافي بالإيمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موال، لا لكفره لكن لإيمانه الموافي به. فلا يجوز أن يطلق القول وهي: بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة. ولأجل هذا قلنا: إن الله راضٍ عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام، ومريد لثوابه ودخوله الجنة، لا لعبادته الصنم، لكن لإيمانه الموافي به. وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به. وخالفت القدرية في هذا وقالت: إن الله لم يكن ساخطاً على إبليس وقت عبادته، ولا راضياً عن عمر وقت عبادته للصنم. وهذا فاسد، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافى به إبليس لعنه الله، وبما يوافى به عمر فيما لم يزل، فثبت أنه كان ساخطاً على إبليس محباً لعمر ... ) (¬4). ¬

(¬1) القول بالموافاة ليس قولا لأحد من السلف، كما سيأتي. (¬2) ((أصول الدين)) (ص253). (¬3) ((الإرشاد)) للجويني (ص336). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (1/ 239) لقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ *البقرة:8*

والقول بالموافاة نسبه شيخ الإسلام إلى الأشعري وابن فورك، وبسط الكلام في ذلك في كتابه الإيمان الكبير، ومما قاله: (والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه. وما قبل ذلك لا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر، فيموت صاحبه كافرا، ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر؛ لعلمه بما يموت عليه. وكذلك قالوا في الكفر، وهذا المأخذ مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم، ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل، وانضم إلى ذلك أنهم يقولون: محبة الله ورضاه وسخطه وبغضه قديم، ثم هل ذلك هو الإرادة أم صفات أخر؟ لهم في ذلك قولان ... قالوا: والله يحب في أزله من كان كافرا، إذا علم أنه يموت مؤمنا. فالصحابة ما زالوا محبوبين لله وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال الله يبغضه، وإن كان لم يكفر بعد. وهذا على أحد القولين لهم، فالرضى والسخط يرجع إلى الإرادة، والإرادة تطابق العلم، فالمعنى: ما زال الله يريد أن يثيب هؤلاء بعد إيمانهم، ويعاقب إبليس بعد كفره، وهذا معنى صحيح؛ فإن الله يريد أن يخلق كل ما علم أنه سيخلقه. وعلى قول من يثبتها صفات أخر، يقول: هو أيضا حبه تابع لمن يريد أن يثيبه، فكل من أراد إثابته فهو يحبه، وكل من أراد عقوبته فإنه يبغضه، وهذا تابع للعلم. وهؤلاء عندهم: لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطا عليه، ولا يفرح بتوبة عبد بعد أن تاب عليه، بل ما زال يفرح بتوبته، والفرح عندهم إما الإرادة، وإما الرضى، والمعنى: ما زال يريد إثابته، أو يرضى عما يريد إثابته. وكذلك لا يغضب عندهم يوم القيامة دون ما قبله، بل غضبه قديم، إما بمعنى الإرادة وإما بمعنى آخر. فهؤلاء يقولون: إذا علم أن الإنسان يموت كافرا، لم يزل مريدا لعقوبته، فذاك الإيمان الذي كان معه باطل لا فائدة فيه، بل وجوده كعدمه، فليس هذا بمؤمن أصلا. وإذا علم أنه يموت مؤمنا، لم يزل مريدا لإثابته، وذاك الكفر الذي فعله، وجوده كعدمه، فلم يكن هذا كافرا عندهم أصلا. فهؤلاء يستثنون في الإيمان بناء على هذا المأخذ، وكذلك بعض محققيهم يستثنون في الكفر، مثل أبي منصور الماتريدي، فإن ما ذكروه مطرد فيهما، ولكن جماهير الأئمة على أنه لا يُستثنى في الكفر، والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن هو لازم لهم ... ). إلى أن قال: (وهذا القول قاله كثير من أهل الكلام أصحاب ابن كُلاب، ووافقهم على ذلك كثير من أتباع الأئمة، لكن ليس هذا قول أحد من السلف، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا كان أحد من السلف الذين يستثنون في الإيمان يعللون بهذا، لا أحمد ولا من قبله) (¬1). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 429 - 432).

وقال: (وكثير من أهل الكلام في كثير مما ينصره، لا يكون عارفا بحقيقة دين الإسلام في ذلك، ولا ما جاءت به السنة، ولا ما كان عليه السلف، فينصر ما ظهر من قولهم بغير المآخذ التي كانت مآخذهم في الحقيقة، بل بمآخذ أخر، قد تلقوها عن غيرهم من أهل البدع، فيقع في كلام هؤلاء من التناقض والاضطراب والخطأ ما ذم به السلف مثل هذا الكلام وأهله، فإن كلامهم في ذم مثل هذا الكلام كثير. والكلام المذموم هو المخالف للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب، فهو مخالف للشرع والعقل وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [الأنعام:115]. فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن أهل السنة أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جُعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف. وهذا القول لم يقل به أحد من السلف، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم، لمّا رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل، وهم يدَّعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث) (¬1). ونقل شيخ الإسلام عن أبي القاسم الأنصاري شارح "الإرشاد" فيما حكاه عن أبي إسحاق الإسفرائيني، لما ذكر قول أبي الحسن الأشعري وأصحابه في الإيمان، وصحح أنه تصديق القلب، قال: ومن أصحابنا من قال بالموافاة وشرط في الإيمان الحقيقي أن يوافي ربه به ويختم عليه، ومنهم من لم يجعل ذلك شرطا فيه في الحال. (ثم قال - أي الأنصاري -: والذي اختاره المحققون أن الإيمان هو التصديق، وقد ذكرنا اختلاف أقوالهم في الموافاة، وأن ذلك هل هو شرط في صحة الإيمان وحقيقته في الحال، وكونه معتدا عند الله به، وفى حكمه. فمن قال: إن ذلك شرط فيه، يستثنون في الإطلاق في الحال، لا أنهم يشكون في حقيقة التوحيد والمعرفة، لكنهم يقولون: لا يدرى أي الإيمان الذي نحن موصوفون به في الحال، هل هو معتد به عند الله؟ على معنى أنا ننتفع به في العاقبة، ونجتني من ثماره) (¬2). قال شيخ الإسلام: (وأما الموافاة فما علمت أحدا من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثير من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري، وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث) (¬3). وقال: (وهؤلاء يقولون إن حب الله وبغضه ورضاه وسخطه وولايته وعداوته إنما يتعلق بالموافاة فقط، فالله يحب من علم أنه يموت مؤمنا، ويرضى عنه ويواليه بحب قديم وموالاة قديمة، ويقولون: إن عمر حال كفره كان وليا لله، وهذا القول معروف عن ابن كلاب ومن تبعه كالأشعري وغيره. وأكثر الطوائف يخالفونه في هذا، فيقولون بل قد يكون الرجل عدوا لله ثم يصير وليا لله، ويكون الله يبغضه ثم يحبه، وهذا مذهب الفقهاء والعامة، وهو قول المعتزلة والكرامية والحنفية قاطبة وقدماء المالكية والشافعية والحنبلية. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 435) وما بعدها. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 437). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 439).

وعلى هذا يدل القرآن، كقوله: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، ووَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ [النساء:137]، فوصفهم بكفر بعد إيمان، وإيمان بعد كفر، وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار، وأنهم إن انتهوا يُغفر لهم ما قد سلف، وقال: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:55]، وقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28]. وفي الصحيحين في حديث الشفاعة، تقول الأنبياء: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)) (¬1) (¬2). وقال ابن حزم: (وأما قولهم: إن الله تعالى لا يسخط ما رضي، ولا يرضى ما سخط، فباطل وكذب، بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم، ورضي لهم ذلك، وسخط منهم خلافه، وكذلك أحل لنا الخمر، ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام، ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان والبقاء بلا صلاة، وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك، كما قال تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ثم فرض علينا الصلاة والصوم، وحرم علينا الخمر، فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان وشرب الخمر، ورضي لنا خلاف ذلك، وهذا لا ينكره مسلم. ولم يزل الله تعالى عليما أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا، وأنه سيرضى منه، ثم أنه سيحرمه ويسخطه، وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة، ثم أنه يحله ويرضاه، كما علم أنه سيحيي من أحياه مدة كذا، وأنه يعز من أعزه مدة، ثم يذله، وهكذا جميع ما في العالم من آثار صنعته لا يخفى ذلك على من له أدنى حس، وهكذا المؤمن يموت مرتدا، والكافر يموت مسلما؛ فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخطه فعل الكافر ما دام كافرا، ثم أنه يرضى عنه إذا أسلم، وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم وأفعال البر، ثم أنه يسخط أفعاله إذا ارتد أو فسق، ونص القرآن يشهد بذلك، قال تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:78] فصح يقينا أن الله تعالى يرضى الشكر ممن شكره فيما شكره، ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر كيف كان انتقال هذه الأحوال من الإنسان الواحد) (¬3). وبهذا يظهر الفرق بين من استثنى من السلف لأجل خوف العاقبة وتغيَّر الحال (¬4)، وبين القول بالموافاة، الذي ذهب إليه الأشاعرة، وتضمَّن القولَ بأن الإيمان هو ما مات عليه العبد، وأن الإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، وتضمن أيضا: أن حب الله وبغضه، ورضاه وسخطه وولايته وعداوته إنما يتعلق بالموافاة فقط. وسر المسألة كما بين شيخ الإسلام أن الأشاعرة ينفون الأفعال الاختيارية، ويثبتون رضا ومحبة قديمة بمعنى الإرادة، وعندهم أن الله لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطا عليه، ولا يفرح بتوبة عبد بعد أن تاب عليه، وأما أهل السنة فقد أخذوا بما دلت عليه النصوص من أن الله تعالى، يحب من شاء إذا شاء، ويرضى عمن شاء متى شاء، ويسخط عمن شاء، وقت ما يشاء، سبحانه، فمحبته ورضاه وسخطه صفات تتعلق بمشيئته. والحاصل: أن القول بأن الإيمان هو ما وافى به العبد ربه، وتعليل الاستثناء بذلك، قول محدث، لا دليل عليه. وقد مضى ذكر الاعتبارات التي بنى عليها السلف قولهم في الاستثناء. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 241 ¬

(¬1) رواه البخاري (4712) ومسلم (194). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (16/ 582) وما بعدها، وانظر: (11/ 62) وما بعدها. (¬3) ((الفصل)) لابن حزم (4/ 48) وما بعدها، وفيه رد قوي على الأشاعرة في هذه المسألة. (¬4) وهو أحد أوجه الاستثناء عند أهل السنة، كما سبق. انظر: (ص93) من هذا البحث.

المطلب الخامس: الفرق بين تصديق الأشاعرة ومعرفة جهم

المطلب الخامس: الفرق بين تصديق الأشاعرة ومعرفة جهم سبق أن شيخ الإسلام ينسب إلى جهم أن الإيمان هو المعرفة، أو التصديق، ويقرر أن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد التصديق الخالي من الانقياد، أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه. كما أنه نسب إلى الأشعري في أحد قوليه، وإلى أكثر أصحابه أنهم نصروا قول جهم في الإيمان، وسمى من هؤلاء: الباقلاني، والجويني، والرازي. لكن هل ينطبق هذا على متأخري الأشاعرة؟ وهل يثبتون تصديقا مجردا من أعمال القلوب؟ والحق أن الناظر في كتب هؤلاء المتأخرين يتبين له أنهم لا يثبتون تصديقا مجردا عن أعمال القلوب، بل يدخلون في التصديق: الإذعان والانقياد والقبول والرضى، ويفرقون بينه وبين المعرفة التي أثبتها جهم، كما أنهم يقررون كفر كثير من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يعرفون الحق ولا ينقادون له. ومن أقوالهم في تعريف التصديق: قال في (إتحاف المريد): (وهو تصديق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة ... والمراد من تصديقه صلى الله عليه وسلم: قبول ما جاء به مع الرضا بترك التكبر والعناد، وبناء الأعمال عليه، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول له، حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به، لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه ولا بنوا الأعمال الصالحة عليه، بحيث صار يطلق عليه اسم التسليم كما هو مدلوله الوضعي) (¬1). وقال البيجوري: (والمراد بتصديق النبي في ذلك: الإذعان لما جاء به والقبول له، وليس المراد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول له حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم، مصداق ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة:146] قال عبد الله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد أشد) (¬2). ¬

(¬1) ((إتحاف المريد)) (ص87 - 91)، وعلق ابن الأمير في حاشيته على قوله: (وبناء الأعمال عليه) فقال: (فيه أن هذا لا يتوقف عليه أصل الحقيقة، فإن حمل على اعتقاد البناء لم يكن زائدا على ما قبله) انتهى. (¬2) ((شرح البيجوري)) (ص43).

وقال الدردير في شرحه على (الخريدة): (والمراد من تصديقه عليه الصلاة والسلام: الإذعان والقبول لما جاء به بحيث يقع عليه اسم التسليم من غير تكبر وعناد، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار (¬1) الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به؛ لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه بحيث يطلق عليه اسم التسليم. وعلى هذا فالإيمان الشرعي هو حديث النفس التابع للمعرفة، أي الإدراك الجازم، بناء على الصحيح من أن إيمان المقلد صحيح. فالإذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن شيء واحد، وهو حديث النفس المذكور، فيكون الإيمان فعلا من أفعال النفس، وليس من قبيل العلوم والمعارف، ويظهر من كلام بعضهم أنه الراجح) ثم ذكر ما ذهب إليه التفتازاني وكثير من المحققين من أن التصديق هو نفس الإدراك، فيكون من قبيل العلوم والمعارف (¬2). وفي (حاشية السيالكوتي على شرح المواقف)، بعد أن ذكر أن التصديق كسبي اختياري، قال: (والإيمان الشرعي يجب أن يكون من الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ادعى النبوة وأظهر المعجزة فوقع صدقه في قلب أحد ضرورة من غير أن ينسب إليه اختيار، لا يقال في اللغة: إنه صدقه، فلا يكون إيمانا شرعيا، كذا في شرح المقاصد. وفيه بحث، فإن من حصل له تصديق بلا اختيار إذا التزم العمل بموجبه يكون إيمانا اتفاقا، ولو صدق النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر في معجزاته اختيارا، ولم يلتزم عمل بموجبه، بل عانده فهو كافر اتفاقا. فعلم أن المعتبر في الإيمان الشرعي هو اختيار في التزام موجب التصديق لا في نفسه، وهذا هو التسليم الذي اعتبره بعض الفضلاء أمرا زائدا على التصديق فليتأمل) (¬3). والحاصل أن الأشاعرة يشترطون في الإيمان: الإذعان والانقياد والقبول وترك العناد والتكبر، لكنهم يجعلون ذلك نفس (التصديق)، ثم يتكلفون في إيجاد الفرق بين (المعرفة) و (التصديق) ولو قالوا: إن التصديق يجب أن يصحبه إذعان وانقياد وقبول، لسهل الأمر، لكنهم يعلمون أن ذلك مبطل لأصلهم الذي بنوا عليه إخراج العمل من الإيمان، وهو الزعم بأن الإيمان لُغوي، وأن الشرع لم يغير معناه الذي هو التصديق، ولم يتصرف فيه، وأن الإيمان شيء واحد. ولهذا لما نقل شيخ الإسلام عن بعضهم القول بأنهم: (اختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم، فمنها ترك قتل الرسول، وترك إيذائه، وترك تعظيم الأصنام، فهذا من التروك. ومن الأفعال: نصرة الرسول، والذب عنه، وقالوا: إن جميعه يضاف إلى التصديق شرعا. وقال آخرون: إنه من الكبائر، لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان). ¬

(¬1) قال الصاوي في حاشيته: (أي كأبي طالب، فإنه كان يشهد له بالصدق من غير إذعان) انتهى من ((حاشية الصاوي على شرح الخريدة)) (ص72). (¬2) ((شرح الخريدة البهية للدردير)) (ص72) وما بعدها. وانظر ما قاله التفتازاني في الفرق بين المعرفة والتصديق في ((شرح العقائد النسفية)) (ص82) وحاصله أن التصديق المعتبر أمر كسبي يثبت باختيار المصدق، بخلاف المعرفة فإنها ربما تحصل بلا كسب كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدار أو حجر. (¬3) ((حاشية السيالكوتي على شرح المواقف)) (8/ 352)، وانظر: ((شرح الخريدة)) لحسين عبد الرحيم مكي (ص64).

علق شيخ الإسلام بقوله: (قلت: وهذان القولان ليسا قول جهم، لكن من قال ذلك فقد اعترف بأنه ليس مجرد تصديق القلب، وليس هو شيئا واحدا، وقال: إن الشرع تصرف فيه. وهذا يهدم أصلهم، ولهذا كان حذاق هؤلاء كجهم والصالحي وأبي الحسن والقاضي أبي بكر على أنه لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بزوال العلم من قلبه) (¬1). ثم نقل عن أبي المعالي الجويني وأبي القاسم الأنصاري شارح الإرشاد ما يفيد أن الإيمان هو التصديق بالقلب، إلا أن الشرع أوجب ترك العناد، وعليه فكفر اليهود العالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو من هذا الباب، أي كفروا عنادا وبغيا وحسدا. قال شيخ الإسلام: والحذاق في هذا المذهب كأبي الحسن والقاضي ومن قبلهم من أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل، فقالوا: لا يكون أحد كافرا إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق، والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله، ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء وقالوا: هذا مكابرة وسفسطة (¬2). بطلان مذهب من جعل عملَ القلب نفسَ التصديق: قد تبين مما سبق أن متأخري الأشاعرة أثبتوا عمل القلب، من القبول والانقياد والإذعان، لكنهم جعلوا ذلك نفس التصديق، كما في قول الدردير: (فالإذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن شيء واحد)، وسبقت الإشارة إلى أن هذا مذهب أبي الحسين الصالحي، وأن شيخ الإسلام جزم بفساد هذا القول، واعتبره ضلالا بينا، قال: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا، وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بيِّن) (¬3). وإدخال عمل القلب في التصديق، باطل لأمور كثيرة أظهرها ما يترتب على ذلك من القول بأنَّ من كان كفره من جهة انتفاء عمل القلب، كإبليس وفرعون واليهود العالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فليس في قلبه شيء من التصديق، لأنه إذا كان عملُ القلب هو نفس التصديق، كان انتفاؤه يعني انتفاء التصديق، ويلزم على ذلك أنَّ هؤلاء المذكورين ليسوا مصدقين، وأنه لا يزول اسم الإيمان عن أحد إلا بزوال العلم والتصديق من قلبه. وهذا الذي اعتمده الحذاق في هذا المذهب كأبي الحسن والقاضي أبي بكر، كما سبق. وأما المتأخرون فقد وقعوا في التناقض الذي أشار إليه شيخ الإسلام، فأثبتوا العلم والتصديق لكثير من المشركين وأهل الكتاب، ونفوا عنهم الإذعان والانقياد، مع قولهم: إن التصديق هو نفس الإذعان والانقياد! وهؤلاء يلزمهم أن يقولوا: إنَّ الإيمان الواجب في القلب أمران: التصديق، والعمل، وأنه قد يوجد التصديق من غير العمل، لكنَّ هذا يفسد الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم، وهو أن الإيمان مجرد التصديق، وأنه شيء واحد، وأن الشرع لم يتصرف فيه! وهذا الاضطراب جزاء من أعرض عن نصوص الكتاب والسنة، والتمس الهدى في غيرهما من الآراء الكلامية، والقواعد المنطقية. وهذا ما سيظهر أيضا من خلال عرض مفهوم الكفر عندهم. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 251 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 145). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 146) وما بعدها. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 554)، وانظر: (ص202) من هذا البحث.

المطلب السادس: مفهوم الكفر عند الأشاعرة

المطلب السادس: مفهوم الكفر عند الأشاعرة يرى الأشاعرة أن الكفر هو التكذيب، أو الجهل بالله تعالى، وأن ما كان من أمور الكفر المجمع عليها كالسجود للصنم وعبادة الأفلاك ليس كفرا في نفسه، لكنه علامة على الكفر، ويجوز أن يكون فاعل ذلك في الباطن مؤمنا. ومنهم من يقول: هذه الأمور جعلها الشارع علامة على التكذيب، فيحكم على فاعلها بوجود التكذيب في قلبه وانتفاء التصديق منه. قال الباقلاني: (باب القول في معنى الكفر: إن قال قائل: وما الكفر عندكم؟ قيل له: ضد الإيمان، وهو الجهل بالله عز وجل، والتكذيب به، الساتر لقلب الإنسان عن العلم به، فهو كالمغطي للقلب عن معرفة الحق ... وقد يكون الكفر بمعنى التكذيب والجحد والإنكار، ومنه قولهم: كفرني حقي أي جحدني. وليس في المعاصي كفر غير ما ذكرناه، وإن جاز أن يسمى أحيانا ما جُعل علَما على الكفر كفرا، نحو عبادة الأفلاك والنيران، واستحلال المحرمات، وقتل الأنبياء، وما جرى مجرى ذلك مما ورد التوقيف به وصح الإجماع على أنه لا يقع إلا من كافر بالله ومكذب له وجاحد به) (¬1). وقال البغدادي: (فقال أبو الحسن الأشعري: إن الإيمان هو التصديق لله ولرسله صلى الله عليهم وسلم في أخبارهم، ولا يكون هذا التصديق إلا بمعرفته. والكفر عنده هو التكذيب، وإلى هذا القول ذهب ابن الراوندي والحسين بن الفضل البجلي) (¬2). وقال: (المسألة العاشرة من هذا الأصل في بيان الأفعال الدالة على الكفر: قال أصحابنا: إن أكل الخنزير من غير ضرورة ولا خوف، وإظهار زي الكفرة في بلاد المسلمين من غير إكراه عليه، والسجود للشمس أو الصنم، وما جرى مجرى ذلك من علامات الكفر وإن لم يكن في نفسه كفرا، إذا لم يضامَّه عقد القلب على الكفر. ومن فعل شيئا من ذلك أجرينا عليه حكم الكفر وإن لم نعلم كفره باطنا) (¬3). وقال الإيجي: (المقصد الثالث: في الكفر: وهو خلاف الإيمان، فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه به ضرورة. فإن قيل: فشادُّ الزنار ولابس الغيار بالاختيار لا يكون كافرا؟ قلنا: جعلنا الشيء علامة للتكذيب، فحكمنا عليه بذلك) (¬4). والحاصل أن الأشاعرة لا يرون الكفر إلا تكذيب القلب أو جهله، ولا يرون عملا أو قولا هو كفر بذاته، وأنَّ من حُكم بكفره، فلذهاب التصديق من قلبه، أو يقال: هو كافر ظاهرا، وقد يكون مؤمنا باطنا. وهم يلتقون مع جهم في هذا التأصيل. قال شيخ الإسلام: (ومن هنا يظهر خطأ قول جهم بن صفوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن. قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود، فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة، قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه. فالكفر عندهم شيء واحد، وهو الجهل، والإيمان شيء واحد، وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو. ¬

(¬1) ((تمهيد الأوائل)) (ص392 - 394). (¬2) ((أصول الدين)) للبغدادي (ص247). (¬3) ((أصول الدين)) (ص266). (¬4) ((المواقف)) (ص388).

وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة) (¬1). وقال: (فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفا بالله موحدا مؤمنا به) (¬2). ولابن حزم كلام قوي في الرد على الأشاعرة في هذه المسألة، ومن ذلك قوله: (ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم: إن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفرا لكنه دليل على أن في القلب كفرا: أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم، أتقطعون به فتثبتونه يقينا ولا تشكون في أن في قلبه جحدا للربوبية وللنبوة، أم هو دليل يجوز ويدخله الشك ويمكن أن لا يكون في قلبه كفر؟ ولا بد من أحدهما، فإن قالوا: إنه دليل لا نقطع به قطعا ولا نثبته يقينا، قلنا لهم: فما بالكم تحتجون بالظن الذي قال تعالى فيه: إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم:28]) (¬3). وقال أيضا: (وأما قولهم: إن شتم الله تعالى ليس كفرا، وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو دعوى؛ لأن الله تعالى قال: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التوبة:74] فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر. وقال تعالى: أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [النساء:140] فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع. وقال تعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:65 - 66]، فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفرا، بل جعلهم كفارا بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا فقد قوَّل الله تعالى ما لم يقل، وكذب على الله تعالى) (¬4). وقال: (وأما الأشعرية فقالوا: إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم، وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية، والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شيء من ذلك كفرا، ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا: لكنه دليل على أن في قلبه كفرا. فقلنا لهم: وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل؟ فقالوا: لا) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 188) وما بعدها. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 557). (¬3) ((الفصل)) (3/ 259). (¬4) ((الفصل)) (3/ 244). (¬5) ((الفصل)) (5/ 75).

وقال: (وأما سب الله تعالى، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد إلا أن الجهمية والأشعرية، وهما طائفتان لا يعتد بهما، يصرحون بأن سب الله تعالى، وإعلان الكفر ليس كفرا، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى. وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام، وهو أنهم يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وإن أعلن بالكفر وعبادة الأوثان بغير تقية ولا حكاية لكن مختارا في ذلك الإسلام. قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد؛ لأنه خلاف لإجماع الأمة، ولحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ومن بعدهم؛ لأنه لا يختلف أحد- لا كافر ولا مؤمن - في أن هذا القرآن هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وذكر أنه وحي من الله تعالى- وإن كان قوم من الروافض ادعوا أنه نقص منه، وحُرِّف- فلم يختلفوا أن جملته كما ذكرنا. ولم يختلفوا في أن فيه التسمية بالكفر، والحكم بالكفر قطعا على من نطق بأقوال معروفة، كقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:72]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ [التوبة:74]، فصح أن الكفر يكون كلاما. وقد حكم الله تعالى بالكفر على إبليس، وهو عالم بأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين، وأمره بالسجود لآدم وكرمه عليه، وسأل الله تعالى النظرة إلى يوم يبعثون. ثم يقال لهم: إذ ليس شتم الله تعالى كفرا عندكم، فمن أين قلتم: إنه دليل على الكفر؟ فإن قالوا: لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر؟ قيل لهم: نعم، محكوم عليه بنفس قوله، لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى؛ فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط، فقوله هو الكفر، ومن قطع على أنه في ضميره وقد أخبر الله تعالى عن قوم: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167]، فكانوا بذلك كفارا، كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وهم مع ذلك كفار بالله تعالى قطعا بيقين، إذ أعلنوا كلمة الكفر) (¬1). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 257 ¬

(¬1) ((مختصر الإيصال)) ملحق بالمحلى (12/ 435).

المبحث السادس: مذهب الماتريدية

المطلب الأول: قولهم في الإيمان أما أبو منصور الماتريدي - شيخ الطائفة - فقد ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق، وأن قول اللسان شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يستثنى فيه. قال الماتريدي: (ثم قد ثبت بأدلة القرآن وما عليه أهل الإيمان، والذي جرى به من اللسان أن الإيمان هو التصديق) (¬1). وقال: (الأصل عندنا قطع القول بالإيمان وبالتسمي به بالإطلاق، وترك الاستثناء فيه؛ لأن كل معنى مما باجتماع وجوده تمام الإيمان عنده، مما إذا استثني فيه لم يصح ذلك المعنى) (¬2). وقال شيخ الإسلام: (وقد ذهب طائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة كأبي منصور الماتريدي وأمثاله إلى نظير هذا القول في الأصل، وقالوا: إن الإيمان هو ما في القلب، وأن القول الظاهر شرط لثبوت أحكام الدنيا) (¬3). وقال ملا علي القاري: (وذهب جمهور المحققين إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا ... وهذا هو اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي) (¬4). وقد سار الماتريدية على ما أصَّله شيخهم إلا أن منهم من جعل قول اللسان ركنا في الإيمان، ومنهم من أثبت الزيادة والنقصان، بل نُسب ذلك إلى جمهورهم- وليس كذلك- كما اشترطوا اشتمال التصديق على الإذعان والقبول، ومنهم من جوز الاستثناء. قال التفتازاني: وليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم (¬5). وقال النسفي: والإيمان هو التصديق بما جاء به من عند الله تعالى والإقرار به) قال شارحه: (وهذا الذي ذكره من أن الإيمان هو التصديق والإقرار مذهب بعض العلماء، وهو اختيار الإمام شمس الأئمة وفخر الإسلام رحمهما الله) (¬6). فالنسفي– وهو ماتريدي- اختار هنا قول مرجئة الفقهاء، وجعل الإقرار جزءا من الإيمان. وأما عمل الجوارح، فقد أخرجوه من الإيمان، ومنهم من صرح بأنه من كمال الإيمان. قال الملا علي القاري: (وأما العمل بالأركان فهو من كمال الإيمان، وجمال الإحسان) (¬7). قولهم في الزيادة والنقصان: نسب الصاوي في (شرح الجوهرة) إلى جمهور الماتريدية، القولَ بزيادة الإيمان ونقصانه (¬8). والذي يظهر أن جمهورهم على خلاف ذلك، قال في العقائد النسفية: (والإيمان لا يزيد ولا ينقص) (¬9). وقال أبو المعين النسفي: (وإذا ثبت أن الإيمان هو التصديق، وهو لا يتزايد في نفسه، دل أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلا زيادة له بانضمام الطاعات إليه، ولا نقصان له بارتكاب المعاصي؛ إذ التصديق في الحالين على ما كان قبلهما) (¬10). قولهم في الاستثناء: ذهب بعض الماتريدية إلى جواز الاستثناء، لكن جعلوه خلاف الأولى، وخالفوا الأشعرية فيما ذهبوا إليه من القول بالموافاة. ¬

(¬1) ((التوحيد)) للماتريدي (ص332). وانظر: ((المسامرة على المسايرة)) (ص274). (¬2) ((التوحيد)) (ص388). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 510). (¬4) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص125) وما بعدها. ومثله في ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص79). (¬5) ((شرح العقائد النسفية)) (ص78). (¬6) ((شرح العقائد النسفية)) (ص78) وما بعدها. (¬7) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص103) وانظر: (ص: 130). (¬8) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص134) وقد سبق نقل كلامه. (¬9) ((العقائد النسفية)) لأبي حفص النسفي، مع شرحها للتفتازاني (ص80). (¬10) ((التمهيد)) للنسفي (ص102)، نقلا عن: الماتريدية دراسة وتقويما، د. أحمد بن عوض الله الحربي ص (463)، وانظر: ((تبصرة الأدلة)) لأبي المعين النسفي (2/ 809)، ((حاشية القاسم بن قطلوبغا الحنفي على المسامرة)) (ص: 308، 310).

قال التفتازاني شارحا قول أبي حفص النسفي: (ولا ينبغي أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله): (لأنه إن كان للشك فهو كفر لا محالة، وإن كان للتأدب وإحالة الأمور إلى مشيئة الله تعالى، أو للشك في العاقبة والمآل، لا في الآن والحال، أو للتبرك بذكر الله تعالى، أو للتبرؤ عن تزكية نفسه والإعجاب بحاله، فالأولى تركه؛ لما أنه يوهم الشك، ولهذا قال: ولا ينبغي، دون أن يقول: لا يجوز؛ لأنه إذا لم يكن للشك فلا معنى لنفي الجواز، كيف وقد ذهب إليه كثير من السلف حتى الصحابة والتابعين) إلى أن قال: (ولمَّا نقل عن بعض الأشاعرة أنه يصح أن يقال: أنا مؤمن إن شاء الله بناء على أن العبرة في الإيمان والكفر والسعادة والشقاوة بالخاتمة، حتى أن المؤمن السعيد من مات على الإيمان وإن كان طول عمره على الكفر والعصيان، وأن الكافر الشقي من مات على الكفر- نعوذ بالله- وإن كان طول عمره على التصديق والطاعة ... أشار إلى إبطال ذلك بقوله: (والسعيد قد يشقى) بأن يرتد بعد الإيمان نعوذ بالله (والشقي قد يسعد) بأن يؤمن بعد الكفر) (¬1). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 267 ¬

(¬1) ((شرح العقائد النسفية)) (ص84). وأبو حفص النسفي هو عمر بن محمد النسفي السمرقندي المتوفى سنة 537هـ، وهو غير أبي المعين النسفي ميمون بن محمد المتوفى سنة 508هـ، ونسف مدينة كبيرة بين جيحون وسمرقند.

المطلب الثاني: مفهوم الكفر عند الماتريدية

المطلب الثاني: مفهوم الكفر عند الماتريدية لا يختلف الماتريدية عن الأشاعرة في تعريفهم للكفر وأنه التكذيب، وأن من الأعمال والأقوال ما جعله الشارع علامة على التكذيب، فيُحكم بكفر مرتكبها. قال النسفي: (الكفر هو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب) (¬1). وقال التفتازاني: (فإن قيل: من استخف بالشرع أو الشارع أو ألقى المصحف في القاذورات أو شد الزنار بالاختيار كافر إجماعا، وإن كان مصدقا للنبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به ... قلنا: لو سلم اجتماع التصديق المعتبر في الإيمان مع تلك الأمور التي هي كفر وفاقا، فيجوز أن يجعل الشارع بعض محظورات الشرع علامة على التكذيب، فيحكم بكفر من ارتكبه، وبوجود التكذيب فيه، وانتفاء التصديق عنه) (¬2). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 271 ¬

(¬1) ((التمهيد)) (ص100)، نقلاً عن: ((الماتريدية دراسةً وتقويماً)) (ص454). وانظر: ((تبصرة الأدلة)) (2/ 208). (¬2) ((شرح المقاصد)) (5/ 225) نقلاً عن: ((نواقض الإيمان الاعتقادية)) د. محمد بن عبد الله الوهيبي (1/ 185).

المبحث السابع: مذهب مرجئة الفقهاء

المطلب الأول: قولهم في الإيمان والمقصود بمرجئة الفقهاء: من نسب إليه الإرجاء من الفقهاء، كحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة رحمهما الله ومن تبعهما. وقد ذهبوا إلى أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وأخرجوا العمل من مسماه، وزعموا أنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يستثنى منه، مع قولهم إن مرتكب الكبيرة معرض للوعيد، وهو تحت المشيئة، كما هو القول عند أهل السنة والجماعة. قال أبو حنيفة في كتاب الوصية المنسوب إليه: (الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان، والإقرار وحده لا يكون إيمانا؛ لأنه لو كان إيمانا لكان المنافقون كلهم مؤمنين، وكذلك المعرفة وحدها أي مجرد التصديق لا يكون إيمانا؛ لأنها لو كانت إيمانا لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين. قال الله تعالى في حق المنافقين: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، أي في دعواهم الإيمان حيث لا تصديق لهم. وقال الله تعالى في حق أهل الكتاب: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة:146]) (¬1). وقال في الفقه الأكبر المنسوب إليه أيضا: (ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة، إذا لم يستحلها، ولا نزيل عنه اسم الإيمان. ونسميه مؤمنا حقيقة، ويجوز أن يكون مؤمنا فاسقا غير كافر). ثم قال: (ولا نقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، ولا نقول: إنه لا يدخل النار، ولا نقول: إنه يخلد فيها وإن كان فاسقا بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا، ولا نقول: إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة، ولكن نقول: من عمل حسنة بجميع شرائطها خالية عن العيوب المفسدة والمعاني المبطلة، ولم يبطلها بالكفر والردة حتى خرج من الدنيا مؤمنا، فإن الله تعالى لا يضيعها بل يقبلها منه ويثيبه عليها. وما كان من السيئات دون الشرك والكفر ولم يتب عنها صاحبها حتى مات مؤمنا، فإنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه بالنار، وإن شاء عفا عنه ولم يعذبه بالنار أصلا). إلى أن قال: (وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به، ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق. والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد، متفاضلون في الأعمال) (¬2). وقال في الوصية: (ثم الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنه لا يتصور زيادة الإيمان إلا بنقصان الكفر، ولا يتصور نقصان الإيمان إلا بزيادة الكفر، فكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا، والمؤمن لا مؤمن حقا. وليس في إيمان المؤمن شك، كما أنه ليس في كفر الكافر شك ... ) (¬3). ¬

(¬1) ((الوصية)) لأبي حنيفة، نقلا عن ((شرح الفقه الأكبر)) لملا علي القاري (ص124). وفي ثبوت هذا الكتاب إلى أبي حنيفة نظر؛ إذ سند الكتاب إليه مسلسل بالمجاهيل، مع اشتماله على مسائل كثيرة مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة. وانظر تحقيق ذلك في: ((براءة الأئمة الأربعة من مسائل المتكلمين المبتدعة)) للدكتور عبد العزيز بن أحمد الحميدي حفظه الله، (ص76 - 79). (¬2) ((الفقه الأكبر)) مع شرحه لملا علي القاري (ص102 - 129). ونسبة كتاب الفقه الأكبر هذا إلى أبي حنيفة لا تصح، كما بينه الدكتور عبد العزيز ابن أحمد الحميدي في ((براءة الأئمة الأربعة من مسائل المتكلمين المبتدعة)) (ص46 - 71) لكن القول بالإرجاء ثابت عن أبي حنيفة، أثبته معاصروه، ومن جاء بعده، انظر المصدر السابق (ص207 - 212). (¬3) ((الوصية)) لأبي حنيفة، نقلاً عن ((شرح الفقه الأكبر)) (ص127) وما بعدها.

وقال أيضا: (ثم العمل غير الإيمان، والإيمان غير العمل، بدليل أن كثيرا من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن، ولا يجوز أن يقال: يرتفع عنه الإيمان، فإن الحائض ترتفع عنها الصلاة ولا يجوز أن يقال: يرتفع عنها الإيمان، أو أمر لها بترك الإيمان ... ) (¬1). وقال الطحاوي في عقيدته المشهورة التي ذكر أنها عقيدة أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) (¬2). وقد عد أصحاب المقالات أبا حنيفة وأصحابه من المرجئة لإخراجهم العمل من مسمى الإيمان ونفيهم الزيادة والنقصان، واشتد إنكار السلف عليهم لذلك. قال الأشعري في المقالات في عد فرق المرجئة: (والفرقة التاسعة من المرجئة: أبو حنيفة وأصحابه، يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله، والإقرار بالله، والمعرفة بالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير) (¬3). وقال شيخ الإسلام: (والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم. فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم. لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا؛ فإنها لازمة لها. ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم) (¬4). وقال: (وأنكر حماد بن أبى سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء. وأما إبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبى سليمان وأمثاله، ومن قَبله من أصحاب ابن مسعود، كعلقمة والأسود، فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة، وكانوا يستثنون في الإيمان، لكن حماد بن أبى سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه، ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة ومن بعدهم. ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء، وتبديعهم وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحدا منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك. وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة. ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرا لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم فقد غلط غلطا عظيما). إلى أن قال: (وهؤلاء المعروفون مثل حماد بن أبى سليمان وأبي حنيفة وغيرهما من فقهاء الكوفة، كانوا يجعلون قول اللسان واعتقاد القلب من الإيمان، وهو قول أبى محمد بن كلاب وأمثاله، لم يختلف قولهم في ذلك، ولا نقل عنهم أنهم قالوا: الإيمان مجرد تصديق القلب) (¬5). ¬

(¬1) ((الوصية)) لأبي حنيفة، نقلاً عن ((شرح الفقه الأكبر)) (ص130). (¬2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (331). (¬3) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 219)، وانظر: ((الفصل)) لابن حزم (3/ 227)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 144)، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 547). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 194). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 507) وما بعدها.

وقال: (والحزب الثاني (¬1) وافقوا أهل السنة على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان؛ لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض، فقالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل، وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال. وقالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ لأن الله فرق بين الإيمان والأعمال في كتابه. ثم قال الفقهاء المعتبرون من أهل هذا القول: إن الإيمان هو تصديق القلب وقول اللسان، وهذا المنقول عن حماد بن أبى سليمان ومن وافقه كأبي حنيفة وغيره) (¬2). وحاصل ما عليه مرجئة الفقهاء هو ما يلي: 1 - أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان. 2 - إخراج العمل الظاهر من مسمى الإيمان. 3 - أن الإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص. 4 - أن أهله متساوون في أصله، وأن التفاضل إنما يقع في غير الإيمان. 5 - أنه لا يستثنى فيه. 6 - أما أعمال القلوب، فظاهر كلامهم أنها ليست من الإيمان. وهو ظاهر ما نقله أصحاب المقالات عنهم أيضا. وقد سبق قول شيخ الإسلام عنهم: (لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا؛ فإنها لازمة لها). وقال: (والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم. ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه. والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم. وهؤلاء غلطوا من وجوه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص) (¬3). إلى أن قال -بعد استطراد-: (الوجه الثاني من غلط المرجئة: ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب كما تقدم عن جهمية المرجئة. الثالث: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب، ولا يجعلونها لازمة له، والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر) (¬4). فصرح بأن الجهمية يخرجون أعمال القلوب من الإيمان، وهذا يذكره في مواضع، أما مرجئة الفقهاء فتراه لا يجزم هنا بقولهم في هذه المسألة، لكنه قال في موضع آخر: (وعند الجهمية الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، هذا قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه. وعند فقهاء المرجئة: هو قول اللسان مع تصديق القلب، وعلى القولين أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم كأعمال الجوارح، فيمكن أن يكون الرجل مصدقا بلسانه وقلبه مع كراهة ما نَّزل الله) (¬5). وقال أيضا: (ومن هنا غلطت الجهمية والمرجئة، فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول: إما قول القلب الذي هو علمه، أو معنى غير العلم عند من يقول ذلك، وهذا قول الجهمية ومن تبعهم كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية. وإما قول القلب واللسان، كالقول المشهور عن المرجئة، ولم يجعلوا عمل القلب مثل حب الله ورسوله ومثل خوف الله من الإيمان، فغلطوا في هذا الأصل) (¬6). ومما يرجح أنهم لا يدخلون أعمال القلوب في الإيمان، ما قاله الطحاوي– وسبق نقله- أن الإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى. ولا شك أن الخشية والتقى من أعمال القلوب، وقد دخلها التفاضل لأنها ليست من الإيمان. وسبق أيضا قول شيخ الإسلام عنهم: (وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل، وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال. وقالوا: الأعمال ليست من الإيمان). فحيث أثبتوا التفاضل في أعمال القلوب، دل ذلك على أنها خارجة عن مسمى الإيمان عندهم. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 271 ¬

(¬1) أي: من القائلين بأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل. والحزب الأول هم الخوارج والمعتزلة. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (18/ 271). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 195) وما بعدها. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 204). (¬5) ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 288). (¬6) ((جامع المسائل)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/ 246).

المطلب الثاني: هل الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء حقيقي أم لفظي؟

المطلب الثاني: هل الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء حقيقي أم لفظي؟ ومنشأ النزاع في ذلك أن هؤلاء المرجئة، مع قولهم بإخراج العمل من الإيمان، ونفي الزيادة والنقصان عنه، ومنع الاستثناء فيه، إلا أنهم كانوا (مع سائر أهل السنة متفقين على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك. وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة، وتاركها مستحق للذم والعقاب) (¬1). ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الخلاف بينهم وبين أهل السنة خلاف في الاسم واللفظ دون الحكم، وذهب آخرون إلى أنه خلاف حقيقي في الاسم واللفظ والحكم. تحقيق قول شيخ الإسلام في هذه المسألة: عزا بعض الباحثين إلى شيخ الإسلام أنه ممن يرى النزاع بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء نزاعا لفظيا، على ما هو المتبادر من بعض كلامه. والتحقيق في ذلك أن شيخ الإسلام له عبارات متنوعة في تناول هذه المسألة: 1 - فتارة يقول عن الخلاف في الأعمال هل هي من الإيمان وفي الاستثناء ونحو ذلك: إن عامته نزاع لفظي. 2 - وتارة يقول: هذه البدعة أخف البدع فإن كثيرا من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم (¬2). 3 - وتارة يشير إلى أن ذلك من بدع الأقوال والأفعال لا العقائد. قال: (ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من (مرجئة الفقهاء) بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد؛ فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب. فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لاسيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم يعنى المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة) وذكر آثارا في ذم المرجئة (¬3). وهذه المواضع الثلاثة لا تعارض بينها، فإنَّ فيها إقرارا بأن هذا النزاع منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو لفظي وهو الغالب والأكثر (¬4). 4 - وتارة يبين شيخ الإسلام أن الخلاف إنما يكون لفظياً مع من أقرَّ بأن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، بحيث إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. وهذا يذكره في مواضع، ومع هذا فقد غفل كثير من الباحثين عن الإشارة إليه. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 38) وما بعدها. (¬2) انظر هذين الموضعين في: ((مجموع الفتاوى)) (13/ 38) وما بعدها. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 394). (¬4) لكنه صرح في موضعٍ بأن هذا النزاع كثير منه معنوي، قال: (ثم بعد ذلك تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعا كثيرا، منه لفظي، وكثير منه معنوي، فإن أئمة الفقهاء لم ينازعوا في شيء مما ذكرناه من الأحكام، وان كان بعضهم أعلم بالدين وأقوم به من بعض، ولكن تنازعوا في الأسماء، كتنازعهم في الإيمان هل يزيد وينقص، وهل يستثنى فيه أم لا، وهل الأعمال من الإيمان أم لا، وهل الفاسق الملي مؤمن كامل الإيمان أم لا؟). ((مجموع الفتاوى)) (7/ 504) وما بعدها. وهذا يمكن حمله على عموم النزاع الواقع بين (الناس) في مسألة الإيمان، فيدخل في ذلك خلاف الجهمية والخوارج والمعتزلة، ولاشك أن النزاع حينئذ يكون أكثره معنويا.

ومن هذه المواضع قوله: (وقيل لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي، فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن، فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه، من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة، قيل لك: فهذا يناقض قولك أن الظاهر لازم له وموجب له، بل قيل: حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة، ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له، ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذا عدم لم يدل عدمه على العدم، وهذا حقيقة قولك) (¬1). وقال: (وهذا يلزم كل من لم يقل إن الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان الباطن. فإذا قال: إنها من لوازمه وأن الإيمان الباطن يستلزم عملا صالحا ظاهرا، كان بعد ذلك قوله: إن تلك الأعمال لازمة لمسمى الإيمان أو جزءا منه نزاعا لفظيا كما تقدم) (¬2). وقال: (وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب (الموجز)، وهو أن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء كقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، ولم يقل إن هذه الأعمال من الإيمان. قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمنا؛ لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان، وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءا نزاع لفظي. الثاني: أن نصوصا صرحت بأنها جزء كقوله: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً)) (¬3).) (¬4). وقال: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان، فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين. ومن قصد إخراج العمل الظاهر، قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن، فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن أو لازم لمسمى الإيمان؟ والتحقيق أنه تارة يدخل في الاسم، وتارة يكون لازما للمسمى، بحسب إفراد الاسم واقترانه .. ) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 577). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 584). (¬3) رواه البخاري (9) ومسلم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 202). (¬5) مجموع الفتاوى (7/ 554) وما بعدها.

وقال: (ولما كان إيمان القلب له موجبات في الظاهر، كان الظاهر دليلا على إيمان القلب ثبوتا وانتفاء، كقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، وقوله عز وجل: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81] وأمثال ذلك. وبعد هذا فنزاع المنازع في أن الإيمان في اللغة هل هو اسم لمجرد التصديق دون مقتضاه، أو اسم للأمرين يؤول إلى نزاع لفظي. وقد يقال: إن الدلالة تختلف بالإفراد والاقتران. والناس منهم من يقول: إن أصل الإيمان في اللغة التصديق، ثم يقول: والتصديق يكون باللسان ويكون بالجوارح، والقول يسمى تصديقا، والعمل يسمى تصديقا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ)) (¬1)، وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن بما وقر في القلب وصدقه العمل (¬2). ومنهم من يقول: بل الإيمان هو الإقرار وليس هو مرادفا للتصديق ... وإنما المقصود أن فقهاء المرجئة خلافهم مع الجماعة خلاف يسير، وبعضه لفظي، ولم يعرف بين الأئمة المشهورين بالفتيا خلاف إلا في هذا، فإن ذلك قول طائفة من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان وصاحبه أبي حنيفة وأصحاب أبي حنيفة) (¬3). وقال: (وهذا التصديق له لوازم داخلة في مسماه عند الإطلاق، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، ويبقى النزاع لفظيا: هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو باللزوم؟ ¬

(¬1) رواه مسلم (2657) من حديث أبي هريرة، ولفظه: ((كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ)). ورواه البخاري (6243) بأخصر من هذا. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (30351، و35211). (¬3) ((شرح الأصفهانية)) (ص181).

ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء، كحماد بن أبى سليمان، وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل (¬1)، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب كما تقوله الجماعة. ويقولون أيضا بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة. والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار، فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنه أنهم من أهل الوعيد وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها ولا يخلد منهم فيها أحد ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء) (¬2). ومن خلال هذه النقولات يتضح أن شيخ الإسلام يرى الخلاف لفظيا مع من أقر بالتلازم بين الظاهر والباطن، وأن العمل الظاهر لازم للإيمان الباطن لا ينفك عنه، بحيث إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. وأما من يرى العمل ثمرة تقارن الباطن تارة وتفارقه أخرى، فهذا قائل بقول جهم، والنزاع معه حقيقي بلا ريب. ¬

(¬1) نقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة قوله: إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول: مثل إيمان جبريل؛ وعللوا ذلك بأن إيمان جبريل يزيد في الصفة من كونه عن مشاهدة، فيحصل به زيادة الاطمئنان، وبه يحصل زيادة القرب ورفع المنزلة. ونقل بعضهم عنه كراهة ذلك، قال ابن عابدين: (لكن ما نقل عن الإمام هنا يخالفه ما في الخلاصة من قوله: قال أبو حنيفة: أكره أن يقول الرجل إيماني كإيمان جبريل، ولكن يقول: آمنت بما آمن به جبريل اهـ. وكذا ما قاله أبو حنيفة في كتاب العالم والمتعلم: إن إيماننا مثل إيمان الملائكة لأنا آمنا بوحدانية الله تعالى وربوبيته وقدرته، وما جاء من عند الله عز وجل بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل، فمن ها هنا إيماننا مثل إيمانهم، لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته من عجائب الله تعالى ولم نعاينه نحن، ولهم بعد ذلك علينا فضائل في الثواب على الإيمان وجميع العبادات الخ) حاشية ابن عابدين (3/ 274)، البحر الرائق (3/ 310). قلت: وقد روى ابن عدي في الكامل (7/ 9) بإسناده إلى غسان بن الفضل قال: ثنا حماد بن زيد قال: قلت لأبي حنيفة إن جابرا - أي الجعفي - روى عنك وأنك تقول: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل. قال: ما قلت هذا، ومن قال هذا فهو مبتدع، قال: فذكرت ذلك لمحمد بن الحسن صاحب الرأي قول حماد بن زيد، فقال: صدق حماد إن أبا حنيفة كان يكره أن يقول ذلك). وروى عن علي بن الجعد قال: سمعت أبا يوسف يقول: من قال: إيماني كإيمان جبريل فهو صاحب بدعة) الكامل (7/ 145). وقال شيخ الإسلام: (وقد ذكر بعض من صنف في هذا الباب من أصحاب أبى حنيفة، قال: وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كرهوا أن يقول الرجل: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل- قال محمد: لأنهم أفضل يقينا- أو إيماني كإيمان جبريل، أو إيماني كإيمان أبى بكر، أو كإيمان هذا، ولكن يقول: آمنت بما آمن به جبريل وأبو بكر) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 41). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 297)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 575)، (18/ 271).

وقول شيخ الإسلام: (خلافهم مع الجماعة خلاف يسير، وبعضه لفظي)، وقوله: (أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي) ونحو هذا من كلامه، يدل على أن الخلاف مع مرجئة الفقهاء- وإن قالوا بالتلازم- حقيقي في بعض المسائل، ولعله يشير إلى قولهم في الاستثناء، أو تجويزهم أن يقول أفسق الناس: إن إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام! وقد ترتب على قولهم في الاستثناء مذهب شنيع، وهو تكفير المستثني، بحجة أنه شاك في إيمانه، ولهذا منع بعض الحنفية من تزويج القائل بالاستثناء؛ لكن المحققين منهم على خلافه. قال ابن نجيم: (وقال الرستغفني: لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال. وقال الفضل: لا يجوز بين من قال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ لأنه كافر. ومقتضاه منع مناكحة الشافعية، واختلف فيها هكذا، قيل: يجوز، وقيل: يتزوج بنتهم ولا يزوجهم بنته، وعلله في البزازية بقوله: تنزيلا لهم منزلة أهل الكتاب. وقد قدمنا في باب الوتر والنوافل إيضاح هذه المسألة، وأن القول بتكفير من قال: أنا مؤمن إن شاء الله غلط، ويجب حمل كلامهم على من يقول ذلك شاكا في إيمانه، والشافعية لا يقولون به، فتجوز المناكحة بين الحنفية والشافعية بلا شبهة. وأما المعتزلة فمقتضى الوجه حل مناكحتهم؛ لأن الحق عدم تكفير أهل القبلة، كما قدمنا نقله عن الأئمة في باب الإمامة) (¬1). والحاصل أن إرجاء الفقهاء يحتمل أمرين: الأول: عدم إثبات التلازم بين الظاهر والباطن، والقائل بهذا خلافه مع أهل السنة خلاف حقيقي جوهري. والثاني: إثبات التلازم بين الظاهر والباطن، والتسليم بأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، والقائل بهذا خلافه مع أهل السنة أكثره لفظي، وبدعته في إخراج العمل من مسمى الإيمان، من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد. هذا تحرير مذهب شيخ الإسلام، في هذه المسألة، حسبما ظهر لي من تتبع كلامه في مواطن كثيرة من كتبه. وممن ذهب إلى أن الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء خلاف صوري: ابن أبي العز الحنفي في شرحه على الطحاوية، حيث قال: (والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة خلاف صوري؛ فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءا من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه: نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد) (¬2). وهذا موافق لما قرره شيخ الإسلام، من جعل الخلاف مع هؤلاء المرجئة لفظياً، إذا أقروا بأن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب. ومنهم: الحافظ الذهبي، فقد قال: (قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا. قال: إني أن أكون تابعا في الحق، خير من أن أكون رأسا في الباطل. قلت: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدّون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب، والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض. نسأل الله العافية) (¬3). وصرح بعض أهل العلم بأن الخلاف حقيقي جوهري، بإطلاق: ¬

(¬1) ((البحر الرائق شرح كنز الدقائق)) (3/ 110)، وينظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (3/ 231)، ((حاشية ابن عابدين)) (3/ 46). وينبغي التنبه لاختلاط كلام الحنفية، بكلام الماتريدية، بعد انتشار مذهب الماتريدي، مما يصعب معه الجزم بأن الفروع التي يذكرونها في باب الإيمان والكفر مما تقول به المرجئة الأوائل. (¬2) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 508). (¬3) ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 233).

قال الشيخ ابن باز معلقا على قول الطحاوي في عقيدته المشهورة: (والإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان): (هذا التعريف فيه نظر وقصور، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها فراجعها إن شئت. وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي ومعنوي، ويترتب عليه أحكام كثيرة، يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان) (¬1). وقال الشيخ الألباني معلقا على كلام الطحاوي أيضا: (هذا مذهب الحنفية والماتريدية، خلافاً للسلف وجماهير الأئمة كمالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم، فإن هؤلاء زادوا على الإقرار والتصديق: العمل بالأركان. وليس الخلاف بين المذهبين اختلافاً صورياً كما ذهب إليه الشارح رحمه الله تعالى، بحجة أنهم جميعاً اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، وأنه في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحاً، فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص وأن زيادته بالطاعة، ونقصه بالمعصية، مع تضافر أدلة الكتاب والسنة والآثار السلفية على ذلك، وقد ذكر الشارح طائفة طيبة منها (ص342 - 344) ولكن الحنفية أصروا على القول بخلاف تلك الأدلة الصريحة في الزيادة والنقصان، وتكلفوا في تأويلها تكلفاً ظاهراً، بل باطلاً، ذكر الشارح (ص342) نموذجاً منها، بل حكى عن أبي المعين النسفي أنه طعن في صحة حديث: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة .. )) مع احتجاج كل أئمة الحديث به، ومنهم البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو مخرج في (الصحيحة) (1769) وما ذلك إلا لأنه صريح في مخالفة مذهبهم! ثم كيف يصح أن يكون الخلاف المذكور صورياً، وهم يجيزون لأفجر واحد منهم أن يقول: إيماني كإيمان أبي بكر الصديق! بل كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليه الصلاة والسلام! كيف وهم بناء على مذهبهم هذا لا يجيزون لأحدهم - مهما كان فاجراً فاسقاً - أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، بل يقول: أنا مؤمن حقاً! والله عز وجل يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2 - 4]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا [النساء:122] وبناء على ذلك كله اشتطوا في تعصبهم، فذكروا أن من استثنى في إيمانه فقد كفر! وفرعوا عليه أنه لا يجوز للحنفي أن يتزوج بالمرأة الشافعية! وتسامح بعضهم– زعموا – فأجاز ذلك دون العكس، وعلل ذلك بقوله: تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب! وأعرف شخصاً من شيوخ الحنفية خطب ابنته رجل من شيوخ الشافعية، فأبى قائلاً: لولا أنك شافعي! فهل بعد هذا مجال للشك في أن الخلاف حقيقي؟ ومن شاء التوسع في هذه المسألة فليرجع إلى كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإيمان) فإنه خير ما ألف في هذا الموضوع) (¬2). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 283 ¬

(¬1) ((التعليق على الطحاوية)) ضمن ((مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز)) (1/ 265). (¬2) ((العقيدة الطحاوية)) شرح وتعليق (ص42) وما بعدها.

المبحث الثامن: سمات الإرجاء المعاصر

المطلب الأول: حول ما ينسب إلى المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب اشتهر على ألسنة كثير من الناس أن المرجئة هي الفرقة التي تقول: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا القول وإن نسب إلى بعض المرجئة، كاليونسية (¬1)، إلا أنه لا يُعلم قائل من أهل العلم قد ذهب إليه، ونسبته إلى مقاتل بن سليمان كذب عليه. قال شيخ الإسلام: (وأما ما يذكر عن غلاة المرجئة أنهم قالوا: لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد، فلا نعرف قائلا مشهورا من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول) (¬2). وقال: (وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معيناً أحكي عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب ولا يعيِّنون قائله، وقد يكون قول من لا خلاق له، فإن كثيرا من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا) (¬3). والخطر الذي يكمن من شيوع هذه المقالة، هو ظن كثير من الناس أن من برئ من هذا فقد برئ من الإرجاء، وظنهم أن الإرجاء قول متهافت ظاهر البطلان، لا يمكن أن يقول به أحد قرأ القرآن، ونظر في السنة، وعرف شيئا من نصوص الوعيد؛ فإنَّ كون المسلم الموحد قد يدخل النار بذنبه، تواتر تواترا يفيد العلم الضروري. ولو كان الإرجاء منحصرا في هذه المقالة المتهافتة، لما ذهب إليه جمع من العباد والزهاد، والفقهاء والنظار، من أمثال طلق بن حبيب، وذر بن عبد الله، وحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، وأبي الحسن الأشعري في أحد قوليه، وأبي منصور الماتريدي، ومن تبعهما من الأشاعرة والماتريدية، وفيهم خلق كثير من الحنفية والمالكية والشافعية، وبعض الحنابلة. وهذا الجهل بحقيقة الإرجاء، ومقالات المرجئة، أدى إلى شيوعه وانتشاره، وتبني كثير من المتأخرين له، حتى دخل على بعض المنتسبين للحديث والسنة في هذه الأزمنة، كما دخل على من قبلهم ممن يصرح بالبراءة من قول المرجئة، مع نصره لشيء من مقالاتهم. وأنا أسوق إليك شواهد، تدل على ما ذكرت: 1 - قال الملا علي القاري في الدفاع عن أبي حنيفة: (ثم المرجئة المذممة من المبتدعة ليسوا من القدرية، بل هم طائفة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فزعموا أن أحدا من المسلمين لا يعاقب على شيء من الكبائر، فأين هذا الإرجاء؟! ثم قول أبي حنيفة مطابق لنص القرآن، وهو قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48] (¬4)، بخلاف المرجئة حيث لا يجعلون الذنوب مما عدا الكفر تحت المشيئة ... ثم اعلم أن مذهب المرجئة أن أهل النار إذا دخلوا النار فإنهم يكونون في النار بلا عذاب، كالحوت في الماء، إلا أن الفرق بين الكافر والمؤمن أن للمؤمن استمتاعا في الجنة، يأكل ويشرب، وأهل النار في النار ليس لهم استمتاع أكل وشرب، وهذا القول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة من أهل السنة والجماعة وسائر المبتدعة) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((شرح المواقف)) للجرجاني (4/ 428). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 486). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 181)، و ((شرح الأصفهانية)) (ص182). (¬4) ومقصود المؤلف أن أبا حنيفة سمي مرجئا لتأخيره أمر صاحب الكبيرة إلى المشيئة، كما نقل ذلك عن القونوي، قبل أسطر من كلامه هذا. (¬5) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص104) وما بعدها.

2 - وقال أبو البقاء الكفوي: (المرجئة: هم الذين يحكمون بأن صاحب الكبيرة لا يعذب أصلا، وإنما العذاب للكفار. والمعتزلة جعلوا عدم القطع بالعقاب وتفويض الأمر إلى الله تعالى، يغفر إن شاء- على ما ذهب إليه أهل الحق- إرجاء، بمعنى أنه تأخير للأمر، وعدم الجزم بالثواب والعقاب، وبهذا الاعتبار، جعل أبو حنيفة من المرجئة) (¬1). قلت: فهذا الظنُّ - مع الاعتقاد المخالف للسنَّة-، حمل هؤلاء على تبرئة أبي حنيفة من الإرجاء، ولو كان مصرحا بأن الإيمان هو الإقرار والتصديق فقط، وأنه لا يزيد ولا ينقص! 3 - وقال شيخ الإسلام معلقا على قول ابن الصلاح: (ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ومقويات ومتممات وحافظات له): (وقول القائل: (الطاعات ثمرات التصديق الباطن) يراد به شيئان: يراد به أنها لوازم له، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت. وهذا مذهب السلف وأهل السنة. ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سببا، وقد يكون الإيمان الباطن تاما كاملا وهي لم توجد، وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم. وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم غلطوا في ثلاثة أوجه ... ). إلى أن قال: (وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية؛ لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان، وهو معظم للسلف وأهل الحديث، فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف) (¬2). فهذا يبين أهمية الوقوف على مقالات المرجئة، وتمييزها عن مقالات أهل السنة، حتى لا يقع الخلط بينها. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 299 ¬

(¬1) ((الكليات)) (ص350). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 361 - 364).

المطلب الثاني: حول قول بعض السلف: من قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد برئ من الإرجاء

المطلب الثاني: حول قول بعض السلف: من قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد برئ من الإرجاء هذه المقولة السلفية النافعة، نُقلت عن غير واحد من الأئمة، منهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فقد روى الخلال بإسناده إلى إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد عمَّن قال: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: هذا بريء من الإرجاء (¬1). وقال البربهاري: (من قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقد خرج من الإرجاء كله، أوله وآخره) (¬2). وهذه المقولة اغتر بها بعض المتعالمين، ممن خلط بين قول السلف، وقول المرجئة في باب الإيمان والكفر، فزعم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ثم قال: لا يكفر بقولٍ أو عمل! ولا يكفر بترك العمل! وهذا من أعظم المخالفة لكلام السلف. فهذه المقولة (حق ولا شك، لكن على فهم قائليها، وهو أن العمل والقول والاعتقاد أركان في الإيمان، لا يجزئ أحدها عن الآخر، وإلا فمن قال ذلك وهو لا يرى أعمال الجوارح ركنا في الإيمان، أو قال ذلك وهو يحصر الكفر في التكذيب والاستحلال، فإنه قد نطق بما قاله السلف في تعريف الإيمان، لكن لا على الوجه الذي أرادوه ... ولهذا حذر أهل العلم من بعض الكتب وأنها تدعو إلى مذهب الإرجاء، مع تبنيها أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (¬3). و ... من المرجئة من قال بالزيادة والنقصان، وبأن العمل شرط كمال للإيمان، كما هو مذهب متأخري الأشاعرة، مع حصرهم للكفر في الجحود والتكذيب، فهل يحتج أحد بقول أحمد - السابق - على أن هؤلاء قد برئوا من الإرجاء! (¬4) وأبلغ من ذلك أن يقال: قد وجد من المرجئة من يقول: الإيمان قول وعمل! قال الإمام حرب الكرماني: (وسمعت إسحاق يقول: أول من تكلم بالإرجاء زعموا أن الحسن بن محمد بن الحنفية، ثم غلت المرجئة حتى صار من قولهم: أن قوما يقولون: من ترك المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض، من غير جحود بها أنا لا نكفِّره، يرجى أمره إلى الله بعد؛ إذ هو مقر. فهؤلاء المرجئة الذين لاشك فيهم. ثم هم أصناف: منهم من يقول: نحن مؤمنون البتة، ولا يقول: عند الله، ويرون الإيمان قولا وعملا، وهؤلاء أمثلهم. وقوم يقولون: الإيمان قول، ويصدقه العمل، وليس العمل من الإيمان، ولكن العمل فريضة، والإيمان هو القول، ويقولون: حسناتنا متقبلة، ونحن مؤمنون عند الله، وإيماننا وإيمان جبريل واحد، فهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث أنهم المرجئة التي لعنت على لسان الأنبياء) (¬5). فهذه طائفة من المرجئة، كانت تقول: الإيمان قول وعمل، ولم تخرج بذلك من الإرجاء. إن القول بأن الإيمان قول وعمل، يعني إثبات أمرين لا نزاع فيهما بين أهل السنة: الأول: أنه لا يجزئ القول ولا يصح من دون العمل، وهذا مُصرح به من أئمة السلف، وعليه إجماعهم، ....... الثاني: أن الكفر يكون بالقول، والعمل، كما يكون بالاعتقاد والترك، على ما سبق بيانه بأدلته. فالمخالف في هذا، أو في بعضه، مخالف لأهل السنة، موافق للمرجئة، ولو ادعى غير ذلك. ¬

(¬1) السنة للخلال (3/ 582) رقم 1009 (¬2) شرح السنة، للبربهاري، ص (123). (¬3) ((ملحق الواسطية)) لعلوي بن عبد القادر السقاف، (ص265) مطبوع مع ((شرح الواسطية)) للهراس، وانظر: تحذير أهل العلم من الكتب الداعية للإرجاء، في ملاحق البحث. (¬4) ومن المرجئة من قال: (الإيمان يتبعض ويتفاضل أهله) وهذا مذهب أصحاب محمد بن شبيب، انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 218)، و ((مجموع الفتاوى)) (7/ 546). (¬5) ((مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه رواية حرب الكرماني)) (ص377).

ومثل هذا يقال فيمن قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ثم هو يكفِّر أهل الإسلام، ويستحل الدماء والأموال، فهو موافق للخوارج، مخالف لأهل السنة، ولو ادعى غير ذلك، فالعبرة بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، وإن كان اللفظ السني واجب الاتّباع في هذا الباب. وما ذكره إسحاق من غلو المرجئة، وزعمها إسلام تارك عامة الفرائض، هو ما يدندن حوله اليوم بعض المعاصرين، ويزعمون أنه قول السلف! والمقصود أنه يقع الخلط بين كلام أهل السنة، وكلام غيرهم، عند بعض الناس، فيأخذون من هذا ومن هذا، وقد يجمعون بين المتناقضات، ويخلطون بين المقالات، على غير بصيرة، فيكون من أقوالهم: 1 - الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، لكن الكفر لا يكون إلا بالقلب، دون البدن. 2 - الإيمان قول وعمل، وتارك العمل بالكلية - مع القدرة والتمكن - مسلم موحد. 3 - الإيمان قول وعمل، والكفر يكون بالقول والعمل، لكن لا يكفر المعين إلا إذا اعتقد الكفر، أو قصده، أو استحله، إلى غير ذلك من مقولات الجهل والتعالم، المخالفة لما عليه أهل العلم والسنة. قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله مشيرا إلى هذا التلفيق بين كلام أهل السنة، وكلام غيرهم: (وهناك فرقةٌ خامسة ظهرت الآن، وهُم الذين يقُولون إن الأعمال شرطٌ في كمال الإيمان الواجب، أو الكمال المُستحب) (¬1). وقال حفظه الله: (وهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن من قال كلمة الكفر، أو عمل الكفر، لا يكفر حتى يعتقد بقلبه ما يقول ويفعل. ومن يقول: إن الجاهل يعذر مطلقا، ولو كان بإمكانه أن يسأل ويتعلم، وهي مقالة ظهرت ممن ينتسبون إلى العلم والحديث في هذا الزمان) (¬2). وسئل حفظه الله: (هل تصح هذه المقولة: أن من قال الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص، فقد برئ من الإرجاء كله حتى لو قال: لا كفر إلا باعتقاد وجحود؟ فأجاب: هذا تناقض لأنه إذا قال: لا كفر إلا باعتقاد أو جحود، فهذا يناقض قوله: إن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح. لأنه إذا كان الإيمان قولًا باللسان، واعتقادًا بالجنان، وعملا بالجوارح، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فمعناه أن من تخلى عن الأعمال نهائيًا فإنه لا يكون مؤمنًا؛ لأن الإيمان مجموع هذه الأشياء ولا يكفي بعضها. والكفر ليس مقصورًا على الجحود، وإنما الجحود نوع من أنواعه، فالكفر يكون بالقول، وبالفعل، وبالاعتقاد، وبالشك، كما ذكر العلماء ذلك. وانظر باب: أحكام المرتد من كتب الفقه) (¬3). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 303 ¬

(¬1) ((التعليق المختصر على القصيدة النونية)) (2/ 647) وما بعدها، وقد سبق بتمامه، (ص: 14) (¬2) ((شرح كشف الشبهات)) (ص: 55). (¬3) ((مسائل في الإيمان)) أجاب عنها الشيخ صالح الفوزان، اعتنى بإخراجها الأخ عبد الرحمن بن محمد الهرفي (ص: 23).

المطلب الثالث: مقالات المرجئة المعاصرة

المطلب الثالث: مقالات المرجئة المعاصرة تأكيداً لما سبق من أن البدع تتطور، وتتخذ أشكالا وألوانا جديدة من الانحراف، ورغبةً في تحذير أهل الإيمان، من مقالات المرجئة الذين تلاعب بهم الشيطان، فقد رأيت أن أسرد من مقالاتهم ما هو موجود في هذه الأزمنة، مما جزم أهل العلم بأنه من كلام المرجئة، الذي خالفت به أهل السنة: 1 - الإيمان هو التصديق والإقرار، وهذا مذهب مرجئة الفقهاء، وإليه ذهب جماعة من الماتريدية والأشاعرة، وهو مقرر في كثير من المعاهد والجامعات. 2 - الإيمان هو التصديق فقط، وقول اللسان شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، فمن صدق بقلبه، ولم يأت به- من غير إباء- فهو مؤمن ناج عند الله، وهذا معتمد الأشاعرة والماتريدية، وهو أسوأ من قول مرجئة الفقهاء، كما لا يخفى، بل هو مذهب جهم على التحقيق، إلا أن متأخريهم يثبتون عمل القلب من الإذعان والانقياد، ويجعلونه نفس التصديق، كما سبق. 3 - الإيمان تصديق بالقلب، وعمل بالقلب، دون الجوارح، وهو قول عامة المرجئة، إلا جهما ومن وافقه، كما بين شيخ الإسلام. 4 - الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو قول المرجئة الأوائل، وبه يقول أكثر الماتريدية اليوم. 5 - الكفر هو التكذيب، والجحود، وليس شيء من الأقوال أو الأعمال كفرا بذاته، لكن من الأقوال والأعمال ما جعله الشرع علامة على الكفر. وهذا مذهب أبي الحسين الصالحي، وابن الراوندي، وبشر المريسي، وهو قول الأشاعرة والماتريدية، كما سبق (¬1). وأسوأ منه ما ذهب إليه بعض المعاصرين، من أنه لا يكفر من قال الكفر أو عمله، (لأن أولئك قالوا: بأن الفعل والقول يكون علامة على الكفر، بحيث يحكم عليه بالكفر لفعله أو قوله، في أحكام الدنيا دون أحكام الآخرة، وأما المتأخرون فلم يحكموا عليه بالكفر فيهما، مما يعني إبطال حد الردة. لكن قول هؤلاء المتأخرين أخف من قول المرجئة المتقدمين من وجه آخر، وهو إدخال العمل في مسمى الإيمان المطلق، فإن المرجئة الأوائل لا يدخلون العمل في مسمى الإيمان المطلق، وهؤلاء يدخلونه) (¬2). 6 - الكفر لا يكون إلا في القلب، لكنه لا ينحصر في التكذيب، بل يدخل فيه ما يناقض عمل القلب، كالاستكبار وعدم الخضوع، والاستخفاف والعداوة والبغض، وهذا قول بعض المرجئة، كأتباع يونس السمري، وأبي معاذ التومني (¬3). 7 - الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد، ويريدون بالاعتقاد: التكذيب، أو الاستحلال، فيرجع إلى قول الأشاعرة والماتريدية السابق. وهو من مقولات غلاة المتصوفة-أيضا- وينسجم مع قولهم: إن دعاء الأموات والذبح والنذر لهم لا يكون كفرا، إلا مع اعتقاد النفع والضر فيهم، استقلالا! 8 - الكفر يكون بالقول وبالفعل، لكن لا يكفر المعين إلا إذا اعتقد الكفر، وهذه حيلة ظاهرة على اشتراط الاعتقاد في التكفير، فلا فرق بين هذا وبين قولهم: الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد، وهو مذهب المرجئة، كما سبق؛ لأن اعتقاد الكفر كفرٌ في حد ذاته، ولو كان القول أو الفعل كفرا-عند هذا المخالف- لم يحتج إلى وجود مكفِّر آخر، وإلا كان ذكره عبثا، وهو قد جعله شرطا! ¬

(¬1) انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 214، 222). (¬2) ((حقيقة الإيمان وبدع الإرجاء في القديم والحديث)) د. سعد بن ناصر الشثري، (ص23). (¬3) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 214، 222).

9 - من سب الله تعالى، أو سب نبيه صلى الله عليه وسلم لا يكفر إلا إذا استحل ذلك. وإليه ذهب بعض الفقهاء كالقاضي أبي يعلى، (وإنما أوقع من وقع في هذه المهواة ما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين، وهم الجهمية الإناث، الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى، في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب وإن لم يقترن به قول اللسان، ولم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح) (¬1). 10 - اشتراط الاستحلال للتكفير بالمكفرات القولية والعملية، كسب الله، والسجود للصنم، ودعاء الأموات، وحقيقته حصر الكفر في الاعتقاد، وبيان ذلك، أن من قال هذا فقد جعل الأقوال والأعمال الكفرية، بمنزلة المعاصي، كالزنا وشرب الخمر، وجعل وجودها غير مؤثر في التكفير، بل المؤثر هو اعتقاد حلها، فآل الأمر إلى حصر الكفر في الاعتقاد. 11 - لا يكفر أحد إلا أن يقصد الكفر، ويريده، وينشرح صدره به، وهذا قول مخالف للكتاب والسنة والإجماع، كما سبق، ومؤداه حصر الكفر في القلب، وهو مذهب المرجئة. وقد يقول بعضهم: 12 - الكفر يكون بالقول وبالفعل، لكن من شروط التكفير: قصد الكفر، فيرجع إلى ما قبله، من غير شك؛ لأنه إن كان القول كفرا، في ذاته، لم يحتج إلى مكفِّر ثان، وهو قصد الكفر، أو إرادته. 13 - الكفر يكون بالقول أو الفعل، لكن من فعل ذلك لشهوة، أو لعرض من الدنيا: لم يكفر، وهذا كسابقه؛ لأن حقيقته اشتراط اعتقاد الكفر، أو قصده، وجعل ذلك هو الموجب للتكفير، وقد مضى بيان بطلان هذا القول. 14 - ترك العمل الظاهر بالكلية ليس كفرا، وهذا قول المرجئة- كما صرح سفيان، وإسحاق- وهو مبني على قولهم في نفي التلازم بين الظاهر والباطن وظنهم أن الإيمان يستقر في القلب، من غير أن يظهر أثره على الجوارح ... ، وقد حذرت اللجنة الدائمة للإفتاء من بعض الكتب التي ذهبت إلى الحكم بإسلام من ترك جميع العمل الظاهر، واعتبرت ذلك إخراجا للعمل من حقيقة الإيمان الشرعي، وأنه مذهب المرجئة. ومثله قولهم: 15 - عمل الجوارح شرط كمال للإيمان، وليس ركنا أو جزءا أو شرط صحة لإيمان القلب، وهذا مذهب الأشاعرة. 16 - عمل الجوارح ركن في الإيمان، لكن تاركه بالكلية- من غير عذر- مسلم تحت المشيئة. ولا فرق بين هذا وبين الذي قبله إلا في اللفظ، وقد حذرت اللجنة الدائمة من أحد الكتب التي تبنت ذلك، واعتبرته داعيا إلى مذهب المرجئة المذموم. 17 - ترك الصلاة ليس كفرا؛ لأن الكفر عمل قلب، وليس عمل بدن، أو لأن الكفر لا يكون إلا بالقلب، وهذا هو قول المرجئة، وأما من لم يكفر تارك الصلاة، اعتمادا على النظر في الأدلة، مع التسليم بأن الكفر يكون بالقول والفعل، فليس بمرجئ (¬2). تنبيه: ما سبق من أقوال المرجئة، قد يخفى أمره على بعض الناس، أو يوجد في زلات بعض المنسوبين إلى العلم، فيقلده فيه غيره، مع كراهته للإرجاء، وذمه للمرجئة، فلا يقال: إنَّ كلَّ من دان بشيء من هذا، فهو مرجئ بإطلاق، ولكن يقال: هذا القول قول المرجئة، والقائل به وافق المرجئة في كذا، أو دخلت عليه شبهة الإرجاء، وهو إن كان معذورا باجتهاد أو تأويل فالله يغفر له، وإن كان جاهلا لم تقم عليه الحجة، فلا يبدَّع ولا يفسَّق، بل يدعى إلى الحق، ويبين له الصواب، وهذا من الإنصاف والعدل الذي أمرنا به، ولذلك لم يقل أحد من أهل العلم- فيما بلغنا- إن القاضي أبا يعلى الحنبلي مرجئ، لموافقته المرجئة- في أحد قوليه- في اشتراط الاستحلال في كفر الساب، بل عُد ذلك منه زلة منكرة، وهفوة عظيمة (¬3)، غفر الله له. ومعلوم أن الفاضل لا تهدر حسناته لأجل خطأ وقع فيه، واعتبر في ذلك بما ذكره الذهبي عن أبي زرعة قال: (كنت عند أحمد بن حنبل، فذكر إبراهيم بن طهمان وكان متكئاً فجلس، وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فيتكأ، وقال أحمد: كان مرجئاً شديداً على الجهمية) (¬4). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 308 ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (3/ 960). (¬2) انظر: ((ملحق الواسطية)) لعلوي السقاف (ص263) فقد ذكر ثلاث عشرة جملة، من قال بها، فقد قال بالإرجاء، أو دخلت عليه شبهته. وانظر أيضا: ((حقيقة الإيمان وبدع الإرجاء في القديم والحديث)) (ص61). (¬3) ((الصارم المسلول)) (3/ 960). (¬4) ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 381).

المطلب الرابع: رد شبهات المرجئة قديما، ومن وقع في الإرجاء حديثا

المطلب الرابع: رد شبهات المرجئة قديماً، ومن وقع في الإرجاء حديثاً الشبهة الأولى: استشهادهم بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة. ويسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها. فقال له صلة: "ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار ثلاثاً)) (¬1). لقد فهم بعضهم من قول حذيفة رضي الله عنه لصلة بن زفر: (تنجيهم من النار) أن تارك العمل الظاهر كلية من غير عذر مؤمن ناقص الإيمان، وإن عاش حياته كلها لا يسجد لله سجدة، ولا يركع لله ركعة، ولا يؤدي زكاة، ولا صوماً، ولا حجا، ولا أي عمل من أعمال الجوارح، طالما وأنه يقول: (لا إله إلا الله)!! إنه لمن العجب العجاب أن يصدر ذلك ممن يتصدر لتدريس العقيدة والتوحيد، ويربي الشباب على منهج السلف – زعم - فنتج عن قوله التفلت من التكاليف الشرعية، وعدم أخذ الكتاب بقوة وجدية. وإنا لله وإنا إليه راجعون. فهذا الحديث لا يصلح دليلاً لمن استشهد به على نجاة تارك العمل الظاهر كلية، ولو فهم هذا المستشهد الحديث وتأمله، وراجع كلام أهل العلم فيه لاتضح له ذلك جلياً. فإن الحديث في حالة خاصة يعذر صاحبها إذا ترك العمل الظاهر؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول. ولهذا جاء في الحديث: ((يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوماً ولا حجا، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقولون لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا. فقال: ولا صوم ينجيهم من النار)). اهـ (¬2). ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (4049) والحاكم (4/ 520) (8460) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, قال ابن حجر ((فتح الباري)) (13/ 19): إسناده قوي, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (87): صحيح على شرط مسلم، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (303): صحيح. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 407، 408). والحديث رواه ابن ماجه (4049) بلفظ: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ..... )) من حديث حذيفة بن اليمان. قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 19): إسناده قوي. وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)) (3289)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (303).

وقال رحمه الله أيضاً: (وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: ((يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صياماً، ولا حجاً، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: "لا إله إلا الله")). فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم (لا إله إلا الله)؟ فقال: "تنجيهم من النار"). اهـ (¬1). وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (القسم الخامس: ما ورد مقيداً بحال يعذر فيها بترك الصلاة، كالحديث الذي رواه ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ... )) (¬2) الحديث. وفيه: ((وتبقى طوائف الناس)). فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار كانوا معذورين بترك شرائع الإسلام، لأنهم لا يدرون عنها، فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه، وحالهم تشبه من ماتوا قبل فرض الشرائع، أو قبل أن يتمكنوا من فعلها، كمن مات عقيب شهادته قبل أن يتمكن من فعل الشرائع، أو أسلم قبل العلم بالشرائع) (¬3). الشبهة الثانية: استشهادهم على ما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، والذي اشتهر بحديث البطاقة، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يصاح برجل من أمتي يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول الله عز وجل هل تنكر من هذا شيئاً فيقول: لا يا رب فيقول أظلمك كتبتي الحافظون ثم يقول ألك عندنا حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السلجات وثقلت البطاقة)) (¬4). قال محمد بن يحيى – شيخ ابن ماجه – (البطاقة: الرقعة. وأهل مصر يقولون للرقعة: بطاقة). احتج بعضهم بهذا الحديث على أن النجاة من النار يوم القيامة تكون باعتقاد القلب، ونطق اللسان، وإن خلا العبد من أي عمل من أعمال الجوارح. والجواب عن ذلك من خمسة أوجه: الوجه الأول: لابد من حمل هذا الحديث على من قالها مع النجاة من الشرك، وإلا فإنه لو قالها مع الشرك بالله تعالى لم تنفعه، - وهم متفقون مع أهل السنة في ذلك -. قال الله تعالى لخير خلقه وصفوة أنبيائه ورسله: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 165). (¬2) رواه ابن ماجه (4049) والحاكم (4/ 520) (8460) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, قال ابن حجر ((فتح الباري)): إسناده قوي (13/ 19) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (87): صحيح على شرط مسلم، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (303): صحيح. (¬3) ((حكم تارك الصلاة)) (ص: 25، 26). (¬4) رواه الترمذي (2639) وابن ماجه واللفظ له (4300) وأحمد (2/ 213) (6994) والحاكم (1/ 46) (9) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, قال الترمذي: حسن غريب, وكذا قال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490) , وحسنه الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 273) , وقال الألباني ((مشكاة المصابيح)) (5492): إسناده صحيح.

وهذا فهم من النصوص الأخرى غير حديث البطاقة، ومثله يقال في أعمال الجوارح، علماً بأن بعضها ركن في الإيمان، وبعضها من كماله الواجب وبعضها من تمامه المستحب. فلابد من جمع النصوص وضم بعضها إلى بعض ... الوجه الثاني: يقال لهم: أنتم توافقونا في أنه لابد من تصديق القلب الذي لا يصح إيمان قائل (لا إله إلا الله) إلا به، وهذا لم يذكر في حديث البطاقة أيضاً، ولكنه مأخوذ من الأدلة الأخرى، فلابد من حمل الحديث على حالة خاصة. الوجه الثالث: قولكم: (يكفي الاعتقاد والتلفظ للنجاة من الخلود في النار) لازمه أن تخرجوا عما أجمع عليه أهل السنة من أن الإيمان (قول وعمل واعتقاد)، إلى القول بأنه: (قول واعتقاد) فقط، أو القول بأنه: (قول وعمل واعتقاد، ولكن الأعمال شرط في كماله). وهل الأول إلا قول المرجئة، وهل الثاني إلا قول الأشاعرة والذين كم حذر السلف من بدعتهم؟!! (¬1). الوجه الرابع: لابد لمن أتى بـ (لا إله إلا الله) أن يقولها عن صدق ويقين وإخلاص، وكذا باقي الشروط المعروفة. وهذا أيضا لم يرد في الحديث، ولكنه فهم من النصوص الأخرى. ¬

(¬1) نقل بعضهم قول الاشاعرة في الإيمان، والبعض الآخر نقل قول المرجئة، والكل ينسبه إلى السلف!! وهذا ناشئ إما عن الجهل أو عن التلبيس.

الوجه الخامس: ليس في الحديث أن صاحب البطاقة المذكورة لم يأت بصلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج، بل فيه ما يدل على خلافه وأن الرجل المذكور له حسنات (¬1)، ففي الحديث يقول الله عز وجل: ((بلى، إن لك عندنا حسنات)) (¬2)، أما المحو بهذه البطاقة فإنه للكبائر (¬3). ¬

(¬1) تنبيه: ورد عند الإمام أحمد في ((المسند)) (6994) رواية: ((إن لك عندنا حسنة واحدة)). وليس في ذلك دليل لمن قال بنجاة تارك العمل الظاهر كلية بلا عذر – على فرض صحة الرواية -؛ وذلك لما سبق من الوجوه المذكورة، وما سيأتي إن شاء الله تعالى. بيد أنها رواية تفرد بها إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((التقريب)) (104): صدوق يغرب. (¬2) رواه الترمذي (2639) وابن ماجه واللفظ له (4300) وأحمد (2/ 213) (6994) والحاكم (1/ 46) (9) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, قال الترمذي: حسن غريب, وكذا قال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490) , وحسنه الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 273) , وقال الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (5492): إسناده صحيح. (¬3) مسألة: ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه تشترط التوبة لتكفير الكبائر، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها تغفر بالأعمال والحسنات، وإن لم تقع التوبة، قال رحمه الله وهو يتحدث عن أسباب زوال عقوبة الذنوب عن العبد: وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا: الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط، فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة، كما قد جاء في بعض الأحاديث: (ما اجتنبت الكبائر). فيجاب عن هذا بوجوه: أحدها: أن هذا الشرط جاء في الفرائض: كالصلوات الخمس، والجمعة، وصيام رمضان، وذلك أن الله تعالى يقول: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ *النساء: 31*، فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر، فإن الله سبحانه يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *الزلزلة: 7 - 8*. الثاني: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر كما في قوله: (غفر له وإن كان فر من الزحف)، وفي ((السنن)): (أتينا رسول الله في صاحب لنا قد أوجب فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار)، وفي ((الصحيحين)) في حديث أبي ذر: (وإن زنا وإن سرق). الثالث: أن قوله لأهل بدر ونحوهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). إن حمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. وساق رحمه الله وجهين آخرين، وأطال النفس في ذلك، فليرجع إليه في ((مجموع الفتاوى)) (1/ 489 - 498).

قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال، وأكثر الناس يقصرون في الحسنات حتى في نفس صلاتهم. فالسعيد منهم من يكتب له نصفها، وهم يفعلون السيئات كثيراً؛ فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء، والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر، كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما، عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيقال هل تنكر من هذا شيئاً فيقول لا يا رب، فيقول: لا ظلم عليك، فتخرج له بطاقة قدر الكف، فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فيقول: أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات فتوضع هذه البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات)) (¬1). فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة). اهـ (¬2). الشبهة الثالثة: استشهادهم بالنصوص المطلقة في دخول من شهد أن (لا إله إلا الله) الجنة: ومما استشهد به المرجئة قديماً، ومن وقع في الإرجاء حديثاً: 1 - قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48]. 2 - عن عثمان رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬3). 3 - وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فنفدت أزواد القوم حتى هم بنحر بعض حمائلهم، فقال عمر: يا رسول الله! لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها. ففعل، فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره، - قال مجاهد: ذو النواة بنواه – قلت – أبو صالح: الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه -: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء، فدعا عليها، حتى ملأ القوم أزودتهم، فقال عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد، غير شاك فيهما، إلا دخل الجنة)) (¬4). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2639) وابن ماجه واللفظ له (4300) وأحمد (2/ 213) (6994) والحاكم (1/ 46) (9) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, قال الترمذي: حسن غريب, وكذا قال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 490) , وحسنه الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 273) , وقال الألباني ((مشكاة المصابيح)) (5492): إسناده صحيح. (¬2) ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 218 - 220). (¬3) رواه مسلم (26) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (27) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

4 - وعن أبي هريرة أو عن أبي سعيد رضي الله عنهما – شك الأعمش – قال: ((لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، قالوا: يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا. قال: فجاء عمر فقال: يا رسول الله! إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: يجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله عليه بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)) (¬1). 5 - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء)) (¬2). 6 - وعن الصنابحي، أنه قال: دخلت على عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو في الموت، فبكيت، فقال: مهلاً، لم تبكي؟ فوالله! لئن استشهدت لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك، ثم قال: والله! ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه، إلا حديثاً واحداً، وسوف أحدثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، حرم الله عليه النار)) (¬3). 7 - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: ((يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على العباد قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة، قال: يا معاذ بن جبل قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم)) (¬4). 8 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((قيل يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)) (¬5). 9 - وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ... فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)) (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (27) من حديث أبي هريرة أو أبي سعيد رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (3435) ومسلم واللفظ له (28) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (29) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6500) ومسلم (30) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (99) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (425) , ومسلم (33) من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه.

ووجه الدلالة عند هؤلاء من هذه النصوص، - ونحوها من النصوص العامة – أن عمومها يدل على أنه لا يخلد في النار إلا المشرك، ولم يذكر في هذه النصوص أن تارك العمل من المخلدين في النار، وأن بعض هذه الأدلة علق السعادة والشفاعة لأهل كلمة (لا إله إلا الله)، ولم يذكر فيها العمل، وأن العصمة تكون لأهل كلمة التوحيد دون تعرض للعمل، وأن بعض الأحاديث فرق بين شهادة لا إله إلا الله والعمل، مما يدل على المغايرة ... وغير ذلك من أقوالهم. الجواب عن استشهادهم بهذه الأدلة: 1 - (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة كقوله: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، أدخله الله الجنة). ونحو ذلك من النصوص) (¬1). 2 - قال الشيخ العلامة حمد بن علي بن محمد بن عتيق رحمه الله معلقاً على حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه السابق: ((من شهد أن لا إله إلا الله)) أي من شهد أن لا معبود بحق إلا الله، وقام بوظائف هذه الكلمة من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله، وتبرأ من كل المعبودات سواه، سواء كان ذلك المعبود نبياً أو غيره، وأن محمداً عبده ورسوله الصادق المصدوق، أفضل الرسل، فهو عبد الله ورسوله، أوجب الله تعالى على الخلق طاعته، ونهى عن عبادته، وأمر بإخلاص العبادة لله بجميع أنواعها، كما قال: وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء: 36]. وليس المراد أن الإنسان إذا شهد بهذا من غير عمل بمقتضاه يحصل له دخول الجنة، بل المراد به الشهادة لله بالتوحيد، والعمل بما تقتضيه شهادة أن لا إله إلا الله، من الإخلاص، وما تقتضيه شهادة أن محمداً عبده ورسوله، من الإيمان به، وتصديقه، وأتباعه) (¬2). وقال رحمه الله أيضاً عند تعليقه على حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه السابق: (قوله: ((يبتغي بذلك وجه الله)) كقوله: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، حرم الله عليه النار)) (¬3)، ونحوه، وكالأحاديث التي فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة. قال شيخ الإسلام وغيره: هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة، وقالها مخلصاً من قلبه، مستيقناً بها قلبه، غير شاك فيها بصدق ويقين. فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة، فمن شهد: أن لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله أن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك. وقال الحسن: معنى هذه الأحاديث: من قال هذه الكلمة، وأدى حقها وفريضتها. وقيل إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك، وهذا قول البخاري. وقال ابن المسيب: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 613، 614). (¬2) ((إبطال التنديد باختصار كتاب التوحيد)) (ص: 21). (¬3) رواه البخاري (425) , ومسلم (33) من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه.

قال بعض المحققين: قد يتخذ أمثال هذه الأحاديث البطلة والمباحية ذريعة إلى طرح التكاليف، ورفع الأحكام، وإبطال الأعمال، معتقدين أن الشهادة وعدم الإشراك كاف، وربما يتمسك بها المرجئة، وهذا الاعتقاد يستلزم طيَّ بساط الشريعة، وإبطال الحدود والزواجر السمعية. ويوجب أن يكون التكليف بالترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي والجنايات غير متضمن طائلاً، بل يقتضي الانخلاع عن ربقة الدين والملة، والانسلال عن قيد الشريعة والحكمة والسنة، والولوج في الخبط والخروج عن الضبط). اهـ (¬1). وقال: النطق بالشهادتين دليل على العصمة لا أنه عصمة، أو يقال: هو العصمة لكن بشرط العمل. اهـ (¬2). ¬

(¬1) ((إبطال التنديد باختصار كتاب التوحيد)) (ص: 23، 24). (¬2) ((إبطال التنديد باختصار كتاب التوحيد)) (ص: 24).

3 - قال فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى: (ليس المقصود قول: (لا إله إلا الله) باللسان فقط من غير فهم لمعناها، لابد أن تتعلم ما معنى (لا إله إلا الله)، أما إذا قلت وأنت لا تعرف معناها، فإنك لا تعتقد ما دلت عليه، فكيف تعتقد شيئاً تجهله، فلابد أن تعرف معناها حتى تعتقده، تعتقد بقلبك ما يلفظ به بلسانك، فلازم أن تتعلم معنى (لا إله إلا الله). أما مجرد نطق اللسان من غير فهم لمعناها فهذا لا يفيد شيئاً. أيضاً لا يكفي الاعتقاد بالقلب ونطق اللسان، بل لابد من العمل بمقتضاها، وذلك بإخلاص العبادة لله، وترك عبادة من سواه سبحانه وتعالى، فـ (لا إله إلا الله) كلمة نطق وعلم وعمل، ليست كلمة لفظ فقط. أما المرجئة فهم يقولون: يكفي التلفظ بـ (لا إله إلا الله)، أو يكفي التلفظ بها مع اعتقاد معناها، والعمل ليس بلازم، من قالها ولو لم يعمل شيئاً من لوازمها من أهل الجنة، ولو لم يصل، ولم يزك، ولم يحج، ولم يصم، ولو فعل الفواحش والكبائر والزنا والسرقة وشرب الخمر، وفعل ما يريد من المعاصي، وترك الطاعات كلها؛ لأنه تكفيه (لا إله إلا الله) عندهم، هذا مذهب المرجئة، الذين يخرجون العمل من حقيقة الإيمان ويعتبرون العمل إذا جاء فبها ونعمت، وإن لم يجئ فإنها تكفي (لا إله إلا الله) عندهم، ويستدلون بأحاديث تفيد أن من قال: (لا إله إلا الله)، دخل الجنة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما اقتصر على هذه الأحاديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم له أحاديث أخرى تقيد هذه الأحاديث، ولابد من أن تجمع بين كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بعضه إلى بعض لا أن تأخذ منه طرفا وتترك طرفا لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضا، أما الذي يأخذ طرفاً ويترك، طرفاً فإنه من أهل الزيغ الذين يتبعون: مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7]. الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من قال: ((لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله)) (¬1). وهذا حديث صحيح، فلماذا غفلتم عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)) (¬2)، أما الذي يقول (لا إله إلا الله)، ولا يكفر بما يعبد من دون الله، ويدعو الأولياء والصالحين، فإن هذا لا تنفعه (لا إله إلا الله)؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضاً، ويقيد بعضه بعضاً فلا تأخذ بعضه وتترك بعضه، والله سبحانه وتعالى يقول: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران: 7] يأخذون الذي يصلح لهم، ويتركون الذي لا يصلح لهم، ويقولون: استدللنا بالقرآن. نقول: ما استدللتم بالقرآن، فالقرآن إذا قال كذا فقد قال كذا، فلماذا تأخذون بعضه وتتركون بعضاً؟ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]، المحكم والمتشابه، فيردون المتشابه إلى المحكم، ويفسرونه به ويقيدونه به، ويفضلونه، أما إنهم يأخذون المتشابه ويتركون المحكم فهذه طريقة أهل الزيغ. فالذين يأخذون بحديث أن من قال: ((لا إله إلا الله دخل الجنة))، ويقتصرون على هذا، ولا يوردون الأحاديث الواضحة التي فيها القيود، وفيها التفصيل، فهؤلاء أهل زيغ. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (23) من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33) من حديث عتبان بن مالك رضي الله تعالى عنه.

فيجب على طالب العلم أن يعرف هذه القاعدة العظيمة؛ لأنها هي جماع الدين وأساس الملة. ليس المقصود أنك تأخذ آية أو حديثاً وتترك غيره، بل المقصود أنك تأخذ القرآن كله، وتأخذ السنة كلها، وكذلك كلام أهل العلم. العالم إذا قال كلاماً لا تأخذه وحده حتى ترده إلى كلامه الكامل، وتتبع كلامه في مؤلفاته؛ لأنه يقيد بعضه بعضاً؛ لأنهم على سنن كتاب الله وسنة رسوله، فترد المطلق إلى المقيد من كلامهم، فطالب العلم يجب عليه أن يأخذ هذه القاعدة معه دائماً، ويحذر من طريقة أهل الزيغ الذين يأخذون الذي يصلح لهم من الكتاب، ومن السنة، ومن كلام أهل العلم، ويبترون النقول، ويتركون باقي الكلام، أو يتركون الكلام الثاني الذي يوضحه، ويأخذون الكلام المشتبه ويتركون الكلام البين، كثير من الذين يدعون العلم غفلوا عن هذا الشيء، إما عن قصد التضليل، وإما عن جهل، فيجب معرفة هذه الأمور، وأن تكون أصولاً وقواعد عند طالب العلم). اهـ (¬1). 4 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن قيل: فقد روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)) (¬2). متفق عليه. ¬

(¬1) ((سلسلة شرح الرسائل)) ((تفسير كلمة التوحيد)) (ص: 135 - 139). (¬2) رواه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

قلنا: هذا الخبر قد روي فيه ((حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ثم قد حرم دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله)). رواه ابن ماجه وابن خزيمة في (صحيحة) (¬1). فهذا المقيد يقضي على ذلك المطلق، ثم لو كان قد قيل مفرداً، فإن الصلاة والزكاة من حقها، كما قال الصديق لعمر ووافقه عمر وسائر الصحابة على ذلك، ويكون صلى الله عليه وسلم قد قال كلا من الحديثين في وقت، فقال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (¬2)؛ ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها وجب الكف عنه، وصار دمه وماله معصوماً، ثم بين في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين؛ ليعلم أن تمام العصمة وكمالها إنما تحصل لذلك، ولئلا تقع الشبهة؛ فإن مجرد الإقرار لا يعصم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة حتى طلاها الصديق ثم وافقه، وتكون فائدة ذلك أنه إذا قال (لا إله إلا الله) كان قد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت، وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار ((أن رجلاً من الأنصار حدثه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فساره فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، فقال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله قال: بلى ولا شهادة له، قال: أليس يصلي قال: بلى ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم)) (¬3). رواه الشافعي، وأحمد في (مسنديهما). ولو كانت الشهادتان موجبة للعصمة مع ترك الصلاة لم يسأل عنها، ولم يسقها مع الشهادتين مساقاً واحداً. وقوله بعد ذلك: ((أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم)). يوجب حصر الذين نهي عن قتلهم في هذا الصنف. وعن أبي سعيد في حديث الخوارج، فقال ذو الخويصرة التميمي للنبي صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله، اتق الله. فقال: ويلك، ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال: لا، لعله أن يكون يصلي. قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم)) رواه مسلم (¬4)، فلما نهى عن قتله وعلل ذلك باحتمال صلاته علم أن ذلك هو الذي حقن دمه لا مجرد الإقرار بالشهادتين؛ فإنه قد قال: يا رسول الله، ومع هذا لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وحده موجبا لحقن الدم. وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فقالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم فقال لا، ما صلوا)) رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. ولأن الصلاة أحد مباني الإسلام الخمسة فيقتل تاركها كالشهادتين. ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (3927) وابن خزيمة (2248) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. (¬2) رواه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. (¬3) رواه مالك في الموطأ (1/ 171) (413) وأحمد (5/ 432) (23720) والشافعي في مسنده (1/ 320) (1496) وابن حبان في صحيحه (13/ 309) (5971) من حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء رضي الله تعالى عنه. قال الذهبي (المهذب) (3/ 1295): جيد الإسناد من أمالي عبد الرزاق ولم يخرجوه في الستة وقال العراقي (طرح التثريب) (2/ 145): إسناده صحيح وقال الهيثمي (مجمع الزوائد) (1/ 29): رجاله رجال الصحيح. (¬4) رواه البخاري (4351) , ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

اهـ (¬1). وقال رحمه الله أيضا: (وهذه المسألة (¬2) لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. والثاني: في إثبات الكفر الباطن. فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42] (¬3). الشبهة الرابعة: قولهم: الإيمان لغة هو التصديق، وهو باق على معناه اللغوي لم ينقل عنه، فوجب أن يكون كذلك في الشرع. قال العلامة محمد بن نصر المروزي رحمه الله مبينا أن هذا من حجج المرجئة: (ومن أعظم حجج المرجئة التي يقولون بها عند أنفسهم: اللغة، وذلك أنهم زعموا أن الإيمان لا يعرف في اللغة إلا بالتصديق، وزعم بعضهم أن التصديق لا يكون إلا بالقلب، وقال بعضهم: لا يكون إلا بالقلب واللسان، وقد وجدنا العرب في لغتنا تسمي كل عمل حققت به عمل القلب واللسان: تصديقاً). اهـ (¬4). الجواب عن هذه الشبهة من أربعة أوجه، كلها لفارس الميدان، وبطل المضمار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. 1 - رده رحمه الله على من يرى أن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق بما يشفي صدور المؤمنين، ويزيل شبهة المبتدعين والمغرورين، وسوف أنقل كلامه بطوله لأهميته: قال رحمه الله: (وليس لفظ الإيمان مرادفاً للفظ التصديق كما يظنه طائفة من الناس، فإن التصديق يستعمل في كل خبر، فيقال: لمن أخبر بالأمور المشهورة مثل: الواحد نصف الاثنين، والسماء فوق الأرض، مجيبا: صدقت، وصدقنا بذلك، ولا يقال: آمنا لك، ولا آمنا بهذا، حتى يكون المخبر به من الأمور الغائبة، فيقال للمخبر: آمنا له، وللمخبر به: آمنا به، كما قال إخوة يوسف: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17]، أي: بمقر لنا، ومصدق لنا؛ لأنهم أخبروه عن غائب، ومنه قوله تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111]، وقوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61]، وقوله: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 47]، وقوله تعالى: وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان: 21]، وقوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83]، أي أقر له. وذلك أن الإيمان يفارق التصديق، أي: لفظا ومعنى، فإنه أيضا يقال: صدقته، فيتعدى بنفسه إلى المصدق، ولا يقال: أمنته إلا من الأمان الذي هو ضد الإخافة، بل آمنت له، وإذا ساغ أن يقال: ما أنت بمصدق لفلان، كما يقال: هل أنت مصدق له؛ لأن الفعل المتعدي بنفسه إذا قدم مفعوله عليه، أو كان العامل اسم فاعل ونحوه مما يضعف عن الفعل، فقد يعدونه باللام تقوية له، كما يقال: عرفت هذا، وأنا به عارف، وضربت هذا، وأنا له ضارب، وسمعت هذا ورأيته، وأنا له سامع وراء، كذلك يقال: صدقته، وأنا له مصدق، ولا يقال صدقت له به، وهذا خلاف آمن، فإنه لا يقال إذا أردت التصديق: آمنته كما يقال: أقررت له، ومنه قوله: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فهذا فرق في اللفظ. ¬

(¬1) رواه مسلم (1854) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (¬2) المراد: مسالة حكم تارك الأركان الأربعة. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 611). (¬4) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 716).

الفرق الثاني: ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة، ونحوها مما يدخلها الريب. فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق، فإنه عام متناول لجميع الأخبار. وأما المعنى: فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من: قر، يقر، وهو قريب من آمن، يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره والكاذب بخلاف ذلك، كما يقال: الصدق طمأنينة, والكذب ريبة، فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين: أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما، وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار. والثاني: إنشاء الالتزام، كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]، وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد؛ فإنه سبحانه قال: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]، فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول، وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر لا يقال فيه: آمن له، بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر. والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له، وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمنا للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد؛ فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين. وأيضا: فلفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الإخبار، فإن التصديق إخبار بصدق المخبر، والتكذيب إخبار بكذب المخبر، فقد يصدق الرجل الكاذب تارة، وقد يكذب الرجل الصادق أخرى، فالتصديق والتكذيب نوعان من الخبر، وهما خبر عن الخبر. فالحقائق الثابتة في نفسها التي قد تعلم بدون خبر لا يكاد يستعمل فيها لفظ التصديق والتكذيب إن لم يقدر يخبر عنها، بخلاف الإيمان, والإقرار, والإنكار, والجحود ونحو ذلك، فإنه يتناول الحقائق والإخبار عن الحقائق أيضا). اهـ (¬1) (¬2). 2 - رد شيخ الإسلام على من ادعى الإجماع على أن الإيمان لغة هو التصديق: قال رحمه الله: وللجمهور من أهل السنة وغيرهم عن هذا أجوبة: أحدها: (قول من ينازعه في أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق، ويقول: هو بمعنى الإقرار وغيره. والثاني: قول من يقول: وإن كان في اللغة هو التصديق، فالتصديق يكون بالقلب, واللسان, وسائر الجوارح، كما قال النبي: ((والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (¬3). ¬

(¬1) هذا تأصيل نفيس، وقياس بديع، يسطر بماء العيون، فرحم الله أبا العباس، ولله دره من إمام، نصر الله به الملة، وقمع به البدعة، فهل سيفقه كلامه من تخبط في بدعة الإرجاء؟!! (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 529 – 532). (¬3) رواه البخاري (6612) ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والثالث: أن يقال: ليس هو مطلق التصديق، بل هو تصديق خاص، مقيد بقيود اتصل اللفظ بها، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص وصفه وبينه. والرابع: أن يقال: وإن كان هو التصديق، فالتصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. ونقول: إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى. الخامس: قول من يقول: أن اللفظ باق على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً. السادس: قول من يقول: أن الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية مجاز لغوي. السابع: قول من يقول: أنه منقول. فهذه سبعة أقوال: الأول: قول من ينازع في أن معناه في اللغة التصديق، ويقول: ليس هو التصديق بل بمعنى الإقرار وغيره. قوله: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق. فيقال له: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين يعلم هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟ الثاني: أن يقال: أتعني بأهل اللغة نقلتها، كأبي عمرو، والأصمعي، والخليل ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ فإن عنيت الأول، فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب وغير ذلك بالإسناد، ولا نعلم فيما نقوله لفظ الإيمان، فضلاً عن أن يكونوا أجمعوا عليه، وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام، فهؤلاء لم نشهدهم، ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك. الثالث: أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا الإيمان في اللغة هو التصديق، بل ولا عن بعضهم، وإن قدر أنه قاله واحد أو اثنان فليس هذا إجماعاً. الرابع: أن يقال هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا عنى هذا اللفظ كذا وكذا، وإنما ينقلون الكلام المسموع من العرب، وأنه يفهم منه كذا وكذا، وحينئذ فلو قدر أنهم نقلوا كلاماً عن العرب يفهم منه أن الإيمان هو التصديق، لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي، وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يدره، فظن هؤلاء ذلك فيما ينقلونه عن العرب أولى. الخامس: أنه لو قدر أنهم قالوا: هذا فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن أنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق؟ فإن قيل: هذا يقدح في العلم باللغة قبل نزول القرآن، قيل: فليكن، ونحن لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن، والقرآن نزل بلغة قريش، والذين خوطبوا به كانوا عرباً، وقد فهموا ما أريد به، وهم الصحابة، ثم الصحابة بلغوا لفظ القرآن ومعناه إلى التابعين، حتى انتهى إلينا فلم يبق بنا حاجة إلى أن تتواتر عندنا تلك اللغة من غير طريق تواتر القرآن، لكن لما تواتر القرآن لفظاً ومعنى، وعرفنا أنه نزل بلغتهم، عرفنا أنه كان في لغتهم لفظ السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر ونحو ذلك، على ما هو معناها في القرآن، وإلا فلو كلفنا نقلاً متواتراً لآحاد هذه الألفاظ من غير القرآن لتعذر علينا ذلك في جميع الألفاظ، لاسيما إذا كان المطلوب أن جميع العرب كانت تريد باللفظ هذا المعنى، فإن هذا يتعذر العلم به، والعلم بمعاني القرآن ليس موقوفاً على شيء من ذلك، بل الصحابة بلغوا معاني القرآن كما بلغوا لفظه، ولو قدرنا أن قوماً سمعوا كلاماً أعجمياً وترجموه لنا بلغتهم، لم نحتج إلى معرفة اللغة التي خوطبوا بها أولاً.

السادس: أنه لم يذكر شاهداً من كلام العرب على ما ادعاه عليهم، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان يؤمن بعذاب القبر، وفلان لا يؤمن بذلك، ومعلوم أن هذا ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، بل هو مما تكلم الناس به بعد عصر الصحابة، لما صار من الناس أهل البدع يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر، ومرادهم بذلك هو مرادهم بقوله: فلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان لا يؤمن بذلك، والقائل لذلك وإن كان تصديق القلب داخلاً في مراده فليس مراده ذلك وحده، بل مراده التصديق بالقلب واللسان، فإن مجرد تصديق القلب بدون اللسان لا يعلم حتى يخبر به عنه. السابع: أن يقال: من قال ذلك فليس مراده التصديق بما يرجى ويخاف بدون خوف ولا رجاء، بل يصدق بعذاب القبر ويخافه، ويصدق بالشفاعة ويرجوها، وإلا فلو صدق بأنه يعذب في قبره ولم يكن في قلبه خوف من ذلك أصلا لم يسموه مؤمناً به، كما أنهم لا يسمون مؤمناً بالجنة والنار إلا من رجا الجنة وخاف النار، دون المعرض عن ذلك بالكلية مع علمه بأنه حق، كما لا يسمون إبليس مؤمناً بالله وإن كان مصدقا بوجوده وربوبيته، ولا يسمون فرعون مؤمناً وإن كان عالما بأن الله بعث موسى، وأنه هو الذي أنزل الآيات وقد استيقنت بها أنفسهم مع جحدهم لها بألسنتهم، ولا يسمون اليهود مؤمنين بالقرآن والرسول وإن كانوا يعرفون أنه حق كما يعرفون أبناءهم. فلا يوجد قط في كلام العرب أن من علم وجود شيء مما يخاف ويرجى، ويجب حبه وتعظيمه، وهو مع ذلك لا يحبه, ولا يعظمه, ولا يخافه, ولا يرجوه، بل يجحد به ويكذب به بلسانه، أنهم يقولون هو مؤمن، بل ولو عرفه بقلبه وكذب به بلسانه لم يقولوا: هو مصدق به، ولو صدق به مع العمل بخلاف مقتضاه لم يقولوا: هو مؤمن به، فلا يوجد في كلام العرب شاهد واحد يدل على ما ادعوه، وقوله: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، فإن هذا استدلال بالقرآن وليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة هذا المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر كما بسطناه في موضعه. الوجه الثامن: قوله: لا يعرفون في اللغة إيماناً غير ذلك، من أين له هذا النفي الذي لا تمكن الإحاطة به؟! بل هو قول بلا علم. التاسع: قول من يقول: أصل الإيمان مأخوذ من الأمن كما ستأتي أقوالهم إن شاء الله، وقد نقلوا في اللغة الإيمان بغير هذا المعنى، كما قاله الشيخ أبو البيان في قول. الوجه العاشر: أنه لو فرض أن الإيمان في اللغة التصديق، فمعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء، بل بشيء مخصوص، وهو ما أخبر به الرسول، وحينئذ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة، ومعلوم أن الخاص ينضم إليه قيود لا توجد في جميع العام، كالحيوان إذا أخذ بعض أنواعه وهو الإنسان، كان فيه المعنى العام ومعنى اختص به، وذلك المجموع ليس هو المعنى العام. فالتصديق الذي هو الإيمان أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص من غير تغيير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان وأنه ناطق.

الوجه الحادي عشر: أن القرآن ليس فيه ذكر مطلق غير مفسر. بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد وإما مطلق مفسر، فالمقيد كقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]، وقوله: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: 83] والمطلق المفسر كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2]، وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] ونحو ذلك، وقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]، وأمثال هذه الآيات. وكل إيمان مطلق في القرآن فقد يبين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمناً إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين في القرآن أن الإيمان لابد فيه من عمل مع التصديق كما ذكر مثل ذلك في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج. فإن قيل: تلك الأسماء باقية، ولكن ضم على المسمى أعمالاً في الحكم لا في الاسم، كما يقوله القاضي أبو يعلى وغيره، قيل: إن كان هذا صحيحاً قيل مثله في الإيمان، وقد أورد هذا السؤال لبعضهم ثم لم يجب عنه بجواب صحيح، بل زعم أن القرآن لم يذكر فيه ذلك، وليس كذلك، بل القرآن والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق، وهذا في القرآن أكثر بكثير من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة وإجماع السلف.

الثاني عشر: أنه إذا قيل: أن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فإنما خاطبهم بلغتهم المعروفة، وقد جرى عرفهم أن الاسم يكون مطلقاً وعاماً، ثم يدخل فيه قيد أخص من معناه، كما يقولون: ذهب إلى القاضي والوالي والأمير يريدون شخصا معينا يعرفونه، دلت عليه اللام مع معرفتهم به، وهذا الاسم في اللغة اسم جنس لا يدل على خصوص شخص، وأمثال ذلك. فكذلك الإيمان والصلاة والزكاة، إنما خاطبهم بهذه الأسماء بلام التعريف، وقد عرفهم قبل ذلك أن المراد الإيمان الذي صفته كذا وكذا، والدعاء الذي صفته كذا وكذا، فبتقدير أن يكون في لغتهم التصديق، فإنه قد بين أنه لا يكتفي بتصديق القلب واللسان، فضلاً عن تصديق القلب وحده، بل لابد أن يعمل بموجب ذلك التصديق، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تؤمنون حتى تكونوا كذا)) وفي قوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: 81]، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، كقوله عليه السلام: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (¬1)، وقوله: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) (¬2) وأمثال ذلك. فقد بيَّن لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجل مؤمنا إلا به هو أن يكون تصديقا على هذا الوجه، وهذا بيِّنٌ في القرآن والسنة من غير تغيير للغة، ولا نقل لها. الثالثة عشر: أن يقال: بل نقل وغُيِّرَ، قوله: لو نقل لتواتر، قيل: نعم، وقد تواتر أنه أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج معانيها المعروفة، وأراد بالإيمان ما بينه بكتابه وسنة رسوله، من أن العبد لا يكون مؤمنا إلا به، كقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ وهذا متواتر في القرآن والسنن، ومتواتر أيضاً أنه لم يكن يحكم لأحد بحكم الإيمان إلا أن يؤدي الفرائض، ومتواتر عنه أنه أخبر أنه من مات مؤمنا دخل الجنة ولم يعذب، وأن الفساق لا يستحقون ذلك بل هم معرضون للعذاب، فقد تواتر عنه من معاني اسم الإيمان وأحكامه ما لم يتواتر عنه في غيره، فأي تواتر أبلغ من هذا؟ وقد توفرت الدواعي على نقل ذلك وإظهاره ولله الحمد. ولا يقدر أحد أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً يناقض هذا، لكن أخبر أنه يخرج منها من كان معه شيء من الإيمان، ولم يقل: إن المؤمن يدخلها، ولا قال: إن الفساق مؤمنون، لكن أدخلهم في مسمى الإيمان في مواضع، كما أدخل المنافقين في اسم الإيمان في مواضع مع القيود، وأما الاسم المطلق الذي وعد أهله بالجنة فلم يدخل فيه لا هؤلاء ولا هؤلاء. ¬

(¬1) رواه البخاري (2475) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم بلفظ (لا يدخل الجنة) (46) ورواه أحمد (2/ 288) (7865) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الوجه الرابع عشر: قوله: ولا وجه للعدول بالآيات التي تدل على أنه عربي عن ظاهرها، فيقال له: الآيات التي فسرت المؤمن, وسلبت الإيمان عمن لم يعمل أصرح وأبين وأكثر من هذه الآيات، ثم إذا دلت على أنه عربي فما ذكر لا يخرجه عن كونه عربيا؛ ولهذا لما خاطبهم بلفظ الصلاة والحج وغير ذلك لم يقولوا: هذا ليس بعربي، بل خاطبهم باسم المنافقين، وقد ذكر أهل اللغة أن هذا الاسم لم يكن يعرف في الجاهلية، ولم يقولوا: أنه ليس بعربي؛ لأن المنافق مشتق من نفق إذا خرج، فإذا كان اللفظ مشتقاً من لغتهم وقد تصرف فيه المتكلم به كما جرت عادتهم في لغتهم، لم يخرج ذلك عن كونه عربيا. الوجه الخامس عشر: أنه لو فرض أن هذه الألفاظ ليست عربية، فليس تخصيص عموم هذه الألفاظ بأعظم من إخراج لفظ الإيمان عما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، فإن النصوص التي تنفي الإيمان عمن لا يحب الله ورسوله، ولا يخاف الله ولا يتقيه، ولا يعمل شيئاً من الواجب، ولا يترك شيئا من المحرم، كثيرة صريحة، فإذا قدر أنه عارضها آية، كان تخصيص اللفظ القليل العام أولى من رد النصوص الكثيرة الصريحة. السادس عشر: أن هؤلاء واقفة في ألفاظ العموم، لا يقولون بعمومها، والسلف يقولون: الرسول وقفنا على معاني الإيمان، وبيَّنه لنا، وعلمنا مراده منه بالاضطرار، وعلمنا من مراده علما ضرورياً أن من قيل: أنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى، ولا صام، ولا أحب الله ورسوله، ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للرسول، معادياً له، يقاتله، أن هذا ليس بمؤمن). اهـ (¬1). 3 - وقال رحمه الله أيضا: (وأما المقدمة الثانية فيقال: إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق، فقولهم أن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان عنه جوابان: أحدهما: المنع، بل الأفعال تسمى تصديقاً، كما ثبت في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني، وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (¬2)، وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف. قال الجوهري: والصِّدِّيقُ مثال الفِّسِّيقِ، الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وهذا مشهور عن الحسن، يروى عنه من غير وجه، كما رواه عباس الدوري: حدثنا حجاج، حدثنا أبو عبيدة الناجي، عن الحسن قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال)، من قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله، ومن قال حسنا وعمل صالحاً رفعه العمل، ذلك بأن الله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ [فاطر: 10]. ورواه ابن بطة من الوجهين: وقوله: ليس الإيمان بالتمني, يعني الكلام، وقوله: بالتحلي, يعني أن يصير حلية ظاهرة له، فيظهره من غير حقيقة من قلبه، ومعناه ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم). اهـ (¬3). ¬

(¬1) ((الإيمان)) (ص: 116 - 125). (¬2) رواه البخاري (6612) ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 293، 294).

4 - وقال رحمه الله أيضاً: (فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته. وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره، فيصدق القلب أخباره تصديقاً يوجب حالاً في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو من نوع العلم والقول. وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين. فمن ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين وإن كان مصدقاً، فالكفر أعم من التكذيب. يكون تكذيباً وجهلاً، ويكون استكباراً وظلماً، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب. ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس، وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل، ألا ترى أن نفراً من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء، فأخبرهم، فقالوا: نشهد أنك نبي ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق، ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله، وقد تضمنت خبرا وأمرا، فإنه يحتاج إلى مقام ثان، وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله. فإذا قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره، فإذا قال: (وأشهد أن محمداً رسول الله) تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار. فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين – وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول – ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان، وغفل عن أن الأصل الآخر لابد منه وهو الانقياد، وإلا فقد يصدق الرسول ظاهراً وباطناً ثم يمتنع من الانقياد للأمر، إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى – كإبليس -. وهذا مما يبين لك أن الاستهزاء بالله ورسوله ينافي الانقياد له، والطاعة منفاة ذاتية، وينافي التصديق بطريق الاستلزام؛ لأنه ينافي موجب التصديق ومقتضاه، ويمنعه عن حصول ثمرته مقصوده. لكن الإيمان بالرسول إنما يعود أصله إلى التصديق فقط؛ لأنه مبلغ لخبر الله وأمره، لكن يستلزم الانقياد له؛ لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته، فصار الانقياد له من تصديقه في خبره، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه، وكلاهما كفر صريح). اهـ (¬1). فهذا واضح جلي في أن الإقرار والانقياد لازم للتصديق القلبي، فهل سيعقل ذلك من نقل عن شيخ الإسلام رحمه الله خلافه؟!! الشبهة الخامسة: قالوا: إن الله تعالى خاطب المؤمنين باسم الإيمان قبل وجود الأعمال، فدل ذلك على تحقيق الإيمان بدونها. الجواب عن هذه الشبهة: قد أجاب عن هذه الشبهة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: الجواب عن قولهم: خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال، فنقول: يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين، ولهذا قال تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97] ولهذا لم يجيء ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وفد عبد القيس، وحديث الرجل النجدي الذي يقال له: ضمام بن ثعلبة وغيرهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل؛ وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد، وسنذكر إن شاء الله متى فرض الحج. ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (3/ 967 – 969).

وكذلك قولهم: من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمناً فصحيح؛ لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد). اهـ (¬1). وقال رحمه الله أيضاً: (وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة؛ لأنها لوازم ما في القلب، لأنه متى ثبت الإيمان في القلب، والتصديق بما أخبر به الرسول، وجب حصول مقتضى ذلك ضرورة، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه البتة، فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر، ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: 81]، وقوله: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] الآية ونحوها. فالظاهر والباطن متلازمان. لا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلابد أن يستقيم الظاهر؛ ولهذا قال النبي: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (¬2). اهـ) (¬3). وقال رحمه الله أيضاً: (فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان، علماً وعملاً قلبيا، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر, والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي العابث: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه). فلابد في إيمان القلب من حب الله ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة: 165]. فوصف الذين آمنوا بأنهم أشد حبا لله من المشركين لأندادهم. اهـ) (¬4). الشبهة السادسة: استشهادهم بقول بعض السلف: "الإسلام الكلمة، والإيمان العمل". وهذا القول مروي عن الزهري، وابن أبي ذئب، ورواية عن أحمد، رحمهم الله جميعاً. قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله (¬5): قال الزهري – يعني على قوله تعالى -: قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] قال: نرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل (¬6). وقال اللالكائي رحمه الله: (أخبرنا محمد أخبرنا عثمان قال: ثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله – يعني أحمد بن حنبل – وسئل عن الإيمان والإسلام قال: قال ابن أبي ذئب: الإسلام الكلمة والإيمان العمل (¬7). وساق الخلال بسنده إلى أحمد بن القاسم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: ... قال الزهري: فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل. فاستحسنه أبو عبد الله (¬8). والذين استشهدوا بذلك قالوا: فإن ترك العمل خرج من الإيمان إلى الإسلام. الجواب عن استشهادهم من ثلاثة أوجه: ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 196، 197) (¬2) رواه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (18/ 272). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 187، 188). (¬5) لقد كان من فقه الإمام أبي داود رحمه الله أن ساق حديث: (بين العبد والكفر ترك الصلاة) في (باب في رد الإرجاء). (¬6) رواه أبو داود (4684). (¬7) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (4/ 895) (1500). (¬8) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 415).

1 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال الزهري: الإسلام الكلمة. وعلى ذلك وافقه أحمد وغيره، وحين وافقه لم يرد أن الإسلام الواجب هو الكلمة وحدها؛ فإن الزهري أجل من أن يخفى عليه ذلك، ولهذا أحمد لم يجب بهذا في جوابه الثاني، خوفاً من أن يظن أن الإسلام ليس هو إلا الكلمة (¬1). 2 - وقال رحمه الله: وأحمد بن حنبل وإن كان قد قال في هذا الموضع: إن الإسلام هو الكلمة، فقد قال في موضع آخر: إن الأعمال من الإسلام، وهو اتبع هنا الزهري رحمه الله، فإن كان مراد من قال ذلك أنه بالكلمة يدخل في الإسلام وإن لم يعمل فهذا غلط قطعا، بل قد أنكر أحمد هذا الجواب، وهو قول من قال: يطلق عليه الإسلام وإن لم يعمل متابعة لحديث جبريل، فكان ينبغي أن يذكر قول أحمد جميعه. قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الإسلام والإيمان, فقال: الإيمان قول وعمل، والإسلام الإقرار. وقال: وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ سأله عن الإسلام: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم. فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبي فهو مسلم أيضا؟ فقال: هذا معاند للحديث. فقد جعل أحمد من جعله مسلماً إذا لم يأت بالخمس معانداً للحديث، مع قوله أن الإسلام الإقرار، فدل ذلك على أن ذاك أول الدخول في الإسلام، وأنه لا يكون قائماً بالإسلام الواجب حتى يأتي بالخمس. وإطلاق الاسم مشروط بها، فإنه ذم من لم يتبع حديث جبريل، وأيضاً فهو في أكثر أجوبته يكفر من لم يأت بالصلاة، بل وبغيرها من المباني. والكافر لا يكون مسلماً باتفاق المسلمين، فعلم أنه لم يرد أن الإسلام هو مجرد القول بلا عمل، وإن قدر أنه أراد ذلك، فهذا يكون أنه لا يكفر بترك شيء من المباني الأربعة، وأكثر الروايات عنه بخلاف ذلك، والذين لا يكفرون من ترك هذه المباني يجعلونها من الإسلام، كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم، فكيف لا يجعلها أحمد من الإسلام، وقوله في دخولها في الإسلام أقوى من قول غيره. اهـ) (¬2). 3 - الإمام الزهري رحمه الله يرى أن الأحاديث التي فيها (من قال: لا إله إلا الله. دخل الجنة) كانت قبل نزول الفرائض والحدود، كما نقله عنه الحافظ ابن رجب رحمه الله (¬3). فلابد من جمع كلام الأئمة، وضم بعضه إلى بعض، كما هي طريقة أهل السنة، والتي تميزوا بها عن المبتدعة، ولئن كان ذلك مطلوباً في كلام الأئمة، ففي النصوص الشرعية أولى وأحرى. الشبهة السابعة: استشهادهم بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، والذي يعرف بحديث الشفاعة، أو حديث الجهنميين، وفيه: ((أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه)) (¬4). ويعد من قال بنجاة تارك أعمال الجوارح كلية حديث الشفاعة نصاً في ذلك زَعَمَ. أولاً: بعض طرق الحديث التي لها علاقة بالمسألة: 1 - حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: ¬

(¬1) ((السنة)) للخلال: (ق 160/ أ). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 370). (¬3) انظر تفضلاً ((كتاب التوحيد)) لابن رجب رحمه الله (ص: 45). (¬4) رواه البخاري (7439) ومسلم (183).

أ) من طريق الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ ... فساق الحديث، وذكر أتباع كل أمة ما كانت تعبد، ومرور المؤمنين على الصراط، وأن آخرهم يمر وهو يسحب سحباً، قال: ((فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوا فاقرؤوا: إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء: 40]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي. فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواماً قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنب الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها على جانب الصخرة، إلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم، ومثله معه)) (¬1). ب) رواية مسلم من طريق سويد بن سعيد قال: حدثني حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وفيه: ((فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق، من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا, ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً ... إلى أن قال: فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة ... إلى أن قال: فيخرجون كاللؤلؤ، في رقابهم الخواتيم، يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الله الجنة، بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه ... )) الحديث (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (7439) ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (7439) ومسلم (183).

2 - حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ((أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة ... فذكر الحديث))، وفيه: ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل .... )) الحديث (¬1). 3 - حديث أنس رضي الله تعالى عنه: من طريق حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً ... وفيه ذكر إتيان الناس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام طلباً للشفاعة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأقول: أنا لها. فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها، لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد, ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب، أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى (أدنى) مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجه من النار، من النار، من النار، فأنطلق فأفعل فلما خرجنا من عند أنس قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن- وهو متوار في منزل أبي خليفة- فحدثنا بما حدثنا أنس بن مالك، فأتيناه فسلمنا عليه، فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة، فقال: هيه. فحدثناه بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه، فقلنا: لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة، فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلموا (¬2)، فقلنا: يا أبا سعيد، فحدثناه، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم. حدثني كما حدثكم به، قال: ثم أعود الرابعة، فأحمد بتلك، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. فيقول: وعزتي، وجلالي، وكبريائي، وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله)) (¬3). 4 - حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: من طريق الحسن بن ذكوان حدثنا أبو رجاء حدثنا عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري واللفظ له (7437)، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنها. (¬2) عند الإمام مسلم رحمه الله: (تتكلوا). (¬3) رواه البخاري واللفظ له (7510)، ومسلم (193) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6566).

تنبيه مهم: قال إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله: فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ربما اختصروا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثوا بها، وربما اقتصوا الحديث بتمامه، وربما كان اختصار بعض الأخبار أن بعض السامعين يحفظ بعض الخبر ولا يحفظ جميع الخبر، وربما نسي بعد الحفظ بعض المتن. فإذا جمعت الأخبار كلها علم حينئذ جميع المتن والسند، (و) دل بعض المتن على بعض، كذكرنا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم في كتبنا، نذكر المختصر منها، والمتقصى منها، والمجمل والمفسر، فمن لم يفهم هذا الباب لم يحل له تعاطي علم الأخبار ولا ادعاؤها). اهـ (¬1). وقال رحمه الله أيضاً: (والناظر في أحاديث الشفاعة يجد هذا بجلاء، بل لا تكاد ترى حديثاً في هذا الباب إلا وفيه إجمال أو إبهام، والموفق من وفقه الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله (¬2). ثانياً: كلام أهل العلم حول الحديث، وبيان خطأ من استشهد به على نجاة تارك العمل الظاهر كلية دون عذر، وذلك من عدة أوجه: الوجه الأول: أن هذا الحديث لا يمكن الأخذ بظاهره والاكتفاء به دون تقييده بالأدلة الأخرى. وبيان ذلك: أن التدرج المذكور في الحديث: ((فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه)). ((فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه)). ((فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه)). ((ثم قول الملائكة بعد ذلك: ربنا لم نذر فيها خيرا)). ثم قول الله عز وجل: ((شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط)). هذا التدرج يدل بظاهره على أن هؤلاء ليسوا من أهل التوحيد، فليس معهم شيء من إيمان القلب، ولا مثقال ذرة من خير، ولم يعملوا خيراً قط، لا من أعمال الجوارح ولا من أعمال القلوب، كما يفيده هذا النفي. ولم يذكر في الحديث أنهم قالوا: (لا إله إلا الله)؛ ولهذا احتج به بعض أهل البدع على إخراج غير المؤمنين من النار. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: تنبيه، قرأت في (تنقيح الزركشي): وقع هنا في حديث أبي سعيد بعد شفاعة الأنبياء، فيقول الله: ((بقيت شفاعتي فيخرج من النار من لم يعمل خيراً)). وتمسك به بعضهم في تجويز إخراج غير المؤمنين من النار. ورد بوجهين: أحدهما: أن هذه الزيادة ضعيفة؛ لأنها غير متصلة كما قال عبد الحق في (الجمع) (¬3). والثاني: أن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث. هكذا قال، والوجه الأول غلط منه، فإن الرواية متصلة هنا، وأما نسبة ذلك لعبد الحق فغلط على غلط؛ لأنه لم يقله إلا في طريق أخرى وقع فيها: ((أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من خير ... )) قال: هذه متصلة. اهـ (¬4). وقد نسب الشيخ الألباني رحمه الله (¬5) هذا الوجه الثاني إلى الحافظ ابن حجر، ولم ينبه على أنه كلام الزركشي وارتضى هذا الجواب، ومثل للأحاديث المشار إليها في كلام الزركشي بحديث أنس رضي الله عنه الطويل في الشفاعة. ¬

(¬1) ((كتاب التوحيد)) للإمام ابن خزيمة رحمه الله (2/ 602). (¬2) ((كتاب التوحيد)) للإمام ابن خزيمة رحمه الله (2/ 707). (¬3) ((الجمع بين الصحيحين)) لعبد الحق الإشبيلي (1/ 156). (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 423). (¬5) ((حكم تارك الصلاة)) (ص: 32، 33).

وقولهم: إن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين. قد يفهم منه اشتراط التصديق وعمل القلب، وقد ينازع في هذا الفهم؛ ولهذا كان أجود منه قول الطيبي: هذا يؤذن بأن كل ما قدر قبل ذلك بمقدار شعيرة، ثم حبة، ثم خردلة، ثم ذرة، غير الإيمان الذي يعبر به عن التصديق والإقرار، بل هو ما يوجد في قلوب المؤمنين من ثمرة الإيمان، وهو على وجهين: أحدهما: ازدياد اليقين وطمأنينة النفس، لأن تضافر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لعدمه. والثاني: أن يراد العمل، وأن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وينصر هذا الوجه قوله في حديث أبي سعيد: ((لم يعملوا خيراً قط)). اهـ (¬1). والحاصل أن ظاهر الحديث مشكل، وأنه لا يمكن القول به إلا مع مراعاة الأدلة الأخرى. الوجه الثاني: أن المخالف إن قال: بل هؤلاء الذين لم يعملوا خيرا قط، إلا الإقرار والتصديق وعمل القلب. قيل له: من أين لك هذا، ولا وجود له في الحديث، لاسيما مع "التدرج" الذي تحتج به؟ فإن قال: جاء هذا من النصوص الأخرى التي تشترط للنجاة قول (لا إله إلا الله) بصدق ويقين وإخلاص. قيل له: ونحن نثبت وجود عمل الجوارح لاسيما الصلاة. الوجه الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (لم يعملوا خيرا قط) ليس المراد منه نفي جميع العمل، بل جاء إطلاق هذه العبارة في النصوص مع إثبات العمل، وقد وقع هذا في حديث الشفاعة وفي غيره وهناك طرفاً من ذلك، مع كلام السلف: 1 - في رواية حذيفة رضي الله عنه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه لحديث الرؤية والشفاعة: ((ثم يقال ادعوا الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الأنبياء. قال: فيجيء النبي ومعه العصابة، والنبي معه الخمسة والستة، والنبي ليس معه أحد، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، قال: فإذا فعلت الشهداء ذلك قال: فيقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، ادخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً، قال: فيدخلون الجنة. قال: ثم يقول الله عز وجل: انظروا في أهل النار هل تلقون من أحد عمل خيراً قط؟ قال: فيجدون في النار رجلاً، فيقولون له: هل عملت خيراً قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع. فيقول الله عز وجل: اسمحوا لعبدي بسماحته إلى عبيدي. ثم يخرجون من النار رجلاً يقول له: هل عملت خيراً قط؟ فيقول: لا، غير أني أمرت ولدي إذا مت فأحرقوني في النار ثم اطحنوني حتى إذا كنت مثل الكحل فاذهبوا بي إلى البحر فاذروني في الريح، فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبداً. فقال الله عز وجل له: لم فعلت ذلك؟ قال: من مخافتك. قال: فيقول الله عز وجل: انظر إلى ملك, أعظم ملك، فإن له مثله وعشرة أمثاله. قال: فيقول: أتسخر بي وأنت الملك)) (¬2). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) للحافظ ابن حجر رحمه الله (13/ 438). (¬2) رواه أحمد (1/ 4) (15) وابن حبان (14/ 393) (6476) وأبو يعلى في مسنده (1/ 56) (56) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه, قال البزار ((البحر الزخار)) (1/ 149): إسناده مع ما فيه، إلا أنه قد رواه جماعة من جلة أهل العلم بالنقل واحتملوه وقال الألباني ((صحيح الترغيب)) (3641): حسن.

2 - وفي رواية أنس رضي الله تعالى عنه، عند أحمد وابن منده أن هؤلاء الجهنميين كانوا يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً في الدنيا. قال الإمام أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد – يعني ابن الهاد – عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة ولا فخر، وإني آتي باب الجنة فآخذ بحلقتها، فيقولون: من هذا؟ فأقول: أنا محمد، فيفتحون لي فأدخل، فإذا الجبار عز وجل مستقبلي فأسجد له، فيقول: ارفع رأسك يا محمد، وتكلم يسمع منك، وقل يقبل منك، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي أمتي يا رب. فيقول: اذهب إلى أمتك فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من شعير من الإيمان فأدخله الجنة. فأقبل فمن وجدت في قلبه ذلك فأدخله الجنة، فإذا الجبار عز وجل مستقبلي فأسجد له، فيقول: ارفع رأسك يا محمد، وتكلم يسمع منك، وقل يقبل منك، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: أمتي أمتي أي رب. فيقول: اذهب إلى أمتك فمن وجدت في قلبه نصف حبة من شعير من الإيمان فأدخلهم الجنة. فأذهب فمن وجدت في قلبه مثقال ذلك أدخلهم الجنة، فإذا الجبار عز وجل مستقبلي فأسجد له، فيقول: ارفع رأسك يا محمد، وتكلم يسمع منك، وقل يقبل منك، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: أمتي أمتي، فيقول: اذهب إلى أمتك فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان فأدخله الجنة، فأذهب فمن وجدت في قلبه مثقال ذلك أدخلتهم الجنة. وفرغ الله من حساب الناس وأدخل من بقي من أمتي النار مع أهل النار. فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز وجل لا تشركون به شيئاً. فيقول الجبار عز وجل: فبعزتي لأعتقنهم من النار. فيرسل إليهم فيخرجون وقد امتحشوا فيدخلون في نهر الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في غثاء السيل، ويكتب بين أعينهم: هؤلاء عتقاء الله عز وجل، فيذهب بهم فيدخلون الجنة، فيقول لهم أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون. فيقول الجبار: بل هؤلاء عتقاء الجبار عز وجل)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (ووقع في رواية عمرو بن أبي عمرو عن أنس عند النسائي ذكر سبب آخر لإخراج الموحدين من النار ولفظه: ((وفرغ من حساب الناس وأدخل من بقي من أمتي النار مع أهل النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله لا تشركون به شيئاً. فيقول الجبار: فبعزتي لأعتقنهم من النار فيرسل إليهم فيخرجون)). وفي حديث أبي موسى عند ابن أبي عاصم والبزار رفعه: ((وإذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة يقول لهم الكفار: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 144) (12491) والدارمي في سننه (1/ 41) (52) وابن منده في ((الإيمان)) (2/ 846) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال ابن منده: هذا حديث صحيح مشهور, وقال الألباني ((السلسلة الصحيحة)) (4/ 100): إسناده جيد ورجاله رجال الصحيح.

فقالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها. فيأمر الله من كان من أهل القبلة فأخرجوا. فقال الكفار: يا ليتنا كنا مسلمين)) (¬1). وفي الباب عن جابر، وقد تقدم في الباب الذي قبله، وعن أبي سعيد الخدري عند ابن مردويه.) اهـ (¬2). فهؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن: يعبدون الله، وهم من أهل القبلة، فكيف يظن أنهم لم يعملوا شيئاً من أعمال الجوارح؟! 3 - حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً في (الصحيحين): وقد جاء فيه عند مسلم: ((أن ملائكة العذاب تقول: إنه لم يعمل خيراً قط، وأن ملائكة الرحمة تقول: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله)) (¬3). والملائكة جميعهم صادقون في وصفهم للرجل. فعلم بهذا أنه قد يقال عن رجل: لم يعمل خيراً قط، مع تلبسه ببعض الأعمال الصالحة. ويكون المراد بالنفي أنه لم يأت بكمال العمل الواجب. وفي الحديث: ((ومن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمن وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه، فوجوده أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)) (¬4). قال قتادة: فقال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره. فهذا السير والانطلاق، ثم النأي بالصدر، أليس عملاً صالحاً من أعمال الجوارح؟! وهذا فهم السلف ومن على دربهم من أهل العلم المعاصرين لهذه اللفظة ((لم يعملوا خيراً قط)). قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: (هذه اللفظة: ((لم يعملوا خيراً قط)): من الجنس الذي تقول العرب: ينفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل: لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال، لا على ما أوجب عليه وأمر به، وقد بينت هذا المعنى في مواضع من كتبي.) اهـ (¬5). وقالت اللجنة الدائمة للبحوث والعلمية والإفتاء بالسعودية، زادها الله عزا وتمكينا: (وأما ما جاء في الحديث: ((إن قوماً يدخلون الجنة لم يعملوا خيراً قط)): فليس هو عاما لكل من ترك العمل وهو يقدر عليه، وإنما هو خاص بأولئك لعذر منعهم من العمل، أو لغير ذلك من المعاني التي تتفق مع مقاصد الشريعة) (¬6). وقد سئل فضيلة الشيخ العلامة: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (هل هناك تعارض بن أدلة تكفير تارك الصلاة، وحديث ((لم يعملوا خيراً قط))؟ فأجاب رحمه الله: لا تعارض بينهما، فهذا عام يخصص بأدلة تكفير تارك الصلاة.) اهـ (¬7). فإن قيل: إنه لا يليق أن يطلق على من معه هذه الشعيرة العظيمة "الصلاة" لم يعمل خيراً قط. فجوابه: وهل يليق أن يطلق على من معه عمل القلب (من الإخلاص واليقين والصدق والخشية)، وكذا من يقول أعظم كلمة – (لا إله إلا الله) – لم يعمل خيراً قط؟! فإن كان الجواب: لا – ولا يصح غيره - فهذا يحملكم على أنه لابد من الجمع بين النصوص حتى لا يقع الزلل الذي ضلت به الفرق من قبل. هذا ما يسر الله تعالى جمعه من جواب أهل العلم الأثبات عما استشهد به المرجئة وكذا من وقع في الإرجاء، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لتعظيم الكتاب والسنة، ويوفقنا للعمل بهما، والدعوة إليهما والذب عنهما، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. إتحاف النبلاء برد شبهات من وقع في الإرجاء لعلي بن عبد العزيز موسى – ص 97 ¬

(¬1) ((الفتح)) (11/ 463، 464). (¬2) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (2/ 265) (2954) وابن أبي عاصم في ((السنة)) (843) من حديث أبي موسى رضي الله عنه, قال الهيثمي ((مجمع الزوائد)) (7/ 48): فيه خالد بن نافع الأشعري قال أبو داود متروك قال الذهبي لا يستحق الترك وبقية رجاله ثقات وصححه الشيخ الألباني في تحقيقه لـ ((السنة)) لابن أبي عاصم (843). (¬3) رواه البخاري (3470) ورواه مسلم واللفظ له (2766) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (3470) ورواه مسلم واللفظ له (2766) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬5) ((كتاب التوحيد)) (2/ 732). (¬6) ((فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)) المجموعة الثانية – فتوى رقم: (21436 - 2/ 132). (¬7) ((حكم تارك الصلاة)) (ص: 9 - 11).

الباب الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه

المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم قوله تعالى في أول الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]. وقوله سبحانه في أواخر آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173]. وفي آخر التوبة: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124 - 125]. فالمؤمنون يزدادون إيماناً بنزول القرآن والمنافقون يزدادون كفراً ورجساً وينقص إيمانهم إن كان بقي منه شيء قبل نزوله! وفي سورة الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]. وفي أول الفتح: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4]. وفي سورة المدثر: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31]. وكما يزيد الإيمان ... فإنه يزيد بزيادة أفراده كالخشوع كما في آية السجدة من الإسراء: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [] الإسراء: 109 [.] وزيادة الهدى والهداية كما في قوله في سورة مريم: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76]. وفي سورة محمد: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17]. وقوله عن الفتية أصحاب الكهفِ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13]. فما زاد شيء إلا نقص، بدليل كونه قبل الزيادة أنقص منه بعدها. وكما أن الكفر يزيد كما في قوله تعالى في آيتي المائدة: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [المائدة: 64]. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [المائدة: 68]. وقوله في الإسراء: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء:60]. وفي آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ [آل عمران: 90]. وفي النساء: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء: 137]. فكذلك الإيمان يزيد حتى يبلغ أعلى درجاته، والكفر يزيد حتى يسفل إلى أدنى دركاته. أيضاً مما يدل على زيادة الإيمان عند أهله تفاضلهم فيه، بكون بعضهم أفضل من بعض.

كما قال سبحانه عن الأنبياء: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء: 55]. وفي البقرة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 253]. وفي الإسراء: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء: 21]. وفاضل سبحانه بين الصحابة في آية الحديد: وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ [الحديد: 10]. وفاضل بين المجاهدين وغيرهم في سورة النساء: لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 95 - 96]. ومن ذلك قوله: الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [التوبة: 20]. وفاضل بين درجات العلماء أهل الإيمان بقوله في سورة المجادلة: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11]. ومايز سبحانه بين أهل الطاعة والمعصية بقوله في سورة الجاثية: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21]، وفي سورة الواقعة ذكر أصحاب اليمين، ثم أصحاب الشمال، ثم السابقين. وكل هذه المفاضلات للتمايز في زيادة الإيمان مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – بتصرف- ص28

المبحث الثاني: الأدلة من السنة المطهرة

المبحث الثاني: الأدلة من السنة المطهرة منها: - ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينهب نُهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها بأبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)) (¬1). فنفى عنه كمال الإيمان الواجب بفعل هذه الكبائر، مما دل على نقص الإيمان بفعلها. وهكذا كل ما ورد من نفي كمال الإيمان الواجب أو المستحب تدل على زيادته، ومن ثمَّ نقصانه! - ومنها ما عقده البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان باباً في تفاضل أهل الإيمان بالأعمال وذكر فيه: حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان .. )) (¬2). مما يدل على أنه أنقص المؤمنين إيماناً، ولو كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص لاستحق أهله كلهم الجنة، وبدرجات متساوية! - وحديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم، رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)) (¬3). ورؤيا الأنبياء حق، فدل على زيادة الإيمان في أقوام، ونقصانه في آخرين. - حديث أبي سعيد الخدري وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن، قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل، قلن: بلى؟ قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم، قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها)) (¬4). فهو وإن كان النقص ليس من فعلهن، لكن من صلى وصام كان أكمل إيماناً منهن بهذا الاعتبار لصلاته وصيامه ... -حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه: ((فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) (¬5). ويفسره ويبين مدلوله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (¬6). فدل على أن الإيمان لا يزال يضعف بتخلف تلك المراتب وهو النقصان، وتحصيلها هو زيادته. -ومثله حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (2475)، ومسلم (75). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (22)، ومسلم (184). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (23)، ومسلم (2390). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (304) واللفظ له، ومسلم (79، 80). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، (¬5) رواه مسلم (50). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬6) رواه مسلم (49). (¬7) رواه أبو داود (4681). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. ورواه الترمذي (2521)، وأحمد (3/ 438) (15655). من حديث معاذ الجهني رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وحسَّن الألباني كلا الطريقين في ((السلسلة الصحيحة)) (380) ثم قال: والحديث بمجموع الطريقين صحيح.

- ومثله حديث أبي هريرة وغيره رضي الله عنهم مرفوعاً: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً)) (¬1) مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – بتصرف - ص30 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير)). وقال البخاري: وقال أبان حدثنا قتادة حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم من ((إيمان)) مكان من ((خير)) (¬2). وقد وضع الإمام البخاري هذا الحديث تحت باب (زيادة الإيمان ونقصانه) وهو ظاهر الدلالة على تفاوت الناس بما في قلوبهم من الإيمان (والمراد بحبة الخردل ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد (¬3) مثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً ... إلى قوله وذلك أضعف الإيمان)) (¬4). وفي حديث الأمانة: (( .. وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان .. الحديث)) (¬5) - الأحاديث التي فيها نفي الإيمان كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (¬6). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... الحديث)) (¬7). وقوله: ((لا إيمان لمن لا أمانة له .. الخ)) (¬8). قال النووي: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة) (¬9). فالذي يترك هذه المعاصي أكمل إيماناً ممن يقترفها. - قوله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (¬10). قال الحليمي رحمه الله: (فدل هذا القول على أن حسن الخلق إيمان، وأن عدمه نقصان إيمان، وأن المؤمنين متفاوتون في إيمانهم، فبعضهم أكمل إيماناً من بعض) (¬11) ... قال الإمام البغوي: وقالوا (أي أهل السنة): إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء الحديث بالنقصان في وصف النساء) (¬12). وقال الحليمي: (فإذا كانت المرأة لنقصان صلاتها عن صلاة الرجال تكون أنقص ديناً منهم، مع أنها غير جانية بترك ما تترك من الصلاة، أفلا يكون الجاني بترك الصلوات أنقص ديناً من المقيم بها المواظب؟) (¬13). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – بتصرف - 1/ 82 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4682)، والترمذي (1162)، وأحمد (2/ 250) (7396). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال أبوعيسى: حديث أبي هريرة هذا حديث حسن صحيح. وهو ما ذهب إليه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه البخاري (44). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) فتح الباري 1/ 73. (¬4) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (143). من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (15)، ومسلم (44). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) رواه أحمد (3/ 135) (12406)، وابن حبان (1/ 422) (194). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الذهبي في ((المهذب)): سنده قوي، وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (7179): صحيح. (¬9) ((شرح مسلم للنووي)) (2/ 41). (¬10) رواه أبو داود (4681). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. ورواه الترمذي (2521)، وأحمد (3/ 438) (15655). من حديث معاذ الجهني رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وحسَّن الألباني كلا الطريقين في ((السلسلة الصحيحة)) (380) ثم قال: والحديث بمجموع الطريقين صحيح. (¬11) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 61). (¬12) ((شرح السنة)) (1/ 39). (¬13) ((المنهاج)) (1/ 63).

الفصل الثاني: أقوال أهل السنة في مسمى الإيمان، وما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

الفصل الثاني: أقوال أهل السنة في مسمى الإيمان، وما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي • المبحث الأول: أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان وزيادته ونقصانه. • المبحث الثاني: ما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي. • المبحث الثالث: ما روي عن الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه.

المبحث الأول: أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان وزيادته ونقصانه

المبحث الأول: أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان وزيادته ونقصانه • تمهيد. • المطلب الأول: نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. • المطلب الثاني: أقوال السلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.

تمهيد

تمهيد اتفق أئمة أهل السنة والجماعة - سلفاً وخلفاً - على أن الإيمان: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح؛ يزيد بالطاعة وكثرة العبادة، وينقص بالمعصية والغفلة، وقد حكى الإجماع على ذلك أكثر أهل العلم - رحمهم الله - بل أصبح هذا القول من مميزات أهل السنة والجماعة، والفارقة بينهم وبين أهل البدع والأهواء .... وعلى هذه العقيدة توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا المنهج كان جميع الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان: من المحدثين، والفقهاء، وجميع أئمة الدين، ولم يخالفهم أحد من السلف والخلف؛ إلا الذين مالوا عن الحق في هذا الأمر، وجانبوا الصواب. والآثار عن السلف في مسمى الإيمان وحقيقته كثيرة جداً، ولا يمكن حصرها هنا، وقد قال بهذا القول خلق كثير - غيرهم - من أهل السنة والجماعة ... نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي - بتصرف - ص57

المطلب الأول: نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص

المطلب الأول: نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص قال يحيى بن سعيد القطان: (ما أدركت أحداً من أصحابنا، إلا على سنتنا في الإيمان، ويقولون: الإيمان يزيد وينقص) (¬1). وقال الإمام أبو عبدالرازق الصنعاني رحمه الله: (لقيت اثنين وستين شيخا .. فذكر عددا منهم ثم قال: كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (¬2). وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: (هلم تسمية من كان يقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ... فسمى أكثر من مائة وثلاثين رجلا من أهل العلم من الصحابة وغيرهم .. ثم قال: هؤلاء كلهم يقولون الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو قول أهل السنة، والمعمول به عندنا) (¬3). وقال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله: (أجمع سبعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكر أموراً منها: الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية) (¬4). وقال أمير المؤمنين في الحديث أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله: (لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص) (¬5). وقال أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي: (الإيمان عندنا أهل السنة الإخلاص لله بالقلوب والألسنة، والجوارح، وهو قول وعمل، يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة، ثم ذكر منهم بضعاً وثلاثين) (¬6). وقال سهل بن المتوكل الشيباني: (أدركت ألف أستاذ وأكثر كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص .. ) (¬7). وقال ابن جرير الطبري: (وأما القول في الإيمان هل قول وعمل يزيد وينقص، أم لا زيادة فيه ولا نقصان؟ فإن الصواب فيه قول من قال: هو قول وعمل يزيد وينقص، وبه جاء الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل) (¬8). وقال أبو عمر بن عبدالبر: (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) (¬9). وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: (وأجمعوا على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شك فيما أمرنا بالتصديق به، ولا جهل به، لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كنا جميعا مؤديين للواجب علينا) (¬10). ¬

(¬1) رواه ابن هانئ في مسائل الإمام أحمد (2/ 162)، وذكر نحوه الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (9/ 179) في ترجمة يحيى بن سعيد. (¬2) رواه اللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (5/ 958) (1737). (¬3) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 814) (1117) وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب ((الإيمان)) (ص: 293). (¬4) رواه ابن الجوزي في ((مناقب الإمام أحمد)) (ص: 228) وابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 130) بلفظ أجمع تسعون ... إلخ. (¬5) ذكره الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 47)، والزبيدي في ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 256) وعزواه للالكائي في ((اعتقاد أهل السنة))، وصححا إسناده. (¬6) رواه اللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (5/ 963) (1753). (¬7) رواه اللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (5/ 964) (1754). (¬8) ((صريح السنة)) (25). (¬9) ((التمهيد)) (9/ 238)، ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية انظر: ((الفتاوى)) (7/ 330). (¬10) ((رسالة إلى أهل الثغر)) (272).

وقال ابن أبي زيد القيرواني في كتابه (المفرد في السنة): (فصل فيما أجمعت عليه الأمة من أمور الديانة ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة .. فذكر أموراً منها: أن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد ذلك بالطاعة وينقص بالمعصية نقصاً عن حقائق الكمال لا محبط للإيمان، ولا قول إلا بعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة) (¬1). وقال ابن بطال المالكي: (مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (¬2). وقال الحافظ عبدالغني المقدسي في عقيدته: (اعلم وفقنا الله وإياك .. أن صالح السلف وخيار الخلف وسادات الأئمة وعلماء الأمة اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم فذكر أموراً ثم قال: والإيمان بأن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) ثم أورد بعض النصوص الدالة على ذلك (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (¬4). وقال ابن القيم: ( .. فإنه بإجماع السلف: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية) (¬5). و ... قول ابن كثير رحمه الله: (وهذا مذهب جمهور الأمة، بل حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد) (¬6). وقال السفاريني: (والذي اعتمده أئمة الأثر وعلماء السلف: أن الإيمان: تصديق بالجنان وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان) (¬7). زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- بتصرف- ص 106 ¬

(¬1) نقله عنه ابن القيم في ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (150). (¬2) نقله عنه النووي في شرحه لـ ((صحيح مسلم)) (1/ 146) والكرماني في شرحه لـ ((صحيح البخاري)) (1/ 76). (¬3) ((عقيدة الحافظ عبدالغني المقدسي ضمن "المجموعة العلمية السعودية")) جمع عبدالله بن حميد (ص30 - 49). (¬4) ((الفتاوى)) (7/ 672). (¬5) ((مدارج السالكين)) (1/ 421). (¬6) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 285). (¬7) ((شرح ثلاثيات المسند)) (2/ 218).

المطلب الثاني: أقوال السلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

المطلب الثاني: أقوال السلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وبعد هذه النقول السابقة المبينة لإجماع أهل السنة والجماعة على زيادة الإيمان ونقصانه، وأنهم متضافرون على قول واحد فيه، أذكر جملة من النقول عن بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن نقل عنه ذلك، ذاكراً أقوال الصحابة أولاً، فالتابعين، فمن بعدهم، مرتباً لهم حسب وفياتهم عدا الصحابة فلم أراع في ترتيبهم ذلك: 1 - كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: (هلموا نزداد إيمانا) وفي لفظ: (تعالوا نزداد إيمانا) (¬1). 2 - وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (اجلسوا بنا نزداد إيمانا) (¬2). وكان يقول في دعائه: (اللهم زدني إيمانا ويقينا وفقها) (¬3). 3 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول: (اجلسوا بنا نؤمن ساعة) (¬4). قال ابن حجر مبينا وجه دلالته على زيادة الإيمان ونقصانه: (ووجه الدلالة منه ظاهرة، لأنه لا يحمل على أصل الإيمان لكونه كان مؤمناً وأي مؤمن، وإنما يحمل على إرادة أنه يزداد إيمانا بذكر الله تعالى) (¬5). أما قول ابن العربي عنه: (لا تعلق فيه للزيادة معللاً ذلك: أن معاذاً إنما أراد تجديد الإيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضاً، ثم يكون أبدا مجددا كلما نظر أو فكر) (¬6). فغير صحيح، لأن الإيمان الذي ينجم عن النظر والتفكر بعد تحقق أصل الإيمان، يعد في الحقيقة زيادة إيمان، فما سماه ابن العربي هنا تجدد إيمان هو في واقع أمره زيادة إيمان وإن سمي بغير اسمه. ولذا تعقبه الحافظ بقوله: (وما نفاه أولاً أثبته آخرا، لأن تجدد الإيمان إيمان) (¬7). 4 - (وكان عبدالله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: تعالوا نؤمن ساعة، تعالوا فلنذكر الله ونزدد إيمانا بطاعته، لعله يذكرنا بمغفرته) (¬8). 5 - وعن أبي الدرداء عويمر الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: (الإيمان يزداد وينقص) (¬9). ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة (11/ 26) وفي ((الإيمان)) (ص: 36)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 69) (37)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 108) وابن بطة في الإبانة (2/ 847) (1134) واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 941) (1700). (¬2) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 73) (45). (¬3) رواه الطبراني (9/ 105) (8549)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 73) (46)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 368) (797)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 108) وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 846) (1132) واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 942) (1704). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 188): إسناده جيد. (¬4) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث رقم (7)، ووصله ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 25، 26) وفي ((الإيمان)) (105)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 235)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 73) (44)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 368) (796)، (1/ 378) (823)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 847) (1135) واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 943) (1706، 1707). قال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/ 21): موقوف صحيح. وصحح العيني إسناده في ((عمدة القاري)) (1/ 190)، وقال الألباني في ((الإيمان لابن أبي شيبة)) (105) إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬5) ((فتح الباري)) (1/ 48). (¬6) نقله عنه الحافظ في ((فتح الباري)) (1/ 48). (¬7) ((فتح الباري)) (1/ 48). (¬8) رواه ابن أبي شيبة (11/ 43) وفي ((الإيمان لابن أبي شيبة)) (116)، وبنحوه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 75) (50). وقال الألباني في ((الإيمان)): إسناده ضعيف. (¬9) رواه ابن ماجه بعد حديث رقم (72)، والبيهقي في الشعب (1/ 76) (54). وقال الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)): ضعيف.

وروي عنه رضي الله عنه أنه قال: (من فقه العبد أن يعلم أمزداد هو أو منتقص، وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه) (¬1). 6 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (الإيمان يزداد وينقص) (¬2). وروي عنه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: (الإيمان يزيد وينقص) (¬3). 7 - وعن جندب بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتيانا حزاورة فتعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا) (¬4). 8 - وعن عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه قال: (الإيمان يزيد وينقص، فقيل: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا، فذلك نقصانه) (¬5). قال ابن القيم رحمه الله: (وأقدم من روي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة عمير بن حبيب الخطمي) (¬6). ولم يتبين لي وجه هذه الأقدمية، ولم أقف على تاريخ وفاة عمير رضي الله عنه، وإنما عد ممن أسلم قبل الفتح، وفي الذين نقل عنهم من الصحابة ذلك عبدالله بن رواحة وكان قد استشهد في غزوة مؤتة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬7). وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (إن الرجل ليتفضل بالإيمان كما يتفضل ثوب المرأة) (¬8). ولعل التشبيه بثوب المرأة هو لكونه ضافيا وافيا، وقد تقدم معنا الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضوه عليَّ وعليهم قمص .. )) (¬9) الحديث، ثم فسر القمص بالدين. 10 - وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم) (¬10). ¬

(¬1) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 849) (1140)، وذكره شيخ الإسلام في كتاب ((الإيمان)) (ص: 211). وإسناده ضعيف لإبهام شيخ حريز. (¬2) رواه البيهقي في ((الشعب)) (1/ 77) (55)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 314 (622) والآجري في الشريعة (1/ 108) وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 844) (1127، 1128) واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 945) (1171). (¬3) رواه ابن ماجه (72)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 76) (53). والأثر ضعفه البوصيري في ((زوائد ابن ماجه))، وقال الألباني: في ((ضعيف ابن ماجه)): ضعيف جدا. (¬4) رواه ابن ماجه (61)، والطبراني في الكبير (2/ 165) (1678)، والبيهقي (3/ 120) (5075). وصحح إسناده البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 12)، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬5) رواه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 330) (680)، والآجري في ((الشريعة) (ص: 108)، والخطابي في ((الغنية)) (ص: 45)، وأبو أحمد الحاكم في ((شعار أصحاب الحديث)) (8). (¬6) ((تهذيب السنن)) (7/ 56). (¬7) ((السيرة النبوية)) لابن هشام (3/ 1200) و ((عيون الأثر)) لابن سيد الناس (2/ 165). (¬8) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 334) (694) وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 716) (969) واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 947 ح1716). (¬9) رواه البخاري (23)، ومسلم (6340). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬10) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (28)، ووصله عبدالرزاق (10/ 386)، وابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (ص 44)، وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/ 38). قال الألباني في ((الإيمان لأبي عبيد)) (26): روي مرفوعاً وموقوفاً والراجح الموقوف على أن في سنده من كان اختلط.

11 - وعن علقمة بن قيس النخعي رحمه الله أنه كان يقول لأصحابه: (امشوا بنا نزدد إيمانا) (¬1). 12 - وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن عدي أحد عماله على الجزيرة: (أما بعد: فإن للإيمان حدودا وشرائع وفرائض، من استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان). علقه البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه (¬2)، وقال ابن حجر مبينا سبب ذكر البخاري له: (والغرض من هذا الأثر أن عمر بن عبدالعزيز كان ممن يقول بأن الإيمان يزيد وينقص، حيث قال: استكمل ولم يستكمل) (¬3). 13 - وعن مجاهد بن جبر قال: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (¬4). 14 - وقال عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فاحذروه فإنه مبتدع) (¬5). (وسئل رحمه الله عن الإيمان أيزيد؟ قال: نعم حتى يكون كالجبال قيل: فينقص؟ قال: نعم حتى لا يبقى منه شيء) (¬6). 15 - وقال سفيان الثوري: (الإيمان يزيد وينقص) (¬7). 16 - وكتب حماد بن زيد إلى جرير بن عبدالحميد: (بلغني أنك تقول في الإيمان بالزيادة، وأهل الكوفة يقولون بغير ذلك، أثبت على ذلك ثبتك الله) (¬8). 17 - وثبت عن الإمام مالك رحمه الله القول بزيادة الإيمان ونقصانه من طرق متعددة يأتي ذكرها في مبحث مستقل. 18 - وقال عبدالله بن المبارك: (الإيمان قول وعمل، والإيمان يتفاضل) (¬9). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وبعضهم أي: السلف عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل. فقال أقول: الإيمان يتفاضل ويتفاوت، ويروى هذا عن ابن المبارك، وكان مقصوده الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع إلى معنى لا ريب في ثبوته) (¬10). ولا ريب كذلك في ثبوت لفظ الزيادة والنقصان عند السلف؛ فالزيادة مصرح بها في القرآن، والنقصان مصرح به في السنة كما تقدم بيانه، ولعل سبب عدول ابن المبارك رحمه الله عن لفظ الزيادة والنقصان هو استحسانه لكلمة (التفاضل) لا لسبب آخر، كما أنه روي ذلك عن بعض السلف، فقد ساق الخلال بسنده إلى محمد بن أبان قال قلت لعبدالرحمن بن مهدي: الإيمان قول وعمل؟ قال: نعم. قلت: يزيد وينقص؟ قال يتفاضل كلمة أحسن من كلمة (¬11). فهذا هو وجه عدول ابن مهدي عن كلمة الزيادة والنقصان كما هو منصوصه على ذلك، فلعل ذلك أيضاً هو سبب عدول ابن المبارك عن هذه الكلمة، والله أعلم. ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة (11/ 25) وفي ((الإيمان)) (ص: 34) وأبو نعيم في ((الحلية)) (2/ 99) والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 77) (57). وحسن الألباني إسناده في ((الإيمان لابن أبي شيبة)). (¬2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (8)، ووصله ابن أبي شيبة (11/ 48)، وفي ((الإيمان)) (ص: 45) والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 197) والبغوي في ((شرح السنة)) (1/ 40). قال ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (2/ 440): إسناده صحيح. (¬3) ((فتح الباري)) (1/ 47). (¬4) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 78) (60)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 311) (611) وابن بطة في الإبانة (2/ 859) (1167) واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 952) (1728). (¬5) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص114) واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 958) (1739). (¬6) رواه اللالكائي في السنة (5/ 959) (1340). (¬7) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 310) (604)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 852) (1149). (¬8) رواه ابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (1/ 177)، ومن طريقه اللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 961) (1746). (¬9) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 316) (631)، واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 961) (1746). (¬10) ((الفتاوى)) (7/ 506). (¬11) ((السنة)) (3/ 580) (1005).

وقد كان من السلف من ينكر على من عدل عن لفظة الزيادة والنقصان لثبوتها كما قد روى ذلك عبدالرحمن بن مهدي نفسه رحمه الله قال: (أنا أقول الإيمان يتفاضل، وكان الأوزاعي يقول: ليس هذا زمان تعلم، هذا زمان تمسك) (¬1). ثم وقفت على أثر عن الإمام أحمد رحمه الله قد يفهم منه سبب اختيار ابن المبارك للفظة (يتفاضل) فقد قال ابن هانئ في مسائله: (سمعت أبا عبدالله ابن أبي رزمة ما كان أبوك يقول عن عبدالله بن المبارك في الإيمان؟ قال: كان يقول: الإيمان يتفاضل. قال أبو عبدالله: يا عجباه، إن قال لكم يزيد وينقص رجمتموه، وإن قال يتفاضل تركتموه، وهل شيء يتفاضل إلا وفيه الزيادة والنقصان) (¬2). وعلى كلٍّ فابن المبارك عدل عن ذلك، وصار يصرح بزيادة الإيمان، لكونها منصوصاً عليها في القرآن، قال رحمه الله: (لم أجد بدا من الإقرار بزيادة الإيمان إزاء كتاب الله). ذكر ذلك لما قال له المستملي: يا أبا عبدالرحمن: إن ها هنا قوماً يقولون: الإيمان لا يزيد، فسكت عبدالله، حتى سأله ثلاثا. فأجابه، فقال: لا تعجبني هذه الكلمة منكم أن ها هنا قوما، ينبغي أن يكون أمركم جمعا، ثم ساق ابن المبارك بسنده قول عمر بن الخطاب: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم) ثم قال: بلى إن الإيمان يزيد، بلى إن الإيمان يزيد ثلاثا، وقال: (لم أجد بدا من الإقرار بزيادة الإيمان إزاء كتاب الله) (¬3). (وقال له شيبان بن فروخ: ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر ونو هذا أمؤمن هو؟ قال ابن المبارك: لا أخرجه من الإيمان: فقال شيبان: على كبر السن صرت مرجئا؟ فقال له ابن المبارك: يا أبا عبدالله إن المرجئة لا تقبلني أنا أقول الإيمان يزيد والمرجئة لا تقول بذلك، والمرجئة تقول: حسناتنا متقبلة، وأنا لا أعلم تقبلت مني حسنة) (¬4). بل قد وجد في كلامه رحمه الله التصريح بنقصان الإيمان. كما روى ذلك النجاد عن علي بن الحسن بن شقيق قال سمعت عبدالله بن المبارك يقول: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (¬5). وروى إسحاق بن راهويه في مسنده محمد بن أعين قال: (قال ابن المبارك وذكر له الإيمان فقال: قوم يقولون إيمانا مثل جبريل وميكائيل. أما فيه زيادة أما فيه نقصان، هو مثله سواء، وجبريل ربما صار مثل الوضع من خوف الله تعالى. وذكر أشباه ذلك) (¬6). قلت: أي ذكر أشباه ذلك من أساليب الإنكار على المرجئة القائلين بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، وأن أهله فيه سواء، وبهذا يعلم أن ابن المبارك رحمه الله كان يقول بزيادة الإيمان ونقصانه كغيره من أئمة أهل السنة والجماعة، رحم الله الجميع. 19 – وقال خالد بن الحارث: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (¬7). 20 - وقال جرير بن عبدالحميد: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (¬8). ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 333) (688)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 848) (1137). (¬2) ((مسائل الإمام أحمد)) برواية ابن هانئ (2/ 127). (¬3) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (3/ 671). (¬4) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (3/ 670). (¬5) ((الرد على من يقول القرآن مخلوق)) للنجاد (54). (¬6) ((مسند إسحاق)) (3/ 670). (¬7) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 336) (699). (¬8) رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص: 273) وعبدالله في ((السنة)) (1/ 315) (626) والخلال في السنة ق110/ 1، ح1163) والآجري في ((الشريعة)) (ص: 126)، واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 961) (1747).

21 - وقال وكيع بن الجراح: (الإيمان يزيد وينقص) (¬1). 22 - وحسّن يحيى بن سعيد القطان: (الزيادة والنقصان ورآه) قاله الإمام أحمد (¬2). ونقدم في صدر هذا المبحث قول يحيى: (ما أدركت أحدا من أصحابنا إلا على سنتنا في الإيمان ويقولون: الإيمان يزيد وينقص) (¬3). 23 - وقال ابن عيينة: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد لا تقولن يزيد وينقص؛ فغضب وقال: اسكت يا صبي بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء) (¬4). (وقيل له: هل الإيمان يزيد وينقص؟ قال: فأي شيء إذن) (¬5). وسئل أيضاً عن الإيمان فقال: (قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد ما شاء الله، وينقص حتى ما يبقى منه يعني مثل هذه وأشار بيده) (¬6). 24 - وقال النضر بن شميل: (الإيمان قول وعمل، والإيمان يتفاضل) (¬7). 25 - وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (¬8). وروي أن اثنين تناظرا عند الشافعي في هذه المسألة فذهب أحدهما إلى القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، فحمي الشافعي وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص (¬9). 26 - وقال عبدالرزاق الصنعاني: (سمعت معمرا وسفيان الثوري ومالك بن أنس، وابن جريج، وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (¬10). وفي رواية أن عبدالرزاق قال: (وأنا أقول ذلك، الإيمان قول وعمل والإيمان يزيد وينقص، فإن خالفتهم فقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين). 27 - وقال عبدالله بن الزبير الحميدي: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل ولا قول إلا بنية، ولا قول وعمل بنية إلا بسنة) (¬11). ¬

(¬1) رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص:272) وعبدالله في ((السنة)) (1/ 310)) 606)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 851) (1146)، واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 962)) 1749) كلهم من طريق أحمد رحمه الله تعالى. (¬2) رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص272) وعبدالله في ((السنة)) (1/ 310) (605) والخلال في) ((السنة)) (2/ 682) (1015). (¬3) رواه ابن هانئ في مسائل الإمام أحمد (2/ 162)، وذكر نحوه الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (9/ 179) في ترجمة يحيى بن سعيد. (¬4) رواه الحميدي في رسالته ((أصول السنة)) - في آخر مسنده - (2/ 546) ومن طريقه العدني في ((الإيمان)) (ص: 94)، والآجري في ((الشريعة)) (ص114)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 855) (1155)، واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 960) (1745)، وابن عبدالبر في ((التمهيد)) (9/ 254). (¬5) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 113)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 855) (1157). (¬6) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 855) (ح1156)، ورواه بنحوه أبو نعيم في ((الحلية)) (7/ 290). (¬7) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 316) (632). (¬8) رواه أبو نعيم في ((الحلية)) (10/ 115)، والحاكم في ((مناقب الشافعي)) (كما في الفتح 1/ 47) وابن عبدالبر في ((الانتقاء)) (ص: 81)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 81) وفي ((الاعتقاد)) (ص120) وفي ((مناقب الشافعي)) (1/ 385). وذكره النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (1/ 66)، والذهبي في ((السير)) (10/ 32)، وابن حجر في ((الفتح)) (1/ 47). (¬9) روى ذلك ابن أبي حاتم في ((آداب الشافعي)) (119) وأبو نعيم في ((الحلية)) (10/ 115)، واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 962) (1751)، والبيهقي في ((مناقب الشافعي)) (1/ 387). (¬10) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 342)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 129)، واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 957) (1735)، وابن عبدالبر في ((التمهيد)) (9/ 252)، وذكره الذهبي في ((السير)) (8/ 108). (¬11) ((أصول السنة)) - في آخر مسنده - (2/ 546).

28 – وقال إسحاق بن راهويه: (الإيمان يزيد وينقص حتى لا يبقى منه شيء) (¬1). 29 - وأما قول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في زيادة الإيمان ونقصانه فكثيرة جدا. قال رحمه الله: (الإيمان بعضه أفضل من بعض، يزيد وينقص، وزيادته في العمل، ونقصانه في ترك العمل، لأن القول هو مقر به) (¬2). وقال: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، إذا عملت الخير زاد، وإذا ضيعت نقص) (¬3). وسُئل رحمه الله عن زيادة الإيمان ونقصانه فقال: (يزيد حتى يبلغ أعلى السموات السبع، وينقص حتى يصير إلى أسفل السافلين السبع) (¬4) وأقواله غير ما ذكرت كثيرة يطول ذكرها (¬5). 30 - وقال أبو زرعة الرازي: (الإيمان عندنا قول وعمل، يزيد وينقص، ومن قال غير ذلك فهو مبتدع مرجئ) (¬6). 31 - وقال أبو حاتم الرازي: (مذهبنا واختيارنا وما نعتقده وندين الله به ونسأله السلامة في الدين والدنيا: أن الإيمان قول وعمل .. يزيد وينقص) (¬7). هذه بعض أقوال السلف الصالح أهل السنة والجماعة في زيادة الإيمان ونقصانه، والأمر كما قال شيخ الإسلام: (والآثار في هذا كثيرة، رواها المصنفون في هذا الباب عن الصحابة والتابعين في كتب كثيرة معروفة) (¬8) زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص 110 ¬

(¬1) رواه الخلال في ((السنة)) (2/ 680) (1011) و (2/ 694) (1048). (¬2) رواه الخلال في ((السنة)) (2/ 678) (ح1008). (¬3) رواه الخلال في ((السنة)) (2/ 680) (1013). (¬4) رواه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 259). (¬5) انظرها في ((السنة)) للخلال (2/ 655 (957) و (2/ 676 (1004) و (2/ 680) (1010)، و (2/ 683) (1020) و (2/ 689) (1032) ومسائل الإمام أحمد لأبي داود (ص: 272)، ومسائل الإمام أحمد لابن هانئ (2/ 156، 162، 164) و ((الشريعة)) للآجري (ص114، 129)، و ((الإبانة)) لابن بطة (2/ 851) (1146)، (2/ 875) (1199)، و ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 24، 25، 130، 131، 295، 313، 343)، و ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 201)، وغيرها مما يطول ذكره. (¬6) رواه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 203). (¬7) رواه ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 286). (¬8) ((الفتاوى)) (7/ 225).

المبحث الثاني: ما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

المبحث الثاني: ما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي قال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 133 - 136] الآيات. وقال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 52 - 55] وقال الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 63 - 76].

وقال تعالى: إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْنَا حَقاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذِّي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيم التَّائِبُونَ العَابِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله وَبَشِّر المُؤْمِنِين [التوبة: 111 - 112]. وقال الله تعالى: إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً إِلا المُصَلِّين الذِّينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُون وَالذِّينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم للسَّائِلِ وَالمَحْرُوم وَالذِّينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّين وَالذِّينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُون إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُون وَالذِّينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُون وَالذِّينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون وَالذِّينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالذِّينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُون أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُون [المعارج: 19 - 35] وقال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُون - إلى قوله - الوَارِثُون [المؤمنون: 1 - 10] الآيات. وقال الله تعالى: إِنَّ الذِّينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُون وَالذِّينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون وَالذِّينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُون وَالذِّينَ يُؤْتُونَ مَا آتُوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ رَاجِعُون أُولَئِكَ يُسَارِعُون فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون وَلا نُكَلِفُّ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا [المؤمنون: 57 - 62] وقال الله تعالى: إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِين كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌ للسَّائِلِ وَالمَحْرُوم [الذاريات: 15 - 19]. وقال الله تعالى: وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَبِيِّينَ وَآتَى المَال َعَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبِى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهُدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الذِّينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقَون [البقرة: 177] وقال الله تعالى: إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ وَالذَاكِرِينَ الله كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيما [الأحزاب:35].

وقال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق – إلى قوله – وَلله عَاقِبَةُ الأُمُور [التوبة: 3] وقال الله تعالى: للفُقَرَآءِ المُهَاجِرِينَ الذِّينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرُضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالذِّينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُون وَالذِّينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذِّينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيم [الحشر: 9 - 10]. وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد [الحشر: 18] الآيات وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة: 1] إلى آخر السورة وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِه [الحجرات: 1] إلى آخر السورة وقال الله تعالى: وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبُ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ الله لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورا [النساء: 36] وقال الله تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الذِّينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُون [الأنعام: 120]. وقال الله تعالى: قُلْ تَعَالُوا اتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ الله إِلا بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفَوا الكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون [الأنعام: 151 - 153].

وقال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء: 23 - 39]. وقال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] وقال الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:90 - 91] الآيات وقال الله تعالى: اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء [الأعراف: 3] وقال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيم [آل عمران: 31] الآيتين.

وقال الله تعالى: إِنَّ الذِّينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَاموا تَتَنْزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: 30] الآيات وقال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا [الكهف: 11]. وآيات القرآن في هذا الباب كثيرة وشهيرة لا تخفى بل القرآن كله في تقرير الدين من فاتحته إلى خاتمته دعوة وبشارة ونذارة وأمرا ونهيا وخبرا كله لا يخرج عن شأن الدين إما دعوة إليه أو بشارة لمن اتبعه برضاء الله والجنة أو نذارة لمن أبى عنه من خزي الدنيا وعذاب الآخرة أو أمرا بشرائعه أصولها وفروعها وآدابه وأحكام كل منها أو نهيا عن نواقضه جميعه أو نواقض شيء منها أو ما يوجب أدنى خلل فيه أو في شيء من شرائعه أو خبرا عن نصر من جاء به وصدق به وحفظه وتأييده في الدنيا أو خبرا عما أعد الله لهم في الآخرة من الفوز والنعيم والنجاة من عذاب الجحيم أو خبرا عن إهلاك من استكبر عنه في الدنيا وما أحله الله بهم من غضبه عاجلا من الخسف والمسخ والقذف وغير ذلك وما أعده لهم في الآخرة من العذاب والعقاب وما فاتهم وحرموه من الثواب وغير ذلك. وأما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)) (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ولا تأتوا ببهتان تقترفونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه قال عبادة بن الصامت: فبايعناه على ذلك)) (¬2) ... وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة لما قال له: ((ما الذي بعثك الله به؟ قال الإسلام قلت وما الإسلام؟ قال أن تسلم قلبك لله تعالى وأن توجه وجهك لله وأن تصلي الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة)) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (18)، ومسلم (1709). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬3) رواه النسائي (5/ 4)، وأحمد (4/ 446) (20025)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 260)، وابن حبان (1/ 376). وقال الألباني في ((الإيمان)): حسن، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1127): صحيح.

وفي رواية قال: ((وما آية الإسلام؟ قال أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وكل المسلم على المسلم حرام)) (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم في جواب أي المسلمين أفضل: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (¬3). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا – وأشار إلى صدره ثلاثا – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) (¬4). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) (¬5). وقوله صلى الله عليه وسلم في جواب من قال أي الإسلام خير: قال: ((أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) (¬6). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) (¬7). وقوله صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك: قال: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) (¬8). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا)) (¬9). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) (¬10). ¬

(¬1) رواه النسائي (5/ 4)، وابن ماجه (2536)، وأحمد (5/ 4)، والحاكم (4/ 634) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والحديث حسنه الألباني في ((صحيح سنن النسائي))، وفي ((السلسلة الصحيحة)) (369). (¬2) رواه ابن ماجه (230)، وأحمد (5/ 183) (21630). من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (21/ 275): ثابت. وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). ورواه الترمذي (2658). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)): صحيح. وقال الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (223): إسناده صحيح. (¬3) رواه البخاري (10)، ومسلم (40). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬4) رواه مسلم (2564). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (10)، ومسلم (40). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬6) رواه البخاري (12)، ومسلم (39). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬7) رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3967). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5911). (¬8) رواه مسلم (38). من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه. (¬9) رواه مسلم (34). من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. (¬10) رواه البخاري (16)، ومسلم (43). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (¬1) وفي رواية ((من أهله وماله)) (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)) (¬3) ... ¬

(¬1) رواه البخاري (15)، ومسلم (44). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (44). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) رواه الترمذي (2165)، وأحمد (1/ 18) (14)، والحاكم (1/ 197). من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي، وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (6/ 215): وهو كما قالا.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)) (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من فعلهن فقد طعم الإيمان: من عبد الله وحده بأنه لا إله إلا هو وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام)) الحديث وفي آخره ((فقال رجل فما تزكية المرء نفسه يا رسول الله قال: أن يعلم أن الله معه حيثما كان)) (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬3) وفي رواية: ((المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)) (¬4). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه)) (¬5). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن في أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس)) (¬6) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن مرآة المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه)) (¬7) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (¬8) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) (¬9) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن)) قالوا من ذلك يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)) (¬10) ¬

(¬1) رواه أبو داود (4682)، والترمذي (1162)، وأحمد (2/ 250) (7396)، والحاكم (1/ 43). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال أبوعيسى: حديث أبي هريرة هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم بن الحجاج. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (284): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (1582)، والطبراني في ((المعجم الصغير)) (1/ 334) (555)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (4/ 95). من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه. قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن ابن معاوية إلا بهذا الإسناد ولا نعرف لعبد الله بن معاوية الغاضري حديثا مسندا غير هذا. وقال الزيلعي في ((نصب الراية)) (2/ 256): ولم يصل أبو داود به سنده ووصله الطبراني والبزار. وقال ابن حجر في ((تلخيص الحبير)) (2/ 154 - 155): ورواه الطبراني ووجوه إسناده وسياقه أتم سندا ومتناً. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1046): صحيح. (¬3) رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (2586). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (481)، ومسلم (2585). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬6) رواه أحمد (5/ 340) (22928)، والطبراني (6/ 131). من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 164): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن مصعب بن ثابت وهو ثقة، ورواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله رجال الصحيح غير سوار بن عمارة الرملي وهو ثقة. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3/ 129): صحيح يشهد له حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬7) رواه أبو داود (4918)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 134). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. (¬8) رواه البخاري (13)، ومسلم (45). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬9) رواه البخاري (6475)، ومسلم (47). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬10) رواه البخاري (6016). من حديث أبي شريح رضي الله عنه ..

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)) (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل إيمانه)) (¬2) ... وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله)) (¬3). وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بعد ما أخبره بأركان الإسلام: ((ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون [السجدة: 16] ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ثم قال له: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فأخذ بلسان نفسه وقال كف عليك هذا)) (¬4). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص794 ¬

(¬1) رواه الطبراني (12/ 154)، وأبو يعلى (5/ 92)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 3). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 167): رواه الطبراني وأبو يعلي ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (149): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (4681). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. ورواه الترمذي (2521)، وأحمد (3/ 438) (15655). من حديث معاذ الجهني رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وحسَّن الألباني كلا الطريقين في ((السلسلة الصحيحة)) (380) ثم قال: والحديث بمجموع الطريقين صحيح. (¬3) رواه الطبراني (11/ 215). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 90) فيه ليث بن ابي سليم وضعفه الأكثر وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (1/ 12) ومدار طرقهم عن ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وقال الألباني في ((الصحيحة)) (1728) الحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل. (¬4) رواه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (5/ 231) (22069)، والحاكم (2/ 447). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

المبحث الثالث: ما روي عن الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه

المبحث الثالث: ما روي عن الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه لقد جاء عن الإمام مالك رحمه الله تعالى في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه روايتان، قال في إحداهما: إن الإيمان يزيد أما النقصان فتوقف فيه وطلب من السائل أن يكف عن السؤال عنه، لأنه لم يجد عليه دليلا من كتاب الله. أما الرواية الأخرى: فقد جاءت عنه من طرق متعددة صحيحة، قال فيها: إن الإيمان يزيد وينقص، كقول أهل السنة والجماعة سواء. ولهذا خصصت هذا الفصل لدراسة الرواية الواردة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، وذكر ما قاله أهل العلم من تعليلات لقوله هذا، وبيان الصواب منها، مع ذكر الروايات الأخرى الثابتة عنه في أن الإيمان يزيد وينقص. ولنبدأ أولاً بالرواية الأولى التي فيها قوله أن الإيمان يزيد وتوقف في النقصان، فهذه الرواية جاءت عنه من ثلاث طرق: الأولى- من طريق عبدالله بن وهب: قال: سئل مالك بن أنس عن الإيمان؟ فقال: قول وعمل، قلت أيزيد وينقص؟ قال: قد ذكر الله سبحانه في غير آي من القرآن أن الإيمان يزيد، فقلت له: أينقص؟ قال: دع الكلام في نقصانه وكف عنه. فقلت بعضه أفضل من بعض؟ قال: نعم (¬1). الثانية – من طريق ابن القاسم: قال ابن عبدالبر: (وقد روى ابن القاسم عن مالك أن الإيمان يزيد، ووقف في نقصانه) (¬2). ونقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3). وقال القاضي عياض: (قال ابن القاسم: كان مالك يقول: الإيمان يزيد، وتوقف عن النقصان، وقال: ذكر الله زيادته في غير موضع فدع الكلام في نقصانه وكف عنه) (¬4). ونقله عنه الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (¬5). الثالثة – من طريق إسماعيل بن أبي أويس: قال: سئل مالك عن الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: يزيد (وينقص) وذلك في كتاب الله، فقيل له: وينقص يا أبا عبدالله؟ قال: ولا أريد أن أبلغ هذا (¬6). فهذا ما وقفت عليه مما نقل عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، ولم أقف فيما اطلعت عليه من روايات عن الإمام أنه جزم بعدم نقص الإيمان، وإنما الذي ورد عنه في بعض الروايات التوقف في القول بنقص الإيمان، وفرّق بين الجزم بنفي الشيء، وبين التوقف فيه. وبهذا يتبين خطأ قول الزبيدي عندما أورد قول مالك هذا (أي: توقفه في النقصان) ثم أورد بعده ما روي عن أبي حنيفة من طريق غسان وجماعة من أصحابه أنه قال: (الإيمان يزيد ولا ينقص). ثم قال الزبيدي: (وهو بعينه قول مالك) (¬7). فهذا خطأ بيِّن إذ أن مالكاً رحمه الله إنما جاء عنه التوقف بالنقصان لا الجزم بعدمه، والفرق بين الأمرين ظاهر. فهو رحمه الله كان متوقفا في القول بنقص الإيمان لعدم بلوغ النص إليه، ثم لما بلغه ذلك جزم بنقص الإيمان، كما هو ثابت عنه من طرق متعددة. أما توقفه في النقصان في هذه الرواية فقد ذكر له أهل بعض التعليلات: 1 - فقيل إنه توقف في بعض الروايات عن القول بالنقصان، لأن التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا ينقص؟ إذ لا يجوز نقصان التصديق، لأنه إذا نقص صار شكا وخرج عن اسم الإيمان، قاله ابن بطال (¬8). ¬

(¬1) رواه ابن عبدالبر في ((الانتقاء)) (ص: 33). (¬2) ((التمهيد)) (9/ 252). (¬3) ((الفتاوى)) (7/ 331). (¬4) ((ترتيب المدارك)) (2/ 43). (¬5) ((السير)) (8/ 102). (¬6) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى "القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ومن بعدهم")) (ص: 438). تحقيق: زياد محمد منصور. (¬7) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 256). (¬8) ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/ 57).

2 - وقال بعض أهل العلم: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب (¬1). 3 - وقيل: إنه توقف في ذلك لأنه وجد ذكر الزيادة في القرآن ولم يجد ذكر النقص. قال شيخ الإسلام: (وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه. لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن، ولم يجدوا ذكر النقص، وهذه إحدى الروايتين عن مالك) (¬2). فهذا جملة ما وقفت عليه من تعليلات لهذه الرواية، والذي أراه صوابا من هذه التعليلات الثالث منها، وهو أنه توقف عن القول بالنقص لعدم وقوفه على النص، لأمور: أولاً: إن هذا هو اللائق به رحمه الله والأنسب لمقامه، فما وجده في الكتاب والسنة قال به، وما لم يجده لم يقل به، وهذا هو شأن العلماء المحققين من أهل السنة والجماعة لا يصدرون في أقوالهم وأعمالهم إلا عن كتاب أو سنة، وكثيرا ما كان يتمثل رحمه الله بقول الشاعر: وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع (¬3) ثانياً: أن هذا هو منصوصه رحمه الله، فقد نص في جميع الروايات المتقدمة أنه إنما قال بالزيادة لوجودها في القرآن، ولما لم يجد للنقص ذكرا توقف عنه. ففي رواية ابن وهب قال: (قد ذكر الله سبحانه في غير آي من القرآن أن الإيمان يزيد). وفي رواية ابن القاسم قال: (قد ذكر الله زيادته في غير موضع، فدع الكلام في نقصانه وكفّ عنه). وفي رواية ابن أبي أويس قال: (وذلك في كتاب الله). فظاهر من هذه الروايات أنه إنما قال بالزيادة لورود النص فيها، أما النقص فتوقف عن القول به لعدم وقوفه على النبي صلى الله عليه وسلم فيه. ثالثاً: يؤكد ذلك أنه ورد عنه روايات متعددة صحيحة ... فيها القول بزيادة الإيمان ونقصانه، فلعل هذا بعد أن تبين له النص في النقص كحديث: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين)) (¬4) أو وقف على بعض الآثار الكثيرة عن الصحابة والتابعين، والتي فيها التصريح بالزيادة والنقصان، أو غير ذلك، فصار يقول به لوقوفه على النص فيه. رابعاً: أن هذا ما رآه شيخ الإسلام ابن تيمية ذو الفهم الثاقب، والاطلاع الواسع والعناية الفائقة بأقوال السلف، فهو من أعلم الناس بأقوالهم وأفهمهم لها، وإن النفس لتطمئن كثيراً وغالباً لما يختاره ويراه لدقة فهمه وشدة تحريه، وقد تقدم من قوله رحمه الله تعليل رواية مالك هذه بأنه توقف لأنه لم يجد التنصيص على النقصان في القرآن. أما التعليل الأول والثاني فـ ... غير سديدين. أما الأول: وهو أنه توقف في النقص لأن التصديق لا ينقص فغير صحيح بل باطل، لأن التصديق يعتريه النقص كما تعتريه الزيادة ... فقول: أن نقصان التصديق شك ليس من قول أهل السنة والجماعة في شيء، فغير لائق أن يتأول قول مالك رحمه الله على هذا القول الباطل، ويترك السبب الذي جاء عنه هو في تعليل تركه للقول بنقصان الإيمان. أما الثاني: وهو أنه توقف حتى لا يفهم منه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، فبعيد جدا. لأن القول بنقص الإيمان لا يفهم منه ألبتة كفر من نقص إيمانه إلا على مذهب الخوارج وغيرهم من القائلين بأن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وهو قول باطل بلا ريب ترده نصوص الكتاب والسنة. ¬

(¬1) ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (1/ 146) وانظر: ((الجامع)) لابن أبي زيد القيرواني (ص: 122). (¬2) ((الفتاوى)) (7/ 506). (¬3) ((الانتقاء)) لابن عبدالبر (ص: 37). (¬4) رواه البخاري (298)، ومسلم (252). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

أما أهل السنة والجماعة فالإيمان عندهم له أجزاء وأبعاض وشعب والناس متفاوتون في القيام بها، فهو يزيد بزيادتها وينقص بنقصها، فإماطة الأذى عن الطريق إيمان كما في حديث الشعب (¬1)، وترك إماطته نقص في كمال الإيمان المستحب ولا يقال إن فعله هذا كفر لتركه شيئاً من أمور الإيمان، ولا يفهم هذا منه. ثم لو فهم هذا ممن انحرفت فطرهم وسادت فيهم البدع والخرافات، فلا يليق أن ينسب إليه رحمه الله أنه ترك ما جاء الدليل مصرحاً به حتى لا يفهم كلامه على غير مراده، فلو كان ذلك كذلك وطرد هذا الأمر على بقية أمور الاعتقاد لضاع الدين. فهل يترك القول بأن الله سميع بصير عليم خبير وأنه مستو على عرشه وأن له يدا وقدما وغير ذلك من أوصاف كماله سبحانه وتعالى حتى لا يقال مجسمة؟! أو يترك العناية بالأحاديث وتتبع الآثار والتنقيب عنها وفهمها حتى لا يقال حشوية؟! أو يترك الاستثناء في الإيمان بأن يقال: أنا مؤمن أو أنا مؤمن حقاً حتى لا يقال شكاكا؟! وغير ذلك مما يطول ذكره. وهل لا نروي قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم كذا في أحاديث كثيرة حتى لا يفهم من ذلك أنا نرى ما يراه الخوارج وغيرهم من خروج مرتكب الكبيرة من الإيمان؟! ولقد فهم المبتدعة من كلام الله في كتابه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في الثابت عنه ما يوافق مذاهبهم، وليس العيب في النص تنزه كلام الله ورسوله عن ذلك، بل العيب في فهمهم على حد قول الشاعر: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم ولم يمنع فهمهم من نص شرعي موافقة مذهبهم أن يتلى النص ويبلغ ويتداول. وعليه فـ ... ليس من اللائق أبداً أن يؤول قول الإمام على ذلك وأن يفهم من قوله هذا الفهم الفاسد، ولو كان رحمه الله يخشى ما فهمه هؤلاء لقال بما جاء به النص: (الإيمان يزيد وينقص) ثم بين للسائل أنه لا يلزم من القول بنقصه أنه يكفر، إذ لا تلازم بينهما، أو نحو هذا مما يبين السبيل ويزيل الإشكال إن وجد. والله أعلم. وعلى كلٍّ فالإمام رحمه الله نص على أنه من ترك القول بالنقص لعدم ورود النص، فلا حاجة بنا بعد إلى مثل هذه التعليلات. وأيضاً فالإمام ثبت عنه القول بزيادة الإيمان ونقصانه وترك قوله الأول، بل إن قوله الأخير هو المعروف عنه عند أهل العلم كما قال أحمد بن القاسم: تذاكرنا من قال: الإيمان يزيد وينقص فعدّ الإمام أحمد غير واحد ثم قال: ومالك بن أنس يقول: يزيد وينقص، فقلت له إن مالكا يحكون عنه أنه قال: يزيد ولا ينقص. فقال: بلى قد روي عنه يزيد وينقص كان ابن نافع يحكيه عن مالك، فقلت له: ابن نافع يحكيه عن مالك؟ قال: نعم (¬2). والروايات الواردة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة، ... منها: أولاً – رواية عبدالرزاق: قال عبدالرزاق: (سمعت معمراً وسفيان الثوري ومالك بن أنس، وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (¬3). وقال: (لقيت اثنين وستين شيخا منهم معمر ... ومالك بن أنس ... كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (¬4). ثانيا – رواية إسحاق بن محمد الفروي: قال: (كنت عند مالك بن أنس فسمعت حماد بن أبي حنيفة يقول لمالك يا أبا عبدالله إن لنا رأيا نعرضه عليك فإن رأيته غير ذلك كففنا عنه، قال: وما هو؟ قال: يا أبا عبدالله لا نكفر أحدا بذنب، الناس كلهم مسلمون عندنا. ¬

(¬1) رواه البخاري (9)، ومسلم (162). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 591) (1043) بتصرف. (¬3) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 113)، وابن عبدالبر في ((الانتقاء)) (ص: 34). (¬4) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 1029).

قال: ما أحسن هذا، ما بهذا بأس. فقام إليه داود بن أبي زنبر وإبراهيم بن حبيب وأصحاب له فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عبدالله إن هذا يقول بالإرجاء، قال: ديني مثل دين جبريل وميكائيل والملائكة المقربين، قال: لا والله: الإيمان يزيد وينقص هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4]، وقال إبراهيم أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] فطمأنينة قلبه زيادة في إيمانه) (¬1). ثالثاً – رواية ابن نافع: قال: كان مالك بن أنس يقول: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (¬2). رابعاً – رواية معن بن عيسى: أشار إليها ابن عبدالبر في (التمهيد) (¬3) ونقلها عنه شيخ الإسلام (¬4)، ولم أقف عليها مسندة. خامساً – رواية أبي عثمان سعيد بن داود بن أبي زنبر الزنيري: قال كان مالك يقول: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (¬5). سادساً – رواية سويد بن سعيد بن سهل الهروي: قال: (سمعت مالك بن أنس وحماد بن زيد .. وجميع من حملت عنهم العلم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص .. ) (¬6). فالقول بأن الإيمان يزيد وينقص ثابت عنه رحمه الله من طرق متعددة، ولذا قال ابن عبدالبر في (التمهيد) بعد أن أشار إلى رواية ابن القاسم عنه في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، قال: (وروى عنه عبدالرزاق، ومعمر بن عيسى، وابن نافع، وابن وهب أنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وعلى هذا مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد لله) (¬7). وقال القاضي عياض: (قال غير واحد: سمعت مالكا يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وبعضه أفضل من بعض) (¬8). وخلاصة الكلام في هذا الفصل أن مالكا رحمه الله كان يقول إن الإيمان يزيد ولا يقول ينقص متوقفاً في ذلك لا منكراً له، ثم بان له بعد ذلك وظهر من خلال تأمله للنصوص وإعادة النظر فيها أنه ينقص، مستدلاً على ذلك بنصوص القرآن المصرحة بالزيادة نفسها، إذ إن ما دل على الزيادة تصريحاً يدل على النقصان لزوماً. قال ابن رشد: (وقد روي عن مالك رحمه الله أنه كان يطلق القول بزيادة الإيمان وكف عن إطلاق نقصانه، إذ لم ينص الله تعالى إلا على زيادته، فروي عنه أنه قال عند موته لابن نافع وقد سأله عن ذلك: قد أبرمتموني إني تدبرت هذا الأمر فما من شيء يزيد إلا وينقص، وهو الصحيح والله سبحانه وتعالى أعلم) (¬9). ¬

(¬1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 960) (1743). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 317) (636) والخلال في ((السنة)) (3/ 608) (1082)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (6/ 327)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 114) واللالكائي في ((اعتقاد أهل السنة)) (5/ 959) (1742)، وابن عبدالبر في ((الانتقاء)) (ص: 36). (¬3) (9/ 252) وتصحف فيه معن إلى معمر وهو خطأ. (¬4) ((الفتاوى)) (7/ 331). (¬5) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 582) (1014). (¬6) رواه البيهقي (10/ 206)، وفي ((الأسماء والصفات)) (1/ 605) (542). (¬7) ((التمهيد)) (9/ 252). (¬8) ((ترتيب المدارك)) (2/ 43). (¬9) ((المقدمات)) (1/ 37).

وقول ابن رشد هذا فيه تحرير جيد لموقف مالك من هذه المسألة، ألا أن قوله عنه أنه قال ذلك عند موته فيه نظر ... ، إذ إن الروايات المتقدمة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد وينقص من طريق غير واحد من أصحابه لا تفيد ذلك وليس فيها تصريح به، سيما رواية ابن نافع المعينة هنا وقد تقدمت معناً ولفظها: (كان مالك يقول الإيمان يزيد وينقص) (¬1) فليس فيها ما يفيد أن ذلك إنما كان عند موته رحمه الله، ثم إن تعدد الروايات عنه في ذلك من طريق عبدالرزاق ومعمر وابن نافع وغيرهم من أصحابه تفيد أن قوله إن الإيمان يزيد وينقص لم يكن قال به عند موته فقط بل قبل ذلك، فلست أدري على ماذا استند ابن رشد في قوله هذا؟ والذي أراه أنه لا مستند له، فجميع الذين رووه من طريق نافع ممن تقدم ذكرهم في التخريج لم يذكر أحد منهم ما أشار إليه ابن رشد، ثم إن الروايات الأخرى عنه في أن الإيمان يزيد وينقص تدل على عدم صحة هذا كما هو ظاهر مما تقدم، والله أعلم. وعلى كل فهذا القول أعني قول مالك رحمه الله: (الإيمان يزيد وينقص) هو الأخير من أقواله وهو المشهور عنه عند أصحابه وغيرهم لا الأول، أما قول الزبيدي: (وتوقف مالك عن القول بنقصانه، هذا هو المشهور من مذهبه) (¬2). فغير صحيح، إلا إن كان يعني بالشهرة شهرته عند أهل البدع فنعم، فهم يتتبعون ما وافق أهواءهم من النصوص وأقوال أهل العلم ويأخذون به ويعدونه صحيحا مشهورا ويدعون ما سواه. فالمشهور عن مالك هو القول بأن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا لما عدد الإمام أحمد من قال الإيمان يزيد وينقص من أهل العلم عدّ منهم مالكاً رحمه الله مع علمه أنه روي عنه القول بأن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان. ولما عدد عبدالرزاق رحمه الله القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص عدّ منهم مالكاً رحمه الله، وهكذا صنع أبو عبيد وغيرهم من أهل العلم، وما ذاك إلا لأنه المشهور عن مالك رحمه الله. ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن أشار إلى توقف مالك في النقصان: (والرواية الأخرى عنه، وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم إنه يزيد وينقص) (¬3). رواية غريبة: وقد ذكر القاضي عياض في (ترتيب المدارك) رواية غريبة عن مالك في ذلك فقال: (قال زهير بن عباد: قلت لمالك ما قولك في صنفين عندنا بالشام اختلفوا في الإيمان فقالوا: يزيد وينقص؟ قال بئس ما قالوا ... ) إلى آخر سياق هذه الرواية وهو طويل (¬4). وهذا غريب جداً، بل لا يثبت عن مالك رحمه الله لا سيما أن القاضي عياض ذكره مرسلاً هكذا. ولم يذكر من خرجه ولم يذكر له سنداً، فعلى هذا لا يكون صحيحاً، ولا تصح نسبته إليه، كيف وهو مخالف للصحيح الثابت عنه رحمه الله، اللهم إلا أن يكون في الرواية تحريف أو سقط، والله أعلم .. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - بتصرف- ص277 ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 317) (636) والخلال في ((السنة)) (3/ 608) (1082)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (6/ 327)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 114) واللالكائي في ((اعتقاد أهل السنة)) (5/ 959) (1742)، وابن عبدالبر في ((الانتقاء)) (ص: 36). (¬2) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 256). (¬3) ((الفتاوى)) (7/ 506). (¬4) ((ترتيب المدارك)) (2/ 42).

الفصل الثالث: أوجه وأسباب زيادة الإيمان ونقصانه

المبحث الأول: أوجه زيادة الإيمان ونقصانه الوجه الأول: الإجمال والتفصيل فيما أمروا به، فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمرهم به رسولهم، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله وإتمام الشرع، ولا يجب على كل عبد أن يؤمن إيماناً مفصلاً بكل ما أخبر به الرسول إن لم يبلغه تفاصيل ذلك، فمن بلغه وجب عليه أن يؤمن به إيماناً مفصلاً، فإن من عرف القرآن والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لا يلزم غيره. فلو آمن رجل بالله وبالرسول باطناً وظاهراً، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين، مات مؤمناً بما وجب عليه الإيمان، وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع بتفاصيلها فآمن بها وعمل بها، بل إيمان هذا الأخير أكمل وجوبا ووقوعاً، لأن ما وجب عليه من الإيمان أكمل وكذلك ما وقع منه أكمل، وبهذا يعلم أنه ليس من التزم طاعة الرسول مجملاً، ومات قبل أن يعرف تفصيل ما أمره به، كمن عاش حتى عرف ذلك مفصلاً وأطاعه فيه، فليس إيمان من آمن بالرسول مجملاً من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره، كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته، والجنة والنار والأمم، وآمن به في ذلك كله، فشتان ما بين هذا وذاك. وقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] المراد به إكمال التشريع بالأمر والنهي، وليس المراد به أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة، وأنه فعل ذلك، بل لقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف النساء بأنهن ((ناقصات عقل ودين)) (¬1)، وجعل نقصان عقلها أن شهادة امرأتين شهادة رجل واحد، ونقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وهذا النقصان ليس هو نقصاً مما أمرت به، فلهذا لا تعاقب عليه لأنها لم تؤمر به، لكن من أمر بالصلاة والصوم ففعله كان دينه كاملاً بالنسبة إلى هذه الناقصة الدين، والتي تترك الصلاة والصوم حال حيضها، وإن كانت مأمورة بهذا الترك، فذاك إيمانه أكمل من هذه للتفاوت بينهما في المأمور به. فهذا وجه من أوجه الزيادة والنقصان في الإيمان. وذكر شيخ الإسلام نحو ما تقدم في شرحه للعقيدة الأصفهانية ثم قال: (فصار النقص في الدين والإيمان نوعين نوعا لا يذم العبد عليه لكونه لم يجب عليه لعجزه عنه حساً أو شرعاً، وإما لكونه مستحباً ليس بواجب، ونوعا يذم عليه وهو ترك الواجبات) (¬2) ... أي دون عذر. الوجه الثاني: الإجمالي والتفصيل فيما وقع منهم، فإن الناس وإن تساووا في وجوب الإيمان عليهم جميعا، فهم متفاوتون في القيام به: 1 - فمنهم من يطلب علم ما أمر به وما وجب عليه فيتعلمه ويعمل به، فيجمع بين العلم والعمل. 2 - ومنهم من يطلب علم ما أمر به فيتعلمه ويؤمن به ويصدق، ولكن لا يعمل به. 3 - ومنهم من يؤمن بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقاً ولا يكذبه قط، لكنه يعرض عن معرفة أمره ونهيه ويعرض عن طلب العلم الواجب عليه بل يتبع هواه فلا يتعلم الواجب عليه ولا يعمل به. ¬

(¬1) رواه البخاري (298)، ومسلم (252). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (139)، ((الفتاوى)) (7/ 196)، ((فتح رب البرية)) لابن عثيمين (66).

فهؤلاء الثلاثة وإن اشتركوا في الوجوب، فإنهم متفاوتون في الإيمان تفاوتاً عظيماً فالأول منهم وهو الذي طلب علم التفصيل وعمل به إيمانه أكمل من إيمان الثاني الذي عرف ما يجب عليه والتزمه وأقرّ به، لكنه لم يعمل به وهو خائف من عقوبة ربه على ترك العمل معترف بذنبه، وهذا الثاني إيمانه أكمل من إيمان الثالث الذي لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه مقر بنبوته باطناً وظاهراً. وهذا التفاوت بينهم في الإيمان إنما هو فيما وقع منهم، لا في ما أمروا به لأنهم متساوون في وجوبه عليهم جميعاً، وبهذا يتبين أن الإيمان يزيد وينقص من جهة قيام المؤمنين به ووقوعه منهم، فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه، كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه التزام عام وإقرار عام، وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها، فآمن بها، كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء بل آمن بها إيماناً مجملاً، أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته، كان إيمانه بها أكمل. وبالجملة فإنه كلما ازداد المسلم قياماً بأوامر هذا الدين والتزاماً لأحكامه، زاد إيمانه بذلك، وكان أكمل من غيره ممن لم يقم بذلك، وهذه الزيادة في الإيمان إنما وقعت من جهة قيام المؤمنين به ووقوعه منهم. الوجه الثالث: إن العلم والتصديق نفسه يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، فإن الإنسان يجد في نفسه أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه، كما يتفاضل حاله في سمعه لمسموعه، ورؤيته لمرئيه، وحبه لمحبوبه، وكراهيته لمكروهه، ورضاه بمرضيه، وبغضه لبغيضه، ولا ينكر التفاضل في هذه أحد، بل من أنكر التفاضل فيها كان مسفسطا مكذبا للأمور المسلمات. فالعلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي من القدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك، فإذا كانت القدرة على الشيء تتفاوت فكذلك الإخبار عنه يتفاوت، وإذا قال القائل العلم بالشيء الواحد لا يتفاضل كان بمنزلة قوله القدرة على المقدور الواحد لا تتفاضل، وقوله ورؤية الشيء الواحد لا تتفاضل. ومن المعلوم أن الهلال المرئي يتفاضل الناس في رؤيته، فهم وإن اشتركوا فيها، فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض، وكذلك سمع الصوت الواحد يتفاضلون في إدراكه، وكذلك الكلمة الواحدة يتكلم بها الشخصان ويتفاضلان في النطق بها، وكذلك شمّ الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام يتفاضل الشخصان فيه، فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته وحركاته، بل وغير صفات الحي، إلا وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان. فإذا كان ذلك كذلك فإن علم القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من هذا بكثير، فالمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه، يتفاضل الناس في معرفتها، أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها، وهكذا سائر أمور الإيمان. ومما يوضح هذا الوجه في التفاضل في تصديق القلب، أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فمن آمن وصدق بأن الله حق، ورسوله حق، والجنة حق، والنار حق، وأوجب له هذا التصديق محبة الله وخشيته والرغبة في الجنة، والهرب من النار، فإيمان هذا أكمل ممن آمن وصدق بهذه الأمور إلا أن إيمانه لم يوجب له ذلك.

قال النووي بعد أن ذكر قول من قال إن التصديق لا يزيد ولا ينقص وإنه متى قبل الزيادة كان شكاً وكفراً، قال: (والأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيّرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره .. ) (¬1). وقال النووي أيضاً: (والناس يتفاضلون في تصديق القلب على قدر علمهم ومعاينتهم فمن زيادته بالعلم قوله تعالى: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ومن المعاينة قوله تعالى: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ فجعل له مزية على علم اليقين والله أعلم) (¬2). ونقله عنه الحافظ في (الفتح) ثم قال: (ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها) (¬3). وقال شيخ الإسلام: (إن التصديق نفسه يتفاضل كنهه، فليس ما أثنى عليه البرهان بل تشهد له الأعيان، وأميط عنه كل أذى وحسبان، حتى بلغ أعلى درجات الإيقان، كتصديق زعزعته الشبهات، وصدقته الشهوات، ولعب به التقليد، ويضعف لشبه المعاند العنيد، وهذا أمر يجده من نفسه كل منصف رشيد) (¬4). وقال ابن رجب: (والتصديق القائم بالقلوب يتفاضل، وهذا هو الصحيح، وهو أصح الروايتين عن أبي عبدالله أحمد بن حنبل، فإن إيمان الصديقين الذي يتجلى الغيب لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شكك لدخله الشك ... ) (¬5). لم أقف على نقل للإمام أحمد رأى فيه أن التصديق لا يتفاضل، وإنما الذي نقل عن الإمام فيه روايتان فيما اطلعت عليه هو: (المعرفة القلبية) كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكما سيأتي في الوجه التالي، فعلّ الحافظ ابن رجب قصد بالروايتين عنه في التصديق ما جاء عنه في المعرفة والله أعلم. وقال الكرخي: (إن نفس التصديق يقبل القوة، وهي التي عبر عنها بالزيادة للفرق المميز بين يقين الأنبياء ويقين آحاد الأمة وكذا من قام عليه دليل واحد ومن قامت عليه أدلة كثيرة، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه) (¬6). فبهذا البيان والنقول يتضح بما لا مجال للشك فيه أن التصديق نفسه يقبل الزيادة والنقصان، فتأمل هذا الوجه جيدا فقد اشتمل على أوضح رد وأجلى بيان لبطلان قول من قال إن التصديق لا يزيد ولا ينقص، وإن نقصانه يقتضي الشك والكفر ... الوجه الرابع: ¬

(¬1) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 148)، ((المسائل المنثورة)) (194). (¬2) ((شرح البخاري)) (1/ 226). (¬3) ((فتح الباري)) (1/ 46). (¬4) ((الفتاوى)) (6/ 480) ((تهذيب السنن)) لابن القيم (7/ 56). (¬5) ((جامع العلوم والحكم)) (28) بتصرف يسير. (¬6) نقله عنه أبو السعود في تفسيره (3/ 4) وصديق حسن خان في كتابه ((فتح البيان)) (4/ 6). والنقل بتصرف.

إن المعرفة القلبية – وهي دون التصديق (¬1) – يتفاضل الناس فيها، فهي تختلف من حيث الإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور والغفلة؛ فليست المعرفة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها كالمجملة التي غفل عنها صاحبها، وإذا حصل له ما يريبه فيها ارتاب ثم رغب إلى الله في كشف الريب. قال شيخ الإسلام: (وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل على الصحيح عند أهل السنة، وفي هذا نزاع، فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل وغيرهما، وقد حكي عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان) (¬2). وقال شيخ الإسلام: (وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد روايتين) (¬3). وكلتا الروايتين ثابتتان عن الإمام رحمه الله بسند صحيح، أما الرواية الأولى فقد خرجها الخلال في ((السنة)) من طريق أبي بكر محمد بن علي أن يعقوب بن بختان حدثهم قال: سألت أبا عبدالله عن المعرفة والقول تزيد وتنقص؟ قال: لا، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل (¬4). وأما الرواية الثانية فخرجها أيضاً الخلال في ((السنة)) من طريق المروذي قال: قلت لأبي عبدالله في معرفة الله عز وجل في القلب يتفاضل فيه؟ قال: نعم، قلت: ويزيد؟ قال: نعم (¬5) ... ولا تعارض ... بين هاتين الروايتين عن الإمام، فهو رحمه الله جزم في الرواية الأولى بالإتيان بالمعرفة والقول، وهذا مما لا يجوز لمسلم أن يرتاب فيه إذ إن من شك في إتيانه بالمعرفة والقول يكفر، لكن المعرفة تختلف من شخص لآخر قوةً وضعفاً بحسب قوة الأدلة وكثرة النظر، وهذا ما بينه رحمه الله في الرواية الثانية، حيث بيّن أن الناس يتفاضلون في المعرفة وأنها تزيد، وهذا لا يتنافى مع الجزم بالإتيان بالمعرفة، لأن القدر الواجب من المعرفة يجزم به المسلم، ولا يمكن أن يجزم بأنه بلغ أعلى درجات المعرفة، لأن المعرفة درجات والناس متفاضلون فيها، والله أعلم. ثم ... وقفت على كلام نحوه للقاضي أبي يعلى في التوفيق بينهما، حيث قال رحمه الله بعد أن أشار إلى هاتين الروايتين: (وعندي أن المسألة ليست على روايتين وإنما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال لا تزيد ولا تنقص يعني به نفس المعرفة، لأن المعرفة هي: معرفة المعلوم على ما هو به، وذلك لا يختلف بحال ... والموضع الذي قال: تزيد وتنقص يعني بالزيادة في معرفة الأدلة، وذلك قد يزيد وينقص، فمنهم من يعرف الشيء من جهة واحدة، ومنهم من يعرفه من جهات كثيرة) (¬6). ثم إن مما يوضح لنا هذا الوجه. أعني التفاضل في المعرفة ويبينه أن معرفة الإنسان بالشيء إن عاينه تختلف عن معرفته به إن لم يعاينه وإن كان جازماً بصدق من أخبره. ¬

(¬1) لمعرفة الفرق بين المعرفة والتصديق انظر: رسالة الإمام أحمد للجوزجاني ضمن ((السنة)) للخلال، وانظرها وشرح شيخ الإسلام لها في ((الفتاوى)) (7/ 390، وما بعدها)، قال شيخ الإسلام في شرحها (7/ 395): "وأحمد فرق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب ... ". (¬2) ((الفتاوى)) (7/ 408) و (10/ 722) ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (18). (¬3) ((درء التعارض)) (7/ 451) قلت: ذكر القاضي أبو يعلى هاتين الروايتين عن الإمام في كتابه ((الروايتين والوجهين)). (¬4) ((السنة)) للخلال (2/ 677). (¬5) ((السنة)) للخلال (2/ 676). (¬6) ((الروايتين والوجهين)) (القرآن 251/ب).

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس الخبر كالمعاينة)) (¬1) فإن موسى لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل، لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر، فقد لا يتصور المخبر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه، بل يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به، وإن كان مصدقاً به، ومعلوم أنه عند المعاينة يحل له من تصور المخبر به ما لم يكن عند الخبر (¬2). فالزيادة والنقصان في الإيمان شاملة لمعرفة القلوب لتفاضل الناس فيها، من جهة الإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، والذكر والغفلة، فمعرفة الله وأسمائه وصفاته، وأنه بكل شيءٍ عليم، وعلى كل شيءٍ قدير، وأنه غفور رحيم، عزيز حكيم، شديد العقاب، إلى غير ذلك من صفاته، كل ذلك داخل في الإيمان، إذ لا يمكن لمسلم أن يقول إنه ليس من الإيمان، ومعلوم أن الناس متفاوتون في معرفتها وغير متماثلين، بل لا يمكن لأحد أن يدعي تماثل الناس في ذلك (¬3). ثم من المعلوم أيضاً أن الناس يتفاضلون في معرفة الملائكة وصفاتهم، ويتفاضلون في معرفة الروح وصفاتها، وفي معرفة الجن وصفاتهم، وفي معرفة الآخرة وما بها من نعيم وعذاب، بل ويتفاضلون في معرفة أبدانهم وصفاتها وصحتها ومرضها وما يتبع ذلك، فإن كانوا متفاضلين في ذلك كله، فتفاضلهم في معرفة الله أعظم وأعظم (¬4). قال شيخ الإسلام: (ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربهم في الدنيا، ويتفاوتون في درجات العرفان، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله وقد قال: ((لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬5) وهذا يتعلق بمعرفة زيادة المعرفة ونقصها المتعلقة بمسألة زيادة الإيمان ونقصه) (¬6). وقال ابن قاضي الجبل في أصوله: (الأصح التفاوت، فإنا نجد بالضرورة الفرق بين كون الواحد نصف الاثنين، وبين ما علمناه من جهة التواتر مع كون اليقين حاصل فيهما) (¬7). قال السبكي في رسالة له ألفها في الاستثناء نقل أكثرها الزبيدي في (الإتحاف): (والمعرفة يتفاوت الناس فيها تفاوتاً كثيراً .. وأعلى الخلق معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأنبياء والملائكة على مراتبهم وأدنى المراتب الواجب الذي لا بد منه في النجاة من النار وفي عصمة الدم، وبين ذلك وسائط كثيرة منها واجب ومنها ما ليس بواجب وكل ذلك داخل في اسم الإيمان) (¬8). وبهذا يتبين أن المعرفة القلبية تقبل الزيادة والنقصان وبالله التوفيق. فائدة جليلة: تنازع الناس في المعرفة القلبية هل حصلت بالشرع أو بالعقل؟ ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 271) (2447)، وابن حبان (14/ 96) (6213)، والحاكم (2/ 351). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الزركشي في ((اللآلئ المنثورة)) (78): إسناده صحيح، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/ 138)، وقال محمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (2/ 475): إسناده جيد، وقال الزرقاني في ((مختصر المقاصد)) (846)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5374): صحيح. (¬2) ((الفتاوى)) (7/ 243). (¬3) ((الفتاوى)) (7/ 414). (¬4) ((الفتاوى)) (7/ 569). (¬5) جزء من حديث رواه مسلم (1118). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬6) ((الفتاوى)) (6/ 479). (¬7) نقله عنه ابن النجار في شرح ((الكوكب المنير)) (18). (¬8) ((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 280).

قال شيخ الإسلام بعد أن نقل الخلاف في ذلك ((وحقيقة المسألة: أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل، ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع، فالإقرار الفطري: كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار، قد يحصل بالعقل كقوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان: 25]. وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] فلا يحصل إلا بالوحي .. )) (¬1). الوجه الخامس: إن أعمال القلوب كالمحبة والخشية والخشوع والذل والإنابة والتوكل والحياة والرغبة والرهبة والخوف والرجاء وغيرها. يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً. وهي جميعها من أعمال الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق سلف هذه الأمة. فالمحبة مثلاً الناس متفاوتون فيها، ما بين أفضل الخلق محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام وهما خليلا الله وأشد الناس محبة له، إلى أدنى الناس درجة في الإيمان كمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وبين هذين الحدين من الدرجات ما يحصيه إلا رب الأرض والسماوات، فإنه ليس في أجناس المخلوقات ما يتفاضل بعضه على البعض كبني آدم. بل إن التفاضل في المحبة يعلمه كل إنسان من نفسه بحسب الحب الذي قام في قلبه لأي محبوب كان، سواء كان حباً لولده أو لامرأته أو لرياسته أو لصديقه أو غير ذلك، فإن حبه لهذه الأشياء على درجات، فالحب أوله علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب نحوه، ثم غرام للزومه القلب كما يلزم الغريم غريمه، إلى غير ذلك من درجات الحب وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، فإذا علم تفاضل الناس في حب هذه الأشياء من محبوباتهم، فتفاضلهم في حب الله أعظم. وقد دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على تفاضل الناس فيه قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة: 165]. وقال تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]. فهاتان الآيتان فيهما دلالة على تفاضل الناس في المحبة، ففي قوله أَشَدُّ حُبًّا في الآية الأولى وقوله: أَحَبَّ في الآية الثانية أعظم دلالة على ذلك، لاستخدام أفعل التفضيل فيهما الدال صراحة على التفاضل. وفي الصحيحين: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) (¬2). ¬

(¬1) ((درء التعارض)) (7/ 458). (¬2) رواه البخاري (21)، ومسلم (43) من حديث أنس رضي الله عنه.

وفيهما عنه رضي الله عنه قال: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) (¬1). وفي صحيح البخاري: عن عبدالله بن هشام رضي الله عنه قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر)) (¬2). فهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيها أوضح دلالة على تفاضل الناس في المحبة. فقد ذكر فيه كلمة (أحب) الدالة على التفاضل تصريحاً. فمن أنكر ذلك وقال بخلافه، فقد خالف الكتاب والسنة، بل وخالف اللغة والعقل والحس. وكما أن الناس يتفاضلون في المحبة ... وهي عمل قلبي، فهم كذلك يتفاضلون في سائر أعمال القلوب من خشية وإنابة وتوكل ورجاء وخوف وحياء وغير ذلك، فهذه كلها يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً، وهذا من الأمور المعلومة الظاهرة، والأدلة في الكتاب والسنة كثيرة منها: قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28]. وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]. وقوله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16]. وقوله: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]. وقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57] وقوله: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32]. وقوله: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29]. وقوله: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]. حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير)) الحديث (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (15) ومسلم (44) واللفظ له، من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6632) من حديث عبدالله بن هشام رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (44)، ومسلم (499).

وحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)) (¬1). وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والحياء شعبة من الإيمان)) (¬2). وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)) (¬3). وغيرها من الأحاديث ففي هذه النصوص أوضح دلالة على تفاضل الناس في أعمال القلوب وتفاوتهم فيها. ثم إن النصوص الواردة في ذلك كثيرة، ولو تتبعتها وذكرت كل عمل من الأعمال القلبية بأدلته ... لطال المقام، والأمر لا يحتاج إلى ذلك، لأن كل إنسان يحس ذلك ويلمسه في نفسه، فإن الإنسان يجد نفسه في وقت أشد حياء منه في الوقت الآخر، وفي وقت أشد خوفاً منه في الوقت الآخر، وهكذا سائر أعمال القلب، فإن الإنسان يحس في نفسه تفاوته من وقت لآخر فيها. قال شيخ الإسلام: (فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن، أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء والكبر والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم .. ثم ذكر بعض نصوص الكتاب والسنة الدالة على ذلك، ثم قال: وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة) (¬4). وبيّن في موضع آخر أن هذا هو قول أهل السنة والجماعة، فقال: (والذي مضى عليه سلف الأمة وأئمتها أن نفس الإيمان الذي في القلوب يتفاضل .. ) (¬5). وقال الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: (وأما كون الذي في القلب والذي في الجوارح يزيد وينقص فذاك شيء معلوم، والسلف كانوا يخافون على الإنسان إذا كان ضعيف الإيمان النفاقَ أو سلبَ الإيمان كله) (¬6). الوجه السادس: إن الأعمال الظاهرة يتفاضل الناس فيها وتزيد وتنقص وهذا شامل لأعمال اللسان، كالتسبيح والتكبير والاستغفار والذكر وقراءة القرآن وغيرها، وشامل لأعمال الجوارح، كالصلاة والحج والجهاد والصدقة وغيرها. فهذه الأعمال الظاهرة هي من الإيمان، وداخله في مسماه، والتفاضل يقع فيها كما يقع في الأعمال الباطنة. قال شيخ الإسلام: (وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان ... ) (¬7). وقال: (وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح ونقصانه فمتفق عليه وإن كان في دخوله في مطلق الإيمان نزاع، والذي عليه أهل السنة والحديث أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (¬8). أما الأدلة على تفاضل الناس في الأعمال الظاهرة: أعمال اللسان، وأعمال الجوارح فكثيرةٌ جداً. فمن أدلة تفاضل الناس في أعمال اللسان: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا [الأحزاب: 42]. وقول الله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران: 41]. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4681)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (17/ 168). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 71) كما أشار لهذا في المقدمة، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (9)، ومسلم (161). (¬3) رواه البخاري (20). (¬4) ((الفتاوى)) (7/ 563). (¬5) ((الفتاوى)) (6/ 479). (¬6) ((الدرر السنية)) (1/ 106) ومجموع مؤلفات الشيخ ((قسم الفتاوى)) (ص: 51). (¬7) ((الفتاوى)) (7/ 562). (¬8) ((الفتاوى)) (6/ 479) باختصار.

وقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 191]. وقوله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35]. وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ [فاطر: 29]. وقوله: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم: 58]. وفي الصحيحين: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) (¬1). وفي الترمذي: وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها)) (¬2). فهذه النصوص فيها أوضح دلالة على تفاضل الناس في أعمال اللسان، إذ هم ليسوا سواء في القيام بأعماله، بل متفاوتون. ومن أدلة تفاضل الناس في أعمال الجوارح: قول الله تعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238]. وقوله: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [إبراهيم: 31]. وقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1 - 11]. و ... حديث الشعب، .. فيه جعل النبي صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان (¬3)، و ... قوله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده .. )) الحديث (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (6044) واللفظ له، ومسلم (1859). (¬2) رواه الترمذي (2914). ورواه أبو داود (1464) وأحمد (2/ 192) (6799)، وابن حبان (3/ 43) (766) والحاكم (1/ 553) والبغوي (4/ 435). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (901) كما أشار لذلك في مقدمته، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 372) كما أشار لذلك في مقدمته، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. (¬3) رواه البخاري (9)، ومسلم (162). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (186). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

فهذه النصوص فيها ذكر جملة من الأعمال الإيمانية كالصلاة والزكاة، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وتغيير المنكر باليد على حسب الاستطاعة، وإماطة الأذى عن الطريق فهذه كلها من الأعمال الإيمانية التي تكون بالجوارح، وما من شك في أن الناس متفاضلون في هذه الأعمال أداء لها ومحافظة عليها وقياماً بها، فهم ليسوا في ذلك على درجة واحدة، بل بينهم فيها تفاوت عظيم. الوجه السابع: إن الإيمان يتفاضل ويزيد وينقص من جهة استحضار الإنسان بقلبه لأمور الإيمان، وذكره لها، ودوامه وثباته عليها، بحيث لا يكون غافلاً عنها، فإن من كان كذلك أكمل إيماناً ممن صدق بالمأمور به وغفل عنه. وذلك لأن الغفلة تضاد كمال العلم والتصديق والذكر، وأما دوام الاستحضار وعدم الغفلة فإنه يكمل العلم واليقين ويقوي الإيمان، فالعالم بالشيء في حالة غفلته عنه دون العالم بالشيء حال ذكره له، والعلم وإن كان في القلب فالغفلة تنافي تحققه. فالغفلة وعدم استحضار الأوامر، لها أثر في نقص كمال الإيمان وضعفه ولهذا قال عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه: (إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه) (¬1). وكان معاذ بن جبل يقول لأصحابه (اجلسوا بنا نؤمن ساعة) (¬2). وهذا يدلنا على أن الحذر من الغفلة، واستحضار الإيمان سبب لزيادة الإيمان، وعدم ذلك سبب لنقصه. ولهذا فإن الله الكريم نبه في مواضع كثيرة من كتابه على أهمية الذكرى وعظم شأنها، وخطر الغفلة وشدة ضررها، ومن ذلك قوله: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55] وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] ومعنى شهيد أي: حاضر القلب وليس بغافل. وقوله: سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى [الأعلى: 11]. وقوله: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]. وقوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205] وغيرها من الآيات. الوجه الثامن: إن الإنسان قد يكون مكذباً ومنكراً لأمور لا يعلم أنها من الإيمان، ولو كان عالماً بأنها منه لم يكذب ولم ينكر، فإذا تبين له بعد أنها من الإيمان، وظهر له ذلك بوجه من الوجوه، فإنه يصدق بما كان مكذباً به، ويعرف ما كان منكراً له، وهذا تصديق جديد، وإيمان جديد، ازداد به إيمانه، وهو لم يكن قبل ذلك كافراً بل جاهلاً. ¬

(¬1) رواه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 330) (680)، والآجري في ((الشريعة) (ص: 108)، والخطابي في ((الغنية)) (ص: 45)، وأبو أحمد الحاكم في ((شعار أصحاب الحديث)) (8). (¬2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث رقم (7)، ووصله ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 25، 26) وفي ((الإيمان)) (105)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 235)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 73) (44)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 368) (796)، (1/ 378) (823)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 847) (1135) واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 943) (1706، 1707). قال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/ 21): موقوف صحيح. وصحح العيني إسناده في ((عمدة القاري)) (1/ 190)، وقال الألباني في ((الإيمان لابن أبي شيبة)) (105) إسناده صحيح على شرط الشيخين.

وهذا يحصل لكثير من الناس ولا سيما أهل العلوم والعبادات، فإنه يقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يعرفون أنها تخالف، فإذا عرفوا رجعوا. وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه، أو عمل عملا أخطأ فيه، وهو مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم مصدق بما جاء به ثم عرف ما قاله وآمن به وترك ما كان عليه من خطأ، فهو من هذا الباب، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب، فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به، أكمل ممن أخطأ ذلك، ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به أكمل ممن لم يكن كذلك. فهذا أحد أوجه زيادة الإيمان ونقصانه، وهو وإن أشبه الوجه الأول وهو المجمل والمفصل من جهة أنه تجدد عند هذا وهذا شيء من معارف الإيمان وعلومه مما لم يكن قبل عندهما، إلا أنهما مختلفان من جهة أن صاحب الوجه الأول كان قلبه خالياً من تكذيب وتصديق لشيءٍ من التفاصيل وعن معرفة وإنكار لشيء من ذلك، أما صاحب هذا الوجه فهو مكذب بشيء من التفاصيل منكر لها لجهله أنها من الإيمان وبهذا يظهر الفرق بين الوجهين. الوجه التاسع: إن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها، فمن كان مستنداً في تصديقه ومحبته على أدلة توجب اليقين ولا تدع مجالاً للشبه العارضة، بل تدحضها وتبين فسادها، فهو ليس بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك، فإن تصديقه قد يتزعزع ويداخله الشك والريب لضعف أسباب التصديق عنده وكذلك من جعل له علوماً ضرورية قوي تمكنها في نفسه بحيث لا يمكنه دفعها عن نفسه، لم يكن بمنزلة من تعارضه الشبه ويريد إزالتها بالنظر والبحث وقد لا يستطيع. ولا يستريب عاقل أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك وبطلانها ليس كالعلم الذي هو مستند على دليل واحد أو دليلين من غير معرفة بالشبه المعارضة له، وفسادها. فالشيء كلما قويت أسبابه، وتعددت وانقطعت موانعه واضمحلت كان أوجب لكماله وقوته وتمامه، والعكس بالعكس. فهذه الأوجه التسعة تبين تفاضل الناس فيما يقوم بالقلب واللسان والجوارح، وبالتأمل قد يظهر غيرها. ثم إن هذه الأوجه التسعة تتلخص في وجهين اثنين هما: 1 - إن الإيمان يتفاضل من جهة أمر الرب. 2 - إن الإيمان يتفاضل من جهة فعل العبد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وذلك أن أصل أهل السنة أن الإيمان يتفاضل من وجهين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد. أما الأول فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص، فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك، وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة، فكان الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة. وأيضاً فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملا، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل، وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان. والنوع الثاني: هو تفاضل الناس في الإتيان به مع استهوائهم في الواجب، وهذا الذي يظن أنه محل النزاع وكلاهما محل النزاع. وهذا أيضاً يتفاضلون فيه فليس إيمان السارق والزاني والشارب كإيمان غيرهم، ولا إيمان من أدى الواجبات كإيمان من أخل ببعضها، كما أنه ليس دين هذا وبره وتقواه مثل دين هذا وبره وتقواه، بل هذا أفضل ديناً وبراً وتقوى فهو كذلك أفضل إيماناً .. ) (¬1) زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبدالرزاق البدر- بتصرف- ص136 ¬

(¬1) ((الفتاوى)) (13/ 51، 18/ 277).

المبحث الثاني: أسباب زيادة الإيمان

تمهيد لقد جعل الله سبحانه لكل مرغوب ومطلوب سبباً وطريقاً يوصل إليه، وإن أهم وأعظم المطالب وأعمها نفعاً هو الإيمان، وقد جعل الله له مواد كثيرة تجلبه وتقويه، وأسباباً عديدة تزيده وتنميه، إذا فعلها العباد قوي يقينهم وزاد إيمانهم، بيّنها الله في كتابه وبيّنها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته. ولعل أهم هذه الأسباب ما يلي: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص167

المطلب الأول: تعلم العلم النافع

المطلب الأول: تعلم العلم النافع إن أهم وأنفع أسباب زيادة الإيمان تعلم العلم النافع علم الشريعة المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (¬1). قال ابن رجب معرّفا بهذا العلم: (فالعلم النافع هو ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل .. ) (¬2). وقال ابن حجر: (والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه) (¬3). ... فمن وفق لهذا العلم، فقد وفق لأعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة علم ذلك: قال الله تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]. وقال تعالى: لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 162]. وقال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 108]. وقال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الحج: 54]. وقال تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: 6] وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28] وقال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11] وفي الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) (¬4). ¬

(¬1) ((الفتاوى)) (28/ 80). (¬2) ((فضل علم السلف على علم الخلف)) (ص: 45). (¬3) ((فتح الباري)) (1/ 141). (¬4) أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).

وفي المسند وغيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) (¬1). وفي الترمذي وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله عز وجل وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)) (¬2). فهذه النصوص المذكورة فيها بيان منزلة العلم ومكانته، وعظم شأنه وأهميته، وما يترتب عليه من آثار حميدة وخصال كريمة في الدنيا والآخرة، وما ينتج عنه من خضوع وانقياد لشرع الله، وإذعان وامتثال لأمره، فالعالم عرف ربه، وعرف نبيه، وعرف أوامر الله وحدوده، وميز بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يكرهه ويأباه، فهو يعمل بأمر الله فيما يأتي ويذر، هذا إن وفق للعمل بما علم وإلا فعلمه وبال عليه. قال الآجري في مقدمة كتابه (أخلاق العلماء): (إن الله عز وجل وتقدست أسماؤه اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم فعلمهم الكتاب والحكمة وفقههم في الدين وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، فضلهم عظيم وخطرهم جزيل، ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع، مجالسهم تقيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العباد، وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج .. إلى أن قال: فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا) (¬3). ثم ساق من نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم ما يؤيد ما ذكره. فالعلم له منزلة عالية، ومكانة سامقة، ومن أعظم ما يبين لنا فضله وعظم شأنه، قول الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11]. ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 196) (21763). ورواه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وابن حبان (1/ 289) (88). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: ليس هو عندي بمتصل، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 106): لا يصح، وقال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (25/ 247): له طرق كثيرة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 151) كما أشار لذلك في المقدمة، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه الترمذي (2685). وقال: غريب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) ((أخلاق العلماء)) (ص: 13).

قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم، ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة (¬1). وكذلك قول الله تعالى: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]. ودلالة هذه الآية على فضل العلم ظاهرة، لأن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، لما يترتب عليه من زيادة الإيمان والثبات عليه، قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7] وقال تعالى: لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [النساء: 162]. وقال تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]. وهذه الآية الأخيرة كتب فيها ابن القيم رحمه الله بحثاً حافلاً بين فيه دلالتها على فضل العلم من وجوه كثيرة جدا، تربو على مائة وخمسين وجهاً، في كتابه القيم (مفتاح دار السعادة) (¬2). وقول النبي: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) (¬3) من أعظم ما يبين فضل العلم وأهله، وأن من وفق له فقد وفق للخير كله، يدلنا على ذلك تنكير لفظة (خير) في الحديث ليعم الخير كله ويشمل القليل منه والكثير، وهذا كله من فضل الله وكرمه وعظيم إحسانه على من وفق للعلم، وعلى العكس من ذلك من حرم العلم فقد حرم الخير، بدلالة الحديث نفسه. قال ابن القيم: (وهذا يدل على أن من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيراً، كما أن من أراد به خيراً فقهه في دينه، ومن فقهه في دينه فقد أراد به خيراً، إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للعمل، وأما إن أريد به مجرد العلم فلا يدل على أن من فقه في الدين فقد أريد به خيراً، فإن الفقه حينئذ يكون شرطاً لإرادة الخير وعلى الأول يكون موجباً والله أعلم) (¬4). وقال ابن حجر: (ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي: لم يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع فقد حرم الخير ... لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهاً ولا طالب فقه فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم) (¬5). وإنما نال العلم هذه المكانة العظيمة، لأنه وسيلة لأعظم الغايات وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له والقيام بتوحيده على الوجه المطلوب. فالعلم ليس مقصوراً لذاته وإنما هو مقصود لغيره وهو العمل، فكل علم شرعي فطلب الشرع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، ويدل على ذلك أمور: أحدها: أن الشرع إنما جاء بالتعبد، وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21]. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 141). (¬2) انظر (ص52 وما بعدها). (¬3) أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037). (¬4) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 65)، وانظر: ((الفتاوى)) (28/ 80). (¬5) ((فتح الباري)) (1/ 165).

وقوله: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ [هود: 1]. وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 3]. وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تحصى إلا بكلفة كلها دالة على أن المقصود من العلم هو التعبد لله عز وجل، وصرف جميع أنواع العبادات والطاعات له. الثاني: ما جاء به من الأدلة على أن روح العلم هو العمل، وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به. فقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28]. وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: 9]. فهذه الأدلة وغيرها تدل على أن العلم وسيلة من الوسائل، ليس مقصوداً لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ما ورد في فضل العلم إنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به. ومن المعلوم أن أفضل العلوم هو العلم بالله عز وجل، ومع هذا لا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه وهو الإيمان بالله (¬1). الثالث: ما ثبت في نصوص الشرع من التهديد الشديد، والتغليظ والوعيد لمن لم يعمل بعلمه، وأن العالم يسأل عن علمه ماذا عمل به، وأن من لم يعمل بعلمه يكون علمه وبالا عليه وحسرة وندامة. قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 44]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف: 3]. وقال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88]. وغيرها من النصوص، وقد جاء عن السلف في هذا آثار كثيرة، عظيمة النفع، جليلة القدر تناقلها العلماء في مؤلفاتهم. وقال شيخ الإسلام: ( .. ولهذا يقال: العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان هو حجة الله على عباده (¬2) .. فالفقيه الذي تفقه قلبه، غير الخطيب الذي يخطب بلسانه، وقد يحصل للقلب من الفقه والعلم أمور عظيمة، ولا يكون صاحبه مخاطباً بذلك لغيره، وقد يخاطب غيره بأمور كثيرة من معارف القلوب وأحوالها، وهو عار عن ذلك، فارغ منه) (¬3). ¬

(¬1) ((الموافقات)) للشاطبي (1/ 60). (¬2) هذا من كلام الحسن البصري رحمه الله، أخرجه الدارمي (1/ 102) وغيره وذكره شيخ الإسلام في ((الفتاوى)) وعزاه للحسن انظر: (7/ 23). (¬3) ((درء التعارض)) (7/ 453).

وبما تقدم يعرف قدر العلم ومكانته، وعظم منافعه وعوائده، وقوة أثره على قوة الإيمان وثباته، وأنه أعظم أسباب زيادته ونمائه وقوته، وذلك لمن عمل به. بل إن الأعمال إنما تتفاوت في زيادتها ونقصها، وقبولها وردها من جهة موافقتها للعلم ومطابقتها له، كما قال ابن القيم رحمه الله: (والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له، فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والمخالف له هو المردود؛ فالعلم هو الميزان، وهو المحك) (¬1). وقال: (وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان قوة فمدخول .. ) (¬2). وزيادة الإيمان الحاصلة من جهة العلم تكون من وجوه متعددة: من جهة خروج أهله في طلب العلم، وجلوسهم في حلق الذكر، ومذاكرة بعضهم بعضاً في مسائل العلم، وزيادة معرفتهم بالله وشرعه، وتطبيقهم لما تعلموه، وفيمن تعلم منهم العلم لهم فيه أجر، فهذه جوانب متعددة يزداد به الإيمان بسبب العلم وتحصيله. قال ابن رجب: (فمتى كان العلم نافعاً ووقر في القلب فقد خشع القلب لله وانكسر له وذل هيبةً وإجلالاً وخشيةً ومحبةً وتعظيماً، ومتى خشع القلب لله وذل وانكسر له قنعت النفس بيسير الحلال في الدنيا وشبعت به فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا .. وأوجب له علمه المسارعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه) (¬3) وهذا زيادة إيمان. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- بتصرف- ص167 أبواب العلم الشرعي التي يحصل بها زيادة الإيمان كثيرة جداً منها: المسألة الأولى: قراءة القرآن الكريم وتدبره فإن هذا من أعظم أبواب العلم المؤدية إلى زيادة الإيمان وثباته وقوته، فقد أنزل الله كتابه المبين على عباده هدىً ورحمةً وضياءً ونوراً وبشرى وذكرى للذاكرين. قال الله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام: 92] وقال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155] وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 52] وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89]. وقال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]. وقال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9]. وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء: 82]. وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37]. ¬

(¬1) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 89). (¬2) ((الفوائد)) (ص: 162). (¬3) ((فضل علم السلف على علم الخلف)) (ص: 46) بتقديم وتأخير في النقل.

فهذه الآيات الكريمات فيها فضل القرآن الكريم كتاب رب العالمين، وأن الله جعله مباركاً وهدى للعالمين، وجعل فيه شفاء من الأسقام سيما أسقام القلوب وأمراضها من شبهات وشهوات، وجعله بشرى ورحمة للعالمين وذكرى للذاكرين، وجعله يهدي للتي هي أقوم، وصرف فيه من الآيات والوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرى. فالذي يقرأ كتاب الله ويتدبر آياته ويتأملها، يجد فيه من العلوم والمعارف ما يقوي إيمانه ويزيده وينميه، ذلك أنه يجد في خطاب القرآن ملكا له الملك كله، وله الحمد كله، أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه، مستوياً على عرشه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عبيده، مطلعا على أسرارهم وعلانيتهم، منفردا بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي ويدبر. ويدعو عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعدّ لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعدّ لهم من العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء. ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم، وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم، وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وإنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته. ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقبل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فاسدهم، والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير. فلا يزال العبد يستفيد من هذا التدبر لكتاب الله، ويشهد قلبه فيه من العلوم ما يزيد في إيمانه ويقويه، وكيف لا؟ وهو يجد في القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جواداً جميلاً هذا شأنه، فكيف لا يحبه وينافس في القرب منه، وينفق أنفاسه في التودد إليه، وكيف لا يكون أحب إليه مما سواه، وكيف لا يؤثر رضاه عن رضا كل من سواه، وكيف لا يلهج بذكره، ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤه وقوته ودواؤه، بحيث إن فقد ذلك فسد وهلك، ولم ينتفع بحياته (¬1). قال الآجري رحمه الله (ومن تدبر كلامه عرف الرب عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر مما حذره مولاه الكريم، فرغب فيما رغبه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره كان القرآن له شفاء فاستغنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وأنس مما يستوحش منه غيره، وكان همه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها متى أتعظ بما أتلو؟ ولم يكن مراده متى أختم السورة؟ وإنما مراده متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأن تلاوة القرآن عبادة، لا تكون بغفلة، والله الموفق لذلك) (¬2). ¬

(¬1) انظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 58). (¬2) ((أخلاق حملة القرآن)) للآجري (ص: 10).

ولهذا فإن الله الكريم أمر عباده وحثهم على تدبر القرآن فقال سبحانه: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24]. وأخبر سبحانه أنه إنما أنزله لتدبر آياته، فقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29]. وبين سبحانه أن سبب عدم هداية من ضل عن الصراط المستقيم، هو تركه لتدبر القرآن واستكباره عن سماعه، فقال: قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأَوَّلِينَ [المؤمنون: 67 - 68] وأخبر سبحانه عن القرآن أنه يزيد المؤمنين إيمانا إذا قرأوه وتدبروا آياته، فقال سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]. وأخبر عن صالح أهل الكتاب أن القرآن إذا تلي عليهم يخرون للأذقان سجداً يبكون ويزيدهم خشوعاً وإيماناً وتسليماً، فقال سبحانه: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 107 - 109]. وأخبر سبحانه أنه لو أنزل القرآن الكريم على جبل لخشع وتصدع من خشية الله عز وجل، وجعل هذا مثلاً للناس يبين لهم عظمة القرآن، فقال: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]. ووصفه بأنه أحسن الحديث، وأنه ثنى فيه من الآيات وردد القول فيه ليفهم، وأن جلود الأبرار عند سماعه تقشعر خشية وخوفاً، فقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23]. وعاتب سبحانه المؤمنين على عدم خشوعهم عند سماع القرآن، وحذرهم من مشابهة الكفار في ذلك، فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16]. فهذه الآيات المتقدمة فيها أوضح دلالة على أهمية القرآن ولزوم العناية به وعلى قوة أثره على القلوب، وأنه أعظم شيء يزيد الإيمان، سيما إذا كانت القراءة بتدبر وتأمل ومحاولة لفهم معانيه.

قال ابن القيم رحمه الله: (وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه يتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن .. ) (¬1). وقال محمد رشيد رضا: (واعلم أن قوة الدين وكماله الإيمان واليقين لا يحصلان إلا بكثرة قراءة القرآن واستماعه مع التدبر بنية الاهتداء به والعمل بأمره ونهيه. فالإيمان الإذعاني الصحيح يزداد ويقوى وينمي وتترتب عليه آثاره من الأعمال الصالحة وترك المعاصي والفساد بقدر تدبر القرآن، وينقص ويضعف على هذه النسبة من ترك تدبره وما آمن أكثر العرب إلا بسماعه وفهمه، ولا فتحوا الأقطار ومصروا الأمصار، واتسع عمرانهم، وعظم سلطانهم، إلا بتأثير هدايته، وما كان الجاحدون المعاندون من زعماء مكة يجاهدون النبي ويصدونه عن تبليغ دعوة ربه إلا بمنعه من قراءة القرآن على الناس وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26]. وما ضعف الإسلام منذ القرون الوسطى حتى زال أكثر ملكه إلا بهجر تدبر القرآن وتلاوته والعمل به) (¬2). فالقرآن الكريم هو من أعظم مقويات الإيمان، وأنفع دواعي زيادته، وهو يزيد إيمان العبد من وجوه متعددة. قال ابن سعدي: (ويقويه من وجوه كثيرة، فالمؤمن بمجرد ما يتلو آيات الله، ويعرف ما ركب عليه من الأخبار الصادقة والأحكام الحسنة يحصل له من أمور الإيمان خير كبير، فكيف إذا أحسن تأمله، وفهم مقاصده وأسراره) (¬3). لكن ينبغي أن يعلم أن زيادة الإيمان التي تكون بقراءة القرآن لا تكون إلا لمن اعتنى بفهم القرآن وتطبيقه والعمل به، لا أن يقرأه قراءة مجردة دون فهم أو تدبر وإلا فكم قارئ للقرآن حجيجه وخصيمه يوم القيامة. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع آخرين) (¬4). وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( .. والقرآن حجة لك أو عليك) (¬5). فهو حجة لك ويزيد في إيمانك إن عملت به، وحجة عليك وينقص إيمانك إن فرطت به وأهملت حدوده. قال قتادة: (لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان) (¬6). ¬

(¬1) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 204). (¬2) ((مختصر تفسير المنار)) (3/ 170). (¬3) ((التوضيح والبيان لشجرة الإيمان)) (ص: 27). (¬4) رواه مسلم (1934). من حديث عمر رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (556). من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. (¬6) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (ص: 272)، والآجري في ((أخلاق حملة القرآن)) (ص: 73)، والمروزي في ((قيام الليل)) (ص: 77)، وذكره البغوي في تفسيره (3/ 133).

وقال الحسن البصري مبينا معنى تدبر القرآن ( .. أما والله ما هو يحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نفس والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القراء مثل هذا لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء) (¬1). قلت: يرحم الله الحسن، وما عساه قائل لو رأى قراء زماننا هذا، الذين فتنوا بالألحان وإقامة الحروف وتزويقها، مع إهمال الحدود وتضييعها، بل وانصرفت أسماع الناس معهم عند سماع القرآن إلى إقامة الحروف وتلحينها، مع إهمال الاتصالات والتدبر لكلام الله، وبكل حال لا اعتراض على تجويد القرآن وترتيله والتغني به وتحسين أدائه، وإنما الاعتراض على التكلف في إقامة الحروف والتنطع في ذلك، دون اهتمام أو مبالاة بإقامة الأوامر التي أنزل من أجلها القرآن، حتى إنك لا ترى في كثير من هؤلاء الورع القائم بحدود الله، بل ولا ترى فيهم القيام بالقرآن لا في خلق ولا في عمل. فتجد القارئ منهم الحافظ للقرآن المحسن في إقامة حروفه يحلق لحيته أو يطيل مئزره، بل ويهمل الصلاة إما كلية أو مع الجماعة، إلى غير ذلك من المنكرات حتى إن أحد هؤلاء والله المستعان افتتح بآيات من القرآن الكريم حفلا غنائيا لمرأة فاجرة، فقرأ بين يدي أغنيتها آيات من القرآن الكريم، جل كلام ربنا أن يدنسه مثل هؤلاء، وحسبي أن أقول مثل ما قاله الحسن رحمه الله: متى كانت القراء مثل هذا لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء. وقال ابن العربي واصفاً قراء زمانه بانشغالهم بإقامة حروف القرآن مع إهمال حدوده، واتخاذهم لهذا العمل صناعة مع أن القرآن إنما أنزل ليعمل به قال: ( .. ولكن لما صارت هذه القراءة صناعة، رفرفوا عليها وناضلوا عنها، وأفنوا أعمارهم - من غير حاجة إليهم - فيها، فيموت أحدهم وقد أقام القرآن كما يقام القدح لفظاً، وكسر معانيه كسر الإناء، فلم يلتئم عليه منها معنى) (¬2). فينبغي للمسلم قبل أن يقرأ القرآن أن يتعلم كيفية الاستفادة منه حتى يتم له الانتفاع به وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في هذا قاعدة جليلة القدر عظيمة النفع وهي: (إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه) (¬3). قلت: فمن طبق هذه القاعدة وسار على هذا المنهج عند تلاوته للقرآن أو سماعه إياه ظفر بالعلم والعمل معا، وزاد إيمانه وثبت ثبوت الجبال الشوامخ والله المسؤول أن يوفقنا لذلك، ولكل خير. ثم إن التفكر والتدبر في آيات الله على نوعين: (تفكر فيه ليقع على مراد الرب منه، وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه، فالأول تفكر في الدليل القرآني، والثاني تفكر في الدليل العياني، الأول تفكر في آياته المسموعة، والثاني تفكر في آياته المشهودة) (¬4) قاله ابن القيم. ¬

(¬1) رواه عبدالرزاق في مصنفه (3/ 363)، وابن المبارك في ((الزهد)) (ص: 274)، والآجري في ((أخلاق حملة القرآن)) (ص: 41) والمروزي في ((قيام الليل)) (ص: 76). (¬2) ((العواصم من القواصم)) (2/ 486) ضمن كتاب ((آراء أبي بكر بن العربي الكلامية)) لعمار الطالبي. وانظر: ما كتبه الذهبي عن أمثال هؤلاء القراء في كتابه ((زغل العلم)) (ص: 25). (¬3) ((الفوائد)) (ص: 5) وانظر: ((الفتاوى)) لابن تيمية (16/ 48) و (7/ 236). (¬4) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 204).

قلت: والكلام الذي ذكرته هنا هو عن التفكر في آيات الله المسموعة، أما التفكر في آياته المرئية المشهودة فسيأتي الكلام عليه قريباً إن شاء الله. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص177 المسألة الثانية: معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى فإن معرفة أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، والتي تدل على كمال الله المطلق من كافة الوجوه، لمن أعظم أبواب العلم التي يحصل بها زيادة الإيمان، والاشتغال بمعرفتها وفهمها والبحث التام عنها مشتمل على فوائد كثيرة وعظيمة، منها: 1 - أن علم توحيد الأسماء والصفات أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، فالاشتغال بفهمه والبحث عنه اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب. 2 - أن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه في فهم معانيها. 3 - أن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، وهذا هو الغاية المطلوبة منهم، فالاشتغال بذلك اشتغال بما خُلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خُلق له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه أن يكون جاهلاً بربه معرضاً عن معرفته. 4 - أن أحد أركان الإيمان، بل أفضلها وأصلها الإيمان بالله، وليس الإيمان مجرد قوله: آمنت بالله من غير معرفته بربه، بل حقيقة الإيمان أن يعرف الذي يؤمن به ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفةً بربه، ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك تدبر صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى. 5 - أن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة، يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام، لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، ولذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة (¬1). ومن هذه الفوائد أن معرفة الأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والخضوع، فلكل صفة عبودية خاصة هي من مقتضياتها، وموجبات العلم بها، والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح. وبيان ذلك أن العبد إذا علم بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة فإن ذلك يُثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً. وإذا علم بأن الله سميع بصير عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإن هذا يثمر له حفظ اللسان والجوارح وخطرات القلب عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلقات هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه. وإذا علم بأن الله غني كريم بر رحيم واسع الإحسان فإن هذا يوجب له قوة الرجاء، والرجاء يثمر أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وإذا علم بكمال الله وجماله أوجب له هذا محبة خاصة وشوقاً عظيماً إلى لقاء الله، وهذا يثمر أنواعاً كثيرة من العبادة. وبهذا يعلم أن العبودية كلها راجعة إلى مقتضيات الأسماء والصفات (¬2). ¬

(¬1) انظر: ((تفسير ابن سعدي)) (1/ 24) وخلاصة تفسيره (ص: 15). (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (ص: 424) وانظر نحوه بأوسع منه في ((الفوائد)) له (ص: 128).

فإذا عرف العبد ربه المعرفة الحقيقة المطلوبة السالمة من طرق أهل الزيغ في معرفة الله والتي تبنى على تحريف الأسماء والصفات أو تعطيلها أو تكييفها أو تشبيهها، فمن سلم من هذه المناهج الكلامية الباطلة، التي هي في الحقيقة أعظم ما يحول بين العبد وبين معرفة ربه وأعظم ما ينقص الإيمان ويضعفه، وعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى التي تعرف بها إلى خلقه والتي وردت في الكتاب والسنة وفهمها على منهج السلف الصالح، فقد وفق لأعظم أسباب زيادة الإيمان. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الخبر أن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها كانت سبباً في دخوله الجنة. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنة)) (¬1). (وليس المراد بالإحصاء عدّها فقط، لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها) (¬2). فلا بد من فهم الأسماء والصفات ومعرفة ما تدل عليه من معاني حتى يتسنى الاستفادة التامة بها. قال أبو عمر الطلمنكي: (من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعرفة بالأسماء والصفات وما تتضمن من الفوائد وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماً لمعاني الأسماء ولا مستفيداً بذكرها ما تدل عليه من المعاني) (¬3). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله لإحصائها ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها. المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولاتها. المرتبة الثالثة: دعاء الله بها، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة (¬4). وقال ابن سعدي مبيناً معنى (أحصاها) الواردة في حديث أبي هريرة المتقدم: (أي: من حفظها وفهم معانيها واعتقدها وتعبّد الله بها دخل الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون فعلم أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته، ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها) (¬5). فمن عرف الله هذه المعرفة كان من أقوى الناس إيماناً وأشدهم طاعةً وتعبد لله، وأعظمهم خوفاً ومراقبة له سبحانه. قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28]. قال ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآية: (يقول تعالى ذكره: إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء بقدرته على ما يشاء من شيء وأنه يفعل ما يريد، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه) (¬6). وقال ابن كثير: (أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر) (¬7). وقد جمع هذا المعنى أحد السلف في عبارة مختصرة، فقال: (من كان بالله أعرف كان له أخوف) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (2585)، ومسلم (6986). (¬2) ((فتح الباري)) (11/ 226) وهو من كلام الأصيلي. (¬3) ((فتح الباري)) (11/ 226). (¬4) ((بدائع الفوائد)) (1/ 164). (¬5) ((التوضيح والبيان)) (ص: 26). (¬6) ((تفسير الطبري)) (12/ 132). (¬7) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 553). (¬8) ((الرسالة القشيرية)) لأبي القاسم القشيري (ص: 141) والقائل هو أبو عبدالله أحمد بن عاصم الأنطاكي، انظر ترجمته في ((السير)) (11/ 409).

وقال ابن القيم رحمه الله: (وليست حاجة الأرواح قط إلى شيءٍ أعظم منها إلى معرفة باريها وفاطرها، ومحبته وذكره والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزلفى عنده ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف وله أطلب وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل وإليه أكره ومنه أبعد، والله ينزل العبد من نفسه حيث ينزله العبد من نفسه .. ) (¬1). فمعرفة الله عز وجل تقوي جانب الخوف والمراقبة، وتعظم الرجاء في القلب، وتزيد في إيمان العبد، وتثمر أنواعاً كثيرة من العبادة، ولا سبيل إلى هذه المعرفة ولا طريق إليها إلا تدبر كتاب الله وما تعرف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه وتدبر أيامه وأفعاله في أوليائه وأعدائه التي قصها على عباده وأشهدهم إياها ليستدلوا بها على أنه إلههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ويستدلوا بها على أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، وأنه شديد العقاب وأنه غفور رحيم وأنه العزيز الحكيم، وأنه الفعال لما يريد وأنه الذي وسع كل شيءٍ رحمة وعلماً وأن أفعاله كلها دائرة بين الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة لا يخرج شيء منها عن ذلك، وهذه الثمرة لا سبيل إلى تحصيلها إلا بتدبر كلامه والنظر في آثار أفعاله (¬2). أما من خالف هذه الجادة، وتنكب هذا الصراط، وسلك طرق أهل الزيغ في معرفة الله، فما أبعده عن معرفة ربه وخالقه، بل إنه يكون أضعف الناس معرفة بالله، وأقلهم خوفاً وخشية منه. قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بيّن أن تفاوت الناس في معرفة الله يرجع إلى تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها، والعلم بفساد الشبه المخالفة لحقائقها، قال: (وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم الذي ذمه السلف، لجهلهم بالنصوص ومعانيها، وتمكن الشبه الباطلة من قلوبهم). ثم بيّن أن العوام أحسن حالاً من هؤلاء وأقوى معرفةً بربهم منهم فقال: (وإذا تأملت حال العامة – الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم – رأيتهم أتم بصيرة منهم، وأقوى إيماناً، وأعظم تسليماً للوحي، وانقياداً للحق) (¬3). وقد كان رحمه الله نبه قبل هذا على أهمية البصيرة في توحيد الأسماء والصفات وفقهها، وفهمها على نهج السلف الصالح، وعلى أهمية الحذر من شبه أهل الكلام الباطل المفسد لهذا التوحيد. ¬

(¬1) ((الكافية الشافية)) (ص: 3). (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 202). (¬3) ((مدارج السالكين)) (1/ 125).

ثم ذكر كلاماً نافعاً جامعاً مؤدياً إلى هذه البصيرة، فقال: (وعقد هذا: أن يشهد قلبك الرب تبارك وتعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علوية وسفلية، وأشخاصه، وذواته، سميعاً لأصواتهم، رقيباً على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره، نازل من عنده وصاعد إليه، وأملاكه بين يديه تنفذ أوامره في أقطار الممالك، موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، منزها عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف نفسه في كتابه، وفوق ما يصف به خلقه، حي لا يموت، قيوم لا ينام، عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، بصير يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميع يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقاً وعدلاً، وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبهاً ومثلاً، وتعالت ذاته أن تشبه شيئاً من الذوات أصلاً، ووسعت الخليقة أفعاله عدلاً، وحكمة ورحمة وإحساناً وفضلاً، له الخلق والأمر، وله النعمة والفضل، وله الملك والحمد، وله الثناء والمجد، أول ليس قبله شيء، أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، ونعوته كلها نعوت جلال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، كل شيء من مخلوقاته دال عليه، ومرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه، لم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ولا ترك الإنسان سدى عاطلاً، بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته، وأسبغ عليهم نعمه ليتوسلوا بشكرها إلى زيادة كرامته، تعرّف إلى عباده بأنواع التعرفات، وصرف لهم الآيات، ونوّع لهم الدلالات، ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب، ومدّ بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب، فأتم عليهم نعمه السابغة، وأقام عليهم حجته البالغة، أفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه) (¬1). فمن كانت معرفته لله كذلك، وتفقه في هذه البصيرة، كان من أقوى الناس إيماناً، وأحسنهم إجلالاً وتعظيماً ومراقبة لله عز وجل، وأكثرهم طاعة وتقرباً إليه، والناس في ذلك متفاوتون فمقل ومستكثر. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص187 المسألة الثالث: تأمل سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فإن من أسباب زيادة الإيمان النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودراستها وتأمل ما ذكر فيها من نعوته الطيبة، وخصاله الكريمة، وشمائله الحميدة، فهو أمين الله على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته وتعزيره، وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسد دون الجنة الطرق فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره بل ولا سبيل لأحد جاء بعده في نيل السعادة في الدنيا والآخرة إلا باتباعه وطاعته والسير على نهجه. ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 124)، (3/ 252) ((الوابل الصيب لابن القيم)) (ص: 125).

قال ابن القيم رحمه الله: (ومن ها هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضى الله ألبتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير. وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين، فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي، وما لجرح بميت إيلام. وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها، أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقبل، ومستكثر، ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (¬1). ولهذا فإن من درس السنة وتأمل في نعوت وصفات النبي صلى الله عليه وسلم التي جاء ذكرها في الكتاب والسنة وكتب السير، فقد استكثر لنفسه من الخير، وازداد حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأورثته هذه المحبة المتابعة له في القول والعمل، (وأصل الأصول العلم، وأنفع العلوم النظر في سيرة الرسول وأصحابه) (¬2). فمن تأمل مثلا قول الله تعالى في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]. فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159] الآية وغيرها من الآيات. وتأمل في السنة ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم في نعت النبي صلى الله عليه وسلم مثل: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله بها)) (¬3). وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((خدمته صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فوالله ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا، ولا لشيء لم أفعله، ألا فعلت كذا)) (¬4). وقال رضي الله عنه: ((كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجمل الناس، وأشجع الناس)) (¬5). وقال رضي الله عنه: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا)) (¬6). ¬

(¬1) ((زاد المعاد)) (1/ 69). (¬2) ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 66). (¬3) رواه البخاري (3367) ومسلم (6190). (¬4) رواه البخاري (5691) ومسلم (6151). (¬5) رواه البخاري (2665)، ومسلم (6164). بلفظة: ((أحسن)) بدلاً من ((أجمل)). (¬6) رواه البخاري (5850)، ومسلم (5747).

وحديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا، وأنه كان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقا)) (¬1). وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه)) (¬2). وغيرها مما يطول ذكره. فإن من تأمل ذلك انتفع به غاية الانتفاع، ثم إن هذا من أعظم ما يقوي المحبة في قلب المسلم لنبيه صلى الله عليه وسلم، وزيادة المحبة له صلى الله عليه وسلم زيادة في الإيمان، تورث المتابعة والعمل الصالح، وهذا من أعظم أبواب وسبل الهداية. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله، أن للهداية أسباباً متعددة، وطرقاً متنوعة، وهذا من لطف الله بعباده، لتفاوت عقولهم وأذهانهم وبصائرهم، وذكر من هذه الأسباب تأمل حال وأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا سبب لهداية بعض الناس. قال رحمه الله: (ومنهم من يهتدي بمعرفته بحاله صلى الله عليه وسلم وما فطر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأن عادة الله أن لا يخزي من قامت به تلك الأوصاف والأفعال، لعلمه بالله ومعرفته به، وأنه لا يخزي من كان بهذه المثابة، كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها له صلى الله عليه وسلم: ((أبشر فوالله لن يخزين الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)) (¬3).) (¬4). وقال ابن سعدي رحمه الله: (ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة، فإن من عرفه حق المعرفة لم يرتب في صدقه وصدق ما جاء به من الكتاب والسنة، والدين الحق، كما قال تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [المؤمنون: 69]. أي: فمعرفته صلى الله عليه وسلم توجب للعبد المبادرة للإيمان ممن لم يؤمن، وزيادة الإيمان ممن آمن به. وقال تعالى حاثاً لهم على تدبر أحوال الرسول الداعية للإيمان: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46]. وأقسم تعالى بكمال هذا الرسول وعظمة أخلاقه، وأنه أكمل مخلوق بقوله: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 1 - 4]. فهو صلى الله عليه وسلم أكبر داع للإيمان في أوصافه الحميدة، وشمائله الجميلة، وأقواله الصادقة، وأفعاله الرشيدة، فهو الإمام الأعظم والقدوة الأكمل لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]. ¬

(¬1) رواه البخاري (3366) ومسلم (6177). (¬2) رواه البخاري (3369) ومسلم (6176). (¬3) رواه البخاري (4670) ومسلم (422) وهو جزء من حديث طويل. (¬4) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 340) وانظره أيضاً: (ص: 323).

وقد ذكر الله عن أولي الألباب الذين هم خواص الخلق أنهم قالوا: رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ [آل عمران: 193] وهو هذا الرسول الكريم يُنَادِي لِلإِيمَانِ بقوله وخلقه، وعمله ودينه، وجميع أحواله فَآمَنَّا أي: إيمانا لا يدخله ريب ... ) إلى أن قال: (ولهذا كان الرجل المنصف الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق، بمجرد ما يراه ويسمع كلامه يبادر إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ولا يرتاب في رسالته، بل كثير منهم بمجرد ما يرى وجهه الكريم يعرف أنه ليس بوجه كذاب ... ) (¬1). زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص195 المسألة الرابعة: تأمل محاسن الدين الإسلامي فإن الدين الإسلامي كله محاسن، عقائده أصح العقائد وأصدقها وأنفعها، وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها. وبهذا النظر الجليل، والتأمل الجميل في محاسن هذا الدين، يزين الله الإيمان في قلب العبد، ويحببه إليه كما امتن به على خيار خلقه بقوله وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] فيكون الإيمان في القلب أعظم المحبوبات، وأجمل الأشياء، وبهذا يذوق العبد حلاوة الإيمان، ويجدها في قلبه، فيتجمل الباطن بأصول الإيمان وحقائقه، وتتجمل الجوارح بأعمال الإيمان (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: (وإذا تأملت الحكمة الباهرة في هذا الدين القويم والملة الحنيفية والشريعة المحمدية التي لا تنال العبارة كمالها ولا يدرك الوصف حسنها ولا تقترح عقول العقلاء ولو اجتمعت وكانت على أكمل عقل رجل منهم فوقها، وحسب العقول الكاملة الفاضلة أن أدركت حسنها وشهدت بفضلها، وأنه ما طرق العالم شريعة أكمل ولا أجل ولا أعظم منها، فهي نفسها الشاهد والمشهود له، والحجة والمحتج له، والدعوى والبرهان ولو لم يأت الرسول ببرهان عليها لكفى بها برهاناً وآيةً وشاهداً على أنها من عند الله) (¬3). ولهذا فإن تأمل محاسن هذا الدين، والنظر فيما جاء فيه من أوامر ونواه، وشرائع وأحكام، وأخلاق وآداب، لمن أعظم الدواعي والدوافع للدخول فيه لمن لم يؤمن، وللازدياد منه لمن آمن، بل إن من قوي تأمله لمحاسن هذا الدين، ورسخت قدمه في معرفته ومعرفة حسنه وكماله، وقبح ما خالفه، كان من أقوى الناس إيماناً وأحسنهم ثباتاً عليه، وتمسكاً به. ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: (والمقصود أن خواص الأمة، ولبابها، لما شهدت عقولهم حسن هذا الدين وجلالته وكماله، وشهدت قبح ما خالفه ونقصه ورداءته خالط الإيمان به ومحبته بشاشة القلوب، فلو خير بين أن يلقى في النار وبين أن يختار ديناً غيره، لاختار أن يقذف في النار وتقطع أعضاؤه ولا يختار ديناً غيره، وهذا الضرب من الناس هم الذين استقرت أقدامهم في الإيمان، وهم أبعد الناس عن الارتداد عنه وأحقهم بالثبات عليه إلى يوم لقاء الله) (¬4). ¬

(¬1) ((التوضيح والبيان)) (ص: 29). (¬2) ((التوضيح والبيان)) (ص: 32). (¬3) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 324، 328 وما بعدها). (¬4) ((مفتاح دار السعادة)) (340).

قلت: ويشهد لما قاله ابن القيم هنا، حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) (¬1). فهذا الذي ذاق حلاوة الإيمان وخالطت بشاشته سويداء قلبه، وأضاء نوراً به، واطمأن بذلك أشد الاطمئنان، لا يكاد بعد ذلك يرجع إلى الكفر والضلال، واتباع الأهواء والظنون الكاذبة بل إنه يكون من أرسخ الناس إيماناً وأشدهم تمسكاً وثباتاً، وأقواهم تعلقاً بربه وخالقه، لأنه دخل الإسلام عن علم وقناعة ومعرفة، فعرف حسن الإسلام وبهاءه، وجودته ونقاءه، وتميزه عن غيره من الأديان، فرضيه ديناً لنفسه، وأنس به أشد الأنس، فكيف يبغي بعد ذلك غيره بدلاً، أو يطلب عنه مصرفاً، أو يروم عنه انتقالاً أو تحويلاً. ولهذا فإن من الفوائد الجليلة المستنبطة من هذا الحديث أنه يعد دليلاً من أدلة أهل السنة والجماعة الكثيرة على زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل أهله فيه. كما قال الوالد حفظه الله: (ومن فقه الحديث وما يستنبط منه ... فذكر أموراً منها: أن في الحديث دليلاً على تفاضل الناس في الإيمان، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وذلك أن من وجدت فيه الخصال الثلاث وجد حلاوة الإيمان بخلاف غيره) (¬2). زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص200 المسألةالخامسة: قراءة سيرة سلف هذه الأمة فإن سلف هذه الأمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم بإحسان، أهل الصدر الأول من الإسلام، هم خير القرون، وحماة الإسلام، وهداة الأنام، وليوث الصدام، وأهل المشاهد والمواقف العظام، وهم حملة هذا الدين ونقلته لمن جاء بعدهم من العالمين، أقوى الناس إيماناً وأرسخهم علماً وأبرهم قلوباً وأزكاهم نفوساً، وخص منهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين خصهم الله برؤية نبيه صلى الله عليه وسلم ومتعهم بالنظر إلى طلعته، وأكرمهم بسماع صوته والأنس بحديثه، فأخذوا الدين منه غضاً طرياً، فاستحكمت به قلوبهم، واطمأنت به نفوسهم، وثبتوا عليه ثبوت الجبال. ويكفي في بيان فضلهم أن الله خاطبهم بقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]. والمعنى: أنهم خير الأمم، وأنفع الناس للناس. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خير أمتي القرن الذين بعثت فيه ثم الذين يلونهم ... )) (¬3). فمن تأمل حال هؤلاء الأخيار، وقرأ سيرهم، وعرف محاسنهم، وتأمل ما كانوا عليه من خلق عظيم، وتأس بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتعهد للإيمان، وخوف من الذنوب والمعاصي، وحذر من الرياء والنفاق، وإقبال على الطاعة، وتنافس في فعل الخير، وتبصر في حالهم وقوة إيمانهم، وشدة تعبدهم لله، وحرصهم على طاعته، وإعراضهم عن الدنيا الفانية، وإقبالهم على الآخرة الباقية، فإنه سيقف من خلال هذا التأمل والنظر على جمل من المكاسب وكثير من النعوت والخلال ما يدعوه إلى صدق التأسي بهم، ومحبة التحلي بنعوتهم، فذكرهم يذكر بالله، وتأمل أحوالهم يقوي الإيمان ويجلو الفؤاد، وما أحسن ما قيل: كرر علي حديثهم يا حادي ... فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي ¬

(¬1) أخرجه البخاري (16) ومسلم (174). (¬2) ((عشرون حديثاً من صحيح البخاري دراسة أسانيدها وشرح متونها)) للوالد الكريم الشيخ عبدالمحسن العباد (ص: 168). (¬3) رواه ((مسلم)) (6636).

وموضع التأمل والبحث في سير وأخبار هؤلاء الأخيار: كتب التاريخ، والسير والزهد، والرقائق، والورع، وغيرها، والاستفادة مما صح منها، فهذا التأمل والنظر يورث صاحبه حسن التشبه بهؤلاء، وكما يقول شيخ الإسلام: (ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل) (¬1)، ومن تشبه بقوم فهو منهم. فهذه الأمور المتقدمة جميعها تزيد في الإيمان وتقويه، وهي مندرجة تحت العلم الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف هذه الأمة. ثم إن العلوم الأخرى غير العلم الشرعي كعلم الطب والهندسة وعلم الفلك والحساب وعلم النبات، وغيرها من العلوم التي توسع الناس فيها حديثا وأعطيت من العناية والاهتمام أكثر من حقها، حتى شغلت الكثير ممن اعتنى بها عن تعلم بدائيات الدين، والأمور المعلومة منه بالضرورة فهذه العلوم أيضاً لها أثر بالغ في زيادة إيمان من اشتغل بها واعتنى بتحصيلها، إن أخلص القصد، وأراد الحق، وتجرد من الهوى. وكم من رجل آمن وازداد إيمانه بسبب اشتغاله بالطب، ووقوفه على إعجاز الله ودقة صنعه في خلق الإنسان، وما ركبه فيه من عجائب الخلق ودقة الصنع ما يبهر العقول ويحير الألباب. قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]. وقال: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: 64]. وقال: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]. وكذلك الاشتغال بباقي العلوم الأخرى يزيد في إيمان الإنسان بحسب تفكره وتأمله وتحريه لنيل الحق، والأمر أولاً وأخيراً بيد الله سبحانه فهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ثم إن هذه العلوم لا تؤدي إلى زيادة الإيمان، إلا إذا صحبها تفكر وتأمل في آيات الله الباهرة وحججه الظاهرة، فإن عدمت ذلك عدمت هذه الفائدة الجليلة والثمرة العظيمة ولم تنفع صاحبها هذا النفع العائد على إيمانه بالزيادة والقوة والثبات. وهذا يبين أهمية التفكر والتأمل في آيات الله ومخلوقاته، وهو السبب الثاني من أسباب زيادة الإيمان، وهو موضوع البحث التالي. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص203 ¬

(¬1) ((العبودية)) (ص: 94).

المطلب الثاني: التأمل في آيات الله الكونية

المطلب الثاني: التأمل في آيات الله الكونية فإن التأمل فيها، والنظر في مخلوقات الله المتنوعة العجيبة، من سماء وأرض، وشمس وقمر، وكواكب ونجوم، وليل ونهار، وجبال وأشجار، وبحار وأنهار، وغير ذلك من مخلوقات الله التي لا تعد ولا تحصى، لمن أعظم دواعي الإيمان، وأنفع أسباب تقويته. فتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة كيف تراها من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها، وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علوا كالنار ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة، ولا عمد تحتها، ولا علاقة فوقها، بل هي ممسوكة بقدرة الله، ثم تأمل استواءها واعتدالها، فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق، ولا أمت ولا عوج. ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان، وأشدها موافقة للبصر وتقوية له. وتأمل خلق الأرض وكيف أبدعت، تراها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشاً ومهاداً، وذللها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم، وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم، وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتاداً تحفظها لئلا تميد بهم، ووسع أكنافها ودحاها، فمدها وبسطها وطحاها فوسعها من جوانبها، وجعلها كفاتاً للأحياء تضمهم على ظهرها ما داموا أحياء، وكفاتاً للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرا وطن للأحياء وبطنها وطن للأموات. ثم انظر إليها وهي ميتة هامدة خاشعة فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت، فارتفعت واخضرت وأنبتت من كل زوج بهيج، فأخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر، بهيج للناظرين كريم للمتناولين. ثم تأمل كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف نصبها فأحسن نصبها. وكيف رفعها وجعلها أصلب أجزاء الأرض، لئلا تضمحل على تطاول السنين، وترادف الأمطار والرياح، بل أتقن صنعها وأحكم وضعها، وأودعها من المنافع والمعادن والعيون ما أودعها. ثم تأمل هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك بحس اللمس عند هبوبه، يدرك جسمه ولا يرى شخصه فهو يجري بين السماء والأرض والطير محلّقة فيه سابحة بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه، وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحار. ثم تأمل كيف يُنشئ سبحانه بهذا الريح السحاب المسخر بين السماء والأرض فتثيره كسفا ثم يؤلف بينه ويضم بعضه إلى بعض ثم تلقحه الريح وهي التي سمّاها سبحانه لواقح ثم يسوقه على متونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها اهراق ماءه عليها فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه أقلع عنها وفارقها فهي روايا الأرض محمولة على ظهور الرياح. ثم تأمل البحار المكتنفة للأقطار التي هي خلجان من البحر المحيط الأعظم بجميع الأرض حتى أن المكشوف من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمورة بالماء، ولولا إمساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء لطفح على الأرض وعلاها كلها. وتأمل الليل والنهار وهما من أعجب آيات الله كيف جعل الليل سكناً ولباساً يغشي العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم النفوس وتستريح من كدّ السعي والتعب حتى إذا أخذت منها النفوس راحتها وسباتها وتطلعت إلى معايشها وتصرفها جاء فالق الإصباح سبحانه وتعالى بالنهار يقدم جيشه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر.

وتأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، وكيف كان الناس يسعون في معاشهم، ويتصرفون في أمورهم، والدنيا مظلمة عليهم وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور فـ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 61 - 62]. وتأمل خلق الحيوانات على اختلاف صفاته وأجناسه وأشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودعة فيه، فمنه الماشي على بطنه ومنه الماشي على رجليه، ومنه الماشي على أربع، ومنه ما جعل سلاحه في رجليه وهو ذو المخالب، ومنه ما جعل سلاحه المناقير كالنسر والرخم والغراب، ومنه ما جعل سلاحه الأسنان، ومنه ما جعل سلاحه القرون يدافع عن نفسه. وتأمل وخذ العبرة عموماً من وضع هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على أحسن نظام وأدلة على كمال قدرة خالقه وكمال علمه، وكمال حكمته وكمال لطفه، فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج إليه، فالسماء سقفه المرفوع عليه، والأرض مهاده بساط وفراش ومستقر للساكن، والشمس والقمر سراجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمتنقل في طرق هذه الدار والجواهر والمعادن مخزونة فيه، كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه فمنها الركوب ومنها الحلوب ومنها الغذاء ومنها اللباس والأمتعة والآلات، ومنها الحرس، وجعل الإنسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه، المتصرف بفعله وأمره ففي هذا أعظم دلالة وأقوى برهان على الخالق العليم الحكيم الخبير، الذي قدر خلقه أحسن تقدير، ونظمه أحسن تنظيم. بل وتأمل وخذ العبرة على وجه الخصوص من خلق الله لك أيها الإنسان وتأمل في مبدأ خلقك ووسطه وآخره، فانظر بعين البصيرة، إلى أول خلقك من نطفة من ماء مهين مستقذر كيف استخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته، على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وتكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بُعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قراراً مكيناً لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده ولا عارض يصل إليه، ثم قلّب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعلها عظاماً مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيئتها وقدرها وملمسها ولونها، وهكذا تندرج أطوار خلق الإنسان إلى أن يخرج بهذه الصور التي صوره الله عليها فشقّ له السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسّم الأصابع بالأنامل، وركّب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه (¬1) فسبحان الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى القائل: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]. ¬

(¬1) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 205 - 226) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 295) ((شفاء العليل)) (ص: 66) ((العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني)) (1/ 209).

(فجميع المخلوقات من الذرة إلى العرش سبل متصلة إلى معرفته – تعالى – وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه المتبصرون على قدر بصائرهم) (¬1). فتأمل هذه الآيات وغيرها مما خلق الله في السموات والأرض وتدبرها وإمعان النظر وإجالة الفكر فيها من أعظم ما يعود على الإنسان بالنفع في تقوية إيمانه وتثبيته، لأنه يعرف من خلالها وحدانية خالقه ومليكه، وكماله سبحانه وتعالى، فيزداد حبه وتعظيمه وإجلاله له، وتزداد طاعته وانقياده وخضوعه له، وهذه من أعظم ثمرات هذا النظر. قال ابن القيم رحمه الله: (وإذا تأملت ما دعى الله سبحانه في كتابه عباده إلى التفكر فيه، أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، من عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته، وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه؛ فبهذا تعرّف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته) (¬2). وقال ابن سعدي رحمه الله: (ومن أسباب الإيمان ودواعيه، التفكر في الكون في خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات فإن ذلك داعٍ قويٍ للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على سعة علم الله وشمول حكمته وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله وجوده وبره، وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج بذكره وإخلاص الدين له وهذا هو روح الإيمان وسره) (¬3). ولهذا فإن الله الكريم سبحانه ندب عباده في كتابه إلى تأمل هذه الآيات والدلالات، وإلى النظر والتفكر في مواضع كثيرة منه، وذلك لكثرة منافعها للعباد وعظم عوائدها عليهم. قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ [الشورى: 29]. وقال تعالى: أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 17 - 20]. وغيرها من الآيات، وهي كثيرة في القرآن، يدعو فيها عباده إلى النظر في آياته ومفعولاته التي هي أعظم دليل على توحده وتفرده وعلى قدرته ومشيئته وعلمه سبحانه وتعالى، وعلى بره ولطفه وكرمه، وهذا أعظم داع للعباد إلى محبة الله وشكره وتعظيمه وطاعته وملازمة ذكره، وبهذا يتبين أن النظر في الكون والتأمل فيه من أعظم أسباب الإيمان وأنفع دواعيه. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص206 ¬

(¬1) ((ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب)) (1/ 307). (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 204). (¬3) ((التوضيح والبيان)) (ص: 31) وانظر: ((الرياض الناضرة)) (ص: 258 - 280).

المطلب الثالث: الاجتهاد في القيام بالأعمال الصالحة

المطلب الثالث: الاجتهاد في القيام بالأعمال الصالحة أن يجتهد المسلم في القيام بالأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى وأن يكثر منها، ويداوم عليها. فإن كل عمل يقوم به المسلم مما شرعه الله ويخلص نيته فيه يزيد في إيمانه، لأن الإيمان يزيد بزيادة الطاعات وكثرة العبادات. ثم إن العبودية التي شرعها الله لعباده وطلب منهم القيام بها، فرضها ونفلها منقسمة على القلب واللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه. فمن عبودية القلب التي تخصه: الإخلاص والمحبة والتوكل والإنابة والرجاء والخوف والخشية والرهبة والرضى والصبر وغيرها من الأعمال القلبية. ومن عبودية اللسان التي تخصه: قراءة القرآن، والتكبير والتسبيح والتهليل والاستغفار، وحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسوله وغيرها من الأعمال التي لا تكون إلا باللسان. ومن عبودية الجوارح التي تخصها: الصدقة، والحج، والصلاة، والوضوء، والخطى إلى المسجد ونحوها من الأعمال التي تكون بالجوارح. فهذه الأعمال القلبية والتي باللسان والتي بالجوارح كلها من الإيمان وداخلة في مسماه فالقيام بها والإكثار منها زيادة في الإيمان وإهمالها وإنقاصها نقص في الإيمان. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر- ص213 ومنها: -التقرب إلى الله والتعرف إليه بتحقيق التوحيد بألوهيته وربوبيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى. فإنه ولا شك كلما ازداد بها تحقيقاً ازداد إيماناً. -فعل الفرائض والنوافل والإحسان فيها، والإصابة في صفاتها، والمكاثرة والمسارعة والمداومة في ذلك. -ترك المعاصي والمنهيات تقرباً إلى الله وابتغاء وجهه سبحانه. -النظر والاعتبار في آيات الله الشرعية، ومنها العلم، وآياته الكونية المورث للعلم والعمل، ولين القلب. -الإقبال على الدار الآخرة والسعي لها، والزهد في الدنيا والإعراض عن زخرفها بملاحظة ما أعده الله لعباده الصالحين المستكملين للإيمان، وما أعده لإرضائهم. -التزام السنة النبوية والعض عليها بالنواجذ، ولو مع قلة المعاون علماً وفهماً وعملاً ودعوة. -كثرة سؤال الله والتضرع إليه بالثبات على دينه، وحسن العاقبة وسؤاله الهداية وحسن العمل وقبوله والاستزادة من الخير، والانطراح بين يديه لاسيما في الأوقات الفاضلة المستجابة. مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص26

المبحث الثالث: أسباب نقصان الإيمان

المبحث الثالث: أسباب نقصان الإيمان وهي عدة عوامل: أولاً- الجهل وهو ضد العلم: فهذا من أعظم أسباب نقص الإيمان، كما أن العلم من أعظم أسباب زيادته، فالمسلم العالم لا يؤثر محبة وفعل ما يضره ويشقى به ويتألم به على ما فيه نفعه وفلاحه وصلاحه، أما الجاهل فإنه لفرط جهله وقلة علمه فإنه قد يؤثر مثل هذه الأشياء على ما فيه فلاحه وصلاحه، وذلك لانقلاب الموازين عنده ولضعف التصور فيه، فالعلم أصل لكل خير، والجهل أصل لكل شر. ومحبة الظلم والعدوان وارتكاب الفواحش واقتراف المناهي سببه الأول هو الجهل وفساد العلم، أو فساد القصد، وفساد القصد من فساد العلم، فالجهل وفساد العلم هو السبب الرئيس والأول في فساد الأعمال ونقص الإيمان. قال ابن القيم: (وقد قيل: إن فساد القصد من فساد العلم وإلا فلو علم ما في الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم لما آثره، ولهذا من علم من طعام شهي لذيذ أنه مسموم فإنه لا يقدم عليه، فضعف علمه بما في الضار من وجوه المضرة، وضعف عزمه عن اجتناب ما يوقعه في ارتكابه، ولهذا كان الإيمان بحسب ذلك، فإن المؤمن بالنار حقيقة الإيمان حتى كأنه يراها، لا يسلك طريقها الموصلة إليها، فضلاً عن أن يسعى فيها بجهده، والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها، وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه فيما يسعى فيه في الدنيا من المنافع، أو التخلص منه من المضار) (¬1). فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها لجهلها بمضرته ولهذا فإن من يتأمل القرآن الكريم، يجد فيه أعظم إشارة إلى أن الجهل هو سبب الذنوب والمعاصي. قال تعالى: قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138]. وقال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 54 - 55]. وقال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر: 64]. وقال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]. وغيرها من النصوص الدالة على أن ما وقع فيه الناس من شرك وكفر وفجور وارتكاب للمعاصي أعظم أسبابه الجهل بالله وبأسمائه وصفاته وبثوابه وعقابه. ولهذا فإن كل من عصى الله واقترف شيئا من الذنوب فهو جاهل، كما جاء ذلك عن السلف الصالح في تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 17]، وقوله: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 54]، وقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 119]. ¬

(¬1) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 133).

ومعنى قوله بجهالة في الآيات أي جهالة من فاعلها بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه وجهله منه لنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تأول منه من نقص الإيمان أو عدمه، فكل عاص لله فهو جاهل بهذا الاعتبار، وإن كان عالما بالتحريم، بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقباً عليها (¬1). وبنحو هذا التفسير للآية قال جماعة من السلف، وروى جملة منها الطبري في تفسيره: فروى عن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يقولون: (كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة). وعن قتادة قال: (اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره). وعن مجاهد قال: (كل من عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته) وقال أيضاً: (كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه). وقال السدي: (ما دام يعصي الله فهو جاهل). وقال ابن زيد: (كل امرئ عمل شيئاً من معاصي الله فهو جاهل أبداً حتى ينزع عنها) (¬2). قال شيخ الإسلام: (وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعف القلب عن مقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلاً بهذا الاعتبار.) (¬3). فالجهل بالله داء خطير، ومرض فتاك، يجر على صاحبه من الويلات والعواقب الوخيمة الشيء الكثير، فمن تمكن منه هذا الداء وسيطر عليه، فلا تسأل عن هلكته، فهو هاو في ظلمة المعاصي والذنوب، متنكب عن صراط الله المستقيم، مستسلم لدواعي الشبهات والشهوات، إلا أن تتداركه رحمة الله بغياث القلوب ونور الأبصار ومفتاح الخير العلم النافع المثمر للعمل الصالح، إذ ليس هناك دواء لهذا الداء غير العلم، ولا ينفك هذا الداء عن صاحبه إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد الله به الخير علمه ما ينفعه، وفقهه في دينه وبصره بما فيه فلاحه وسعادته، فخرج به عن الجهل ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على جهله، والله المسؤول أن يغيث قلوبنا بالعلم والإيمان، ويعيذنا من الجهل والعدوان. ثانياً – الغفلة والإعراض والنسيان: فإن هذه الأمور الثلاثة سبب عظيم من أسباب نقص الإيمان، فمن اعترته الغفلة، وشغله النسيان، وحصل منه الإعراض، نقص إيمانه وضعف بحسب توافر هذه الأمور الثلاثة فيه أو بعضها، وأوجبت له مرض القلب أو موته باستيلاء الشهوات والشبهات عليه. أما الغفلة فقد ذمها الله في كتابه وأخبر أنها خلق ذميم من أخلاق الكافرين والمنافقين، وحذر منها سبحانه أشد التحذير: قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179]. وقال تعالى: إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ [يونس: 7]. وقال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس: 92]. ¬

(¬1) ((تفسير ابن سعدي)) (2/ 39). (¬2) انظر هذه الآثار: في ((تفسير الطبري)) (3/ 299، 5/ 209) ((تفسير البغوي)) (1/ 407) ((الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 22) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 463). (¬3) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص: 78).

وقال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7]. وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205]. فالغفلة - وهي: سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ (¬1) - داء خطير إذا اعترى الإنسان وتمكن منه لم يشتغل بطاعة الله وذكره وعبادته، بل يشتغل بالأمور الملهية المبعدة عن ذكر الله، وإن عمل أعمالا في طاعته تأتي منه على حال سيئة ووضع غير حسن فتكون أعماله عارية من الخشوع والخضوع والإنابة والخشية والطمأنينة والصدق والإخلاص، فهذه بعض آثار الغفلة السيئة على الإيمان. أما الإعراض، فقد أخبر الله في القرآن الكريم أن له آثارا سيئة كثيرة وعواقب ونتائج وخيمة: منها: أن الله وصف المعرض بأنه لا أحد أظلم منه، ووصفه بأنه من المجرمين كما في قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة: 22]. ومنها: إخبار الله أن المعرض يجعل الله على قلبه أكنةً وأقفالاً فلا يفقه ولا يهتدي أبداً كما في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57]. ومنها: أن إعراضه يسبب له عيشة الضنك والضيق دنيا وآخرة، كما في قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124]. ومنها: أن المعرض عن ذكر الله يقيض له القرناء من الشياطين فيفسدون عليه دينه، كما في قوله: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36]. ومنها: إخبار الله بأن المعرض يحمل يوم القيامة وزراً، وأنه يسلك العذاب الصعد كما في قوله: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا [طه: 99 - 100]. وقوله: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 17]. وغيرها من الآيات التي يخبر فيها سبحانه وتعالى عن أخطار الإعراض وأضراره، والتي من أخطرها وأشنعها أنه مانع من الإيمان وحائل دونه لمن لم يؤمن، وموهن ومضعف لإيمان من آمن، وبحسب إعراض الإنسان يكن له نصيب من هذه النتائج والأخطار. وأما النسيان - وهو: ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى يرتفع عن القلب ذكره (¬2) - فله أثر بالغ في الإيمان، فهو سبب من أسباب ضعفه، وبوجوده تقل الطاعات، وتكثر المعاصي. والنسيان الذي جاء ذكره في القرآن الكريم على نوعين: نوع: لا يعذر فيه الإنسان وهو ما كان أصله عن تعمد منه، مثل قوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19]. ¬

(¬1) ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزآبادي (4/ 140). (¬2) ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزآبادي (5/ 49).

ونوع: يعذر فيه وهو ما لم يكن سببه منه كما في قوله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] وقد جاء في الحديث أن الله تعالى قال: (فعلت) (¬1). والمسلم مطالب بمجاهدة نفسه وإبعادها عن الوقوع فيه، حتى لا يتضرر في دينه وإيمانه. ثالثاً – فعل المعاصي وارتكاب الذنوب: فإن هذا لا يخفى ما به من الضرر وسوء الأثر على الإيمان، فالإيمان كما قال غير واحد من السلف: (يزيد بالطاعة، وينقص بالمعاصي)، فكما أن فعل ما أمر الله به من واجب ومندوب يزيد في الإيمان، فكذلك فعل ما نهى الله عنه من محرم ومكروه ينقص الإيمان، إلا أن الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها وشدة ضررها تفاوتاً عظيماً، كما قال ابن القيم رحمه الله: (ولا ريب أن الكفر والفسوق والمعاصي درجات، كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات، كما قال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران: 163]، وقال: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 132]، وقال: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37]، وقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124 - 125]، ونظائره في القرآن كثير) (¬2). وقد دلّ القرآن والسنة على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31]، وقال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ [النجم: 32]. وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) (¬3). وفي الصحيحين: عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور)) (¬4). وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: ((أن تدعو لله ندا وهو خلقك، قيل ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)) (¬5) ........ رابعا – النفس الأمارة بالسوء: ¬

(¬1) رواه مسلم (345) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬2) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 142). (¬3) رواه مسلم (574). (¬4) رواه البخاري (2511)، ومسلم (269). (¬5) رواه البخاري (6468)، ومسلم (268). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وهي نفس مذمومة جعلها الله في الإنسان، تأمره بكل سوء، وتدعوه إلى المهالك، وتهديه إلى كل قبيح، هذا طبعها، وتلك سجيتها، إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله، كما قال تعالى حاكيا عن امرأة العزيز: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ [يوسف: 53]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: 21]، وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً [الإسراء: 74]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم خطبة الحاجة: ((الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له)) (¬1) فالشر كامن في النفس وهو يوجب سيئات الأعمال، فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله (¬2). وقد جعل الله سبحانه للإنسان في مقابلة هذه النفس، نفسا مطمئنة، فإذا أمرته النفس الأمارة بالسوء، نهته عنه النفس المطمئنة، فهو يطيع هذه مرة، وهذه مرة، وهو للغالب عليه منهما (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: (وقد ركب الله سبحانه في الإنسان نفسين: نفساً أمارة، ونفساً مطمئنة، وهما متعاديتان، فكل ما خف على هذه ثقل على هذه، وكل ما التذت به هذه تألمت به الأخرى، فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله، وإيثار رضاه على هواها، وليس لها أنفع منه. وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله وما جاء به داعي الهوى، وليس عليها شيء أضر منه ... والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلا أن يستوفى أجلها من الدنيا) (¬4). فلا أضر على إيمان الشخص ودينه من نفسه الأمارة بالسوء، التي هذا شأنها، وهذا وصفها، فهي سبب رئيس، وعضو فعال في إضعاف الإيمان وزعزعته وتوهينه. ومن هنا لزم من أراد الحفاظ على إيمانه من النقص والضعف، أن يعنى بمحاسبة هذه النفس ومعاتبتها، وأن يكثر من لومها، حتى يسلم من مغبتها وعواقبها الوخيمة المردية ... زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر-بتصرف- ص235 وكذلك أيضا إن من أهم أسباب نقصان الإيمان في قلب العبد هو عدم تعاهد أسباب زيادة الإيمان، وإهمال تقويته، وترك العناية به؛ فكما أن المحافظة على هذه الأسباب سبب في زيادة الإيمان فإهمالها سبب في نقصه. ومن أهم أسباب نقص الإيمان: الجهل بأمور الدين، وعلوم الشرع. الغفلة، والإعراض، والنسيان. فعل المعاصي، وارتكاب الذنوب. طاعة النفس الأمارة بالسوء. الركون إلى الدنيا، وفتنتها، وزينتها. مجالس اللهو، وقرناء السوء. اتباع خطوات الشيطان. إلى غير ذلك من الأسباب. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص48 ¬

(¬1) أخرج هذه الخطبة أبو داود (1097) والنسائي (3/ 105)، وابن ماجه (1535)، وأحمد (1/ 392) (3720) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبي داود، وقال النووي في ((الأذكار)) (355): إسناده صحيح، وصححه ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (2/ 622) كما اشترط على نفسه في المقدمة، والذهبي في ((المهذب)) (3/ 1142)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/ 530)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 264) كما أشار لذلك في المقدمة، وقال العيني في ((العلم الهيب)) (946): أسانيده صحيحة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). وراجع رسالته ((خطبة الحاجة)) فقد جمع فيها طرق وألفاظ هذه الخطبة. (¬2) ((الروح لابن القيم)) (226). (¬3) ((الوابل الصيب)) (27). (¬4) ((الجواب الكافي)) (184).

الفصل الرابع: خصال الإيمان وشعبه

المبحث الأول: شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (¬1) وقد اعتنى الأئمة بهذا الحديث واعتبروه أصلاً لإدخال الطاعات في الإيمان وعدوها من شعبه وألفوا في ذلك بعض المصنفات، ومن أغزرها (المنهاج في شعب الإيمان) للإمام أبي عبد الله الحليمي واختصره الإمام البيهقي في كتاب (الجامع لشعب الإيمان) مع عنايته بالأسانيد خلافاً للحليمي، واختصر كتاب البيهقي الإمام القزويني وجميعهم عدوا سبعاً وسبعين شعبة من شعب الإيمان مع شرحها وممن اعتنى بحصر شعب الإيمان الإمام اللالكائي فقد ذكر في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اثنتين وسبعين خصلة من خصال الإيمان وذكر تحت كل خصلة ما يناسبها من الأحاديث (¬2). وعد الإمام ابن بطه في الإيمان سبعين شعبة سرداً دون ذكر أدلتها (¬3). وقال أبو حاتم بن حبان: تتبعت معنى هذا الحديث مدة وعددت الطاعات فإذا هي تزيد على العدد شيئا كثيراً فرجعت إلى السنن فعددت كل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين فرجعت إلى كتاب الله فقرأته بالتدبر وعددت كل طاعة عدها الله تعالى من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممت الكتاب إلى السنن وأسقطت المعاد فإذا هي كل شيء عده الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم من الإيمان تسع وسبعين شعبة لا يزيد عليها ولا تنقص فعلمت أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنن) (¬4). وعدها أيضاً الحافظ ابن حجر فقال: (هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن، فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات وتشتمل على أربع وعشرين خصلة ثم ذكرها وأعمال اللسان وتشتمل على سبع خصال ثم ذكرها وأعمال البدن وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة ثم ذكرها، إلى أن قال: فهذه تسع وستون خصلة ويمكن عدها تسعاً وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر. والله أعلم) (¬5) وأخيراً ننقل كلاماً للقاضي عياض قال فيه: (وبقي بين هذين الطرفين - أي الشهادتان وإماطة الأذى - أعداد لو تكلف المجتهد تحصيلها بغلبة الظن وشدة التتبع لأمكنه وقد فعل ذلك بعض من تقدم، وفي الحكم بأن ذلك مراد النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها، ولا يقدح جهل ذلك في الإيمان، إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة والإيمان بأنها هذا العدد واجب في الجملة) (¬6). الإيمان شعب، والكفر شعب: قال الإمام الخطابي: وفي هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها، كالصلاة الشرعية، لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها. (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) انظر ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 911 - 940). (¬3) انظر: ((الإبانة)) لابن بطة (2/ 650 - 653) (¬4) ذكر ذلك في كتاب ((وصف الإيمان وشعبه)) نقلاً عن ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 504). (¬5) ((فتح الباري)) (1/ 52 - 53). (¬6) نقلاً عن ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 4). (¬7) ((معالم السنن)) بحاشية سنن أبي داود (5/ 56).

ويقول الإمام ابن القيم: الإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصوم، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل .. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب، وكذلك الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر ... والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. (¬1) نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – 1/ 50 (وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعب يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان، وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية. فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً – وهي شعبة من شعب الكفر – فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل) كتاب الصلاة لابن قيم الجوزية – ص70 إن الإيمان عند جمهور أهل السنة له شعب متعددة، كما أخبر بذلك أعلم الخلق صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإيمان، وكل شعبة منه تسمى إيماناً، فالصلاة وسائر أعمال الجوارح من الإيمان، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والرجاء من الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب (¬2). وإذا كان الإيمان مشتملاً على شعب متعددة، ومتفاوتة، فإنه يتضمن بناء على تفاوت شعبه أركاناً، وواجبات، ومستحبات، وكما يقول ابن تيمية: الإيمان: مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرها من الأعيان والصفات، فمن أجزائه ما إذا ذهب، نقص عن الأكمل، ومنه ما نقص عن الكمال (¬3) وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول (¬4). فالإيمان كالحج - مثلاً- في اشتمالهما على أركان، وواجبات، ومستحبات، ففي الحج أركان متى تركت، لم يصح الحج كالوقوف بعرفة، ومشتمل على واجبات من فعل أو ترك، يأثم بتركها أو فعلها عمداً، ويجب مع تركها الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت المكانية، ورمي الجمار ونحو ذلك، ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها، فلا يأثم بتركها، ولا يجب دم، مثل: رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه، ودعائه في الطواف وغيرهما (¬5)، فكذا الإيمان كما سبق ذكره ومن ثم فإن الناس متفاوتون في الإيمان، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات بإذن ربه، ولقد تواترت النصوص الدالة على أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة. كقوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان)) (¬6) خلافاً للمبتدعة القائلين أن الإيمان لا يقبل التبعيض والتجزئة، وأنه شيء واحد. نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف – ص32 ¬

(¬1) كتاب ((الصلاة)) (ص53). (¬2) كتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص53) بتصرف. (¬3) أي الكمال الواجب، فالشارع لا ينفي الإيمان عن شيء، إلا لانتفاء ما هو واجب، لا لانتفاء ما هو مستحب. انظر: ((مجموع الفتاوى)) (18/ 268) و ((منهاج السنة)) (5/ 208). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 637)، وانظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 806). (¬5) انظر: ((مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (12/ 472، 473، 7/ 514، 19/ 290، 291). (¬6) رواه البخاري (7510)، ومسلم (193). من حديث أنس رضي الله عنه.

المبحث الثاني: الأدلة على أن الإيمان مركب من شعب

المبحث الثاني: الأدلة على أن الإيمان مركب من شعب فإنه من القواعد المقررة والأصول المعتبرة، في عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان مركب من شعب وأجزاء. وهذه الشعب والأجزاء التي يتكون منها الإيمان تتفاوت وتتفاضل. وأهل الإيمان يتفاضلون أيضا بما قام لديهم من إيمان ويقين، وبما يقومون به من البر والتقوى وموافقة الأولى، وترك ما نهى عنه الله تعالى من المنهيات المحرمات منها والمكروهات وما يتردد بينهما من المتشابهات؛ استبراء للدين والعرض ونيلا للدرجات العلى. والتفاضل عند أهل السنة والجماعة يشمل الإيمان والأعمال أيضا، فيتفاضل الإيمان الذي قام بالقلب ويتفاضل ما يقام به بالجوارح والإيمان يتفاضل ما يقام به بالجوارح والإيمان يتفاضل بحسب ما يقوم به صاحبه من واجباته. وهذه الواجبات يتنوع بتنوع الناس فيه؛ ثم إن قدرهم في أداء الواجب متفاوتة بين مقل فيه ومكثر. ومعرفة أهل الإيمان بهذه الواجبات تختلف بالإجمال والتفصيل في المعرفة بها. وقوة تلك المعرفة وضعفه ودوام الحضور والغفلة، فليست المعرفة المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. كالمجملة التي غفل عنها؛ وكذلك بحسب ما تقوم بالقلب من أحوال وأعمال ومقامات من محبة الله ورسوله وخشية الله، والتوكل عليه والصبر على حكمه، والشكر له والإنابة إليه، وإخلاص العمل له لما يتفاضل الناس فيها تفاضلا لا يعرف قدره إلا الله عز وجل، ومن أنكر تفاضل أهل الإيمان في الإيمان والأعمال فهو إما جاهل لم يتصوره وإما معاند (¬1). والأدلة من الكتاب والسنة على ذلك كثيرة: أ- فمن أدلة الكتاب ما ذكره الإمام البخاري في صحيحه بقوله: "باب أمور الإيمان وقول الله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]. وهذه الآية من أجمع الآيات في ذكر شعب الإيمان فقد ذكر الله تعالى فيها من شعب الإيمان: 1 - الإيمان بالله. 2 - الإيمان باليوم الآخر. 3 - الإيمان بالملائكة. 4 - الإيمان بالكتب. 5 - الإيمان بالنبيين. 6 - صرف المال في الصدقات بطيب النفس وحبا في حصول الأجر والثواب على الأصناف الستة المذكورة في الآية. 7 - إقامة الصلاة. 8 - إيتاء الزكاة. 9 - الوفاء بالعهد. 10 - الصبر في البأساء والضراء وحين البأس. وقد شهد الله تعالى لمن أتى بهذه الشعب بالصدق والتقوى فقال جل جلاله: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى/الإيمان)) (7/ 408).

ب- قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1 - 11]. وفي هذه الآية ذكر الله تعالى مجموعة من شعب الإيمان القولية والفعلية وهي: 1 - الخشوع في الصلاة. 2 - الإعراض عن اللغو. 3 - إيتاء الزكاة. 3 - حفظ الفروج. 4 - رعاية الأمانة وحفظها. 5 - الوفاء بالعهد. المحافظة على الصلوات. ج- قوله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج: 19 - 34]. والشعب المذكورة في هذه الآية هي: 1 - المواظبة على أداء الصلاة. 2 - إخراج الصدقة. 3 - الإيمان بيوم القيامة. 4 - الخوف من عذاب الله. 5 - حفظ الفروج عما حرمه الله. 6 - حفظ الأمانة. 7 - الصدق في الشهادة. 8 - المحافظة على إقامة الصلاة. د – قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 112] ذكر الله تعالى في هذه الآية ثمان صفات من صفات المؤمنين وكلها من شعب الإيمان. وقد اقتصرنا على ذكر هذه الأمثلة الأربعة لاحتواء هذه الآيات على أكبر عدد من شعب الإيمان وإلا فإن نصوص الكتاب في ذلك كثيرة جدا. وأما أدلة السنة: فأشهرها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأما أدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)) (¬1). وأحاديث شعب الإيمان كثيرة جدا يصعب حصرها والإحاطة بها؛ فإن جميع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه من الأوامر واجبها ومستحبها، ومن النواهي محرمها ومكروهها، تعد من شعب الإيمان. وقد صنفت في ذلك مصنفات عظيمة أودع فيها أصحابها معظم هذه الأحاديث ... وأكثر المصنفات ذكرا لأدلة السنة في شعب الإيمان كتاب (شعب الإيمان) للحافظ البيهقي رحمه الله نظرا لكون الحافظ من أعلام أهل الحديث والعارفين به رواية ودراية. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني- بتصرف- 356 ¬

(¬1) رواه البخاري (9) ومسلم (35) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الفصل الخامس: الاستثناء في الإيمان

الفصل الخامس: الاستثناء في الإيمان • تمهيد:. • المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه. • المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها. • المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ (أمؤمن أنت).

تمهيد:

تمهيد: من كان مذهبه أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه، يرى الاستثناء في الإيمان على اعتبار أنه لا يقطع بتكميل الإيمان وبالإتيان به على الدرجة العالية المطلوبة، بخلاف من يرى أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يزيد ولا ينقص، وأن أهله فيه سواء؛ فصاحب هذا القول يرى عدم جواز الاستثناء في الإيمان ويقطع بإيمانه، بل ويعد من استثنى في إيمانه شاكاً. وبهذا يعلم مدى صلة هذه المسألة بمسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وإن كان الجميع يعد من مسائل الإيمان ومباحثه المهمة. ومما يوضح قوة صلة هذه المسألة بسابقتها؛ أن هذه المسألة تبحث دائماً في كتب العقيدة تلو مسألة زيادة الإيمان ونقصانه للارتباط بين المسألتين ولتعلق نتائج كلٍّ بنتائج الأخرى، وهذا يعلم بمطالعة كتب العقيدة. ثم بين المسألتين ارتباط من جهة أخرى؛ وهي أن كلتا المسألتين حدث الخوض فيهما بسبب الإرجاء الذي نشأ في الأمة بفعل أهل الأهواء، ولهذا ذمّ سلف الأمة الإرجاء وما يشتمل عليه من عقائد منحرفة، منها عدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه، ومنها القطع بالإيمان عند الله وبكمال الإيمان. يقول محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: (احذروا رحمكم الله قول من يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، ومن يقول: أنا مؤمن عند الله، وأنا مؤمن مستكمل الإيمان، هذا كله مذهب أهل الإرجاء) (¬1). ثم ساق بسنده إلى الأوزاعي أنه قال: (ثلاث هن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله تعالى) (¬2). وأول الخوض في مسألة الاستثناء هذه وسببه هم المرجئة، بل إن أصل الإرجاء وأُس نشأته هو ترك الاستثناء في الإيمان، كما قال عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله: (إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء) (¬3)، وفي لفظ آخر له (أول الإرجاء ترك الاستثناء) (¬4)، وفي لفظ ثالث له: (أصل الإرجاء من قال إني مؤمن) (¬5). ولهذا كان أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره يكرهون سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب عن ذلك؛ لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقاً بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق، لأنه يجزم بأنه مؤمن، ولا يجزم بأنه فعل كما أمر به. ¬

(¬1) ((الشريعة)) للآجري (ص: 146). (¬2) ((الشريعة للآجري)) (ص: 146)، وذكره يحيى بن أبي الخير العمراني في كتابه: ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) (3/ 795). (¬3) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 136)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 871). (¬4) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 598). (¬5) رواه الطبري في ((تهذيب الآثار)) برقم (1023).

فلما علم السلف مقصدهم ذلك صاروا يكرهون الجواب أو يفصلون فيه (¬1) بل ويعدون السؤال هذا بدعة محدثة، وما أروع ما قاله الأوزاعي في هذا، وذلك حينما سُئل عن الرجل يسأل الرجل أمؤمن أنت؟ فأجاب رحمه الله: (إن المسألة عما تسأل عنه بدعة والشهادة به تعمق لم نكلفه في ديننا، ولم يشرعه نبينا، ليس لمن يسأل عن ذلك فيه إمام، القول به جدل والمنازعة فيه حدث، ولعمري ما شهادتك لنفسك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إن لم تكن كذلك، وما تركك الشهادة لنفسك بها بالتي تخرجك من الإيمان إن كنت كذلك، وإن الذي يسألك عن إيمانك ليس بشك في ذلك منك، ولكنه يريد أن ينازع الله تبارك وتعالى علمه في ذلك حتى تزعم أن علمه وعلم الله في ذلك سواء فاصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا وكف عما كفوا واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم، وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعدما رد عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم فأشربهم قلوب طوائف منهم واستحلتها ألسنتهم وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف. ولست بآيس أن يدفع الله عز وجل شر هذه البدعة إلى أن يصيروا إخواناً في دينهم ولا قوة إلا بالله. ثم قال: لو كان هذا خيراً ما خصصتم به دون أسلافكم فإنه لم يدخر عنهم شيء خبيء لكم دونهم لفضل عندكم، وهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله له وبعثه فيهم ووصفه بهم فقال: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا ... [الفتح: 26]، إلى آخر السورة) (¬2)، اهـ. يرحمه الله ما أروع بيانه، وما أجود نصحه وتبيانه، ولا والله لا خير فيمن لم يسعه ما وسعهم فإنهم عن علم ثاقب وقفوا، وعن بصيرة نيرة كفوا، والخير كل الخير في اتباعهم. ثم إن الآثار المروية عن السلف يرحمهم الله في ذم الإرجاء بعامة، وفي ذم ترك الاستثناء وذم سؤال الناس عن إيمانهم بخاصة كثيرة جداً، وكذلك النصوص عنهم في تبديع أهل هذه المسائل كثيرة ... ثم إنه لما خاض هؤلاء في هذه المسألة بباطل، وقلبوا فيها الأمور، وناقضوا الحقائق، لزم أهل الحق أن يتصدوا لهذا التيار وأن يجابهوا هذا الباطل بدحضه ورده وإحقاق الحق مكانه، لهذا كثر كلام أهل السنة في هذه المسألة وطال نقاشهم وردهم لهذا الباطل في كتبهم المفيدة ورسائلهم العديدة فنفع الله بها من شاء من خلقه. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبدالرزاق البدر - بتصرف - ص 455 ¬

(¬1) ((الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 448 - 449). (¬2) ((الشريعة للآجري)) (ص: 139). وانظر: ((الحجة في بيان المحجة)) لأبي القاسم التيمي (1/ 112).

المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه إن مجمل قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة هو أن الاستثناء في الإيمان جائز مشروع؛ لأن الإيمان عندهم شامل للاعتقادات والأقوال والأعمال، فإذا سئل أحدهم هذا السؤال استثنى في إيمانه مخافة عدم تكميل الأعمال التي بكمالها يكمل الإيمان؛ فيقول أحدهم إذا أجاب: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو نحو ذلك. وليس هذا منهم شكاً في أصل الإيمان معاذ الله. فهم أعلى وأرفع من ذلك، وإنما هو ترك لتزكية النفس والشهادة لها بتكميل الأعمال، لهذا وقع منهم الاستثناء في الإيمان. ولهم على ذلك دلائل وشواهد كثيرة من الكتاب والسنة ... وعلى هذا مضى مذهبهم واتفقت كلمتهم. وقال الوليد بن مسلم: (سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبدالعزيز ينكرون أن يقول: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله) (¬1). وقال البيهقي: (وقد روينا هذا - يعني الاستثناء في الإيمان - عن جماعة من الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين) (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما مذهب سلف أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه، والثوري، وابن عيينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة؛ فكانوا يستثنون في الإيمان، وهذا متواتر عنهم ... ) (¬3). وقال: (والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة؛ أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه) (¬4). وقال: (الاستثناء في الإيمان سنة عند أصحابنا وأكثر أهل السنة) (¬5)، ومعنى قوله الاستثناء سنة أي: جائز، رداً على من نهى عنه وحرمه ... وأما مأخذ السلف في الاستثناء، ووجه استثنائهم في الإيمان، فالمتأمل لأقوالهم الواردة في ذلك يجد أنهم عندما كانوا يستثنون يلحظون أموراً أربعة - وإن كان في بعضها نوع تداخل ... وهي: 1 - أن الإيمان المطلق الشامل لكل ما أمر الله به والبعد عن كل ما ينهى عنه، ولا يدعي أحد إنه جاء بذلك كله على التمام والكمال. 2 - أن الإيمان النافع هو المتقبل عند الله. 3 - البعد عن تزكية النفس، وليس هناك تزكية لها أعظم من التزكية بالإيمان. 4 - أن الاستثناء يكون في الأمور المتيقنة غير المشكوك فيها كما جاءت بذلك السنة. فهذا مجمل الأمور التي كان يستثني من أجلها السلف في إيمانهم، وتفصيل هذه الأمور كما يلي: 1 - فالمأخذ الأول: للسلف في استثنائهم في الإيمان هو اعتبارهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله (¬6). ولا يدعي مسلم عاقل هذا لنفسه. لهذا كان السلف يستثنون مخافة واحتياطاً أن لا يكونوا كملوا الأعمال وأتوا بها على وجهها المطلوب، فقول أنا مؤمن عندهم كقول أنا وليّ أو أنا تقيّ، ولا يجزم أحد أنه كمل مراتب التقوى، وأتم مراتب الولاية إلا من خسف عقله وقلّ خوفه، فكذلك لا يجزم أنه كمل مراتب الإيمان وأتم درجاته، فعندئذ لزمه الاستثناء في إيمانه مخافة واحتياطاً. ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 347)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 873). (¬2) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/ 212). (¬3) ((الفتاوى)) (7/ 438، 439). (¬4) ((الفتاوى)) (7/ 505). (¬5) ((الفتاوى)) (7/ 666). (¬6) انظر: ((الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 446).

فهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون في الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم قول وعمل، والقول كل يجزم أنه أتى به، وأما العمل فلا، إذ الناس متفاوتون في القيام به تفاوتاً عظيماً، وأقوال السلف في هذا كثيرة. قال الإمام أحمد: (أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان، لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل، فيعجبني أن نستثني في الإيمان بقول: أنا مؤمن إن شاء الله) (¬1). وقال: (لو كان القول كما تقول المرجئة أن الإيمان قول ثم استثنى بعد على القول لكان هذا قبيحاً أن تقول لا إله إلا الله إن شاء الله ولكن الاستثناء على العمل) (¬2). وقال: (لا نجد بداً من الاستثناء؛ لأنه إذا قال: أنا مؤمن، فقد جاء بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول) (¬3). وقال له رجل: قيل لي أمؤمن أنت؟ قلت: نعم. هل علي في ذلك شيء هل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد وقال: هذا كلام الإرجاء، قال الله عز وجل: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ [التوبة: 106] من هؤلاء؟ ثم قال أحمد: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ فقال الرجل: بلى، قال فجئنا بالعمل؟ قال: لا. قال: كيف تعيب أن تقول إن شاء الله وتستثني (¬4)؟ وعن الميموني أنه سأل أبا عبدالله عن قوله ورأيه في مؤمن إن شاء الله. قال: (أقول مؤمن إن شاء الله ومؤمن أرجو؛ لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال على ما افترضت عليه أم لا) (¬5). وقال الإمام أحمد: (إنما نصير الاستثناء على العمل؛ لأن القول قد جئنا به) (¬6). قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر طائفة من هذه النقول: (ومثل هذا كثير في كلام أحمد وأمثاله) (¬7). وقال محمد بن حسين الآجري: ( .. هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال، لا يكون في القول، والتصديق بالقلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك، وبينه العلماء من قبلنا. روي في هذا سنن كثيرة) (¬8). 2 - وأما المأخذ الثاني: فهو الاستثناء بالنظر إلى تقبل الأعمال من الله تعالى، إذ إن من قام بالعمل وأتى به لا يدري هل تقبل منه عمله أو لا؟ قال تعالى في وصف المؤمنين: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60]. وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء فقالت: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر، ويخاف أن يعذب؟ قال: ((لا، يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه)) (¬9). ¬

(¬1) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 600)، و ((ابن هانئ في مسائله)) (2/ 162)، وذكره شيخ الإسلام، وانظر: ((الفتاوى)) (7/ 447). (¬2) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 601). (¬3) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 597). (¬4) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 597)، و ((أبو داود في مسائله)) (ص: 273)، وبنحوه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 137). (¬5) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 601) وذكره شيخ الإسلام ((الفتاوى)) (7/ 448)، وانظر تعليق شيخ الإسلام عليه. (¬6) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 308). (¬7) ((الفتاوى)) (7/ 448). (¬8) ((الشريعة)) للآجري (ص: 136). (¬9) رواه الترمذي (3175)، وابن ماجه (3403)، وأحمد (6/ 205) (25746)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 477). قال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 258)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

وهكذا كان دأب السلف الصالح من صحابة وتابعين، يقومون بالأعمال الكثيرة الجليلة، ثم يخافون أن لا تكون قد تقبلت منهم. قال ابن بطة العكبري: (فهذه سبيل المؤمنين وطريق العقلاء من العلماء لزوم الاستثناء والخوف والرجاء لا يدرون كيف أحوالهم عند الله ولا كيف أعمالهم أمقبولة هي أم مردودة؟ قال الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] وأخبر عن عبده الصالح سليمان عليه السلام في مسألته إياه وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل: 19]. أفلا تراه كيف يسأل الله الرضا منه بالعمل الصالح لأنه قد علم أن الأعمال ليست بنافعة وإن كانت في منظر العين صالحة إلا أن يكون الله عز وجل قد رضيها وقبلها، فهل يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجزم أن أعماله الصالحة من أفعال الخير وأعمال البر كلها مرضية وعنده زكية ولديه مقبولة، هذا لا يقدر على حتمه وجزمه إلا جاهل مغتر بالله، نعوذ بالله من الغرة بالله والإصرار على معصية الله. أما ترون رحمكم الله إلى الرجل من المسلمين قد صلى الصلاة فأتمها وأكملها وربما كانت في جماعة وفي وقتها وعلى تمام طهارتها فيقال له: صليت؟ فيقول: قد صليت إن قبلها الله، وكذلك القوم يصومون شهر رمضان؛ فيقولون في آخره: صمنا إن كان الله قد تقبله منا، وكذلك يقول من قدم من حجه بعد فراغه من حجه وعمرته، وقضاء جميع مناسكه إذا سئل عن حجه إنما يقول: قد حججنا ما بقي غير القبول، وكذلك دعاء الناس لأنفسهم ودعاء بعضهم لبعض: اللهم تقبل صومنا وصلاتنا وزكاتنا، وبذلك يلقى الحاج فيقال له: قبل الله حجك وزكى عملك، وكذا يتلاقى الناس عند انقضاء شهر رمضان فيقول بعضهم لبعض: قبل الله منا ومنك. بهذا مضت سنة المسلمين وعليه جرت عادتهم وأخذه خلفهم عن سلفهم، فليس يخالف الاستثناء في الإيمان ويأبى قبوله إلا رجل خبيث مرجئ ضال قد استحوذ الشيطان على قلبه نعوذ بالله منه) (¬1). وقال شيخ الإسلام: (وخوف من خاف من السلف أن لا يتقبل منه، لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور، وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال الإيمان كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله، لخوف أن لا يكون أتى بالواجب على الوجه المأمور به، لا على جهة الشك فيما بقلبه من التصديق) (¬2). (وسُئل ابن المبارك فقيل له: إن قوماً يقولون: إن سفيان الثوري حين كان يقول إن شاء الله كان ذاك منه شك، فقال ابن المبارك: أترى سفيان كان يستثني في وحدانية الرب أو في محمد صلى الله عليه وسلم، إنما كان استثناؤه في قبول إيمانه وما هو عند الله) (¬3). وقد نقل الإمام أحمد عن سليمان بن حرب أنه كان يستثني ويحمل هذا على التقبل يقول: (نحن نعمل، ولا ندري يتقبل منا أو لا؟) (¬4) فهذا وجه من أوجه الاستثناء عند السلف الصالح وهو النظر إلى التقبل، وهو في الحقيقة عند التأمل يعود إلى الوجه الأول، وهو النظر إلى الأعمال وتكميلها؛ لأن القبول متعلق بالإتيان بالأعمال على الوجه المطلوب، فمن كان عمله كذلك قبل منه. ¬

(¬1) ((الإبانة)) لابن بطة (2/ 872، 873). (¬2) ((الفتاوى)) (7/ 496)، وانظر ((السلسلة الصحيحة)) للألباني (1/ 257). (¬3) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (3/ 670). (¬4) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 597)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 873).

لذا يقول شيخ الإسلام عقب ذكره لأثر سليمان بن حرب المتقدم: (والقبول متعلق بفعله كما أمر. فكل من اتقى الله في عمله، ففعله كما أمر فقد تقبل منه لكن هو لا يجزم بالقبول، لعدم جزمه بكمال الفعل) (¬1) ثم ذكر حديث عائشة المتقدم. 3 - المأخذ الثالث: في الاستثناء عند السلف، هو البعد عن تزكية النفس (¬2)، وليس هناك تزكية للنفس وراء الشهادة لها بالإيمان، الذي قال الله في وصف أهله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4]. فمن قال عن نفسه إنه مؤمن فقد زكاها بأعظم تزكية ونعتها بأكمل الصفات وأجملها، والله قد نهى عن ذلك في محكم تنزيله، قال تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 3]. قال الحسن في معنى الآية: (علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة، فلا تزكوا أنفسكم فلا تبرئوها عن الآثام ولا تمدحوها بحسن أعمالها) (¬3). فإذا علم أن الله قد نهى عباده عن الثناء على أنفسهم وتزكيتها، فأي وصف وثناء أبلغ من الثناء عليها بالإيمان وأي تزكية أعظم من هذا، يقول الخليل النحوي: (إذا قلت إني مؤمن فأي شيء بقي) (¬4). ومن لطيف ما روي في هذا (أن أعرابياً سئل أمؤمن أنت؟ فقال: أزكي نفسي) (¬5). وتأمل كيف وفق هذا الأعرابي بفطرته السليمة إلى هذا الفقه المسدد، الذي لا يتهيأ مثله لمن شغل أوقاته بالفلسفات الكلامية والآراء المنطقية، التي هي أشد ما يكون خطراً على الإيمان والفطر. فينبغي للعقلاء أهل الإيمان أن يتجنبوا قول ما فيه تزكية نفوسهم، كما قال ابن بطة رحمه الله في ذكر بعض أوصاف أهل الإيمان: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن من شأن المؤمنين وصفاتهم وجود الإيمان فيهم، ودوام الإشفاق على إيمانهم، وشدة الحذر على أديانهم، فقلوبهم وجلة من خوف السلب، قد أحاط بهم الوجل، لا يدرون ما الله صانع بهم في بقية أعمارهم، حذرين من التزكية، متبعين لما أمرهم به مولاهم الكريم حين يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32] ... ) (¬6). فهذا مأخذ ثالث للسلف في الاستثناء، يستثنون مخافة تزكية النفس، فكلمة مؤمن تعدل عندهم كلمة بر وتقي ومن أهل الجنة. قال شيخ الإسلام: (فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة؛ فشهادته لنفسه بالإيمان كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون) (¬7). 4 - المأخذ الرابع: هو أن الاستثناء يجوز في الأمور المتيقنة التي لا شك فيها، وقد جاءت السنة بمثل هذا لما فيه من الحكمة (¬8). ¬

(¬1) ((الفتاوى)) (7/ 447). (¬2) انظر: ((الفتاوى)) (7/ 668). (¬3) ((تفسير البغوي)) (4/ 253). (¬4) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 568) وعبدالله في ((السنة)) (1/ 316)، واللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 961). (¬5) رواه اللالكائي في ((شرح الاعتقاد)) (5/ 1007). (¬6) ((الإبانة)) لابن بطة (2/ 862). (¬7) ((الفتاوى)) (7/ 446). (¬8) انظر: ((الفتاوى)) (7/ 450).

قال الإمام أحمد: قول النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر فقال: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) (¬1)، وقد نعيت إليه نفسه أنه صائر إلى الموت، وفي قصة صاحب القبر ((عليه حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله)) (¬2)، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا)) (¬3)، وفي مسألة الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم أحدنا يصبح جنباً يصوم فقال: ((إني لأفعل ذلك ثم أصوم)) فقال: إنك لست مثلنا أنت قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، فقال: ((والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله)) (¬4)، وهذا كثير وأشباهه على اليقين. (ودخل عليه شيخ فسأله عن الإيمان فقال: قول وعمل، فقال له: يزيد، قال: يزيد وينقص. فقال له: أقول مؤمن إن شاء الله؟ قال نعم، فقال له: إنهم يقولون لي: إنك شاك. قال: بئس ما قالوا. ثم خرج فقال: ردوه، فقال: أليس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال: نعم. قال هؤلاء مستثنون، قال له: كيف يا أبا عبدالله؟ قال: قل لهم: زعمتم أن الإيمان قول وعمل، فالقول قد أتيتم به، والعمل فلم تأتوا به، فهذا الاستثناء لهذا العمل، فقيل له: فيستثنى في الإيمان؟ قال: نعم، أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، استثني على اليقين لا على الشك، ثم قال: قال الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] فقد علم تبارك وتعالى أنهم داخلون المسجد الحرام) (¬5). قال شيخ الإسلام - معلقاً على كلام أحمد هذا منبهاً على ما فيه من فوائد -: (فقد بين أحمد في كلامه أنه يستثني مع تيقنه بما هو الآن موجود فيه، يقوله بلسانه وقلبه لا يشك في ذلك، ويستثني لكون العمل من الإيمان وهو لا يتيقن أنه أكمله بل يشك في ذلك، فنفى الشك وأثبت اليقين فيما يتيقنه من نفسه وأثبت الشك فيما لا يعلم وجوده، وبيّن أن الاستثناء مستحب لهذا الثاني الذي لا يعلم هل أتى به أم لا، وهو جائز أيضاً لما يتيقنه، فلو استثنى لنفس الموجود في قلبه جاز كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله لأرجو أن أكون أخشاكم لله)) (¬6) وهذا أمر موجود في الحال ليس بمستقبل وهو أخشانا، فإنه لا يرجو أن يصير أخشانا لله، بل هو يرجو أن يكون حين هذا القول أخشانا لله، كما يرجو المؤمن إذا عمل عملاً أن يكون الله تقبله منه ويخاف أن لا يكون تقبله منه) (¬7). ¬

(¬1) جزء من حديث رواه أحمد (2/ 300) (7980). والحديث رواه مسلم في صحيحه (607). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) جزء من حديث رواه أحمد (6/ 139) (25133). من حديث عائشة رضي الله عنها. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 278)، والسيوطي في ((شرح الصدور)) (193): إسناده صحيح، والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1968). (¬3) رواه أحمد (2/ 426) (9500). والحديث رواه مسلم (512). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه أحمد (6/ 67) (24430). والحديث رواه مسلم (2649). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 595، 596). (¬6) رواه أحمد (6/ 67) (24430). والحديث رواه مسلم (2649). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) ((الفتاوى)) (7/ 452).

وعن محمد بن الحسن بن هارون قال: (سألت أبا عبدالله عن الاستثناء في الإيمان؟ فقال: نعم الاستثناء على غير معنى شك مخافةً واحتياطاً للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغيره وهو مذهب الثوري، قال الله عز وجل لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله)) (¬1) وقال في البقيع: ((عليه تبعث إن شاء الله)) (¬2).) (¬3). قال شيخ الإسلام موضحاً كلام الإمام أحمد هذا: (فقد بين أحمد أنه يستثني مخافة واحتياطاً للعمل، فإنه يخاف أن لا يكون قد كمل المأمور به، فيحتاط بالاستثناء وقال على غير معنى شك يعني من غير شك مما يعلمه الإنسان من نفسه، وإلا فهو يشك في تكميل العمل الذي خاف أن لا يكون كمله، فيخاف من نقصه ولا يشك في أصله) (¬4). وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبدالله يقول: إذا قال أني مؤمن إن شاء الله ليس هو بشاك، قيل له: إن شاء الله ليس هو شكاً؟ قال: معاذ الله أليس قد قال الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] وفي علمه أنهم يدخلون، وصاحب القبر إذ قال: ((عليه تبعث إن شاء الله)) (¬5) فأي شك هاهنا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) (¬6) (¬7). وقال حرب بن إسماعيل سمعت أحمد يقول في التسليم على أهل القبور أنه قال: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) (¬8) قال: هذا حجة في الاستثناء في الإيمان؛ لأنه لا بدّ من لحوقهم ليس فيه شك، وقال الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ [الفتح: 27] وهذه حجة أيضاً لأنه لابد داخلوه (¬9). وقال أبو بكر الأثرم: (سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل سُئل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه؟ قال: أما أنا فلا أعيبه، قال أبو عبدالله: إذا كان تقول أن الإيمان قول وعمل فاستثني مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثنى للعمل، قال الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] فهذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل)) (¬10) قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان) (¬11). ¬

(¬1) رواه أحمد (6/ 67) (24430). والحديث رواه مسلم (2649). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. بلفظ: ((أخشاكم)) بدلاً من ((أتقاكم)). (¬2) جزء من حديث رواه أحمد (6/ 139) (25133). من حديث عائشة رضي الله عنها. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 278)، والسيوطي في ((شرح الصدور)) (193): إسناده صحيح، والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1968). (¬3) ((السنة)) للخلال (3/ 593 - 594) (¬4) ((الفتاوى)) (7/ 450). (¬5) جزء من حديث رواه أحمد (6/ 139) (25133). من حديث عائشة رضي الله عنها. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 278)، والسيوطي في ((شرح الصدور)) (193): إسناده صحيح، والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1968). (¬6) جزء من حديث رواه أحمد (2/ 300) (7980). والحديث رواه مسلم في صحيحه (607). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 132) (¬8) جزء من حديث رواه أحمد (2/ 300) (7980). والحديث رواه مسلم في صحيحه (607). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬9) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 595). (¬10) رواه أحمد (6/ 67) (24430). والحديث رواه مسلم (2649). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬11) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 137)، وذكره شيخ الإسلام في ((الفتاوى)) (7/ 254).

وقال المروذي: (قيل لأبي عبدالله إن استثنيت في إيماني أكن شاكاً؟ قال: لا) (¬1). وقال حماد بن زيد: (يسموننا الشكاك، والله ما شككنا في ديننا قط، ولكن جاءت أشياء، أليس ذكر أن اليسير من الرياء شرك، فأينا لم يراء؟) (¬2). فبهذه النقول الجليلة والأقوال الجميلة، يندفع عن أهل السنة والجماعة شناعة المشنعين من أهل البدع والأهواء بأنهم شكّاك، وحاشاهم رحمهم الله، بل هم أهل دين وورع وعلم ويقين. وبعد، فهذه وجوه أربعة من أجلها استثنى من استثنى من السلف في إيمانه، وملخص هذه الوجوه ما ذكره شيخ الإسلام بقوله: (فإذا كان مقصوده - أي المستثني في إيمانه - إني لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب الله علي، وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه فهذا استثناؤه حسن، وقصده أن لا يزكي نفسه، وأن لا يقطع بأنه عمل عملاً كما أمر فقبل منه، والذنوب كثيرة والنفاق مخوف على عامة الناس) (¬3). فجمع رحمه الله في كلمته هذه الجامعة الوجوه الأربعة التي كان يلحظها السلف عند استثنائهم في الإيمان. وعلى كل فهذا ما كان يستثنى السلف لأجله في إيمانهم ولم يكن أحد من السلف يستثني في إيمانه بحسب الموافاة كما يظنه بعض أهل الأهواء بل هذا من الغلط عليهم، وفي بيان سبب هذا الغلط يقول شيخ الإسلام: (فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن السلف أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف، وهذا القول لم يقل به أحد من السلف، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم، لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل .. ) (¬4). زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبدالرزاق البدر - ص 463 ¬

(¬1) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 905). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 347). (¬3) ((الفتاوى)) (13/ 41). (¬4) ((الفتاوى)) (7/ 436).

المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها السلف لهم في الاستثناء صيغ متعددة، فمنهم من يستثني بقول: إن شاء الله، أو أرجو، أو آمنت بالله ... ، أو لا إله إلا الله أو نحو ذلك من الصيغ، وجميع هذه الصيغ مؤداها واحد، وهو عدم القطع بالإيمان المطلق الكامل، وتفويض ذلك إلى الله سبحانه. وفيما يلي أنقل بعض ما ورد عن السلف في ذلك، مصنفاً أقوالهم حسب الصيغ الواردة عنهم في الاستثناء. 1 - استثناؤهم بقول: (إن شاء الله): (أ) عن عبدالرحمن بن عصمة قال: (كنت عند عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول معاوية رضي الله عنه بهدية فقال: أرسل بها إليك أمير المؤمنين، فقالت: أنتم المؤمنون إن شاء الله تعالى، وهو أميركم وقد قبلت هديته) (¬1). (ب) وعن أحمد بن حنبل قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: (إذا سئل أمؤمن أنت إن شاء الله لم يجبه، وسؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، وقال: إن شاء الله ليس يكره، وليس بداخل في الشك) (¬2). (ج) وقال جرير بن عبدالحميد: (كان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى - صاحب الحسن - وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون من لم يستثن) (¬3). (د) (وسئل أحمد ما تقول في الاستثناء في الإيمان؟ قال: نحن نذهب إليه. قيل: الرجل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؟ قال: نعم) (¬4). (وسُئل عن الرجل يقال له: أمؤمن أنت؟ قال: سؤاله إياك بدعة، يقول: إن شاء الله) (¬5). (وسئل عن الرجل يسألني: مؤمن أنت؟ قال: تقول: نعم إن شاء الله) (¬6). 2 - استثناؤهم بقول: (أرجو): (أ) عن سعيد بن جبير قال: (سألت ابن عمر، قال: قلت: أغتسل من غسل الميت؟ قال: مؤمن هو؟ قلت: أرجو، قال: فتمسح بالمؤمن ولا تغتسل منه) (¬7). (ب) عن إبراهيم النخعي قال: (قال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو) (¬8). (ج) وعن إبراهيم النخعي (عن علقمة – وتكلم عنده رجل من الخوارج بكلام كرهه – فقال علقمة: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58] فقال له الخارجي: أَوَمنهم أنت؟ فقال: أرجو) (¬9). (د) وعن الحسن بن عبيدالله قال: (قال إبراهيم النخعي: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: أرجو) (¬10). (هـ) (وسُئل أحمد بن حنبل عمن يقال له أنت مؤمن؟ فقال: سؤاله إياك بدعة، وقل: أنا مؤمن أرجو) (¬11). 3 - استثناؤهم بقول: (آمنت بالله وملائكته .. ): ¬

(¬1) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 349). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 310). (¬3) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 335)، والآجري في الشريعة (ص: 139)، وابن بطة في الإبانة (2/ 871). (¬4) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 594). (¬5) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 602). (¬6) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 602). (¬7) رواه ((ابن أبي شيبة في مصنفه)) (3/ 267)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 321). (¬8) رواه أبو عبيد في ((الإيمان)) (ص: 68)، وابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (ص: 9)، وفي ((المصنف)) (11/ 15)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 340)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 136). (¬9) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 322)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 141)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 870). (¬10) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 340)، والطبري في ((تهذيب الآثار)) (برقم 1000)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 141)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 879). (¬11) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 602).

(أ) عن علقمة بن الأسود قال: (قال رجل عند عبدالله: إني مؤمن. قال: قل: إني في الجنة، ولكنا نقول: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله) (¬1). (ب) وعن ابن طاووس عن أبيه (أنه كان إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يزيد على هذا) (¬2). (ج) وعن سفيان بن محل قال: قال لي إبراهيم: (إذا قيل لك: أمؤمن أنت فقل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله) (¬3). (د) وعن عبدالرحمن بن بكير السلمي قال: (كنت عند محمد بن سيرين وعنده أيوب فقلت له: يا أبا بكر يقول لي: أمؤمن أنت؟ أقول: مؤمن، فانتهرني أيوب، فقال محمد: وما عليك أن تقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله) (¬4). (هـ) وعن حبيب بن الشهيد قال: قال محمد بن سيرين: (إذا قيل لك: أنت مؤمن؟ فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) (¬5). (و) (وعن أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبدالله قيل له: إذا سألني الرجل أمؤمن أنت؟ فقال: سؤاله إياك بدعة، لا شك في إيماننا. قال المزني: وحفظي أن أبا عبدالله قال: أقول كما قال طاووس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله) (¬6). 4 - استثناؤهم بقول (لا إله إلا الله): (أ) عن سوار بن شبيب قال (جاء رجل إلى ابن عمر فقال: إن هاهنا قوماً يشهدون علي بالكفر، قال: ألا تقول لا إله إلا الله فتكذبهم) (¬7). (ب) وعن الحسن بن عمرو عن إبراهيم النخعي قال: (إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا الله) (¬8). فجميع هذه النقول تدل بوضوح على أن الاستثناء في الإيمان سنة ماضية عند السلف الصالح بصيغ مختلفة، مدارها على البعد عن تزكية النفس والشهادة لها بتكميل الأعمال وإتمام الإيمان. ولا يشكل على هذا ما نقل عن بعض السلف أنه أجاب بأنه مؤمن دون استثناء مثل: 1 - ما نقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه خطبهم فقال: (أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة، والله إني لأطمع أن يكون عامة من تصيبون بفارس والروم في الجنة، فإن أحدهم يعمل الخير فيقول: أحسنت بارك الله فيك أحسنت رحمك الله، والله يقول: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ [الشورى: 26]) (¬9). فهذا الأثر خوطب فيه الجماعة ولم يعين به شخص، وفي آخره رجع إلى الاستثناء في دخول الجنة فقال: (إني لأطمع) (¬10). 2 - وعن ابن أبي كثير عن رجل لم يسمه عن أبيه قال: (سمعت ابن مسعود يقول: أنا مؤمن) (¬11). وإسناد هذا الأثر ضعيف فالرجل الذي لم يسم وأبوه مجهولان. ¬

(¬1) رواه أبو عبيد في ((الإيمان)) (ص: 67)، وابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (ص: 9)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 322). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 23)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 142)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 878). (¬3) رواه أبو عبيد في ((الإيمان)) (ص: 68)، وعبدالله في ((السنة)) (1/ 320)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 141)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 878). (¬4) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 320) وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 878). (¬5) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 320)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 141)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 879). (¬6) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 601). (¬7) رواه ابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (ص: 10)، وفي ((المصنف)) (11/ 30). (¬8) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 321)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 141)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 878). (¬9) رواه الحاكم (2/ 444)، والبيهقي في ((الشعب)) (1/ 213)، وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬10) انظر: ((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/ 214). (¬11) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) ((11/ 29)، وفي كتاب ((الإيمان)) (ص: 10).

3 - وعن عبدالله بن يزيد الأنصاري قال: (تسموا باسمكم الذي سماكم الله بالحنيفية والإسلام والإيمان) (¬1). 4 - وعن أبي عبدالرحمن الشيباني قال: (لقيت عبدالله بن معقل فقلت له: إن أناساً من أهل الصلاح يعيبون علي أن أقول: أنا مؤمن، فقال عبدالله: لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمناً) (¬2). 5 - وعن إبراهيم التميمي قال: (وما على أحدكم أن يقول: أنا مؤمن، فوالله لئن كان صادقاً لا يعذبه الله على صدقه، وإن كان كاذباً لما دخل عليه من الكفر أشد عليه من الكذب) (¬3). ومراده بـ (أنا مؤمن) أصل الإيمان كما يدل على ذلك آخر كلامه قوله: (لما دخل عليه من الكفر ... ). 6 - وعن أبي عبدالرحمن السلمي قال: (إذا سئل أحدكم: أمؤمن أنت؟ فلا يشك في إيمانه) (¬4). 7 - وعن سيف بن ميمون قال: قلت لعطاء: (إن قبلنا قوماً نعدهم من أهل الصلاح إن قلنا: نحن مؤمنون عابوا ذلك علينا، قال: فقال عطاء: نحن المسلمون المؤمنون، وكذلك أدركنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون) (¬5). فهذه الآثار لا تشكل على ما ذكرته آنفاً من أن مذهب السلف هو جواز الاستثناء في الإيمان، لأنها لا تخلو من أحد أمور: 1 - إما أن تكون ضعيفة الإسناد غير ثابتة عن الصحابي أو التابعي المروية عنه كما في بعض الآثار المتقدمة. 2 - أو أن يكون قاله على سبيل التعميم كما في الأثر الأول، وهذا لا إشكال فيه إذ أهل القبلة كلهم مؤمنون باعتبار الظاهر منهم، وبذلك يتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بالأخوة الإيمانية. 3 - أو أن يكون قصد بذلك أصل الإيمان لإتمامه وكماله، بل هذا هو مقصودهم عند إطلاق القول (أنا مؤمن) أو (أنت مؤمن)، لأن اسم الإيمان عند السلف على ضربين: مطلق ومقيد. فإذا استعمل مطلقاً شمل جميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الظاهرة والباطنة. وإذا استعمل مقيداً يكون متناولاً لأصل الإيمان وأساسه، وهو الإيمان الباطن بأركانه الستة الواردة في حديث جبريل المشهور (¬6). وللإيمان عندهم أصل وفرع؛ فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله، وفرعه الأعمال الظاهرة بأنواعها (¬7). وعلى هذا فإن من استثنى من السلف في إيمانه قصد به الإيمان التام الكامل المقبول عند الله، ومن لم يستثن قصد الإيمان الباطن الذي هو أصل الإيمان وأساسه وهذا لا استثناء فيه. وعلى هذا ينبغي لمن سئل هل هو مؤمن أو لا؟ أن يستفصل من السائل ماذا يريد بالإيمان؟ هل يريد بذلك الإيمان الكامل التام المقبول عند الله الذي أهله يقيناً في الجنة؟ أو يريد الإيمان المقيد الذي هو أصل الإيمان وأساسه؟ فإن أراد الأول فلا بد من الاستثناء، وإن أراد الثاني فلا استثناء ... وتأكيداً لما ذكرت أنقل بعض أقوال السلف المؤكدة لذلك والمؤيدة له، والمبينة أن مقصودهم بترك الاستثناء في الإيمان أصله، وبالاستثناء فيه تمامه وكماله. ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (11/ 30)، وفي كتاب ((الإيمان)) (ص: 10). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (11/ 29)، وفي كتاب ((الإيمان)) (ص: 10). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (11/ 15)، وفي كتاب ((الإيمان)) (ص: 23). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (11/ 29)، وفي كتاب ((الإيمان)) (ص: 9). (¬5) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (11/ 35)، وفي كتاب ((الإيمان)) (ص: 16). (¬6) الحديث في الصحيحين؛ رواه البخاري (50)، ومسلم (106). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) انظر: ((الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 642 وما بعدها).

فعن تمام بن نجيح قال سأل رجل الحسن البصري عن الإيمان فقال: (الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا) (¬1). قال البيهقي معلقاً: (فلم يتوقف الحسن في أصل إيمانه في الحال، وإنما توقف في كماله الذي وعد الله عز وجل لأهله الجنة بقوله: لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 4]) (¬2). وقال سفيان الثوري: (الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ونرجو أن يكونوا كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله عز وجل) (¬3). وعن وكيع قال: (كان سفيان الثوري يقول أنا مؤمن وأهل القبلة كلهم مؤمنون في النكاح والدية والمواريث، ولا يقول مؤمن عند الله عز وجل) (¬4). وعن قتيبة بن سعيد قال: (هذا قول الأئمة المأخوذ في الإسلام والسنة بقولهم ... ونقول: الناس عندنا مؤمنون بالاسم الذي سماهم الله في الإقرار والحدود والمواريث، ولا نقول: حقاً، ولا نقول: عند الله ولا نقول: كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن إيمانهم متقبل) (¬5). وعن إسماعيل بن سعيد قال: (سألت أحمد من قال: أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث ولا أعلم ما أنا عند الله عز وجل، قال: ليس هذا بمرجئ) (¬6). فبهذه النقول يعلم ما سبق ذكره عن مذهب السلف أنهم يجوزون الاستثناء باعتبار، ويمنعونه باعتبار، حسب مراد القائل بكلمة الإيمان. ولهذا كان من السلف من يرى أن الاستثناء وتركه سواء على المعنى الذي أشرت إليه. قال الأوزاعي: (من قال أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن، لقول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27]. وقد علم أنهم داخلون) (¬7). ولا يتنافى هذا مع ما جاء عن بعضهم من كراهة ترك الاستثناء كما روي ذلك عن سفيان الثوري أنه ينكر ويكره أن يقول: (أنا مؤمن) (¬8)، و ... عن جمع من السلف أنهم كانوا يعيبون من لا يستثني. قال أبو عبيد: (وإنما كراهتهم عندنا أن يثبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين) (¬9). ولكن لما كان ترك الاستثناء شعاراً للمرجئة، ومتضمناً لتزكية النفس والثناء عليها وهذا منهي عنه شرعاً، فإني أرى أن لزوم الاستثناء أولى وأكمل، وأن لا يترك الاستثناء إلا إذا بين المقصود والمراد. ولهذا كان الإمام أحمد لا يعجبه ترك الاستثناء (¬10)، بل قال مرة لحسين بن منصور: من قال من العلماء: أنا مؤمن؟ قلت: ما أعلم رجلاً أثق به. قال: لم تقل شيئاً لم يقله أحد من أهل العلم قبلنا (¬11). قال شيخ الإسلام: ( ... ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقول: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك – أي أصل الإيمان – لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه) (¬12). ولم يكن أحمد رحمه الله ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده قصد المرجئة أن الإيمان مجرد القول، قال الأثرم: (قلت لأبي عبدالله: فكأنك لا ترى بأساً أن لا يستثني، فقال: إذا كان ممن يقول: الإيمان قول وعمل فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبدالله: إن قوماً تضعف قلوبهم عن الاستثناء، فتعجب منهم) (¬13). زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه -لعبدالرزاق البدر – بتصرف - ص 479 ¬

(¬1) رواه البيهقي في ((الاعتقاد)) (ص: 120)، وفي ((الشعب)) (1/ 218). (¬2) ((الاعتقاد)) (ص: 120). (¬3) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 311)، وأبو داود في ((مسائل الإمام أحمد)) (ص: 274)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 138)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 872). (¬4) رواه البيهقي في ((الشعب)) (1/ 219). (¬5) رواه البيهقي في ((الشعب)) (1/ 219). (¬6) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 574). (¬7) رواه أبو عبيد في ((الإيمان)) (ص: 69)، وبنحوه الخلال في ((السنة)) (3/ 598). (¬8) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 138)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 871). (¬9) ((الإيمان)) (ص: 68). (¬10) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 598). (¬11) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 566). (¬12) ((الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 449). (¬13) ذكره شيخ الإسلام في ((الفتاوى)) (7/ 225، 669)، وانظر أيضاً (7/ 449).

المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ (أمؤمن أنت)

المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ (أمؤمن أنت) لما كان المرجئة هم أول من أثار مسألة الاستثناء في الإيمان؛ لحاجة في نفوسهم ولمقصد سيء في صدورهم، وهو دعم قولهم في الإيمان وأنه التصديق وحده وأن العمل خارج من مسماه، ولما أكثروا من طرح هذه المسألة بين الناس بغية تحقيق ذاك المقصد، أنكر عليهم السلف ذلك أشد الإنكار وحاربوا مقالتهم أقوى محاربة، ولهذا كثرت أقوالهم رحمهم الله المبينة للجواب الشرعي على هذه المسألة البدعية، ونصوا رحمهم الله على كراهة هذه المسألة وأنها من بدع المرجئة السيئة. وأقوالهم رحمهم الله في ذم هذه المسألة وتبديع قائلها كثيرة جداً، حتى إن بعض من صنف في العقيدة على رسم السنة أفرد باباً في مصنفه في هذا الموضوع على الخصوص كالآجري في (الشريعة)، فقد أفرد باباً (فيمن كره من العلماء لمن سأل غيره فيقول له: أنت مؤمن هذا عندهم مبتدع رجل سوء) (¬1) وكذلك فعل ابن بطة في (الإبانة) فقد أفرد باباً بعنوان: (سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت؟ وكيف الجواب له؟ وكراهية العلماء هذا السؤال وتبديع السائل عن ذلك) (¬2). وقد أوردا رحمهما الله في هذين البابين نصوصاً كثيرة عن السلف رحمهم الله في ذم المرجئة وتبديعهم في مقالتهم هذه، صيانة منهم للمعتقد وحفاظاً على الديانة. قال ابن بطة رحمه الله في نهاية الباب المذكور: (فقد ذكرت في هذا الباب من كلام أئمة المسلمين وقول الفقهاء والتابعين ما إن عمل به المؤمن أراح به نفسه من خصومة المرجئ الضال، وأزاح به علته، وكان لدينه بذلك صيانة ووقاية والله أعلم) (¬3). ولما كان الأمر بهذه المثابة خصصت هذا الموضوع بهذا المبحث لأنقل فيه بعض ما ورد عن السلف في ذلك تحذيراً من هذه المقالة السيئة المبتدعة، وتبصيراً بالحق والسنة. 1 - (سأل رجل ميمون بن مهران قال: فقال لي: أمؤمن أنت؟ قال: قل: آمنت بالله وملائكته وكتبه، قال: لا يرضى مني بذلك، قال: فردها، فقال: لا يرضى، فردها عليه ثم ذره في غيظه يتردد) (¬4). 2 - وعن إبراهيم النخعي قال: (سؤال الرجل الرجل أمؤمن أنت؟ بدعة) (¬5). وسأله رجل: أمؤمن أنت؟ فقال: (ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي عن هذا بدعة) (¬6). 3 - وقال الإمام أحمد سمعت سفيان بن عيينة يقول: (إذا سئل أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني) (¬7). 4 - وقيل له الرجل يقول: مؤمن أنت؟ فقال: (فقل: ما أشك في إيماني وسؤالك إياي بدعة، وتقول ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد، مقبول العمل أم لا؟) (¬8). 5 - وسئل الإمام أحمد عن الرجل يقال له: (أمؤمن أنت؟ قال: سؤاله إياك بدعة، ويقول: إن شاء الله) (¬9). 6 - وقال الإمام محمد بن حسين الآجري: (إذا قال لك رجل: أنت مؤمن؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والموت والبعث من بعد الموت والجنة والنار، وإن أحببت أن لا تجيبه تقول له: سؤالك إياي بدعة، فلا أجيبك، وإن أجبته، فقلت: أنا مؤمن إن شاء الله على النعت الذي ذكرناه فلا بأس به، واحذر مناظرة مثل هذا، فإن هذا عند العلماء مذموم، واتبع من مضى من أئمة المسلمين تسلم إن شاء الله تعالى) (¬10). وبهذه النقول الطيبة عن سلف الأمة يعلم أن من البدع الحوادث ومن الأقوال المبتدعة سؤال الرجل أخاه أمؤمن أنت؟ فالواجب على المسلم العاقل أن يحبس نفسه على السنة، وأن يحذر من البدعة، وأن يقف حيث وقف القوم، ويقول فيما قالوا، ويكف عما كفوا، ويسلك سبيل السلف الصالح رحمهم الله تعالى. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبدالرزاق البدر – ص 491 ¬

(¬1) ((الشريعة)) (ص: 140). (¬2) (الإبانة)) (2/ 877). (¬3) ((الإبانة)) (2/ 883). (¬4) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 877). (¬5) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 321)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 765)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 880). (¬6) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 339). (¬7) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 310)، والخلال في ((السنة)) (3/ 602)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 138)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 881). (¬8) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 338)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 140). (¬9) رواه الخلال في السنة (3/ 601). (¬10) ((الشريعة)) (ص: 140).

الباب الثالث: أركان الإسلام والعلاقة بين الإسلام الإيمان

تمهيد قال الشيخ حافظ حكمي: فَقَدْ أَتَى الإِسْلاَمُ مَبْنِيٌّ عَلَى ... خَمْسٍ فَحَقِّقْ وَادْرِ مَا قَدْ نُقِلاَ أَوَّلُهَا الرُّكْنُ الأَسَاسُ الأَعْظَمُ ... وَهْوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الأَقْوَمُ رُكْنُ الشَّهَادَتَيْنِ فَاثْبُتْ وَاعْتَصِمْ ... بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لاَ تَنْفَصِمْ وَثَانِيَاً إِقَامَةُ الصَّلاةِ ... وَثَالِثَاً تَأْدِيَةُ الزَّكَاةِ وَالرَّابِعُ الصِّيَامُ فَاسْمَعْ وَاتَّبِعْ ... وَالْخَامِسُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ يَسْتَطِعْ وهذه أركان المرتبة الأولى مرتبة الإسلام وهي على قسمين قولية وعملية فالقولية: الشهادتان والعملية الباقي وهي ثلاثة أقسام: بدنية وهي الصوم والصلاة ومالية وهي الزكاة وبدنية مالية وهو الحج وقول القلب وعمله شرط في ذلك كله مما تقدم. والنصوص في هذه الأمور الخمسة كثيرة جدا وهي على نوعين قسم شامل لجميعها وقسم يخص كل خصلة منها. فلنبدأ بالقسم الأول ما تيسر منه على حدته ... فمن ذلك حديث جبريل ... عن الجم الغفير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ومنها حديث وفد عبد القيس ... ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان فقال له رجل والجهاد في سبيل الله فقال ابن عمر: الجهاد حسن هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬1). ومنها حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه عند أحمد وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)) (¬2) وإسناده صحيح. ¬

(¬1) رواه البخاري (8)، ومسلم (16). (¬2) رواه أحمد (4/ 363) (19240)، وأبو يعلى في مسنده (13/ 417)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (2/ 326)، وفي ((المعجم الصغير)) (2/ 60). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 52) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والصغير وإسناد أحمد صحيح. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (781): وأما حديث جرير فيرويه الشعبي عنه مرفوعا به رواه أحمد والطبراني من طريق جابر عن الشعبي به. قلت –أي: الألباني-: ورجاله ثقات غير جابر هذا وهو الجعفي وقد ضعف بل اتهم. لكن تابعه داود بن يزيد الأودي وهو ضعيف أيضا. وأخرجه الطبراني في ((الكبير)) وتابعه عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت أيضا. أخرجه في ((الكبير)) عن سورة بن الحكم. وفي ((الصغير)) عن أشعب بن عطاف كلاهما عن عبد الله به. وهذا سند حسن سورة بن الحكم ترجم له ابن أبي حاتم والخطيب ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا وقد روى عنه جماعة. وأشعث بن عطاف قال ابن عدي: لا بأس به. وأما عبد الله بن حبيب فثقة احتج به مسلم ... و [الحديث] صحيح. وقد ورد من حديث عبد الله بن عمر وجرير بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عباس.

ومن ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: صدق قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم قال: فزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان من سنتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم وصدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدق قال: ثم ولى فقال: والذي بعثك بالحق نبيا لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن شيئا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة)) (¬1). وفي رواية قال: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي إلى قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعيد بن بكر (¬2). وفي الصحيحين ... عن طلحة بن عبيد الله: ((أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: خمس صلوات إلا أن تطوع شيئا فقال: أخبرني ما فرض الله علي من الصيام؟ فقال: شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة؟ قال: فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق)). (¬3) وله عن أبي أيوب رضي الله عنه ((أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة؟ فقال: ماله ماله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرب ماله تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم)) (¬4) ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)) (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم (12). (¬2) رواه البخاري (63). (¬3) رواه البخاري (1891) واللفظ له، ومسلم (11). (¬4) رواه البخاري (5983) واللفظ له، ومسلم (13). (¬5) رواه البخاري (1397)، ومسلم (14).

وفي حديث ابن المنتفق رضي الله عنه في وفادته على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قلت ثنتان أسألك عنهما: ما ينجيني من النار وما يدخلني الجنة؟ قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء ثم نكس رأسه ثم أقبل علي بوجهه قال: لئن كنت أوجزت في المسألة لقد أعظمت وأطولت فاعقل عني إذاً اعبد الله لا تشرك به شيئا وأقم الصلاة وأد الزكاة وصم رمضان وما تحب أن يفعله بك الناس فافعل بهم وما تكره أن يأتي إليك الناس فذر منه)) رواه أحمد (¬1) ... ولعل ابن المنتفق هذا هو الرجل المبهم في رواية أبي أيوب المتقدمة في الصحيح فإن في مسلم ((أن ذلك الرجل أخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بزمامها وفي آخرها قول النبي صلى الله عليه وسلم: دع الناقة)) بعد أن علمه وابن المنتفق قال: ((فأخذت بخطام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: بزمامها وفي آخره قال صلى الله عليه وسلم: خل سبيل الراحلة)) وفي الرواية الأخرى ((خل سبيل الركاب)) فيشبه أن يكون هو صاحب القصة وقد حفظ الصوم والحج زيادة على ما في حديث أبي أيوب ورجاله رجال الصحيح, وهو السائل أعلم بجواب النبي صلى الله عليه وسلم وأوعى له وأحفظ له وأضبط من غيره والله أعلم. وعن ربعي بن خراش عن رجل من بني عامر رضي الله عنه ((أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أألج فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمة: اخرجي إليه فإنه لا يحسن الاستئذان فقولي له: فليقل السلام عليكم أأدخل قال: فأذن لي أو قال: فدخلت فقلت: بم أتيتنا به قال: لم آتكم إلا بخير؛ أتيتكم أن تعبدوا الله وحده لا شريك له قال شعبة: وأحسبه قال: وحده لا شريك له وأن تَدَعُوا اللات والعزى وأن تصلوا بالليل والنهار خمس صلوات وأن تصوموا من السنة شهرا وأن تحجوا البيت وأن تأخذوا من مال أغنيائكم فتردوها على فقرائكم قال: فقال: فهل بقي من العلم شيء لا تعلمته؟ قال: قد علمني الله عز وجل خيرا وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34])) (¬2) رواه أحمد ورجاله ثقات أئمة وروى أبو داود طرفا منه ... والأحاديث في هذا المعنى كثيرة يطول استقصاؤها وفيما ذكرنا كفاية. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص763 ¬

(¬1) رواه أحمد (6/ 383) (27197). قال البيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 3556): إسناده أولى بالصحة. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 48): رواه أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده عبد الله بن أبي عقيل اليشكري ولم أر أحدا روى عنه غير ابنه المغيرة بن عبد الله. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1477):إسناد رجاله ثقات رجال مسلم غير عبد الله اليشكري قال الحافظ: ليس بالمشهور. (¬2) روى أبو داود أوله (5177)، وأحمد (5/ 368) واللفظ له، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1084). قال ابن كثير في ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 357): إسناده صحيح. قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1170): وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير الرجل العامري فإنه لم يسم ولا يضر ذلك لأنه صحابي والصحابة كلهم عدول.

المبحث الأول: الشهادتان

المبحث الأول: الشهادتان (أولها) أو أول هذه الأركان (الركن الأساس الأعظم) الركن في اللغة الجانب الأقوى وهو بحسب ما يطلق فيه كركن البناء وركن القوم ونحو ذلك فمن الأركان ما لا يتم البناء إلا به ومنها ما يقوم بالكلية إلا به وإنما قيل لهذه الخمسة الأمور أركان ودعائم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس)) (¬1) فشبهه بالبنيان المركب على خمس دعائم وهذا الركن هو أصل الأركان الباقية ولهذا قلنا (الأساس) الذي لا يقوم البناء إلا عليه ولا يمكن إلا به ولا يحصل بدونه (الأعظم) هذه الصيغة مشعرة بتعظيم بقية الأركان وإنما هذا أعظمها فإنها كلها تابعة له ولا يدخل العبد في شيء من الشريعة إلا به. (وهو الصراط) الطريق الواضح (المستقيم) الذي لا اعوجاج فيه ولا غبار عليه بل هو معتدل نير (الأقوم) أي الأعدل من سلكه أوصله إلى جنات النعيم ومن انحرف عنه هوى في قعر الجحيم فإن من لم يثبت عليه في الدنيا لم يثبت على جسر جهنم يوم القيامة وذلك الركن المشار إليه هو (ركن الشهادتين) هذا إضافة الشيء إلى نفسه أي الركن الذي هو الشهادتين وهما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فلا يدخل العبد الإسلام إلا بهما ولا يخرج منه إلا بمناقضتهما إما جحودا لما دلتا عليه أو باستكبار عما استلزمتاه ولهذا لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شيء قبلهما ولم يقبل الله تعالى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد شيئا دونهما فبالشهادة الأولى يعرف المعبود وما يجب له وبالثانية يعرف كيف يعبده وبأي طريق يصل إليه وكيف يؤمن بالعبادة أحد قبل تعريفه بالمعبود وكيف يؤديها من لم يعرف كيف أمر الله أن يعبد ففي الشهادة الأولى توحيد المعبود الذي ما خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له وفي الشهادة الثانية توحيد الطريق الذي لا يوصل إلى الله تعالى إلا منه ولا يقبل دينا ممن ابتغى غيره ورغب عنه فإن عبادة الله تعالى التي خلق الخلق لها وقضى عليهم إفراده بها هي أمر جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه اعتقادا وقولا وعملا ومعرفة محابه تعالى ومرضاته لا تحصل إلا من طريق الشرع الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31] ... (فاثبت) أيها العبد المريد نجاة نفسه من النار والفوز بالجنة على هذا الصراط المستقيم النير الواضح الجلي ولا تستوحش من قلة السالكين وإياك أن تنحرف عنه فتهلك مع الهالكين ((فإن الله عز وجل ينادي يوم القيامة يا آدم فيقول: لبيك وسعديك فيقول: أخرج بعث النار فيقول: من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)) (¬2) فالناجي حينئذ واحد من ألف فاغتنم أن تكون من تلك الآحاد واحذر أن تغتر بجموع الضلالة فتكون من حطب جهنم وبئس المهاد. (واعتصم) أي استمسك (بالعروة) أي العقد الأوثق في الدين والسبب الموصل إلى رب العالمين (الوثقى) تأنيث الأوثق (التي لا تنفصم) أي لا تنقطع. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي -بتصرف – ص769 ¬

(¬1) رواه البخاري (8)، ومسلم (16). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (3348)، ومسلم (222). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

المبحث الثاني: الصلاة

المبحث الثاني: الصلاة تمهيد (وثانيا) من الأركان الخمسة (إقامة الصلاة) بجميع حقوقها ولوازمها (وثالثا تأدية الزكاة) إعطاؤها على الوجه المشروع وقد تقرر اقتران هذين الركنين بالتوحيد وتقديمهما بعده على غيرهما في غير موضع من القرآن أمرا وخبرا قال تعالى ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة: 2 - 3] قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 277] وقال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 56] وقال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] وقال الله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 5] وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له ((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) (¬1) وفي رواية ((فليكن ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل فإذا عرفوا الله تعالى فأخبرهم)) (¬2) الحديث. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص770 المطلب الأول: فضل الصلاة ¬

(¬1) رواه البخاري (1496)، ومسلم (19) (29). (¬2) رواه البخاري (1458)، ومسلم (19) (31).

اعلم هدانا الله وإياك أن الصلاة قد اشتملت على جل أنواع العبادة من الاعتقاد بالقلب والانقياد والإخلاص والمحبة والخشوع والخضوع والمشاهدة والمراقبة والإقبال على الله عز وجل وإسلام الوجه له والصمود والاطراح بين يديه وعلى أقوال اللسان وأعماله من الشهادتين وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتقديس والتمجيد والتهليل والتكبير والأدعية والتعوذ والاستغفار والاستغاثة والافتقار إلى الله تعالى والثناء عليه والاعتذار من الذنب إليه والإقرار بالنعم له وسائر أنواع الذكر وعلى عمل الجوارح من الركوع والسجود والقيام والاعتدال والخفض والرفع وغير ذلك هذا مع تضمنته من الشرائط والفضائل منها الطهارة الحسية من الأحداث والأنجاس الحسية والمعنوية من الإشراك والفحشاء والمنكر وسائر الأرجاس وإسباغ الوضوء على المكاره ونقل الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة وغير ذلك مما لم يجتمع في غيرها من العبادات ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (¬1) ولاشتمالها على معاني الإيمان سماها الله إيمانا في قوله تعالى وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143]. وهي ثانية أركان الإسلام في الفرضية فإنها فرضت في ليلة المعراج بعد عشر من البعثة لم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها إلى شيء غير التوحيد الذي هو الركن الأول ففرضت خمسين ثم خففها الله عز وجل إلى خمس كما تواترت النصوص بذلك في الصحيحين وغيرهما وهي ثانية في الذكر فما ذكرت شرائع الإسلام في آية من الآيات أو حديث من السنة إلا وبدئ بها بعد التوحيد قبل غيرها كما في الآيات السابقة وكما في حديث جبريل (¬2) وحديث ((بني الإسلام)) (¬3) وحديث وفد عبد القيس (¬4) وحديث معاذ بن جبل (¬5) وحديث ((أمرت أن أقاتل الناس)) (¬6) وغيرها مما لا يحصى. وهي ثانية في آيات الأمر بالجهاد وفي آيات وعيد الكفار كما في قوله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [التوبة: 5] وقال الله تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 46 - 49]. وهي ثانية في مدح المؤمنين كما قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1 - 2] وفي ذم الكفار بتركها كما في قوله تعالى: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق: 20 - 21] وقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31 - 32] وكذا في ذم المنافقين بعدم اهتمامهم لها كما في قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 142]. ¬

(¬1) رواه النسائي (7/ 61)، وأحمد (3/ 128) (12315)، والحاكم (2/ 174)، والبيهقي (7/ 78). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/ 501): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): حسن صحيح. (¬2) رواه مسلم (8). (¬3) رواه البخاري (8)، ومسلم (16). (¬4) رواه البخاري (53)، ومسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬5) رواه البخاري (128). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وهي ثانية في حساب العبد يوم القيامة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة صلاته فإن قبلت منه تقبل منه سائر عمله وإن ردت عليه رد عليه سائر عمله)) (¬1). ومعنى قوله ((أول ما يسأل عنه العبد)) أي بعد التوحيد. وهي ثانية فيما يذكر المجرمون أنهم عوقبوا به كما في قوله تعالى فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: 40 - 43] الآيات والنصوص في شأنها كثيرة لا تحصى وهي متنوعة فمنها ما فيه الأمر بها حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] وقوله اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45] وقوله: أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء: 78] وما في معناها. ومنها ما فيه بيان محلها من الدين كالنصوص السابقة وكقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ ((رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) (¬2). ومنها في ثواب أهلها كقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 9 - 11]. ومنها ما فيه نجاتهم من النار كقوله صلى الله عليه وسلم في عصاة الموحدين ((فيعرفونهم بآثار السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)) (¬3). ومنها ما في عقاب تاركها كقوله تعالى فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4 - 5] وقوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ [مريم: 59 - 60] الآية, وقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم: 42 - 43]. ¬

(¬1) ((المصنف)) (2/ 171) (7772) لابن أبي شيبة وروي بألفاظ مقاربة، قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 292) رواه الطبراني في الاوسط وفيه القسم بن عثمان قال البخاري له أحاديت لا يتابع عليها وذكره ابن حبان في الثقات وقال ربما أخطأ، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (1358) (¬2) رواه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (5/ 231) (22069)، والحاكم (2/ 447). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (806)، ومسلم (182). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومنها ما فيه تكفير تاركها ونفي الإيمان عنه وإلحاقه بإبليس كقوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم: 59 - 60] فإنه لو كان مضيع الصلاة مؤمنا لم يشترط في توبته الإيمان. وقوله: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة: 11] فعلق أخوتهم للمؤمنين بفعل الصلاة فإذا لم يفعلوا لم يكونوا أخوة للمؤمنين فلا يكونون مؤمنين وقال الله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [] السجدة: 15 [وقال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ] البقرة: 34 [.] وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله – وفي رواية يا ويلي – أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار)) (¬1). وفيه عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬2)، ورواه الترمذي وقال حسن صحيح (¬3) وله عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (¬4) ... وروى الإمام أحمد والنسائي عن محجن بن الأدرع الأسلمي: ((أنه كان في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع ومحجن في مجلسه فقال له: ما منعك أن تصلي ألست برجل مسلم قال: بلى ولكني صليت في أهلي فقال له: إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت)) (¬5) فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة ولفظ الحديث يتضمن أنك لو كنت مسلما لصليت. وفي المسند والأربع السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال له: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور وبرهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) (¬6) .... معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص771 المطلب الثاني: حكم تارك الصلاة ¬

(¬1) رواه مسلم (81). (¬2) رواه مسلم (82). (¬3) سنن الترمذي (2620). قال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬4) رواه الترمذي (2621) وقال: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم (1/ 48): هذا حديث صحيح الإسناد لا تعرف له علة بوجه من الوجوه فقد احتجا جميعا بعبد الله بن بريدة عن أبيه واحتج مسلم بالحسين بن واقد ولم يخرجاه بهذا اللفظ ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) رواه النسائي (2/ 112)، وأحمد (4/ 34) (16440). قال الحاكم (1/ 371): حديث صحيح. وقال النووي في ((الخلاصة)) (2/ 666): صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. (¬6) رواه أحمد (2/ 169) (6576)، والدارمي (2/ 390) (2721)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 46). قال الذهبي في ((تنقيح التحقيق)) (1/ 300): إسناده جيد. وقال العراقي في ((طرح التثريب)) (2/ 147): صحيح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 297): رجال أحمد ثقات. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (10/ 83): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((الثمر المستطاب)) (ص53): سنده حسن.

قال الترمذي رحمه الله تعالى: حدثنا قتيبة أخبرنا بشر بن المفضل عن الجريري عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة (¬1). ومنها ما فيه التصريح بوجوب قتله كقوله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [التوبة: 5] الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)) (¬2) الحديث وغير ذلك من الآيات والأحاديث. وأما الآثار في شأنها عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم فأكثر من أن تحصر وقد أجمعوا على قتله كفرا إذا كان تركه للصلاة عن جحود لفرضيتها أو استكبار عنها وإن قال لا إله إلا الله لما تقدم من الآيات والأحاديث السابقة ولدخوله في التارك لدينه المفارق للجماعة وفي قوله صلى الله عليه وسلم ((من بدل دينه فاقتلوه)) (¬3) فإنه بذلك يكون مرتدا مبدلا لدينه وأما إن كان تركه لها لا لجحود ولا استكبار بل لنوع تكاسل وتهاون كما هو حال كثير من الناس فقال النووي رحمه الله تعالى والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف. وذهب جماعة من السلف وهو مروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهي إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وبه قال عبد الله بن مبارك وإسحاق بن راهويه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي رضوان الله عليه وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي رحمهم الله تعالى إلى أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي قال رحمه الله تعالى: واحتج من قال بكفره بظاهر حديث جابر ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬4) وبالقياس على كلمة التوحيد. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2622). قال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 245) والعراقي في ((طرح التثريب)) (2/ 146)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 819) والألباني في ((مشكاة المصابيح)) (551): إسناده صحيح. (¬2) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (6922). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) رواه مسلم (82).

واحتج من قال لا يقتل بحديث ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)) (¬1) وليس فيه الصلاة واحتج الجمهور على أنه لا يكفر بقوله تعالى: إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء: 48] وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ومن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ولا يلقى الله عبد بهما غير شاك فيحجب عن الجنة وحرم الله على النار من قال لا إله إلا الله)) (¬2) وغير ذلك واحتجوا على قتله بقوله تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 5] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم)) (¬3) وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)) (¬4) على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل أو أنه محمول على المستحل أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر أو أن فعله فعل الكفار والله أعلم انتهى كلامه. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص777 المطلب الثالث: حكم ترك الصلاة تهاونا وكسلاً من تعمد ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً، هل هو كافر أو مسلم؟ فيه قولان، وهذه المسألة محل خلاف طويل بين أهل العلم، وسنورد أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها على النحو التالي:- القول الأول:- قال بتكفير تارك الصلاة جمع من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين وكثير من أئمة العلم وأهله. يقول محمد بن نصر المروزي عن هذا القول: - وهذا مذهب جمهور أصحاب الحديث. (¬5) ويقول ابن حزم: - (فروينا عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – وعن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه رحمة الله عليهم، وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة، والتابعين رضي الله عنهم، أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها، فإنه كافر ومرتد، وبهذا يقول عبد الله بن الماجشون صاحب مالك، وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره) (¬6). وقال ابن قدامة: - واختلفت الرواية هل يقتل لكفره أو حداً؟ فروي أنه يقتل لكفره كالمرتد، فلا يغسل ولا يكفن ولا يدفن بين المسلمين، ولا يرثه أحد، ولا يرث أحداً، اختارها أبو إسحاق بن شاقلا، وابن حامد، وهو مذهب الحسن، والنخعي، والشعبي، وأيوب السختياني، والأوزاعي، وابن المبارك، وحماد بن زيد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن ... (¬7) ¬

(¬1) رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (27). (¬3) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬4) رواه أبو داود (4678)، والترمذي (2620)، والنسائي (1/ 232)، وابن ماجه (1078)، وأحمد (3/ 370) (15021). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال أبو عيسى: حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬5) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 636). (¬6) ((الفصل)) (3/ 274)، وانظر: ((المحلى)) (2/ 326، 327)، و ((الشريعة)) للآجري (ص133 - 135) و ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 669 - 684)، و ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 225). (¬7) ((المغني)) (3/ 354)، وانظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (1/ 404، 405).

وقال النووي: - (من تركها بلا عذر تكاسلاً وتهاوناً فيأثم بلا شك، ويجب قتله إذا أصر، وهل يكفر؟ فيه وجهان، حكاهما المصنف الشيرازي وغيره، أحدهما يكفر، قال العبدري: وهو قول منصور الفقيه من أصحابنا وحكاه المصنف في كتابه في الخلاف عن أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا) (¬1). وقال ابن تيمية: (وإن كان التارك للصلاة واحداً فقد قيل إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلي، وجمهور العلماء على أنه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب، فإن تاب وصلى، وإلا قتل، وهل يقتل كافراً أو مسلماً فاسقاً؟ فيه قولان، وأكثر السلف على أنه يقتل كافراً، وهذا كله مع الإقرار بوجوبها) (¬2). وأما القائلون بعدم تكفير تارك الصلاة فكثير من الفقهاء. قال ابن قدامة: - (والرواية الثانية: يقتل حداً، مع الحكم بإسلامه، كالزاني المحصن، وهذا اختيار أبي عبد الله ابن بطة، وأنكر قول من قال إنه يكفر ... وهذا قول أكثر الفقهاء، وقول أبي حنيفة ومالك، والشافعي) (¬3). وقال النووي – عن هذا القول: (وهو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور) (¬4). (أ) أدلة الفريق الأول:- استدل القائلون بتكفير تارك الصلاة بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب:- 1 - فقوله تعالى: - أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ– إلى قوله – يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم: 35 - 43]. يقول ابن تيمية: - (إنما يصف سبحانه بالامتناع عن السجود الكفار، كقوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم:42]) (¬5) ويقول ابن القيم: - (فوجه الدلالة من الآية: - أنه سبحانه أخبر أنه لا يجعل المسلمين كالمجرمين، وأن هذا الأمر لا يليق بحكمته، ولا بحكمه، ثم ذكر أحوال المجرمين الذين هم ضد المسلمين، فقال: - (يوم يكشف عن ساق) وأنهم يدعون إلى السجود لربهم – تبارك وتعالى – فيحال بينهم وبينه، فلا يستطيعون السجود مع المسلمين عقوبة لهم على ترك السجود له مع المصلين في دار الدنيا، وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي البقر (¬6)، ولو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين) (¬7). ¬

(¬1) ((المجموع)) (3/ 17). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 308)، وانظر: (28/ 359، 360)، وكتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص33)، و ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 147). (¬3) ((المغني)) (3/ 355)، وانظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (1/ 404، 405). (¬4) ((المجموع)) (3/ 17)، وانظر: ((طرح التثريب شرح التقريب)) للعراقي (2/ 147)، و ((مقدمات ابن رشد)) (ص101)، و ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 230). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 611). (¬6) صياصي البقر: أي قرونها. انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (7/ 52)، و ((مفردات ألفاظ القرآن)) للأصفهاني (ص429). (¬7) كتاب ((الصلاة)) (ص37، 38).

2 - قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 38 - 47] يقول محمد بن نصر المروزي: - أولا تراه أبان أن أهل المعاد إلى الجنة المصلين، وأن المستوجبين للإياس من الجنة المستحقين للتخليد في النار من لم يكن من أهل الصلاة بإخباره تعالى عن المخلدين في النار حين سئلوا مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: 42]. (¬1) وقال ابن القيم: - (قد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين، وتارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر، وقد قال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر: 47, 48] وقال تعالى: - إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29]، فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين) (¬2). 3 - قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ [مريم: 59]. ومعنى أضاعوا الصلاة أي تركوها، كما اختاره ابن جرير وغيره (¬3)، وأما المقصود بغي، فقد ساق الإمام محمد بن نصر بسنده عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أن صخرة زنة عشر عشروات (¬4) قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم تنتهي إلى غي وأثام، فقلت: وما غي وأثام؟ قال: بئران في أسفل جهنم، يسيل فيها صديد أهل جهنم)). (¬5) يقول ابن القيم: (فوجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه جعل هذا المكان من النار لمن أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، ولو كان مع عصاة المسلمين، لكانوا في الطبقة العليا من طبقات النار، ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو في أسفلها، فإن هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام، بل من أمكنه الكفار، ومن الآية دليل آخر وهو قوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فلو كان مضيع الصلاة مؤمناً، لم يشترط في توبته الإيمان، وأنه يكون تحصيلاً للحاصل) (¬6). 4 - قوله عز وجل: - فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة: 11]. ¬

(¬1) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 1007). (¬2) كتاب ((الصلاة)) (ص38). (¬3) انظر: ((تفسير الطبري)) (16/ 66)، و ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 125)، و ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 339). (¬4) عشروات: جمع عشراء: وهي الناقة التي أتى عليها من وقت الحمل عشرة أشهر. انظر: ((لسان العرب)) (4/ 572)، و ((مختار الصحاح)) (ص434). (¬5) ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 119، 120)، ورواه الطبري (18/ 217)، والطبراني (8/ 175). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 231): رواه الطبراني والبيهقي مرفوعاً، ورواه غيرهما موقوفاً على أبي أمامة وهو أصح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 389): " رواه الطبراني وفيه ضعفاء قد وثقهم ابن حبان وقال: يخطئون. وقال الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (2147): ضعيف. (¬6) ((كتاب الصلاة)) (ص41).

فمفهوم هذه الآية أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من إخوان المؤمنين، ومن انتفت عنهم أخوة المؤمنين، فهم من الكافرين؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]، فالأخوة الدينية لا تنتفي بالمعاصي وإن عظمت، ولكن تنتفي بالخروج عن الإسلام. (¬1) 5 - قوله سبحانه وتعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31 - 32]. يقول محمد بن نصر المروزي: - (فالكذب ضد التصديق، والتولي ترك الصلاة وغيرها من الفرائض، ثم أوعده وعيداً بعد وعيد فقال: - أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة: 34 - 35]) (¬2). ويقول ابن القيم – عن هذه الآيات: (فلما كان الإسلام تصديق الخبر، والانقياد للأمر، جعل سبحانه له ضدين: عدم التصديق، وعدم الصلاة، وقابل التصديق بالتكذيب، والصلاة بالتولي فقال: وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى. فكما أن المكذب كافر، فالمتولي عن الصلاة كافر، فكما يزول الإسلام بالتكذيب يزول بالتولي عن الصلاة) (¬3). 6 - قوله تبارك وتعالى: - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9]. قال عطاء بن أبي رباح: (هي الصلاة المكتوبة) (¬4). يقول ابن القيم: - (ووجه الاستدلال بالآية أن الله حكم بالخسران المطلق لمن أَلْهَاه ماله وولده عن الصلاة، والخسران المطلق لا يحصل إلا للكفار، فإن المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه، فآخر أمره إلى الربح، يوضحه أنه سبحانه وتعالى – أكد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد: الأول: إتيانه به بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه دون الفعل الدال على التجدد والحدوث. الثاني: - تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم فإنك إذا قلت: زيد العالم الصالح، أفاد ذلك إثبات كمال ذلك، بخلاف قولك عالم صالح. الثالث: - إتيانه – سبحانه – بالمبتدأ والخبر معرفتين، وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ كما في قوله تعالى: - وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5]، وقوله تعالى - وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]. الرابع: - إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريين: قوة الإسناد، واختصاص المسند إليه بالمسند، كقوله تعالى:- وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحج: 64] وقوله: - وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: 76]) (¬5). 7 - قوله تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 46 - 49]. يقول ابن القيم: (توعدهم على ترك الركوع، وهو الصلاة إذا دعوا إليها، ولا يقال إنما توعدهم على التكذيب، فإنه سبحانه وتعالى إنما أخبرهم عن تركهم لها، وعليه وقع الوعيد. ... ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 613)، وكتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص41، 42)، و ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 311)، و ((رسالة الطهارة والصلاة)) لابن عثيميين (ص58). (¬2) ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 129). (¬3) كتاب ((الصلاة)) (ص42)، وانظر: ((فتاوى ابن تيمية)) (7/ 612، 613). (¬4) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 7)، ومحمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 129)، وانظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/ 180). (¬5) كتاب ((الصلاة)) (ص42، 43).

لا يصر على ترك الصلاة إصراراً مستمراً من يصدق بأن الله سبحانه أمر بها أصلاً، فإنه يستحيل – في العادة والطبيعة – أن يكون الرجل مصدقاً تصديقاً جازماً أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها، هذا من المستحيل قطعاً، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبداً، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمره بها، فليس في قلبه شيء من الإيمان. ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها، وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق، وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة، ولا ترك معصية) (¬1). 8 - قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31]. فبين عز وجل أن علامة أن يكون من المشركين ترك إقامة الصلاة. (¬2) وأما أدلتهم من السنة فنوردها كما يأتي:- 1 - ساق الإمام مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬3) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحد بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، فمن أدى الصلاة فهو مسلم، ومن تركها فهو كافر. يقول البيهقي: ليس من العبادات بعد الإيمان الرافع للكفر عبادة سماها الله عز وجل إيماناً، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها كفراً إلا الصلاة. (¬4) وقد جاء الكفر – في هذا الحديث – معرفاً، فدل على التخصيص والعهد، وكما قال ابن تيمية:- (ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً، حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)) (¬5) وبين كفر منكر في الإثبات. (¬6) ويقول الشوكاني - في بيان حكم تارك الصلاة –: والحق أنه كافر يقتل، أما كفره فلأن الأحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الإطلاق. (¬7) ويقول الشنقيطي عن هذا الحديث: وهو واضح في أن تارك الصلاة كافر؛ لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافراً. (¬8) ¬

(¬1) كتاب ((الصلاة)) (ص43، 44). (¬2) انظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 1005، 1006)، و ((فتح الباري)) (2/ 7). (¬3) رواه مسلم (82). (¬4) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (3/ 33). (¬5) رواه أبو داود (4678)، والترمذي (2620)، والنسائي (1/ 232) واللفظ له، وابن ماجه (1078)، وأحمد (3/ 370) (15021). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال أبو عيسى: حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬6) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 208) (¬7) ((نيل الأوطار)) (2/ 13). (¬8) ((أضواء البيان)) (4/ 311).

2 - وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (¬1) يقول العراقي في شرح هذا الحديث: - (الضمير في قوله ((وبينهم)) يعود على الكفار أو المنافقين، معناه بين المسلمين والكافرين والمنافقين ترك الصلاة ... والمراد أنهم ما داموا يصلون فالعهد الذي بينهم وبين المسلمين من حقن الدم باق ... ) (¬2). ومما قاله المباركفوري في شرح هذا الحديث: - (والمعنى أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم تشبههم بالمسلمين في حضور صلاتهم، ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم والكفار سواء) (¬3). فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة حداً يميز المسلمين عن غيرهم من الكفار، ويشهد لهذا ما جاء في الحديث الآخر عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً قال: ((بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك)) (¬4) 3 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: ((من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نوراً، ولا برهاناً، ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) (¬5) قال ابن القيم: وإنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة، وفيه نكتة بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة ... إما أن يشغله ماله، أو ملكه، أو رئاسته، أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رئاسة وزارة فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته مع أبي بن خلف. (¬6) وقال الشنقيطي: (وهذا الحديث أوضح دلالة على كفر تارك الصلاة؛ لأن انتفاء النور والبرهان والنجاة، والكينونة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف يوم القيامة أوضح دليل على الكفر كما ترى) (¬7). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2621)، والنسائي (1/ 231)، وابن ماجه (1079)، وأحمد (5/ 346) (22987)، والحاكم (1/ 48). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد لا تعرف له علة بوجه من الوجوه فقد احتجا جميعا بعبد الله بن بريدة عن أبيه واحتج مسلم بالحسين بن واقد ولم يخرجاه بهذا اللفظ ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا ووافقه الذهبي. وقال ابن العربي في ((العواصم)) (262): صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) ((طرح التثريب شرح التقريب)) (2/ 145). (¬3) ((تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي)) (7/ 369). (¬4) رواه اللالكائي في ((أصول اعتقاد أهل السنة)) (4/ 822). قال اللالكائي: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 214): رواه هبة الله الطبري بإسنادٍ صحيح. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (1/ 227). (¬5) رواه أحمد (2/ 169) (6576)، والدارمي (2/ 390) (2721)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (3/ 46). قال الذهبي في ((تنقيح التحقيق)) (1/ 300): إسناده جيد. وقال العراقي في ((طرح التثريب)) (2/ 147): صحيح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 297): رجال أحمد ثقات. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (10/ 83): إسناده صحيح. (¬6) كتاب ((الصلاة)) (ص46،47). (¬7) ((أضواء البيان)) (4/ 313).

4 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بسبع: ((لا تشرك بالله شيئاً، وإن قطعت أو حرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً، فمن تركها عمداً فقد برئت منه الذمة ... )) (¬1) يقول ابن القيم: - (ولو كان باقياً على إسلامه، لكانت له ذمة الإسلام) (¬2). 5 - وجاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الطويل، قوله صلى الله عليه وسلم: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) (¬3) يقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله -: ألست تعلم أن الفسطاط إذا سقط عموده، سقط الفسطاط، ولم تنتفع بالطنب ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود الفسطاط انتفعت بالطنب والأوتاد؟ (¬4) 6 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا)) (¬5) فهذا دليل على أن من لم يصل صلاتنا، ويستقبل قبلتنا فليس بمسلم. (¬6) وقال ابن القيم – عن هذا الحديث -: - ووجه الدلالة فيه من وجهين:- أحدهما: أنه إنما جعله مسلماً بهذه الثلاثة، فلا يكون مسلماً بدونها. الثاني:- أنه إذا صلى إلى الشرق، لم يكن مسلماً حتى يصلي إلى قبلة المسلمين، فكيف إذا ترك الصلاة بالكلية. (¬7) 7 - وعن محجن الديلي رضي الله عنه: ((أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ قال: بلى يا رسول الله، ولكني قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت)) (¬8) يقول ابن عبد البر: - في هذا الحديث وجوه من الفقه: أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم لمحجن الديلي: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ وفي هذا – والله أعلم – دليل على أن من لا يصلي ليس بمسلم، وإن كان موحداً، وهذا موضع اختلاف بين أهل العلم، وتقرير هذا الخطاب في هذا الحديث: أن أحداً لا يكون مسلماً إلا أن يصلي، فمن لم يصل فليس بمسلم (¬9) ويقول ابن القيم: " فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة، وأنت تجد تحت ألفاظ الحديث أنك لو كنت مسلماً لصليت، وهذا كما تقول: مالك لا تتكلم ألست بناطق؟ ومالك؛ لا تتحرك ألست بحي؟ ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة، لما قال لمن رآه لا يصلي: ألست برجل مسلم. (¬10) ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (4034) قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 190): هذا إسناد حسن، شهر مختلف فيه. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن. لشواهده في صحيح الترغيب والترهيب 1/ 227 – 229. (¬2) كتاب ((الصلاة)) (ص487). (¬3) رواه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (5/ 231) (22069)، والحاكم (2/ 447). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬4) ((رسالة الصلاة)) (ص16)، وانظر: كتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص48)، و ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 146، 2/ 146). (¬5) رواه البخاري (391). (¬6) انظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 1228). (¬7) كتاب ((الصلاة)) (ص48، 49). (¬8) رواه النسائي (2/ 112)، وأحمد (4/ 34) (16440). قال الحاكم (1/ 371): حديث صحيح. وقال النووي في ((الخلاصة)) (2/ 666): صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. (¬9) ((التمهيد)) (4/ 224). (¬10) كتاب ((الصلاة)) (ص50).

8 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء)) (¬1) وفي رواية لمسلم: ((قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض)) (¬2) يقول ابن تيمية: - فدل ذلك على أن من لم يكن غراً محجلاً، لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون من أمته (¬3) 9 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها وقال فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال: ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: - يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا لعله أن يكون يصلي)) (¬4) وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: ((إني نهيت عن قتل المصلين)) (¬5) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الصلاة مانعاً من قتل من همَّ الصحابة بقتلهم لما رأوا فيهم من احتمال كفرهم، ولو لم يكونوا مقيمين للصلاة لم يمنع الصحابة من ذلك، كما هو ظاهر الحديثين، ولكان قتلهم إياهم لأجل أنهم كفار ليس لدمائهم عصمة، ولا يقال هنا أن تارك الصلاة يقتل حداً لا كفراً، بدلالة هذين الحديثين السابقين، فإنهما لا يدلان على ذلك، وإنما يدلان على خلافه، والذي يبين ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) (¬6) وليس تارك الصلاة من أصحاب الحدود من المسلمين، بل لا يكون ذلك إلا في الزاني المحصن وليس قاتل نفس، فلم يبق إلا أن يكون إباحة دم تارك الصلاة من أجل ردته. (¬7) 10 - عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) (¬8) وعن أم سلمة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا)) (¬9) و (ما) في قوله: ((ما صلوا)) مصدرية ظرفية، أي لا تقاتلوهم مدة كونهم يصلون، ويفهم منه أنهم إن لم يصلوا قوتلوا. (¬10) ¬

(¬1) رواه البخاري (136)، ومسلم (246). (¬2) ((صحيح مسلم)) (249). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 612). (¬4) رواه البخاري (4351) ومسلم (1064). (¬5) رواه أبو داود (4928). وسكت عنه. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 91): إسناده رجاله كلهم ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬6) رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676). (¬7) انظر: ((ضوابط التكفير)) لعبدالله القرني (ص206، 207). (¬8) رواه مسلم (1855). (¬9) رواه مسلم (1854). (¬10) انظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 315).

وجاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. (¬1) فدل مجموع هذه الأحاديث أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان؛ لأنه إذا لم يجز الخروج على الأئمة إلا إذا كفروا كفراً بواحاً، ثم جاز الخروج عليهم إذا تركوا الصلاة، دل ذلك على أن ترك الصلاة من ذاك الكفر. (¬2) 11 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويلي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار)) (¬3) قال إسحاق بن راهويه: واجتمع أهل العلم على أن إبليس إنما ترك السجود لآدم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان في نفسه خيراً من آدم عليه السلام، فاستكبر عن السجود لآدم فقال: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف: 12]. فالنار أقوى من الطين، فلم يشك إبليس في أن الله قد أمره، ولا جحد السجود، فصار كافراً بتركه أمر الله تعالى، واستنكافه أن يذل لآدم بالسجود له، ولم يكن تركه استنكافاً عن الله تعالى، ولا جحوداً منه لأمره، فاقتاس قوم ترك الصلاة على هذا. قالوا: تارك السجود لله تعالى، وقد افترضه عليه عمداً، وإن كان مقراً بوجوبه، أعظم معصية من إبليس في تركه السجود لآدم؛ لأن الله افترض الصلوات على عباده، اختصها لنفسه، فأمرهم بالخضوع لهم بها دون خلقه، فتارك الصلاة أعظم معصية، واستهانة من إبليس حين ترك السجود لآدم عليه السلام، فكما وقعت استهانة إبليس، وتكبره عن السجود لآدم موقع الحجة، فصار بذلك كافراً، فكذلك تارك الصلاة، عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. (¬4) وأما دلالة الإجماع على كفر تارك الصلاة، فإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فعن سليمان بن يسار قال: أن المسور بن مخرمة أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ طعن، دخل عليه هو وابن عباس رضي الله عنهم، فلما أصبح من غد، فزعوه، فقالوا: الصلاة، ففزع، فقال: نعم، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى والجرح يثعب دماً. (¬5) يقول ابن القيم: - فقال هذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه عليه. (¬6) وقال محمد بن نصر المروزي: - ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتل من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك. (¬7) ¬

(¬1) رواه البخاري (7055، 7056)، ومسلم (1709). (¬2) انظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 311، 315)، و ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص208). (¬3) رواه مسلم (81). (¬4) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 934). (¬5) رواه مالك في الموطأ (1/ 40)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (1/ 150)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 164)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 130)، والبيهقي (1/ 357) وقال الألباني في ((الإيمان)) لابن أبي شيبة (ص34)، و ((إرواء الغليل)) (209): صحيح. (¬6) كتاب ((الصلاة)) (ص50). ويقول الشيخ ابن عثيمين في رسالته عن الطهارة والصلاة (ص59): والحظ النصيب وهو هنا نكرة في سياق النفي، فيكون عاماً لا نصيب لا قليل ولا كثير. (¬7) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 925).

وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. (¬1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. (¬2) قال الشوكاني معلقاً على أثر عبد الله بن شقيق (والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة؛ لأن قوله: (كان أصحاب رسول الله) جمع مضاف، وهو من المشعرات بذلك) (¬3). وقال إسحاق بن راهويه: (قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة عمداً كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر) (¬4). (ب) أدلة الفريق الآخر:- واستدل القائلون بعدم تكفير تارك الصلاة بجملة من الأدلة، نذكرها على النحو التالي:- 1 - قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]. 2 - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - ((خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)). وفي رواية: ((فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن .. )) الحديث (¬5) وهذا الدليل أجود ما اعتمدوا – كما يقول ابن تيمية (¬6). قال الطحاوي: دل أنه لم يخرج بذلك عن الإسلام فيجعله مرتداً مشركاً؛ لأن الله تعالى لا يدخل الجنة من أشرك به لقوله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة، آية 73]، ولا يغفر له لقوله تعالى إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء، آية 48]. (¬7) وقال ابن عبد البر عن هذا الحديث: - (وفيه دليل على أن من لم يصل من المسلمين في مشيئة الله، إذا كان موحداً مؤمناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مقراً، وإن لم يعمل) (¬8). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2622). قال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 245) والعراقي في ((طرح التثريب)) (2/ 146)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 819) والألباني في ((مشكاة المصابيح)) (551): إسناده صحيح. (¬2) رواه الحاكم (1/ 48). قال الذهبي في ((التلخيص)): لم يتكلم عليه - أي: الحاكم - وإسناده صالح. (¬3) ((نيل الأوطار)) (2/ 16). (¬4) ((تعظيم قدر الصلاة)) لمحمد بن نصر (2/ 930)، وانظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 226). (¬5) رواه أبو داود (425)، (1420)، والنسائي (1/ 230)، وأحمد (5/ 319) (22745)، والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (23/ 288): صحيح ثابت. وقال ابن العربي في ((عارضة الحوذي)) (1/ 477) والنووي في ((المجموع)) (3/ 17)، (4/ 20) وابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 389)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 819): صحيح. وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4229): إسناده صالح. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 91)، والعراقي في ((طرح التثريب)) (2/ 148): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. وقال في ((السلسلة الصحيحة)) (842): صحيح بمجموع طرقه. (¬6) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 614). (¬7) ((مشكل الآثار)) (4/ 226). (¬8) ((التمهيد)) (23/ 290).

وقال الزرقاني: (وفيه - يعني حديث عبادة المذكور - أن تارك الصلاة لا يكفر ولا يتمتم عذابه، بل هو تحت المشيئة بنص الحديث) (¬1). ولو كان كافراً لم يدخله تحت المشيئة (¬2) وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعاً:- يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله، فنحن نقولها. قال صلة بن زفر لحذيفة: - ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفه، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار ثلاثاً. (¬3) 4 - وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: - قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي من صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون فلما رأى قيامهم وتخلفهم، انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه، فصلى فجئت خلفه، فأومأ إلي بيمينه، فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود، فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله، فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل رجل منا بنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو، فقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة، فبعد أن أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة، فقال ابن مسعود: - لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليَّ، فقلت بأبي أنت وأمي، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا وجدنا عليه، قال دعوت لأمتي، قال: فماذا أجبت؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة الحديث (¬4) 5 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدواوين عند الله ثلاث: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله عز وجل: - إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ [المائدة: 73] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله – عز وجل – يغفر ذلك، ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، فظلم العباد بعضهم بعضاً القصاص لا محالة)) (¬5) ¬

(¬1) ((شرح الموطأ)) (1/ 255). (¬2) انظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/ 357)، و ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 614)، و ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 318). (¬3) رواه ابن ماجه (4049) والحاكم (4/ 520، 587). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 194): هذا إسناد صحيح رجاله ثقاث. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 19): إسناده قوي. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬4) رواه أحمد (5/ 170) (21533)، وروى جزء منه النسائي (2/ 138)، وابن ماجه (1350). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 273): رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات. قال الألباني في ((أصل صفة الصلاة)) (2/ 536): إسناده قوي. وقال في ((السلسلة الضعيفة)) (6037): منكر. (¬5) رواه أحمد (6/ 240) (26073)، والحاكم (4/ 619). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في ((التلخيص)): صدقة ضعفوه وابن بابنوس فيه جهالة. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (1/ 520): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3022): ضعيف.

4 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء)) (¬1) وجاء من حديث أبي هريرة قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلا نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه، ثم ترفع سائر الأعمال على ذلك)) (¬2) يقول الشوكاني: - أثناء شرحه لهذا الحديث – (والحديث يدل على أن ما لحق الفرائض من النقص كملته النوافل، وأورده المصنف – يعني المجد ابن تيمية - في حجج من قال بعدم الكفر؛ لأن نقصان الفرائض أعم من أن يكون نقصاً في الذات، وهو ترك بعضها، أو في الصفة وهو عدم استيفاء أذكارها، أو أركانها وجبرانها بالنوافل، شعر بأنها مقبولة مثاب عليها، والكفر ينافي ذلك). (¬3) ويقول الشنقيطي:- (وجه الاستدلال بالحديث المذكور على عدم كفر تارك الصلاة أن نقصان الصلوات المكتوبة وإتمامها من النوافل يتناول بعمومه ترك بعضها عمداً، كما يقتضيه ظاهر عموم اللفظ كما ترى). (¬4) 5 - وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر! إنه سيكون بعدي أمراء، يميتون الصلاة، فصل الصلاة لوقتها، فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك)) (¬5) فهذا دليل على أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها غير كافر. 6 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجلد جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق، قال: علام جلدتموني؟ إنك صليت صلاة واحدة بغير طهور، ومررت، على مظلوم فلم تنصره)) (¬6) قال الطحاوي: (في هذا الحديث ما قد دل أن تارك الصلاة لم يكن بذلك كافراً؛ لأنه لو كان كافراً، لكان دعاؤه باطلاً، لقوله تعالى: وَمَا دُعَآء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [غافر: 50]) (¬7) ¬

(¬1) رواه النسائي (7/ 77)، والطبراني (10/ 191)، وأبو يعلى في ((المسند)) (9/ 285). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح، وشطره الثاني في الصحيحين. (¬2) رواه أبو داود (864)، والترمذي (413)، والنسائي (1/ 232، 233)، وابن ماجه (1425). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 529): إسناده صحيح بمعناه. وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 229): إسناده صحيح. وقال ابن الملقن في ((تحفة المحتاج)) (1/ 333): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. (¬3) ((نيل الأوطار)) (2/ 18, 19). (¬4) ((أضواء البيان)) (4/ 319). (¬5) رواه مسلم (648). (¬6) رواه الطحاوي في ((مشكل الآثار)) (4/ 231)، وذكره المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 201). وقال: رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب ((التوبيخ)). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2774): وهذا إسناد جيد ... والحديث أورده المنذري وأشار إلى تضعيفه ففاته هذا المصدر العزيز بالسند الجيد. (¬7) ((مشكل الآثار)) (4/ 231).

7 - وعن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للإسلام صوى، ومناراً كمنار الطريق، منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً، فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره)) (¬1) 8 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا، فوالذي نفسي بيده ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار. قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، ويجاهدون معنا فأدخلتهم النار. قال: فيقول اذهبوا، فأخرجوا من عرفتم منهم. فيأتونهم، فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم فيخرجون منها بشراً كثيراً، فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا. قال: ثم يعودون فيتكلمون، فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا فمن كان في قلبه وزن نصف دينار، فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة، فيخرجون خلقاً كثيراً. قال: فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير، قال ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين. قال: فيقبض قبضة من النار – أو قال قبضتين – ناساً لم يعملوا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً. قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له: الحياة، فيصب عليهم - إلى أن قال صلى الله عليه وسلم -: فيقال لهم: ادخلوا الجنة ... )) الحديث (¬2) قال الشيخ ناصر الدين الألباني عن هذا الحديث: - (فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله، أنه لا يخلد في النار مع المشركين، ففيه دليل قوي جداً أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله: - إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]) (¬3) 9 - واحتجوا بجملة من عمومات الأحاديث: كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)). (¬4) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) (¬5) وما جاء في معناهما (¬6) ¬

(¬1) رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب ((الإيمان)) (3)، والحاكم (1/ 70). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (333): صحيح. (¬2) رواه النسائي (8/ 112)، وابن ماجه (60)، وأحمد (3/ 94) (11917). وقال الألباني في ((حكم تارك الصلاة)) (27): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) ((حكم تارك الصلاة)) للألباني (ص35). (¬4) رواه البخاري (3435) ومسلم (28). (¬5) رواه البخاري (99). (¬6) انظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (23/ 296 - 299)، و ((المغني)) لابن قدامة (3/ 356)، و ((المجموع)) للنووي (3/ 20)، و ((طرح التثريب)) للعراقي (2/ 148)، و ((نيل الأوطار)) للشوكاني (2/ 19).

10 - واحتجوا بالإجماع قائلين:- (لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه، ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فرق بين زوجين لترك صلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت هذه الأحكام كلها، ولا نعلم بين المسلمين خلافاً في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام). (¬1) وأجاب هذا الفريق عن أدلة مكفري تارك الصلاة بأجوبة منها:- 1 - قالوا: تحمل أحاديث تكفير تارك الصلاة على كفر النعمة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم الرمي، ثم تركه، فهي نعمة كفرها)) (¬2) وقوله: - ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (¬3) وقوله: - ((من حلف بغير الله فقد كفر)) (¬4) وبعضهم يقول – كالشوكاني – إن كفر تارك الصلاة إنما هو كفر دون كفر، فلا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة. (¬5) 2 - إن الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة كحديث جابر وبريدة رضي الله عنهما إنما هي على سبيل التغليظ والزجر الشديد لا على الحقيقة، فظاهرها غير مرادها (¬6) 3 - إن مثل هذه النصوص محمولة على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب القتل. قال النووي: - وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده. (¬7) 4 - المراد من هذه الأحاديث من استحل ترك الصلاة، أو تركها جحوداً بلا عذر. (¬8) (ج) أجوبة المكفرين عن أدلة الآخرين:- وقد أجاب القائلون بتكفير تارك الصلاة عن أدلة الآخرين بما يلي:- ¬

(¬1) ((المغني)) (3/ 357، 358)، وانظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 956)، و ((المجموع)) للنووي (3/ 20). (¬2) رواه أبو داود (2513)، والنسائي (6/ 185)، والطبراني (17/ 342). من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال في ((صحيح الجامع الصغير)) (6142): صحيح. (¬3) رواه البخاري (48)، ومسلم (64). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬4) رواه أبو داود (3251) بلفظة (أشرك) بدلا من (كفر)، والترمذي (1535)، وأحمد (2/ 125) (6072)، والحاكم (1/ 65). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث على شرط الشيخين فقد احتجا بمثل هذا الإسناد وخرجاه في الكتاب وليس له علة ولم يخرجاه. وله شاهد على شرط مسلم فقد احتج بشريك بن عبد الله النخعي. قال الذهبي في ((التلخيص)): على شرطهما رواه ابن راهويه عنه هكذا. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 458): صحيح. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) انظر هذا الجواب: ((مشكل الآثار)) للطحاوي (4/ 227)، وكتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص51 - 53)، و ((العواصم)) لابن الوزير (9/ 79)، و ((نيل الأوطار)) (2/ 20). (¬6) انظر هذا الجواب: ((المغني)) لابن قدامة (3/ 358)، ((فتح الباري)) (2/ 32)، و ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 41). (¬7) ((المجموع)) (3/ 20)، وانظر هذا الجواب: بـ ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 71)، و ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 41)، و ((طرح التثريب)) للعراقي (2/ 147). (¬8) انظر هذا الجواب: ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 236)، و ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 71)، و ((طرح التثريب)) للعراقي (2/ 147).

1 - أما حديث عبادة بن الصامت: - ((خمس صلوات .. )) الحديث فهذا الوعد الكريم إنما هو بالمحافظة عليها، والمحافظة: فعلها في أوقاتها كما أمر، قال تعالى: - حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها وعلى غيرها من الصلوات. وقد دل الكتاب والسنة، واتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت، والفرق بين من يتركها. ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال، لكان الجميع سواء، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا، ولم يحافظوا عليها (¬1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: - ((ومن لم يفعل فليس له على الله عهد .. )) معناه: أنه لم يأت بهن على الكمال، وإنما أتى بهن ناقصات من حقوقهن، كما جاء مفسراً في بعض الروايات: ((ومن جاء بهن، وقد انتقص من حقهن شيئاً، جاء وليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء رحمه)) (¬2) قال محمد بن نصر المزوري: - (فمن أتى بذلك كله كاملاً على ما أمر به، فهو الذي له العهد عند الله تعالى بأن يدخله الجنة، ومن أتى بهن، لم يتركهن، وقد انتقص من حقوقهن شيئاً، فهو الذي لا عهد له عند الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا بعيد الشبه من الذي يتركها أصلاً لا يصليها). (¬3) 2 - وأما حديث حذيفة – والذي جاء فيه -: ((تنجيهم لا إله إلا الله)) فهو محمول على زمن الفترات، حيث تضمن هذا الحديث الإخبار عما يحصل في آخر الزمان من محو الإسلام، ورفع القرآن حتى لا يبقى منه آية، حتى لا يُدْرَى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، فيغفر الله لهؤلاء مالا يغفر لغيرهم ممن قامت عليهم الحجة، وظهرت آثار الرسالة في وقتهم، وقد أشار ابن تيمية إلى زمانه، وما كان عليه الكثير من الناس من الوقوع في أنواع الكفر فقال عنهم -: وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات، يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صياماً ولا حجاً .. الحديث)) (¬4). فإذا كان هؤلاء معذورين مع وجود أهل العلم، ووجود القرآن والسنة بين أظهرهم ... فكيف لا يعذر بترك الصلاة ونحوها من كان في زمان يمحى فيه الإسلام، ويرفع فيه القرآن فلا يبقى منه في الأرض آية؟ فينبغي مراعاة أحوال الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولعل مما يؤكد ما ذكرناه أن راوي الحديث السابق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما رأى رجلاً لا يتم الركوع والسجود، قال: (ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 614, 615، 22/ 19). (¬2) رواه محمد بن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 968)، وانظر: ((التمهيد)) لابن عبدالبر (23/ 293 - 294). (¬3) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 971). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 165). (¬5) رواه البخاري (791).

يقول ابن حجر: - (واستدل به على تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى) (¬1) فتأمل تنوع الجوابين لاختلاف الزمان والحال والله أعلم 3 - وأما استدلالهم بحديث أبي ذر مرفوعاً: ((إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة .. )) الحديث، فقد أجاب محمد بن نصر عن استدلالهم بما يلي: (ليس في هذه الأخبار التي احتججتم بها دليل على أن تارك الصلاة عمداً، حتى يخرج وقتها لا يكفر، متعمدين لتركها حتى يذهب وقتها. إنما قال في حديث عبادة يكون عليكم أمراء يشغلهم أشياء عن الصلاة، فإنما أخروها عن الوقت الذي كانت تصلى فيه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ... فكانوا يؤخرونها عن وقت الاختيار إلى وقت أصحاب العذر .. ولا يؤخرونها حتى يخرجوا من وقت أصحاب العذر كله، فلم يكونوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت كله، إنما كانوا يؤخرونها عن وقت الاختيار، ويصلون في آخر وقت العذر، فلذلك لم يثبت عليهم الكفر). (¬2) وأجاب ابن تيمية قائلاً: (وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، ((صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة)) (¬3). وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر، والعصر إلى وقت الاصفرار، وذلك مما هو مذمومون عليه، ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس، فإن هؤلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، ونهى عن قتال أولئك، فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء يفعلون ويفعلون، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: - (لا، ما صلوا) وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها، وأمر أن نصلي في الوقت، وتعاد معم ناقلة، فدل على صحة صلاتهم، ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم) (¬4). - واستكمالاً لأجوبة القائلين بتكفير تارك الصلاة، نضيف ما يلي: - 4 - أما استدلالهم بقوله تعالى: - إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ الآية [النساء: 48]، فقد تقرر بالأدلة أن ترك الصلاة كفر وشرك، كما جاء في حديث جابر مرفوعاً: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬5)، فيكون ترك الصلاة داخلاً في عموم الآية من جهة الدلالة على أن ذلك مما لا يغفره الله تعالى، وبهذا نصدق بجميع تلك النصوص، ويتحقق إعمالها دون إهمالها. وأما احتجاجهم بحديث أبي ذر مرفوعاً: ((لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة)) ففي سنده قدامة بن عبدالله بن عبدة البكري، قال عنه ابن حجر: - (مقبول) (¬6)، وفي سنده جسرة بنت دجاجة، قال البيهقي: فيها نظر، وقال البخاري في تاريخه: - وعند جسرة عجائب (¬7). وقد أورد ابن خزيمة هذا الحديث بصيغة تشعر بعدم صحته، فعقد باباً بعنوان: - (باب إباحة ترديد الآية الواحدة في الصلاة مراراً عند التدبر والتفكر في القرآن إن صح الخبر)، ثم ساق الحديث المذكور (¬8) ويمكن أن يقال: أن الحديث علق ترك الصلاة بأمر ممتنع لا يمكن الاطلاع عليه، فمن المعلوم أن (لو) حرف امتناع لامتناع، وبهذا نعلم أن هذه الرواية قد قيدت بوصف يمتنع معه ترك الصلاة. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (2/ 275)، ويجب التنبيه هاهنا أن قول الصحابي: سنة محمد أو فطرته له حكم الرفع - على القول الراجح كما ذكر الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (2/ 275). (¬2) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 957 - 963) بتصرف. (¬3) رواه مسلم (648). (¬4) ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 210، 211)، وانظر: كتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص26). (¬5) رواه مسلم (82). (¬6) ((تقريب التهذيب)) (2/ 124). (¬7) انظر: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (1/ 399). (¬8) انظر: ((صحيح ابن خزيمة)) (2/ 124).

6. وأما احتجاجهم بحديث عائشة: ((الدواوين ثلاثة ... )) ففيه صدقة بن موسى وقد ضعفه الجمهور (¬1). قال يحيى بن معين: (ليس حديثه بشيء). وقال أبو حاتم: (لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالقوي) (¬2). وفيه يزيد بن بابنوس، قال عنه الذهبي: (فيه جهالة) (¬3). وضعف الألباني هذا الحديث. (¬4) ولو صح الحديث فيحمل على من يقع أحياناً في ترك صلوات، دون أن يتركها بالكلية، ويشهد لذلك لفظ الحديث حيث جاء فيه: ((من صوم يوم تركه أو صلاة تركها)) 7 - وكذا يقال بالنسبة لحديث عبدالله بن مسعود: ((أول ما يحاسب به العبد الصلاة ... )) الحديث فإن مناط التكفير لتارك الصلاة إنما هو الترك المطلق، بحيث يترك الصلاة جملة، وأما ترك بعض الصلوات فلا يكون كفراً، كما يدل عليه ظاهر الحديث، ..... بل إن بعض مرويات هذا الحديث تكاد تشهد بكفر تارك الصلاة، فعن أنس مرفوعاً: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) (¬5) فجعل صلاح الصلاة وصحتها شرطاً في صلاح سائر الأعمال وصحته، وأن فسادها شرط في فساد باقي الأعمال. ولذا قال الإمام أحمد بن حنبل: - (وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة)) (¬6) ... فصلاتنا آخر ديننا، وهي أول ما نسأل عنه غداً من أعمالنا، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام، فكل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه ... (¬7)). 8 - وأما حديث: ((أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة .. )) الحديث (¬8) ففي سنده عاصم بن بهدلة تكلموا في حفظه ... (¬9) وقال ابن حجر: - (صدوق، وله أوهام) (¬10) وفيه: جعفر بن سليمان الضبعي، صدوق زاهد، لكنه كان يتشيع. (¬11) ¬

(¬1) انظر: ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (10/ 348). (¬2) ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم (4/ 432). (¬3) انظر: ((المستدرك)) للحاكم مع ((التلخيص)) (4/ 575، 576)، وانظر: ((التهذيب)) (11/ 316). (¬4) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص367). (¬5) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2/ 512). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)): (1/ 291، 292): رواه الطبراني في ((الأوسط)) وفيه القسم بن عثمان قال البخاري: له أحاديت لا يتابع عليها، وذكره ابن حبان في ((الثقات)) وقال: ربما أخطأ. قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1358): وأخرجه الضياء في المختارة (2/ 209) ... وهو حديث صحيح بمجموعة طرقه. (¬6) رواه الخرائطي في ((مكارم الأخلاق)) (ص28)، و ((الضياء في المختارة)) (1/ 495)، وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1739): صحيح بشواهده. (¬7) ((رسالة الصلاة)) (ص17)، وانظر: كتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص32). (¬8) هذا الحديث أورده المنذري في الترغيب (3/ 190) بصيغة التمريض، وكذا الذهبي في الكبائر ص 147 (¬9) انظر: ((التهذيب)) (5/ 38 - 49). (¬10) ((تقريب التهذيب)) (1/ 383). (¬11) انظر: ((تهذيب التهذيب)) (2/ 95 - 98)، و ((تقريب التهذيب)) (1/ 131).

إضافة إلى ذلك، فقد جاء في رواية هذا الحديث: - صليت صلاة واحدة بغير طهور فهو إذاً ليس تاركاً للصلاة بالكلية بتركه الوضوء، وإنما هي صلاة واحدة ... وهناك فرق ظاهر بين من تركها بالكلية ... ومن ترك صلاة واحدة وقد يفعل بعض المسلمين ذلك، فيصلي بغير وضوء، فيكون مستحقاً للذم والعقاب، وقد يفعله مع اعترافه بالذنب فلا يكفر، كما ظن بعض الأحناف عندما أطلقوا كفر من صلى بغير طهارة (¬1)، ولكن لو فعله على سبيل الاستهانة والاستخفاف فهو كافر (¬2) فكيف بحال هذا الرجل الذي كان مداوماً على الوضوء والصلاة .. لكنه صلى صلاة واحدة بغير وضوء؟ وأما قوله: - إن دعاء الكافرين داخل في قوله تعالى: - وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [غافر: 50] فلا يستجاب لهم، فهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فقد يدعو الكافر ربه فيستجاب له، كما جاء ذلك في آيات كثيرة من القرآن. قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 40 - 41]. وقال سبحانه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] وأما دعاء الكافرين لغير الله تعالى فهو ضلال، كما هو ظاهر الآية التالية: - لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [الرعد: 14]. كما ينبغي مراعاة الفرق بين حياة البرزخ كما جاء في الحديث الذي استدلوا به، ودخول دار الجزاء (الجنة أو النار) كما في الآية: - وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ [غافر: 50] ففي البرزخ قد يقع التكليف كما في سؤال الملكين، وكذا في عرصات القيامة يدعون إلى السجود، وأما بدخول دار الجزاء فينقطع التكليف، كما في الآية. (¬3) إضافة إلى ذلك فهذا الحديث – المتكلم على سنده ومتنه – معارض لحديث صحيح صريح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: - ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده)) (¬4) 9 - وأما الحديث الذي أخرجه الخلال وفيه أن مولى للأنصار مات وكان يصلي ويدع، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله والصلاة عليه ودفنه .. فهذا الحديث في سنده مقال .. فأبو شميلة مختلف في صحبته ... وقد ذكر الذهبي وابن حجر وغيرهما قصة تدل على صحبته، لكن في سندها محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. (¬5) وفيه عبدالوهاب بن عطاء، قال عنه ابن حجر: - صدوق، ربما أخطأ (¬6) وضعف الألباني هذا الحديث في (الضعيفة). (¬7) ¬

(¬1) انظر: ((رسالة البدر الرشيد الحنفي في الألفاظ المكفرات)) (ص29) (¬2) انظر: ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 204)، وانظر: حكم تارك الوضوء في كتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص27، 28). (¬3) انظر: ((مختصر الفتاوى المصرية)) لابن تيمية (ص645، 646). (¬4) رواه مسلم (1631). (¬5) انظر: ((الإصابة)) (7/ 208)، و ((تجريد الصحابة)) للذهبي (2/ 178). (¬6) انظر: ((تهذيب التهذيب)) (6/ 451 - 453)، و ((تقريب التهذيب)) (1/ 528). (¬7) انظر: ((حكم تارك الصلاة)) (ص64)، حيث ذكر أنه ضعيف، وانظر أيضاً: ((السلسلة الضعيفة)) (6036).

ولو صح الحديث فلا دلالة فيه على أن الترك المطلق للصلاة لا يعد كفراً، وهذا المولى كان يصلي ويدع، فلم يكن تاركاً للصلاة بالكلية، وفرق بين من يحافظ على تركها، ومن يصلي ويدع فهو غير محافظ على فعلها والله أعلم. 10 - وأما حديث: ((إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق ... )) الحديث. فليس فيه دلالة ظاهرة على عدم كفر تارك الصلاة ... ولقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن من ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن المعلوم أن تلك) المنارات (متفاوتة، فمنها ما تركه يناقض الملة كالإيمان بالله تعالى، ومنها ما تركه ينافي كمال الإيمان الواجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها ما تركه يعد تفويتاً لكمال الإيمان المستحب كالسلام. 11 – وأما استدلالهم بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الشفاعة، وكذا عمومات الأحاديث الأخرى .. فهذه من نصوص الوعد، التي لابد من الإيمان بها، وضمها إلى ما يقابلها من نصوص الوعيد، فالذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب، قد تبين سبحانه أنه مشروط بأن لا يتوب، فإن تاب، تاب الله عليه، وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه، فهكذا الوعد له تفسير وبيان فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله وكذب الرسول فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئاً مما أنزل الله ... (¬1) فاستدلالهم بعموم الأحاديث التي فيها من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وما جاء في معناها، ولم يشترط إقامة الصلاة لذلك ... لا دلاله فيها على أن تارك الصلاة لا يكفر؛ لأن المراد بقول لا إله إلا الله تحقيق شروطها وترك نواقضها، وقد تقرر بالأدلة أن ترك الصلاة كفر، فلا اعتبار بمجرد الإقرار بالشهادتين مع عدم أداء الصلاة. (¬2) ومثل هذه الأحاديث التي قد يكون فهمها مشكلاً أو مشتبهاً على البعض، فإنه يجب ردها إلى الأحاديث الواضحة المحكمة، فنصوص الكتاب والسنة يصدق بعضها بعضاً. ويقال – أيضاً – إن هذه العمومات يمكن تخصيصها بأحاديث كفر تارك الصلاة. (¬3) يقول ابن الوزير: - (ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع، واضطر إلى التحكم والتلون من غير حجة بينة). (¬4) وقد عقد إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله في كتاب التوحيد باباً بعنوان: - (باب ذكر الدليل أن جميع الأخبار التي تقدم ذكري لها إلى هذا الموضع في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج أهل التوحيد من النار إنما هي ألفاظ عامة مرادها خاص). ثم أورد أدلته على ذلك (¬5) بل إن في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره من أحاديث الشفاعة لعصاة الموحدين ما يدل على أن تارك الصلاة كافر ... فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود)) (¬6) ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/ 270، 271) بتصرف يسير، وانظر: كتاب ((التوحيد)) لابن خزيمة (2/ 869). (¬2) انظر تفصيلاً: ((نيل الأوطار)) (2/ 20)، و ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص209، 210). (¬3) انظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 320)، و ((رسالة في الطهور والصلاة)) لابن عثيمين (ص60). (¬4) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص383). (¬5) انظر: كتاب ((التوحيد)) (2/ 727 - 734). (¬6) رواه البخاري (806).

فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله. (¬1) وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن من كان مسلماً، ولكنه كان لا يصلي لا يخرج إذ لا علامة له. (¬2) وإن كانوا يحتجون برواية ((لم يعملوا خير قط)) على عدم كفر تارك الصلاة، في نفس الوقت يدفعون توهم من زعم أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار، كما قال ابن حجر: - (ورد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث) (¬3) فكذا يقال أيضاً أن هذا الخير المنفي ما زاد على فعل الصلاة كما جاءت بذلك النصوص. وقال ابن خزيمة: - (هذه اللفظة ((لم يعملوا خيراً قط)) من الجنس الذي يقول العرب: ينفي الاسم عن الشيء لنقصه على الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل، لم يعملوا خيراً قط، على التمام والكمال .. ) (¬4). 12 - وأما دعواهم الإجماع – على فرض صحتها – فهي منقوضة ومردودة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم كما نقله أبو هريرة رضي الله عنه، وعبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله، فالإجماع على مراتب، وأقواها إجماع الصحابة رضي الله عنهم. (¬5). وقولهم لا نعلم بين المسلمين خلافاً لا يعد إجماعاً (¬6)، ونفي العلم ليس علماً بالنفي. إضافة إلى ذلك فإنه قد يصعب القطع بأن فلاناً لا يصلي تماماً، خاصة أن من ادعى أنه صلى في أهله وبيته، قبل منه، كما دل عليه حديث محجن – وقد تقدم – وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لمحجن: ((ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟)) قال محجن: بلى يا رسول الله، ولكني صليت في أهلي وقد استنبط ابن عبدالبر من هذا الحديث أن من أقر بالصلاة وإقامتها أنه يوكل إلى ذلك إذا قال إني أصلي؛ لأن محجناً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد صليت في أهلي، فقبل منه. (¬7) وقال الإمام الشافعي رحمه الله: - (من قيل أنه لا يصلي فكذبهم صدق). (¬8) وقال النووي: - (إذا أراد السلطان قتله، فقال: صليت في بيتي ترك). (¬9) إن الترك للصلاة – والذي يعد ناقضاً من نواقض الإيمان – لا يتحقق في المعين إلا بالإصرار على تركها، والأصل في المسلم فعل الصلاة حتى يثبت ما يناقض ذلك، فمن أظهر أداء الصلاة فهو المسلم حكماً وظاهراً، وقد يكون مؤمناً عند الله، وقد يكون منافقاً كافراً، فليس كل من قيل عنه أنه كافر، تجرى عليه أحكام الكفر. (¬10) يقول ابن تيمية: - (إن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً، ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام). (¬11) وأما قولهم: إن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام .. فقد أجاب عنه محمد بن نصر المروزي بقوله: - ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 612). (¬2) انظر: ((فتح الباري)) (11/ 457). (¬3) انظر: ((فتح الباري)) ((13/ 429). (¬4) كتاب ((التوحيد)) (2/ 732). (¬5) انظر: ((المغني في أصول الفقه)) للخبازي (ص282)، و ((فتح الغفار بشرح المنار)) لابن نجيم (3/ 7). (¬6) انظر: ((أعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 30)، و ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (ص90). (¬7) انظر: ((التمهيد)) (4/ 224). (¬8) ((الأم)) (1/ 390). (¬9) ((روضة الطالبين)) (2/ 147). (¬10) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 617). (¬11) ((مجموع الفتاوي)) (7/ 716).

(إن الكافر الذي أجمعوا على أنه لا يؤمر بقضاء ما ترك من الصلاة هو الكافر الذي لم يسلم قط، ثم أسلم، فإنهم أجمعوا على أنه ليس عليه قضاء ما ترك من الصلاة في حال كفره ... فأما من أسلم ثم ارتد عن الإسلام، ثم رجع فإنهم قد اختلفوا فيما ضيع في ارتداده من صلاة وصيام وزكاة وغير ذلك، فكان الشافعي يوجب عليه قضاء جميع ذلك). (¬1) ثم قال: - (فإذا ترك الرجل صلاة متعمداً حتى يذهب وقتها فعليه قضاؤها، لا نعلم في ذلك اختلافاً، إلا ما يروى عن الحسن، فمن أكفره بتركها استتابه، وجعل توبته، وقضاءه إياها رجوعاً منه إلى الإسلام، ومن لم يكفر تاركها ألزمه المعصية، وأوجب عليه قضاءها). (¬2) وقال أبو الوفاء ابن عقيل:- (من كان كفره بترك الصلاة، لا بترك كلمة الإسلام، فهو إذا عاود فعل الصلاة صارت معاودته للصلاة إسلاماً). (¬3) وقال ابن تيمية: - (من كفر بترك الصلاة: الأصوب أن يصير مسلماً بفعلها، من غير إعادة الشهادتين؛ لأن كفره بالامتناع كإبليس). (¬4) والآن ننتقل إلى مناقشة أجوبة القائلين بعدم التكفير لأدلة الفريق الأول. 1 - فأما حملهم أحاديث تكفير تارك الصلاة على كفر النعمة، فهذا غير مستقيم، ولا يخفى ما فيه من تكلف .. فهل يسوغ أن يكون معنى حديث جابر بين الرجل وبين كفر النعمة ترك الصلاة؟ لقد بين الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله فساد هذا القول عند أهل اللغة، ثم علل ذلك قائلاً: - (وذلك أنهم (أي العرب) لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه، وهو كالمخبر عن نفسه بالعدم، وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد منَّ الله عليه بالسلامة وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب فهذا الذي تسميه العرب كفراناً إن كان ذلك فيما بينهم وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه، ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: - ((إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير – يعني الزوج – وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: - ما رأيت منك خيراً قط)) (¬5) فهذا ما في كفر النعمة) (¬6). وأما قولهم إنه كفر دون كفر، فقد سبق بيان أن الكفر جاء معرفاً كما في حديث جابر مما أفاد التخصيص والعهد، وفرق بين هذا وبين كفر منكر ... إضافة إلى ذلك فإن حديث بريدة مرفوعاً: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) قد جعل الصلاة حداً فاصلاً بين المسلمين عن غيرهم، ولا يتصور أن يكون كفراً دون كفر؛ لأنه لا يكون حداً فاصلاً بين المسلمين والكافرين، فهناك من المسلمين من يقع في مثل هذا الكفر، وإن لم يكن مؤمناً بإطلاق. (¬7) 2 - وأما قولهم إن الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة إنما هي على سبيل التغليظ والزجر الشديد لا على الحقيقة فظاهرها غير مراد. فالجواب أن يقال: هذا كلام فيه إجمال وإيهام، فلا شك أن هذه الأحاديث فيها تغليظ وتخويف، وهي على الحقيقة، نؤمن بذلك ولا نكذب، ونمرها كما جاءت ونأخذ بظاهرها المفهوم منها، وإذا كان عامة السلف الصالح يقرون أحاديث الوعيد – فيما دون الكفر – ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود قائلها صلى الله عليه وسلم (¬8)، فكيف ساغ لهؤلاء صرف نصوص تكفير تارك الصلاة عن ظاهرها، وجعله وعيداً لا حقيقة له! ¬

(¬1) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 980). (¬2) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 996). (¬3) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/ 212). (¬4) ((الاختيارات الفقهية)) (ص32). (¬5) رواه البخاري (29)، ومسلم (79). (¬6) ((الإيمان)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص88). (¬7) انظر: ((رسالة ضوابط التكفير)) (ص203). (¬8) انظر: ((مجموع الفتاوى)) ابن تيمية (7/ 674).

إن الإيمان بالنصوص الشرعية – ومنها نصوص الوعيد – يوجب التسليم لها والانقياد، كما يقتضي إجلالها وتعظيمها، وقد التزم سلف الأمة هذا النهج، (فقد قال الرجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لطم الخدود)) (¬1)، ((وليس منا من لم يوقر كبيرنا)) (¬2) وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: - من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم). (¬3) " ولما ذكر عبدالله بن المبارك – رحمه الله – حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... )) (¬4)، فقال فيه قائل: ما هذا! على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. (¬5) ومما يحسن إيراده في هذا الموضع ما قاله ابن تيمية: " ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله .. فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه. (¬6) وعلى كل فإن الاسترسال مع قول من قال إن هذا وعيد للتغليظ ولا حقيقة له، قد يؤول إلى تعطيل الشريعة وإبطال العقاب ... (¬7) وقد نبه جمع من أهل العلم لخطورة ذلك. فقال أبو عبيد القاسم بن سلام – جواباً عمن حمل نصوص الوعيد على التغليظ: - (وأما القول المحمول عل التغليظ فمن أفظع ما تأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب؛ لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها، كان ممكناً في العقوبات كلها). (¬8) وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: - (المرجئة كلما سمعوا حديثاً فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن من يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده. وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده، ولا يرجو وعده). (¬9) وقال ابن حزم: - (وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد لا على معنى الحقيقة، فقد اضمحلت الشريعة بين يديه، ولعل وعيد الكفار أيضاً كذلك، ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه؛ لأنه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها إذ لعلها ندب، ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد، وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الإسلام؛ لأنه تكذيب لله عز وجل). (¬10) وقال القاسمي – معلقاً على ما قاله الزمخشري عن حديث: ((آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى .. )) (¬11): للتغليظ: - ¬

(¬1) رواه البخاري (1297)، ومسلم (165). (¬2) رواه الترمذي (1919). من حديث أنس بن مالك. وقال فيه: هذا حديث غريب، ورواه أحمد (2/ 207) (6935). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. والحديث صححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2196). (¬3) ((السنة)) للخلال (3/ 579)، وانظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 487). (¬4) رواه البخاري (2475)، ومسلم (100) (¬5) ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 504، 505). (¬6) ((مجموع الفتاوي)) (7/ 36، 37) بتصرف. (¬7) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/ 150). (¬8) ((الإيمان)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص88). (¬9) ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (1/ 377). (¬10) ((الإحكام)) لابن حزم (1/ 283). (¬11) رواه البخاري (33)، ومسلم (107) واللفظ له.

(قول الزمخشري (فللتغليظ) يوجد مثله لثلة من شراح الحديث وغيرهم وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله: - هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه أدنى عالم أن ينسب إليه، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر. انتهى، وقال بعض المحققين: عليك أن تقر الأحاديث كما وردت، لتنجو من معرة الخطر). (¬1) 3 - وأما قولهم: إن مثل هذه النصوص محمولة على أن شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب القتل ... فالجواب أن يقال: - ما المسوغ لاستحلال دم تارك الصلاة وهو ليس بكافر عندكم؟ لقد تقرر – شرعاً – أن قتل المسلم لا يستباح إلا بإحدى ثلاث:- ترك دين، وإراقة الدم المحرم، وانتهاك الفرج المحرم. فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: - الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) (¬2) فتارك الصلاة ليس قاتلاً، ولا زانياً محصناً، فلم يبق إلا أن يكون إباحة دمه من أجل ردته. يقول ابن حزم – وهو ممن يرى عدم كفر تارك الصلاة – جواباً عن القائلين بقتل تارك الصلاة دون كفره:- (أما مالك والشافعى فإنهما يريان تارك الصلاة مسلماً؛ لأنهما يورثان ماله، وولده، ويصليان عليه، ويدفنانه مع المسلمين ... فإذا ذلك كذلك فقد سقط قولهما في قتله؛ لأنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو نفس بنفس، وتارك الصلاة متعمداً لا يخلو أن يكون كافراً. أو يكون غير كافر، فإن كان كافراً فهم لا يقولون بذلك ... فإذا ليس كافراً، ولا قاتلاً، ولا زانياً محصناً .. فدمه حرام بالنص). (¬3) 4 - أما قولهم إن المراد بهذه الأحاديث من استحل ترك الصلاة، أو تركها جحوداً ... فجوابه أن يقال:- إن هذه الأحاديث – كحديث جابر وبريدة ونحوهما ... قد علقت الكفر بترك الصلاة، فمناط الحكم بالكفر فيها ترك الصلاة، وقد يكون هذا الترك جحوداً، أو تهاوناً وكسلاً. فمن قال إن تارك الصلاة لا يكفر إلا إذا كان جاحداً لوجوبها، فقد جعل مناط الحكم في هذه المسألة غير ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه على هذا التأويل لا فرق بين الصلاة وغيرها، فلا تكون إقامتها عهداً وحداً يعرف به المسلم من الكافر؛ لأن من ترك شيئاً من شعائر الإسلام وفرائضه الظاهرة جحوداً لوجوبها فهو كافر بالإجماع، فجحد الوجوب لا يختص بالصلاة وحدها، مع أن الصحابة رضي الله عنهم قد جعلوا ترك الصلاة هو مناط الكفر دون بقية الأعمال، كما حكى ذلك عنهم أبو هريرة رضي الله عنه وعبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله. (¬4) ومن المناسب – في خاتمة هذه المناقشة – أن نشير إلى أن بعض القائلين بعدم تكفير تارك الصلاة، قد سلكوا في بعض استدلالهم مسلك الإرجاء. فهم يقولون – مثلاً – إن الكفر جحود التوحيد، وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول، وهذا يقر بالوحدانية شاهداً أن محمد رسول الله، مؤمناً بأن الله يبعث من في القبور، فكيف يحكم بكفره؟ والإيمان هو التصديق، وضده التكذيب، لا ترك العمل، فكيف يحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد؟ (¬5) ¬

(¬1) ((تفسير القاسمي)) (3/ 536، 537). (¬2) رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676). (¬3) ((المحلى)) (13/ 438) بتصرف. (¬4) انظر: تفصيل هذا الجواب: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 614)، و ((الدرر السنية)) (4/ 102)، ورسالة ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص205). (¬5) انظر: كتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص37).

وجواباً عن ذلك نقول: قد تقرر عند أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، فليس تصديقاً فحسب، ومن ثم فإن مقابله هو الكفر قول وعمل، فقد يكون الكفر قولاً قلبياً، وقد يكون عملاً قلبياً، وتارة قولاً باللسان، وتارة عملاً بالجوارح ... ويقول أيضاً: - يلزم من تكفير تارك الصلاة أن يكفر القاتل والشاتم للمسلم، وأن يكفر الزاني، وشارب الخمر ... (¬1) والجواب: - أن هذا اللازم يلزم المبتدعة عموماً ... سواء كانوا وعيدية أو مرجئة والذين جعلوا الكفر خصلة واحدةً، بناء على ظنهم الفاسد أن الإيمان شيء واحد يزول كله بزوال بعضه، وقد دلت النصوص أن الكفر مراتب وشعب متفاوتة، كالإيمان، فمن شعب الكفر ما يخرج من الملة، ومنها مالا يخرج من الملة. الترجيح بعد هذا العرض التفصيلي لأدلة الفريقين واستدلالاتهم ومناقشتها، يظهر أن أدلة القائلين بتكفير تارك الصلاة أصح وأقوى. (¬2) إلا أن الراجح ... ولعله القول الوسط بين الطرفين، وبه تجتمع الكثير من أدلة الفريقين، وهو أن يقال: إن ضابط ترك الصلاة الذي يعد كفراً – ها هنا – هو الترك المطلق الذي هو بمعنى ترك الصلاة من حيث الجملة الذي يتحقق بترك الصلاة بالكلية، أو بالإصرار على عدم إقامتها، أو بتركها في الأعم الأغلب، وليس مناط التكفير – ها هنا – مطلق الترك للصلاة بحيث يلزم أن نكفر كل من ترك صلاة واحدة أو بعض صلوات (¬3). ويشهد لذلك جملة من الأدلة، منها ما يلي: - 1 - قوله تعالى: - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] فالمراد من تضييع الصلاة – هاهنا – تركها بالكلية كما قاله محمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم والسدي واختاره ابن جرير. (¬4) 2 - وقوله صلى الله عليه وسلم ... ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة)) فهذا الحديث صريح في الفرق بين الترك المطلق، وبين مطلق الترك .. يقول ابن تيمية رحمه الله: - (فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها ... ) (¬5) ثم قال: (فإن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة ... ) (¬6) ويقول في موضع آخر: - _فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن حديث عبادة بن الصامت – ثم ساق الحديث المذكور -) (¬7) 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلا نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه)) (¬8) والانتقاص هنا عام يتناول ترك الأداء لبعض الصلوات ... وهذا من مطلق الترك الذي لا يعد كفراً، ومن ثم صارت مقبولة، وأكملت بالتطوع، والله أعلم. نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف - بتصرف – ص457 ¬

(¬1) انظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 236). (¬2) انظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 322). (¬3) انظر: رسالة ((ضوابط التكفير)) (ص211) (¬4) انظر: ((تفسير الطبري)) (16/ 66)، و ((تفسير القرآن العظيم)) ابن كثير (3/ 125). (¬5) ((مجموع الفتاوي)) (7/ 615). (¬6) ((مجموع الفتاوي)) (7/ 616). (¬7) ((مجموع الفتاوي)) (22/ 49). (¬8) رواه أبو داود (864)، والترمذي (413)، والنسائي (1/ 232، 233)، وابن ماجه (1425). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 529): إسناده صحيح بمعناه. وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 229): إسناده صحيح. وقال ابن الملقن في ((تحفة المحتاج)) (1/ 333): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح.

المبحث الثالث: الزكاة

المبحث الثالث: الزكاة المطلب الأول: تشريع الزكاة وأما الزكاة فقد تقدم ذكرها في نصوص الصلاة وغيرها ومما يتعلق بها على انفرادها قوله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهُمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَالله سَمِيعٌ عَلِيم [التوبة: 103] وقوله في صفات عباده المؤمنين وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون: 4] وقوله تعالى في ذم الكفار ووعيدهم وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت: 6 - 7] وإن كانت هذه الآية في زكاة النفوس فهي عامة لزكاة الأموال أيضا وقد فسرت بها وقوله تعالى في وعيد مانعيها مطلقا وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34 - 35] ... وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها من نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل: يا رسول الله فالإبل قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطأه بأخفافها وتعضه فأفواهها كلما مر عليه أولاها أعيد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل يا رسول الله فالبقر والغنم قال ولا صاحب بقر وغنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عفصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)) (¬1) الحديث بطوله. وفيه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد يوم القيامة بقاع قرقر تطأه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن الحديث وفيه ولا من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا تحول يوم القيامة شجاعا أقرع يتبع صاحبه حيثما ذهب وهو يفر منه ويقال: هذا مالك الذي كنت تبخل به فإذا رأى أنه لا بد منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفحل)) (¬2). وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول: يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت ولا يأتي أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا قد بلغت)) (¬3). وفيه عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الآية [آل عمران:180])) (¬4) ¬

(¬1) رواه مسلم (987). (¬2) رواه مسلم (988). (¬3) رواه البخاري (1402). (¬4) رواه البخاري (1403).

وفيه عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال أعرابي أخبرني عن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34] قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له إنما كان هذه قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله تعالى طهرة للأموال (¬1). وقد ثبتت البيعة عليها بعد الصلاة كما قال البخاري رحمه الله تعالى (باب البيعة على إيتاء الزكاة) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة: 11] حدثنا ابن نمير قال حدثني أبي قال حدثنا إسماعيل عن قيس قال: قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (¬2) والنصوص فيها كثيرة وفي ما تقدم كفاية. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص779 المطلب الثاني: حكم مانع الزكاة أما حكم تاركها فإن كان منعه إنكارا لوجوبها فكافر بالإجماع بعد نصوص الكتاب والسنة وإن كان مقرا بوجوبها وكانوا جماعة ولهم شوكة قاتلهم الإمام لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب فقال عمر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل)) فقال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ولو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر رضي الله عنه فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق – وفي رواية – فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق (¬3). وهذا الذي استنبطه أبو بكر رضي الله عنه مصرح به في منطوق الأحاديث الصحيحة المرفوعة كحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل)) (¬4) وغيره من الأحاديث. ¬

(¬1) رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم (1404)، وابن ماجه (1787). وانظر: ((تغليق التعليق)) لابن حجر (3/ 4 - 6). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2/ 58): إسناده صحيح وهو وإن كان موقوفا فهو في حكم المرفوع لأنه في أسباب النزول وذلك لا يكون إلا بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم. (¬2) رواه البخاري (2715)، ومسلم (56). (¬3) رواه البخاري - متفرقا في عدة أحاديث - (1399، 1400، 1456، 1457)، ومسلم (20) واللفظ له. (¬4) رواه البخاري (25)، ومسلم (22).

وقد جهز النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لغزو بني المصطلق حين بلغه أنهم منعوا الزكاة ولم يكن ما بلغه عنهم حقا فروى الإمام أحمد قال: حدثنا محمد بن سابق حدثنا عيسى بن دينار حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: ((قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول ولم يأته وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فدعا بسروات قومه وقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق- أي خاف – فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم إلى من بعثتم قالوا إليك قال ولم قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي قال رضي الله عنه: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني ولا أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قال فنزلت الحجرات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6])) (¬1) ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار عن محمد بن سابق به ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به. ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 279) (18482) وابن أبي حاتم في تفسيره (18/ 387)، والطبراني (3/ 274). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 111): رجاله ثقات. وقال السيوطي في ((لباب النقول)) (275): إسناده جيد. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 232): إسناده صحيح.

وقال ابن جرير رحمه الله تعالى حدثنا أبو كريب حدثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله قالت فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قالت فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلا مصدقا فسررنا بذلك وقررت به أعيننا ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن لصلاة العصر قالت ونزلت أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6])) (¬1). وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات وأنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقونه رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق وإنا خشينا أنما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله وأن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهم بهم فأنزل الله تبارك وتعالى عذرهم في الكتاب فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] إلى آخر الآية)) (¬2) وقال مجاهد وقتادة: ((أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم فتلقوه بالصدقة فرجع فقال إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك زاد قتادة وأنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم وأمره أن يتثبت ولا يعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى هذه الآية)) (¬3) ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (22/ 286). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (22/ 287)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 54). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3088): ذكر له شواهد. (¬3) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 372).

وذكر البغوي رحمه الله تعالى نحو حديث ابن عباس وفيه ((فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله تعالى فبدا له في الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدوم قومه وقال له انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وأن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فأنزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] الآية)) (¬1) وأما إن كان الممتنع عن أداء الزكاة فردا من الأفراد فأجمعوا على أنها تؤخذ منه قهرا واختلفوا من ذلك في مسائل: إحداها هل يكفر أم لا؟ فقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر إلا الصلاة (¬2) وقال أيوب السختياني: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق وحكى إسحاق عليها إجماع أهل العلم وقال محمد بن نصر المروزي هو قول جمهور أهل الحديث وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمس عمدا أنه كافر وروى ذلك سعيد بن جبير ونافع والحكم وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو قول ابن حبيب من المالكية ... وقال ابن عيينة المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم وليس سواء لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر كفر وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه. المسألة الثانية هي يقتل أم لا؟ الأول هو المشهور عن أحمد رحمه الله تعالى ويستدل له بحديث ابن عمر رضي الله عنهما ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) (¬3) الحديث والثاني لا يقتل وهو قول مالك والشافعي ورواية عن أحمد رحمهم الله تعالى وروى اللالكائي من طريق مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس ولا أحسبه إلا رفعه قال: عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم رمضان من ترك منهن واحدة فهو بها كافر ويحل دمه وتجده كثير المال ولا يزكي فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ورواه قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد مرفوعا مختصرا ورواه سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعا وقال من ترك منهن واحدة – يعني الثلاث الأول – فهو بالله كافر ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله ولم يذكر ما بعده (¬4). المسألة الثالثة لمن لم ير قتله هل ينكل بأخذ شيء من ماله مع الزكاة؟ وقد روى في خصوص المسألة حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا بها فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الحاكم (¬5) وعلق الشافعي القول به على ثبوته فإنه قال: لا يثبته أهل العلم بالحديث ولو ثبت لقلنا به (552). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص783 ¬

(¬1) ((تفسير البغوي)) (ص: 338). (¬2) رواه الترمذي (2622). قال النووي في ((الخلاصة)) (1/ 245) والعراقي في ((طرح التثريب)) (2/ 146)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 819) والألباني في ((مشكاة المصابيح)) (551): إسناده صحيح. (¬3) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). (¬4) رواه اللالكائي في ((اعتقاد اهل السنة والجماعة)) (4/ 845). (¬5) رواه أبو داود (1575)، والنسائي (5/ 15)، وأحمد (5/ 2) (20030)، والحاكم (1/ 554). والحديث سكت عنه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على ما قدمنا ذكره في تصحيح هذه الصحيفة ولم يخرجاه. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 480): إسناده صحيح إلى بهز. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن.

المبحث الرابع: الصوم

المبحث الرابع: الصوم الركن الرابع من أركان الإسلام الصيام وهو في اللغة الإمساك وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة. وكان فرض صوم شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة هو والزكاة قبل بدر قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 183 - 185] إلى آخر الآيات معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي -بتصرف – ص790

المبحث الخامس: الحج

المبحث الخامس: الحج الركن الخامس الحج وهو (على من يستطع) أي استطاع إليه سبيلا قال الله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97] قد ذكر الله تعالى تفصيله في سورة البقرة من قوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ -إلى قوله- إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة: 196]. واشتراط الاستطاعة فيه مصرح به في الآية وفي حديث جبريل وفي حديث معاذ وغيرها وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة. ولا خلاف في كفر من جحد فرضيته وتقدم الخلاف في كفر تاركه مع الإقرار بفرضيته. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تعجلوا الحج – يعني الفريضة – فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) (¬1) (554) ورواه أبو داود بلفظ: ((من أراد الحج فليتعجل)) (¬2) ... وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) (¬3) ورواه مسلم (¬4) بنحو هذا والله أعلم. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس إن الله تعالى كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل عام فقال لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم يعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فهو تطوع)) (¬5). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص791 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 313) (2869). وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (2957): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (1732). وسكت عنه. قال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. (¬3) رواه أحمد (2/ 456) (9888). وقال البيهقي في ((السنن الصغير)) (2/ 138): ثابت. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (13/ 244): إسناده صحيح. وقال الألباني: في ((صحيح الجامع)) (3430): صحيح. (¬4) رواه مسلم (1337). (¬5) رواه أبو داود (1712)، والنسائي (5/ 111)، وابن ماجه (2886)، وأحمد (1/ 255) (2304)، والحاكم (2/ 321). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في ((التلخيص)). وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/ 8): صحيح. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (4/ 84): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (2454):إسناده صحيح وله شاهد.

المبحث السادس: حكم تارك الأركان الأربعة

المبحث السادس: حكم تارك الأركان الأربعة الأركان الأربعة - يعني سوى الشهادتين - في تكفير تاركها أو بعضها مع الإقرار بالوجوب، خلاف معروف، وقد ذكر شيخ الإسلام الخلاف في ذلك، وعرض الأقوال- ذاكراً ما كان منها رواية عن الإمام أحمد- فقال: ( ... أحدهما: أنه يكفر بترك واحدة من الأربعة حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء، فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد اختارها أبو بكر. الثاني: أنه يكفر بترك شيء من ذلك مع الإقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره. الثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة، وهي الرواية الثالثة عن أحمد، وقول كثير من السلف، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد. الرابع: يكفر بتركها (أي الصلاة)، وترك الزكاة فقط. الخامس: بتركها، وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج ... ). وليس مقصودنا في هذا المبحث، ذكر الأدلة أو الترجيح بينها، وإنما المقصود أن نبين أن قول السلف ترك جنس العمل يختلف عن قولهم في مسألة ترك الأركان، فالأول أمر لم يخالف فيه منهم أحمد لأنه مقتضى إجماعهم على حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل، أما الثاني فهو من مسائل الاجتهاد، وإن كان بين الأمرين علاقة، لكن ينبغي أن نعلم: أن الخلاف الأهم والأقوى هو خلافهم في مسألة ترك الصلاة كسلاً وهو ما سنشير إليه، أما غير الصلاة فالأقرب وهو قول الأكثرين عدم تكفير تاركها- ما لم يقاتل الإمام عليها- فالزكاة بالإضافة إلى أخذها من الفرد بالقوة في حديث: ((إنا آخذوها وشطر ماله)) (¬1)، فقد ورد حديث صريح في عدم تكفير من لا يؤديها، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه، حتى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار .. )) الحديث (¬2). قال الإمام المروزي- رحمه الله- في تعليقه على هذا الحديث: ( ... فدل ما ذكرنا أن مانع الزكاة ليس بكافر، ولا مشرك، إذ أطمعه دخول الجنة لقول الله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48] .. ) (¬3)، أما الصوم فيكاد يكون إجماعاً القول بعدم تكفير تاركه، قال الإمام محمد بن نصر- رحمه الله-: (وقد اتفق أهل الفتوى، وعلماء أهل الأمصار على أن من أفطر في رمضان متعمداً أنه لا يكفر بذلك، واختلفوا فيما يجب عليه عند ذلك ... فإن أفطر رمضان كله متعمداً، فمنهم من أوجب عليه لكل يوم كفارة مع القضاء، ... ولم يقل أحد من العلماء أنه قد كفر) (¬4). أما الحج فحيث أنه يجب في العمر مرة واحدة، ومختلف في وجوبه هل هو على الفور أم التراخي؟ فبذلك يصعب الجزم بأنه تارك للحج بالكلية والله أعلم. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – 2/ 118 ¬

(¬1) رواه أبو داود (1575)، والنسائي (5/ 15)، وأحمد (5/ 2) (20030)، والحاكم (1/ 554). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على ما قدمنا ذكره في تصحيح هذه الصحيفة ولم يخرجاه. وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 480): إسناده صحيح إلى بهز. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. (¬2) رواه مسلم (987). (¬3) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 1015). (¬4) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 1016).

الفصل الثاني: هل الإسلام يزيد وينقص؟

الفصل الثاني: هل الإسلام يزيد وينقص؟ هل الإسلام مثل الإيمان يدخله الزيادة، والنقصان ويدخله الاستثناء أم لا؟ خلاف مشهور. قال في شرح مختصر التحرير: وأما الإسلام فلا يجوز الاستثناء فيه بأن يقول المسلم: إن شاء الله بل يجزم به - قال ابن حمدان في (نهاية المبتدئين): وقيل يجوز إن شرطنا فيه العمل. انتهى. واعلم أن الناس في الإسلام والإيمان على ثلاثة أقوال، فالمرجئة يقولون الإسلام أفضل من الإيمان قالوا: فإنه يدخل فيه الإيمان، وآخرون يقولون الإيمان والإسلام سواء وهم المعتزلة، والخوارج، وطائفة من أهل الحديث والسنة بل حكاه محمد بن نصر عن جمهورهم، والقول الثالث أن الإيمان أكمل وأفضل وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة في غير موضع، وهو المأثور عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كما في شرح الإيمان والإسلام لشيخ الإسلام، وقال: الصحيح أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة كلها. قال: والإمام أحمد رضي الله عنه إنما منع الاستثناء فيه على قول الزهري هو الكلمة، هكذا نقل الأثرم والميموني وغيرهما عنه، وأما على جوابه الآخر الذي لم يختر فيه قول من قال الإسلام الكلمة فيستثني في الإسلام كما يستثني في الإيمان، فإن الإسلام لا يجزم بأنه قد فعل كل ما أمر به من الإسلام ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (¬1) و ((بني الإسلام على خمس)) (¬2) فجزمه بأنه فعل الخمس بلا نقص كما أمر كجزمه بإيمانه فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً أي في الإسلام كافة أي في جميع شرائع الإسلام. قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: وتعليل الإمام أحمد وغيره من السلف في اسم الإيمان يجيء في اسم الإسلام، فإذا أريد بالإسلام الكلمة فلا استثناء فيه كما نص عليه الإمام أحمد وغيره، وإذا أريد به فعل الواجبات الظاهرة فالاستثناء فيه كالاستثناء في الإيمان. قال شيخ الإسلام: ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلما متميزا عن اليهود، والنصارى تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه، ... والزيادة والنقصان يترتبان على ذلك وبالله التوفيق. وقد علمت ما عليه السلف وأئمة الدين وهو اعتقاد الطائفة الأثرية من أهل الفرقة الناجية بلا مين لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لمحمد بن أحمد السفاريني – 1/ 437 ¬

(¬1) رواه البخاري (10)، ومسلم (40). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (8)، ومسلم (16). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

الفصل الثالث: الاستثناء في الإسلام

الفصل الثالث: الاستثناء في الإسلام أي: قول الإنسان (أنا مسلم إن شاء الله). فجمهور أهل السنة والجماعة؛ لا يرون الاستثناء في الإسلام كما يرونه في الإيمان؛ لأن الإسلام غير الإيمان كما علمنا سابقاً. فالإيمان درجات، والناس فيه طبقات: منهم المحسن، ومنهم المؤمن، ومنهم المسلم؛ فالإسلام هو أقل هذه الدرجات، وليس وراءه إلا الكفر؛ فمن لم يكن مسلماً كان كافراً، وأما من لم يكن مؤمناً فقد يكون مسلماً، لأن من نطق بالشهادتين أصبح مسلماً، وتميز عن غيره من الكفار، فتجري عليه أحكام الإسلام. فقد دلت النصوص الشرعية على جواز القول: (أنا مسلم) بدون استثناء؛ كما في قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]. وقوله: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 14]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن هذه الآية: (وهذه الآية مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره على أنه يُستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام. قال الميموني: سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في أنا مؤمن إن شاء الله؟ فقال: أقول: مؤمن إن شاء الله، وأقول: مسلم ولا أستثني. (¬1) قال: قلت لأحمد: تفرق بين الإسلام والإيمان؟ فقال لي: نعم. فقلت له: بأي شيء تحتج؟ قال لي: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]) (¬2). الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص109 فمن دخل في هذا الدين ونطق بالشهادتين فهو المسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فمثل هذا يقال عنه مسلم، وكل أحد يصح أن يعبر عن نفسه بذلك بدون أن يستثني كما أرشد لذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد، وكما أرشد إلى ذلك الأعراب ... وبهذا يعلم أن الصحيح في مسألة حكم الاستثناء في الإسلام أن يقال: مسلم بدون استثناء، وهذا هو المشهور عن سلف الأمة في هذه المسألة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والمشهور عند أهل الحديث أنه لا يستثنى في الإسلام، وهو المشهور عن أحمد رضي الله عنه، وقد روي عنه في الاستثناء) (¬3). ... وإنما كان السلف لا يستثنون في الإسلام لأسباب أهمها أمران: الأول: ورد ما يرشد إلى ذلك في نصوص الشرع المطهر، كما في آية الحجرات، وحديث سعد وقد تقدما، وكما في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]. فهذه النصوص فيها إشارة إلى جواز قول: مسلم بدون استثناء، وآية الحجرات واضحة صريحة في الدلالة على ذلك، ولهذا احتج بها على ذلك غير واحد من أهل العلم ... الأمر الثاني: أن كل من نطق بالشهادتين صار بذلك مسلماً له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ويكون متميزاً عن اليهود والنصارى تجري عليه أحكام الشرع الجارية على المسلمين، وهذا القدر كل أحد يجزم به بلا استثناء في ذلك. ¬

(¬1) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 604). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 253)، وانظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 528). (¬3) ((الفتاوى)) (7/ 43).

قال شيخ الإسلام: (ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن اليهود والنصارى تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه) (¬1). لهذا كان المشهور عن السلف الصالح عدم الاستثناء في الإسلام كما ذكر ذلك شيخ الإسلام فيما تقدم، ومما ورد عنهم في ذلك: ما رواه هشام الأزدي عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين: (أنهما كان يقولان: مسلم، ويهابان مؤمن) (¬2). وقال أبو بكر المروزي: (قيل لأبي عبدالله: نقول: نحن المؤمنون؟ قال: نقول: نحن المسلمون) (¬3). وقال الأثرم: (قلت لأبي عبدالله: فأما إذا قال أنا مسلم فلا يستثني؟ فقال: لا يستثني إذا قال: أنا مسلم) (¬4). أما ما ذكره شيخ الإسلام عن أحمد بن حنبل أن له روايتين في المسألة: إحداهما: بتجويز الاستثناء في الإسلام، فسببه عائد إلى أن للإمام أيضاً روايتين في تعريف الإسلام: إحداهما: أن الإسلام هو الكلمة، والأخرى: أنه أعمال الإسلام الظاهرة كاملة. فإن أريد به الكلمة فلا استثناء، وإن أريد به الأعمال الظاهرة كلها فلا بد من الاستثناء؛ لأن الجزم بفعلها وإتمامها كالجزم بالإيمان سواء. قال شيخ الإسلام: (وأحمد إنما منع الاستثناء فيه – أي: الإسلام – على قول الزهري هو: الكلمة، هكذا نقل الأثرم والميموني وغيرهما عنه. وأما على جوابه الآخر الذي لم يختر فيه قول من قال: الإسلام الكلمة؛ فيستثني في الإسلام كما يستثني في الإيمان، فإن الإنسان لا يجزم بأنه فعل كل ما أمر به من الإسلام ... فإذا أريد بالإسلام الكلمة فلا استثناء فيه، كما نص عليه أحمد وغيره، وإذا أريد به من فعل الواجبات الظاهرة كلها، فالاستثناء فيه كالاستثناء في الإيمان. ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن اليهود والنصارى تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به ... ) (¬5). وقال: ( .. لكن الإسلام الذي هو أداء الخمس كما أمر به يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنهما لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها) (¬6). زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبدالرزاق البدر -بتصرف – ص 495 ¬

(¬1) ((الفتاوى)) (7/ 415). (¬2) رواه عبدالله في ((السنة)) (1/ 322) والخلال في السنة (3/ 603) (1075) والآجري في ((الشريعة)) (ص: 139) وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 874) واللالكائي في شرح الاعتقاد (4/ 815). (¬3) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 602) (1073)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 139). (¬4) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 876). (¬5) ((الفتاوى)) (7/ 415). (¬6) ((الفتاوى)) (7/ 415).

الفصل الرابع: العلاقة بين الإيمان والإسلام

المبحث الأول: هل الإسلام هو الإيمان؟ هل الإسلام هو الإيمان؟ وهل الإيمان هو الإسلام؟ أو غيره. فهذا مما افترقت فيه الطوائف، كافتراقهم في مسمى الإيمان. فقالت الوعيدية: إن الإسلام هو الإيمان والعكس صحيح (¬1). وقيل: الإسلام هو الكلمة أي كلمة التوحيد بالشهادتين. والإيمان هو العمل. وهذان القولان لهما وجه صحيح يتضح عند التحقيق في معناهما. وذهب الأشاعرة إلى أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، بأن كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا (¬2). وهذا القول فيه حق وباطل ..... والقول الصواب الذي عليه أهل التحقيق القول بالتفصيل، وهو إجمالاً: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا. وإذا افترقا اجتمعا. ومعناه: أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في نص واحد من كتاب أو سنة فإن لكل واحد منهما معنى يختص به. فالإسلام: الأعمال الظاهرة ومنها الشهادتان والصلاة .. والإيمان: الأعمال الباطنة من الاعتقادات كالتوكل والخوف والمحبة والرغبة والرهبة وغيرها. وقد دل على هذا دلائل كثيرة منها اكتفاءً واختصاراً: قوله تعالى في سورة الحجرات: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] فاجتمعا في نص واحد، ونفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام؛ فدل على افتراقهما أنهم مسلمون لكن لم يبلغوا أن يكونوا مؤمنين. وحديث جبريل عليه السلام المشهور وفيه ذكر الإسلام: بالأركان الخمسة، والإيمان: بالأصول الستة. فإنهما اجتمعا في نص واحد، أجاب النبي صلى الله عليه وسلم لكلٍ بمعنى غير الآخر؛ فدل على افتراقهما. وأركان الإسلام الخمسة أعمال ظاهرة، وأصول الإيمان الستة أعمال باطنة، ولا بد منهما جميعاً. وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ((أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وسعد جالسٌ، فترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. فقال: أو مسلماً مالك عن فلان، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، فقلت: مثل ذلك وأجابني بمثله، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، وعاد صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا سعد إني لأُعطي الرجل، وغيره أحب إليَّ منه، خشية أن يكبه الله في النار)) (¬3) ووجه الدلالة كما في دلالة آية الحجرات، بتفريقه صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم في نص واحد، مما يدل أن لكل منهما معنى يختص به ... ومن هنا قال الحافظ بن رجب في جامع العلوم والحكم: قال المحققون من العلماء: كل مؤمن مسلم، فإن من حقَّق الإيمان، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (¬4) فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح بالأعمال. وليس كل مسلم مؤمناً، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يتحقق القلب به تحقيقاً تاماً، مع عمل جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلماً، وليس بمؤمن الإيمان التام. اهـ. (¬5). ¬

(¬1) كما في ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (ص26). (¬2) وهو قول أبي بكر الباقلاني نقله عنه بلفظه شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (7/ 154) وما بعدها وقال قبله: ((فصل: قال الذين نصروا مذهب جهم في الإيمان من المتأخرين كالقاضي أبي بكر وهذا لفظه .. )).اهـ. فذكره. (¬3) رواه البخاري (27)، ومسلم (150). من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬5) ((جامع العلوم والحكم)) شرح الحديث الثاني: حديث جبريل المشهور (ص28)، وانظر: ((منهج الحافظ ابن رجب)) ص (428) وما بعدها.

ومعنى افتراقهما: أن يأتي أحدهما في نص دون الآخر، فعندئذٍ يكون أحدهما بمعنى الآخر، فالإسلام هو الإيمان والعكس صحيح. ولهذا أدلة كثيرة في الوحيين: منها قوله تعالى في سورة آل عمران: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]. وفي أولها قوله سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران: 19]. فاقتضينا أن الدين عند الله الإيمان، ومن يبتغ غير الإيمان ديناً فلن يقبل منه. ومنه قوله تعالى في خطابه للمؤمنين في آيات كثيرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ فإن الخطاب أيضاً متوجه للذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، مما يدل على تناول أحدهما الآخر عند الانفراد. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) (¬1) وفي لفظ آخر: ((الإيمان بضع وسبعون)) (¬2). فإن الإيمان هنا متناول للإسلام لاشتماله على الصلاة والصيام والحج والزكاة. ولما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه إليه صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) (¬3). وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)) (¬4). ففي كلا الحديثين المسلم يشمل المؤمن، مما يدل على أنهما بمعنى واحد عند الاجتماع. ومن أصرح الأدلة من السنة على كون افتراقهما يُصِّيرُ معناهما واحداً حديث وفد عبد القيس، المتفق على صحته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من مضر ولا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس)) الحديث (¬5). فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم في الحديث – في هذا الحال المهم، والسؤال الأهم – عن الإيمان بأركان الإسلام، فدل على أنهما بمعنى واحد، مما يفيد أن أحدهما يغني عن الآخر عند الافتراق. مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – بتصرف – ص: 23 ¬

(¬1) رواه البخاري (9)، ومسلم (35). (¬2) رواه مسلم (35). (¬3) رواه البخاري (10)، ومسلم (40). (¬4) رواه البخاري (19). (¬5) رواه البخاري (53) وهذا لفظه، ومسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

واعلم أن (الإيمان والإسلام) يجتمع فيهما الدين كله وقد كثر كلام الناس في (حقيقة الإيمان والإسلام) ونزاعهم واضطرابهم; وقد صنفت في ذلك مجلدات؛ والنزاع في ذلك من حين خرجت الخوارج بين عامة الطوائف. ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع ما يستفاد من كلام الله تعالى فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله فإن هذا هو المقصود. فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء؛ بل نذكر من ذلك - في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله - ما يبين أن رد موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول خير وأحسن تأويلا وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة. فنقول: قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمى (الإسلام) ومسمى (الإيمان) ومسمى (الإحسان). فقال: ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. وقال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)). و (الفرق) مذكور في حديث عمر الذي انفرد به مسلم (¬1) وفي حديث أبي هريرة الذي اتفق البخاري ومسلم عليه (¬2) وكلاهما فيه: أن جبرائيل جاءه في صورة إنسان أعرابي فسأله. وفي حديث عمر: أنه جاءه في صورة أعرابي. وكذلك فسر (الإسلام) في حديث ابن عمر المشهور قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)) (¬3). وحديث جبرائيل يبين أن (الإسلام المبني على خمس) هو الإسلام نفسه ليس المبني غير المبني عليه؛ بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها (الإحسان) وأوسطها (الإيمان) ويليه (الإسلام) فكل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم وليس كل مؤمن محسنا ولا كل مسلم مؤمنا كما سيأتي بيانه - إن شاء الله - في سائر الأحاديث كالحديث الذي رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((أسلم تسلم. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت. قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: الهجرة. قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد. قال: وما الجهاد؟ قال: أن تجاهد أو تقاتل الكفار إذا لقيتهم ولا تغلل ولا تجبن. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما - قالها ثلاثا - حجة مبرورة أو عمرة)) (¬4) ولهذا يذكر هذه المراتب الأربعة فيقول: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم والمهاجر من هجر السيئات والمجاهد من جاهد نفسه لله)) (¬5). وقد ثبت عنه من غير وجه أنه قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (8). (¬2) رواه البخاري (50)، ومسلم (9، 10). (¬3) رواه البخاري (8)، ومسلم (16). (¬4) رواه أحمد (4/ 114) (17068)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 55). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 476): رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في ((الإيمان)) لابن تيمية (ص5): صحيح بشواهده. (¬5) رواه عبد بن حميد في مسنده (336). وقال الألباني في ((الإيمان)) لابن تيمية (ص6): صحيح. والحديث روى بعضه البخاري (10)، ومسلم (40). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬6) رواه الترمذي (2627)، والنسائي (8/ 104)، وأحمد (2/ 379) (8918) .. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو ما قاله الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

ومعلوم أن من كان مأمونا على الدماء والأموال؛ كان المسلمون يسلمون من لسانه ويده ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه. وفي حديث عبد الله بن عبيد بن عمير أيضا عن أبيه عن جده أنه ((قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام. قيل: فما الإيمان؟ قال: السماحة والصبر. قيل: فمن أفضل المسلمين إسلاما؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قيل: فمن أفضل المؤمنين إيمانا؟ قال: أحسنهم خلقا. قيل فما أفضل الهجرة؟ قال: من هجر ما حرم الله عليه. قال: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قال: أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد مقل. قال: أي الجهاد أفضل؟ قال: أن تجاهد بمالك ونفسك؛ فيعقر جوادك ويراق دمك. قال أي الساعات أفضل؟ قال: جوف الليل الغابر)) (¬1). ومعلوم أن هذا كله مراتب بعضها فوق بعض؛ وإلا فالمهاجر لابد أن يكون مؤمنا وكذلك المجاهد ولهذا قال: ((الإيمان: السماحة والصبر)). وقال في الإسلام: ((إطعام الطعام وطيب الكلام)). والأول مستلزم للثاني؛ فإن من كان خلقه السماحة فعل هذا بخلاف الأول؛ فإن الإنسان قد يفعل ذلك تخلقا ولا يكون في خلقه سماحة وصبر. وكذلك قال: (أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده. وقال: أفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا. ومعلوم أن هذا يتضمن الأول؛ فمن كان حَسِن الخلق فعل ذلك. قيل للحسن البصري: ما حسن الخلق؟ قال: بذل الندى وكف الأذى وطلاقة الوجه. فكف الأذى جزء من حسن الخلق. وستأتي الأحاديث الصحيحة بأنه جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان كقوله: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (¬2). وقوله لوفد عبد القيس: ((آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)) (¬3). ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان ... وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (¬4). فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً بخلاف العكس ... فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان؛ صلح الجسد بالإسلام وهو من الإيمان؛ يدل على ذلك أنه قال في حديث جبرائيل: ((هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)) (¬5) فجعل (الدين) هو الإسلام والإيمان والإحسان. فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة لكن هو درجات ثلاث: (مسلم) ثم (مؤمن) ثم (محسن) كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32] والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة بخلاف الظالم لنفسه. وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب؛ لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن؛ فإنه معرض للوعيد ... وأما (الإحسان) فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإيمان. (والإيمان) أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. ¬

(¬1) ذكره ابن تيمية في ((الإيمان)) (ص7) وقال الألباني: صحيح. (¬2) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (53) وهذا لفظه، ومسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (50)، ومسلم (9).

فالإحسان يدخل فيه الإيمان والإيمان يدخل فيه الإسلام والمحسنون أخص من المؤمنين والمؤمنون أخص من المسلمين؛ وهذا كما يقال: في (الرسالة والنبوة) فالنبوة داخلة في الرسالة والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا؛ فالأنبياء أعم والنبوة نفسها جزء من الرسالة فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة؛ فإنها لا تتناول الرسالة. والنبي صلى الله عليه وسلم فسر (الإسلام والإيمان) بما أجاب به؛ كما يجاب عن المحدود بالحد إذا قيل ما كذا؟ قيل: كذا وكذا مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - بتصرف- 7/ 5 كذلك أيضا مما يتعلق بالإيمان مسألة الإسلام ... والخلاف في مسماه، ... على ثلاثة أقوال: طائفة قالت: الإسلام هو الكلمة، أي الشهادتان، وهذا مروي عن الزهري (¬1)، وبعض أهل السنة قالوا: الإسلام هو الكلمة، والإيمان هو العمل، المذهب الثاني: طائفة قالوا الإسلام والإيمان مترادفان، وهذا مروي عن بعض أهل السنة، ويتزعمهم البخاري، وهو أيضا ذهب إليه الخوارج والمعتزلة. المذهب الثالث: أن الإسلام هو العمل والإيمان هو التصديق والإقرار، جعلوا الإسلام هو الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة، واستدلوا بحديث جبريل (¬2)، والصواب في المسألة أن الإيمان والإسلام تختلف دلالتهما بحسب الإفراد والاقتران، فإذا أطلق الإسلام وحده دخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وإذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، وإذا اجتمعتا، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل، فإن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، ولما سأله عن الإيمان فسره بالأعمال الباطنة. هذا هو الصواب أن الإسلام إذا أطلق وحده دخل فيه الإيمان، والإيمان إذا أطلق وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، أما الأدلة والمناقشات يأتي الكلام عليها إن شاء الله. قلنا إن الناس في مسمى الإسلام لهم أقوال: القول الأول: من يقول: إن الإسلام هو الكلمة والإيمان هو العمل، يقول: مسمى الإسلام هو الكلمة، يعني الشهادتين، وهذا مروي عن الزهري وبعض أهل السنة، قالوا الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج هؤلاء بقول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32] قالوا فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه والمقتصد، هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4684)، وابن حبان (1/ 380)، والحميدي في ((المسند)) (1/ 37)، وعبد بن حميد في ((المسند)) (1/ 77). قال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح الإسناد مقطوع. (¬2) رواه البخاري (50)، ومسلم (9، 10).

والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه، ولكن وجهة نظر الزهري هي أن من أتى بالشهادتين صار مسلما، يتميز عن اليهود والنصارى، تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين. والزهري لم يرد أن الإسلام الواجب هو الكلمة وحدها؛ فإن الزهري أجل من أن يخضع لذلك، ولهذا فإن أحمد رحمه الله في أحد أجوبته لم يجب بهذا، خوفا من أن يظن أن الإسلام ليس هو إلا الكلمة، وقد رد محمد بن نصر على من قال بهذا القول، فقال من زعم أن الإسلام هو الإقرار، وأن العمل ليس منه فقد خالف الكتاب والسنة، فإن النصوص كلها تدل على أن الأعمال من الإسلام كحديث جبريل، وفيه بني الإسلام على خمس، وذكر الأعمال الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج شرح العقيدة الطحاوية لعبد العزيز بن عبد الله الراجحي - 1/ 246 ويمكن أن نجمل ما سبق في قاعدتين: القاعدة الأولى: لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له. والمقصود هنا الإيمان والإسلام المقبولان عند الله عز وجل. قال أبو طالب المكي: ( .. فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول، غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد، كذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه، من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء: 94] وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى [طه: 75] (¬1). ويقول ابن أبي شيبة: لا يكون الإسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام ... (¬2).وقال الإمام البغوي في تعليقه على حديث جبريل عليه السلام: جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام (¬3)، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين ولذلك قال: ((ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) (¬4) والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعاً ... ) (¬5). إذاً يمكن تلخيص هذه القاعدة بما يلي: إن بين الإسلام والإيمان تلازماً فلا يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر، فلا يصح الإسلام ولا يوجد بدون أصل الإيمان، فإذا انتفى أصل الإيمان بطل الإسلام، كذلك لا يصح ولا يوجد إيمان بدون إسلام (أي عمل الجوارح، وعمل القلب) فلو انتفى العمل لدل ذلك على بطلان الإيمان وفساده. القاعدة الثانية: أن الاسم الواحد ينفي ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به، فلا يجب إذا أثبت أو نفى في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام ... كذلك كل ما يكون له مبتدأ وكمال، ينفي تارة باعتبار انتفاء كماله، ويثبت تارة باعتبار ثبوت مبدئه (¬6). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 333). (¬2) ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 528). (¬3) لو قال: ليس شرطاً في الإسلام لكان أولى لأنه لم يرد في النصوص إطلاق الإسلام على التصديق (أي قول القلب). (¬4) رواه البخاري (50)، ومسلم (9، 10). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((شرح السنة للبغوي)) (1/ 10). (¬6) انظر هذه القاعدة وشرحها وأمثلة لها في ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 421 - 422).

ذكر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا من دقته - رحمه الله - وسعة بحثه واستقرائه، وقبل أن نطبقها على مسألة الإيمان نذكر مثالاً من الأمثلة التي ذكرها لتتضح القاعدة أكثر. قال: (ولفظ النكاح وغيره في الأمر، يتناول الكامل، وهو العقد والوطء، كما في قوله: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء [النساء: 3] وقوله: حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230] وفي النهي يعم الناقص والكامل، فينهى عن العقد مفرداً، وإن لم يكن وطء، كقوله: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء [النساء: 21]، وهذا لأن الآمر مقصوده تحصيل المصلحة، وتحصيل المصلحة إنما يكون بالدخول كما لو قال: اشتر لي طعاماً، فالمقصود ما يحصل إلا بالشراء والقبض، والناهي مقصوده دفع المفسدة، فيدخل كل جزء منه، لأن وجوده مفسدة، وكذلك النسب والميراث معلق بالكامل منه، والتحريم معلق بأدنى سبب حتى الرضاع) (¬1). قال: (وكذلك الإيمان له مبدأ وكمال، وظاهر وباطن، فإذا علقت به الأحكام الدنيوية من الحقوق والحدود كحقن الدم، والمال، والمواريث، والعقوبات الدنيوية، الدنيوية من الحقوق والحدود كحقن الدم، والمال، والمواريث، والعقوبات الدنيوية، علقت بظاهره، لا يمكن غير ذلك، إذ تعليق ذلك بالباطن متعذر، وإن قدر أحياناً، فهو متعسر علماً وقدرة، فلا يعلم ذلك علماً يثبت به في الظاهر، ولا يمكن عقوبة من يعلم ذلك منه في الباطن ... وأما مبدؤه فيتعلق به خطاب الأمر والنهي، فإذا قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] ونحو ذلك، فهو أمر في الظاهر لكل من أظهره، وهو خطاب في الباطن لكل من عرف من نفسه أنه مصدق للرسول، وإن كان عاصياً، وإن كان لم يقم بالواجبات الباطنة والظاهرة، ... وأما كماله فيتعلق به خطاب الوعد بالجنة، والنصرة والسلامة من النار، فإن هذا الوعد إنما هو لمن فعل المأمور وترك المحظور، ومن فعل بعضاً وترك بعضاً فيثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، فلا يدخل في اسم المؤمن المستحق للحمد والثناء دون الذم والعقاب ومن نفى عنه الرسول الإيمان، فنفي الإيمان في هذا الحكم (¬2)، لأنه ذكر ذلك على سبيل الوعيد، إنما يكون بنفي ما يقتضي الثواب ويدفع العقاب، ولهذا ما في الكتاب والسنة من نفي الإيمان عن أصحاب الذنوب، فإنما هو في خطاب الوعيد والذم، لا في خطاب الأمر والنهي، ولا في أحكام الدنيا) (¬3). وكلام المروزي .. يتفق مع هذه القاعدة حيث قال: (إن اسم المؤمن قد يطلق على وجهين: اسم بالخروج من ملل الكفر، والدخول في الإسلام، وبه تجب الفرائض .... ويجري عليه الأحكام والحدود. واسم يلزم بكمال الإيمان وهو اسم ثناء وتزكية، يجب به دخول الجنة والفوز من النار .. إلخ كلامه ... ) (¬4) نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – 1/ 57 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 421 - 422). (¬2) أي: حكم الآخرة. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 423 - 424) (¬4) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 536 - 540).

المبحث الثاني: حالات ورود لفظ الإيمان والإسلام في كلام الله ورسوله

المبحث الثاني: حالات ورود لفظ الإيمان والإسلام في كلام الله ورسوله (الحالة الأولى) أن يطلق على الأفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله كقوله عز وجل: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257] وقوله: وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68] وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] وقوله: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [إبراهيم: 11] وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 23] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (3260)، ومسلم (111). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. بلفظة ((مسلمة)) بدلاً من ((مؤمنة)). ورواه بلفظه: الترمذي (3092)، والنسائي (5/ 234)، وأحمد (1/ 79). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطنا وظاهر في قوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] وقوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] وقوله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 15 - 17] وفسرهم بمن اتصف بذلك كله في قوله عز وجل: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 1 - 5] وقال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 133 - 136] وفي قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156 - 157] وقال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ

هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1 - 11] وقال الله تعالى: طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النمل: 1 - 3] وغيرها من الآيات وقد فسر الله تعالى الإيمان بذلك كله في قوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] ... وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله في حديث وفد عبد القيس في الصحيحين وغيرهما فقال: ((آمركم بالإيمان بالله وحده قال أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تؤدوا من المغنم الخمس)) (¬1) وقد جعل صلى الله عليه وسلم صيام رمضان إيمانا واحتسابا من الإيمان وكذا قيام ليلة القدر وكذا أداء الأمانة وكذا الجهاد والحج واتباع الجنائز وغير ذلك وفي الصحيحين: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (¬2). وهذه الشعب المذكورة قد جاءت في القرآن والسنة في مواضع متفرقة منها ما هو من قول القلب وعمله ومنها ما هو من قول اللسان ومنها ما هو من عمل الجوارح. ولما كانت الصلاة جامعة لقول القلب وعمله وقول اللسان وعمله وعمل الجوارح سماها الله تعالى إيمانا في قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] يعني صلاتكم كما يعلم من سبب نزول هذه الآية ... والآيات والأحاديث في هذا الباب يطول ذكرها وإنما أشرنا إلى طرف منها يدل على ما وراءه وبالله التوفيق ......... (الحالة الثانية) أي يطلق الإيمان مقرونا بالإسلام وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل هذا وما في معناه وكما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [النساء: 57] في غير موضع من كتابه وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الجنازة: ((اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان)) (¬3) وذلك أن الأعمال بالجوارح وإنما يتمكن معها في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير قول القلب وعمله ... والحاصل أنه إذا أفرد الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ بل كل منهما على انفراده يشمل الدين كله وإن فرق بين الاسمين كان الفرق بينهما بما في هذا الحديث الجليل والمجموع مع الإحسان هو الدين كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله دينا وبهذا يحصل الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث التي فيها تفسير الإيمان بالإسلام والإسلام بالإيمان وبذلك جمع بينه وبينها أهل العلم. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - بتصرف - ص745 ¬

(¬1) رواه البخاري (53)، ومسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه أبو داود (3201)، والترمذي (1024)، وابن ماجه (1498)، وأحمد (2/ 368) (8795)، والحاكم (1/ 511). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي في ((التلخيص)). وقال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص124): وهو كما قالا. وصححه أيضاً في ((صحيح سنن أبي داود)).

المبحث الثالث: التلازم بين الإيمان والإسلام

المبحث الثالث: التلازم بين الإيمان والإسلام إنه مع القول بالفرق بين الإيمان والإسلام، فإنه لا إسلام لمن لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا إسلام له؛ إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصحُّ إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يُحققُ إيمانه؛ لما بين الباطن والظاهر من ارتباط وتلازم على ما سيأتي بسطه إن شاء الله. والمقصود هنا أن نبين أنه حيث وجد الإيمان الباطن، لزم وجود الإسلام الظاهر الذي هو القول والعمل. قال شيخ الإسلام: (وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب، والإسلام ظاهر كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الإسْلامُ عَلانِيَةٌ وَالإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬1). ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله، والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد. وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما، امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة. فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام، وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة؛ فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك) (¬2). وقال: (فإذا قرن الإيمان بالإسلام كان مسمى الإسلام خارجا عنه، كما في حديث جبريل، وإن كان لازما له) (¬3). وقال أيضا: (وقد ذكر الخطابي في شرح البخاري كلاما يقتضي تلازمهما، مع افتراق اسميهما، وذكره البغوي في شرح السنة فقال: قد جعل النبي الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس كذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل الجملة (¬4)، هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) (¬5). ¬

(¬1) رواه أحمد (12404) من حديث أنس، وليس فيه: (والإيمان أن تؤمن بالله ... ). والحديث ضعفه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند، والألباني في ضعيف الجامع الصغير (2280). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 553). (¬3) السابق (7/ 555). (¬4) كذا، والصواب: (تفصيل لجملةٍ هي كلها شيء واحد)، كما عند البغوي. (¬5) السابق (7/ 359) وما بعدها. وكلام البغوي في شرح السنة (1/ 10)، وفي تفسيره لقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *البقرة: 3*.

ونَقل عن أبي طالب المكي قوله: (فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم. فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم، كشيء واحد. كذلك الإيمان والإسلام: أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94] وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى طه:75 [. فمن كان ظاهره أعمال الإسلام، ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقا ينقل عن الملة. ومن كان عقده الإيمان بالغيب، ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد) (¬1).] وقال أبو طالب المكي أيضا: (ومثل الإيمان في الأعمال، كمثل القلب في الجسم، لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا يكون ذو جسم حي لا قلب له، ولا ذو قلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى منفصلان. ومثلهما أيضا مثل حبة لها ظاهر وباطن وهي واحدة. لا يقال: حبتان لتفاوت صفتهما. فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان، وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام وهو من أعمال القلوب). وقد سبق النقل عن شيخ الإسلام في إثبات أن الإيمان يستلزم الإسلام باتفاق، حيث قال: (فإن الإيمان مستلزم للإسلام باتفاقهم، وليس إذا كان الإسلام داخلا فيه يلزم أن يكون هو إياه، وأما الإسلام فليس معه دليل على أنه يستلزم الإيمان عند الإطلاق ... ولو قُدّر أن الإسلام يستلزم الإيمان الواجب فغاية ما يقال: إنهما متلازمان فكل مسلم مؤمن وكل مؤمن مسلم، وهذا صحيح إذا أريد أن كل مسلم يدخل الجنة معه الإيمان الواجب. وهو متفق عليه إذا أريد أن كل مسلم يثاب على عبادته فلا بد أن يكون معه أصل الإيمان). وقال: (فإذا قيل: إن الإسلام والإيمان التام متلازمان لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر كالروح والبدن، فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح وليس أحدهما الآخر. فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حيا إلا مع الروح، بمعنى أنهما متلازمان، لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وإسلام المنافقين كبدن الميت، جسد بلا روح. وما من بدن حي إلا وفيه روح) (¬2). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/ 120 ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 333)، وكلام أبي طالب في "قوت القلوب" (2/ 250). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 367).

المبحث الرابع: ثمرة التفريق بين الإسلام والإيمان

المبحث الرابع: ثمرة التفريق بين الإسلام والإيمان إن للقول بالتفريق بين الإيمان والإسلام ثمرات هي: 1 - بيان أن الإيمان مراتب كما حددها النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - وأن الإيمان أفضل من الإسلام كما أن الإحسان أفضل من الإيمان. 3 - وأن الجنة معلقة بالإيمان والإسلام. 4 - وأن الإيمان أعم من الإسلام من جهة الشمول فكل مؤمن مسلم وليس العكس إلا إذا أتى بالإسلام الواجب فحينئذ يعتبر مسلما مؤمنا وهذا معنى قول السلف: (لا إسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام) والإسلام الواجب يدخل فيه أصل الإيمان على أقل تقدير وهو المعبر عنه بالإسلام الحقيقي ... وأما من جهة الإفراد فلا يطلق إلا على من أتى بالإيمان الواجب وبهذا الاعتبار ... أن الإسلام أعم وأشمل فيشمل المسلم الحقيقي والمنافق والفاسق الملي بإطلاق. 5 - ومن ثمراته أيضا: تقرير الزيادة والنقصان في الإيمان بحسب الأعمال فالمرء يرتقي إلى مرتبة الإيمان والإحسان بأعماله الصالحة وطاعة الله تعالى بامتثال أوامره وترك نواهيه. ولهذا فرت المرجئة من هذا الأصل الأصيل لأنه يأتي على بنيانهم من القواعد! 6 - ومن ثمراته أيضا: التفريق بين الإسلام الحكمي من أنه يطلق على كل من أظهر الإسلام صادقا أو كاذبا ولكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان أو الإسلام الحقيقي الذي يوافق الإيمان الواجب. 7 – وكذلك من ثمراته: أنه يحكم على المرء بالإسلام الحكمي بمجرد إقراره لا يعطى اسم المؤمن إلا لمن جمع بين القول والعمل. وكذا اسم الإيمان ينزع من مرتكب الكبيرة ولكن لا ينزع منه اسم الإسلام على قول من يرى أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان إلى الإسلام. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني - بتصرف- ص: 296

الباب الرابع: درجات الإيمان ومراتبه

تمهيد في هذا المبحث سنبين مراتب الإيمان وطبقات الناس فيه، وماهو الحد الأدنى الذي من أخل به ذهب إيمانه، وما هو الحد الأعلى الذي يبلغ بصاحبه درجة الصديقين. اسم الإيمان وحقيقته: قال الإمام الخطابي (إن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أدنى وأعلى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جميع أجزائها ... ) (¬1). إذاً حقيقة الإيمان واستكماله لا تكون إلا بأداء الفرائض واجتناب المحارم، وأما اسم الإيمان وحكمه فيشمل كل من دخل الإيمان وإن لم يستكمله وهكذا (الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضل فيها بعضهم بعضاً وقد شملهم فيها اسم واحد، من ذلك أنك تجد القوم صفوفاً بين مستفتح للصلاة، وراكع وساجد، وقائم وجالس، فكلهم يلزمه اسم المصلي، فيقال لهم مصلون، وهم مع هذا فيها متفاضلون وكذلك صناعات الناس، لو أن قوماً ابتنوا حائطاً وكان بعضهم في تأسيسه، وآخر قد نصفه، وثالث قد قارب الفراغ منه، قيل لهم جميعاً بناة وهم متباينون في بنائهم وكذلك لو أن قوماً أمروا بدخول دار، فدخلها أحدهم فلما تعتب الباب أقام مكانه، وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها، قيل لهم جميعاً داخلون وبعضهم فيها أكثر مدخلاً من بعض فكذلك المذهب في الإيمان .. هو درجات ومنازل وإن سمي أهله اسماً واحداً) (¬2). أيضاً مما ينبغي تأكيده في هذا المجال أن ما ورد من نفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر هو داخل في هذا المعنى ... أي أن المنفي ليس اسم الإيمان والدخول فيه إنما المنفي هو حقيقة الإيمان وكماله، يقول الإمام أبو عبيد: (فإن قال قائل كيف يجوز أن يقال ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً وإنما وقع معناه هاهنا على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكملوا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال ما هو بولده، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك وإنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة البر، وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أحكامها وأسماؤها فكذلك هذه الذنوب التي ينفي بها الإيمان إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك ولا يقال لهم مؤمنون وبه الحكم عليهم) (¬3) ثم ذكر شواهد شرعية على ذلك. يتبين لنا من النقل السابق أن هناك أمرين أحدهما عام والآخر خاص، فأما العام فهو استحقاق اسم الإيمان لكل من دخل الإيمان، سواء استكمله أم كان معه الحد الأدنى منه، وأما الخاص، فهو إطلاق الإيمان على معنى الكمال لمن عمل حقائق الإيمان. فالمؤمنون متفاوتون في مراتب إيمانهم فمنهم من معه أصل الإيمان (الحد الأدنى منه) دون حقيقته الواجبة، ومنهم من بلغ درجات الكمال الواجب أو المستحب. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – 1/ 94 ¬

(¬1) ((معالم السنن)) بحاشية سنن أبي داود (5/ 56)، وانظر: ((أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري)) (1/ 242، 243). (¬2) ((الإيمان)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 75، 76). (¬3) ((الإيمان)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 90، 91).

المبحث الأول: أصل الإيمان، أو الإيمان المجمل، أو مطلق الإيمان

المبحث الأول: أصل الإيمان، أو الإيمان المجمل، أو مطلق الإيمان أصل الإيمان: وهي الحد الأدنى من الإيمان ولا يوجد الإيمان بدونه وبه ينجو صاحبه من الكفران، ويدخل في زمرة الإيمان، وبه خلاصه من الخلود في النار إن مات عليه. ويطلق عليه أيضا الإيمان المجمل ومطلق الإيمان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك) (¬1). ويسمى بمطلق الإيمان لأن صاحبه داخل في مسمى الإيمان لأنه قد ثبت له أصل الإيمان فيعد من أهله ولكن لا يعطى له اسم الإيمان مطلقا لأن الإيمان إذا أطلق يراد به جميع الشرائع الواجبة والمستحبة واسم المؤمن إذا أطلق فيراد به من أتى بالإيمان الواجب ولكنه يعطى له مطلق الاسم، لصحة نسبة صاحبه إليه، ولو لم يأت بكماله الواجب؛ فهو مؤمن ناقص الإيمان بسبب تقصيره وتفريطه في الواجبات وركوبه المحارم، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بتفريطه وارتكابه الكبائر ... وهذه المرتبة أعني أصل الإيمان يقابلها الكفر فلا يقبل النقصان فإن المخل بها لا تثبت له قدم الإسلام فكل من لم يأت بأصل الإيمان فهو كافر، ولما كان أصل الإيمان يقابل الكفر والكفر يضاده فإن كل ذنب مكفر من قول أو فعل أو اعتقاد يهدم أصل الإيمان ويشمل أصل الإيمان على أقوال ... والاحتراز عن كل ما تخل به من المكفرات أو ما يسمى بنواقض الإيمان. ومن أتى بأصل الإيمان فإنه يثبت له في الدنيا جميع الأحكام الشرعية المترتبة على الإيمان وإن مات عليه فإنه ناج من الخلود في النار، ودخل الجنة لا محالة، عاجلا آم آجلا وإن ارتكب المعاصي وقصر وفرط فهو في مشيئة الله إن شاء عفى عنه؛ فدخل الجنة ابتداء لشرف ما قام بقلبه من توحيد وإخلاص وأدركته شفاعة الشافعين، وإن شاء عذبه ثم دخل الجنة بعد ذلك، فلا شك أن مآله إلى الجنة والحمد لله. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لقي الله لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة)) (¬2). وكل من نفى عنه الشارع اسم الإيمان من أهل المعاصي ... فإنهم من أهل هذه المرتبة فإن نفي الشارع يدل على تقصيره في الإيمان الواجب، فإن الشارع كما ذكرنا لا ينفي اسم الإيمان إلا لترك واجب أو فعل محرم ينافي الإيمان الواجب، ولا يخرج المرء من هذه المرتبة إلا بالكفر والخروج عن الملة والعياذ بالله. قال الإمام أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي رحمه الله: (الكفر ضد أصل الإيمان، لأن للإيمان أصلاً وفروعاً فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر) (¬3). والحاصل: أن للإيمان أصل، لا يتم ولا يصح الإسلام والإيمان إلا به إجماعا (¬4). وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن معلقا على كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله: (الشيخ رحمه الله يوضح ذلك أن أصل الإسلام وقاعدته شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل لا الإبداع فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين .. ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة سواه، كائنا من كان، هذه هي الحكمة التي خلقت لها الجن والإنس وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه لا من الأولين ولا من الآخرين) (¬5) .. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني-397 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 271). (¬2) رواه البخاري (129)، ومسلم (93). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) ((تعظيم قدر الصلاة)) (334) ط/المصرية. (¬4) ((فتاوى الأئمة النجدية)) جمعه وأعده أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فراج (1/ 289) ط1/ 1421هـ دار ابن خزيمة - الرياض. (¬5) ((الدرر السنية في الفتاوى النجدية)) جمع عبد الرحمن قاسم (1/ 518) ط/بدون دار نشر.

المبحث الثاني: الإيمان الواجب، أو الإيمان المفصل، أو الإيمان المطلق، أو حقيقة الإيمان

المبحث الثاني: الإيمان الواجب، أو الإيمان المفصل، أو الإيمان المطلق، أو حقيقة الإيمان الإيمان الواجب (الكمال الواجب): وهو ما زاد على أصل الإيمان من فعل الواجبات وترك المحرمات، وهذا الإيمان هو ما أوجبه الله تعالى على عباده وهو فعل جميع الطاعات واجتناب جميع المحرمات. وقد رتب الله تعالى على الإيمان الواجب الثواب والوعد بالجنة والعتق من النار، والوعيد لمن قصر فيه بترك واجب أو فعل محرم. وفي هذا تقع الزيادة والنقصان والفوز والخسران فلا يعطى لأحد اسم المؤمن المطلق إلا لمن كمل إيمانه بفعل جميع الطاعات وترك جميع المحرمات فإذا قصر في الواجبات أو ارتكب الموبقات فلا يستحق اسم المؤمن على الإطلاق بل يعتبر من أهل الوعيد وإيمانه ناقص. ولهذا قال الإمام أبو عمرو ابن الصلاح الشهرزوري رحمه الله: (ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد) (¬1). والمقصود بإطلاق الاسم على ناقص الإيمان بقيد قول أهل السنة، المعروف (مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته). وعلق الله دخول الجنة بالإيمان الواجب فأهله هم المستحقون لدخوله ابتداء بلا عذاب قال الإمام المروزي رحمه الله: (والمؤمنون الذين زكاهم وأثنى عليهم، ووعدهم بالجنة هم الذين أكملوا إيمانهم باجتناب كل المعاصي، واجتناب الكبائر) (¬2). وقال الحافظ ابن منده رحمه الله: (ولا يكون مستكملا له حتى يأتي بفرعه، وفرعه المفترض عليه، أو الفرائض واجتناب المحارم) (¬3). وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: (والمرتبة الثانية من مراتب الدين: مرتبة أهل الإيمان المطلق، الذين كمل إسلامهم وإيمانهم بإتيانهم ما وجب عليهم وتركهم ما حرم الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب فهذه هي المرتبة الثانية، التي وعد الله أهلها بدخول الجنة والنجاة من النار لقوله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد: 21] فهؤلاء اجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة ففعلوا ما أوجبه الله عليهم وتركوا ما حرمه الله عليهم وهم السعداء أهل الجنة) (¬4). والناس في الإيمان الواجب على قسمين: ¬

(¬1) ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 105). (¬2) ((تعظيم قدر الصلاة)) (371). (¬3) ((الإيمان)) لابن منده (1/ 331). (¬4) ((الدرر السنية)) (1/ 333).

القسم الأول: الذين أتوا بالإيمان الواجب بتمامه ولم ينقصوا منه ولم يزيدوا عليه إضافة إلى الإتيان بأصل الإيمان لأنه الأساس للإيمان الواجب والمستحب ولذا سمي بأصل الإيمان فهو أساس البناء، فهؤلاء هم المؤمنون حقا، المستحقون لوعد الله السالمون من وعيده والفائزون بدخول الجنة ابتداء بلا عذاب بفضل الله وكرمه، وهؤلاء هم المقتصدون كما قال تعالى: وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة من أتى بالإيمان الواجب بحيث أدى ما عليه من الواجبات دون الإتيان بالمستحبات كما في حديث النجدي الذي قال لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما يجب عليه: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح إن صدق)) (¬1) وكذا قوله للأعرابي لما قال: (والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا، ولا أنقص منه): ((من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا)) (¬2). القسم الثاني: الذين زادوا على أصل الإيمان ودخلوا في الإيمان الواجب بفعل ما يجب وترك ما يحرم عليهم، ولكنهم لم يكملوه بل قصروا فيه إما بترك واجب أو بفعل محرم فهؤلاء يشملهم الوعيد وهم ممن قال الله فيهم فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ كأصحاب أصل الإيمان، وهم الذين يطلق عليهم أصحاب الكبائر أو عصاة الموحدين فهؤلاء في مشيئة الله الذين إن ماتوا بلا توبة إن شاء عفى الله عنهم وأدخلهم الجنة ابتداء وإن شاء عذبهم على ذنوبهم ثم يدخلهم الجنة على ما عندهم من إيمان وعمل صالح وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وهم المرجون لأمر الله والدليل على أنهم في المشيئة قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 106] وقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48] وقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث المبايعة: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه .. )) (¬3). بقي أن نعرف حكم مرتكب الصغائر هل ينقص من مرتبة الإيمان الواجب أم لا؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب على هذا التساؤل: (والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة، وهي مكفرة عنه بفعله الحسنات، واجتناب الكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فمن أتى بالإيمان الواجب ولكنه خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقص بذلك درجة عمن لم يأت بذلك) (¬4) .. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني-399 ¬

(¬1) رواه البخاري (46)، ومسلم (11). من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (1397)، ومسلم (14) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (18)، ومسلم (1709). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 353).

المبحث الثالث: الإيمان المستحب، أو الإيمان الكامل بالمستحبات

المبحث الثالث: الإيمان المستحب، أو الإيمان الكامل بالمستحبات الإيمان المستحب: وهو إيمان السابق بالخيرات وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32] الزائد على الإيمان الواجب بفعل المندوبات والمستحبات وترك المكروهات والمشتبهات والسابق إلى فعل الخيرات والاجتهاد في الطاعات والقربات والترقي في مقامات الإحسان فهو دائم المراقبة لله والمشاهدة لآلائه وعظمته وجلاله سبحانه وتعالى يعبد الله كأنما يرى الله سبحانه وتعالى خوفا وتعظيما ومهابة وتوكلا عليه وإخلاصا له مع كمال الحب والذل والخضوع والإنابة والمسكنة. وهذا إيمان الصديقين والمقربين الأبرار فازوا بالمراتب العلية والمقامات السامية برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة. ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم) (¬1). وأصحاب هذه المرتبة يستحقون دخول الجنة ابتداء في أعلى الدرجات بفضل الله وتوفيقه والنقص في هذه المرتبة لا يترتب عليه فسق أو وعيد بعقاب أو نفي لكمال الإيمان الواجب ولكن صاحبه يفوته علو الدرجة وسمو المنزلة عند الله تعالى كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهو مركب – أي الإيمان – من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصا يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة) (¬2). وفي ختام التعريف بالمراتب الثلاث تجدر الإشارة إلى تنبيهين مهمين: التنبيه الأول: كان الأولى لشيخ الإسلام أن يقول في تعريف أصل الإيمان (وهو مركب بأصل لا يوجد بدونه) بدل قوله: (ومن أصل لا يتم بدونه) لأن الإيمان لا يتم بأصل الإيمان وليس هذا مقصود شيخ الإسلام رحمه الله، لأنه بين في أكثر من موضع أن الإيمان التام هو فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات وذكر أيضا أن الإيمان إذا أطلق والمقصود به الإيمان الكامل، هو جميع ما أمر الله به من الواجبات والمستحبات وما نهى عنه من المحرمات والمكروهات فقال رحمه الله: (وهو جميع ما أمر الله به، فهذا هو الإيمان الكامل التام) (¬3) فالإيمان الكامل التام لا يتم إلا بمجموع مراتبه الثلاث .. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني-ص: 402 ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 345) للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية. ضبط نصه وخرج أحاديثه وعلق عليه عمر بن محمود أبو عمر دار ابن القيم/الدمام/ط1/ 1409هـ. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 637). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (16/ 293) وانظر ((الإيمان)) (ص: 22) فما بعدها لتعلم أن مقصود شيخ الإسلام بالتام الصحيح النافع وبغير التام الفاسد فتأمل؟!.

المبحث الرابع: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان

المبحث الرابع: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان أما المؤمن الإيمان المطلق الذي لا يتقيَّد بمعصية ولا بفسوق وبنحو ذلك، فهو الذي أتى بما يستطيعه من الواجبات مع تركه لجميع المحرمات، فهذا هو الذي يطلق عليه اسم الإيمان من غير تقييد، فهذا هو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق؛ والثاني هو الذي لا يصر صاحبه على ذنب، والأول هو المصر على بعض الذنوب. وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة في الفرق بين الإسلام والإيمان، وهو الفرق بين مطلق الإيمان. والإيمان المطلق فمطلق الإيمان هو وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به؛ فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصرا على ذنب أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه. الإيمان والرد على أهل البدع (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد الأعلام- 2/ 4) - عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب فالخلاصة أن مطلق الإيمان يعني أصل الإيمان والإيمان المطلق كمال الإيمان، فالعاصي يعطى مطلق الإيمان ولا يعطى الإيمان المطلق، العاصي يقال مؤمن بتقييد ناقص الإيمان، ولا يعطى الإيمان المطلق فيقال مؤمن بإطلاق فمطلق الإيمان أصل الإيمان، والإيمان المطلق كمال الإيمان. شرح رسالة كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام - عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

المبحث الخامس: دخول الأعمال في هذه المراتب الثلاثة

المبحث الخامس: دخول الأعمال في هذه المراتب الثلاثة فكما سبق إجماع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، وهذا يشتمل مراتب الإيمان الثلاثة وسبق أيضا أن الإيمان إذا أطلق فالمراد به الدين كله وهو يشمل على شعب وهذه الشعب جامعة لكل أمور الإيمان الواجبات والمنهيات فصار الإيمان بهذه الشعب مشتملا على جميع الطاعات فرضها ونفلها، مما يجب على القلب واللسان والجوارح، على ترك المحظورات المحرمة منها والمكروهة ولكن هذه الشعب تتفاوت، فمنها ما يدخل في أصل الإيمان فلا يصح الإيمان إلا به ومنها ما يدخل في الإيمان الواجب ومنها ما يدخل في الإيمان المستحب ... أما أصل الإيمان فإنه يشتمل على شعب ولا يصح إلا باكتمالها وهي: على القلب: معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إجمالا والتصديق والانقياد له وتواطؤ القلب مع اللسان في الإقرار بوحدانية الله والخضوع والمحبة مع الرضا والتسليم والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لطاعته وعدم معاندته به. وعلى اللسان: الإقرار بالشهادتين وما يتوقف على اللسان من الأعمال الداخلة في أصل الإيمان كأذكار الصلاة مثلا. وعلى الجوارح: ما يكفر تاركها كالصلاة أو مانعها كالزكاة بإجماع الصحابة وما سواهما محل خلاف بين العلماء. إضافة إلى البراءة من الشرك وأهله والتجرد من المكفرات وكل ما يناقض الإيمان من قول أو فعل أو اعتقاد مكفر. وضابط دخول الأعمال في أصل الإيمان: (أن كل طاعة يكفر تاركها ففعلها من أصل الإيمان كالتصديق والإقرار والانقياد القلبي والصلاة، وكل محرم يكفر فاعله فتركه من أصل الإيمان؛ كالاستهزاء بالدين والدعاء والاستغاثة بغير الله والحكم بغير شرع الله والتحاكم إلى الطاغوت وغيره) ... وأن ضد أصل الإيمان الكفر، فلا يجتمع أصل الإيمان، مع ما يناقضه من الأمور المكفرة. وأما الإيمان الواجب: فكل الشعب الواجبة داخلة فيه إضافة إلى شعب أصل الإيمان وضابط ما يدخل في الإيمان الواجب من الأعمال سواء كان فعلا أو تركا: أن كل عمل ورد في تركه وعيد ولم يكفر تاركه ففعله من الإيمان الواجب. وكل عمل ورد في فعله وعيد ولم يبلغ حد الكفر فتركه من الإيمان الواجب (كترك الفواحش والموبقات من الزنا والربا والسرقة وشرب الخمر والكذب والغيبة والنميمة والقذف وأكل أموال الناس بالباطل وإيذاء الجار .. وغير ذلك). ومما يدخل في حكم الواجب، ما يتعين تعلمه من العلم بالواجبات والنواهي التي تدخل في أصل الإيمان والإيمان الواجب وكذا وجوب تعلم كل واجب آن أوان الشروع فيه؛ كقاصد الحج عند حلول موسمه، والنكاح عند إرادته وهكذا جميع الواجبات يجب على المرء العلم بشروطها وأركانها ومفسداتها قبل الشروع فيها، وهذا يدخل ضمن الفرض العيني على عوام المسلمين لا ينبغي التفريط فيه فإن التقصير في تعلم ذلك قد يوجب الكفر والعياذ بالله إذا كان يسبب جهلا بأصل الإيمان ونواقضه، ومفسقا إذا كان بسبب جهلا بالمحرمات والمنهيات، وفسادا لصحة العبادات إذا كان جهلا بنواقضها ومفسداتها. وأما الإيمان المستحب: فيشمل على جميع شعب الإيمان المستحبة من نوافل العبادات والطاعات مما لم يوجبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فكل ما سوى الواجبات فهو من الإيمان المستحب. وضابط دخول الأعمال فعلا كانت أو تركا – أن كل عمل رغب فيه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورتب عليه الثواب الجزيل ولم يرد وعد في تركه بعقوبة فهو من الإيمان المستحب. وكذلك كل فعل نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نهيا لم يصل إلى حد التحريم كالمكروهات فتركها من الإيمان المستحب ودليل على ورع تاركه وشدة التزامه بأوامر الشرع وعلو إيمانه. إضافة إلى أن ترك الأمور المشتبهة التي يشتبه فيها الحلال والحرام من الإيمان المستحب، فالذين يريدون المراتب العلية وبلوغ مرتبة الكمال المستحب يبتعدون عن كل شيء يشم منه رائحة الحرام من قريب أو بعيد ويدعون ما لا بأس به خشية ما فيه بأس ورعا في نفوسهم وزهدا في الدنيا وملذاتها وشهواتها، فهؤلاء هم أصحاب النفس المطمئنة الذين اطمأنت نفوسهم لما عند الله وصرفوا عينهم عن متاع الدنيا فقد شغلتهم الآخرة عن الدنيا، فلا هم لهم إلا نيل رضا الله وجزيل ثوابه وهم مع ذلك يتركون ما ينافي الكمال المستحب من أمور الاعتقاد والسلوك كطلب التداوي لما فيه من منافاة التوكل وكلية الاعتماد على الله والسؤال عند الحاجة وعدم إظهار الشكوى والضجر لما فيه من الإخلال بالصبر الجميل، ومن نظر إلى سير هؤلاء الصالحين وعباد الله الصادقين رأى العجب العجاب من أخبار القوم نسأل الله أن يجمعنا بهم وأن يحشرنا في زمرتهم وأن يوفقنا للاقتداء بهم إنه ولي ذلك والقادر على كل شيء .. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني- بتصرف- 405

المبحث السادس: حكم التقصير في كل مرتبة من المراتب الثلاث

المبحث السادس: حكم التقصير في كل مرتبة من المراتب الثلاث اعلم أن التقصير في هذه المراتب يكون بترك واجب أو فعل محرم وهذا تعريف الذنوب على الإطلاق مع وجود تفاوت بين مراتب الذنوب فمن الذنوب ما هو كفر مخرج من الملة ينافي أصل الإيمان ومنها ما هو كفر أصغر وكبيرة وفسق ينافي كمال الواجب ويتفاوت حكم التقصير في كل مرتبة من مراتب الإيمان. فمن قصر في أصل الإيمان بترك واجب من الواجبات الداخلة في أصل الإيمان كترك الإقرار بالشهادتين وترك الصلاة وانتفاء التصديق وغيرهما مما تدخل في واجبات أصل الإيمان سواء كانت من أعمال القلب أو اللسان أو الجوارح. ... وأن كل أمر وردت الشريعة بكفر تاركه فهو من واجبات أصل الإيمان. هذا بالنسبة لترك واجب من واجبات أصل الإيمان. وكذلك فإن أصل الإيمان ينهدم بفعل محرم يضاده وهو: كل أمر نهى عنه الشارع وكفر فاعله ... وأن كل محرم كفر الشارع فاعله فتركه من أصل الإيمان وفعله ينافي أصل الإيمان ويخرج صاحبه من الملة، ومن هذه الأمور: سب الله والرسول، والاستهزاء بالدين، وبغض الدين والرسول صلى الله عليه وسلم، ومحاربة الإسلام، ودعاء غير الله والذبح له والتحاكم إلى الطاغوت وكل أمر مكفر حكم الشرع بكفر فاعله، وقائله ومعتقده. وأما بالنسبة للإيمان الواجب: فإن التقصير فيه يكون بترك واجب من الواجبات أو انتهاك محرم من المحرمات مما لا تصل إلى حد الكفر كما هو الحال في أصل الإيمان. فمن ترك واجبا أو فعل محرما استحق الوعيد وصار من فساق الملة ولا يعد من أصحاب الإيمان الكامل الواجب لأن إيمانه نقص لما ارتكبه من تقصير في واجب أو انتهاك في محرم من كبائر الذنوب فلا يعطى له اسم الإيمان على الإطلاق ... وأن اسم المؤمن المطلق لا يعطى إلا لمن أدى جميع الواجبات وترك جميع المحرمات بل يعطى مطلق الاسم فقال مؤمن ناقص الإيمان مع بيان صفة إيمانه بأنه ناقص أو يعطى له اسم الإيمان على التقييد فيقال مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. كما هو صريح النصوص الشرعية مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. )) (¬1) أي وهو كامل الإيمان وقد روى عن بعض السلف أنهم قالوا يخرج من الإيمان إلى الإسلام وهذا القول مع أن فيه سلب اسم الإيمان بالكلية فإنه ليس المشهور الوارد عن السلف بل المشهور إبقاء اسم الإيمان عليه مع التقييد أي سلب الاسم المطلق عنه لا مطلق الاسم وهو المعروف بالفاسق الملي لبقائه في دائرة الملة الإسلامية تميزا ولو وجه هذا القول في حق مرتكب الكفر والشرك والنفاق الأصغر لكان متوجها لإطلاق اسم الكفر عليه من قبل الشرع مع أن المقصود به غير المخرج من الملة كقول النبي صلى الله عليه وسلم ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) (¬3) وغيرها من النصوص الواردة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (48)، ومسلم (64). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (4402)، ومسلم (66). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

فلو قيل في مثل هذه الذنوب: إن صاحبها يخرج من الإيمان إلى الإسلام، لكان له وجه من الدليل. لأن الأصغر من الكفر والشرك والنفاق أكبر من الكبائر، لما فيه من منافاة كمال التوحيد الواجب والعياذ بالله والله تعالى أعلم. ... وأن صاحب الكبيرة من أهل الوعيد مع كونه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ومآله إلى الجنة لا محالة بما معه من الإيمان والتوحيد. وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبائر خلافا للوعيدية (الخوارج والمعتزلة) فإن أهل السنة والجماعة لا يكفرون أحدا بذنب غير مكفر إلا إذا استحل ذلك الذنب فعندئذ يحكم بكفره بسبب استحلاله لا بسبب ذنبه وسيأتي إيضاح مسألة الاستحلال كفر محض إذا أضيف إلى أي ذنب مهما كان درجته يصير كفرا .. وهذا من الأصول المقررة في معتقد أهل السنة والجماعة وقد عبر عنه الإمام الطحاوي بقوله (ولا نكفر مسلما بذنب إلا إذا استحله) (¬1) وقال الحافظ الحكمي رحمه الله في منظومته الشهيرة (سلم الوصول إلى علم الأصول) (¬2). ولا نكفر بالمعاصي مؤمنا إلا مع استحلال له لما جنى وأما الإيمان المستحب: فلا يعتبر التقصير فيه إثما، فإن الله تعالى لم يوجبه على عباده ولكن رغبهم فيه ليصلوا إلى أعلى درجات الكمال في الإيمان ويفوزوا بالدرجات العلى وينالوا الرحمة والرضوان والفردوس والجنان ويحوزوا ولاية الرحمن فقد ثبت في الحديث القدسي قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)) (¬3) .. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني- بتصرف- ص: 408 ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 107). (¬2) ((معارج القبول شرح سلم الوصول)) للحافظ الحكمي (3/ 1039) تحقيق: عمر محمود أبو عمر ط1/ 1418هـ دار ابن القيم - الدمام. (¬3) رواه البخاري (6502). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن

الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن وهي أصل آخر إليه يرجع الاختلاف في هذه المسألة، أعني مسألة الإيمان. فإن من لم يفرق بين الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان لم يتصور اجتماع الثواب والعقاب، والطاعة والمعصية، والحسنة والسيئة، والسنة والبدعة في الشخص الواحد. وفي هذا يقول الشيخ ابن تيمية في (العقيدة الواسطية) عن أهل السنة والجماعة: (ولا يسلبون الفاسق الملِّي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى: وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنَا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مَّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كاَنَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مَّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [النساء: 92]. وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)) (¬1). ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرة. فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يُسلب مطلق الاسم) اهـ. فإن الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، الذي تناول فعل المأمور واجتناب المحذور والمحظور. أما مطلق الإيمان، فهذا يشمل الإيمان الكامل، والإيمان الناقص الذي صاحَبَه ذنبٌ كَبُرَ أو صَغُر دون الكفر أو الشرك النافي لأصل الإيمان، فهو الحد الأدنى من الإيمان، وهو القدر الذي يخلص به من الكفر. فمطلق الإيمان، هو ما بقى فيه أصل الإيمان، وثبت لصاحبه اسم الإيمان، وصح نسبة الإيمان إليه ولو لم يكمله. مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص: 28 ¬

(¬1) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وإن ظاهر العبد – عند أهل السنة والجماعة – هو الوجه الآخر لقلبه وباطنه، وأنه انعكاس مباشر له لا يتخلف عنه ولا يغايره، وإذا كان الباطن صالحاً كان الظاهر كذلك، وإذا كان الباطن فاسداً كان الظاهر كذلك فاسداً بحسبه؛ لأن الإيمان أصله في القلب، وهو: قول القلب من المعرفة والعلم والتصديق. عمل القلب من الإذعان والانقياد والاستسلام. ولكن من لوازم هذا الإيمان – إذا تحقق في القلب – تحقيقها في الظاهر، فالظاهر لا يتخلف عن الباطن ولا يضاده؛ لأنه ترجمان الباطن، ومرتبط به ارتباطاً وثيقاً. فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيماً إلا باستقامة الباطن، وكذلك العكس. والإيمان المطلوب شرعاً هو الإيمان الظاهر والباطن، وتلازم عمل القلب بعمل الجوارح؛ لأنه لا يصح إيمان العبد بواحدة دون الأخرى؛ فمن زعم وجود العمل في قلبه دون جوارحه؛ لا يثبت له اسم الإيمان؛ لأن الأعمال والأقوال الظاهرة من لوازم الإيمان التي لا تنفك عنه، قال الله تبارك وتعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22]. وقال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 81]. وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)) (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح هذا الحديث: (فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد؛ فإذا كان الجسد غير صالح، دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح؛ فعلم أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمناً، حتى أن المكره إذا كان في إظهار الإيمان؛ فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه؛ كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك إلا بقوله، ولا بفعله قط؛ فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب؛ فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه) (¬3). ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 198) (13071). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 220): رواه أحمد وفيه علي بن مسعدة وثقه يحيى بن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره. والحديث حسنه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)): (2841). (¬2) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 121).

وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في شرحه لهذا الحديث أيضاً: (إن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه. فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب. ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، مبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك؛ فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم ... فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئاً من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهية معصيته ... وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده؛ فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب ... ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله؛ فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهراً وباطناً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح الجوارح؛ فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله، وإرادة الله ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله) (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب، فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي التصديق لما في القلب، ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح؛ كما قال أبو هريرة – رضي الله عنه – إن القلب ملك، والأعضاء جنوده؛ فإن طاب الملك، طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده) (¬2). وقال أيضاً: (فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء إنه إذا أقر بالواجب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان، ... وأن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع؛ سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزء من الإيمان) (¬3). ¬

(¬1) انظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 210) في شرح (الحديث السادس) من الأربعين النووية. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 644). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 616).

وقال في موضع آخر: (وهنا أصول تنازع الناس فيها: منها أن القلب هل يقوم به تصديق، أو تكذيب، ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس؛ أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه، ولم يتكلم قط بالإسلام، ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف؛ فهذا لا يكون مؤمناً في الباطن، وإنما هو كافر) (¬1). وقال كذلك: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها؛ مثل أن يؤدي الأمانة، أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه؛ من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم) (¬2). وقال - أيضاً- رحمه الله: (إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة؛ كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان؛ فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً، وجود هذا كاملاً؛ كما يلزم من نقص هذا، نقص هذا؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع) (¬3). وقال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله: (وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد. وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه. وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله. وإذا زال تصديق القلب، لم ينفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة. وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق؛ فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة؛ فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده؛ كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه، واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول؛ بل ويرون به سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به. وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب؛ فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولاسيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم ... فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد؛ أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق ... وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبيينه؛ بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه، والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى؛ فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء؛ كما أن اعتقاد التصديق، وإن سمي تصديقاً؛ فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته) (¬4). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 120). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 621). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 582). (¬4) ((كتاب الصلاة وحكم تاركها)) لابن قيم الجوزية (ص54).

وقال العلامة المحقق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: (ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن؛ فإن كان الظاهر منخرماً؛ حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً؛ حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات؛ بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً، والأدلة على صحته كثيرة جداً، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل، وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق، إلى غير ذلك من الأمور؛ بل هو كلية التشريع، وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة) (¬1). الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري -بتصرف – ص91 ويتحقق الالتزام الباطن بقبول الشريعة، والرضى بها، والتسليم بأحكامها مع تحقيق الالتزام بالعمل الظاهر، الذي هو أيضاً شرط في أصل الدين من حيث الجملة. ومن هنا يفترق حكم المؤمن عن المنافق في أحكام الآخرة، من جهة النظر إلى عدم تحقيق الالتزام الباطن بالنسبة للمنافق، ولو كان قد حقق الالتزام الظاهر. كما أنه يتفق حكم المسلم والمنافق في أحكام الدنيا، من جهة النظر إلى تحقيق الالتزام الظاهر بالنسبة للمنافق أيضاً، مع أنه لم يحقق الالتزام الباطن. فلابد في أحكام الآخرة من تحقيق الالتزام الباطن والظاهر. وأما أحكام الدنيا فيكفي فيها تحقيق الالتزام الظاهر، لأنه لا سلطان لأحد غير الله على البواطن. وكلامنا هنا في حقيقة أصل الدين هو فيما يتعلق بالإيمان المنجي في أحكام الآخرة، لا مجرد الإسلام الحكمي في الدنيا، وعلى هذا فلابد من تحقيق الالتزام بالشريعة باطناً وظاهراً. 1 - الالتزام الباطن: وهو الفارق بين المؤمن والمنافق ... فإن المؤمن مع التزامه الظاهر بالشرع ملتزم به باطناً أيضاً. أما المنافق فإنه ولو التزم في الظاهر بالشريعة لكنه في الباطن والحقيقة غير ملتزم بها. ولهذا كان معظم سياق الآيات الواردة في بيان اشتراط هذا الالتزام فيما يختص بالمنافقين، أو أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم ملتزمون بحكم الله، مع أنهم في الحقيقة على غير ذلك. من ذلك قول الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. ففي هذه الآية نفي للإيمان عمن لم يتحاكم إلى شرع الله، فيقبله ويرضى به، بحيث لا يجد في نفسه اعتراضاً أو حرجاً من ذلك، بل يسلم له تسليماً. يقول الإمام ابن القيم: الرضى بالقضاء الديني الشرعي واجب. وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان. فيجب على العبد أن يكون راضياً به، بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض، قال الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً وهذا حقيقة الرضى بحكمه (¬2). ¬

(¬1) ((الموافقات)) للشاطبي (1/ 367). (¬2) ((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (2/ 192).

ويقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 60]. وهذه الآية كالتي قبلها، فيها نفي الإيمان عمن يريد التحاكم إلى غير شريعة الله، وأن ادعاءهم الإيمان مع تحاكمهم إلى غير الشريعة زعم باطل وادعاء متناقض، إذ كيف يتحاكمون إلى الطاغوت وهو كل ما عدا شرع الله، ثم يزعمون مع ذلك أنهم مؤمنون بشرع الله. يقول الإمام ابن كثير: هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد. وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا. (¬1). ومما جاء أيضاً في بيان حقيقة المنافقين قول الله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 47 - 51]. وهذه الآيات أيضاً دعوى من المنافقين أنهم مؤمنون، مع أنهم إذا دعوا إلى حكم الله أعرضوا عنه، فأي إيمان لمن لم يقبل حكم الله ويسلم به. والآيات لا تدل على أن إعراضهم عن حكم الله كان معلناً ظاهراً لكل أحد، وإلا كانوا كافرين كفراً ظاهراً، كما أنهم كافرون كفراً باطناً. لكنهم قد يستخفون بذلك، مع إظهارهم قبول حكم الله، لئلا يطبق عليهم حكم المرتدين عن دين الله. لأن المؤمن لا يمكن أن يرضى بحكم غير حكم الله على الحقيقة، ولو حصل منه مخالفة له في الظاهر، لشهوة أو نحوها. ولهذا قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36]. فالرضى بدين الله والتحاكم إليه شرط في تحقيق أصل الدين الذي لا نجاة بدونه. وهذا الرضى لا يكفي فيه مجرد التصديق، بل لابد مع التصديق من الانقياد والتسليم. بل قد يكون الكافر مصدقاً بالرسالة ولا يحكم بإيمانه حتى يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. بل الكافر المعاند لابد أن تقوم عليه الحجة بصدق الرسالة ويعلم ذلك، كما كان أبو طالب مصدقاً برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يقول: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 520).

لكن كان كافراً لعدم التزامه وتسليمه بما علم أنه حق وصدق. (¬1) ومن زعم أن الإيمان هو مجرد التصديق فلابد أن يتناقض في مثل حال أبي طالب، ممن عرف الحق وأيقن به. وإن زعم الفرق بين التصديق بالشيء والعلم بأنه حق تناقض أيضاً، لأن هذا مما لا يمكن تصوره عند جميع الخلائق. (¬2) وقد صدق كثيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا بذلك وأقروا، ومع ذلك لم يحكم بإسلامهم، لعدم رضاهم بالشريعة وانقيادهم لها واتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم. من ذلك ... ما ورد من قصة أبي حارثة، وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نصارى نجران. قال ابن القيم عنه: (وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والى جنبه أخ له يقال: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة بل أنت تعست، فقال ولم يا أخي؟ فقال والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك). قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فقه هذه القصة: (وفيها أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته، فإذا تمسك بدينه بعد هذه الإقرار لا يكون ردة منه ونظير هذا قول الحبرين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل فلما أجابهما قالا نشهد أنك نبي قال: (فما يمنعكما من اتباعي؟) قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود، ولم يلزمهما بذلك الإسلام، ونظير ذلك شهادة عمه أبي طالب بأنه صادق، وأن دينه من خير أديان البرية ديناً، ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام. ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط. بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ظاهراً وباطناً) (¬3). ويقول الإمام ابن حجر في فوائد قصة قدوم وفد نجران: (وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام) (¬4). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان حقيقة الإيمان، وأنه لا يكفي فيه مجرد التصديق، بل لابد من الالتزام بشرع الله والتحاكم إليه: (لفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين: أحدهما: الإخبار. وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار. ¬

(¬1) انظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (3/ 41 - 43). (¬2) انظر كلاماً نفيساً عن هذه المسألة في ((التسعينية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية من الوجه الثامن عشر إلى الوجه الثاني والعشرين. (¬3) ((زاد المعاد)) لابن قيم الجوزية (3/ 629 - 630)، (3/ 638 - 639). وانظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 368)، و ((السيرة النبوية الصحيحة)) لأكرم العمري (ص542)، وأصل القصة في الصحيحين. وانظر: البخاري (4380)، ومسلم (2420). من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. (¬4) ((فتح الباري)) (8/ 95).

والثاني: إنشاء الالتزام. كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]. فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول، وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر لا يقال فيه آمن له، بخلال الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمناً للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين) (¬1). 2 - الالتزام الظاهر: لابد من التنبيه هنا إلى أن الغاية من الكلام عن الالتزام الظاهر وكونه من أصل الدين هي بيان الحكم الشرعي لهذه المسألة، كما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، عند الكلام عن حقيقة الإيمان، واشتراط تلازم الظاهر والباطن. لكن دون الخوض في أحكام المعينين وتبين أحوالهم. حيث إن بعض الطوائف قد رتبوا على هذه القضية الحكم على الناس بالكفر ابتداء، وأن كل من لم يتحققوا من إسلامه بشروط وحدود ابتدعوها فالأصل فيه الكفر، كما ذهب آخرون إلى القول بالتوقف في الحكم بكفرهم أو إسلامهم، حتى يتبينوا تحقيق المعين لأمور جعلوها حداً للإسلام، مع أنه لا تلازم بين الحكم بثبوت وصف الإسلام للمعين وبين ما تسميه تلك الطوائف الحد الأدنى للإسلام. إن قضية الالتزام الظاهر وكونه من أصل الدين غير قضية الحكم على المعينين. ويتبين ذلك بأمرين: الأول: إن الالتزام الظاهر في حقيقته التزام تفصيلي، وإنما هو داخل في أصل الدين من حيث الجملة، بخلاف الالتزام الباطن، فإنه التزام إجمالي يكفي في تحقيقه مجرد إرادته إرادة إجمالية، بالرضى بدين الإسلام والعزم على الالتزام به. ولهذا لا يعذر أحد – ممن بلغته الدعوة – بجهل أو تأول أو إكراه فيما يتعلق بالالتزام الإجمالي، بخلاف الالتزام التفصيلي، فإنه يشترط في الالتزام به على التفصيل قيام الحجة التفصيلية على المعين وقدرته على التزامه. ومعنى ذلك أن الناس يختلفون فيه بحسب بلوغ الحجة الرسالية وبحسب قدراتهم بعد ذلك، سواء في ذلك ما يتعلق بمعرفة جميع المأمورات، أو ما يتعلق بمعرفة المنهيات، ومنها أعمال الشرك الظاهر التي قد تخفى على بعض الناس، وقد يفعلونها بغير قصد ما يكون به الشرك. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 530 - 531).

وعليه فلا يمكن اشتراط حد أدنى للإسلام. لأنه لا يمكن معرفة حال المعين وكونه لم يحقق الالتزام الظاهر إلا من جهة تلبسه بناقض، لأن الأصل المفترض فيمن أقر بالشهادتين أنه ملتزم بمقتضاهما. فإن كان نقضه للالتزام من جهة تلبسه ببعض أعمال الشرك مثلاً فلابد من إقامة الحجة عليه، والتبين عن حاله، وتعريضه للتوبة أولاً، فإن أبى وأصر كان كافراً، وإن رجع فهو مسلم. ولا إشكال في معاملته قبل ذلك بمقتضى الإسلام، لأن ذلك ظاهر حاله، إلا من كان من حاله على يقين. الثاني: إن هناك فرقاً بين الحكم المطلق وحكم المعين. فالحكم المطلق يتعلق بالوصف الشرعي وبيان مناط الحكم فيه. وأما حكم المعين فلابد فيه من توفر شروط وانتفاء موانع. وهذه القاعدة هي أصل قواعد أهل السنة فيما يتعلق بتكفير المعين ولهذا كان الإمام أحمد- رحمه الله – مع تكفيره للجهمية الذين يقولون إن القرآن مخلوق من حيث الحكم المطلق لا يكفر كل معين منهم بذلك. بل كان رحمه الله يدعو للخليفة وغيره ممن حبسه ويستغفر لهم، وقد حللهم من كل ما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين لم يجز الاستغفار لهم (¬1). ولأجل عدم التفريق بين الحكم الشرعي المطلق وحكم المعين ضل فريقان فيما يتعلق بالالتزام الظاهر وعلاقته بالحكم على المعين، فذهب فريق إلى أنه لابد للحكم للمعين بالإسلام من تبين الالتزام الظاهر، ثم اختلفوا في حده، فمنهم من قال هو ترك النواقض، ومنهم من تجاوز فاشترط أعمالاً محددة جعلها الحد الأدنى لثبوت وصف الإسلام. وذهب المرجئة إلى نقيض هذا الاتجاه فألغوا اعتبار الالتزام الظاهر من جهة الالتزام بجنس العمل بالكلية من أصل الدين لنفس الشبهة، وهي أن الالتزام الظاهر لو كان داخلاً في أصل الدين لكان شرطاً في إجراء الأحكام على المعينين. والحقيقة أنه ... لا تلازم بين الأمرين من هذه الجهة. وهكذا نرى أن شبهة المرجئة والخوارج واحدة من حيث الأصل وهي قولهم إن العمل إذا كان من الإيمان فيلزم أن ينتفي الإيمان بانتفاء بعضه، وإلى هذا ذهب الخوارج، أو لا ينتفي الإيمان بذلك فلا يكون العمل من الإيمان، وإلى هذا ذهب المرجئة. إذ عندهم أن الإيمان شيء واحد يذهب كله أو يبقى كله، لا يزيد ولا ينقص، وهم في هذا لم يفرقوا بين جنس العمل الذي اشترطه أهل السنة لتحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة وبين جزء العمل الذي يكون تخلفه لمماً أو كبيرة تنقص الإيمان لكنها لا تهدمه. وإنما ينتفي الإيمان بالنواقض. ونعود الآن إلى بيان حقيقة الالتزام الظاهر المشروط في أصل الدين فنجد أنه يتضمن أمرين: الأول: ترك النواقض. ولا خلاف في اشتراطه لتحقيق الالتزام الظاهر وبقاء وصف الإسلام، وأن من تلبس بناقض، وتوفرت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه فهو كافر، لكنهم قد يختلفون في حقيقة الكفر، بناء على الاختلاف في حقيقة الإيمان. فمن لا يعتبر العمل من الإيمان لا يكفر بتركه، لأن تركه عنده ليس كفراً. ومن يسوغ دعاء الأموات فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يكفر من يفعل ذلك، لأن ذلك عنده ليس كفراً، وإنما هو من المجاز العقلي. ونحو ذلك. الثاني: الالتزام بجنس العمل، وهو إجماع أهل السنة والجماعة، ومعنى قولهم: (الإيمان قول وعمل) أي أن مجرد الإقرار لا يكفي لثبوت وصف الإسلام وبقائه للمعين دون الالتزام بالعمل. ¬

(¬1) انظر للتفصيل في ذلك ((مجموع الفتاوى)) (12/ 484 - 501) وهذا اقتباس منه.

وهذا هو مناط النزاع بين أهل السنة والمرجئة، الذين بنوا قولهم على أصول فلسفية نظرية تجريدية، وانتهوا إلى أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان وحقيقته، كما أنه ليس لازماً له. بل يكون الإيمان عندهم كاملاً متحققاً في الباطن ولو لم يعمل الإنسان أي طاعة ولم يترك أي معصية كما صرحوا بذلك. وأصل خطئهم في مسمى الإيمان أنهم أرادوا أن يجعلوا للإيمان حداً تعرف به حقيقته وماهيته التي لابد أن يستوي فيها جميع أفراد المعينين من المؤمنين، بحيث لا يقبل النقص ولا الزيادة (¬1). ولا يكون ذلك عندهم إلا بمعرفة المقومات الذاتية التي لا يمكن تحققه إلا بها، وبتخلف بعضها تنتفي حقيقة الإيمان وماهيته بالكلية. بخلاف الخواص العرضية - كما يقولون- التي ليست شرطاً في تحقيقه وإنما هي ثمرة من ثمراته. يقول الرازي مستشكلاً كلام الإمام الشافعي في أن الفاسق لا يخرج من الإيمان، مع قوله إن العمل من الإيمان: قال الشافعي رضي الله عنه: الفاسق لا يخرج عن الإيمان، وهذا في غاية الصعوبة، لأنه لو كان الإيمان اسماً لمجموع أمور فعند فوات بعضها فقد فات ذلك المجموع فوجب أن لا يبقى الإيمان (¬2). ثم نظروا بحسب هذه القاعدة إلى العمل، فوجدوا أن من نحكم بإسلامهم يختلفون في الالتزام به، وأن من ترك بعض الأعمال لا يحكم بكفره، ولم يجدوا حدًّا أدنى من الأعمال مشروطة لثبوت وصف الإسلام، ولم يفرقوا بين ما يشترط لتحقيق الإيمان وما يشترط لثبوت وصف الإسلام للمعين، فنفوا أن يكون الالتزام بالعمل داخلاً في أصل الدين بالكلية. يقول أحدهم في ذلك: (الدرجة الثالثة: أن يوجد التصديق بالقلب والشهادة باللسان دون الأعمال بالجوارح، وقد اختلفوا في حكمه. فقال أبو طالب المكي: العمل من الإيمان ولا يتم دونه. وادعى الإجماع فيه. واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه، كقوله تعالى: الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إذ يدل على أن العمل وراء الإيمان، لا من نفس الإيمان، وإلا فيكون العمل في حكم المعاد. والعجيب أنه قد ادعى الإجماع في هذا ... وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر، والقائل بهذا قائل بعين مذهب المعتزلة (¬3)، إذ يقال له من صدق بقلبه وشهد بلسانه، ومات في الحال فهل هو في الجنة؟ فلابد وأن يقول نعم، وفيه حكم بوجود الإيمان دون العمل (¬4)، فنزيد ونقول لو بقي حياً ودخل عليه وقت صلاة فتركها ثم مات أو زنى ثم مات فهل يخلد في النار؟ (¬5). ¬

(¬1) بل وأصل ضلال كل من خالف أهل السنة في مسمى الإيمان كما سبق بيانه. (¬2) ((أصول الدين)) للرازي (ص128). (¬3) هذا مما يدل على جهل هؤلاء بحقيقة قول السلف في مسمى الإيمان، فإن أهل السنة لا يلتزمون بقول المعتزلة ولا يلزمهم، وقد دخل سوء الفهم على هؤلاء من عدم تفريقهم بين جزء العمل وجنس العمل، وما هو المشروط في تحقيق أصل الدين عند أهل السنة منهما. (¬4) وهل يكلف المؤمن بالعمل قبل أن يجب عليه؟ بل يعكس عليه السؤال ويقال لو بقي حياً وامتنع عن العمل فهل يكفي مجرد إقراره، وهذا مناط النزاع. (¬5) بدأ الآن في إبطال أن يكون للإيمان حد أدنى من الأعمال، وإذا ثبت ذلك عنده فليست الأعمال كلها شرطاً في أصل الدين، بناء على قاعدتهم في أن حقيقة الإيمان ثابتة، يستوي فيها جميع أفراد المعينين.

فإن قال نعم فهذا مراد المعتزلة. وإن قال لا فهو تصريح بأن العمل ليس ركناً من نفس الإيمان، ولا شرطاً في وجوده، ولا في استحقاق الجنة (¬1)، وإن قال أردت به أن يعيش مدة طويلة ولا يصلي ولا يقدم على شيء من الأعمال الشرعية فما ضابط تلك المدة، وما عدد تلك الطاعات التي بتركها يبطل الإيمان، وما عدد الكبائر التي بارتكابها يبطل الإيمان، وهذا لا يمكن التحكم بتقديره، ولم يصر إليه صائر أصلاً) (¬2). ويقول شارح (العقائد النسفية) في بيان حقيقة الإيمان وماهيته، ونتيجة ذلك فيما يتعلق بالالتزام بالعمل: (إن حقيقة الإيمان لا تزيد ولا تنقص، لما مر من أنه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، حتى إن من حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه باق على حاله، لا تغير فيه أصلاً) (¬3). بل إنهم تجاوزوا مجرد إخراج العمل من مسمى الإيمان فاختلفوا في الإقرار، وهل هو شرط للإيمان داخل في حقيقته أم أنه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط. وذلك بناء على التزامهم بأصلهم في تصور ماهية الإيمان، وقولهم في أن جزء الماهية لا يمكن تخلفه، وإلا تخلفت الماهية بالكلية. يقول صاحب (شرح المسايرة): لا وجود للشيء إلا بوجود ركنه والإنسان مؤمن على التحقيق من حين آمن بالله تعالى إلى أن مات، بل إلى الأبد، وإنما يكون مؤمناً بوجود الإيمان وقيامه به حقيقة، ولا وجود للإقرار في كل لحظة. فدل على أنه مؤمن بما معه من التصديق القائم بقلبه، الدائم بتجدد أمثاله، لكن الله أوجب الإقرار ليكون شرطاً لإجراء أحكام الدنيا، إذ لا وقوف للعباد على ما في الضمائر، فتجري أحكام الآخرة على التصديق بدون الإقرار، حتى إن من أقر ولم يصدق فهو مؤمن عندنا، وعند الله تعالى هو من أهل النار. ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو كافر عندنا وعند الله مؤمن من أهل الجنة (¬4). ... يكفي في بيان عدم اعتبارهم العمل من الإيمان، وعدم اشتراطهم الالتزام به كلية للنجاة في الآخرة، ولا مجال للتوسع في النقول عنهم في ذلك، فكلهم على ذلك وهو مقتضى وصفهم بالإرجاء. لكن الذي نريد بيانه هنا هو ما استندوا عليه لبيان مذهبهم أن الإيمان حقيقة واحدة هي التصديق، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأن الأعمال، بل والإقرار عند بعضهم ليست شرطاً في تحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني - بتصرف – ص61 ¬

(¬1) لأن ركن الماهية لا يمكن تخلفه كما يقولون. ونعود إلى التنبيه إلى أن هذا الإشكال مبني على عدم فهم قول أهل السنة في العمل المشروط في أصل الدين، وأنه جنس العمل لا آحاد العمل، وإنما يعرف تركه في الظاهر من جهة الإصرار على ذلك. (¬2) ((سفينة الراغب ودفينة المطالب)) محمد راغب باشا (ص199). (¬3) ((شرح العقائد النسفية)) لسعد الدين التفتازاني (ص444 - 445). (¬4) ((المسامرة بشرح المسايرة)) للكمال بن الهمام (ص292 - 293).

الفصل الثالث: مراتب الدين الثلاثة

المبحث الأول: مرتبة الإسلام الإسلام لغة: هو الانقياد والخضوع والذل. يقال: أسلم واستسلم، أي انقاد (¬1). الإسلام شرعا: له معنيان: الأول: الانقياد والاستسلام لأمر الله الكوني القدري طوعا وكرها. وهذا لا ثواب فيه. قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83]. أي خضع وانقاد (¬2). الثاني: إخلاص العبادة لله – عز وجل – وحده لا شريك له. وهذا الإسلام هو الذي يحمد عليه العبد ويثاب (¬3). وقد عرفه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – بقوله: (هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله) (¬4). والإسلام بالمعنى الثاني ينقسم إلى عام وخاص: العام: هو الدين الذي جاء به الأنبياء جميعا. وهو عبادة الله وحده لا شريك له. والخاص: هو ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (لفظ الإسلام يجمع معنيين: أحدهما: الانقياد والاستسلام. والثاني: إخلاص ذلك، وإفراده .. وعنوانه قول: لا إله إلا الله. وله معنيان: أحدهما: الدين المشترك وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي بعث به جميع الأنبياء، كما دل على اتحاد دينهم نصوص الكتاب والسنة. والثاني: ما اختص به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين، والشرعة، والمنهاج .. وله مرتبتان: إحداهما: الظاهر من القول والعمل. وهي المباني الخمسة. والثانية: أن يكون ذلك الظاهر مطابقا للباطن (¬5). فالحاصل أن الإسلام في شريعتنا لإطلاقه حالتان: الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان. فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله، كقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 19] وقوله: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]. وقوله: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]. ونحو ذلك من الآيات. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء)) (¬6). ¬

(¬1) ((الصحاح)) (5/ 1952). و ((معجم مقاييس اللغة)) (3/ 90). و ((لسان العرب)) (12/ 293). و ((القاموس المحيط)) (1448). (¬2) ((تفسير البغوي)) (1/ 323) و ((تفسير ابن كثير)) (1/ 503). (¬3) ((لسان العرب)) (12/ 932). و ((معجم مفردات ألفاظ القرآن)) (246). و ((الإيمان الأوسط لابن تيمية، المطبوع ضمن مجموع الفتاوى)) (7/ 635). و ((شرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين)) (ص: 64). (¬4) ((ثلاثة الأصول)) (ص: 64) مع شرحها لابن عثيمين. ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 33). (¬5) ((الإيمان الأوسط المطبوع ضمن مجموع الفتاوى)) (7/ 635). و ((مجموع الفتاوى)) (1/ 14) و (19/ 117). (¬6) رواه مسلم (145). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. قلت: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. قلت: فأي الإيمان أفضل؟ قال: الهجرة. قلت: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد)) (¬1). ففي هذا الحديث فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بما فسر به الإيمان، وجعل الإيمان من الإسلام وهو أفضله. الحالة الثانية: أن يكون مقترنا بالإيمان. فيراد به حينئذ الأعمال والأقوال الظاهرة. كقوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 14]. وكقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: يا رسول الله، مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال صلى الله عليه وسلم: ((أو مسلما)) ثلاث مرات (¬2). وكحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه السابق، حيث جعل الإسلام الأقوال والأعمال الظاهرة. والإيمان أقوال وأعمال القلوب الباطنة. وغير ذلك من الآيات والأحاديث (¬3). وإنما سمى الله سبحانه وتعالى الأعمال الظاهرة إسلاما؛ لما فيها من الاستسلام لله والخضوع والانقياد لأمره ونهيه، والالتزام بطاعته، والوقوف عند حدوده (¬4). أركان الإسلام: جاء في حديث جبريل ... أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل. وأول ذلك: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهو عمل اللسان، ثم إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وهي منقسمة إلى عمل بدني: كالصلاة، والصوم، وإلى عمل مالي: وهو إيتاء الزكاة، وإلى ما هو مركب منهما: كالحج (¬5). وإنما ذكر هاهنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها، كما دل على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان)) (¬6). ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 114) (17068). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 64): رجاله ثقات، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2/ 92): رجال إسناده ثقات رجال الشيخين فهو صحيح إن كان أبو قلابة سمعه من عمرو فإنه مدلس. (¬2) رواه البخاري (27)، ومسلم (150). (¬3) ((معارج القبول للحكمي)) (2/ 18). (¬4) ((مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله)) (3/ 17) و (5/ 21). (¬5) ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 98). (¬6) رواه البخاري (8)، ومسلم (16). والأحاديث في بيان هذه الأركان الخمسة كثيرة جدا وهي على نوعين، نوع شامل لجميعها، ونوع يختص كل ركن منها. انظر: معارج القبول (2/ 29 - 32).

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس كالأركان والدعائم لبنيانه .. والمقصود تمثيل الإسلام بنيانه، ودعائم البنيان هذه الخمس، فلا يثبت البنيان بدونها، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان، فإذا فقد منها شيء، نقص البنيان وهو قائم لا ينقض بنقص ذلك، بخلاف نقض هذه الدعائم الخمس؛ فإن الإسلام يزول بفقدها جميعها بغير إشكال، وكذلك يزول بفقد الشهادتين، والمراد بالشهادتين الإيمان بالله ورسوله. وقد جاء في رواية البخاري تعليقا: ((بني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله)) (¬1) وذكر بقية الحديث. وفي رواية لمسلم: ((على خمس: على أن يوحد الله)) وفي رواية له: ((على أن يعبد الله ويكفر بما دونه)) (¬2). وبهذا يعلم أن الإيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام. وأما إقام الصلاة، فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام، ففي صحيح مسلم عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (¬3). وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف وذهبت طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدا أنه كافر بذلك) (¬4). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام هو الخمس)) (¬5) يريد أن هذا كله واجب داخل في الإسلام، فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل، لا يكتفي فيه بالإيمان المجمل، ولهذا وصف الإسلام بهذا. وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب. وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور. وعن أحمد في ذلك نزاع، وإحدى الروايات عنه أنه يكفر من ترك واحدة منها وعنه رواية ثانية: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط. ورواية ثالثة: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة إذا قاتل الإمام عليها. ورابعة: لا يكفر إلا بترك الصلاة. وخامسة: لا يكفر بترك شيء منهن. وهذه أقوال معروفة للسلف. ومما يوضح ذلك أن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان كان في آخر الأمر بعد فرض الحج، والحج فرض سنة تسع أو عشر (¬6). سبب اختصاص هذه الأركان الخمسة بكونها أركان الإسلام دون غيرها من الواجبات: إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس؛ فلما خصت هذه الخمس بكونها هي الإسلام، وعليها بني، دون غيرها من الواجبات؟ والجواب: لأن هذه الأركان الخمسة هي أظهر شعائر الإسلام، وبقيام العبد بها يتم استسلامه، ولهذا كانت واجبة على الأعيان دون سواها. قال الإمام ابن الصلاح رحمه الله: (وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله) (¬7). وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الجواب على هذا السؤال حيث عقد له فصلا في كتابه الإيمان. قال فيه: ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7533). قال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 370): وأما حديث أبي هريرة في قصة بلال فأسنده المؤلف في كتاب صلاة الليل من طريق أبي زرعة عنه. (¬2) رواه مسلم (16). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه مسلم (82). (¬4) ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 145 - 147). (¬5) لا أصل له. (¬6) ((الإيمان)) (286)، و ((شرح العمدة)) (ص: 86 - 87). (¬7) ((صيانة صحيح مسلم)) (ص: 134).

(قد أجاب بعض الناس أن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها. وبقيام العبد بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد القيادة. والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقا، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادرا عليه أن يعبد الله بها مخلصا له الدين، وهذه هي الخمس. وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب المصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما: 1) أن يكون فرضا على الكفاية كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة، وحكم وفتيا، وإقراء وتحديث، وغير ذلك. 2) وإما أن يجب بسبب حق للآدميين. يختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه، وإذا حصلت المصلحة، أو الإبراء، إما بإبرائه، وإما بحصول المصلحة. فحقوق العباد مثل قضاء الديون، ورد المغصوب، والعواري، والودائع، والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض، إنما هي حقوق الآدميين، وإذا أبرئوا منها سقطت، وتجب على شخص دون شخص، في حال دون حال. لم تجب عبادة محضة لله على كل عبد قادر، ولهذا يشترك فيها المسلمون واليهود والنصارى، بخلاف الخمسة فإنها من خصائص المسلمين. وكذلك ما يجب من صلة الأرحام، وحقوق الزوجة، والأولاد، والجيران، والشركاء، والفقراء، وما يجب من أداء الشهادة، والفتيا، والإمارة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض لجلب منافع ودفع مضار، لو حصلت بدون فعل الإنسان لم تجب. فما كان مشتركا فهو واجب على الكفاية، وما كان مختصا فإنما يجب على زيد دون عمرو. لا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحد قادر سوى الخمس. فإن زوجة زيد وأقاربه ليست زوجة عمرو وأقاربه. فليس الواجب على هذا، مثل الواجب على هذا، بخلاف صوم رمضان، وحج البيت، والصلوات الخمس، والزكاة، فإن الزكاة وإن كانت حقا ماليا فإنها واجبة لله. ولهذا وجب فيها النية. ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه. ولم تطلب من الكفار. وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته. ويطالب بها الكفار) (¬1). أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السنة والجماعة وعند مخالفيهم لسهل بن رفاع العتيبي-1/ 53 ¬

(¬1) ((الإيمان)) (297) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (363) ذكره مختصرا.

المبحث الثاني: مرتبة الإيمان

المبحث الثاني: مرتبة الإيمان (والإيمان) هي المرتبة الثانية في الحديث المذكور والإيمان لغة التصديق قال إخوة يوسف لأبيهم وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] يقول بمصدق وأما في الشريعة فلإطلاقه حالتان: (الحالة الأولى) أن يطلق على الأفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله كقوله عز وجل: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257] وقوله: وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68] وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ َ [الحديد: 16] وقوله: وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [إبراهيم: 11] وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 23] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (3260)، ومسلم (111). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. بلفظة ((مسلمة)) بدلاً من ((مؤمنة)). ورواه بلفظه: الترمذي (3092)، والنسائي (5/ 234)، وأحمد (1/ 79). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطنا وظاهر في قوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] وقوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] وقوله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 15 - 17] وفسرهم بمن اتصف بذلك كله في قوله عز وجل: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 1 - 5] وقال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 133 - 136] وفي قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156 - 157]، وقال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ

هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1 - 11] وقال الله تعالى: طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [النمل: 1 - 3] وغيرها من الآيات وقد فسر الله تعالى الإيمان بذلك كله في قوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]. وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله في حديث وفد عبد القيس في الصحيحين وغيرهما فقال: ((آمركم بالإيمان بالله وحده قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا: الله ورسوله أعلم قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تؤدوا من المغنم الخمس)) (¬1) وقد جعل صلى الله عليه وسلم صيام رمضان إيمانا واحتسابا من الإيمان وكذا قيام ليلة القدر وكذا أداء الأمانة وكذا الجهاد والحج واتباع الجنائز وغير ذلك وفي الصحيحين: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (¬2). وهذه الشعب المذكورة قد جاءت في القرآن والسنة في مواضع متفرقة منها ما هو من قول القلب وعمله ومنها ما هو من قول اللسان ومنها ما هو من عمل الجوارح. ولما كانت الصلاة جامعة لقول القلب وعمله وقول اللسان وعمله وعمل الجوارح سماها الله تعالى إيمانا في قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 143] يعني صلاتكم كما يعلم من سبب نزول هذه الآية ... والآيات والأحاديث في هذا الباب يطول ذكرها وإنما أشرنا إلى طرف منها يدل على ما وراءه وبالله التوفيق. وهذا المعنى هو الذي قصده السلف الصالح بقولهم رحمهم الله: إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل وإن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم. ¬

(¬1) رواه البخاري (53) وهذا لفظه، ومسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (9)، ومسلم (35). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا وممن أنكر ذلك على قائله وجعله محدثا ممن سمى لنا سعيد بن جرير وميمون بن مهران وقتادة وأيوب السختياني والنخعي والزهري وإبراهيم ويحيى بن أبي كثير والثوري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. قال الثوري: هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره (¬1) وقال الأوزاعي: كان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار أما بعد: فإن الإيمان فرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان. (¬2) ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان وهذا المعنى هو الذي أراد البخاري إثباته في كتاب الإيمان وعليه بوب أبوابه كلها فقال: (باب أمور الإيمان) و (باب الصلاة من الإيمان)، و (باب الزكاة من الإيمان) و (باب الجهاد من الإيمان) و (باب حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان) و (باب الحياء من الإيمان) و (باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان) و (باب اتباع الجنائز من الإيمان) (وباب أداء الصلوات الخمس من الإيمان) وسائر أبوابه. وكذلك صنع النسائي في (المجتبى) وبوب الترمذي على حديث: وفد عبد القيس (باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان) وكلام أئمة الحديث وتراجمهم في كتبهم يطول ذكره وهو معلوم مشهور ومما قصدوه بذلك الرد على أهل البدع ممن قال هو مجرد التصديق فقط كابن الراوندي ومن وافقه من المعتزلة وغيرهم إذ على هذا القول يكون اليهود أقروا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستيقنوها ولم يتبعوه مؤمنين بذلك وقد نفى الله الإيمان عنهم وقال جهم بن صفوان وأتباعه: هو المعرفة بالله فقط وعلى هذا القول ليس على وجه الأرض كافر بالكلية إذ لا يجعل الخالق سبحانه أحد وما أحسن ما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته الكافية الشافية قالوا وإقرار العباد بأنه ... خالقهم هو منتهى الإيمان والناس في الإيمان شيء واحد ... كالمشط عند تماثل الأسنان فاسأل أبا جهل وشيعته ومن ... والاهمو من عابدي الأوثان وسل اليهود وكل أقلف مشرك ... عبد المسيح مقبل الصلبان واسأل ثمود وعاد بل سل قبلهم ... أعداء نوح أمة الطوفان واسأل أبا الجن اللعين أتعرف ... الخلاق أم أصبحت ذا نكران ... واسأل شرار الخلق أقبح أمة ... لوطية هم ناكحوا الذكران ... واسأل كذاك إمام كل معطل ... فرعون مع قارون مع هامان ... هل كان فيهم منكر للخالق ... الرب العظيم مكون الأكوان ... فليبشروا ما فيهموا من كافر ... هم عند جهم كاملو الإيمان ... وقالت المرجئة والكرامية الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب فيكون المنافقون على هذا مؤمنين وقد قال الله تعالى: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 84 - 85] وغير ذلك من الآيات وهم قد نطقوا بالشهادتين بألسنتهم فقط وكذبهم الله عز وجل في دعواهم في غير موضع من القرآن. ¬

(¬1) رواه عبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 311)، والآجري في ((الشريعة)) (ص151). (¬2) رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم في كتاب: الإيمان، باب: الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم ((بني الإسلام على خمس)). ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 172)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) 1/ 78، وقال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/ 20): وهو إسناد صحيح ورجاله ثقات.

وقال آخرون التصديق بالجنان والإقرار باللسان وهذا قول مخرج لأركان الإسلام الظاهرة المذكورة في حديث جبريل وهو ظاهر البطلان. وذهب الخوارج والعلاف ومن وافقهم إلى أنه الطاعة بأسرها فرضا كانت أو نفلا وهذا القول مصادم لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم لوفود العرب السائلين عن الإسلام والإيمان وكل ما يقول له السائل في فريضة هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع شيئا. (¬1) وذهب الجبائي وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه الطاعات المفروضة من الأفعال والتروك دون النوافل وهذا أيضا يدخل المنافقين في الإيمان وقد نفاه الله تعالى عنهم وقال الباقون منهم العمل والنطق والاعتقاد والفرق بين هذا وبين قول السلف الصالح أن السلف لم يجعلوا كل الأعمال شرطا في الصحة بل جعلوا كثيرا منها شرطا في الكمال كما قال عمر بن عبد العزيز فيها من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان والمعتزلة جعلوها كلها شرطا في الصحة والله أعلم. (الحالة الثانية) أن يطلق الإيمان مقرونا بالإسلام وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل هذا وما في معناه وكما في قوله تعالى وَالذِّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات [النساء: 57] في غير موضع من كتابه وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الجنازة: ((اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان)) (¬2) وذلك أن الأعمال بالجوارح وإنما يتمكن منها في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير قول القلب وعمله ... والحاصل أنه إذا أفرد الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ بل كل منهما على انفراده يشمل الدين كله وإن فرق بين الاسمين كان الفرق بينهما بما في هذا الحديث الجليل والمجموع مع الإحسان هو الدين كما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله دينا وبهذا يحصل الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث التي فيها تفسير الإيمان بالإسلام والإسلام بالإيمان وبذلك جمع بينه وبينها أهل العلم. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص745 (ينظر تفصيل ذلك، في الكتاب الثامن من هذه الموسوعة) ¬

(¬1) رواه البخاري (46)، ومسلم (11). من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. (¬2) رواه أبو داود (3201)، والترمذي (1024)، وابن ماجه (1498)، وأحمد (2/ 368)، والحاكم (1/ 511). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي في ((التلخيص)). وقال الألباني في ((أحكام الجنائز)) (ص124): وهو كما قالا. وقال في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

المبحث الثالث: مرتبة الإحسان

المبحث الثالث: مرتبة الإحسان حقيقة الإحسان لغة وشرعا، وبيان ركنه العظيم: أ- الإحسان لغة: مصدر أحسن يحسن إحسانا، وهو ضد الإساءة، وهو إجادة العمل وإتقانه وإخلاصه. ويطلق على معنيين: الأول: متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، وفي كذا، إذا حسنته وكملته. الثاني: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى كذا، أي: أوصلت إليه ما ينتفع به (¬1). ب- الإحسان شرعا: يطلق على نوعين: النوع الأول: إحسان إلى عباد الله. وهو على قسمين (¬2): القسم الأول: واجب، وهو أن تقوم بحقوقهم الواجبة على أكمل وجه. مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات. ويدخل في هذا القسم: الإحسان للبهائم، والإحسان في القتل، لما في صحيح مسلم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته)) (¬3). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب، وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب. والإحسان في ترك المحرمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ [الأنعام: 120].فهذا القدر من الإحسان فيها واجب. وأما الإحسان في الصبر على المقدورات، فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تسخط ولا جزع. والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم، القيام بواجبات الولاية كلها، والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب. والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها من غير زيادة في التعذيب، فإنه إيلام لا حاجة إليه. وهذا النوع هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، ولعله ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال). القسم الثاني: الإحسان المستحب: وهو ما زاد على الواجب من بذل نفع بدني، أو مالي، أو علمي، فيساعد من احتاج إلى مساعدته ببدنه، أو بماله، أو بعلمه، فهذا كله داخل في باب الإحسان، وأجل أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك، كما قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34 - 35]. النوع الثاني: الإحسان في عبادة الله عز وجل. وهو المراد هنا. ¬

(¬1) ((الصحاح)) (5/ 2099). و ((معجم مقاييس اللغة)) (2/ 57). و ((لسان العرب)) (13/ 117). و ((القاموس المحيط)) (1535). و ((المفهم)) (1/ 142). و ((فتح الباري)) (1/ 120). (¬2) ((بهجة قلوب الأبرار للشيخ عبد الرحمن السعدي)) (156). و ((شرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين)) (116). و ((حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول)) (138). (¬3) رواه مسلم (1955).

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - في شرح حديث جبريل: قوله (الإحسان): (هو مصدر، تقول أحسن يحسن إحسانا. ويتعدى بنفسه وبغيره تقول أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد لأن المقصود إتقان العبادة. وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلا محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسان العبادة: الإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود) (¬1). وقد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬2). والإحسان أعلى مراتب الدين وأعظمها. وأهله هم المستكملون لها السابقون للخيرات، المقربون في علو الدرجات. وإذا كان الإسلام هو الأركان الظاهرة عند التفصيل واقترانه بالإيمان. والإيمان إذ ذاك هو الأركان الباطنة، فإن الإحسان هو تحسين الظاهر والباطن. وأما عند الإطلاق فإنه يشمل الدين كله. وقد جاء الإحسان في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، تارة مقرونا بالإسلام، وتارة مقرونا بالإيمان، وتارة مقرونا بالتقوى، أو بهما جميعا، وتارة بالجهاد، وتارة بالعمل الصالح مطلقا، وتارة بالإنفاق في سبيل الله وهو الجهاد (¬3). قال الله تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 112]. وقال تعالى: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان: 22]. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا [الكهف: 30]. وقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 93]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]. وقال تعالى: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195]. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد ذكره لهذه الآيات: (وقد يذكر مفردا كقوله تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 26]. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله عز وجل في الجنة (¬4)، وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان، لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النظر إلى الله عيانا في الآخرة. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (1/ 120). (¬2) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 125) و ((معارج القبول)) (2/ 273 – 274). (¬4) الحديث رواه مسلم (181). من حديث صهيب رضي الله عنه.

وعكس هذا ما أخبر الله به عن جزاء الكفار في الآخرة: كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15]. وجعل ذلك جزاء لحالهم في الدنيا، وهو تراكم الران على قلوبهم، حتى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة (¬1). وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله: (ولما تكرر الإحسان في القرآن، وترتب عليه هذا الثواب العظيم، سأل عنه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم. فأجابه ببيانه، ليعمل الناس عليه، فيحصل لهم هذا الحظ العظيم) (¬2). ج- للإحسان ركن واحد (¬3) بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله. ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬4). فأخبر صلى الله عليه وسلم أن مرتبة الإحسان على درجتين، وأن المحسنين في الإحسان على درجتين متفاوتتين: الدرجة الأولى: وهي أعلاهما. وهي (أن تعبد الله كأنك تراه). يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قربه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية، والخوف، والهيبة، والتعظيم، ولذا جاء في رواية أبي هريرة عند مسلم بلفظ: ((أن تخشى الله كأنك تراه)) (¬5). ويوجب أيضاً: النصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها. وهذه العبادة – أي عبادة الإنسان ربه كأنه يراه – عبادة طلب وشوق؛ وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثا عليها، لأن هذا هو الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرب إليه سبحانه وتعالى. الدرجة الثانية: أن تعبد الله كأنه يراك، والمعنى إذا لم تستطع أن تعبد الله كأنك تراه وتشاهده رأي العين، فانزل إلى المرتبة الثانية، وهي أن تعبد الله كأنه يراك. فالأولى: عبادة رغبة وطمع، والثانية: عبادة خوف ورهب. وكلاهما. مرتبتان عظيمتان. لكن الأولى أكمل وأفضل، فعبادة الله على وجه المراقبة والطلب أكمل من عبادته على وجه الخوف والرهب (¬6). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬7). قيل: إنه تعليل للأول، فإن العبد إذا أمر بمراقبة الله في العبادة، واستحضار قربه من عبده، حتى كأن العبد يراه، فإنه قد يشق ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بان الله يراه، ويطلع على سره وعلانيته وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره، فإذا حقق هذا المقام، سهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحديق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيته، حتى كأنه يراه. وقيل: بل هو إشارة إلى أن من شق عليه أن يعبد الله كأنه يراه، فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه، فليستحي من نظره إليه). إلى أن قال رحمه الله: (وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام، ويتفاوت أهل هذا المقام بحسب قوة نفوذ البصائر) (¬8). ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 125). (¬2) ((المفهم)) (1/ 144). (¬3) ((ثلاثة الأصول)) (116). (¬4) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (10). (¬6) ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (117). (¬7) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 128 - 129) وانظر: ((المفهم)) (1/ 143). و ((فتح الباري)) (1/ 120) و ((معارج القبول)) (2/ 274 - 275).

وقال النووي رحمه الله: (قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (¬1) هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة الله وهو يعاين ربه – سبحانه وتعالى – لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به. فقال صلى الله عليه وسلم اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان، فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد بإطلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذه الحال؛ للاطلاع عليه. وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه. فمقصود الكلام: الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه – تبارك وتعالى - في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك) (¬2). فالحاصل: أن الإحسان أعلى مراتب الدين، وهو يشمل تحسين الظاهر والباطن، ويوجب الخشية والهيبة والتعظيم لله سبحانه، والنصح في العبادة، والإخلاص فيها، ومحبة الله، والإنابة إليه، والخشوع والخضوع له. وأهل الإحسان هم الصفوة الخلص من عباد الله المؤمنين، ولهذا ورد في الثناء عليهم في القرآن الكريم ما لم يرد في غيرهم. وهم درجات متفاوتة بحسب قوة استحضار قرب الله ومراقبته ومحبته وخشيته في قلوبهم. أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السنة والجماعة وعند مخالفيهم لسهل بن رفاع العتيبي-1/ 53 ¬

(¬1) رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) (1/ 157 - 158) وانظر: ((أعلام الحديث)) (1/ 181). و ((معالم السنن)) (5/ 71).

الباب الخامس: المعاصي وأثرها على الإيمان، وأسباب ترك الإيمان

تمهيد ذهب جمهور أهل السنة إلى انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، وحكى الإمام ابن القيم الإجماع على ذلك حيث قال: والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف وبالاعتبار. (¬1). واستدلوا لذلك بعدة أدلة منها: قوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31]. قال القرطبي: لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر، دل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء (¬2). وقال الإمام الشوكاني: أي إن تجتبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها نكفر عنكم سيئاتكم أي ذنوبكم التي هي صغائر، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها وجعل اجتنابها شرطاً لتكفير السيئات (¬3). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 342)، وانظر: ((الجواب الكافي)) (ص186). (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 158). (¬3) ((فتح القدير)) (1/ 457، 458).

قوله عز وجل: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم: 32]، هذه الآية صريحة الدلالة في تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر على خلاف بين العلماء في المقصود باللمم. فقد اختلف السلف في معنى (اللمم) على قولين مشهورين، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (فأما اللمم فقد روي عن جماعة من السلف: أنه الإلمام بالذنب مرة، ثم لا يعود إليه، وإن كان كبيراً: قال البغوي: هذا قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عطاء عن ابن عباس. والجمهور على أن اللمم مادون الكبائر، وهو أصح الروايتين عن ابن عباس، كما في (صحيح البخاري) من حديث طاووس عنه قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (¬1) (¬2) .. إلى أن قال رحمه الله: والصحيح: قول الجمهور: أن اللمم صغائر الذنوب، كالنظرة، والغمزة، والقبلة، ونحو ذلك. هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو قول أبي هريرة وعبد الله بن مسعود، وابن عباس ومسروق والشعبي، ولا ينافي هذا قول أبي هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى: ((إنه يلم بالكبيرة ثم لا يعود إليها)) فإن (اللمم) إما أنه يتناول هذا وهذا ويكون على وجهين، كما قال الكلبي، أو أن أباهريرة وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة – ولم يصر عليها، بل حصلت منه فلتة في عمره – باللمم، ورأيا أنها إنما تتغلظ وتكبر وتعظم في حق من تكررت منه مراراً عديدة، وهذا من فقه الصحابة – رضي الله عنهم – وغور علومهم، ولا ريب أن الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث، وإنما يخاف العنت على من اتخذ الذنوب عادته، وتكرر منه مراراً عديدة (¬3)، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الآيات الدالة على انقسام الذنوب (¬4) ومنها قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] وقوله عز وجل: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف: 49] وقوله تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53] 3 - قوله صلى الله عليه وسلم ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) (¬5). قال النووي: وتنقسم -أي المعاصي- باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح ما لم يغش كبيرة فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر ومالا تكفره كبائر (¬6) ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (6243)، ومسلم (2657). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 158). (¬3) ((مدارج السالكين)) (1/ 343 - 345)، وانظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 255، 256). (¬4) ((الفتاوى)) (11/ 659). (¬5) رواه مسلم (233). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 85). (¬7) رواه مسلم (228). من حديث عثمان رضي الله عنه.

4 - ومن الأدلة على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر الأحاديث الكثيرة في ذكر الكبائر من مثل حديث أنس رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: ((الشرك بالله وقتل النفس، وعقوق الوالدين .. الحديث)) (¬1) (فخص الكبائر ببعض الذنوب، ولو كانت الذنوب كلها كبائر لم يسغ ذلك) (¬2) فالنصوص السابقة كما ترى صريحة في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ومع ذلك فقد نقل عن بعض الأشاعرة إنكارهم تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وقالوا: إن سائر المعاصي كبائر، منهم أبو إسحاق الإسفرائيني، والباقلاني، وإمام الحرمين وابن القشيري والتقي السبكي، بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة واختاره في (تفسيره) (¬3)، ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية، وحكاه القاضي عياض عن المحققين (¬4) ولقد لخص الإمام ابن بطال أدلتهم تلخيصاً جيداً فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر. قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر واجباً باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة، غير الكفر لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48] , وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31]، أن المراد الشرك وقد قال الفراء: من قرأ كبائر فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] ولم يرسل إليهم غير نوح، قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة لجوازه على الكبيرة (¬5) واستدلوا أيضاً بقول ابن عباس: (كل ما نهى الله عنه كبيرة) (¬6) وأجاب الجمهور عن هذه الاستدلالات بما يلي: 1 - قال ابن أبي العز الحنفي: (ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة لما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر، وهذا فاسد، لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر) (¬7). فيكفي في بيان بطلان هذا القول مخالفته للنصوص الصريحة ... 2 - أما قولهم: لا ذنب عندنا يغفر واجباً باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبير، غير الشرك، وتأويلهم قوله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31] أن المراد الشرك لقراءة (كبير) فيقال لهم: وماذا عن قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتنبت الكبائر)) (¬8)، ((ما لم تغش الكبائر)) (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (5977)، ومسلم (88). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (ص5). (¬3) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (ص: 5). (¬4) انظر: ((فتح الباري)) (10/ 409)، و ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 85). (¬5) نقلاً عن ((فتح الباري)) (10/ 409)، وانظر: ((تفسير القرطبي)) (5/ 159). (¬6) رواه الطبري في ((تفسيره)) (8/ 214)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) 1/ 273، قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 410) أخرجه إسماعيل القاضي والطبري بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس. (¬7) ((شرح الطحاوية)) (ص419)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 657). (¬8) رواه مسلم (233). (¬9) رواه مسلم (233) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وماذا يجاب عن النصوص الصريحة في التفريق بين الصغائر والكبائر مثل قوله عز وجل: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف: 49]. 3 - أما استدلالهم بقول ابن عباس رضي الله عنه فيجاب عنه بأنه قد ورد أيضاً عن ابن عباس أنه قال: (كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة) (¬1) فالأولى أن يكون المراد بقوله: (نهى الله عنه) محمولاً على نهي خاص وهو الذي قرن به وعيد، فيحمل مطلق كلامه رضي الله عنه على مقيده جمعاً بين قوليه (¬2) وقال البيهقي في تعليقه على رواية ابن عباس: (كل ما نهى الله عنه كبيرة: فيحتمل أن يكون هذا في تعظيم حرمات الله والترهيب عن ارتكابها، فأما الفرق بين الصغائر والكبائر فلابد منه في أحكام الدنيا والآخرة) (¬3). وطعن القرطبي في الرواية من جهة المتن. فقال: (ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز وجل عنه كبيرة لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر) (ثم ذكر الآيات) إلى أن قال: (فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن؟) (¬4) ولوضوح الأدلة في الفرق بينهما اعتبر الحافظ ابن حجر القول الآخر شاذاً حيث قال: (وقد اختلف السلف، فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر وصغائر، وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني فقال: ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله عنه كبيرة .. ) (¬5). وقال أبو حامد الغزالي في كتابه (الوسيط في المذهب): إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه وقد فهما من مدارك الشرع (¬6). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 103 ¬

(¬1) ذكر هذا الأثر ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 410) وقال: وأخرج - ابن أبي حاتم - من وجه آخر متصل لا بأس برجاله. (¬2) انظر: ((فتح الباري)) (10/ 410). (¬3) ((شعب الإيمان)) (2/ 94). (¬4) نقلاً عن: ((فتح الباري)) (10/ 410). (¬5) ((فتح الباري)) (1/ 409). (¬6) نقلاً عن ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 85).

المطلب الأول: الصغائر

المسألة الأولى: تعريف الصغائر الصغائر: جمع صغيرة وهي: ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة. (¬1) وقال ابن تيمية رحمه الله: (أقل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل وغيرهما وهو أن الصغيرة ما دون الحدين حد الدنيا وحد الآخرة، وهو معنى قول من قال ما ليس فيها حد في الدنيا وهو معنى قول القائل كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار فهو من الكبائر، ومعنى قول القائل وليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة) (¬2) وقال ابن النجار رحمه الله: (والصغائر هي كل قول أو فعل محرم لا حد فيه في الدنيا ولا وعيد في الآخرة) (¬3) التعريفات الاعتقادية لسعد بن محمد آل عبد اللطيف – ص 220 ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 526). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 650). (¬3) ((شرح الكواكب)) (2/ 388).

المسألة الثانية: الإصرار على الصغائر

المسألة الثانية: الإصرار على الصغائر والصغائر من المعاصي والذنوب؛ قد تتحول إلى الكبائر لأسباب نذكر منها: 1 - الإصرار والمداومة عليها. 2 - استصغار المعصية واحتقارها. 3 - الفرح بفعل المعصية الصغيرة والافتخار بها. 4 - فعل المعصية ثم المجاهرة بها؛ لأن المجاهر غير معافى. 5 - أن يكون فاعل المعصية الصغيرة عالماً يقتدى به؛ لأنه إذا ظهر أمام الناس بمعصيته كبر ذنبه. إن المعاصي والذنوب عند أهل السنة والجماعة: تؤثر في الإيمان من حيث نقصه بحسب قلتها وكثرتها، لا من حيث بقاؤه وذهابه؛ فافتراق المعاصي بمفردها والإصرار عليها لا يخرج من الدين إن لم يقترن بها سبب من أسباب الكفر، كاستحلال المعصية، أو الاستهانة بحكمها سواء كان بالقلب، أو اللسان، أو الجوارح. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص202

المطلب الثاني: الكبائر

المسألة الأولى: تعريف الكبيرة والفرق بينها وبين الصغيرة اختلف العلماء في تعريفها فبعضهم يعبر عن جانب منها من خلال الاستدلال ببعض النصوص دون بقيتها، وحاول البعض الآخر أن يأتي بتعريف شامل وسنستعرض بعض هذه التعريفات باختصار ثم نأتي بالقول الصحيح من خلال كلام الأئمة المحققين (¬1). 1 - قال الرافعي في (الشرح الكبير): (الكبيرة هي الموجبة للحد، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة، هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، ولكن الثاني أوفق لما ذكروه من تفصيل الكبائر (¬2). قال الحافظ في (الفتح): وكيف يقول عالم إن الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في (الصحيحين) بالعقوق واليمين الغموس وشهادة الزور وغير ذلك (¬3). وقال بعدما جمع ما ورد التصريح بأنه من الكبائر: (إذا تقرر ذلك عرف فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحد، لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحد (¬4). أما من عرفها بأنها ما ورد فيها الوعيد فهو أقرب إلى الصحة ... قال الحافظ في (الفتح): ولا يدل عليه إخلاله بما فيه الحد، لأن كل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد على فعله. (¬5). 2 - ومن الأقوال في تعريفها: أنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، قال شيخ الإسلام عن هذا القول: (يوجب (هذا القول) أن تكون الحبة من مال اليتيم، ومن السرقة، والخيانة والكذبة الواحدة، وبعض الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرة، وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر، إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة ....... إلخ) (¬6). 3 - وعرفها إمام الحرمين بقوله: (كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقاقة الديانة) (¬7). ومثله قول أبي حامد الغزالي: (كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف ووجدان ندم تهاوناً واستجراء عليها فهي كبيرة، وما يحمل على فلتات اللسان ولا ينفك عن ندم يمتزج بها وينغص التلذذ بها فليس بكبيرة) (¬8). واعتُرض على هذا التعريف، لأنه يشمل صغائر الخسة وليست بكبائر، وكذلك يرد على هذا التعريف أن من ارتكب كبيرة من الكبائر المنصوص عليها كالزنا مثلاً لا يشمله التعريف إن صاحب فعله الخوف أو الندم (¬9). 4 - قال ابن عبد السلام: (إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فان نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو ربت عليها فهي من الكبائر) (¬10). واعترض على ذلك بتعذر الإحاطة بمفاسد الكبائر كلها حتى نعلم أقلها مفسدة (¬11). ¬

(¬1) ناقش هذه التعريفات عدد من الأئمة منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (11/ 650، 657)، وابن حجر العسقلاني في ((الفتح)) (10/ 410، 411)، (12/ 182، 184)، وابن حجر الهيتمي في ((الزواجر)) (1/ 5 - 9)، وابن كثير في ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 486، 487). (¬2) نقلاً عن: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 184). (¬3) ((فتح الباري)) (12/ 184). (¬4) ((فتح الباري)) (12/ 183). (¬5) ((فتح الباري)) (12/ 184)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 657). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 656). (¬7) نقلاً عن ((فتح الباري)) (10/ 410). (¬8) نقلاً عن: ((الزواجر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 7). (¬9) انظر: ((الزواجر)) (1/ 7). (¬10) ((قواعد الأحكام)) (1/ 19). (¬11) انظر: ((الزواجر)) (1/ 8).

5 - وذهب بعض العلماء ومنهم الإمام الطبري إلى تعريفها بالعدد من غير ضبطها بحد قال رحمه الله: (وأولى ما قيل في تأويل (الكبائر) بالصحة، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما قاله غيره) .. فالكبائر إذاً: الشرك به، وعقوق الوالدين، وقتل النفس ... ) (¬1) ومقصود الإمام الطبري حصر الكبائر بما نص عليه الصلاة والسلام بأنه كبيرة دون غيره مما عليه حد أو وعيد ولم ينص على أنه كبيرة، ولازم هذا القول إخراج بعض الذنوب كالسرقة والرشوة مثلاً من أن تكون من الكبائر لعدم ورود نص يصرح بأنها من الكبائر، على الرغم من أن مفسدة هذه أكبر من بعض المنصوص عليها. 6 - ومن أشهر التعريفات ما نقل عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وغيرهم: أن الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن الصلاح: (لها أمارات منها: إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن) (¬2). وقال الماوردي من الشافعية: (الكبيرة ما وجبت فيه الحدود أو توجه إليها الوعيد) (¬3) وورد مثل ذلك عن الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلي (¬4) ورجحه القرطبي (¬5) وابن تيمية والذهبي (¬6) وغيرهم. ولعل هذا التعريف أشمل التعاريف وأقربها للصواب لعدة اعتبارات ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية من أهمها: أنه يشمل كل ما ثبت في النصوص أنه كبيرة كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة، ويشمل أيضاً ما ورد فيه الوعيد كالفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين واليمين الغموس وشهادة الزور، ويشمل كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، وما قيل فيه من فعله فليس منا، وما ورد من نفي الإيمان عن من ارتكبه كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. )) (¬7) (¬8) فكل من نفي الله عنه الإيمان والجنة أو كونه من المؤمنين فهو من أهل الكبائر، لأن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة. أنه مأثور عن السلف من الصحابة والتابعين بخلاف غيره. أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الصغائر والكبائر بخلاف غيره. ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) (8/ 253)، وانظر تعريفات تشبه ما قاله الطبري معتمدة على بعض النصوص فمنهم من عرف الكبائر بأنها سبع أو تسع أو أربع ويورد النصوص المؤيدة لقوله، انظر: (8/ 235–253). (¬2) نقلاً عن ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 85). (¬3) نقلاً عن ((فتح الباري)) (10/ 410). (¬4) نقلاً عن ((فتح الباري)) (10/ 410). (¬5) انظر: ((فتح الباري)) (10/ 411). (¬6) نقلاً عن ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 85). (¬7) رواه البخاري (2475)، ومسلم (75). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 651 - 655) باختصار.

أن الله تعالى قال: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31]، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنته أو ما يقتضي ذلك، فإنه خارج عن هذا الوعد فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب العقوبة عليه (¬1). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي - 1/ 109 فالنصوص التي فيها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة فالمقصود فيه نفي كمال الإيمان أو الإيمان الواجب. الأحاديث في نفي الإيمان عمن ارتكب الكبائر وترك الواجبات كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) (¬2) يقول ابن رجب تعليقاً على ذلك: فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته. (¬3) ويقول ابن تيمية: ( .... ثم إن نفي الإيمان عند عدمها دال على أنها واجبة فالله ورسوله لا ينفيان اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة إلا بأم القرآن)) (¬4). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) (¬5). الأحاديث التي فيها نفي الإيمان كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (¬6) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. الحديث () (¬7). وقوله: ((لا إيمان لمن لا أمانة له .. الخ)). ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 654 - 655). (¬2) رواه أحمد (3/ 135) (12406)، وابن حبان (1/ 422) (194). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الذهبي في ((المهذب)): سنده قوي، وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (7179): صحيح. (¬3) ((جامع العلوم والحكم)) (ص25). (¬4) رواه البخاري (756)، ومسلم (394). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬5) رواه أحمد (3/ 135) (12406)، وابن حبان (1/ 422) (194). من حديث أنس رضي الله عنه. قال البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 100): حسن. وقال الذهبي في ((المهذب)) (7/ 3805): إسناده قوي. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 73) كما أشار لذلك في مقدمته. وقال الألباني في ((صحيح الجامع الصغير)) (7179): صحيح. (¬6) رواه البخاري (15)، ومسلم (44). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (2475)، ومسلم (75). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال النووي: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة) (¬1). ما ورد من نفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر هو داخل في هذا المعنى الذي ذكرنا، أي أن المنفي ليس اسم الإيمان والدخول فيه إنما المنفي هو حقيقة الإيمان وكماله، يقول الإمام أبو عبيد: (فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً وإنما وقع معناه هاهنا على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكملوا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال ما هو بولده، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك وإنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة البر، وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أحكامها وأسماؤها فكذلك هذه الذنوب التي ينفي بها الإيمان إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك ولا يقال لهم مؤمنون (¬2) وبه الحكم عليهم) (¬3). أما أهل السنة فأجمعوا على أن المنفي هنا (يعني قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (¬4).) كمال الإيمان جمعاً بين هذا النص وغيره من النصوص، قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله، تعليقاً على هذا الحديث: ... يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر – إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام – من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم، أوضح الدلائل على صحة قولنا، أن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان بفعله ذلك (¬5). وقال النووي رحمه الله: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الإبل ولا عيش إلا عيش الآخرة) (¬6) وقال المروزي رحمه الله، (فالذي صح عندنا في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (¬7). وما روي عنه من الأخبار مما يشبه هذا أن معنى ذلك كله أن من فعل تلك الأفعال لا يكون مؤمناً مستكمل الإيمان، لأنه ترك بعض الإيمان، نفى عنه الإيمان، يريد به الإيمان الكامل. وإقامة الحدود عليه دليل على أن الإيمان لم يزل كله عنه، ولا اسمه، ولولا ذلك لوجب استتابته، وقتله، وسقطت الحدود) (¬8). إذاً لا مناص من تفسير هذا الحديث وما في معناه بأن المنفي كمال الإيمان أو الإيمان الواجب وليس أصل الإيمان، لأنا لو قلنا إن المنفي أصل الإيمان لوقعنا في تناقض ولضربنا بعض النصوص ببعض، إذ يلزم من هذا القول إسقاط الحدود، ورد الأحاديث المصرحة بدخول الموحد الجنة وإن زنى وإن سرق، وخروجه من النار الخ. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 50 ¬

(¬1) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 41). (¬2) أي: بقاء اسم الإيمان وأصله دون حقيقته وكماله. (¬3) ((الإيمان)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 90، 91). (¬4) رواه البخاري (5578) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((التمهيد)) لابن عبد البر (9/ 243، 244). (¬6) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 41). (¬7) رواه البخاري (5578) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 576).

المسألة الثانية: حكم الإصرار على المعصية

المسألة الثانية: حكم الإصرار على المعصية وأما عن الإصرار على المعصية فنقول: إن الإصرار معناه الثبات على الأمر ولزومه (¬1). أو الإقامة على الشيء والمداومة عليه (¬2). وهو هنا بمعنى الثبوت على المعاصي (¬3). أي الإقامة على فعل الذنب أو المعصية مع العلم بأنها معصية دون الاستغفار أو التوبة (¬4). وهو الاستمرار على المعصية وعدم الإقلاع عنها (¬5) والعزم بالقلب عليها (¬6). وحكم المصر على المعصية عند أهل السنة هو حكم مرتكب الكبيرة. يذكر ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر) أن من جملة الكبائر: (فرح العبد بالمعصية، والإصرار عليها، ونسيان الله تعالى والدار الآخرة، والأمن من مكر الله، والاسترسال في المعاصي) اهـ (¬7). فاقتراف المعاصي بمفرده عندهم لا يخرج من دين الله، ولا توقع المعاصي فمن كبائر وذنوب صاحبها في الردة إن لم يقترن بها سبب من أسباب الكفر، ولذلك يقرر الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى في عقيدته: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) (¬8). ولكن الإمام الطحاوي سرعان ما يعقب على ذلك بقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) (¬9) وذلك لأن أهل السنة يرون أن فعل المعاصي يترتب عليه العذاب والعقاب الأخروي الذي أخبر عنه الشارع لكثير من المحرمات والمعاصي، وتوعد الله به على فعلها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنها تؤثر على الإيمان من حيث زيادته ونقصانه، لا من حيث بقاؤه وذهابه (¬10). وكذلك فإن صاحب المعصية المصر عليها يُخشى عليه – عند أهل السنة – سوء العاقبة، لأن المعاصي عندهم هي بريد الكفر، والإكثار من مقارفة المعاصي قد يؤدي إلى الوقوع في الكفر والردة والعياذ بالله، فالاستغراق في المعاصي أو الإصرار عليها قد يجعلها تحيط بصاحبها وتنبت النفاق في قلبه؛ فيرون عليه ويسد منه كل منافذ الخير دونما شعور منه حتى يسقط منه إما عمل القلب فيعدو يؤول ويبرر لصاحبه كل ما يفعله حتى يوقعه في استحلال المعاصي، وإما يسقط منه قول القلب فينكر بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لتبرير مقتضيات الهوى والشهوة (¬11). قال الله تعالى: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 81]. وقد نقل الإمام ابن كثير في تفسيره تفسير السلف رضي الله تعالى عنهم للسيئة والخطيئة هنا بأنها: (إما الكفر والشرك، وإليه ذهب ابن عباس وأبو هريرة وأبو وائل وأبو العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس. وإما الموجبة أو الكبيرة من الكبائر، وإليه ذهب السدي وأبي رزين والربيع بن الخيثم ورواية أخرى عن أبي العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس). ثم علق ابن كثير بقوله: (وكل هذه الروايات متقاربة في المعنى والله أعلم). ¬

(¬1) ((المعجم الوجيز)) (ص: 363) مجمع اللغة العربية بالقاهرة. (¬2) ((مختار الصحاح)) (ص: 384). (¬3) ((تفسير الطبري)) (4/ 91). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (4/ 211). و ((صفوة التفاسير)) (2/ 52). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 407). (¬6) ((تفسير القرطبي)) (4/ 211). (¬7) ((الزواجر)) (1/ 147 وما بعدها) (¬8) ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (1/ 204)، وانظر: ((الإيمان)) لنعيم ياسين (ص: 223) وما بعدها. (¬9) ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (1/ 204). (¬10) ((الإيمان)) لنعيم ياسين (ص: 123) وبعدها. (¬11) ((الإيمان)) لنعيم ياسين (ص: 223) وما بعدها.

ويذكر هنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: (حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمرو بن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها)) (¬1)) اهـ (¬2). وجاء في (صفوة التفاسير): ((بلى من كسب سيئة) أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي عمل الكبائر. وكذلك من اقترف السيئات (وأحاطت به خطيئته) أي غمرته من جميع جوانبه وسدّت عليه مسالك النجاة .. وهو من باب الاستعارة حيث شبه الخطايا بجيش من الأعداء نزل على قوم من كل جانب فأحاط به إحاطة السوار بالمعصم، واستعار لفظة الإحاطة لغلبة السيئات على الحسنات، فكأنها أحاطت بها من جميع الجهات) اهـ (¬3). ويقول شيخ الإسلام: (وقوله تعالى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، كراهية أن يحبط أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط. ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف: (المعاصي بريد الكفر) (¬4)، فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط. كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور: 63]- وهي الكفر - أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً، وغيره أصابه عذاب أليم) اهـ (¬5). إن مجرد فعل المعصية أو الإصرار عليها لا يدل عند أهل السنة والجماعة على نقض الشهادتين والخلود في النار مع الكفار والمرتدين إلا إذا صاحب ذلك استحلال للمعصية أو استهانة بحكمها، بالقلب أو باللسان أو بالجوارح. يقول ابن تيمية: (إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد، فهو إما جاحد أو معاند. ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفره الخوارج. فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقاً بأن الله ربه، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق. وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل. والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون بخلل في الإيمان بالربوبية، والخلل في الإيمان بالرسالة، وجحداً محضاً غير مبني على مقدمة. ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد (1/ 402) (3818). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/ 283): إسناده جيد، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح، والحديث صححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2687). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 119). (¬3) ((صفوة التفاسير)) (1/ 58، 59). (¬4) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (5/ 447). (¬5) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 36).

وتارة يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفراً من قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الأمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس، وحقيقته كفر، هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك، ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه. فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع، بل عقوبته أشد، وفي مثله قيل: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه) وهو إبليس ومن سلك سبيله. وبهذا يظهر الفرق بين العاصي، فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويجب أن يفعله، لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة، فقد أتى من الإيمان بالتصديق والخضوع والانقياد، وذلك قول وعمل، لكن لم يكمل العمل) اهـ (¬1). ويقول شارح (الفقه الأكبر): (إن استحلال المعصية صغيرة أو كبيرة كفر – إذا ثبت كونها معصية بدلالة قطعية – وكذا الاستهانة بها كفر، بأن يعدها هينة سهلة، ويرتكبها من غير مبالاة بها، ويجريها مجرى المباحات في ارتكابها) اهـ (¬2). ويعلل صاحب (المسايرة) بأن مناط التكفير هو: (التكذيب أو الاستخفاف بالدين) اهـ (¬3). ولما كانت المعاصي عند أهل السنة بريد الكفر، فإن كثيراً من الأئمة قد امتنعوا عن إطلاق القول بعدم تكفير أحد بذنب، خوفاً من أن يظن السامع أن الذنوب والمعاصي لا تؤثر في الإيمان بضعفه ونقضه، بل وقد تؤدي إلى سقوطه جملة بارتكاب معصية تتضمن إما الإنكار لما أمر الله به ورسوله، وإما الاستكبار عنه أو الاستخفاف والاستهانة بأمره. وفي ذلك يقول شارح (الطحاوية): (فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فننفي التكفير نفياً عاماً! مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين! وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور ... ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج. وفرق بين النفي العام ونفي العموم. والواجب هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب .. فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير. وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان .. وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار. إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج .. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين، كما قالت المعتزلة) اهـ (¬4). ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص: 521، 522). (¬2) ((شرح الفقه الأكبر)) لملا على القاري (ص: 126). (¬3) ((المسايرة)) للكمال ابن الهمام الحنفي (ص: 318). (¬4) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 355 - 362).

ويقول صاحب (معارج القبول): (ولا نكفر بالمعاصي التي قدمنا ذكرها وأنها لا توجب كفراً، والمراد بها الكبائر التي ليست بشرك، ولا تستلزمه ولا تنافي اعتقاد القلب ولا عمله، (مؤمناً) مقراً بتحريمها معتقداً له، مؤمناً بالحدود المترتبة عليها، ولكن نقول: يفسق بفعلها، ويُقام عليه الحد بارتكابها، وينقص إيمانه بقدر ما تجرأ عليه منها ... (إلا مع استحلاله لما جنى) ... وهو أن عامل الكبيرة يكفر باستحلاله إياها، بل يكفر بمجرد اعتقاده بتحليل ما حرم الله ورسوله ولو لم يعمل به، لأنه حيئنذٍ يكون مكذباً بالكتاب ومكذباً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كفر بالكتاب والسنة والإجماع، فمن جحد أمراً مجمعاً عليه معلوماً من الدين بالضرورة فلا شك في كفره) اهـ (¬1). وإذا علمنا أن الذنوب والمعاصي عند أهل السنة والجماعة تؤثر في الإيمان من حيث زيادته ونقصه لا من حيث بقاؤه وذهابه – إلا أن يُصاحب ذلك ما يقدح في أصله من استحلال لهذه المعاصي، وأن هذا الاستحلال قد يكون بسقوط قول القلب والتكذيب جحوداً أو عناداً، وقد يكون بسقوط عمل القلب والاستكبار استخفافاً أو استهزاءً، أو غير ذلك من أسباب – فما هو حكم عصاة الموحدين ومآلهم في الآخرة؟ وهل كل من مات على معصية يدخل النار بها؟ وإذا دخلها فكيف يخرج منها؟ وما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في ذلك؟ حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لمحمد عبدالهادي المصري – ص: 146 ¬

(¬1) ((معارج القبول)) (2/ 357، 358).

المبحث الثاني: الفاسق الملي

المبحث الثاني: الفاسق الملي • المطلب الأول: تعريف الفسق. • المطلب الثاني: المقصود بالفاسق الملي.

المطلب الأول: تعريف الفسق

المطلب الأول: تعريف الفسق الفسق في اللغة: هو الخروج عن الشيء أو القصد، وهو الخروج عن الطاعة. والفسق: الفجور. ويقال إذا خرجت الرطبة من قشرها؛ قد فسقت الرطبة من قشرها، والفأرة عن جحرها (¬1). الفسق في الاصطلاح: العصيان وترك أمر الله تعالى، والخروج عن طاعته، وعن طريق الحق. ورجل فاسق: أي عصى وجاوز حدود الشرع. ويقال: فسق عن أمر ربه؛ أي خرج عن طاعته. والفسق أعم من الكفر؛ حيث إنه يشمل الكفر وما دونه من المعاصي كبائرها وصغائرها، وإذ أطلق يراد به أحياناً الكفر المخرج من الإسلام، وأحياناً يراد به الذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر؛ بحسب درجة المعصية، وحال العاصي نفسه (¬2). والفسق في الشرع نوعان: فسق أكبر، وفسق أصغر. الفسق الأكبر: هو رديف الكفر الأكبر، والشرك الأكبر؛ يخرج صاحبه من الإسلام، وينفي عنه مطلق الإيمان، ويخلده في النار، إذا مات ولم يتب منه، ولا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 84] وقال: وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55] الفسق الأصغر: هو رديف الكفر الأصغر، والشرك الأصغر، هو فسق دون فسق، وهو المعصية التي لا تنفي عن صاحبها أصل الإيمان، أو مطلق الإيمان، ولا تسلبه صفة الإسلام، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] وقال: وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282]. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري - ص240 ¬

(¬1) انظر: معاجم اللغة: ((لسان العرب)) (10/ 308)، و ((معجم مقاييس اللغة)) (4/ 502)، و ((مفردات الراغب)) (7/ 572). (¬2) انظر: ((روح المعاني)) للآلوسي (1/ 210)، و ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 75).

المطلب الثاني: المقصود بالفاسق الملي

المطلب الثاني: المقصود بالفاسق الملي والمقصود به الفاسق من أهل القبلة، والنزاع في اسمه وحكمه هو أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين. قال شيخ الإسلام: (وبتحقق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع، ويعلم أن في المسلمين قسما ليس هو منافقا محضا في الدرك الأسفل من النار، وليس هو من المؤمنين الذين قيل فيهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصادِقُونَ [الحجرات:15]. ولا من الذين قيل فيهم: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4] فلا هم منافقون ولا هم من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقا، ولا من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب. بل له طاعات ومعاص، وحسنات وسيئات، ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار، وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار. وهذا القسم قد يسميه بعض الناس: الفاسق الملي وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه. والخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين) (¬1). وأهل السنة لا يكفرون هذا الصنف، ولا يحكمون بخلوده في النار، بل يرون أنه تحت المشيئة،، لكنهم تنازعوا في اسمه، هل يطلق عليه مؤمن أم لا؟ قال شيخ الإسلام: (وأما أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء والكرامية والكلابية والأشعرية والشيعة، مرجئهم وغير مرجئهم، فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة. وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة، باتفاق فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه. فقالت المرجئة، جهميتهم وغير جهميتهم: هو مؤمن كامل الإيمان. وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين. وهل يطلق عليه اسم مؤمن؟ هذا فيه القولان، والصحيح التفصيل: فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، قيل: هو مؤمن. وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين. وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة، قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار، إن لم يغفر الله له ذنوبه. ولهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان. والذين لا يسمونه مؤمناً من أهل السنة ومن المعتزلة يقولون: اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [الحجرات:11] وقوله: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا [السجدة:18] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)) (¬2)) (¬3). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 478) وما بعدها. (¬2) رواه البخاري (48) ومسلم (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 354) وما بعدها، وانظر (7/ 525).

وقال أيضا: (ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان (¬1) في مثل قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، وقوله: ((لا يَزْنِي الزانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَسْرِقُ السارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ الناسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) (¬2). ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم) (¬3). (والفرق بين مطلق الشيء، والشيء المطلق، أن الشيء المطلق هو الشيء الكامل، ومطلق الشيء يعني أصل الشيء وإن كان ناقصا. فالفاسق لا يعطى الاسم المطلق في الإيمان وهو الاسم الكامل، ولا يسلب مطلق الاسم، فلا نقول: ليس بمؤمن، بل نقول: ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة وهو المذهب العدل الوسط، وخالفهم في ذلك طوائف: المرجئة يقولون: مؤمن كامل الإيمان، والخوارج يقولون: كافر. والمعتزلة في منزلة بين المنزلتين) (¬4). الإيمان المنفي عن الزاني والسارق: قد تبين أن الشارع ينفي الإيمان المطلق عن أصحاب الذنوب، كالزاني والسارق وشارب الخمر، ولا ينفي عنهم مطلق الإيمان، ولهذا فهم مسلمون مصدقون، ولديهم من أعمال القلب والجوارح ما يصحح إيمانهم، ويدفع الكفر والنفاق عنهم. ¬

(¬1) في نسخ الواسطية المطبوعة: (الإيمان المطلق)، وهو مشكل، وقد حمله الشيخ ابن عثيمين على أن المراد إذا أطلق الإيمان، وليس المراد الإيمان الكامل. انظر: ((شرح الواسطية)) لابن عثيمين (2/ 648). وما أثبته هو الموافق لما في ((مجموع الفتاوى))، ولما في النسخة المخطوطة للواسطية، كما قال الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف في تحقيقه لـ ((شرح الواسطية)) للهراس، هامش: (ص269). (¬2) رواه البخاري (5578) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((شرح الواسطية)) للشيخ الفوزان (ص161) وما بعدها، وضمن ((مجموع الفتاوى)) (3/ 151). (¬4) ((شرح الواسطية)) للشيخ ابن عثيمين (2/ 651)، وقال ابن القيم: فالإيمان المطلق لا يطلق إلا على الكامل الكمال المأمور به، ومطلق الإيمان يطلق على الناقص والكامل، ولهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان المطلق عن الزاني وشارب الخمر والسارق ولم ينف عنه مطلق الإيمان، وقال: (والمقصود الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان. فالإيمان المطلق يمنع دخول النار ومطلق الإيمان يمنع الخلود فيها).ا. هـ. من ((بدائع الفوائد)) (4/ 227).

وقد دلت السنة الصحيحة على أن الإيمان يرتفع عن الزاني حين يزني، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ كَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا انْقَطَعَ رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ)) (¬1)، والمقصود بهذا الإيمان: الخشية والنور والخشوع، لا أن التصديق يذهب، أو أن عمل القلب يزول بالكلية. فالزاني حين يزني، لابد أن يعتقد حرمة الزنا، وأن يبغضه، ويكرهه، ويخاف من عاقبته، وهكذا السارق وشارب الخمر ونحوهما، وبهذا يبقى لهم أصل الإيمان. قال شيخ الإسلام: (ومن أتى الكبائر مثل الزنا أو السرقة أو شرب الخمر وغير ذلك، فلابد أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، وهذا من الإيمان الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يَزْنِي الزانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَسْرِقُ السارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) (¬2). فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فإذا طاف بقلوبهم طائف من الشيطان تذكروا فيبصرون. قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله فيكظم الغيظ. وقال ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. (¬3). والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع. ثم قال: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] أي وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يُبصر بقي قلبه في غي والشيطان يمده في غيه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذّب، فذلك النور والإبصار وتلك الخشية والخوف يخرج من قلبه. وهذا كما أن الإنسان يُغمض عينيه فلا يرى شيئا وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رَيْن الذنوب لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر، وهكذا جاء في الآثار). وأورد آثارا عن الحسن وابن عباس وأبي هريرة، ثم قال: (وفى حديثٍ عن أبى هريرة مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان كان كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان)) وهذا إن شاء الله يبسط في موضع آخر) (¬4). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4690)، والترمذي (2625). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (89) – كما أشار لذلك في مقدمته- وابن حجر في ((فتح الباري)) (12/ 62). وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (5578) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) انظر ((تفسير البغوي)) (3/ 318). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 31) وما بعدها.

فبين أن الذي يرتفع عن الزاني هو النور والخشية والخشوع، مع بقاء التصديق في قلبه، وبين في موضع آخر اشتراط وجود عمل القلب، من بغض المعصية وكراهيتها، والخوف من الله حال ارتكابها، ليبقى عقد الإيمان، فقال: (الإنسان لا يفعل الحرام إلا لضعف إيمانه ومحبته، وإذا فعل مكروهات الحق فلضعف بعضها في قلبه أو لقوة محبتها التي تغلب بعضها، فالإنسان لا يأتي شيئا من المحرمات كالفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا، والقول على الله بغير علم، إلا لضعف الإيمان في أصله أو كماله، أو ضعف العلم والتصديق، وإما ضعف المحبة والبغض، لكن إذا كان أصل الإيمان صحيحا وهو التصديق، فإن هذه المحرمات يفعلها المؤمن مع كراهته وبغضه لها، فهو إذا فعلها لغلبة الشهوة عليه، فلا بد أن يكون مع فعلها فيه بغض لها، وفيه خوف من عقاب الله عليها، وفيه رجاء لأن يخلص من عقابها، إما بتوبة وإما حسنات، وإما عفو، وإما دون ذلك، وإلا فإذا لم يبغضها ولم يخف الله فيها ولم يرج رحمته، فهذا لا يكون مؤمنا بحال، بل هو كافر أو منافق) (¬1). وقال: (وأيضا فقد ثبت في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)) (¬2) وفى رواية: ((وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ)) (¬3) فهذا يبين أن القلب إذا لم يكن فيه بغضُ ما يكرهه الله من المنكرات، كان عادما للإيمان. والبغض والحب من أعمال القلوب. ومن المعلوم أن إبليس ونحوه يعلمون أن الله عز وجل حرم هذه الأمور، ولا يبغضونها، بل يدعون إلى ما حرم الله ورسوله) (¬4). تنبيه: وقع في كلام بعض أهل العلم أن المراد بنفي الإيمان الوارد في بعض النصوص: هو نفي الكمال، وهذا لابد أن يقيّد بالكمال الواجب، وإلا فتارك الكمال المستحب، لا ينفى عنه الإيمان، وإلا للزم نفي الإيمان عن أكثر الناس. فمن الأول: قول النووي: بَاب بَيَانِ نُقْصَانِ الْإِيمَانِ بِالْمَعَاصِي وَنَفْيِهِ عَنْ الْمُتَلَبِّسِ بِالْمَعْصِيَةِ عَلَى إِرَادَةِ نَفْيِ كَمَالِهِ ... ¬

(¬1) ((قاعدة في المحبة)) (ص104). (¬2) رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (50) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. ولفظه: (مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 557).

فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يُذم تاركه، ويتعرض للعقوبة، فقد صدق. وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله، ولا يجوز أن يقع؛ فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئا، لم يجز أن يقال: ما فعله، لا حقيقة ولا مجازا، فإذا قال للأعرابي المسيء في صلاته: ((ارجع فصل فإنك لم تصل))، (¬1) وقال لمن صلى خلف الصف وقد أمره بالإعادة: ((لا صلاة لفذ خلف الصف)) (¬2) كان لترك واجب ... ) (¬3). فائدة: في مراتب النفي قال الشيخ ابن عثيمين: (ونفي الشيء له ثلاث حالات: فالأصل أنه نفي للوجود، وذلك مثل: (لا إيمان لعابد صنم)، فإنْ منعَ مانعٌ من نفي الوجود، فهو نفي للصحة، مثل: (لا صلاة بغير وضوء)، فإن منع مانع من نفي الصحة، فهو نفيٌ للكمال، مثل: ((لا صلاة بحضرة الطعام)) (¬4).، فقوله: ((لا يؤمن أحدكم)) نفي للكمال الواجب، لا المستحب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا ينفى الشيء إلا لانتفاء واجب فيه، ما لم يمنع من ذلك مانع)) (¬5). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- بتصرف- 1/ 174 ¬

(¬1) رواه البخاري (757) , ومسلم (397) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه ابن ماجه (1003)، وأحمد (4/ 23) (16340)، وابن حبان (5/ 579) , والبيهقي (3/ 105). من حديث علي بن شيبان رضي الله عنه. مرةً بلفظ: ( ... لا صلاة للذي خلف الصف)، ومرة بلفظٍ: ( ... لا صلاة لرجل فرد خلف الصف، ومرةً بلفظ: ( ... لا صلاة لفرد خلف الصف). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (1/ 122): هذا إسنادٌ صحيح رجاله ثقات. قال الذهبي في ((المهذب)) (2/ 1036): إسناده صالح. وقال في ((تنقيح التحقيق)) (1/ 263): إسناده قوي. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 176): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 14) وما بعدها. (¬4) رواه مسلم (560) , من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (2/ 161)، وانظر: ((التعليق على صحيح مسلم)) له أيضا، (1/ 248) وما بعدها، وفيه: (فإن قال قائل: وما حكم العمل إذا نفي الكمال، مع وجوده؟ قلنا: القاعدة عند العلماء: أن ما رتب عليه نفي الإيمان، فإنه يكون من كبائر الذنوب).

المبحث الثالث: حكم أهل الكبائر (الفاسق الملي) عند أهل السنة

المبحث الثالث: حكم أهل الكبائر (الفاسق الملي) عند أهل السنة تواترت النصوص الدالة على عدم كفر مرتكب الكبيرة، وعدم خلوده في النار إن دخلها، ما لم يستحل، وهذا من الأصول الاعتقادية المجمع عليها بين أهل السنة، وسنبحث في هذه الفقرة ما يلي: أدلة أهل السنة على حكم مرتكب الكبيرة، (الحكم الدنيوي والأخروي) نصوص قد يظن أنها تخالف ما سبق، وإيضاح معناها. نصوص عامة لعلماء أهل السنة تبين الخلاصة في الحكم على أهل الكبائر. أولا: أدلة أهل السنة على حكم مرتكب الكبيرة (الحكم الدنيوي والأخروي): استدل أهل السنة لذلك بأدلة كثيرة جداً، ونحن سنذكر هنا ما يمكن أن يسمى (أدلة كلية) وكل دليل يندرج تحته عدد من الأدلة التفصيلية الدليل الأول: نصوص تدل على أن من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، وعلى أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ومنها: قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48] (فحكم بأن الشرك غير مغفور للمشرك، يعني إذا مات غير تائب منه لقوله: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] مع آيات غير هذه تدل على أن التائب من الشرك مغفور له شركه، فثبت بذلك أن الشرك الذي أخبر الله أنه لا يغفر: هو الشرك الذي لم يتب منه، وأن التائب مغفور له شركه، وأخبر أنه يغفر: ما دون الشرك لمن يشاء، يعني لمن أتى ما دون الشرك، فلقي الله غير تائب منه، لأنه لو أراد أن يغفر ما دون الشرك للتائب، دون من لم يتب لكان قد سوى بين الشرك، وما دونه، ولو كان كذلك لم يكن لفصله بين الشرك وما دونه معنى، ففصله بينهما دليل على أن الشرك لا يغفره لو مات وهو غير تائب منه، وأن يغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء ممن مات وهو غير تائب، ولا جائز أن يغفر له، ويدخله الجنة إلا وهو مؤمن) (¬1) (¬2). قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي هريرة: (( ... أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)) (¬3) وحديث معاذ المشهور وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)) (¬4) 4 - وروى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( .. ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بقرابها مغفرة)) (¬5). قال الإمام ابن رجب (فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض، وهو ملؤها أو ما يقارب خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة) (¬6). الدليل الثاني: نصوص فيها التصريح بعدم دخول الموحد النار أو خلوده فيها - إن دخل - مع تصريحها بارتكابه الكبائر ومنها: 1 - حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة قلت: وإن زنى وإن سرق قال: وإن زنى وإن سرق)) (¬7). ¬

(¬1) أي: معه أصل الإيمان. (¬2) ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 617). (¬3) رواه مسلم (27). من حديث أبي هريرة رضي الله عنهه. (¬4) رواه البخاري (2856)، ومسلم (30). من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (2687). (¬6) ((جامع العلوم والحكم)) (ص374)، وانظر أحاديث أخرى في الموضوع: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 217 - 244)، و ((فتح المجيد)) (39 - 64). (¬7) رواه البخاري (1237)، ومسلم (94).

قال النووي رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وإن زنى وإن سرق فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها وختم لهم بالخلود بالجنة. (¬1) 2 - حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: ((تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه)) (¬2). قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن أصاب شيئاً من ذلك)) إلى آخره المراد به ما سوى الشرك وإلا فالشرك لا يغفر له. (¬3) ثم ذكر من فوائد الحديث: الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر لا يقطع لصاحبها بالنار إذا مات ولم يتب منها، بل هو بمشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. (¬4) وقال المروزي تعليقاً على هذا الحديث: (ففي هذا الحديث دلالتان على أن السارق، والزاني ومن ذكر في هذا الحديث غير خارجين من الإيمان بأسره إحداهما: قوله فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا، فهو كفارة له، والحدود لا تكون كفارات إلا للمؤمنين، ألا ترى قوله: ((من ستر الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)) فإذا غفر له أدخله الجنة، ولا يدخل الجنة من البالغين المكلفين إلا مؤمن، وقوله (¬5): صلى الله عليه وسلم: ((إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)) هو نظير قول الله تبارك وتعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وأن يغفر مادون ذلك الشرك لمن يشاء ممن مات وهو غير تائب، ولا جائز أن يغفر له ويدخله الجنة إلا وهو مؤمن) (¬6). الدليل الثالث: نصوص فيها التصريح ببقاء الإيمان والأخوة الإيمانية مع ارتكاب الكبائر ومنها. 1 - قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 9 - 10]. استدل أهل السنة بهاتين الآيتين على أن المؤمن لا يكفر بارتكابه الكبائر، لأن الله - عز وجل - أبقى عليه اسم الإيمان مع ارتكابه لمعصية القتل (¬7) ووصفهم بالأخوة وهي هنا أخوة الدين. 2 - قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 178]. قال ابن الجوزي: دل قوله تعالى مِنْ أَخِيهِ على أن القاتل لم يخرج من الإسلام. (¬8) ¬

(¬1) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 97). (¬2) رواه البخاري (18)، ومسلم (1709). (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (11/ 223). (¬4) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (11/ 224)، وانظر: ((شعب الايمان)) للبيهقي (2/ 98). (¬5) هذه هي الدلالة الثانية. (¬6) ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 616 - 617). (¬7) انظر: ((فتح الباري)) (1/ 85). (¬8) انظر: ((فتح الباري)) (1/ 85)، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 373).

واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بهذه الآية على أن الأخوة الإيمانية ثابتة مع ارتكاب المعاصي (¬1). 3 - لعل مما يدخل تحت هذا الدليل ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله وكان يلقب حماراً وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتى به يوماً فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)). (¬2) فالحديث صريح هنا ببقاء محبة الله ورسوله، وهي من أعظم أصول الإيمان القلبي مع تكرار شربه للخمر. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعن، والأمر بالدعاء له وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه (¬3). الدليل الرابع: شرع الله - عز وجل - إقامة الحدود على بعض الكبائر: لعل هذا من أقوى الأدلة على فساد مذهب من يكفر مرتكب الكبيرة إذ لو كان السارق والقاذف وشارب الخمر، والمرتد سواء في الحكم لما اختلف الحد في كل منها، قال الإمام أبو عبيد رحمه الله: ... ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب مقالتهم، وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد، وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا بالقتل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (¬4) (¬5)، أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد، وكذلك قول الله فيمن قُتل مظلوماً: فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [الإسراء: 33] فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو ولا أخذ دية، ولزمه القتل (¬6). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: .. بل القرآن والنقل المتواتر عنه، يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام، كما ذكر الله في القرآن جلد القاذف والزاني، وقطع يد السارق، وهذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا مرتدين لقتلهم، فكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام (¬7). وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي: ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد (¬8). الدليل الخامس: نصوص صريحة في خروج من دخل النار من الموحدين بالشفاعة وبغيرها: وهذا – أيضاً – من الأدلة الواضحة على عدم كفر مرتكب الكبائر وعدم خلوده في النار، إذ لو كان كافراً لما خرج من النار. والأدلة في هذا بلغت مبلغ التواتر، ونقل التواتر جمع من العلماء منهم الإمام البيهقي وابن تيمية وابن أبي العز الحنفي وابن الوزير اليماني، وقال: (وأحاديث الشفاعة المصرحة بخروج الموحدين من النار قاطعة في معناها بالإجماع، وهي قاطعة في ألفاظها .. لورودها عن عشرين صحابياً أو تزيد في (الصحاح) و (السنن) و (المسانيد)، وأما شواهدها بغير ألفاظها فقاربت خمسمائة حديث) (¬9) ... ومن هذه الأحاديث: ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوي)) (3/ 151). (¬2) رواه البخاري (6780). (¬3) ((فتح الباري)) (12/ 78). (¬4) رواه البخاري (3017). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 151). (¬6) ((الإيمان)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (89). (¬7) ((الفتاوى)) (7/ 287 - 288). (¬8) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 443) (¬9) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص295).

1 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير)) وفي رواية: ((من إيمان)) مكان ((من خير)) (¬1). 2 - ومن ذلك أحاديث شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر الذين دخلوا النار أن يخرجوا منها فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) (¬2) يوضح ذلك حديث الشفاعة المشهور وفيه فيقول: ((أي عيسى عليه السلام: ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي -وذكر مثله- ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، ثم أعود الرابعة، فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود)) قال البخاري: إلا من حبسه القرآن يعني قول الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا (¬3). 3 - ومن الأحاديث في هذا الباب حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا -أو الحياة- (¬4) شك مالك – فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية)) (¬5) إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 113 وَلاَ نَقُولُ إِنَّهُ فِي النارِ ... مُخَلَّدٌ، بَلْ أَمْرُهُ لِلْبَارِي بِقَدْرِ ذَنْبِهِ وَإِلَى الْجِنَانِ ... يُخْرَجُ إِنْ مَاتَ عَلَى الإِيمَانِ (ولا نقول إنه) أي الفاسق بالمعاصي التي لا توجب كفراً (في النار مُخلد) هذه هي المسألة الرابعة من مسائل الفصل (بل نقول أمره) مردود حكمه (للباري) في الجزاء والعفو (تحت مشيئة الإله النافذة) في خلقه (إنْ شاءَ) الله عز وجل (عفا عنه) وأدخله الجنة من أول وهلة برحمته وفضله (وَإِنْ شاءَ آخَذَهُ) أي جازاه وعاقبه (بقدر ذنبه) الذي مات مصرّاً عليه، كما في (الصحيحين) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أَنْ لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف. فمن وفَى منكم فأجرُهُ على اللهِ، ومن أصاب مِنْ ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب مِنْ ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارةٌ له، ومن أَصاب من ذلك شيئاً ثم ستَرهُ اللهُ عليه فهو إلى الله: إِنْ شَاءَ عفا عنه، وإن شاء عاقبه)) فبايعناه على ذلك (¬6). (وإلى الجنان يخرج) من النار (إن) كان (مات على الإيمان). معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص1194 ¬

(¬1) رواه البخاري (44)، ومسلم (193). (¬2) رواه مسلم (199). (¬3) رواه البخاري (4476)، و (6565)، ومسلم (193). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬4) قال النووي في شرحه لـ ((صحيح مسلم)) (3/ 37): الحيا هنا مقصور وهو المطر سمي حياً لأنه تحيا به الأرض ولذلك هذا الماء يحيا به هؤلاء المحترقون وتحدث فيهم النضارة كما يحدث ذلك المطر في الأرض، والله أعلم. (¬5) رواه البخاري (22)، ومسلم (184). (¬6) رواه البخاري (18)، ومسلم (1709).

المبحث الرابع: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام، وهل القول بعدم تكفير عصاة الموحدين على إطلاقه أم مقيد؟

المطلب الأول: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام؟ فهذه ثلاث مسائل تتعلق بما نحن بصدد بحثه من أحكام المعاصي وعصاة الموحدين. المسألة الأولى: وهي من مسائل الأسماء والأحكام التي ضلت فيها أفهام كثيرة، إلا من عصمه الله تعالى بالتزام النصوص، كما هو حال أئمة الإسلام المهتدين، وهذه المسألة هي: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام، أو ينفى عنه مطلق الإيمان؟، وهل يلحقه الوعيد في الآخرة؟ أما الشطر الأول من المسألة وهو الوصف الشرعي لمرتكب المعصية، فإنه قد تقدم الاستدلال من كتاب الله تعالى على تسمية بعض العصاة مؤمنين، لكن هذا في مقابل من يرى كفر مرتكب المعصية. أما عن حقيقة حالهم في مقابل أهل الإيمان الكامل، فإنه جاء في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]، فأهل العلم بالتفسير على أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة (¬1)، فلم يخرج من الدين بالكلية، ولم ينف عنه الإيمان مطلقا، كما لم يوصف به مطلقا، بل وصف بالفسق. قال الشيخ الحكمي – رحمه الله -: (فاسق أهل القبلة لا ينفى عنه مطلق الإيمان بفسوقه، ولا يوصف بالإيمان التام، ولكن هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته) (¬2). وبهذا يتبين أن الذنوب والمعاصي لا تؤثر على أصل الإيمان من حيث بقاؤه أو ذهابه، وإنما تؤثر فيه من حيث زيادته ونقصانه. ولهذا تقرر أيضا أن المؤمنين يتفاضلون في إيمانهم، فمنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه ... ولكل درجة عند الله تعالى. أما مسألة لحوق الوعيد بأهل المعاصي في الآخرة، فهذا مما دلت عليه نصوص الوعيد الكثيرة، من أمثال قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 23]، وقوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 114]. إلا أن هذا مشروط بعدم التوبة؛ إذ أن التوبة من أهم الأسباب التي تسقط العقوبة عن عصاة الموحدين. فإذا عدمت التوبة، فأمرهم إلى الله عز وجل، إن شاء، عذبهم، وإن شاء، عفا عنهم. قال محمد الطائي: أملى علي أحمد -أي: ابن حنبل-: (ومن لقيه مصرا غير تائب من الذنوب التي قد استوجب بها العقوبة، فأمره إلى الله، إن شاء، عذبه، وإن شاء، غفر له؛ إذا توفي على الإسلام والسنة) (¬3). والذي عليه أهل السنة هو: أن عصاة الموحدين وإن استحقوا العقوبة، فإنهم لا يخلدون في النار بفضل الله تعالى. وقد ذكر أهل العلم أن العصاة من الموحدين ثلاث طبقات يوم القيامة (¬4): الطبقة الأولى: قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم، فأولئك يدخلون الجنة من أول وهلة، ولا تمسهم النار أبدا. الطبقة الثانية: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وتكافأت، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، وهؤلاء أصحاب الأعراف الذين ذكر الله تعالى أنهم يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله يوقفوا، ثم يؤذن لهم دخول الجنة. الطبقة الثالثة: قوم لقوا مصرين على كبائر الإثم والفواحش، ومعهم أصل التوحيد، فرجحت سيئاتهم بحسناتهم. فهؤلاء تمسهم النار بقدر ذنوبهم، غير أنهم يخرجون منها بأحد الأسباب؛ كعفو الله تعالى أو شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهم قبل ذلك في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (يؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجب به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته) (¬5). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد– ص: 93 ¬

(¬1) انظر: ((محاسن التأويل)) للقاسمي (15/ 5447 - 5449). (¬2) ((معارج القبول)) (2/ 417). (¬3) ((طبقات الحنابلة)) (1/ 310). (¬4) انظر: ((معارج القبول)) (2/ 422 - 424)، ((طريق الهجرتين)) (ص: 622 - 625). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 375).

المطلب الثاني: هل القول بعدم تكفير عصاة الموحدين على إطلاقه أم مقيد؟

المطلب الثاني: هل القول بعدم تكفير عصاة الموحدين على إطلاقه أم مقيد؟ إن لفظ (المعصية) من الألفاظ التي ورد بها الشرع الحنيف، فلابد إذاً من الرجوع إلى الشرع في تحديد حقيقتها ومدلولها، سواء أطلق أم قيد بمعنى معين. أما الإعراض عن هذا الأصل، والانكباب على أقوال أهل اللغة وأهل الكلام وتعريفاتهم، فإنه مطية إلى الزيغ والضلال؛ ولأن رد موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم خير وأحسن تأويلا، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة. ومن أحسن من ... اعتنى بالألفاظ الشرعية، واستقرأ معانيها في الكتاب والسنة، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - (¬1). فقد بيّن – رحمه الله – معاني تلك الألفاظ عند الإطلاق وعند التقييد وفق منهج علمي ثابت، ينم على غزارة علمه بالكتاب والسنة وفق منهج السلف الصالح. ولهذا عند حديثه عند لفظ (المعصية)، قال: (إذا أطلقت المعصية لله ورسوله، دخل فيهما الكفر والفسوق، كقوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن: 23] (¬2). ونقل عند قوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات: 7] كلاما لمحمد بن نصر المروزي هذا نصه: (لما كانت المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر، فرق بينها فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر، ونوع منها فسوق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق ... ويكرهون – أي أهل السنة – جميع المعاصي، الكفر منها والفسوق، وسائر المعاصي كراهية تدين) (¬3). ومن أبرز المعاصي التي هي كفر مخرج عن الملة: الشرك بالله تعالى. فقد أخبر سبحانه في كتابه العزيز أنه لا يغفر الشرك إلا بالتوبة النصوح وتجديد الإيمان. أما من لقي الله مشركا، فإنه من أهل النار المخلدين فيها، لا ينفعه أي عمل قدمه، بل إن أعماله جميعا تحبط عند مواقعته الشرك. قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65]. ثم إذا صاحب المعصية استحلال لها، فإنها تكون كفرا كذلك ... ويدخل تحت هذين النوعين من المعاصي صور كثيرة يصعب حصرها. وعلى هذا نقول إن القول بعدم تكفير عصاة الموحدين مقيد بعدم الإشراك بالله تعالى ولقائه، وكذلك بعدم استحلال المعصية. ولهذا قال الإمام الطحاوي في عقيدته: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) (¬4)، وإن كانت العبارة الأدق في ما أورده الشارح لعقيدته، إذ قال: (بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب) (¬5)؛ لأن من الذنوب ما يكون كفرا في ذاته. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد -بتصرف– ص: 93 ومن أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون الإنسان بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل يكلون أمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له (¬6). ولهذا اشتهر قولهم: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله (¬7). ومرادهم بالذنب هنا: المعاصي التي ليست كفرا مخرجا عن الملة، ولا هي من المباني الأربعة التي بني عليها الإسلام. ¬

(¬1) انظر: ((الإيمان)) (1 - 114)، ((الرد على المنطقيين)) (ص: 52 - 60). (¬2) ((الإيمان)) (ص: 55). (¬3) ((الإيمان)) (ص: 39). (¬4) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 432). (¬5) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 432). (¬6) انظر: ((الواسطية وشرحها)) لابن عثيمين (2/ 644)، و ((شرح الطحاوية)) (ص321، 369). (¬7) ((الطحاوية)) مع شرحها لابن أبي العز الحنفي (ص316).

قال شارح الطحاوية: (ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحدا بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما يفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام، ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب) (¬1). وقال شيخ الإسلام: (ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بذنب، فإنما نريد المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور) (¬2). ومن أدلة أهل السنة على هذا الأصل: 1 - قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. فأدخل في المشيئة كل ذنب عدا الشرك، وهذا في حق غير التائبين، وأما مع التوبة فلا فرق بين الشرك وغيره، فالله يغفر الذنوب جميعا، كما قال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] (¬3). 2 - ومن أدلتهم: ما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: ((بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا تَسْرِقُوا وَلا تَزْنُوا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ)) فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك (¬4). وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل. 3 - ومن أظهر الأدلة على ذلك أن المسلمين مجمعون على أن الزاني والسارق والقاذف لا يُقتل واحد منهم، ولو كانت ذنوبهم موجبة للردة لقتلوا جميعا. قال شارح الطحاوية: (والجواب أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة لكان مرتدا يقتل على كل حال ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر. وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين، كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضا؛ إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:187] فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخا لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب. وقال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]. إلى أن قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]. ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد. ¬

(¬1) ((الطحاوية)) مع شرحها لابن أبي العز الحنفي (ص317). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 302). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 358)، (7/ 683). (¬4) رواه البخاري (18)، ومسلم (937).

وقد ثبت في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ الْيَوْمَ مَظْلِمَةٌ مِنْ عِرْضٍ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لا يَكُونَ دِرْهَمٌ وَلا دِينَارٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النارِ)) أخرجاه في (الصحيحين) (¬1)، فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه) (¬2). 4 - ومن ذلك: أحاديث الشفاعة وأنه يخرج أقوام من النار بعد دخولهم إياها، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي)) (¬3)، وقوله: ((يَخْرُجُ مِنْ النارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنْ النارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنْ النارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ)) (¬4). إلى غير ذلك من الأدلة المشهورة المعلومة، التي أخذ بها أهل السنة فكانوا وسطا في النحل، كما أن أمة الإسلام وسط في الملل، وفي هذا يقول شيخ الإسلام: (وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد الوعيد، وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية. فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته) (¬5). تنبيه: لابد من نفوذ الوعيد في أقوام من العصاة: قال شيخ الإسلام: (بل السلف والأئمة متفقون على ما تواترت به النصوص، من أنه لابد أن يدخل النار قوم من أهل القبلة، ثم يخرجون منها. وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة، فهذا لا نعرفه قولاً لأحدٍ، وبَعده قولُ من يقول: ما ثمَّ عذابٌ أصلاً، وإنما هو تخويف لا حقيقة له، وهذا من أقوال الملاحدة والكفار) (¬6). وقال: (وهذا مذهب الصحابة والسلف والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار، وبعضهم يغفر له) (¬7). وقال السفاريني: (ذكر بعض المحققين انعقاد الإجماع على أنه لابد سمعاً من نفوذ الوعيد في طائفة من العصاة، أو طائفة من كل صنف منهم، كالزناة، وشربة الخمر، وقتلة الأنفس، وأكلة الربا، وأهل السرقة والغصوب، إذا ماتوا على غير توبة، فلابد من نفوذ الوعيد في كل طائفة من كل صنف، لا لفرد معين؛ لجواز العفو. وأقل ما يصدق عليه نفوذ الوعيد واحد من كل صنف. والأدلة قاضية بقصر العصاة على عصاة الموحدين. وقد رتب بعض الناس على ذلك امتناع سؤال العفو لجميع المسلمين؛ لمنافاته لذلك، وهذا ساقط إلا إذا قصد العفو ابتداء لكل فرد من أفراد الأمة، على أن العفو يصدُق بما بعد العذاب والتعذيب، فمن قال بمنع المنع فهو المصيب، وبالله التوفيق) (¬8) الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 168 ¬

(¬1) رواه البخاري (2449) بلفظ قريب مما ذكر الشارح، وليس هو في مسلم. قال الحافظ في الفتح: (وهذا الحديث قد أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقا من هذا) ثم ذكر حديث المفلس. (¬2) ((شرح الطحاوية)) (ص320) وما بعدها. وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 482). (¬3) رواه أبو داود (4739) والترمذي (2435) وأحمد (13245). من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) رواه البخاري (44) ومسلم (193) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 374) وما بعدها. (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 501) وما بعدها. (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (16/ 19). وانظر: (16/ 196)، (28/ 578)، ((الفتاوى الكبرى)) (4/ 226). (¬8) ((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 389) وما بعدها.

المطلب الثالث: ما ورد من الذنوب تسميته كفرا، أو فيه نفي الإيمان عن صاحبه أو البراءة منه

المطلب الثالث: ما ورد من الذنوب تسميته كفرا، أو فيه نفي الإيمان عن صاحبه أو البراءة منه وذلك أمثال قوله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (¬1)، وقوله: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) (¬2)، وقوله: ((ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)) (¬3)، وقوله: ((من حمل علينا السلاح، فليس منا، ومن غشنا، فليس منا)) (¬4)، وغيرها من النصوص الكثيرة. قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: (إن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع: فاثنان منها فيها نفي الإيمان والبراءة من النبي صلى الله عليه وسلم، والآخران فيها تسمية الكفر وذكر الشرك، وكل نوع من هذه الأحاديث تجمع أحاديث ذوات عدة) (¬5). لقد كان للأئمة وأهل العلم من أهل السنة عدة أقوال في توجيه هذه الآثار التي ظاهرها نفي الإيمان عن المعاصي أو التبرؤ منه. وبتتبع أقوالهم يتبين اتفاقهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية؛ وذلك لثبوت الحدود الشرعية في بعض تلك الكبائر المنصوص عليها مثلا، مما يجعلنا نقطع بعدم إرادتهم الكفر المخرج أن الزاني والسارق وشارب الخمر لا يقتل – إلا الزاني المحصن -، بل يقام عليه الحد، مما يدل على أنه ليس بمرتد. عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فقال: ((تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، فمن وفّى منكم أجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستر الله عليه، فهو إلى الله عز وجل إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه)) (¬6). وأهم الأقوال الواردة في توجيه هذه النصوص على مذهبين: أولا: مذهب من رأى التوقف عن تفسير هذه الأحاديث وإمرارها كما جاءت. وهذا مروي عن جمع من الأئمة وأهل العلم، منهم: 1 - الإمام الزهري: فقد قال لما سئل عنها: (من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) (¬7). 2 - الإمام أحمد: قال في حديث: ((من غشنا فليس منا)): (يروى الحديث كما جاء، وكما روى تصدقه وتقبله، وتعلم أنه كما روي ... فاتبع الأثر ولا تجاوزه) (¬8)، وقال: (لا أدري إلا على ما روي) (¬9). 3 - الإمام البغوي: قال: (القول ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والعلم عند الله عز وجل) (¬10). ثانيا: مذهب من فسر هذه الأحاديث، ورأى أن المقصود بنفي الإيمان إنما هو نفي كماله، لا أصله وحقيقته. وعلى هذا القول كثير من الأئمة والعلماء، منهم: 1 - الإمام الطبري: حيث قال: (ينزع عنه اسم المدح الذي سمى الله به أولياءه، فلا يقال في حقه مؤمن، ويستحق اسم الذم، فيقال: سارق وزان وفاجر وفاسق). وهذا القول مروي عن الحسن البصري كذلك (¬11). 2 - أبو عبيد القاسم بن سلام: حيث قال: (الذي عندنا في هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً ولا توجب كفرا، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله) (¬12). ¬

(¬1) رواه البخاري (48)، ومسلم (64). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (4402)، ومسلم (66). من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه مسلم (67). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (101). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((الإيمان)) لأبي عبيد (ص: 84). (¬6) رواه البخاري (6784)، ومسلم (1709). (¬7) ((السنة للخلال)) (ص: 579). (¬8) ((طبقات الحنابلة)) (1/ 27). (¬9) ((السنة للخلال)) (ص: 578). (¬10) ((شرح السنة)) (1/ 91). (¬11) ((فتح الباري)) (12/ 60). (¬12) ((الإيمان)) (ص: 89).

3 - الإمام النووي: حيث قال: (القول الصحيح الذي عليه المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان. وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره) (¬1). وقد زاد شيخ الإسلام ابن تيمية قيدا على ما ذكره هؤلاء العلماء، وهو أن المراد هو نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه. كما رد قول المرجئة بأن المراد من نفي الإيمان بأنه ليس من خيارنا، وقول الخوارج بأنه صار كافرا، وقول المعتزلة بأنه لم يبق معه من الإيمان شيء وهو مستحق للخلود في النار لا يخرج منها. ثم رد قول من تأول نفي الإيمان بأنه نفي الكمال المستحب، وقال: (ولكن يقتضي نفي الكمال الواجب. وهذا مطرد في سائر ما نفاه الله ورسوله ... فإنه لا ينفي مسمى الاسم إلا لانتفاء بعض ما يجب في ذلك، لا لانتفاء بعض مستحباته. فيفيد هذا الكلام أن من فعل ذلك، فقد ترك الواجب الذي لا يتم الإيمان الواجب إلا به، وإن كان معه بعض الإيمان) (¬2). وبهذا تتبين خطورة ركوب المعاصي، والغفلة عن تعاهد الإيمان بما يقويه ويزيد فيه، وهذا لا يتم إلا بفعل الطاعات وترك المنهيات. ولهذا جاء التشديد على فاعلها، والتوعد على فعلها بالعذاب، بل إن وصف بعض المعاصي بالكفر لدليل على عظيم خطرها على الإيمان؛ إذ هي كما ورد عن بعض السلف قوله: (المعاصي بريد الكفر). وهذا – في رأيي – إذا أصر عليها الإنسان، فمازالت به حتى ترديه وتوقعه في الردة والكفر – والعياذ بالله -، أو أنها مع الاستحلال تكون كفرا، وهذا معلوم. هذا بالإضافة إلى ما في ارتكابها من التشبه بالكفار في أعمالهم، وقد نهينا نحن معشر المؤمنين عن التشبه بهم. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد– ص: 99 ¬

(¬1) ((شرح مسلم)) (1/ 241). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 653 - 654).

المبحث الخامس: الفرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة

المطلب الأول: أحكام الدنيا المقام الأول: أحكام الدنيا، وهو الحكم بالظاهر من حيث الإسلام والكفر، باعتبارهما صفتين جاء تحديدهما، وبيان شروط تحققهما في الشرع. وهذا الظاهر هو الذي أمرنا بالتعامل به، وعليه تنبني جميع الأحكام المتعلقة بعصمة الدم والمال، والموالاة والمعاداة، وما يتفرع عنها من أحكام أخرى تتعلق بالأطفال والأنكحة والذبائح ... وفي هذا المقام نستطيع أن نقطع في جملة الأمور، ومن ذلك أنه يجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام، فهو كافر، ومصداق ذلك قوله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي في أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)) (¬1). ومما يستتبع هذا الحكم في الدنيا أن دماء الكفار وأموالهم ليست معصومة، إلا أن يكونوا معاهدين أو ليسوا من أهل القتال، أو كانت لهم ذمة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى)) (¬2). كما أن أطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، ودارهم دار كفر إذا كان حكمهم هو النافذ فيها، ولا يجوز للمسلمين أن يقيموا فيها، بل تجب عليهم الهجرة منها إلى دار الإسلام. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُون سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 97 - 99]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قيل: يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءى ناراهما)) (¬3). ومن ذلك – أي مما نستطيع القطع به في الجملة – أن من أظهر الإسلام وأقر بالشهادتين، فهو مسلم، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وتجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة من المناكحة والموارثة، وتغسيله إذا مات والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين. كما يجب له من الولاء الذي فرضه الله لكل مسلم على كل مسلم بالقدر الذي تتحقق معه النصرة والأنس والمعاونة التي يجب أن تكون بين المسلمين، حسب التزامهم بالإسلام ظاهراً. ويدخل في هذا جميع المسلمين، سواء كانوا صادقين في إسلامهم، أو كانوا منافقين مظهرين للإسلام مضمرين للكفر. هذا من حيث الجملة، أما التعيين، فمجاله التفصيل. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد– ص: 126 ¬

(¬1) رواه مسلم (153). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). (¬3) رواه أبو داود (2645)، والترمذي (1604)، والبيهقي (8/ 131) (16912). قال البخاري وأبو حاتم الرازي في ((البدر المنير)) لابن الملقن (9/ 163): الصحيح أنه مرسل، وقال البيهقي: موصول، وقال ابن حزم في ((المحلى)) (10/ 369): صحيح.

المطلب الثاني: أحكام الآخرة من ثواب وعقاب

المطلب الثاني: أحكام الآخرة من ثواب وعقاب المقام الثاني: مقام الحقيقة، أي أحكام الآخرة من ثواب وعقاب: من عقيدة أهل السنة فيما يتعلق بأحكام الثواب والعقاب: أن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين. وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 82]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 40]، وقال تعالى: مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة)) (¬1). أن الله لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه حجة الله تعالى بالرسل، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، وقال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]. فمما يعد من أحكام الآخرة في هذا الموضوع هو ثبوت قيام الحجة على المعينين، ومن ثمة الحكم عليهم بالكفر الحقيقي، فدخول النار والخلود فيها. وهذا مما لم نكلف الخوض فيه، بل هو موكول إلى علم الله تعالى وحكمته وعدله في خلقه. أما الذي يجب علينا اعتقاده في جملة الخلق أن الله تعالى وهو أعدل العادلين لا يعذب أحداً حتى تقوم عليه حجة الله تعالى بالرسالة، ثم يعاند ويعرض عنها (¬2). أما من انقاد للحجة، أو لم تبلغه لعارض من العوارض المعتبرة شرعا، فإن الله تعالى لا يعذبه، وهذا من تمام عدله وسعة رحمته (¬3). الذي عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان، بل يخرج منها من معه مثقال حبة، أو مثقال ذرة من إيمان؛ لأنه لابد أن يدخل من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، أو بمحض رحمة أرحم الراحمين. لا نقول على أحد معين من أهل القبلة إنه من أهل الجنة أو من أهل النار، إلا من أخبر الصادق أنه من أهل الجنة أو من أهل النار. فعن أبي هريرة قال: ((شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فقال لرجل ممن يُدعى بالإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضرنا القتال، قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جراحاً شديداً، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (3062)، ومسلم (111). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 412). (¬3) انظر: ((تفسير السعدي)) (4/ 266). (¬4) رواه مسلم (111). ورواه البخاري (3062) بلفظ: ((خيبر)) بدلاً من ((حنينا)).

قال الإمام أحمد – رحمه الله -: (ولا نشهد على أحد من أهل القبلة بعمل يعمله بجنة ولا نار، نرجو للصالح ونخاف عليه، ونخاف على المسيء المذنب، ونرجو له رحمة الله) (¬1). وقال أيضاً: (ولا ننزل أحداً من أهل القبلة جنة ولا ناراً، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة) (¬2). وقال الإمام الطحاوي – رحمه الله -: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً) (¬3). ثمرة البحث: 1 - الحكم على الظاهر من أهم أصول أهل السنة: فمن أظهر الإسلام والتزم شرائعه، حكم بإسلامه واستحق جميع الحقوق التي شرعها الله للمسلمين، ووجب عليه جميع ما وجب على المسلمين، ويستوي في هذا المسلم على الحقيقة، والمسلم نفاقاً خوفاً من قتل أو طمعاً في مكسب. ولم نكلف شق صدور الناس أو امتحانهم. هذا إذا تكلم في أحكام الدنيا، أما إذا تكلم في أحكم الآخرة، فإن حكم المنافق حكم الكفار، بل هم إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145]. ومن أظهر الكفر الصريح، حكمنا بكفره وعاملناه بما يقتضيه وضعه، فإن كان حربيا حاربناه، وإن كان معاهداً أتممنا إليه عهده، وإن كان ذميا أقررناه على وضعه مع أخذ الجزية منه وهو صاغر. أما من كان مسلماً وظهر منه فعل كفري، فإن الواجب الذي ينبغي أن يتبع في الحكم عليه ابتداء هو الحكم على الفعل دون الفاعل. ... وأن الحكم بالتكفير إنما يعني – عند أهل السنة – الحكم الظاهر الذي يقتضيه عمله؛ لأن هذا الفعل قد تكتنفه حالتان، كل واحدة منهما يمتنع فيها الجزم بالحكم على الفعل بأنه كفر، فضلاً عن أن يوصف الفاعل بالكفر. الحالة الأولى: أن يكون الفاعل محتملاً للكفر وعدمه (¬4). فكون الفعل محتملاً لهذين الأمرين المتضادين يجعل القطع فيه بحكم صعباً، لذلك فإن حكم التكفير يجب أن ينبني على فعل صريح في الكفر. الحالة الثانية: أن يقوم بالمعين ما هو كفر قطعاً، لكن يمنع من تكفيره الاحتمال في قصده. فقد يكون هذا المعين لم يقصد الكفر؛ لعارض عرض له كسوء الفهم أو الخطأ في الاجتهاد ... 2 - التوقف عن التعيين في مسألة التكفير والوعد والوعيد: وذلك حتى تتوفر شروط وتنتفي موانع، وذلك أن الحكم بالتكفير هو من اختصاص الله تعالى؛ لأنه هو الذي يعلم حقيقة كل شيء. فالتجرؤ على هذا الأمر على جانب كبير من الصعوبة والخطورة. فالكلام في هذه المسائل يجب أن ينبني على العلم واليقين والعدل، وإلا كان تقولاً على الله غير علم، وظلماً لخلق الله. فالواجب في هذه الحالة هو اتباع الكتاب والسنة والقول. بموجبهما، حتى يؤمن الزلل والشطط. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله عليه -: (إن نصوص الوعيد في الكتاب والسنة كثيرة جدا، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق من غير أن يعين شخص من الأشخاص، فيقال: هذا ملعون أو مغضوب عليه أو مستحق للنار، لا سيما إن كان لذلك الشخص فضائل وحسنات، فإن غير الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام يجوز عليهم الصغائر والكبائر، مع إمكان أن يكون ذلك الشخص صديقا أو شهيدا أو صالحا؛ لما تقدم أن موجب الذنب قد يتخلف عنه بتوبة أو استغفار أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة أو بمحض مشيئة الله ورحمته) (¬5). ¬

(¬1) ((طبقات الحنابلة)) (1/ 244). (¬2) ((طبقات الحنابلة)) (1/ 312). (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 537). (¬4) عن هاتين الحالتين ينظر: ((رسالة ضوابط التكفير عند أهل السنة)) (ص: 280). (¬5) ((رفع الملام)) (ص: 122).

وهذا له ارتباط بمسألة قيام الحجة وعدمه، حيث إن الذي يجب اعتقاده في هذا الباب هو أن الله تعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسل، كما أنه ما من أحد أدخل النار إلا ويجب اعتقاد أن حجة الله قد قامت عليه، وهذا مقتضى عدل الله تعالى، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 16]. وهذا ما يقطع به في جملة الخلق. أما كون زيد بعينه أو عمرو قامت عليه الحجة أو لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه؛ لأن التعيين موكول إلى علم الله وحكمه (¬1). ولهذا فإن أهل الفترة في أحكام الدنيا كفار، أما في الآخرة، فأمرهم إلى الله وهو أعلم بحالهم. 3 - أن عقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة: فقد تقام الحدود على أشخاص في الدنيا، إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، من غير الحكم عليهم بالكفر، بل يصلى عليهم ويستغفر لهم. وقد يكون هؤلاء الأشخاص غير معذبين في الآخرة، ويدخل في هذا الباب قتال البغاة والمتأولين مع بقائهم على العدالة، ومثل إقامة الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على ماعز بن مالك وصلى عليه (¬2)، ونهى عن شتمه. كما أقامه على الغامدية، فنهى خالد بن الوليد عن سبها، وقال: ((لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له. ثم صلى عليها)) (¬3). ومن هذا الباب رأي من رأى من السلف قتل الدعاة إلى البدعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (ولهذا كان أكثر السلف يأمرون بقتل الداعي إلى البدعة الذي يضل الناس؛ لأجل إفساده في الدين، سواء قالوا: هل هو كافر أو ليس بكافر) (¬4). فظهر أن التوقف في أمر الآخرة لا يمنع من عقاب الدنيا. 4 - الفرق بين الحكم بكفر المعين والحكم بإسلامه: فإن إسلام المعين يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، ثم يلزم بعد ذلك بلوازمه، وهو إسلام حكمي قد يكون المعين معه منافقاً في الباطن؛ أما الكفر فليس حكماً على الظاهر فقط، وإنما هو حكم على الظاهر والباطن معا، بحيث لا يصح لنا أن نحكم على معين بالكفر مع احتمال أن يكون غير كافر على الحقيقة (¬5). وإذا عرف هذا، فإن تكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم – بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار – لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم الحجة الرسالية عليه التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت مقالاتهم، لا ريب أنها كفر. ¬

(¬1) انظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 679). (¬2) الحديث رواه البخاري (6820) بلفظ: ((أن رجلا من أسلم ... فأمر به فرجم بالمصلى فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا وصلى عليه)). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. سئل أبو عبدالله هل قوله (فصلى عليه) يصح أم لا؟ قال رواه معمر، قيل له: هل رواه غير معمر؟ قال: لا. وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 218): (وصلى عليه) خطأ. وقال محمد بن عبدالهادي في ((المحرر)) (193): هكذا رواه البخاري من رواية معمر، عن الزهري عن أبي سلمة، عن جابر قال: ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري: (فصلى عليه). ورواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وقالوا: (ولم يصل عليه) وصححه الترمذي وهو الصواب. والصحيح: عن معمر كرواية غيره، عن الزهري. (¬3) رواه مسلم (1695). من حديث بريدة رضي الله عنه. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 500)، وانظر: (12/ 524). (¬5) انظر: ((رسالة ضوابط التكفير عند أهل السنة)) (ص: 280).

وذلك أن الحكم بالكفر الحقيقي على شخص معين يتعلق بأحكام الثواب والعقاب في الآخرة أكثر من تعلقه بأحكام الدنيا، وقد عُلم أن أحكام الآخرة مما لا سبيل لنا لمعرفتها على التفصيل فيما يخص أحكام المعينين، لهذا لزم التحري الشديد والتريث والتبين بعلم. 5 - الشخص الذي قد يعذبه الله في النار ثم يدخله الجنة كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة؛ لكونه له سيئات عذب من أجلها، وحسنات فدخل بها الجنة، هل يطلق عليه اسم مؤمن؟ فيه تفصيل: 1 - بالنظر إلى أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، فهو مؤمن، وكذلك دخوله في خطاب المؤمنين. 2 - وبالنظر إلى حكمه في الآخرة، فيقال إن هذا النوع ليس من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه (¬1). من خلال استعراض موضوع أحكام الدنيا وأحكام الثواب والعقاب في الآخرة، فإنه بات واضحاً أننا ونحن نتحدث عن أحكام عصاة الموحدين، سواء كانت معاصيهم تلك من المعاصي الاعتقادية البدعية أو العملية الفجورية. لقد بات واضحاً ضرورة التفريق بين هذين النوعين من الأحكام حتى يكون الحكم عدلاً وصواباً، أي موافقاً للكتاب والسنة. وهذا من مميزات منهج أهل السنة؛ إذا التفصيل هو منهجهم غالباً في هذه المسائل الكبيرة من الدين. فالفرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة هو الذي يتطابق مع حقيقة المنهج النبوي، الذي رأينا من خلال العرض السابق نماذج منه في التعامل مع الوقائع. ومن ثمرات هذا المبحث التي عرضنا لها سابقاً، نتبين أهمية التفريق بين هذه الأحكام؛ إذ فيه من المحافظة على عصمة دم الموحدين من هذه الأمة وعدم التسرع في الحكم عليهم بالكفر، وذلك بالنظر في الوقائع بالدقة اللازمة التي تتطلبها خطورة الحكم بالكفر على شخص ما؛ لأن لذلك الحكم آثاراً تستتبعه، كسقوط عصمة الدم والمال والبراءة منه ... أما الذين خالفوا هذا المنهج وجعلوا أحكام الدنيا مستلزمة لأحكام الآخرة مطلقاً، فقد وقعوا في التخبط الشنيع، فاستحلوا دماء معصومة، وحكموا على أخيار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالكفر، وشهدوا عليهم بالنار في الآخرة. ويأتي في مقدمة هؤلاء الغلاة طائفة الخوارج التي جعلت الفعل الظاهر دليلاً على القصد الباطن، وجعلت الإيمان حقيقة مركبة تزول بزوال أحد عناصرها، فكفروا بمطلق المعاصي. ثم تطاولوا على مقام الألوهية، فحكموا على الموحدين بالنيران، ومنعوا وقوع الشفاعة في عصاة أهل القبلة المعذبين، ومن ثم منعوا خروج من دخل النار من النار، وقالوا بالمكث الأبدي في النار حتى للموحدين. وهذه مخالفة صريحة للنصوص النبوية، بل هي تكذيب لها وإعراض عنها. ولهذا سرعان ما يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وهو جزاء وفاق على غلوهم وإعراضهم عن هدي الكتاب والسنة. أما خيار الأمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، فقد تمسكوا بالأمر الأول، وفروا من المحدثات، بل وحاربوها حتى حفظ لنا الدين على منهاج النبوة. فقد تعاملوا مع المنافقين – وهم من هم في الخصومة والعداء – على وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو اعتبار ظاهرهم، وترك سرائرهم إلى الله عز وجل. ولقد كانوا أغير الناس على دين الله، تدفعهم غيرتهم إلى تجاوز حدود النصوص في التعامل مع الأحداث حتى في أشد الظروف. ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 354 - 355).

ولما كان يحدث منهم خروج عن هذا المنهج، فسرعان ما يندمون ويرجعون، كما فعل أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – عندما قتل ذلك المشرك بعد أن قال لا إله إلا الله، فعنفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه تصوره أن ذاك المقتول إنما قال ذلك تعوذا وخوفاً من القتل، وقال: ((إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس)) (¬1). والحاصل أن الوقائع من هذا النوع قليلة؛ وذلك لما كان للهدي النبوي من أثر في تربيتهم – رضوان الله عليهم أجمعين. ولم يؤثر عن هؤلاء الأخيار أنهم طعنوا في نيات الأشخاص أو مقاصدهم؛ لعلمهم أنه لا سبيل لهم إلى ذلك، فتركوا عناء الحكم عليها. فالتزام التفريق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة عند الحديث في مسائل التكفير أو التبديع أو التفسيق، وكذا التفريق بين الفعل والفاعل وأحكام المعين وغير المعين هو منهج أهل السنة، وهو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح؛ لأن قوامه العدل الذي أمر الله به في كتابه، قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ [النساء: 58]. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد– ص: 131 ¬

(¬1) رواه مسلم (1064). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. بلفظ: ((بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من اليمن، بذهبة في أديم مقروظ. لم تحصل من ترابها. قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل. فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء. قال: فقام رجل غائر العينين. مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار. فقال: يا رسول الله! اتق الله. فقال: ويلك! أو لست أحق أهل الأرض أن يتقى الله. قال: ثم ولي الرجل. فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا. لعله أن يكون يصلي. قال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس)).

الفصل الثاني: اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد

تمهيد: من المعلوم أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهذا الذي عليه السلف. والزيادة إنما تحصل بالطاعة، والنقصان يحصل بالمعصية. والحديث هنا عن نقصان الإيمان وبيان أنه لا يعني انتفاءه بالكلية، وصاحبه إما أن يسمى فاسقاً أو عاصياً أو مؤمناً ناقص الإيمان، ولا يسلب عنه مطلق الإيمان وإن كان لا يوصف بالإيمان المطلق. فامتناع السلف عن وصفه بالإيمان المطلق؛ لأن هذا الوصف هو مناط دخول الجنة والنجاة من النار. ثم إن الفاسق مستحق للوعيد؛ لما اقترفه من المعاصي، أو لما ترك من الواجبات، كما أنه مستحق للوعد بما معه من إيمان. وخلاصة ما ذهب إليه السلف فيما يسمى (الفاسق الملي) أنه مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، هذا من حيث التسمية في أحكام الدنيا. أما حكمه في الآخرة، فهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء أدخله النار، ثم أخرجه منها. والذي يقطع به بالنسبة لحكمه في الدار الآخرة هو أنه إذا دخل النار، ولبث فيها ما شاء الله أن يلبث، فلابد أن يخرج منها بسبب من الأسباب ثم يدخل الجنة (¬1). وقد خالف في هذه المسائل جميعاً كثير من الفرق وعلى رأسها الخوارج والمعتزلة في طرف، والمرجئة في طرف ثان. وأصل مقالتهم في الإيمان أنه شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ولا يذهب بعضه ويبقى بعضه، بل إذا زاد، فإنه يزيد جميعه، وإذا زال بعضه، زال جميعه. وقالوا: لأن الإيمان حقيقة مركبة، والحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 144 ¬

(¬1) انظر: ((معارج القبول)) (2/ 417 - 422).

المبحث الأول: أدلة أهل السنة على هذا الأصل

المبحث الأول: أدلة أهل السنة على هذا الأصل استدل أهل السنة على كون الشخص الواحد قد يجتمع فيه الإيمان وبعض شعب الكفر أو النفاق بأدلة من الكتاب والسنة، وبما هو واقع مشاهد لا يخفى على أحد. ومنها قول الله عز وجل: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران: 167]، فأثبت لهم إيماناً وكفراً، غير أنهم أقرب إلى الكفر. قال ابن كثير – رحمه الله -: (استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان) (¬1). وقال الشيخ السعدي – رحمه الله -: (في هذه الآيات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر وخصلة إيمان. وقد يكون إحداهما أقرب من الأخرى) (¬2). وقوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف: 106]. قال ابن القيم رحمه الله: (أثبت لهم الإيمان به مع مقارنة الشرك، فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله، لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله. وإن كان معه تصديق لرسله، وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم من الإيمان بالرسل واليوم الآخر، فهؤلاء مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر) (¬3). ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)) (¬4). فقوله ((ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)) تدل على اجتماع إيمان هذا الشخص مع شعبة من شعب النفاق دون أن يكون منافقاً خالصاً. ومنها أحاديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من إيمان التي تدل على أنهم استحقوا النار بمعاصيهم – وهي من شعب الكفر – ثم استحقوا الجنة بإيمانهم. ثم إن الواقع يؤكد على وجود مؤمنين اجتمع فيهم إيمان ونفاق، وطاعة وفجور، وسنة وبدعة، ولا ينكر هذا إلا مكابر. قال الإمام ابن حزم – رحمه الله -: (هذا الذي أنكروه – أي أهل البدع لا نكرة فيه، بل هو أمر موجود مشاهد. فمن أحسن من وجه وأساء من وجه آخر، كمن صلى ثم زنى، فهو محسن محمود، ولي لله فيما أحسن فيه من صلاة، ومسيء مذموم عدو لله فيما أساء فيه من الزنا، قال الله عز وجل: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا [التوبة: 102]. فبالضرورة ندري أن العمل الذي شهد الله عز وجل له أنه عمل صالح، فإنه عامله فيه محمود محسن مطيع لله. وأن العمل الذي شهد الله عز وجل أنه سيء، فإن عامله فيه مذموم مسيء عاص لله تعالى) (¬5). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 153 ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 425). (¬2) ((تفسير السعدي)) (1/ 454). (¬3) ((مدارج السالكين)) (1/ 282). (¬4) رواه البخاري (34)، ومسلم (58). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. (¬5) ((الفصل)) لابن حزم (3/ 277).

المبحث الثاني: ضوابط أهل السنة في مسألة اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد

المبحث الثاني: ضوابط أهل السنة في مسألة اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد لما قعد أهل السنة هذا الأصل، فإنهم اعتمدوا في ذلك التفصيل دون الإطلاق، ووضعوا ضوابط وشروطاً لهذه المسألة حتى تنحصر الأنواع في إطار شرعي متين. ولا تتميع المسألة حتى يخوض فيها من يشاء كيفما شاء ومن هذه الضوابط: 1 - الحديث عن الشعب وليس عن الأصل: إذا قال أهل السنة إن الشخص قد يجتمع فيه إيمان وكفر، أو إيمان ونفاق، فليس مقصودهم أصل الكفر أو أصل النفاق، إنما المقصود شعبهما التي لا تضاد أصل الدين. لهذا فصل ابن القيم – رحمه الله – معنى الشرك المذكور في قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف: 106] أنه إن كان هذا الشرك يتضمن تكذيباً لرسل الله – عليهم السلام -، فإن الإيمان الذي معهم لا ينفعهم. أما إن كان متضمناً للتصديق برسل الله – عليهم السلام -، فإن الإيمان الذي معهم ينفعهم في عدم الخلود في النار دون دخولها (¬1). كما أنه لما لم يفهم أحد مبتدعة العراق هذه المسألة، حاول أن يبرر ما عليه قومه من الشرك بعبادة غير الله من المقبورين والذبح لهم، حاول أن ينفي عنهم الشرك بهذا الأصل الذي أثر عن السلف، وهو أن اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد لا يلزم منه كفر هذا الشخص. فرد عليه الشيخ ابن سحمان بقوله: (وأما قوله – أي العراقي – (والمسلم قد يجتمع فيه الكفر والإسلام والشرك والإيمان، ولا يكفر كفراً ينقله عن الملة). فأقول – أي الشيخ ابن سحمان -: نعم، هذا فيما دون الشرك، والكفر الذي يخرج عن الملة) (¬2). ثم سرد بعض الشعب الشركية والكفرية، وبين أنها هي التي قد تجتمع مع الإيمان في شخص واحد، ولا يخرج من الملة بذلك. ومفهوم كلامه في الرد على العراقي أن ما كان شركاً أكبر، أو كفراً أكبر مما يخرج عن الملة لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان الذي ينجو به العبد من الكفر في الدنيا، وينجو به من الخلود في النار يوم القيامة، فإنهما نقيضان، والنقيضان لا يجتمعان. 2 - قيام شعبة من الكفر أو أكثر بالعبد لا يلزم منه كفره بالضرورة: وذلك أن من ثبت له عقد الإسلام لا يحكم بكفره بمجرد صدور فعل كفري عنه حتى تثبت في حقه التكفير، كإثبات أن الفعل الكفري الذي صدر عنه يعتبر ناقضاً للإسلام بلا نزاع، كما أن هذا الحكم بالتكفير منوط بعدم وجود موانع في حق ذلك الشخص، سواء كانت جبلية أو مكتسبة. أما ما لا يعتبر من الأعمال الكفرية ناقضاً للإسلام، فالأدلة تدل على إمكان اجتماعهما بالإيمان في الشخص الواحد دون أن يكون كافراً بذلك، وذلك ما كان من باب (كفر دون كفر). قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (قد يكون في الناس من معه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب الكفر أو النفاق، ويسمى مسلماً كما نص عليه أحمد. وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب النفاق. وقد يكون مسلماً وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال ابن عباس وغيره: كفر دون كفر. وهذا قول عامة السلف، وهو الذي نص عليه أحمد وغيره قال في السارق والشارب ونحوهم ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بمؤمن (¬3): إنهم يقال لهم مسلمون لا مؤمنون. واستدلوا بالقرآن والسنة على نفي اسم الإيمان مع إثبات اسم الإسلام، وبأن الرجل قد يكون مسلماً ومعه كفر لا ينقل عن الملة، بل كفر دون كفر) (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 282). (¬2) ((الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق)) (ص: 376). (¬3) حديث نقص الإيمان رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 350).

3 - قيام شعبة من الإيمان أو أكثر بالعبد لا يلزم منه تسميته مؤمناً: وهذا الضابط له صورتان: الصورة الأولى: من لم يستوف جميع خصال الإيمان الواجب الذي بموجبه يكون من أهل الجنة ابتداء، فهذا لا يسمى مؤمناً وإن قامت به بعض شعب الإيمان دون بعضها الآخر. وذلك لما قد يعتريه من ضعف، فيعصي الله تعالى بفعل محرم أو بترك واجب، ولهذا قال الله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]. وروى البخاري بسنده إلى سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطاً وسعد جالس، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟، فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال: ((أو مسلما)) .. (¬1) الحديث. الصورة الثانية: وهي تنطبق على المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. فمن علم منه النفاق، لا يسمى مؤمناً ولا مسلماً وإن قام بظاهره كثير من الشعب الإيمانية كالشهادتين وأركان الإسلام الأخرى ... الخ. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 155 ¬

(¬1) رواه البخاري (27). ورواه مسلم (150).

المبحث الثالث: اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد وأثره في مسألة الولاء والبراء

المبحث الثالث: اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد وأثره في مسألة الولاء والبراء إن الله عقد الأخوة والمحبة والموالاة والنصرة بين المؤمنين، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم. فكان من الأصول المتفق عليها بين المسلمين أن كل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات التي دلت عليها الشريعة بلا نزاع من أحد، فإن محبته وموالاته ونصرته واجبة. وكل من كان بخلاف ذلك، وجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، بل وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان. قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة: 71]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة: 73]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الولاية ضد العداوة. وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد ... فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له، كما قال تعالى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1]. فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، فلهذا قال: ((ومن عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة)) (¬1)) (¬2). أما من لم يصف له اتباع أوامر الله تعالى بالطاعة التامة والانقياد الكامل، بل ترك بعض ما وجب عليه أو فعل بعض ما حرم عليه مع وجود الإيمان بالله والقيام ببعض ما أمر الله به، فإن هذا لا يكون وليا لله من كل وجه بما معه من إيمان وبعض العمل الصالح، كما لا يكون عدوا لله من كل وجه بسبب تقصيره في حق الله تعالى بترك الواجب وفعل المحرم. والذي تقرر عند أهل السنة أن كل شخص اجتمع فيه إيمان وكفر، أو إيمان ونفاق، أو طاعة ومعصية، فإنه يكون قد اجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، فيكون محبوباً من وجه ومبغوضاً من وجه، والحكم العام يكون للغالب بحسب قربه من الكفر أو الإيمان أو بعده عنهما. قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: (أهل السنة متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين، ويكون محبوباً ومبغوضاً له من وجهين أيضاً، بل يكون فيه إيمان ونفاق، وإيمان وكفر، ويكون إلى أحدهما أقرب منه للآخر فيكون من أهله) (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر. فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم) (¬4). فالموالاة والمعاداة لا دخل لحظوظ النفس فيها كالقرابة والنسب والجاه، وإنما هذه الأعراض تابعة لأصل الولاء والبراء اللذين يجب أن يتمحضا لله. فالنظر إلى أعمال الناس ومدى قربهم من مرضاة الله أو بعدهم عنه هو المناط الذي ترتكز عليه الموالاة أو المعاداة. أما درجات هذه الموالاة أو المعاداة، فتتحدد بما يترجح لدى الشخص من خير أو شر، فمن ترجح جانب الخير عنده، فهذا يوالى بدرجة أكبر من درجة معاداته والعكس. ومما يعتبر كذلك في هذه المسألة جانب المصلحة والمفسدة من جهة تقدير الدعاة والمصلحين؛ حتى لا ينفر الناس من الدعوة والقائمين عليها. قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف: (وأما من ظاهره الإسلام منهم، ولكن ربما قد يوجد فيهم من الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة وفيهم شيء من أمور الجاهلية، ومن أنواع المعاصي – صغائر كانت أو كبائر -، فلا يعاملون معاملة المرتدين، بل يعاملون برفق ولين، ويبغضون على ما معهم من هذه الأوصاف. وليعلم أن المؤمن تجب موالاته ومحبته على ما معه من الإيمان، ويبغض ويعادى على ما معه من المعاصي. وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة وزجر وردع، وإلا فيعامل بالتأليف وعدم التنفير، والترغيب في الخير برفق ولطف ولين؛ لأن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المضار) (¬5). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 159 ¬

(¬1) رواه البخاري (6502) بلفظ: ((فقد آذنته بالحرب)) بدلاً من: ((فقد بارزني بالمحاربة)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 160 - 161). (¬3) ((مدارج السالكين)) (1/ 281 - 282). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 208). (¬5) ((مجموعة الرسائل النجدية)) (2/ 1/137).

الفصل الثالث: أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه

الفصل الثالث: أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه إن الإيمان الصحيح كما جاءنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه السعادة العاجلة والآجلة. وأنه يصلح الظاهر والباطن، والعقائد، والأخلاق، والآداب. وأنه يدعو جميع العباد إلى ما فيه من كل خير وصلاح، ويهدي للتي هي أقوم. فإذا كان الأمر كما ذكرنا؛ فلم أكثر الناس عن الدين والإيمان معرضون، وله محاربون، ومنه ساخرون؟ وهل كان الأمر بالعكس؛ لأن الناس لهم عقول وأذهان تختار الصالح على الطالح، والخير على الشر، والنافع على الضار؟ نعم كان من المفروض أن يكون الأمر كذلك! واعلم أن الله تعالى قد ذكر هذا الإيراد في كتابه العزيز، وأجاب عنه بذكر الأسباب الواقعة، وبالموانع العائقة، وبذكر الأجوبة عن هذا الإيراد فلا يهول العبد ما يراه عن إعراض أكثر البشر عنه، ولا يستغرب ذلك؛ فقد ذكر الله عز وجل من أسباب عدم الإيمان بالدين؛ موانع عديدة، واقعة من جمهور البشر، منها: 1 - الجهل بالإيمان: الجهل به، وعدم معرفته حقيقة، وعدم الوقوف على تعاليمه العالية، وإرشاداته السامية. والجهل بالعلوم النافعة؛ أكبر عائق، وأعظم مانع من الوصول إلى الحقائق الصحيحة، والأخلاق الحميدة، قال الله تبارك وتعالى: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس: 39]. وقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 111]. وقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 37]. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] والجهل إما أن يكون بسيطاً؛ كحال كثير من دهماء المكذبين للرسول الرادين لدعوته اتباعاً لرؤسائهم وساداتهم. وهم الذين يقولون إذا مسهم العذاب: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67]. وإما أن يكون الجهل مركبا؛ وهذا على نوعين: أحدهما: أن يكون على دين قومه وآبائه، ومن هو ناشئ معهم فيأتيه الحق فلا ينظر فيه، وإن نظر فنظر قاصر جدا لرضاه بدينه الذي نشأ عليه وتعصبه لقومه، وهؤلاء جمهور المكذبين للرسل، الرادين لدعوتهم، الذين قال الله فيهم: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف: 23]. وهذا هو التقليد الأعمى؛ الذي يظن صاحبه أنه على حق، وهو على الباطل. ويدخل في هذا النوع: أكثر الملحدين الماديين؛ فإن علومهم عند التحقيق تقليد لزعمائهم؛ إذا قالوا مقالة قبلوها كأنها وحي منزل، وإذا ابتكروا نظرية خاطئة سلكوا خلفهم في حال اتفاقهم وحال تناقضهم، وهؤلاء فتنة لكل مفتون لا بصيرة له. النوع الثاني من الجهل المركب: حالة أئمة الكفر وزعماء الملحدين الذين مهروا في علوم الطبيعة والكون. واستجهلوا غيرهم، وحصروا المعلومات في معارفهم الضئيلة الضيقة الدائرة، واستكبروا على الرسل وأتباعهم. وزعموا أن العلوم محصورة فيما وصلت إليه الحواس الإنسانية، والتجارب البشرية، وما سوى ذلك أنكروه، وكذبوه مهما كان من الحق؛ فأنكروا رب العالمين، وكذبوا رسله، وكذبوا بما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب كلها. وهؤلاء أحق الناس بالدخول تحت قوله تعالى: فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون [غافر: 83].

ففرحهم بعلومهم – علوم الطبيعة – ومهارتهم فيها هو السبب الأقوى الذي أوجب لهم تمسكهم بما معهم من الباطل، وفرحهم بها يقتضي تفضيلهم لها، ومدحهم لها وتقديمها على ما جاءت به الرسل من الهدى والعلم؛ بل لم يكفهم هذه الحال؛ حتى وصلوا إلى الاستهزاء بعلوم الرسل واستهجانها، وسيحيق بهم ما كانوا به يستهزئون. ولقد انخدع لهؤلاء الملحدين كثير من المشتغلين بالعلوم العصرية التي لم يصحبها دين صحيح، والعهدة في ذلك على المدارس التي لم تهتم بالتعاليم الدينية العاصمة من هذا الإلحاد. فإن التلميذ إذا تخرج فيها ولم يمهر في العلوم الدينية، ولا تخلق بالأخلاق الشرعية، ورأى نفسه أنه يعرف ما لا يعرفه غيره؛ احتقر الدين وأهله، وسهل عليه الانقياد لهؤلاء الملحدين الماديين. وهذا أكبر ضرر ضرب به الدين الإسلامي. فالواجب قبل كل شيء على المسلمين نحو المدارس: أن يكون اهتمامهم بتعليم العلوم الدينية قبل كل شيء. أن يكون النجاح وعدمه متعلقا بها لا بغيرها؛ بل يجعل غيرها تبعاً. وهذا من أفرض الفرائض على من يتولاها ويباشر تدبيرها؛ فليتق الله من له ولاية، أو كلام عليها، وليحتسب الأجر عند الله. 2 - الحسد والبغي: كحال اليهود الذين يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه وحقيقة ما جاء به كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم يكتمون الحق وهم يعلمون؛ تقديماً للأغراض الدنيوية والمطالب السفلية على نعمة الإيمان. وقد منع هذا الداء كثيراً من رؤساء قريش كما هو معروف من أخبارهم وسيرهم، وهذا الداء في حقيقة الأمر ناشئ عن داء آخر، وهو الكبر. 3 - الكبر: الذي هو أعظم الموانع من اتباع الحق، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 146]. فالتكبر – الذي هو رد الحق واحتقار الخلق – منع خلقاً كثيراً من اتباع الحق والانقياد له بعد ما ظهرت آياته وبراهينه، قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 14]. 4 - الإعراض عن الحق والإيمان: الإعراض عن الأدلة السمعية، والأدلة العقلية الصحيحة؛ من أهم موانع الإيمان، قال الله تبارك وتعالى: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [الزخرف: 36 - 37]. وقال: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10]. فلم يكن لأمثال هؤلاء الذين اعترفوا بعدم عقلهم وسمعهم النافع رغبة في علوم الرسل، والكتب المنزلة من الله، ولا عقول صحيحة يهتدون بها إلى الصواب، وإنما لهم آراء ونظريات خاطئة يظنونها عقليات، وهي جهالات ولهم اقتداء خلف زعماء الضلال منعهم من اتباع الحق؛ حتى وردوا نار جهنم، فبئس مثوى المتكبرين. 5 - رد الإيمان بعد معرفته: رد الإيمان بعد ما تبين؛ فيعاقب العبد بانقلاب قلبه ورؤيته الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]. لأن الجزاء من جنس العمل، وقد ولاهم الله ما قالوا لأنفسهم: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ [الأعراف: 30]. 6 - الانغماس في الترف والإسراف في التنعم:

فإنه يجعل العبد تابعا لهواه، منقاداً للشهوات الضارة، كما ذكر الله هذا المانع في عدة آيات، مثل قوله: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ [الأنبياء: 44]. وقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة: 45]. فلما جاءتهم الأديان الصحيحة بما يعدل ترفهم، ويوقفهم على الحد النافع، ويمنعهم من الانهماك الضار في اللذات؛ رأوا ذلك صاداً لهم عن مواداتهم. وصاحب الهوى الباطل ينصر هواه بكل وسيلة. لما جاءهم الدين بوجوب عبادة الله، وشكر المنعم على نعمه، وعدم الانهماك في الشهوات، ولوا على أدبارهم نفوراً. 7 - احتقار الحق وأهله: احتقار المكذبين للرسل _ عليهم السلام _ وأتباعهم، واعتقاد نقصهم، والتهكم بهم، والتكبر عليهم؛ من الموانع الصادة عن وصول الإيمان إلى القلب؛ كما قال قوم نوح عليه السلام: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111]. وهذا الداء منشؤه من الكبر؛ فإذا تكبر وتعاظم في نفسه، واحتقر غيره اشمأز من قبول ما جاء به من الحق؛ حتى لو فرض أن هذا الذي رده جاءه من طريق من يعظمه لقبله بلا تردد. 8 - الفسق: فالفسق أكبر مانع من قبول الحق علماً وعملاً، قال تعالى: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [يونس: 33]. والفسق: هو خروج العبد عن طاعة الله إلى طاعة الشيطان. والله تعالى لا يزكي من كانت هذه حاله؛ بل يكله إلى نفسه الظالمة فتجول في الباطل عناداً وضلالا، وتكون حركاته كلها شرا وفساداً؛ فالفسق يقرنه الباطل، ويصده عن الحق؛ لأن القلب متى خرج عن الانقياد لله والخضوع؛ فلابد أن ينقاد لكل شيطان مريد: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج: 4]. 9 - حصر العلوم والحقائق في دائرة ضيقة: كما فعل ملاحدة الماديين في حصرهم العلوم بمدركات الحس؛ فما أدركوه بحواسهم أثبتوه، وما لم يدركوه بها نفوه، ولو ثبت بطرق وبراهين أعظم بكثير، وأوضح وأجلى من مدركات الحس، وهذه فتنة وشبهة؛ ضل بها خلق كثير. ولكن المؤمن البصير يعرف بنور بصيرته أنهم في ضلال مبين. 10 - تجرد الماديين ومن تبعهم من المغرورين: زعم هؤلاء الماديون: أن البشر لم يبلغوا الرشد، ونضوج العقل إلا في هذه الأوقات التي طغت فيها المادة، وعلوم الطبيعة، وأنهم قبل ذلك لم يبلغوا الرشد. وهذا فيه من الجراءة والإقدام على السفسطة والمكابرة للحقائق، والمباهتة ما لا يخفى على من له أدنى معقول لم تغيره الآراء الخبيثة. فلو قالوا: إن المادة والصناعة والاختراعات، وتطويع الأمور الطبيعية لم تنضج ولم تتم إلا في الوقت الأخير لصدقهم كل واحد. فإن العقول والعلوم الصحيحة؛ إنما تعرف ويستدل على كمالها، أو نقصها بآثارها وبأدلتها وغاياتها. انظر إلى الكمال والعلو في العقائد، والأخلاق، والدين، والدنيا، والرحمة، والحكمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم وأخذها عنه المسلمون وأوصلتهم وقت عملهم بها إلى كل خير ديني ودنيوي، وكل صلاح، وأخضعت لهم جميع الأمم؛ وأنهم وصلوا إلى حالة وكمال؛ يستحيل أن يصل إليه أحد، حتى يسلك طريقهم. ثم انظر إلى ما وصلت إليه أخلاق الماديين الإباحيين الذين أطلقوا السراح لشهواتهم، ولم يقفوا عند حد؛ حتى هبطوا بذلك إلى أسفل سافلين، ولولا القوة المادية تمسكهم بعض التماسك لأردتْهم هذه الإباحية والفوضى في الهلاك العاجل: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42].

ثم لولا بقايا من آداب الأديان بقيت بعض آثارها في الشعوب الراقية صلحت بها دنياهم لم يكن لرقيهم المادي قيمة عاجلة؛ فإن الذين فقدوا الدين عجزوا كل العجز عن الحياة الطيبة، والراحة الحاضرة، والسعادة العاجلة، والمشاهدة أقوى شاهد لذلك. ومشركو العرب ونحوهم ممن عندهم بعض الإيمان، وبعض الاعتراف بالأصول الإيمانية؛ كتوحيد الربوبية والاعتراف بالجزاء؛ خير بكثير من هؤلاء الماديين، بلا ريب ولا شك. ثم قد علم بالضرورة أن الرسل – عليهم السلام – جاؤوا بالوحي، والهداية جملة وتفصيلاً، وبالنور والعلم الصحيح، والصلاح المطلق من جميع الوجوه، واعترفت العقول الصحيحة بذلك، وعلمت العقول أنها لو اجتمعت من أولها إلى آخرها لم تصل إلى درجة الكتب والحقائق النافعة التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب، وأنه لولاها لكانت في ضلال مبين، وعمى عظيم وشقاء وهلاك مستمر، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164]. فالعقول لم تبلغ الرشد الصحيح، ولم تنضج إلا بما جاءت به الرسل، ومن ذلك انخداع أكثر الناس بالألفاظ التي يزوق بها الباطل، ويرد بها الحق من غير بصيرة، ولا علم صحيح، وذلك لتسميتهم علوم الدين، وأخلاقه العالية رجعية، وتسميتهم العلوم والأخلاق الأخرى المنافية لذلك ثقافة وتجديداً. ومن المعلوم لكل صاحب عقل سليم: أن كل ثقافة وتجديد لم يستند في أصوله إلى هداية الدين، وإلى توجهاته؛ فإنه شر، وضرر، عاجل وآجل. ومن تأمل ما عليه حال من يسمون (المثقفين الماديين) من هبوط الأخلاق، والإقبال على كل ضار، وترك كل نافع؛ عرف أن الثقافة الصحيحة تثقيف العقول بهداية الرسل، وعلومهم الصحيحة. ومن تأمل ما جاء به الدين الإسلامي من الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً عرف أنه لا صلاح للبشر إلا بالرجوع إلى هدايته وإرشاده، وأنه كما أصلح العقائد والأخلاق والأعمال؛ فقد أصلح أمور الدنيا، وأرشد إلى كل ما يعود إلى الخير والنفع العام والخاص، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل (¬1). الإيمان، حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن عبد الحميد الأثري – ص: 297 ¬

(¬1) انظر في ذلك: ((تعليم أصول الإيمان وبيان موانعه)) للشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ص: 33).

الباب السادس: مسائل متفرقة

الفصل الأول: هل الإيمان مخلوق هذه المسألة تفرعت عن مسألة خلق القرآن .. زمن محنة الجهمية والفتنة المشهورة فهي وليدة هذه الفتنة ومنها نشأ النزاع فيها هل الإيمان مخلوق أم لا؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سئل: هل الإيمان مخلوق أم غير مخلوق؟ .. (فالجواب أن هذه المسألة نشأ النزاع فيها لما ظهرت محنة الجهمية في القرآن هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ وهي محنة الإمام أحمد وغيره من علماء المسلمين، وقد جرت بها أمور يطول وصفها هنا، لكن لما ظهر القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأطفأ الله نار الجهمية المعطلة، صارت طائفة يقولون أن كلام الله الذي أنزله مخلوق، ويعبرون عن ذلك باللفظ، فصاروا يقولون ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، أو تلاوتنا أو قراءتنا مخلوقة، وليس مقصودهم مجرد كلامهم وحركاتهم بل يدخلون فيه نفس كلام الله الذي نقرؤه بأصواتنا وحركاتنا، وعارضهم طائفة أخرى فقالوا: ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة. فرد الإمام أحمد على الطائفتين وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. وتكلم الناس حينئذ بالإيمان فقالت طائفة: الإيمان مخلوق وأدرجوا في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان مثل (قول لا إله إلا الله)، فصار مقتضى قولهم أن هذه الكلمة مخلوقة، ولم يتكلم الله بها، فبدع الإمام أحمد هؤلاء، وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: قول لا إله إلا الله)) (¬1) أفيكون قول لا إله إلا الله مخلوقا؟. ومراده أن من قال: إن ألفاظنا وتلاوتنا وقراءتنا للقرآن مخلوقة، كان مقتضى كلامه أن الله لم يتكلم بالقرآن الذي أنزله. وأن القرآن المنزل ليس هو كلام الله .. ) (¬2). وقال رحمه الله: (وإذا قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد (بالإيمان)؟ أتريد شيئا من صفات الله وكلامه، كقول (لا إله إلا الله) و (إيمانه) الذي دل عليه اسمه المؤمن، فهو غير مخلوق. أو تريد شيئا من أفعال العباد وصفاتهم فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة، ولا يقول هذا من يتصور ما يقول، فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل، وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وأمثالها مما كثر فيه تنازع الناس بالنفي والإثبات إذا فصل فيها الخطاب، ظهر الخطأ من الصواب. والواجب على الخلق أن ما أثبته الكتاب والسنة أثبتوه، وما نفاه الكتاب والسنة نفوه، وما لم ينطق به الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات استفصلوا فيه قول القائل: فمن أثبت ما أثبته الله ورسوله، فقد أصاب، ومن نفى ما نفاه الله ورسوله فقد أصاب، ومن أثبت ما نفاه الله أو نفى ما أثبته الله فقد لبس دين الحق بالباطل، فيجب أن يفصل ما في كلامه من حق أو باطل، فيتبع الحق ويترك الباطل، وكل من خالف الكتاب والسنة فإنه مخالف أيضا لصريح المعقول، فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، كما أن المنقول عن الأنبياء عليهم السلام لا يخالف بعضه بعضا، ولكن كثيرا من الناس يظن تناقض ذلك، وهؤلاء من الذين اختلفوا في الكتاب ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176]، ونسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) (¬3) .. قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لعادل الشيخاني-ص: 577 قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: من قال: الإيمان مخلوق كفر، ومن قال: غير مخلوق ابتدع. فقيل: بالوقف مطلقا، وقيل: أقواله قديمة وأفعاله مخلوقة. قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين: وهو أصح، ونقله عن ابن أبي موسى وغيره. ونقل الإمام الحافظ ابن رجب في طبقات الأصحاب في ترجمة الحافظ عبد الغني المقدسي - قدس الله روحه - ما لفظه قال: روي عن إمامنا أحمد - رضي الله عنه - أنه قال: من قال: الإيمان مخلوق فهو كافر، ومن قال: قديم فهو مبتدع. قال الحافظ عبد الغني: وإنما كفر من قال بخلقه؛ لأن الصلاة من الإيمان، وهي تشتمل على قراءة وتسبيح وذكر الله - عز وجل - ومن قال بخلق ذلك كفر، وتشتمل على قيام وقعود وحركة وسكون ومن قال بقدم ذلك ابتدع. انتهى بحروفه، والله - تعالى – الموفق لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لمحمد بن أحمد السفاريني – 1/ 446 ¬

(¬1) رواه البخاري (9) ومسلم (35). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 655). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 664).

الفصل الثاني: حكم إيمان المقلدين

الفصل الثاني: حكم إيمان المقلدين عقد السفاريني فصلاً في ذكر الخلاف في صحة إيمان المقلد في العقائد وعدمها وفي جوازه وعدمه شارحا قوله في منظومته: وكل ما يطلب فيه الجزم ... فمنع تقليد بذاك حتم لأنه لا يكتفى بالظن ... لذي الحجى في قول أهل الفن وقيل يكفي الجزم إجماعا بما ... يطلب فيه عند بعض العلما فالجازمون من عوام البشر ... فمسلمون عند أهل الأثر فقال: (وكل ما) أي حكم ومطلوب مما عنه الذكر الحكمي، وهو المعنى الذي يعبر عنه بالكلام الخبري، وهو ما أنبأ عن أمر في نفسك من إثبات أو نفي، والمراد هنا كل اعتقاد (يطلب فيه) أي ذلك الاعتقاد من معرفة الله تعالى، وما يجب له ويستحيل عليه، ويجوز (الجزم) بأن يجزم به جزما لا يحتمل متعلقه النقيض عنده لو قدره في نفسه، فإن طابق الواقع فهو اعتقاد صحيح وإلا ففاسد، فما كان من هذا الباب (فمنع تقليد) وهو لغة وضع الشيء في العنق حال كونه محيطا به، وذلك الشيء يسمى قلادة وجمعها قلائد، وعرفا أخذ مذهب الغير يعني اعتقاد صحته واتباعه عليه بلا دليل، فإن أخذه بالدليل فليس بمقلد له فيه، ولو وافقه فالرجوع إلى قوله صلى الله عليه وسلم ليس بتقليد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في المسودة: التقليد قبول القول بغير دليل، فليس المصير إلى الإجماع بتقليد، لأن الإجماع دليل، ولذلك يقبل قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقال تقليد، وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في رواية أبي الحارث من قلد الخبر رجوت أن يسلم إن شاء الله تعالى فأطلق اسم التقليد على من صار إلى الخبر، وإن كان حجة بنفسه. انتهى ملخصا. (بذاك) أي بما يطلب فيه الجزم ولا يُكْتَفَى فيه بالظن (حتم) بفتح الحاء المهملة وسكون التاء المثناة فوق أي لازم واجب، قال علماؤنا وغيرهم يحرم التقليد في معرفة الله تعالى، وفي التوحيد والرسالة، وكذا في أركان الإسلام الخمس، ونحوها مما تواتر واشتهر، عند الإمام أحمد - رضي الله عنه - والأكثر وذكره أبو الخطاب عن عامة العلماء، وذكر غيره أنه قول الجمهور قاله في شرح التحرير، قال: وأطلق الحلواني من أصحابنا وغيره منع التقليد في أصول الدين، واستدلوا لتحريم التقليد بأمره سبحانه وتعالى بالتدبر والتفكر والنظر. وفي صحيح ابن حبان لما نزل في آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الآيات [آل عمران: 190] قال صلى الله عليه وسلم: ((ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن، ويل له، ويل له)) (¬1) والإجماع على وجوب معرفة الله تعالى، ولا تحصل بتقليد لجواز كذب المخبر، واستحالة حصولها، كمن قلد في حدوث العالم، وكمن قلد في قدمه، ولأن التقليد لو أفاد علما، فإما بالضرورة، وهو باطل، وإما بالنظر، فيستلزم الدليل والأصل عدمه، والعلم يحصل بالنظر، واحتمال الخطأ لعدم مراعاة القانون الصحيح، ولأن الله تعالى ذم التقليد بقوله تعالى إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] ولقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ [محمد: 19] فألزم الشارع بالعلم، ويلزمنا نحن أيضا؛ لقوله: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158]. ¬

(¬1) رواه ابن حبان (2/ 386) بلفظ: ((أفلا أكون عبدا شكورا لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآية كلها [آل عمران: 190])). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (68): صحيح.

فتعين طلب اليقين في الوحدانية، ويقاس عليها غيرها، والتقليد لا يفيد إلا الظن، ولهذا قال معللا للمنع عنه بقوله (لأنه) أي الشأن والأمر والقصة (لا يكتفى) في أصول الدين، ومعرفة الله رب العالمين (بالظن) الذي هو ترجيح أحد الطرفين على الآخر، فالراجح هو الظن، والمرجوح الوهم، فلا يكتفى به في أصول الدين (لذي) أي لصاحب (الحجى) كإلى أي العقل والفطنة (في قول أهل الفن) من الأئمة وعلماء المنقول والمعقول من الأصوليين والمتكلمة وغيرهم. قال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين: كل ما يطلب فيه الجزم يمتنع التقليد فيه، والأخذ فيه بالظن لأنه لا يفيده، وإنما يفيده دليل قطعي، قال: في شرح مختصر التحرير: وأجازه - يعني في التقليد في أصول الدين - جمع، قال بعضهم: ولو بطريق فاسد. قال العلامة ابن مفلح: وأجازه بعض الشافعية لإجماع السلف على قبول الشهادتين من غير أن يقال لقائلها هل نظرت؟ وسمعه الإمام ابن عقيل، عن أبي القاسم ابن التبان المعتزلي قال: وإنه يكتفى بطريق فاسد، وقال هذا المعتزلي: إذا عرف الله، وصدق رسوله، وسكن قلبه إلى ذلك، واطمأن به، فلا علينا من طريق تقليد كان أو نظرا أو استدلالا، وإلى هذا الإشارة بقوله (وقيل يكفي) في أصول الدين (الجزم) ولو تقليدا (إجماعا) (ب) كل (ما) أي حكم (يطلب) بضم أوله مبنيا لما لم يسم فاعله، ونائب الفاعل مضمر يعود على الجزم (فيه) أي فيه ذلك المطلوب من أصول الدين (عند بعض العلماء) من علماء مذهبنا والشافعية والمعتزلة وغيرهم. قال العنبري وغيره يجوز التقليد في أصول الدين، ولا يجب النظر اكتفاء بالعقد الجازم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكتفي في الإيمان من الأعراب وليسوا أهلا للنظر بالتلفظ بكلمتي الشهادة المنبئ عن العقد الجازم، ويقاس غير الإيمان من أصول الدين عليه. وقال العلامة ابن حمدان في نهاية المبتدئين: وقيل يكفي الجزم يعني بالظن إجماعا بما يطلب فيه الجزم، (فالجازمون) حينئذ بعقدهم، ولو تقليدا (من عوام البشر) الذين ليسوا بأهل للنظر والاستدلال، بما لا يتم الإسلام بدونه (ف) على الصواب هم (مسلمون عند أهل الأثر) وأكثر النظار والمحققين وإن عجزوا عن بيان ما لم يتم الإسلام إلا به. وقال ابن حامد من علمائنا: لا يشترط أن يجزم عن دليل - يعني بل يكفي الجزم ولو عن تقليد، وقيل الناس كلهم مؤمنون حكما في النكاح والإرث وغيرهما، ولا يدرى ما هم عند الله، انتهى. وقال العلامة المحقق ابن قاضي الجبل من علمائنا في أصوله: قال ابن عقيل: القياس النقلي حجة يجب العمل به، ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع، قال: ولا يجوز التقليد، والحق الذي لا محيد عنه، ولا انفكاك لأحد منه صحة إيمان المقلد تقليدا جازما صحيحا، وأن النظر والاستدلال ليسا بواجبين، وأن التقليد الصحيح محصل للعلم والمعرفة، نعم يجب النظر على من لا يحصل له التصديق الجازم أول ما تبلغه الدعوة. قال بعض علماء الشافعية: اعلم أن وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يشترط فيه أن يكون عن نظر واستدلال، بل يكفي اعتقاد جازم بذلك، إذ المختار الذي عليه السلف وأئمة الفتوى من الخلف وعامة الفقهاء، صحة إيمان المقلد، قال: وأما ما نقل عن الإمام الشيخ أبي الحسن الأشعري من عدم صحة إيمان المقلد، فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري.

ثم قال: ومما يرد على زاعمي بطلان إيمان المقلد أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فتحوا أكثر العجم، وقبلوا إيمان عوامهم، كأجلاف العرب، وإن كان تحت السيف، أو تبعا لكبير منهم أسلم، ولم يأمروا أحدا منهم بترديد نظر، ولا سألوه عن دليل تصديقه، ولا أرجئوا أمره حتى ينظر والعقل يجزم في نحو هذا بعدم وقوع الاستدلال منهم لاستحالته حينئذ، فكان ما أطبقوا عليه دليلا أي دليل على إيمان المقلد، وقال: إن التقليد أن يسمع من نشأ بقمة جبل الناس يقولون للخلق رب خلقهم، وخلق كل شيء من غير شريك له، ويستحق العبادة عليهم، فيجزم بذلك إجلالا لهم عن الخطأ، وتحسينا للظن بهم، فإذا تم جزمه بأن لم يجز نقيض ما أخبروا به، فقد حصل واجب الإيمان، وإن فاته الاستدلال لأنه غير مقصود لذاته بل للتوصل به للجزم وقد حصل. وقال الإمام النووي: الآتي بالشهادتين مؤمن حقا، وإن كان مقلدا على مذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف، لأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل، وقد تظاهرت بهذا الأحاديث الصحاح التي يحصل بمجموعها التواتر والعلم القطعي، انتهى. وبما تقرر تعلم أن النظر ليس بشرط في حصول المعرفة مطلقا، وإلا لما وجدت بدونه لوجوب انتفاء المشروط بانتفاء الشرط، لكنها قد توجد فظهر أن النظر لا يتعين على كل أحد، وإنما يتعين على من لا طريق له سواه، بأن بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بلغته دعوته، وصدق به تصديقا جازما بلا تردد، فمع صحة إيمانه بالاتفاق لا يأثم بترك النظر، وإن كان ظاهر ما تقدم الإثم مع حصول الإيمان، لأن المقصود الذي لأجله طلب النظر من المكلف وهو التصديق الجازم قد حصل بدون النظر فلا حاجة إليه، نعم في رتبته انحطاط، وربما كان متزلزل الإيمان فالحق أنه يأثم بترك النظر وإن حصل له الإيمان، ومن ثم نقل بعضهم الإجماع على تأثيمه لأن جزمه حينئذ لا ثقة به، إذ لو عرضت له شبهة عكرت عليه، وصار مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال، فإنه لا يفوت بذلك، والله تعالى ولي التوفيق. (تنبيهات): الأول: في مسألة التقليد ثلاثة أقوال، (أولها) النظر واجب، ... رجحه الإمام الرازي، وأبو الحسن الآمدي. (الثاني) ليس بواجب والتقليد جائز، ... (الثالث) التقليد حرام ويأثم بترك النظر والاستدلال، ومع إثمه بترك النظر، فإيمانه صحيح، ... وثَم قول (رابع) وهو أن النظر حرام؛ لأنه مظنة الوقوع في الشبه والضلال لاختلاف الأذهان بخلاف التقليد، فيجب بأن يجزم المكلف عقده بما يأتي به الشرع من العقائد الدينية، ولكن قد علم مما مر أن الرجوع إلى الكتاب والسنة ليس بتقليد، وإن سمي تقليدا فمجاز، ومنه قول الإمام أحمد - رضي الله عنه -: ومن قلد الخبر رجوت أن يسلم إن شاء الله تعالى. وقد قال أبو حامد الغزالي في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة): من ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد، لا بل الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عباده عطية وهدية من عنده، تارة بتنبيه في الباطن لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بقرينة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال ... وأمثالهم أكثر من أن تحصى، ولم يشتغل واحد منهم قط بكلام وتعلم الأدلة، بل كان يبدو نور الإيمان أولا بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا يزال يزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة، وبتلاوة القرآن، وتصفية القلوب - إلى أن قال: والحق الصريح أن كل من اعتقد أن كل ما جاء به الرسول واشتمل عليه القرآن حق، اعتقادا جازما، فهو مؤمن، وإن لم يعرف أدلته.

قال: فالإيمان المستفاد من الأدلة الكلامية ضعيف جدا، مشرف على التزلزل بكل شبهة، انتهى فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كانوا يعلمون أن العوام وأجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالا، كما أجاب به الأعرابي الأصمعي عن دليل سؤاله: بم عرفت ربك؟ فقال البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير. فلذلك لم يلزموهم بالنظر، ولا سألوهم عنه، ولا أرجئوا أمرهم فلما كان كذلك، لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلا على عدم وجوب النظر على الأعيان، ولا على أن تاركه غير آثم. فالجواب: ما ذكروه دعوى بلا دليل، وحكاية الأعرابي لا تدل على أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة إجمالا، فإن المثال الجزئي لا يصحح القواعد الكلية، والعقول مختلفة الأمزجة متفاوتة أشد تفاوت، فوجود فرد من الأعراب قوي العقل نافذ البصيرة لا يدل على أن كل الأعراب والأجلاف كذلك بلا خفاء. ويوضحه أن من الذين أسلموا في عهدهم كانوا يكونون عجما ونساء، وقبلوا منهم الإسلام ولم يأمروهم بالنظر ولم يرجئوهم، أيضا كان أهل الشرك من قريش يجادلون ويناضلون عن آلهتهم، و: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [الصافات: 36]، وقالوا أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5]، ... (الثاني) ... أن التقليد الصحيح محصل للعلم، بمعنى أن المقلد تقليدا صحيحا لا يصدق بما ألقي إليه من العقائد إلا بعد انكشاف صدقها عنده من غير أن يكون له دليل عليها، وقد جاء في محكم الذكر فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ [الأنعام: 125] ... (الثالث) قد نقل عن أبي الحسن الأشعري أنه لا بد من انبناء الاعتقاد في كل مسألة من الأصول على دليل عقلي، لكن لا يشترط الاقتدار على التعبير عنه، وعلى مجادلة الخصوم، ودفع الشبه، قال السعد التفتازاني في (شرح المقاصد): هذا هو المشهور عن الأشعري حتى حكي عنه أن من لم يكن كذلك لم يكن مؤمنا. انتهى. قال في جمع الجوامع: وعن الأشعري لا يصح إيمان المقلد. قال شارحه: وشنَّع عليه أقوام بأنه يلزمه تكفير العوام، وهم غالب المؤمنين، وقال القشيري: مكذوب عليه. قال التاج السبكي: والتحقيق أنه إن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم بأن لا يجزم به، فلا يكفي إيمان المقلد قطعا؛ لأنه لا إيمان مع أدنى تردد فيه، وإن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة لكن جزما فيكفي إيمان المقلد عند الأشعري وغيره خلافا لأبي هاشم المعتزلي في قوله: لا يكفي بل لا بد لصحة الإيمان من النظر. وقد وافق النقل عن الأشعري جماعة منهم القاضي، وإمام الحرمين وغيرهما، قالوا: قال الجمهور بعدم صحة الاكتفاء بالتقليد في العقائد الدينية حتى زعم بعضهم أنه مجمع عليه، وعزاه ابن القصار للإمام مالك - رضي الله عنه -. والمشهور نقل بعضهم عن الجمهور عدم جواز التقليد في العقائد الدينية وأنهم اختلفوا في المقلد، منهم من قال: إنه مؤمن إلا أنه عاص بترك المعرفة التي ينتجها النظر الصحيح، ومنهم من فصَّل فقال: هو مؤمن عاص، إن كان فيه أهلية لفهم النظر الصحيح، وغير عاص إن لم يكن فيه أهلية ذلك، ومنهم من نقل عن طائفة أن من قلد القرآن والسنة القطعية صح إيمانه لاتباعه القطعي، ومن قلد غير ذلك لم يصح إيمانه لعدم أمن الخطأ على غير المعصوم، ومنهم من جعل النظر والاستدلال شرطا للكمال، ومنهم من حرم النظر كما مر ذلك.

قال الجلال المحلي في شرح (جمع الجوامع): وقد اتفقت الطرق الثلاث - يعنى الموجبة للنظر، والمجوزة له، والمحرمة - على صحة إيمان المقلد، انتهى. وعبارة الآمدي في (الأبكار) اتفق الأصحاب على انتفاء كفر المقلد، وأنه ليس للجمهور إلا القول بعصيانه بترك النظر إن قدر عليه مع اتفاقهم على صحة إيمانه وأنه لا يعرف القول بعدم صحة إيمان المقلد إلا لأبي هاشم بن أبي علي الجبائي من المعتزلة محتجا بأن من لم يعرف الله سبحانه وتعالى بالدليل فهو كافر. قال الآمدي: وأصحابنا مجمعون على خلافه ... هذا حاصل ما أجيب به عن الأشعري حتى قال بعض الأشاعرة عن الأشعري لا يكاد يكون في العوام مقلد. وعبارة (شرح المقاصد) ذهب كثير من العلماء، وجميع الفقهاء إلى صحة إيمان المقلد، وترتيب الأحكام عليه في الدنيا والآخرة، ومنعه الشيخ أبو الحسن، والمعتزلة، وكثير من المتكلمين، احتج القائلون بالصحة بأن حقيقة الإيمان التصديق، وقد وجدت من غير اقترانه بموجب من موجبات الكفر، فإن قيل: لا يتصور التصديق بدون العلم لأنه إما ذاتي للتصديق أو شرط له، ولا علم للمقلد لأنه اعتقاد جازم مطابق مستند إلى سبب من ضرورة أو استدلال، فأجاب بأن المعتبر في التصديق هو اليقين، أعني الاعتقاد الجازم المطابق بل ربما يكتفي بالمطابقة، ويجعل الظن الغالب الذي لا يخطر معه النقيض بالبال في حكم اليقين. انتهى. (الرابع) قال السعد: اعلم بأن القائلين بعدم صحة إيمان المقلد أو ليس بنافع اختلفوا، فمنهم من قال: لا يشترط ابتناء الاعتقاد (على استدلال عقلي) في كل مسألة بل يكفي ابتناؤه على قول من عرفت رسالته بالمعجزة مشاهدة أو تواترا، أو على الإجماع، ومنهم من قال: لا بد من ابتناء الاعتقاد في كل مسألة من الأصول على دليل عقلي، لكن لا يشترط الاقتدار على التعبير عنه ولا على مجادلة الخصوم ... ومنهم من قال: لا بد مع ابتناء الاعتقاد على الدليل العقلي من الاقتدار على مجادلة الخصوم، وحل ما يورد عليه من الإشكالات - قال: وإليه ذهب المعتزلة فلم يحكموا بإيمان من عجز عن شيء من ذلك بل يحكم أبو هاشم بكفره. وذكر عن العنبري وغيره من شيوخ المعتزلة جواز التقليد في أصول الدين، وأنه لا يجب النظر اكتفاء بالعقد الجازم. فعليه المعول. واتضح أن المرجح صحة إيمان المقلد عند محققي كل طائفة بشرط الجزم وعدم التزلزل والشك، على أنا نقول: المختار أن الراجع إلى أخبار الرسول، والكتاب المنزل، والإجماع ليس بمقلد، فمن شهد لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ونهج سبيل المسلمين من فعل المأمور، وترك المحظور، ولم يأت بمكفر، فهو المؤمن، وبالله التوفيق. ويؤيد هذا ما أخرجه الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر في كتابه (تبيين كذب المفتري، فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري) بسنده المتصل إلى أبي حازم عمر بن أحمد العبدوي الحافظ أنه قال: سمعت أبا علي طاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري - رحمه الله تعالى - في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف عبارات (¬1) لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لمحمد بن أحمد السفاريني - بتصرف – 1/ 267 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والذين أوجبوا النظر من الطوائف العامة نوعان: أحدهما: من يقول: إن أكثر العامة تاركوه وهؤلاء على قولين فغلاتهم يقولون: إن إيمانهم لا يصح وأكثرهم يقولون يصح إيمانهم تقليدا مع كونهم عصاة بترك النظر وهذا قول جمهورهم قد ذكر هذا طوائف من الحنفية وغيرهم كما ذكر من ذكر من الحنفية في شرح الفقه الأكبر فقالوا: قال أبو حنيفة وسفيان ومالك والأوزاعي وعامة الفقهاء وأهل الحديث بصحة إيمان المقلد ولكنه عاص بترك الاستدلال ... والنوع الثاني من موجبي النظر - وهم جمهورهم - يقولون: إنه متيسر على العامة كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى وغيرهما ممن يقول ذلك درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 4/ 93 ¬

(¬1) ((تبيين كذب المفتري)) (ص 149).

الفصل الثالث: حكم من مات من أطفال المسلمين

الفصل الثالث: حكم من مات من أطفال المسلمين أطفال المؤمنين الذين لم يبلغوا الحلم هم في الجنة إن شاء الله تعالى بفضل الله ورحمته. قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21].

واستدل علي بن أبي طالب بقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]. على أن أطفال المؤمنين في الجنة، لأنهم لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. وقد عقد البخاري في (صحيحه) باباً عنون له بقوله: (باب فضل من مات له ولد فاحتسب). وساق فيه حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الناس مسلم يتوفي له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)) (¬1). وحديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النساء قلن للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل لنا يوماً، فوعظهن، وقال: ((أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجاباً من النار. قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان)). (¬2) وعقد باباً آخر عنوانه: (باب ما قيل في أولاد المشركين) وساق فيه حديث أنس السابق، وحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حجاباً من النار أو دخل الجنة)). (¬3) وحديث البراء رضي الله عنه قال: لما توفى إبراهيم عليه السلام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّ له مرضعاً في الجنة)). (¬4) ووجه الدلالة في الأحاديث التي ساقها البخاري على أن أطفال المؤمنين في الجنة – كما يقول – ابن حجر -: (إن من يكون سبباً في حجب النار عن أبويه أولى بأن يحجب هو. لأنه أصل الرحمة وسببها). (¬5) وحديث أبي هريرة عند أحمد في (مسنده) مرفوعاً: ((ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله وآبائهم بفضل رحمته الجنة)). (¬6) وروى مسلم في (صحيحه)، وأحمد في (مسنده) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه أو قال: أبويه، فيأخذ بثوبه، أو قال بيده، كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى، أو قال: فلا ينتهي حتى يدخله الله وإياه الجنة)). (¬7) وروى الإمام أحمد، وابن حبان، والحاكم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم)) (¬8) وروى أبو نعيم في أخبار أصبهان، والديلمي، وابن عساكر عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أطفال المؤمنين في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة، حتى يدفعوهم إلى آبائهم يوم القيامة)) (¬9) وقد نقل النووي إجماع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين في الجنة، ونقل عنه أنه توقف بعضهم في ذلك. (¬10) ¬

(¬1) رواه البخاري (1248). (¬2) رواه البخاري (1249). (¬3) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (1381). وانظر كلام ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/ 498 - 499). (¬4) رواه البخاري (1382). (¬5) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 244). (¬6) رواه أحمد (2/ 510) (10630). قال شعيب الأرناؤوط محققه: صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. (¬7) رواه مسلم (2635). (¬8) رواه أحمد (2/ 326) (8307)، وابن حبان (16/ 481)، والحاكم (2/ 401) كلاهما بلفظ: (ذراري المؤمنين). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1467): إسناده حسن. (¬9) رواه أبو نعيم في ((أخبار أصبهان)) (8/ 145) بلفظ: (أطفال المسلمين)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (40/ 414) بلفظ مقارب. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1467): وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير مؤمل بن إسماعيل وهو صدوق سيء الحفظ. (¬10) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/ 183) ..

وحكى القرطبي التوقف عن حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وإسحاق ابن راهويه قال النووي: توقف فيه بعضهم لحديث عائشة، يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: ((توفي صبي من الأنصار، فقلت: طوبى له لم يعمل سوءاً ولم يدركه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أغير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلاً ... )). (¬1) قال: (والجواب عنه أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة). (¬2) أقول: لعل الصواب أن الحديث يسير إلى أنه لا يجوز أن نجزم لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، وإن كنا نشهد لهم مطلقاً بالجنة. والأمر الثاني هو عدم الهجوم على ذلك كي لا يتجرأ الناس على مثل هذا كما هو حاصل في زماننا، إذ يزعم نعاة الموتى أن ميتهم في الجنة، وإن كان أفسق الناس. يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (لا يشهد لكل معين من أطفال المؤمنين بأنه في الجنة، وإن شهد لهم مطلقاً) (¬3) الجنة والنار لعمر بن سليمان الأشقر - ص197 وقال أبو المظفر السمعاني: (وأما اعتقاد أهل السنة في أمر الأطفال فهو ما نطق به الحديث من توقيف الأمر فيهم يفعل الله بهم ما يريد) (¬4). والأظهر أن الله لا يعذبهم لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((رُفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق)) (¬5). وقال النووي: (أجمع من يُعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا، وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا وأجاب العلماء عنه بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع) (¬6). اعتقاد أهل السنة شرح أصحاب الحديث لمحمد بن عبد الرحمن الخميس – ص173 ¬

(¬1) رواه مسلم (2662). (¬2) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/ 207). (¬3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 281). (¬4) انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 39). (¬5) رواه أبو داود (4398)، والنسائي (6/ 156)، وابن ماجه (2041)، وأحمد (6/ 100) (24738)، والحاكم (2/ 67). من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال الشيخ الألباني في ((إرواء الغليل)) (297): وهو كما قالا فإن رجاله كلهم ثقات احتج بهم مسلم برواية بعضهم عن بعض. والحديث روي أيضاً من طريق علي بن أبي طالب وأبي قتادة الأنصاري رضي الله عنهما. (¬6) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (16/ 207).

الفصل الرابع: حكم من مات من أطفال المشركين

الفصل الرابع: حكم من مات من أطفال المشركين ومجمل القول في ذلك أن المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن أطفال المشركين في الجنة، واحتج لهذا بما احتجوا به في أطفال المسلمين. أولا: أنهم على الفطرة، ((كل مولود يولد على الفطرة)) (¬1). ثانيا: أنهم لم يفعلوا ما يؤاخذون به، ولم يفعلوا ما يعذبون به، فهم إذا على الفطرة القويمة السليمة، فاللائق بعدل الله -سبحانه وتعالى- أنهم من أصحاب الجنة. ثالثا: احتجوا بالرواية التي وردت في حديث إبراهيم -عليه السلام- أنه رأى ذراري المشركين مع ذراري المؤمنين، ثم اختلف هؤلاء: فقال بعضهم: إن أطفال المشركين مثل أطفال المسلمين في الجنة. وبعضهم قال: إنهم في الجنة لكن ليسوا بمنزلة أطفال المؤمنين بل هم خدم في الجنة، واحتج أصحاب القول الأول القائلين بأن أطفال المشركين في الجنة بما رواه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد -أي: الموؤود- في الجنة)) (¬2)، قالوا: جعل المولود مع الشهيد، ومع النبي، ومع الموؤود، فهذا المولود عام ذكرا كان أو أنثى من أب كافر أو مسلم فهو في الجنة. والقول الثاني: ذهب إليه الخوارج وبعض أهل العلم، وقد استدل من ذهب من العلماء إلى هذا القول بأحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يثبت ولا يصح منها شيء. فأما الخوارج فإن كلمة المشركين عندهم ليست الكلمة التي نستخدمها، فهم يقولون: كل من ليس من الخوارج فأطفالهم في النار؛ لأن المسلمين عندهم مشركون، بل ذهب الحال ببعض الخوارج إلى أن قالوا: كل إنسان يبلغ سن البلوغ لا بد أن يمتحن فإن أقر بالإسلام والإيمان -كما يصفونه هم- وإلا فإنه كافر، والخوارج درجات أكثرهم غلواً الأزارقة أتباع نافع ابن الأزرق، ثم يليهم النجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي، ثم أخفهم الإباضية، ثم الميمونية وأشباههم وهم فرق كثيرة لا يعلمها إلا الله، كلهم ضلوا عن الحق. واختلف نجدة ونافع بن الأزرق في هذه المسألة، قال نجدة: نعتبر الأطفال ومن كان في دار المشركين -دار الإسلام- منافقين ولا يجرم بكفرهم، ومن حجة الأزارقة ومن اتبعهم في هذه المسألة قول الله - تبارك وتعالى في سورة نوح إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [نوح:27] فقالوا: إن الآية صريحة في أن أولاد الكفار يولدوا على الكفر. والجواب عن هذا الاستدلال من عدة أوجه: أولاً: أن أطفال الكفار في الدنيا هم من الكفار ... ومنها أن نوحاً عليه السلام قد يأس من دعوة قومه حتى أن ربه عز وجل أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلذلك دعا عليهم عندما تيقن أو غلب ذلك على ظنه. ثانياً: أنه قال: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا أي: أن أولادهم سيتربون على الكفر فيصبحون كفاراً إذا كبروا. وليس المراد أنه في حين ولادته يولد وهو فاجر كافر، إنما يولد على الفطرة كما ثبت ذلك في الأحاديث، ولكن هؤلاء القوم سيضلونهم، كما هو الحال فيمن ولد في بيئة شيوعية فإنه سيكون شيوعيا، فالتعبير عن الحال التي سيؤول إليه هذا الطفل إذا كبر في ظل هذه التربية وفي ظل هذا المجتمع. القول الثالث وهو منسوب للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: وبعض السلف وهو: التوقف في الحكم على أطفال المشركين، فلا نقول: إنهم من أهل الجنة، ولا من أهل النار، وذلك لما يلي: ¬

(¬1) رواه البخاري (1319)، ومسلم (6926). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه أحمد (5/ 58) (20602). من حديث حسناء ابنة معاوية الصريمية عن عمها. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (5985).

أولاً: لتعارض الأدلة في ذلك وعدم وضوح وبيان شيء منها في نظرهم. ثانياً: ما ورد وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق أنه قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) (¬1) هذه هي المذاهب في ذلك. القول الرابع: وهو الذي نرجحه ونختاره ونرجو أن يكون هو الصواب بإذن الله عز وجل هو: ما ذهب إليه ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وجمع من العلماء، وهو: أن أطفال المشركين يمتحنون يوم القيامة، فإن آمنوا دخلوا الجنة وإن كفروا دخلوا النار. وقد يتردد الإنسان في هذا الترجيح ومن أسباب هذا التردد أن حديث الامتحان لم يثبت بطريق يعتمد عليه بسند واحد صحيح، إنما هو في الحقيقة مجموع طرق يمكن أن يقال: إنها حسنة، ويشد بعضها بعضا، وحديث الامتحان رواه الإمام أحمد وأبو يعلى وغيرهما بطرق مختلفة وبألفاظ مختلفة ولكنها متقاربة، أنه يأتي يوم القيامة أربعة يحاجون الله -عز وجل- وهم رجل -في بعض الروايات- أصم، ورجل أبكم، ورجل أحمق، ورجل صاحب فترة، وفي بعض الروايات أنه مولود صغير والأحمق مكانه المجنون أو المعتوه والثالث أنه صاحب فترة والرابع أنه رجل هرم. يأتي هؤلاء فيقول الطفل الصغير: يا رب إنني صغير ولم أسمع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. ويقول الكبير: يا رب قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأنا لا أعقل ولم أفهم شيئا. ويقول المجنون أو المعتوه: يا رب بعث النبي صلى الله عليه وسلم والأطفال يقذفونني بالحجارة لا أعقل شيئا. والأصم والأبكم كذلك. فلو تأملنا مجموع الطرق لوجدنا أن الأربعة مرجعهم إلى فقدان العقل والإحساس، وهذا يشمل المعتوه والأصم والأبكم، وأنهم ليس لديهم الحاسة التي يستطيعون بها أن يعلموا. وصاحب الفترة يقول: يا رب ما سمعت بنبي قط، وما وصلت إليّ رسالة رسول قط، فهؤلاء الأربعة يمتحنهم الله في عرصات القيامة، بأن يوقد النار أو يخرج لهم لسان من النار، ويقول لهم: ادخلوها، فإن دخلوها كانت بردا وسلاما عليهم، وإن عصوا وأبوا ألقوا فيها. والاستدلال على هذه القضية يأتي من وجهين: الوجه الأول: هو هذا الذي ذكرناه من الطرق والأحاديث والروايات. والوجه الثاني: أن الامتحان والابتلاء ليس خاصا بهذه الحياة الدنيا، فإن الإنسان يمتحن في البرزخ، ويدل له حديث القبر (¬2). وفيه: فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وفي يوم القيامة امتحانات، ومن ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- يتجلى لعباده المؤمنين في صورة غير الصورة التي يعرفون ليمتحنهم بذلك في الموقف المهيب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، لذلك فمن جاء يوم القيامة وقال: يا رب لم تبلغن الدعوة لم يأتن الرسول. ¬

(¬1) رواه البخاري (1318)، ومسلم (6933). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) الحديث رواه مسلم (7398)، وأبو داود (4755)، والترمذي (3120)، وأحمد (4/ 287) (18557). من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

وقد قال الله سبحانه وتعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ((لا أحد أحب إليه العذر من الله)) (¬1) فقد أعذر إلى الناس وأقام عليهم البينات، ولهذا أرسل الرسل، وأنزل الكتب، فإذا جاء هؤلاء واشتكوا إلى ربهم وقالوا: ما أتانا من رسول، وما جاءنا من نذير، فمن حكمة الله وعدله ورحمته التي وسعت كل شيء أنه يمتحنهم، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فإن الذي يدخل الجنة، أو الذي يدخل النار، سواء كان امتحن في الدنيا أو امتحن في الآخرة، فإنه لن يدخل أحد الدارين إلا بما عمل بإرادته واختياره. الجواب على الاستدلالات السابقة وحديث ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) (¬2) لا يتنافى مع القول بالامتحان، ويمكن أن نجعله دليلا على الامتحان لأن الله يعلم ما كانوا عاملين، أي: إن نجحوا وآمنوا ساعة الامتحان يوم القيامة فالله تعالى سيدخلهم الجنة. وإن كفروا وعصوا الله تعالى سيدخلهم النار، أما حديث الخليل - عليه السلام - على رواية (أن ذراري المشركين كانوا معه) يحتمل أنهم امتحنوا فنجحوا، أو أن هؤلاء سيكونون على الصورة التي كانوا عليها، أي: أن هؤلاء الذراري الذين امتحنوا فنجحوا سموا أطفال المشركين، نسبة إلى ما كانوا عليه في الدنيا، فلهذا قال: (ذراري المشركين وأطفال المشركين) فأطفال المسلمين دخلوا الجنة لأنهم أطفال المسلمين، وأطفال المشركين كانوا مع الخليل في الجنة؛ لأنهم الذين نجحوا في الامتحان، أي أنهم أطاعوا الله سبحانه وتعالى. إذاً: لا يمنع أن يوجد منهم من هو في النار. هذا ما نخلص إليه في هذه المسألة وقد أطال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وذكرها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لقول الله -تبارك وتعالى-: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]. أما أطفال أهل البدع والمعاصى، فإذا كان المراد بهم أهل البدع والمعاصي من المسلمين الذين لم يلتحقوا بالمشركين، فهؤلاء من أطفال المسلمين وحكمهم حكم أطفال المسلمين، أما البدعة التي تخرج من الملة وأصحابها مشركون، لهم الحكم السابق الذي ذكر الخلاف فيه، ولا نتبعهم بآبائهم؛ لأنهم مشركون فنقول: إنهم مشركون. شرح العقيدة الطحاوية لسفر الحوالي ¬

(¬1) رواه البخاري (6980)، ومسلم (3837). من حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (1318)، ومسلم (6933). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الفصل الخامس: حكم أهل الفترة

الفصل الخامس: حكم أهل الفترة قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله – في تعريف الفترة: (هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم) (¬1). وقال الألوسي في تفسيره: (أجمع المفسرون بأن الفترة هي انقطاع ما بين رسولين) (¬2) وأهل الفترة: (هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثاني كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم .. ) (¬3) ثم صار يطلق عند كثير من العلماء على كل من لم تبلغهم الدعوة، بما فيهم أطفال المشركين (¬4). ومن باب الاختصار سأكتفي بعرض لأهم الأقوال ثم بيان القول الراجح في هذه المسألة ... أقوال العلماء في المسألة: اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال كثيرة ومن أشهرها: الأول: أن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجياً، قال السيوطي – رحمه الله-: (وقد أطبقت أئمتنا الأشاعرة من أهل الكلام والأصول، والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجياً) (¬5) ونص بعض الأئمة على دخول أطفال المشركين الجنة- دون غيرهم من أهل الفترة – كالإمام ابن حزم حين قال: (وذهب جمهور الناس إلى أنهم في الجنة وبه نقول) (¬6). والنووي (¬7)، والحافظ ابن حجر العسقلاني وذكر أنه ترجيح البخاري (¬8)، والإمام القرطبي (¬9) والإمام ابن الجوزي (¬10). الثاني: أن من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله- (وهو قول جماعة من المتكلمين، وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد وحكاه القاضي نصا عن أحمد، وغلطه شيخنا.) (¬11) كما هو قول جماعة من أصحاب أبي حنيفة (¬12). الثالث: الوقف في أمرهم، وقد يعبر عنه بأنهم تحت المشيئة (¬13) (وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق بن راهويه، وقال ابن عبد البر: وهو مقتضى صنيع مالك وليس عنده في المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار خاصة في المشيئة) (¬14). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير 2/ 35. (¬2) ((روح المعاني)) (6/ 103)، وانظر: ((تفسير الطبري)) (10/ 156)، ((جمع الجوامع)) للسبكي (1/ 63). (¬3) ((الحاوي للفتاوي)) للسيوطي (2/ 209)، والتعريف المذكور لأبي عبد الله الأبي في شرحه لمسلم. (¬4) بعض أهل العلم يفرق بين حكم أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغهم الدعوة لورود أدلة خاصة بهم. (¬5) ((الحاوي للفتاوي)) للسيوطي (2/ 202). (¬6) ((الفصل)) لابن حزم (4/ 73)، وفيه أشار إلى أن هذا الحكم لا يشمل البالغين (4/ 74). (¬7) انظر: (شرح صحيح مسلم) للنووي (16/ 208). وقد نص على أن من لم يؤمن من أهل الفترة فهو في النار، انظر: (3/ 79) منه. (¬8) انظر: ((فتح الباري)) (3/ 246). (¬9) انظر: (التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) للقرطبي (ص612). (¬10) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 372)، و ((العواصم والقواصم)) لابن الوزير (7/ 248). (¬11) ((أحكام أهل الذمة)) لابن قيم الجوزية (2/ 623)، وانظر: ((طريق الهجرتين)) لابن قيم الجوزية (ص362)، وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (24/ 372). (¬12) انظر: ((الجواب الصحيح)) (1/ 311)، ((جمع الجوامع)) للسبكي (1/ 62). (¬13) انظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن قيم الجوزية (2/ 619). (¬14) ((فتح الباري)) (3/ 246)، و ((التمهيد)) لابن عبد البر (18/ 111، 112)، وانظر: ((أهل الفترة ومن في حكمهم)) لموفق شكري (ص98).

الرابع: أنهم يمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله سبحانه وتعالى بدخولها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها فقد عصى الله تعالى فهو من أهل النار، وهذا قول جمهور السلف، حكاه الأشعري عنهم (¬1)، وممن قال به محمد بن نصر المروزي (¬2)، والبيهقي (¬3)، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وابن كثير وغيرهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( .. ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين وأهل الفترات فهؤلاء فيهم أقوال أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب) (¬4). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله بعد حكايته المذاهب في أطفال المشركين وأدلتها: (المذهب الثامن: أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه أدخله النار وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار، وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها وتتوافق الأحاديث) (¬5)، ثم ساق أدلة لهذا القول، وقال: (فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا، وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله .. ) (¬6)، ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: ( .. وقد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها قديماً وحديثاً وهي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار ماذا حكمهم؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه) (¬7) ثم ساق عشرة أحاديث في هذه المسألة، ثم أشار إلى الأقوال في المسألة، ورجح أنهم يمتحنون يوم القيامة حيث قال: (وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضه لبعض .. ) (¬8). ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – بعدما رجح هذا القول -: (إن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان .. ) (¬9). ومن أهم أدلتهم على هذا القول دليلان: الأول: استدلوا بعموم الآيات الدالة على نفي التعذيب قبل بلوغ الحجة، من مثل قوله تعالى عن أهل النار: كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا [الملك: 8 - 9]. ¬

(¬1) ((الإبانة)) للأشعري (ص33)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 373)، و ((أحكام أهل الذمة)) لابن قيم الجوزية (2/ 649). (¬2) في كتابه "الرد على ابن قتيبة" نقلاً عن أحكام أهل الذمة 2/ 650. (¬3) انظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص170). (¬4) ((الجواب الصحيح)) (1/ 312)، وانظر: ((درء التعارض)) (8/ 401)، ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص643)، و (مجموع الفتاوى)) (24/ 371 - 372). (¬5) ((طريق الهجرتين)) (ص369). (¬6) ((طريق الهجرتين)) (ص371). (¬7) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 28)، نلاحظ في هذا النص عن ابن كثير، وفي كلام ابن تيمية وابن القيم السابق، أنهم يساوون بين أهل الفترة وأطفال المشركين في الحكم. (¬8) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 30). (¬9) ((أضواء البيان)) (3/ 440).

وقوله سبحانه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] وغيرها من الآيات الدالة على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير (¬1) يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية: (والله تعالى أعدل العادلين، لا يعذب أحداً حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة، وأما من انقاد للحجة، أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه، استدل بهذه الآية على أن أهل الفترات، وأطفال المشركين، لا يعذبهم الله، حتى يبعث إليهم رسولاً، لأنه منزه عن الظلم) (¬2). الثاني: استدلوا بعدد من الأحاديث المصرحة بأن أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة يمتحنون يوم القيامة، ومن أشهرها ما رواه الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يكون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً)) (¬3). وعن أبي هريرة مثل هذا غير أنه قال في آخره: ((فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها)) (¬4)، والقول بموجب هذا الحديث فيه جمع للأدلة كما في النقل السابق عن الأئمة – قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: (وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه، فإن من قطع لهم بالنار كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله، ومن قطع لهم بالجنة كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله .. ) (¬5)، وقال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – بعد ترجيحه لهذا القول: (وهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبوته عنه نص في النزاع فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك .. ) (¬6). وردوا على ما ذكر بعض الأئمة كالإمام ابن عبد البر، والإمام القرطبي والحليمي، وملخص قولهم: أن هذه الأحاديث لا تصح وأن (هذا مخالف لأصول المسلمين لأن الآخرة ليست بدار امتحان) (¬7) وردوا على هذا القول بما يلي: ¬

(¬1) انظر مزيداً من الأدلة في: ((أضواء البيان)) (3/ 429 - 431). (¬2) ((تفسير السعدي)) (4/ 266). (¬3) رواه أحمد (4/ 24) (16344) واللفظ له، والطبراني (2/ 79). قال ابن القيم في ((أحكام أهل الذمة)): (2/ 1139): إسناده صحيح متصل. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 436): رواه أحمد والبزار .. والطبراني بنحوه .. هذا لفظ أحمد ورجاله في طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال الصحيح وكذلك رجال البزار فيهما. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1434): إسناده صحيح. (¬4) رواه أحمد (4/ 24) (16345) واللفظ له، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1/ 176)، وإسحاق بن راهويه في ((مسنده)) (1/ 123)، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (ص169)، قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح. والسيوطي في الحاوي 2/ 205، وابن تيمية في درء التعارض 8/ 399، والألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم، وفي السلسلة 3/ 419، وقال الهيثمي: في ((مجمع الزوائد)) (7/ 436): رواه أحمد والبزار .. والطبراني بنحوه .. هذا لفظ أحمد ورجاله من طريق الأسود بن سريع وأبي هريرة رجال الصحيح وكذلك رجال البزار فيهما. وقال الألباني: في ((السلسلة الصحيحة)) (1434): إسناده صحيح. (¬5) ((درء التعارض)) (8/ 401). (¬6) ((أضواء البيان)) (3/ 438). (¬7) انظر: ((التذكرة)) للقرطبي (ص611، 612)، و ((التمهيد)) لابن عبد البر (18/ 130).

1 - أن هذه الأحاديث صحيحة وردت من طرق مختلفة ... 2 - قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (والتكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء وهي الجنة والنار، وأما عرصات القيامة فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ، فيقال لأحدهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وقال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم: 42 - 43]) (¬1) وقال الطيبي: (لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء أن لا يقع في واحده منهما ما يخص الأخرى، فإن القبر أول منازل الآخرة، وفيه الابتلاء والفتنة بالسؤال وغيره) (¬2) ولخص الإمام ابن القيم رحمه الله الرد على ذلك فقال: (فإن قيل: فالآخرة دار جزاء، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف، وأما في عرصة القيامة، فقال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ فهذا صريح في أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك) (¬3)، وذكروا أحاديث على جواز التكليف في الآخرة ذكرها ابن القيم وابن كثير وغيرهم نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي - بتصرف – 1/ 294 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 373)، وانظر: ((فتح الباري)) (3/ 246)، و ((تفسير ابن كثير)) (3/ 31). (¬2) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 451). (¬3) ((طريق الهجرتين)) (ص: 373)، وقد ذكر قول الإمام ابن عبد البر في ((أحكام أهل الذمة)) (2/ 654 - 656)، ورد عليه من تسعة عشر وجهاً.

الكتاب التاسع: نواقض الإيمان

تمهيد في تعريف الناقض الناقض في اللغة: المفسد لما أبرم من عقد، أو بناء. فهو بمعنى ناكث الشيء، ومنشر العقد. والنقض ضد الإبرام. ونقيضك؛ الذي يخالفك. قال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا. [النحل: 91 - 92] قال تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 20]. (¬1) الناقض في الاصطلاح: هو الاعتقاد والقول والفعل المكفر؛ الذي ينتفي به إيمان العبد ويزول، ويخرجه من دائرة الإسلام والإيمان إلى حظيرة الكفر، والعياذ بالله. وفي المصطلح الفقهي عند الفقهاء؛ يطلق اسم المرتد على الذي ينقض إيمانه بهذه المكفرات الثلاث. وفي كتب الفقه باب يسمى: (باب المرتد وأحكامه). الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري- ص 231 ¬

(¬1) انظر: ((لسان العرب)) (7/ 242)، و ((تهذيب اللغة)) (8/ 344).

الباب الأول: تعريف الكفر والردة، وضوابط إجراء الأحكام

الباب الأول: تعريف الكفر والردة، وضوابط إجراء الأحكام • المبحث الأول: تعريف الكفر. • المبحث الثاني: أنواع الكفر. • المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر. • المبحث الرابع: قواعد في معرفة أنواع الكفر. • المبحث الخامس: الكفر يكون قولاً باللسان، واعتقاداً بالقلب، وعملاً بالجوارح.

المبحث الأول: تعريف الكفر

المبحث الأول: تعريف الكفر الكفر لغة: الستر والتغطية قال أبو عبيد: وأما الكافر فيقال والله أعلم: إنما سمي كافرا لأنه متكفّر به كالمتكفّر بالسلاح وهو الذي قد ألبسه السلاح حتى غطّى كل شيء منه، وكذلك غطى الكفر قلب الكافر، ولهذا قيل لليل: كافر؛ لأنه ألبس كل شيء. قال لبيد يذكر الشمس: حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجنّ عورات الثغور ظلامُها وقال أيضاً: في ليلة كفر النجومَ غمامُها. ويقال: الكافر سمي بذلك للجحود، كما يقال: كافرني فلان حقي إذا جحده حقه) (¬1). وقال ابن قتيبة: (أما الكافر، فهو من قولك: كفَرْت الشيء إذا غطَّيْته، ومنه يقال: تكفّر فلان في السّلاح إذا لَبِسَه. وقال بعضهم: ومنه كافور النَّخْل وهو قشر الطَّلْعة تقديره فاعُول لأنَّه يغطّي الكُفُرَّى. ومنه قيل: ليلٌ كافر لأنَّه يسْتُر كل شيء. قال لبيد وذكر الشمس: حتى إذا ألقت يداً في كافِر ... وأجنَّ عَوْراتِ الثّغور ظَلامُها قوله: ألقت يداً في كافر، أي دخل أولها في الغور، وهو مثل قول الآخر يصف ظليما أو نعامة: فتذكَّرا ثَقَلاً رشيداً بعدما ... ألقَتْ ذُكاء يمينها في كافر وذُكاء: هي الشمس، ومنه يقال للصُّبْح: ابن ذُكاء؛ لأنَّ ضوءه من الشمس، فكأن الأصل في قولهم: كافر، أي ساتر لِنِعَم الله عليه. وكان بعض المُحَدِّثين يذهب في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)) (¬2) إلى التكفُّر في السلاح، يريد: ترجعوا بعد الولاية أعداء يتكفَّر بعضكم لبعض في الحرب) (¬3). وقال الأزهري: (وقال الليث: يقال: إنه سُمِّيَ الكافر كافراً لأن الكُفر غطّى قلبه كلَّه. قلت: ومعنى قول الليث: قيل له كافر لأن الكفر غطَّى قلبه، يحتاج إلى بيان يدلُّ عليه، وإيضاحه أن الكفر في اللغة معناه التَّغطية، والكافر ذو كفر أي ذو تغطية لقلبه بكفره، كما يقال للابس السِّلاح: كافر وهو الذي غطاه السلاح. ومثله رجل كاسٍ: ذو كسوة، وماء دافق: ذو دَفق. وفيه قول آخر: وهو أحسن مما ذهب إليه الليث. وذلك أن الكافر لما دعاه الله جل وعز إلى توحيده فقد دعاه إلى نعمة يُنعم بها عليه إذا قبلها، فلما ردَّ ما دعاه إليه من توحيده كان كافراً نعمة الله أي مغطياً لها بإبائه حاجباً لها عنه. وأخبرني المنذري عن الحراني عن ابن السكيت أنه قال: إذا لبس الرجل فوق درعه ثوبا فهو كافرٌ، وقد كفر فوق درعه. قال: وكل ما غطى شيئاً فقد كفره، ومنه قيل لليل: كافر لأنه ستر بظلمته كل شيء وغطاه. قال: ومنه سُمِّي الكافر كافراً لأنه ستر نعم الله. قلت: ونعم الله جل وعز: آياته الدالة على توحيده. والعرب تقول للزارع: كافر لأنه يكفر البذر المبذور في الأرض بتراب الأرض التي أثارها ثم أمرَّ عليها مالَقَه، ومنه قول الله عز وجل: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20] أي أعجب الزُّراع نباته مع علمهم به فهو غاية ما يستحسن، والغيث هاهنا: المطر، والله أعلم) (¬4). والكفر شرعا: ضد الإيمان، فيكون قولا وعملا واعتقادا وتركا، كما أن الإيمان قول وعمل واعتقاد. وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، خلافا لمن حصر الكفر في التكذيب أو الجحود بالقلب أو بالقلب واللسان، ونفى أن يكون بالعمل أو بالترك. ¬

(¬1) ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (3/ 13). (¬2) رواه البخاري (12)، ومسلم (65). (¬3) ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/ 247). (¬4) ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/ 194)، و ((لسان العرب)) (5/ 145) مادة: كفر.

قال شيخ الإسلام: الكفر عدم الإيمان بالله ورسوله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب أو إعراض عن هذا حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة (¬1). وقال ابن حزم: وهو في الدين صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه، ببلوغ الحق إليه، بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معا، أو عمل عملا جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان (¬2). وقال الإمام إسحاق بن راهوية: ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى ومما جاء من عنده ثم قتل نبيا أو أعان على قتله، ويقول: قتل الأنبياء محرم، فهو كافر (¬3). وقال البربهاري: ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله، أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبح لغير الله، أو يصلي لغير الله، وإذا فعل شيئا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام (¬4). وقال شيخ الإسلام: فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجةٍ عامداً لها عالماً بأنها كلمة الكفر، فإنه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا، ولا يجوز أن يقال إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام (¬5). وقال: إن سب الله أو سب رسوله: كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل (¬6). وقال أيضا: فمن صدق الرسول، وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه، فهو كافر قطعا بالضرورة (¬7). وقال ابن القيم: وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارا، وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل (¬8). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 127 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 335). (¬2) ((الإحكام في أصول الأحكام)) (1/ 49). (¬3) نقله في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 930). (¬4) ((شرح السنة للبربهاري)) (ص81). (¬5) ((الصارم المسلول)) (3/ 975). (¬6) ((الصارم المسلول)) (3/ 955). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 556). (¬8) ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص45).

المبحث الثاني: أنواع الكفر

المبحث الثاني: أنواع الكفر المطلب الأول: الكفر الأكبر وهو يناقض الإيمان، ويخرج صاحبه من الإسلام، ويوجب الخلود في النار، ولا تناله شفاعة الشافعين، ويكون بالاعتقاد، وبالقول، وبالفعل، وبالشك والريب، وبالترك، وبالإعراض، وبالاستكبار. ولهذا الكفر أنواع كثيرة؛ من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له، ولا تنفعه الشفاعة يوم القيامة الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص 245 وهو خمسة أنواع: أ- كفر التكذيب، وهو اعتقاد كذب الرسل عليهم السلام، فمن كذبهم فيما جاؤوا به ظاهرا أو باطنا فقد كفر، والدليل قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَما جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت:68]. 2 – كفر الإباء والاستكبار، وذلك بأن يكون عالما بصدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، لكن لا ينقاد لحكمه ولا يذعن لأمره، استكبارا وعنادا، والدليل قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]. 3 - كفر الشك، وهو التردد، وعدم الجزم بصدق الرسل، ويقال له كفر الظن، وهو ضد الجزم واليقين. والدليل قوله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ الساعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَواكَ رَجُلًا لَكِنا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 35 - 38]. 4 - كفر الإعراض، والمراد الإعراض الكلي عن الدين، بأن يعرض بسمعه وقلبه وعلمه عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والدليل قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَما أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3]. 5 - كفر النفاق، والمراد النفاق الاعتقادي بأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، والدليل قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:3]. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لمحمد بن عبد الوهاب ص - وزارة الشؤون الإسلامية المطلب الثاني: الكفر الأصغر النوع الثاني: كفر أصغر غير مخرج من الملة: وهو ما لا يناقض أصل الإيمان؛ بل ينقصه ويضعفه، ولا يسلب صاحبه صفة الإسلام وحصانته، وهو المشهور عند العلماء بقولهم: (كفر دون كفر) ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله - عز وجل - إذا لم يتب منه؛ وقد أطلقه الشارع على بعض المعاصي والذنوب على سبيل الزجر والتهديد؛ لأنها من خصال الكفر، وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر، وما كان من هذا النوع فمن كبائر الذنوب. وهو مقتض لاستحقاق الوعيد والعذاب دون الخلود في النار، وصاحب هذا الكفر ممن تنالهم شفاعة الشافعين، ولهذا النوع من الكفر صور كثيرة، منها: كفر النعمة: وذلك بنسبتها إلى غير الله تعالى بلسانه دون اعتقاده. قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل:83] كقول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي على سبيل إسناد النعمة إلى آبائه، أو قول أحدهم: لولا فلان لم يكن كذا وغيرها مما هو جار على ألسنة كثير من الناس، والمراد أنهم ينسبونه إلى أولئك، مع علمهم أن ذلك بتوفيق الله.

ومن ذلك تسمية الأبناء بعبد الحارث، وعبد الرسول، وعبد الحسين ونحوها؛ لأنه عبده لغير الله مع أنه هو خالقه والمنعم عليه. كفران العشير والإحسان: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أريت النار؛ فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن)) قيل: أيكفرن بالله. قال: ((يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط)) (¬1). الحلف بغير الله تعالى: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك)) (¬2). فإجماع أهل السنة والجماعة على أن هذا الشرك والكفر هما من الأصغر الذي لا يخرج صاحبه من الإسلام، ما لم يعظم المخلوق به في قلب الحالف كعظمة الله تعالى. قتال المسلم: لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (¬3). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً؛ يضرب بعضكم رقاب بعض)) (¬4). فهذا النوع من الكفر غير مخرج من الملة باتفاق الأئمة؛ لأنهم لم يفقدوا صفات الإيمان، لقول الله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] الطعن في النسب، والنياحة على الميت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت)) (¬5). الانتساب إلى غير الأب: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فهو كفر)) (¬6). وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه - وهو يعلمه - إلا كفر، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم؛ فليتبوأ مقعده من النار) (¬7). وأنواع الكفر الأصغر كثيرة يتعذر حصرها؛ فكل ما جاءت به النصوص الشرعية من تسميته كفراً، ولم يصل إلى حد الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو الفسق الأكبر، أو الظلم الأكبر؛ فهو كفر أصغر. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص 245 ¬

(¬1) رواه البخاري (29). (¬2) رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللفظ له، وأحمد (2/ 125) (6072). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث حسن. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (735) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وأحمد شاكر في ((المسند)) (8/ 222). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (48)، ومسلم (64). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (121)، ومسلم (65). من حديث جرير رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (67). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (6768)، ومسلم (62). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (3508)، ومسلم (61). من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر

المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر الشرك والكفر الأكبر المخرج من الملة هو ما ناقض أصل الدين الذي هو توحيد الله والالتزام بالشريعة إجمالاً. أما الشرك والكفر الأصغر وتخلف الإيمان الواجب فيكون بما دون ذلك، بحيث لا ينقض أصل الدين، ولا يكون أيضاً من اللمم المعفو عنه كما قال تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31]. فكل ما ثبت بنص أنه شرك، لكن دلت الدلائل على أنه ليس شركاً مخرجاً من الملة فهو شرك أصغر، وكل ما ثبت بنص أنه كفر، لكن دلت الدلائل على أنه ليس كفراً مخرجاً من الملة فهو كفر دون كفر، وكذا ما ورد فيه الوعيد بنحو ليس منا، أو تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو نفى عنه وصف الإيمان، فكل ذلك من الكبائر. ولهذا عمم الإمام أحمد رحمه الله القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً فقال: (من أتى هذه الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمناً، ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمناً ناقص الإيمان) (¬1). يقول الإمام محمد بن نصر المروزي تعليقاً على كلام الإمام أحمد السابق: (صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فما أتى بالإيمان الواجب، ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك) (¬2). والكبيرة إما أن تتعلق بالشرك على نحو لا يناقض أصل التوحيد. وإما أن تتعلق بعدم الالتزام بالشريعة، ولكن على نحو لا يتناقض أصل الالتزام بها، سواء كان ذلك من جهة المعصية أو من جهة البدعة. فإن من زنى أو سرق لم يلتزم بأمر الله له باجتناب ذلك، لكنه لم ينقض أصل التزامه بأمر الله بالكلية. وكذلك من علم الحق المخالف لبدعته فأصر عليه تغليباً لشبهته فإنه لا يقال إنه استسلم لله بقبول خبرة استسلاماً تاماً، لكنه مع ذلك لم يرده تكذيباً واستحلالاً، بل لشبهة عرضت له. فأما الشرك فنحو الرياء، كما ورد بذلك النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بأن يكون أصل العمل لله، لكن دخل عليه الشرك في تزيينه للناس. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق والحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (¬3) وقول الرجل للرجل (ما شاء الله وشئت) و (هذا من الله ومنك) و (أنا بالله وبك)، و (مالي إلا الله وأنت) و (أنا متوكل على الله وعليك) و (ولولا أنت لم يكن كذا وكذا). وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده) (¬4). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 352 – 353). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 352 – 353). (¬3) رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللفظ له، وأحمد (2/ 125) (6072). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث حسن. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (735) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وأحمد شاكر في ((المسند)) (8/ 222). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬4) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 344).

وأما الكفر الأصغر فبنحو الحكم بغير الشريعة في قضية معينة لأجل الشهوة، وهذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنه لقوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، أما رفض الشريعة بالكلية، وتحكيم القوانين الوضعية، فكفر أكبر ولم يظن ابن عباس رضي الله عنه ولم يخطر على باله أن من يدعي الإسلام يمكن أن يتعمده، ودلالة الآية على الكفر الأكبر – على الصحيح – هو المعنى المقصود بها أصلاً، وقول ابن عباس رضي الله عنه لا يناقض ذلك ولا يمنع أن يكون الحاكم في قضية معينة بغير الشرع لأجل الشهوة كافراً كفراً أصغر. والشرك الأصغر وإن كان من الكبائر، لكنها على مراتب، وبعضها أكبر من بعض، كما في الحديث: ((ألا أنبؤكم بأكبر الكبائر ... الشرك بالله وعقوق الوالدين ... الحديث)) (¬1) وعليه يفهم قول ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً) (¬2) فمراده: أن الشرك بالحلف بغير الله وإن كان من الكبائر لكنه أكبر من الحلف الكاذب. وعلى هذا يمكن أن يفهم قول الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله عن الشرك الأصغر إنه أكبر من الكبائر (¬3)، وهو كقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن الشرك الأصغر إن رتبته فوق رتبة الكبائر (¬4)، ولا يلزم من قولهما إخراج الشرك الأصغر عن مسمى الكبائر، بل كأنه أكبر من جميعها. ومما يبين ذلك: أن الشرك الأصغر لا يختص عن الكبائر بحكم يثبت له دونها فيما يتعلق بأحكام الوعيد، وأما القول بأن الشرك الأصغر لا يغفره الله، ولا يدخل تحت المشيئة – وإن دخل تحت الموازنة – فلا يصح، ولا دليل على تخصيصه بذلك، لأن المراد بقول الله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] الشرك الأكبر، وهو كقوله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النارُ [المائدة: 72]، وكقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. والذين يقولون بالموازنة كالإمامين ابن حزم وابن القيم رحمهما الله، لا يلتزمون تحديد شيء من الذنوب بأنه لا تغفر ولا تدخل تحت المشيئة، لا الشرك الأصغر ولا غيره من الكبائر، وإنما يعممون القول بأن من رجحت سيئاته بحسناته لابد أن يعذب (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (2654)، ومسلم (87). (¬2) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (8/ 469)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 79)، والطبراني (9/ 183). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 58): رواته رواة الصحيح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 180): رجاله رجال الصحيح. وقال ابن حجر الهيتمي في ((الزواجر)) (2/ 184): صحيح. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (2562): صحيح. (¬3) كتاب ((التوحيد))؛ ضمن مجموع مؤلفات الشيخ، القسم الأول (ص: 28). (¬4) انظر: ((إعلام الموقعين)) (4/ 304). (¬5) انظر: ((الفصل لابن حزم)) (4/ 47 - 53)، و ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص/384 - 387).

ثم إن هناك دلالات تفصيلية أن المراد بالنص الشرك أو الكفر الأصغر. من ذلك صريح النص عليه – وهذه أقوى دلالة – ذلك كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء)) (¬1). ومن ذلك دلالة نصوص أخرى – وهذا باب واسع – ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (¬2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) (¬3) .. مع قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9] فالكفر المراد في الحديث ليس الكفر المخرج من الملة، وإلا لما أثبت الله لمن تقاتلوا وصف الإيمان الذي هو في الآية الإسلام الظاهر. ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)) (¬4)، وفي روايةٍ ((إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما)) (¬5) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى هذا الحديث: (فقد سماه أخاه حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه) (¬6). ومن ذلك أيضاً عدم ترتب حد الردة على فاعله، وإن أقيم عليه حد العصاة، كما في الزاني والسارق مع نفي الإيمان عنهما. ومن الدلالات على الشرك والكفر الأصغر أن يأتي منكراً غير معرف، فإن جاء معرفاً بأل دل على أن المقصود به الكفر المخرج من الملة، لا مطلق الكفر الذي يصدق على الكفر الأصغر كما يصدق على الكفر الأكبر. ولهذا فإن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر لمجيء الحديث في حكم تاركها على التعريف، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) (¬7). ويؤيد ذلك دلالة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (¬8). فإذا كان الحد الذي بين المسلمين والكفار هي الصلاة فإن تركها كفر أكبر. ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 428) (23680)، والطبراني (4/ 253). من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 52): إسناده جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 107): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (ص440): إسناده حسن. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (951): إسناده جيد. (¬2) رواه البخاري (48)، ومسلم (64). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (121)، ومسلم (65). من حديث جرير رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (6103)، ومسلم (60). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬5) رواه مسلم (60). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (ص7/ 355). (¬7) رواه مسلم (82). بلفظ: (وبين الشرك والكفر) بدلا من (وبين الكفر والشرك). (¬8) رواه الترمذي (2621) وقال: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم (1/ 48): هذا حديث صحيح الإسناد لا تعرف له علة بوجه من الوجوه فقد احتجا جميعا بعبد الله بن بريدة عن أبيه، واحتج مسلم بالحسين بن واقد ولم يخرجاه بهذا اللفظ ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

ومن الدلالات أيضاً على الشرك والكفر الأصغر ما فهمه الصحابة من النص، فإنهم أعلم الأمة بمعاني نصوص الكتاب والسنة، ومن ذلك حديث ((الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)) (¬1) فإن آخر الحديث - على الصحيح - هو من قول ابن مسعود رضي الله عنه - وهذا مذكور عن جمع من المحدثين (¬2) - ومعناه: وما منا إلا ويقع له شيء من التطير. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني– ص 268 قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك، ووجوبهما بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تُثبت على أهلها كفرا ولا شركا يزيلان الإيمان عن صاحبه، إنما وجوبها أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون (¬3). والأصل الذي اعتمده أهل السنة في هذا الباب أن (الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وهذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل) (¬4). وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح حديث ((اثْنَتَانِ فِي الناسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ ... )) (¬5): (قوله: ((كفر)): أي هاتان الخصلتان كفر، ولا يلزم من وجود خصلتين من الكفر في المؤمن أن يكون كافرا، كما لا يلزم من وجود خصلتين في الكافر من خصال الإيمان كالحياء والشجاعة والكرم أن يكون مؤمنا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بخلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَيْنَ الرَّجُلِ والشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ)) (¬6) فإنه أتى بأل الدالة على الحقيقة، فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة، بخلاف مجيء ((كفر)) نكرة، فلا يدل على الخروج عن الإسلام) (¬7). وقال في تعريف الشرك الأصغر: كل عمل قولي أو فعلي أَطلق عليه الشرع وصف الشرك، ولكنه لا يخرج من الملة، مثل الحلف بغير الله (¬8). وليُعلم أن ... من صور الشرك الأصغر، كالحلف بغير الله، والرياء، والاستسقاء بالأنواء، قد تصير من الشرك الأكبر، في بعض الحالات، قال الشيخ ابن عثيمين: والحلف بغير الله شرك أكبر إذا اعتقد أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في التعظيم والعظمة، وإلا فهو شرك أصغر (¬9). تنبيه: الأصل أن تحمل ألفاظ الكفر والشرك الواردة في الكتاب والسنة- وخاصة المعرف منها بأل- على حقيقتها المطلقة، ومسماها المطلق، وذلك كونها مخرجة من الملة، حتى يجيء ما يمنع ذلك، ويقتضي الحمل على الكفر الأصغر والشرك الأصغر. ¬

(¬1) رواه أبو داود (3910)، والترمذي (1614)، وابن ماجه (3538)، وأحمد (1/ 389)، والحاكم (1/ 65). والحديث سكت عنه أبو داود. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح سنده، ثقات رواته، ولم يخرجاه. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 108)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) راجع أقوالهم في كتاب ((المنهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد)) جاسم الدوسري (ص162). (¬3) ((الإيمان)) لأبي عبيد (ص43). (¬4) ((الصلاة)) لابن القيم (ص51)، وينظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 353 - 355). (¬5) رواه البخاري (48)، ومسلم (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬6) رواه مسلم (82). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. (¬7) ((القول المفيد شرح كتاب التوحيد)) (2/ 216)، وانظر: ((التعليق على صحيح مسلم)) (1/ 291)، وكلام شيخ الإسلام هو في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 237). (¬8) ((مجموع فتاوى)) ابن عثيمين (2/ 203)، و ((شرح الأصول الثلاثة)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) له (7/ 115). (¬9) ((القول المفيد)) (2/ 325).

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبدالرحمن بن حسن: (ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]) (¬1). ومما يدل على أن ذلك هو الأصل، تبادره إلى الذهن، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه في قصة خسوف الشمس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَأُرِيتُ النارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ، قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ)) (¬2). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 139 ¬

(¬1) ((الرسائل المفيدة)) للشيخ عبد اللطيف جمع الشيخ سليمان بن سحمان (ص21). (¬2) رواه البخاري (1052)، ومسلم (907).

المبحث الرابع: قواعد في معرفة أنواع الكفر

المبحث الرابع: قواعد في معرفة أنواع الكفر 1 - الكفر اصطلاح وحكم شرعي محضٌ مرده إلى الله في كتابه، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة الثابتة عنه، وليس مبناه على الهوى والتشهي وسوء الظن أو فاسد الفهم. فمن كفَّرهم الله أو كفَّرهم رسوله صلى الله عليه وسلم عيناً أو جنساً أو وصفاً وجب وتعَّين تكفيرهم، وما لا فلا، وليس لأحد ابتداء تكفيرهم دون مستند شرعي صحيح وصريح. - فممن كُفِّر في النص الشريف وحياً على سبيل التعيين: إبليس وفرعون. - وممن كُفِّر جنساً: المشركون واليهود والنصارى والمجوس ونحوهم. - وممن كُفِّر وصفاً: المستهزئ بالله أو بآياته أو برسوله، والمحكِّم لغير ما أنزل الله، والساحر والكاهن ومدعي علم الغيب ونحوهم. 2 - أن الكفر كالإيمان له شعب كثيرة، ولما كان الكفر شعباً كثيرة، فإن هذه الشعب متفاوتة، الكفر فيها درجات، فمنها الكفر الأكبر كسب الله ورسوله ودينه، ومنها الكفر الأصغر؛ كسب المسلم وقتله والنياحة، كما أن الكفر الأكبر، شعبه متفاوتة أيضاً تفاوتاً واضحاً، وكل من نوعي الكفر الأكبر والأصغر على مراتب بعضها أشد من بعض. 3 - أن الكفر نوعان: كفر أكبر مخرج عن الملة، ومحبط للعمل، وموجب للخلود في النار، ولا يُغفر لصاحبه، وينفى عن صاحبه اسم الإيمان أصلاً وكمالاً، كالسحر وسب الله أو رسوله أو دينه أو كتابه أو الإعراض عن دين الله .. !! وكفر أصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط العمل ولا يوجب الخلود في النار، وهو تحت مشيئة الله في مغفرته، ولا ينافي أصل الإيمان، بل ينافي كماله الواجب، وهو حكم الكبائر من الذنوب، كالنياحة على الميت، والطعن في الأنساب، وقتال المسلم .. الخ. - كما أن الشرك والظلم والفسق والنفاق نوعان أكبر وأصغر. وهذا الأمر مشهور معروف بين العلماء قد تواردوا عليه، ولا أظن ذا علم ينكره، أو يتطرق إليه شك فيه. ومضى في النقل السابق عن ابن القيم في كتابه (الصلاة) ما يؤيده. 4 - أنه هناك علاقة بين الكفر الأكبر والشرك الأكبر، وهي علاقة عموم وخصوص، فكل شرك كفر وليس كل كفر شركاً. فالذبح لغير الله والنذر له والخوف منه خوف عبادة؛ شرك مع الله في تلك العبادات، وهو كفر أكبر مخرج عن الملة، ومناقض للإيمان. أما سب الله ورسوله ودينه أو الاستخفاف بشرعه أو بالمصحف ونحو ذلك فهو كفر مخرج عن الملة، ولا يعد شركاً في الاصطلاح. وكذلك الإعراض أو الاستكبار أو الشك والارتياب فهو كفر أكبر ولا يُسمى شركاً. 5 - أن الكفر ورد في موارده المعتبرة في نصوص الوحيين الشريفين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرد على صورتين: 1 - مُعرَّفاً بالألف واللام، فالمراد به الكفر المعهود أو المستغرق في الكفر، وهو المخرج من الملة. 2 - ويأتي منكراً غير مُعرَّف لا بالألف واللام، ولا بالإضافة والتخصيص. فلا يعد بالصورة الثانية كفراً أكبر؛ بل الأصل فيه أنه كفر أصغر لا يخرج من الملة. 6 - أن أهل السنة والجماعة يعظمون لفظ التكفير جداً، ويجعلونه حقاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقط، فلا يجوز ولا يسوغ عندهم تكفير أحدٍ إلا من كفره الله أو كفره رسوله. 7 - أن أهل السنة والجماعة يفرقون بين الكفر المطلق والكفر المُعيَّن بالكفر الأكبر مطلقاً على غير معنيين، ولهم شروط وضوابط وتورَّع وديانة في إيقاعه على المعينين، فإنهم يرون كفر المعين يقع عليه بنفسه، وأهم هذه الشروط في إيقاع الكفر الأكبر عليه بلوغ الحجة عليه، واندفاع الشبهة عنه، وههنا أمر مهم لابد من التفطن له وهو أن ثمة فرقاً بين مراحل ثلاث في الكفر المخرج عن الملة والموجب للردة، وهي: 1 - تعيين أن هذا الجرم من الكفر الأكبر، بالدلائل الشرعية. 2 - ثم مرحلة تكفير المعيَّن المواقع لهذا الجرم؛ باجتماع الشروط فيه وانتفاء الموانع عنه، وهو مناط بالقضاة الشرعيين أصالة. 3 - ثم مرحلة ثالثة بعدم القطع له بعد الموت بالخلود في النار، مع إجراء أحكام الكفر عليه في أحكام الدنيا، والله أعلم. مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص: 45

المبحث الخامس: الكفر يكون قولا باللسان، واعتقادا بالقلب، وعملا بالجوارح

المبحث الخامس: الكفر يكون قولاً باللسان، واعتقاداً بالقلب، وعملاً بالجوارح مجمَل أقوالِ العلماءِ تنحصر في خمس عباراتٍ: 1 - أنَّ الكفرَ يكون بالقول أو الفعل. فلم يقيّدوه بالاعتقادِ (¬1). 2 - أنَّ الكفرَ يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد. فغايروا بينها (¬2). 3 - أنَّ الكفرَ يكون بالقول أو الفعل ولو لم يُعْتَقَد، فنصُّوا على عدمِ شرطيَّةِ الاعتقاد (¬3). 4 - أنَّ الكفرَ يكون بالقول والفعل ولو لحظٍّ من حظوظِ الدُّنيا (¬4). 5 - ردودٌ أو إنكارٌ على الجهميّة والمرجئة الذين يشترطونَ الاعتقاد أو الاستحلال (¬5). ومن تأمَّل هذه العبارات يجد أن مؤداها واحدٌ وإنْ كان بعضُها أصرح من بعضٍ في بيان المقصود. التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد لعلوي بن عبد القادر السقاف – ص: 16 ¬

(¬1) ومن هؤلاء: نافع مولى ابن عمر، الشافعي، إسحاق بن راهويه، محمد بن سحنون، ابن جرير الطبري، أبو الحسن الأشعري، البربهاري، الجصّاص، ابن عبد البرّ، الجويني، البزدوي، إلكيا الهرَّاسي، ابن العربي، الرازي، الكاساني، الفرغان صاحب فتاوى قاضيخان، ابن الجوزي، القرطبي، القرافي، ابن القيّم، ابن مفلح، ابن رجب، البزاز صاحب الفتاوى البزازية، ابن حجر العسقلاني، المرداوي، الحموي، العدوي، الشوكاني، رشيد رضا، الحكمي، الشنقيطي. (¬2) ومن هؤلاء: ابن شاس، ابن قدامة، ابن الحاجب، الوردي، السبكي، خليل بن إسحاق، العثماني، ابن فرحون، الطرابلسي، المحلّي، الأقفهسي، الرصَّاع، ابن قاسم الغزي، زكريّا الأنصاري، ابن النجّار، المليباري، المناوي، مرعي بن يوسف، البهوتي، محمد بن غريب، البجيرمي، الدسوقي، عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، البكري، القنوجي، أحمد بن عيسى، ابن ضويان، ابن سعدي، اللجنة الدائمة للإفتاء، بكر أبو زيد. (¬3) ومن هؤلاء: أبو ثور، السمرقندي، ابن حزم، القاضي عياض، ابن مازه، النووي، ابن تيميّة، علاء الدين البخاري، المحبوبي، الأندربتي الدهلوي، التفتازاني، الزركشي، ابن الوزير، ابن الهمّام، المنهاجي الأسيوطي، الأقفهسي، ابن أمير الحاج، منلا خسرو، عميرة، ابن نجيم، الهيتمي، الخطيب الشربيني، القليوبي، زاده داماد، الكفوي، المقبلي، الصنعاني، الجمل، محمد بن عبد الوهّاب، الشرقاوي، الرحيباني، عبدالله بن محمد بن عبد الوهّاب، ابن عابدين، البيجوري، أبابطين، عليش، حمد بن عتيق، جمال الدين القاسمي، الألوسي، الكشميري، محمد بن إبراهيم، ابن عثيمين، ابن جبرين، الفوزان، بكر أبو زيد، الموسوعة الفقهيّة الكويتيّة. ومن ألفاظهم: ولو لم يعتقد، وإن لم يعتقد، ولا معتقدٍ له، من غير اعتقادٍ له، وسواء اعتقدوه أو لم يعتقدوه، سواء (لا فرق) صدر (قاله) عن اعتقاد أو عناد أو .. ، سواء كان يعتقد أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، ولا ينفعه ما في قلبه، وإن كان قلبه مطمئناً بالإيمان، جادّاً أو هازلاً (لاعباً) (مازحاً)، الردّ على من قال أن مبنى الرّدّة على الاعتقاد، الردّ على من قال لا يكفر حتى يعتقد. إلى غير ذلك من الألفاظ. (¬4) وممن صرَّح بذلك: ابن تيميّة، ابن كثير، محمد بن عبدالرحمن المغربي، المقبلي، محمّد بن عبد الوهّاب، سليمان بن عبدالله آل الشيخ، حمد بن عتيق، محمّد بن إبراهيم، الفوزان. ومن ألفاظهم: وإن كان سببه حبّ الدّنيا على الآخرة، بسبب إيثار الدّنيا لا بسبب العقيدة، طمعاً في الدّنيا، من أجل التّجارة، خوفاً من نقصِ مال، مدارة لأحد، أو لغير ذلك من الأغراض، سببه حظّاً من حظوظ الدّنيا، من أجل ماله أو بلده أو أهله، سببه قوة الشهوة. إلى غير ذلك من الألفاظ. (¬5) ومن هؤلاء: ابن عيينة، الشافعي، الحميدي، أحمد بن حنبل، ابن حزم، ابن تيميّة، الفوزان.

قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي: فكلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو عملٍ ثبت أنَّه مأمورٌ به من الشارع فصرفُه لله وحده توحيدٌ وإيمانٌ وإخلاصٌ، وصرفُه لغيره شركٌ وكفرٌ. فعليك بهذا الضابط للشِّرك الأكبر الَّذي لا يشذُّ عنه شيءٌ)) (¬1) القول السديد في مقاصد التوحيد لعبد الرحمن بن ناصر السعدي – ص 54 جاء في فتاوى اللجنة الدائمة الفتوى رقم (20212) وتاريخ 7/ 2/1419هـ: ((وأنَّ الكفر يكون بالقول والفعل والتَّرك والاعتقاد والشكِّ كما قامت على ذلك الدَّلائل من الكتاب والسُّنَّة)) (¬2). قال الإمام سفيان بن عيينة – رحمه الله تعالى – عندما سئل عن الإرجاء: (يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله؛ مصراً بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم، وليس بسواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر) (¬3). قال الإمام الشافعي - رحمه الله - حين سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى: (هو كافر) واستدل بقول الله تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65 - 66] (¬4). قال الإمام عبد الله بن الزبير الحميدي رحمه الله: (أخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت؛ فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً. إذا كان يقر بالفرائض واستقبال القبلة؛ فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل المسلمين، قال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] (¬5). قال الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله: (ومما أجمعوا على تكفيره، وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد؛ فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، وبما جاء من عنده، ثم قتل نبياً، أو أعان على قتله، وإن كان مقراً، ويقول: قتل الأنبياء محرم؛ فهو كافر، وكذلك من شتم نبياً، أو رد عليه قوله من غير تقية ولا خوف) (¬6). قال الإمام الفقيه أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي رحمه الله: (فاعلم - يرحمنا الله وإياك - أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله - عز وجل - واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا، ولا أصدق به؛ أنه ليس بمسلم. ولو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، وقال: لم يعتقد قلبي على ذلك؛ أنه كافر بإظهار ذلك، وليس بمؤمن) (¬7). قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - عندما سأله ابنه عبدالله عن رجل قال لرجل: يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك: (هذا مرتد عن الإسلام) وسأله: تضرب عنقه؟ قال: (نعم تضرب عنقه) (¬8). ¬

(¬1) ((القول السَّديد في مقاصد التَّوحيد)) (ص: 54). (¬2) وقع على هذه الفتوى كلٌ من الشيخ: ابن باز، عبد العزيز آل الشيخ، ابن غديان، بكر أبو زيد، الفوزان. (¬3) ((كتاب السنة)) الإمام عبدالله بن أحمد: (1/ 347) (745). (¬4) ((الصارم المسلول)) ابن تيمية: (3/ 956). (¬5) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) الإمام اللالكائي: (5/ 887). (¬6) ((تعظيم قدر الصلاة)) الإمام المروزي: (2/ 930) (991). (¬7) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) الإمام اللالكائي: (4/ 849). (¬8) ((مسائل الإمام أحمد)) رواية ابنه عبد الله: (2/ 1291).

قال الإمام محمد بن سحنون المالكي - رحمه الله -: (أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له؛ كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة: القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر) (¬1). قال الإمام البربهاري رحمه الله: (ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام، حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل، أو يرد شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبح لغير الله، أو يصلي لغير الله، وإن فعل شيئاً من ذلك؛ فهو مؤمن ومسلم بالاسم لا بالحقيقة) (¬2). قال الإمام النووي - رحمه الله - في تعريف الردة: (هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريحاً؛ كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها. قال الإمام: في بعض التعاليق عن شيخي إن الفعل بمجرده لا يكون كفراً، قال: وهذا زلل عظيم من المعلق ذكرته للتنبيه على غلطه، وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر؛ سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء) (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن من سب الله، أو سب رسوله كفرا ظاهراً وباطناً؛ سواءً كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل) (¬4). قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية (106 - 109) من سورة النحل: (أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به؛ أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق؛ فطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم). قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (فقد يترك دينه، ويفارق الجماعة، وهو مقر بالشهادتين، ويدعي الإسلام؛ كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام، أو سب الله ورسوله، أو كفر ببعض الملائكة، أو النبيين، أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك) (¬5). وقال أيضاً - رحمه الله - في شرحه لحديث ((بني الإسلام على خمس ... )) (¬6): (وهذا الحديث دل على أن الإسلام مبني على خمسة أركان ... وأن الإسلام مثله كبنيان، وهذه الخمس: دعائم البنيان وأركانه التي يثبت عليها البنيان ... وأما هذه الخمس؛ فإذا زالت كلها سقط البنيان ولم يثبت بعد زوالها، وكذلك إن زال منها الركن الأعظم وهو الشهادتان، وزوالهما يكون بالإتيان بما يضادهما ولا يجتمع معهما. وأما زوال الأربع البواقي: فاختلف العلماء ... وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة. وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعاً منهم حتى إنه جعل قول من قال: لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها من أقوال المرجئة .. وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه. ¬

(¬1) ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) للقاضي عياض (2/ 214). (¬2) ((شرح السنة)) البربهاري: (ص73) (50). (¬3) ((روضة الطالبين)) النووي: (10/ 64). (¬4) ((الصارم المسلول)) ابن تيمية: (3/ 955). (¬5) ((جامع العلوم والحكم)) ابن رجب: (شرح الحديث الرابع عشر من الأربعين النووية). (¬6) رواه البخاري (8)، ومسلم (16). من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.

وروي عن عطاء ونافع - مولى ابن عمر - أنهما سئلا عمن قال: الصلاة فريضة ولا أصلي، فقالا: هو كافر. وكذا قال الإمام أحمد (¬1). ونقل حرب عن إسحاق قال: غلب المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوماً يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره، يرجى أمره إلى الله بعد؛ إذ هو مقر؛ فهؤلاء الذين لا شك فيهم - يعني في أنهم مرجئة. وظاهر هذا: أنه يكفر بترك هذه الفرائض. وممن قال بذلك: ابن المبارك، وأحمد - في المشهور عنه -، وإسحاق، وحكى عليه إجماع أهل العلم - كما سبق - وقال أيوب: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه (¬2). وقال عبدالله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. خرجه الترمذي (¬3). وقد روي عن علي، وسعد، وابن مسعود وغيرهم قالوا: ((من ترك الصلاة فقد كفر ... )) (¬4) (¬5). قال الإمام العلامة مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي - رحمه الله - في تعريف الردة: وهو من كفر بعد إسلامه، ويحصل الكفر بأحد أربعة أمور: بالقول كسب الله تعالى ورسوله، أو ملائكته، أو ادعاء النبوة، أو الشرك له تعالى، وبالفعل كالسجود للصنم ونحوه وكإلقاء المصحف في قاذورة، وبالاعتقاد كاعتقاده الشريك له تعالى، أو أن الزنا أو الخمر حلال، أو أن الخبز حرام، ونحو ذلك، ومما أجمع عليه إجماعاً قطعياً، وبالشك في شيء من ذلك. (¬6) الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – 305 وشعب الإيمان قسمان: قوليّة، وفعليّة، وكذلك شُعَبُ الكفر نوعان: قوليّة وفعليّة، ومن شعَبِ الإيمان القوليَّة: شعبةٌ يوجب زوالها زوالَ الإيمان فكذلك من شعبِهِ الفعليّة ما يوجب زوالَ الإيمان. وكذلك شعبُ الكفر القوليَّة والفعليَّة، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً، وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبةٍ من شُعبه كالسُّجود للصَّنم، والاستهانَة بالمصحفِ، فهذا أصل. الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة، والحج، والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر، والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان كتاب الصلاة لابن القيم – ص: 53 ولإيضاح هذه المسألة المهمة أقول: ¬

(¬1) ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 382 - 383). (¬2) رواه محمد بن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 925). وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (1/ 230). (¬3) رواه الترمذي (2622) ورواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 172) ومحمد بن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 904). قال النووي في ((المجموع)) (3/ 16)، والعراقي في ((طرح التثريب)) (2/ 146)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 819): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬4) رواه الطبراني (9/ 191). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 295): و [فيه] القاسم لم يسمع من ابن مسعود. (¬5) ((فتح الباري)) لابن رجب: (1/ 22)، حديث رقم (8) شرك كتاب الإيمان. (¬6) ((دليل الطالب)): (ص317).

1 - مما يدل على أن الكفر يكون كلاما باللسان قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65 - 66] قال شيخ الإسلام: فبين أنهم كفارٌ بالقول، مع أنهم لم يعتقدوا صحته (¬1). وقوله تعالى: وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التوبة:74] وقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106] ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط، لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أُكره، ولم يُرد من قال واعتقد؛ لأنه استثنى المكره، وهو لا يكره على العقد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعُلم أنه أراد: من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فإنه كافر أيضا، فصار كل من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان) (¬2). ومن الكفر بالقول: دعاء غير الله تعالى من الأموات والغائبين؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]. وقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف:37]، وقوله: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13 - 14] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن هذا الدعاء كفر وشرك بالله تعالى. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام: (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، وسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين) (¬3). ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (3/ 976). (¬2) ((الصارم المسلول)) (3/ 977). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 123).

وقال: (وكذلك الغلو في بعض المشايخ: إما في الشيخ عدي ويونس القتي أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبى طالب ونحوه، بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل علي أو عدي أو نحوه، أو فيمن يعتقد فيه الصلاح، كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر، أو يونس القتي ونحوهم، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى، مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال، التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى؛ فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له ولا نجعل مع الله إلها آخر. والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى - مثل: الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ويغوث ويعوق ونسر أو غير ذلك - لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة) (¬1). 2 - ومن الكفر الذي هو فعل: السجود أو الذبح لغير الله تعالى، أو إلقاء مصحف في قذر، أو قتل نبي من الأنبياء 3 - وأما كفر الاعتقاد المناقض لقول القلب أو عمله، فكتكذيب النبي باطنا، أو بغضه ومعاداته مع اعتقاد صدقه، أو اعتقاد حل الزنا أو الخمر، أو اعتقاد أن أحدا يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك من الاعتقادات المكفرة التي تناقض قول القلب أو عمله. لكن ينبغي أن يُعلم أن كفر التكذيب قليل في أعداء الرسل، قال ابن القيم رحمه الله: (فأما كفر التكذيب: فهو اعتقاد كذب الرسل، وهذا القسم قليل في الكفار؛ فإن الله تعالى أيد رسله وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة وأزال به المعذرة، قال الله تعالى عن فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وقال لرسوله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] وإن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح؛ إذ هو تكذيب باللسان) (¬2). وقال شيخ الإسلام: وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون، لكن إما لحسدهم، وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه، وما يحصل لهم به من الأغراض، كأموال ورياسة وصداقة أقوام وغير ذلك، فيرون في اتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم، أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم، فيكونون من أكفر الناس، كإبليس، وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق (¬3). 4 - والكفر يكون بالترك، كترك الصلاة عند جمهور السلف، بل هو إجماع الصحابة ... ، ومن ذلك ترك عمل الجوارح بالكلية، كمن يعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج ولا يفعل شيئا من الواجبات أو المستحبات، فهذا كافر ٌكفرا لا يثبت معه توحيد، ولا يكون هذا إلا مع زوال عمل القلب، والمرجئة تنازع في كفر هذا وتأباه، جهلا منهم بحقيقة الإيمان، وإنكارا للتلازم بين الظاهر والباطن الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 134 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 395). (¬2) ((مدارج السالكين)) (1/ 346). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 191).

الفصل الثاني: تعريف الردة

الفصل الثاني: تعريف الردة الردة في اللغة: صرف الشيء بذاته، أو بحالة من أحواله، يقال: رددته فارتد، ويقال: رده: أي صرفه. ورد الشيء عليه: لم يقبله منه. والارتداد والردة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه لكن الردة تخص بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره، قال الله تعالى: وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ [سورة المائدة:21]. أي: لا ترجعوا. والردة اسم من الارتداد، وهو التحول والرجوع عن الشيء إلى غيره، ومنه الرجوع عن الإسلام. والمرتد أي: الراجع، وهو الذي رجع عن دينه، وكفر بعد إسلامه (¬1). الردة في الاصطلاح: هي الكفر بعد الإسلام طوعا؛ إما باعتقاد، أو بفعل، أو بقول، أو شك. و (هي قطع الإسلام بنية كفر، أو قول كفر، أو فعل مكفر؛ سواء قاله: استهزاء، أو عناداً، أو اعتقاداً) (¬2). قال الله تعالى: وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:217] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (¬3). واتفق أهل السنة والجماعة؛ بأن الردة لا تصح إلا من عاقل؛ فأما من لا عقل له؛ كالطفل، والمجنون، ومن زال عقله؛ بإغماء، أو نوم، أو مرض، أو شرب دواء يباح شربه؛ فلا تصح ردته، ولا حكم لكلامه بغير خلاف. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص233 - وعرفها - محمَّد بن أحمد الخطيب الشربينيّ (الشافعيّ). ت:977هـ - في - كتاب (الرِّدَّة): أعاذنا الله تعالى منها (هي) لغةً: الرُّجوع عن الشيء إلى غيره، وهي أفحشُ الكفر وأغلظُه حكماً، محبطةٌ للعمل. وشرعاً (قطع) استمرار (الإسلام) ودوامه، ويحصل قطعه بأمور: (بنيَّةِ) كفرٍ (أو) قطع الإسلام بسبب (قولِ كفرٍ أو فعلٍ) مُكَفِّرٍ ثم قسم القول ثلاثة أقسام بقوله: (سواء قاله استهزاء أو عناداً أو اعتقاداً) لقوله تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:560 - 66] وكان الأَوْلى تأخيرُ القول في كلامه عن الفعل، لأَنَّ التَّقسيم فيه وخرج بذلك من سبق لسانُه إلى الكفر، أو أُكْرِه عليه، فإنَّه لا يكون مرتدا (والفعل المكفِّر ما تعمَّده) صاحبه (استهزاء صريحاً بالدِّين أو جحوداً له كإلقاء مصحف) (وسجودٌ لصنمٍ) (¬4). وعرفها - زين الدِّين بن عبد العزيز المليباري (الشافعي). ت:987هـ (الرِّدَّة لغةً: الرُّجوع وهي أفحش أنواع الكفر ويحبط بها العمل وشرعاً (قطعُ مكلَّف) مختار فتلغو من صبي ومجنون ومكره عليها إذا كان قلبه مؤمناً (إسلاماً بكفرٍ عزماً) حالاً أو مآلاً فيكفر به حالاً (أو قولاً أو فعلاً، باعتقادٍ) لذلك الفعل أو القول أي معه (أو) مع (عنادٍ) من القائل أو الفاعل (أو) مع (استهزاءٍ) أي استخفافٍ، بخلاف ما لو اقترن به ما يخرِجُه عن الرِّدَّة كسبق لسانٍ أو حكاية كفرٍ أو خوف) (¬5). - وعرفها - محمَّد عبد الرؤوف المناوي (الشافعي). ت:1031هـ (الرِّدَّة لغةً: الرُّجوع عن الشَّيء إلى غيره. وشرعاً قطع الإسلام بنيَّةٍ أو قولٍ أو فعلٍ مُكَفِّر) (¬6). التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد لعلوي بن عبد القادر السقاف – ص81 ¬

(¬1) انظر معاجم اللغة: ((لسان العرب)): (ج 3، ص 172) و ((المفردات في غريب القرآن)) (ص 191). و ((النهاية في غريب الحديث)) (ج2، ص 214). (¬2) انظر ((قليوبي وعميرة)) ((كتاب الردة)) (ج 4، ص 174) وهو حاشيتا الشيخين قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين للنووي في فقه الشافعي. (¬3) رواه البخاري (3017). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) ((مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج)) (6/ 427). دار الكتب العلمية. ط1 – 1415هـ. (¬5) ((فتح المعين بشرح قرة العين بمهمَّات الدِّين)) (4/ 132) مصطفى البابي الحلبي. ط2 – 1356هـ. (¬6) ((التوقيف على مهمّات التعاريف)) (ص 176) عالم الكتب ط1 – 1410هـ.

الفصل الثالث: ضوابط التكفير عند أهل السنة

تمهيد يجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين: أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق. الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع. القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين– ص: 87

المبحث الأول: الحكم بالظاهر وأدلته

المبحث الأول: الحكم بالظاهر وأدلته هذه من المسائل العظيمة في مذهب أهل السنة في الحكم على الناس، فلا تكون أحكامهم مبنية على ظنون وأوهام أو دعاوي لا يملكون عليها بينات، وهذه من رحمة الله وتيسيره على عباده ومن باب تكليفهم بما يطيقون ويستطيعون، وكل ما سبق المقصود به الحكم الدنيوي على الشخص بالإسلام أو الكفر، أما الحكم على الحقيقة فلا سبيل إليه، يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله - مبيناً أهمية هذا الأصل وخطورة إهماله: (إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه. لا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال: (خوفاً من أن يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه) (¬1) فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به فلا حرج. لأنا نقول: هذا أدل الدليل على ما تقرر، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولم يستثن من ذلك أحداً حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج في ذلك إلى البينة، فقال من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكذب الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي، واليمين على من أنكر وهذا من ذلك والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية) (¬2). واستند أهل السنة في تقريرهم لهذا الأصل العظيم إلى أدلة كثيرة منها: 1 - قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة النساء:94] قال الشوكاني رحمه الله: (والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل هما بمعنى الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمناً والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية) (¬3). وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله تعالى: فتبينوا ولو كان لا يقتل إذا قالها للتثبت معنى، إلى أن يقول: (وإن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك) (¬4). 2 - واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) (¬5) ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (4905)، ومسلم (2584). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. بلفظ: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه). (¬2) ((الموافقات)) للشاطبي (2/ 271,272). (¬3) ((فتح القدير)) (1/ 501). (¬4) ((كشف الشبهات)) (49). (¬5) رواه البخاري (25)، ومسلم (22). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

والشاهد من الحديث قوله (وحسابهم على الله) قال ابن رجب: (وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، فإن كان صادقاً أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذباً فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار) (¬1). وقال الحافظ في الفتح: (أي أمر سرائرهم .. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر) (¬2) وقال الإمام البغوي: (وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضاً إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأن من أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره، ولو وجد مختون فيما بين قتلى غلف، عزل عنهم في المدفن، ولو وجد لقيط في بلد المسلمين حكم بإسلامه) (¬3). 3 - واستدلوا أيضاً بقصة أسامة رضي الله عنه المشهورة قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة (¬4) فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال لا إله إلا الله وقتلته قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ)) (¬5). والحديث فيه زجر شديد وتحذير من الإقدام على قتل من تلفظ بالتوحيد وتحذير صريح من تجاوز الظاهر والحكم على ما في القلب دون بينة، قال النووي – رحمه الله-: (وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))؟ الفاعل في قوله: ((أقالها)) هو القلب، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال أفلا شققت عن قلبه لتنظر، هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنت لست بقادر على هذا فاقتصر على اللسان فحسب ولا تطلب غيره) (¬6)، وقال أيضاً في تعليقه على قوله – صلى الله عليه وسلم-: ((أفلا شققت عن قلبه؟)): (وفيه دليل على القاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام فيها بالظاهر والله يتولى السرائر) (¬7). 4 - ومن الأحاديث العظيمة في هذا الباب حديث جارية معاوية بن الحكم السلمي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) (¬8). ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) (83). (¬2) ((فتح الباري)) (1/ 77)، وانظر ((شرح النووي)) (1/ 212)، و ((جامع العلوم والحكم)) (83). (¬3) ((شرح السنة)) (1/ 70). (¬4) الحرقات من جهينة: هم بطن من جهينة، وانظر في سبب تسميتهم. ((الفتح)) (12/ 195). (¬5) رواه البخاري (6872)، ومسلم (96) واللفظ له. (¬6) ((مسلم بشرح النووي)) (2/ 104). (¬7) ((مسلم بشرح النووي)) (2/ 107). (¬8) رواه مسلم (537). من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.

قال شيخ الإسلام في تعليقه على هذا الحديث (فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا، هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة، ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار) (¬1)، (لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة) (¬2). ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين على ظواهرهم مع علمه بنفاق كثير منهم ليقرر هذا الأصل العظيم (فهم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ويصومون، ويحجون ويغزون والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم .. ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبدالله بن أبي بن سلول وهو من أشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبدالله وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين .. لأن الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة، لا على المحبة التي في القلوب، فإنه لو علق بذلك لم تمكن معرفته، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، وهو ما أظهروه من موالاة المؤمنين .. وكذلك كانوا في الحقوق والحدود كسائر المسلمين) (¬3) (وهكذا كان حكمه صلى الله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم لا يستحل منها شيئاً إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم) (¬4) ومع ذلك (يجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب، فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمناً في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة) (¬5). وبعد هذا التقرير الواضح لهذا الأصل القطعي ترد بعض التساؤلات التي قد يظن أنها مخالفة لهذا الأصل ومنها: أ - لماذا حصل الخلاف في قبول توبة الزنديق (¬6)، مع أن الأصل يقتضي أخذه على ظاهره؟ ب- ما ذكر من أدلة ينطبق على من أظهر الإسلام، أو من أقر بالإسلام ونطق بالشهادتين من الكفار لكن هل ينطبق هذا الكلام على المسلم إذا أظهر الكفر فيحكم بكفره بمجرد ذلك بناءاً على هذا الأصل؟. وللجواب عن ذلك يقال: أما الأول فقد اختلف العلماء فيه فذهب بعضهم إلى قبول توبته وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، والبغوي والنووي وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء رحمهم الله، وذهب مالك وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى عن أحمد وابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمه الله إلى عدم قبول توبته (¬7). ولا نريد أن ندخل في تفاصيل أدلة الفريقين ولا في الترجيح، وإنما الذي يهمنا هنا، قول من قال بقتله بعدما يظهر التوبة، هل ينافي الحكم بالظاهر؟. ¬

(¬1) ((الإيمان)) (398) وانظر (201، 202، 243). (¬2) ((الإيمان)) (197). (¬3) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 198). (¬4) ((الإيمان)) (ص: 201). (¬5) ((الإيمان)) (ص: 203). (¬6) وهو المنافق إذا ظهر نفاقه، انظر: ((الإيمان)) (ص: 203)، ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 83). (¬7) انظر ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 83)، ((شرح السنة)) (1/ 69) ((أعلام الموقعين)) (3/ 144) , وانظر أقوالاً أخرى: ((مسلم بشرح النووي)) (1/ 207)، و ((المغني)) (8/ 126 - 128)

الواقع أن (من تأمل أقوال العلماء في هذه المسألة وجد أنه لا خلاف بينهم في مناط الحكم وهو اعتبار الظاهر في الحكم على الناس، وإنما اختلفوا في تحقيق ذلك المناط، فيما يتعلق بالزنديق فمنهم من يرى ظاهره الإسلام لتظاهره بذلك (مستدلاً بالأدلة السابقة التي ذكرناها)، ومنهم من يرى أن ظاهره خداع المسلمين لا الرجوع إلى الإسلام، ولهذا لم يجزم من قال بقتله أنه لابد أن يكون كافراً في الباطن) (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله (والزنديق بالعكس (من الكافر الأصلي إذا تاب) فإنه كان مخفياً لكفره مستتراً به، فلم نؤاخذه بما في قلبه إذا لم يظهر عليه، فإذا ظهر على لسانه وآخذناه به فإذا رجع لم يرجع عن أمر كان مظهراً له غير خائف من إظهاره، وإنما رجع خوفاً من القتل) (¬2). ثم ذكر قاعدة مهمة تنسجم مع قاعدة الحكم بالظاهر فقال: (وههنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره، بالإسلام لأنه ظاهر لا يعارضه ما هو أقوى منه، فيجب العمل به، لأنه مقتض لحقن الدم والمعارض منتف، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره بعد القدرة عليه التوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولا ظنية، أما انتفاء القطع فظاهر، وأما انتفاء الظن فلأن الظاهر إنما يكون دليلاً صحيحاً إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن خلافه .. وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته، وتكذيبه واستهانته بالدين، وقدحه فيه، فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا. وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة، فلا يجوز الاعتداء عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الضعيف الذي قد ظهر بطلان دلالته) (¬3) ب- أما التساؤل الآخر: حول المسلم إذا ظهر منه الكفر: فيقال فيه إن هناك فرقاً بين الحكم بإسلام المعين والحكم بكفره فالحكم بإسلامه يكفي فيه الإقرار والظاهر، وهو إسلام حكمي قد يكون معه المعين منافقاً في الباطن. أما الكفر فليس حكماً على الظاهر فقط، وإنما هو حكم على الظاهر والباطن بحيث لا يصح أن نحكم على معين بالكفر مع احتمال أن يكون غير كافر على الحقيقة. ولذلك لابد من النظر للعمل الذي عمله هذا المعين هل هو أمر لا يحتمل غير الكفر؟ أم أمر يحتمل الكفر وعدمه؟ أم أن الأمر كفر في ظاهره ولكن يحتمل أن يكون معذوراً بجهل أو تأول (¬4). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 201 ¬

(¬1) رسالة ((ضوابط التكفير))، عبدالله القرني (277)، قال ابن قدامة (وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا. وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهراً أم باطناً فلا خلاف فيه) ((المغني)) (8/ 128). (¬2) ((أعلام الموقعين)) (3/ 142) وانظر ((الإيمان)) لابن تيمية (203). (¬3) ((أعلام الموقعين)) (3/ 143) /، وانظر تفصيلاً لذلك في ((الصارم المسلول)) (345 - 358) , وقد ذكر شيخ الإسلام عدداً من الأدلة في قتل المنافق إذا تبين نفاقه فليراجع. (¬4) انظر تفصيلاً جيداً لهذه المسألة ولهذه الحالات في رسالة ((ضوابط التكفير)) لعبد الله القرني (274 - 296).

المبحث الثاني: تكفير المعين والفرق بينه وبين تكفير المطلق

المبحث الثاني: تكفير المعين والفرق بينه وبين تكفير المطلق المطلب الأول: تكفير المعين مذهب أهل السنة وسط بين من يقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، وبين من يكفر المسلم بكل ذنب دون النظر إلى توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، ويتلخص مذهب أهل السنة في أنهم يطلقون التكفير على العموم مثل قولهم: من استحل ما هو معلوم من الدين بالضرورة كفر، ومن قال القرآن مخلوق، أو أن الله لا يرى في الآخرة كفر، ولكن تحقق التكفير على المعين لابد له من توفر شروط، وانتفاء موانع، فلا يكون جاهلاً ولا متأولاً ولا مكرهاً .. الخ. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: (فقد يكون الفعل أو المقالة كفراً، ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة، أو فعل ذلك الفعل، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، أو من فعل ذلك، فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بأنه من أهل النار، لجواز أن لا يلحقه، لفوات شرط أو لثبوت مانع) (¬1) فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع حكم بردته فيستتاب فإن تاب وإلا قتل، وسنبحث في هذه الفقرة: أ - النصوص المحذرة من إطلاق التكفير على المعين دون بينة وتطبيقات السلف لذلك. ب- نصوص تدل على تكفير المعين إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع وتطبيقات السلف لذلك. أ- قال ابن أبي العز الحنفي: (وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، ولهذا ذكر أبو داود في (سننه) في كتاب: الأدب، باب: النهي عن البغي. وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: ((كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب، فقال له أقصر، فقال خليني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته)) (¬2) وهو حديث حسن، ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله) (¬3). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 165). (¬2) رواه أبو داود (4901). وسكت عنه. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابي داود)): صحيح. (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (357، 358).

ومن الأحاديث المحذرة من تكفير المسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما)) (¬1) قال الحافظ في الفتح (والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم من أن يقول ذلك لأخيه المسلم وقيل معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله) (¬2) وقال القرطبي رحمه الله: (والحاصل أن المقول له إن كان كافراً كفراً شرعياً فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه) (¬3). وهذا الوعيد والزجر إن لم يكن مع الكفر بينة كما ذكر القرطبي، ولم يكن متأولاً ومن فقه البخاري أن وضع هذا الحديث تحت باب (من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال) ثم ذكر بعده باباً آخر بعنوان (باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً) ثم ذكر بعض الأحاديث (¬4) الدالة على المقصود. ومن الأدلة التي يمكن الاستدلال بها للتحذير من التكفير موقف السلف من أحاديث الوعيد لمن ارتكب الكبائر وعدم إنفاذها على الأعيان من مثل قوله – صلى الله عليه وسلم-: ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) (¬5) ولعنه شارب الخمر، والواصلة والمستوصلة والراشي والمرتشي وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] إلى غير ذلك من الأدلة (¬6)، فهذه الأدلة القول بموجبها واجب على العموم والإطلاق من غير أن يعين شخصاً من الأشخاص فيقال: ملعون أو مستحق للنار. لإمكان التوبة، أو الحسنات الماحية أو المصائب المكفرة وغيرها من مكفرات الذنوب بل عد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد بعينه، أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب والمعتزلة وغيرهم (¬7)، والتكفير هو من الوعيد (¬8) بل أشد أنواع الوعيد فإذا كان هذا التحذير فيما دون الكفر، فالتحذير من إطلاق الكفر على التعيين أشد والله أعلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (6104)، ومسلم (60). من حديث ابن عمر رض الله عنهما. (¬2) ((فتح الباري)) (10/ 466). (¬3) ((فتح الباري)) (10/ 466). (¬4) ((فتح الباري)) (10/ 515). (¬5) رواه مسلم (1598). من حديث جابر رضي الله عنه. (¬6) انظر مزيداً من الأدلة في ((الفتاوي)) (20/ 287، 288). (¬7) انظر ((الفتاوى)) (20/ 387،388). (¬8) انظر ((الفتاوى)) (3/ 231، 10/ 330، 23/ 345، 346، 12/ 498).

وقد التزم أهل السنة بموجب هذه التوجيهات فعرفوا باحتياطهم في التكفير رغم أن أغلب الفرق باستثناء المرجئة تتساهل في المسألة، بل وتكفر أهل السنة أما أهل السنة فالتزموا الضوابط الشرعية، يقول شيخ الإسلام: (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى) (¬1) وقال رحمه الله: (إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى) (¬2). (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاه الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم) (¬3). فهذا أنموذج عظيم للتطبيق العملي لهذا المبدأ وفيه رد عملي على أدعياء العلم من المبتدعة الذين يزعمون أن شيخ الإسلام يكفر المسلمين إلى آخر هذا الكلام المستند إلى الهوى والتعصب. وإليك أنموذجاً آخر للتطبيق العملي لهذا المنهج وهو موقف الإمام أحمد إمام أهل السنة رحمه الله من أعيان الجهمية ممن آذوه، ودعوا الناس إلى بدعتهم وعاقبوا مخالفهم الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم، إذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم، حتى إنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وغير ذلك، ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول – صلى الله عليه وسلم- ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك (¬4). يتبين مما سبق أن أهل السنة يطلقون التكفير بالعموم، وكذلك الوعيد ولكن الحكم على المعين بالكفر والوعيد لابد فيه من الدقة والاحتياط للتأكد من توفر الشروط وانتفاء الموانع. لكن ظن بعض المتوهمين - بسبب قراءتهم لهذه النصوص وأمثالها - أن أهل السنة لا يكفرون المعين، هكذا بالإطلاق، وظنهم هذا شبيه بظن من اعتقد أن أهل السنة يتساهلون في مسألة التكفير ... ب- نصوص تدل على تكفير المعين إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وتطبيقات السلف لذلك. ¬

(¬1) ((الرد على البكري)) (ص: 260). (¬2) ((الفتاوى)) (3/ 229)، يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب في تعليقه على هذا الكلام (وهذه صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفيره المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال إن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وأما إذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية) ((مفيد المستفيد)) (ص: 10). (¬3) ((الرد على البكري)) (ص: 46)، ومع ذلك فشيخ الإسلام حكم بكفر من لا شبهة في كفره كالباطنية ومن قامت عليه الحجة .. الخ. (¬4) ((الفتاوى)) (23/ 348، 349) وانظر نصاً شبيهاً (12/ 488، 489).

من تأمل كلام أهل السنة في هذه المسألة يتضح له تحفظهم من إطلاق التكفير إلا إذا قامت الحجة على المعين ويفهم من ذلك بداهة أنه إذا قامت الحجة على المعين وأصر على عمل الكفر فإنه يحكم بكفره ويستتاب فإن تاب وإلا قتل انظر قول شيخ الإسلام رحمه الله: (إذا عرف هذا فتكفير (المعين) من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار - لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في تكفير جميع (المعينين) مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزال إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة) (¬1). إذاً إذا قامت الحجة وزالت الشبهة وتيقنا من إصراره وتكذيبه فلابد من تكفيره وهذا أمر معروف ومجمع عليه لدى علماء الأمة قاطبة. ولذلك ذكر الفقهاء في كتبهم (كتاب المرتد) وذكروا فيه الأحكام المترتبة على من ارتد عن دينه من نكاح وإرث، ونحوه. وتصرفات المرتد في ردته من بيع وهبة وعتق .. وكذلك الأشياء التي يصير بها المسلم كافراً واستتابته فإذا لم يتب قتل إجماعاً (¬2). ¬

(¬1) ((الفتاوى)) (12/ 500، 501) وانظر ((الفتاوى)) (3/ 229) وغيرها كثير. (¬2) انظر: ((المغني)) لابن قدامة (ص: 123) وما بعدها.

وهكذا فعل السلف مع من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1)، أو مع أعيان الجهمية كالجعد بن درهم وغيلان الدمشقي (¬2) وما ورد من قتل السحرة (¬3) .. الخ وأيضاً (أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويؤذنون ويصلون، فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، فقل هذا هو المطلوب. إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف (¬4) أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السموات والأرض؟ ويقال أيضاً: الذين حرقهم علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة، ولكنهم اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ .. ويقال أيضاً: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس، كلهم يشهدون بألسنتهم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ [التوبة:74] أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون معه ويزكون ويحجون ويوحدون، وكذلك الذين قال الله فيهم: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65 - 66]، فهؤلاء الذين صرح الله فيهم، أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزاح .. ) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((الصارم المسلول)) (ص: 59) وما بعدها. (¬2) انظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (2/ 319) والبخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص: 118)، والدارمي في ((الرد على الجهمية)) (ص: 352، 353). (¬3) انظر ((فتح المجيد)) (ص: 291، 292). (¬4) من الطواغيت التي كانت تعبد في نجد قديماً، ((كشف الشبهات)) (ص: 40). (¬5) ((كشف الشبهات)) (ص: 39 - 44).

ومن التطبيقات العملية لتكفير المعين إذا قامت عليه الحجة إجماع السلف على قتال الطائفة الممتنعة (¬1) عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، استناداً لقتال الصحابة لمانعي الزكاة رغم إقرارهم بها، واعتمد شيخ الإسلام هذه القاعدة في فتواه الشهيرة عن التتار ووجوب قتالهم كحال المرتدين فقال رحمه الله: (كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملاً بالكتاب والسنة فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام، أو الحج أو التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والزنا .. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء) إلى أن يقول رحمه الله: (وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام) (¬2) بمنزلة مانعي الزكاة، وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه (¬3)، وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب- بعدما ذكر بعض الأمثلة - (ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء مع ادعائه الإسلام وأفتوا بردته لطال الكلام .. ) (¬4) وبهذه الأمثلة والتطبيقات تتضح الصورة لمريد الحق إن شاء الله. والخلاصة أن من أظهر شيئاً من مظاهر الكفر لا يكفر حتى تقام عليه الحجة للتأكد من دوافعه لهذا العمل فإذا زالت الشبهة وأصر استتيب فإن تاب وإلا قتل. لكن يرد تساؤل هنا وهو ما مفهوم قيام الحجة؟ وهل كل من فعل مكفراً ولو كان في دار علم، يقال لم تقم عليه الحجة؟ نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 209 وينبغي أن يُعلم أنه لا يخلو حال من التزم بغير الشريعة سواء كان مشرعاً أو حاكماً من ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون جاهلاً بلزوم الالتزام بالشريعة، غير جاهل ولا متأول. الثالث: أن يكون عالماً بلزوم الالتزام بالشرعية، لكنه يجهل أن فعله يتعارض مع أصل الالتزام بالشريعة، لعدم علمه بالحكم الشرعي في ذلك. فلا يكون فعله رداً لها، أو متأولاً غير قاصد رد حكم الله ولو علمه. فمن كان جاهلاً أنه يلزمه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالشريعة إجمالاً فهو كافر كفراً أصلياً. لأن من شروط تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله العلم بمدلولها، الذي هو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بالشريعة، تصديقاً والتزاماً إجمالياً، يقتضي التصديق والالتزام التفصيلي. وهذا الأمر لا يعذر فيه أحد بجهل أو تأول أو إكراه، فلا يتحقق الإيمان إلا به، ولا تكون النجاة في الآخرة دون تحقيقه. ¬

(¬1) لا يلزم من المقالة التكفير في كل حال، لكن قتال الطائفة الممتنعة من باب التكفير كما في كلام شيخ الإسلام. (¬2) وهذا يدل على تكفير شيخ الإسلام للتتار. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 502 - 504)، وانظر الفتوى كاملة ومفصلة (28/ 501 - 543). (¬4) ((الرسائل الشخصية)) (220).

لكنا لا نعلم ذلك من حال المعين بمجرد فعله الظاهر، لأنه كما قد يكون جاهلاً بوجوب الالتزام بالشريعة لتحقيق أصل الدين، فقد يكون غير جاهل، فلا يجوز الجزم بكفر من ظهر منه ذلك إلا ما اطلعنا عليه بإخبار المعين عن نفسه بذلك، أو اعترافه به بما لا يحتمل معه إلا أن يكون جاهلاً بحقيقة اشتراط الالتزام بالشريعة في أصل الدين. وأما من كان غير جاهل بلزوم الالتزام بالشريعة في تحقيق أصل الدين – كما هو مفترض في كل من أقر بالإسلام – ورد الشريعة بالتزامه بغيرها تعمداً لذلك فهو كافر، ولا ينظر لكونه مستحلاً أو غير مستحل، جاحداً أو غير جاحد. وهذا هو مناط النزاع بين أهل السنة والمرجئة. فهو نزاع إذن في الحكم على المعين ناتج عن النزاع في حقيقة الإيمان والكفر على ما سبق بيانه. وأما العالم بلزوم الالتزام بالشريعة لتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، لكن تحققت منه المخالفة في الظاهر بالالتزام بغير الشريعة، ولكن لا على جهة رفض الشريعة وردها، بل قد يكون عن ظن بأن فعله لا يناقض حقيقة الالتزام. فهذا لا يحكم بكفره بمجرد الفعل. وهنا لابد من إقامة الحجة على المعين، شبهته، حتى يعلم أن ما يفعله هو رد لشريعة الله، فإن أصر على فعله كفر، لأنه حينئذ يكون قد فعل ما فعل رداً ورضاً للشريعة، وهذا هو مناط التكفير هنا. وإذا تأملنا هذه الحالة والتي قبلها وجدناها من حيث الظاهر سواء، لاتفاقهما في العمل الظاهر. ونتيجة لذلك فإنه يلزم التبين عن حال المعين قبل تكفيره، وهل فعل ما فعل رداً للشريعة أم أن له شبهات وتأولات، فإن كانت الأولى كان كافراً، وإن كان ممن يعذر بجهل أو تأول لم يحكم بكفره حتى تقام الحجة عليه وتزال شبهته. وفي هذه المسألة وحكمها يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر. فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر. فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر. فإن كثيراً من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم، التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً) (¬1). وملخص كلام شيخ الإسلام رحمه الله هو: 1 - أنه قد يحصل ممن هو مسلم التزام بغير الشريعة في الظاهر، لكن لا على جهة رد الشريعة ورفضها، بل قد يكون ذلك عن جهل أو شبهة. 2 - أن من تحقق منه ذلك في الظاهر لا يكفر بمجرد فعله، وإن كان فعله كفراً، حتى يعرف أن فعله يناقض حقيقة الالتزام بالدين الذي يفترض أنه يعلمه. 3 - أن من أصر على فعله بعد التعريف والبيان يكفر، ويسميه شيخ الإسلام هنا مستحلاً، وهذا ليس الاستحلال الذي يقصده المرجئة ويشترطونه في تكفير من شرع من دون الله، لأن الاستحلال عندهم لا يمكن الاطلاع عليه إلا من جهة النطق به، وأما مجرد الفعل فلا دلالة فيه عندهم على الاستحلال قبل التعريف أو بعده. ولهذا ذكر الإمام ابن تيمية أن تحكيم غير الشريعة كفر، والمرجئة لا يقولون بذلك فيما يتعلق بالوصف الشرعي. وأن من أصر على تحكيم غير الشريعة بعد التعريف يكفر ويكون مستحلاً. والمرجئة لا يقولون بذلك في حكم المعين، والعبرة بحقائق الألفاظ لا بصورها. ¬

(¬1) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/ 130)

ويقول الشيخ محمد رشيد رضا عن آيات المائدة وحكم المعرض عن شرع الله: (في الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملاً على الهدى والنور، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل به، والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثراً لغيره عليه فهو كافر به. وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به، أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى الله. وهذا العاصي بترك الحكم الذي يتحامى أهل السنة القول بتكفيره) (¬1). وفي بيان الفرق بين الحكم على الفعل والحكم على الفاعل. واشتراط انتفاء الشبهة في تكفير من حكم بالقوانين الوضعية يقول الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله: (من وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله، وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين فهو كافر، لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه خير للعباد والبلاد من شريعة الله، وعندما نقول بأنه كافر فمعنى ذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر. ولكن قد يكون الواضع له معذوراً، مثل أن يغرر به، كأن يقال إن هذا لا يخالف الإسلام، أو هذا من المصالح المرسلة، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس) (¬2). ويقول الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله في نفس القضية: (من المتفق عليه أن من يستحدث من المسلمين أحكاماً غير ما أنزل الله، ويترك الحكم بكل أو بعض ما أنزل، من غير تأويل يعتقد صحته فإنه يصدق عليهم ما وصفهم به الله تعالى من الكفر والظلم والفسق، كل بحسب حالته) (¬3). ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني– ص 171 والمقصود الإشارة إلى أمرين: الأول: ضرورة الاحتياط وعدم التسرع في إطلاق الحكم على المعين، الذي قد يكون معذورا بوجه من الوجوه، ولهذا قال شيخ الإسلام: (ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعيّن إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع. يبيّن هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه) (¬4). وقال: وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفرٌ قولاً يطلقُ، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر، حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5). ¬

(¬1) ((تفسير المنار)) محمد رشيد رضا (6/ 404) (¬2) ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) الشيخ محمد بن عثيمين (2/ 268 – 269) (¬3) ((التشريع الجنائي الإسلامي)) عبد القادر عودة (2/ 709). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 487). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 165).

وقال: والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفراً، كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يُرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيُطلقُ القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة، كمن جحد وجوب الصلاة والزكاة، واستحل الخمر والزنا، وتأول؛ فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يُحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته، كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر، ففي غير ذلك أولى وأحرى. (¬1). وقال أيضا: ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يُحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول. (¬2). وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: (فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية، مثل مسألة الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرّف. وأما أصول الدين التي وضحها الله، وأحكامها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وفهم الحجة) (¬3). والأمر الثاني: التنبيه على خطأ عظيم وقع فيه بعض من تكلم في ضوابط التكفير، وهو ظنهم أن الشهوة أو إرادة الدنيا، مانع من موانع التكفير، وأن الإنسان لا يكفر إلا إذا قصد الكفر واعتقده وانشرح صدره به. ومقصودهم أن الإنسان لو قال الكفر أو عمله، عامداً عالماً أنه كفر، ثم زعم أنه لم يُرد الكفر، وإنما أراد تحصيل شهوة أو عرض من الدنيا، أنه لا يكفر. وهذا ضلال بيِّن، مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، فإن الله تعالى بيَّن أن من أسباب الكفر والردة إرادةَ الحياة الدنيا واستحبابَها، فكيف يأتي من يجعل ذلك مانعا من موانع التكفير. 1 - قال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل:106 - 107] 2 - وقال سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65 - 66] ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 619). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 407). (¬3) ((الدرر السنية)) (10/ 434).

قال شيخ الإسلام: (والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حب العاجلة على الكفر. يبين ذلك قوله: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [النحل:106 - 107]، فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة ثم قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ [النحل:107] وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا. والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران. واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق) (¬1). وقد اشتبه على بعضهم المراد من قوله تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106] فظن أن هذا شرط في التكفير، وأنه يجب التحقق من قصد المتكلم هل أراد الكفر أم أراد المال والمتاع. وليس في الآية ما يدل على ما ذهبوا إليه، بل هذا قيد في تكفير المكره خاصة، فلا يكفر حال الإكراه إلا أن ينشرح صدره بالكفر. وكل من تكلم بالكفر طوعا فقد شرح صدره به. وقد بين شيخ الإسلام هذه المسألة بيانا شافيا في مواضع من كتبه، قال: (فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر، فإنه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا، ولا يجوز أن يُقال إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام. قال الله سبحانه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106] , ومعلوم أنه لم يُرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط؛ لأن ذلك لا يُكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أُكره. ولم يُرد من قال واعتقد؛ لأنه استثنى المكره، وهو لا يكره على العقد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعُلم أنه أراد: من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، وأنه كافر بذلك إلا من أُكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فإنه كافر أيضا، فصار كل من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره، فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وقال تعالى في حق المستهزئين: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 66] , فبيّن أنهم كفار بالقول، مع أنهم لم يعتقدوا صحته، وهذا باب واسع، والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعلٍ فيه استهانةٌ واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم) (¬2). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 559). (¬2) ((الصارم المسلول)) (3/ 975).

وقال: (فإن قيل: فقد قال تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106] قيل: وهذا موافق لأولها؛ فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرا، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره وذلك يكون بلا إكراه لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره. وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعا فقد شرح بها صدرا، وهي كفر، وقد دل على ذلك قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:64 - 66] فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم، مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له بل كنا نخوض ونلعب، وبيّن أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام) (¬1). وقال: (وأيضا: فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره؛ لأن الإكراه على ذلك ممتنع. فعُلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه. وقوله تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106] أي لاستحبابه الدنيا على الآخرة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا)) (¬2). والآية نزلت في عمار بن ياسر وبلال بن رباح وأمثالهما من المؤمنين المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من كلمات الكفر، فمنهم من أجاب بلسانه كعمار، ومنهم من صبر على المحنة كبلال، ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه، بل أكرهوا على التكلم، فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به) (¬3). فتبين بهذا أن انشراح الصدر بالكفر، في حق من تكلم به طائعا: وصف لازم، لا شرط أو قيد في التكفير. ومن فقه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أنه ختم رسالته الجامعة (كشف الشبهات) بذكر آيتي النحل والتوبة، قال: (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله: أولاهما: قوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزاح، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر ويعمل به خوفاً من نقص مالٍ، أو جاهٍ أو مداراة لأحد، أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 220). (¬2) رواه مسلم (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو بلفظ: (أو يمسي مؤمنا) والذي في الفتاوى: (ويمسي مؤمنا). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 560).

والآية الثانية: قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل:106] فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة، أو مشحةً بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض، إلا المكره. فالآية تدل على هذا من وجهين: الأول: قوله تعالى: إِلا مَنْ أُكْرِهَ فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها. والثاني: قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل: 107] , فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد والجهل والبغض للدين ومحبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) (¬1). قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله موضحاً وشارحاً: (فالحاصل أن الذي يتكلم بكلمة الكفر لا يخلو من خمس حالات: الحالة الأولى: أن يكون معتقدا ذلك بقلبه، فهذا لا شك في كفره. الحالة الثانية: أن لا يكون معتقدا ذلك بقلبه، ولم يكره على ذلك، ولكن فعله من أجل طمع الدنيا أو مداراة الناس وموافقتهم، فهذا كافر بنص الآية: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ [النحل: 107]. الحالة الثالثة: من فعل الكفر والشرك موافقة لأهله وهو لا يحبه ولا يعتقده بقلبه، وإنما فعله شحا ببلده أو ماله أو عشيرته. الحالة الرابعة: أن يفعل ذلك مازحا ولاعبا، كما حصل من النفر المذكورين. وهذا يكون كافرا بنص الآية الكريمة. الحالة الخامسة: أن يقول ذلك مكرها لا مختارا، وقلبه مطمئن بالإيمان، فهذا مرخص له في ذلك دفعا للإكراه. وأما الأحوال الأربعة الماضية فإن صاحبها يكفر كما صرحت به الآيات. وفي هذا رد على من يقول: إن الإنسان لا يحكم عليه بالكفر ولو قال كلمة الكفر أو فعل أفعال الكفر حتى يعلم ما في قلبه، وهذا قول باطل مخالف للنصوص، وهو قول المرجئة الضلال) (¬2). وقال أيضا: (وهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن من قال كلمة الكفر أو عمل الكفر لا يكفر حتى يعتقد بقلبه ما يقول ويفعل. ومن يقول: إن الجاهل يعذر مطلقا ولو كان بإمكانه أن يسأل ويتعلم، وهي مقالة ظهرت ممن ينتسبون إلى العلم والحديث في هذا الزمان) (¬3). ¬

(¬1) ((كشف الشبهات))، ضمن ((الجامع الفريد)) (ص277) وما بعدها. (¬2) ((شرح كشف الشبهات)) للشيخ صالح الفوزان، (ص: 122). (¬3) ((شرح كشف الشبهات)) للشيخ صالح الفوزان، (ص: 55).

وقال الشيخ حمد بن علي بن عتيق: ردا على أحد المخالفين: (وأما خروجه عما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وما عليه الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم، فقوله: (فمن شرح بالكفر صدرا أي فتحه ووسعه وارتد عن الدين وطابت نفسه بالكفر، فذلك الذي ندين الله بتكفيره). هذه عبارته، وصريحها أن من قال الكفر أو فعله، لا يكون كافرا، وأنه لا يكفر إلا من فتح صدره للكفر ووسعه، وهذا معارضة لصريح المعقول وصحيح المنقول، وسلوك سبيل غير سبيل المؤمنين؛ فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة قد اتفقت على أن من قال الكفر أو فعله كفر، ولا يشترط في ذلك انشراح الصدر بالكفر، ولا يستثنى من ذلك إلا المكره. وأما من شرح بالكفر صدرا، أي فتحه ووسعه وطابت نفسه به ورضي، فهذا كافر عدو لله ولرسوله وإن لم يتلفظ بذلك بلسانه ولا فعله بجوارحه، هذا هو المعلوم بدلالة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ونبين ذلك بوجوه ... ) (¬1). وقد جاء في سبب نزول آية التوبة، ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبدالله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65 - 66] (¬2). وينبغي أن يُعلم أن هؤلاء المستهزئين الذين كفروا بعد إيمانهم، لم يكونوا قبل ذلك كافرين منافقين، كما ذهب إليه البعض، بل التحقيق أنهم كانوا مسلمين معهم إيمان ضعيف، لم يمنعهم من تلك المقالة، فكفروا بها. وقد بيّن الله أنّ كفرهم كان بهذا القول لا بشيء آخر، ولم يكذبهم فيما ادعوه من الهزل وعدم إرادة الكفر، وفي هذا يقول شيخ الإسلام: ¬

(¬1) ((الدفاع عن أهل السنة والاتباع))، (ص: 20) وما بعدها، وقد رد على تلك الضلالة من عشرة أوجه. (¬2) رواه الطبري في ((تفسيره)) (14/ 333)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (7/ 313).

(وقول من يقول عن مثل هذه الآيات: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم: لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر. وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ [التوبة:73 - 74]، فهنا قال: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التوبة:74] فهذا الإسلام قد يكون من جنس إسلام الأعراب، فيكون قوله: بعد إيمانهم، وبعد إسلامهم سواء، وقد يكونون ما زالوا منافقين، فلم يكن لهم حال كان معهم فيها من الإيمان شيء، لكونهم أظهروا الكفر والردة، ولهذا دعاهم إلى التوبة فقال: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا [التوبة:74] بعد التوبة عن التوبة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ [التوبة:74] وهذا إنما هو لمن أظهر الكفر فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة، ولهذا ذكر هذا في سياق قول: جَاهِدِ الْكُفارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، ولهذا قال في تمامها: وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:74] وهؤلاء الصنف الذين كفروا بعد إسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم؛ فان هؤلاء حلفوا بالله ما قالوا، وقد قالوا كلمة الكفر التي كفروا بها بعد إسلامهم، وهموا بما لم ينالوا، وهو يدل على أنهم سعوا في ذلك فلم يصلوا إلى مقصودهم، فإنه لم يقل: هموا بما لم يفعلوا، لكن بما لم ينالوا، فصدر منهم قول وفعل. قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة: 65] , فاعترفوا واعتذروا، ولهذا قيل: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 66] , فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبيّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفرا، وكان كفرا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه) (¬1). وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: (وأما قوله: فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره للإيمان، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد الكفر ولا يختاره بالإجماع. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 272).

فالجواب أن يقال: نعم لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره للإيمان، وأما العكس فمعاذ الله، فإنه قياس باطل مردود، والإجماع المذكور مخالف لكتاب الله وسنة رسوله؛ لأن الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، لم يقولوها من حيث لم (¬1) يقصدوا الكفر، ولم يختاروه، وإنما قالوه على وجه المزح واللعب، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فقال: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ... وهذا يفيد الإنسان الحذر، فإن في هذا بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمل به، وأشدها خطرا إرادات القلوب، فهي البحر الذي لا ساحل له. ويفيد الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيمانا قبل أن يقولوا ما قالوه) (¬2). فتبين أن هؤلاء المستهزئين قالوا قولا لم يعتقدوا صحته، ولا جوازه، ولم يظنوه كفرا، لكن علموا أنه محرم. وهذا صريح في أنه لا يُشترط في الكفر اعتقاده أو قصده، بل من قال الكفر أو فعله عالما مختارا، فهو كافر، وإن ادعى أنه لم يقصد الكفر، أو لم يرد إلا الحياة الدنيا، بل إرادة الحياة الدنيا هي الباعث على كفر كثير ممن علموا صدق الرسول، وأيقنوا أن ما جاء به هو الحق. ولهذا كان من المقرر عند أهل العلم أن الهازل بالكفر يكفر، مع أنه يدعي أنه لم يعتقد الكفر ولم يقصد إليه، وقد يكون صادقا في نفس الأمر، لكن الفقه في هذا ما تقدم من أن الإيمان في القلب يمنع من التكلم بكلمة الكفر (¬3). وقد بين شيخ الإسلام أن وصف الهزل مُهدر في نظر الشرع، فتبقى الكلمة المكفرة موجبة لمقتضاها، قال: (ومما يقارب هذا أن كلمتي الكفر والإيمان إذا قَصد الإنسان بهما غير حقيقتهما: صح كفره ولم يصح إيمانه؛ فإن المنافق قصد بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة، فلم يصح إيمانه، والرجل لو تكلم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير حقيقة اعتقاد صح كفره باطناً وظاهراً. وذلك لأن العبد مأمور بأن يتكلم بكلمة الإيمان معتقدا لحقيقتها، وأن لا يتكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا ولا هازلا، فإذا تكلم بالكفر أو الكذب، جادا أو هازلا كان كافرا أو كاذبا حقيقة، لأن الهزل بهذه الكلمات غير مباح، فيكون وصف الهزل مُهدرا في نظر الشرع؛ لأنه محرم، فتبقى الكلمة موجبة لمقتضاها) (¬4). ¬

(¬1) العبارة فيها قلق، ولا وجه لذكر (لم) هنا ولا فيما بعدها، لكن المعنى المراد بيّن. (¬2) ((الأسنة الحداد في رد شبهات علوي حداد)) للشيخ سليمان بن سحمان، (ص: 161) وما بعدها. (¬3) قال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله: (لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة) انتهى من ((أحكام القرآن)) (2/ 543) ونقله القرطبي (8/ 181). وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرح قول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره): (لا فرق في هذه النواقض العشرة بين الجاد: الذي يقصد ما يقول أو يفعل، والهازل: وهو الذي لا يقصد، وإنما يفعل هذا من باب المزح واللعب، وفي هذا رد على هؤلاء المرجئة الذين يقولون: لا يكفر حتى يعتقد بقلبه). ا. هـ. من ((سلسلة شرح الرسائل))، (ص286). (¬4) ((إقامة الدليل على بطلان التحليل))، ضمن ((الفتاوى الكبرى)) (6/ 75).

3 - وقد دلت السنة على ما دل عليه القرآن، قال شيخ الإسلام: (السنّة الثالثة عشرة: ما رويناه من حديث أبي القاسم عبدالله بن محمد البغوي ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه قال: جاء رجل إلى قوم في جانب المدينة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي وفي أموالكم وفي كذا وفي كذا وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((كذب عدو الله)) ثم أرسل رجلا فقال: ((إن وجدته حيا فاقتله وإن أنت وجدته ميتا فحرقه بالنار)) فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرقه بالنار فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)). ورواه أبو أحمد بن عدي في كتابه (الكامل)، قال: ثنا الحسن بن محمد بن عنبر ثنا حجاج بن يوسف الشاعر ثنا زكريا بن عدي ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه قال: كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه فأتاهم وعليه حلة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبها فأرسل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((كذب عدو الله)) ثم أرسل رجلا فقال: ((إن وجدته حيا وما أراك تجده حيا فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فاحرقه بالنار)) قال فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) (¬1). هذا إسناد صحيح على شرط الصحيح لا نعلم له علة) (¬2). إلى أن قال: (ثم إن هذا الرجل لم يُذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء، وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه، وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه، فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به. والأغراض في الغالب إما مال أو شرف، كما أن المتنبي إنما يقصد- إذا لم يقصد مجرد الإضلال- إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم، أو تحصيل الشهوات الظاهرة. وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر، كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافرا؛ إذ لا يكاد يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله) (¬3). 4 - وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ)) (¬4). ومعلوم أن عامة هؤلاء لا يريدون المروق من الدين، ولا يقصدون إليه، لما ذكر عنهم من العبادة العظيمة، في غير نفاق، فدل على أنه قد يمرق الإنسان من الدين من غير أن يقصد ذلك. ¬

(¬1) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (5/ 81). وقال: (فيه) صالح بن حيان عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 374): منكر. وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (4/ 1469): حسن. وقال المعلمي في ((الأنوار الكاشفة)) (137): راويه عن ابن بريده صالح بن حيان وهو ضعيف له أحاديث منكرة. (¬2) ((الصارم المسلول)) (2/ 325). (¬3) ((الصارم المسلول)) (2/ 339). (¬4) رواه البخاري (5058)، ومسلم (1064).

قال الطبري رحمه الله في (تهذيب الآثار)، بعد أن سرد أحاديث الباب: (فيه الرد على قول من قال: لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالما؛ فإنه مبطل لقوله في الحديث: ((يقولون الحق ويقرؤون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء)) (¬1)، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه) (¬2). وقال ابن هبيرة: (وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينا على دين الإسلام) (¬3). والحاصل أن أهل السنة لا يشترطون في التكفير بالأقوال والأفعال، اعتقادَ الكفر أو قصدَه أو انشراحَ الصدر به، ولا يجعلون إرادة الحياة الدنيا واستحبابها مانعا من تكفير من قال أو فعل ما هو كفر أكبر. والقصد المشترط في باب الردة هو قصد الفعل أو القول، ليَخرج نحو النائم والساهي، ممن يغلط فيتكلم بما لا يريد، كالرجل الذي قال: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)) (¬4). قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إنّ قصدَ اللفظ بالعقود معتبرٌ عند جميع الناس، بحيث لو جرى اللفظ في حال نوم أو جنون أو سبق اللسان بغير ما أراده القلب، لم يترتب عليه حكم في نفس الأمر) (¬5). وقرر الشاطبي رحمه الله أن الأفعال إذا عريت عن المقاصد، كانت كحركات العجماوات والجمادات، فلا يتعلق بها حكم (¬6). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 149 المطلب الثاني: الفرق بين تكفير المطلق وتكفير المعين يفرق أهل السنة بين تكفير المطلق وتكفير المعين، ففي الأول يطلق القول بتكفير صاحبه – الذي تلبس بالكفر – فيقال: من قال كذا، أو فعل كذا، فهو كافر، ولكن الشخص المعين الذي قاله أو فعله، لا يُحكم بكفره إطلاقاً حتى تجتمع فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع، فعندئذ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. يقول ابن تيمية: (وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتُبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة) (¬7). ثم يقول: (إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، يبين هذا أن الأمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه) (¬8). ويسوق ابن تيمية بعضاً من الأعذار الواردة على المعين، فيقول: ¬

(¬1) أصله في صحيح البخاري (¬2) نقله في ((فتح الباري)) (12/ 300). (¬3) نقله في ((فتح الباري)) (12/ 301). (¬4) رواه البخاري (6309) مختصراً، ومسلم (2747)، واللفظ له. (¬5) ((الفتاوى الكبرى)) (6/ 75)، وقال في (4/ 204): (وقررتُ أن كل لفظ بغير قصدٍ من المتكلم لسهو وسبق لسان أو عدم عقل فإنه لا يترتب عليه حكم). (¬6) ((الموافقات)) (1/ 149) وأجاب عن تصحيح عقود السكران بأنه (لما أدخل السكر على نفسه كان كالقاصد). وقال شيخ الإسلام: (ثم إن أكثرهم صححوا عقود السكران مع عدم قصده اللفظ. قالوا: لأنه لما كان محرما عليه أن يزيل عقله، كان في حكم من بقي عقله).ا. هـ. من ((الفتاوى الكبرى)) (6/ 75). (¬7) ((الكيلانية)) (ص: 94)، و ((مجموع الفتاوى)) (12/ 466). (¬8) ((الكيلانية)) (ص: 107)، و ((مجموع الفتاوى)) (12/ 487، 488).

(الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده، ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطاياه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام) (¬1). إلى أن قال: (كان الإمام أحمد – رحمه الله – يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة ... لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط ... ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية، ويدعون الناس إلى ذلك ويعاقبونهم، ويكفرون من لم يجبهم، ومع هذا فالإمام أحمد ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم بذلك .. وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال:- القرآن مخلوق، كفرت بالله العظيم، بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد، لسعى في قتله) (¬2). ولقد طبق ابن تيمية هذا المسلك، فكان يقول: (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش، لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لاني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال) (¬3). ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب:- (ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة إذا قال قولاً كان القول به كفراً، فيقال من قال بهذا القول فهو كافر، ولكن الشخص المعين إذا قال ذلك، لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها) (¬4). وبهذا يتضح لنا أن التكفير العام المطلق يجب القول بعمومه وإطلاقه، وأما الحكم على المعين بأنه كافر، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه، فالكفر من الوعيد الذي نطلق القول به، ولكن لا نحكم للمعين بدخوله في ذلك المطلق حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له (¬5). وإذا ظهر لنا الفرق بين التكفير المطلق، وتكفير المعين، فسندرك خطأ فريقين من الناس، فهناك فريق من الناس قد غلا، فادعى تكفير المعين بإطلاق، دون النظر إلى الشروط والموانع، وفريق آخر امتنع عن تكفير المعين بإطلاق، فأغلق باب الردة. نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف – ص52 المطلب الثالث: الحكم لمعين بالجنة أو النار أهل السنة والجماعة لا يجزمون لأحد بعينه كائناً من كان؛ بجنة ولا نار إلا من جزم له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء (¬6). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 346). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 348، 349) باختصار. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 326). (¬4) ((الدرر السنية)) (8/ 244). (¬5) انظر لمزيد من التفصيل: ((مجموع الفتاوى)) (3/ 354، 12/ 498، 28/ 500، 501، 35/ 165). (¬6) ولهذا لا يحكم على أحد قتل أو مات بأنه شهيد؛ لأن النية مردها إلى الله تعالى. والصحيح أن يقال: نسأل الله له الشهادة نحسبه شهيداً إن شاء الله – ولا نزكي على الله أحداً – بصيغة الدعاء وليس بصيغة الجزم لأن الجزم قول على الله بلا علم.

ويعتقدون أن الجنة لا تجب لأحد، وإن كان عمله حسناً إلا أن يتغمده الله بفضله فيدخلها برحمته، قال الله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور: 21]. وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من أحد يدخله عمله الجنة)) فقيل: ولا أنت؟ يا رسول الله! قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني ربي برحمة)) (¬1). الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري – ص: 131 وقد قرر هذا الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في كتابه حيث قال: (ولا يقطعون على أحد من أهل الملة أنه من أهل الجنة أو من أهل النار لأن علم ذلك يغيب عنهم لا يدرون على ماذا الموت؟ أعلى الإسلام أم على الكفر؟ ولكن يقولون: إن من مات على الإسلام مجتنبا للكبائر والأهواء والآثام فهو من أهل الجنة لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ [البينة: 7]، ولم يذكر عنهم ذنبا أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَناتُ عَدْنٍ [البينة: 7 - 8]، ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بعينه وصح ذلك عنه فإنهم يشهدون له بذلك اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقا لقوله) (¬2). اعتقاد أئمة أهل الحديث للإسماعيلي ص 68 - 69 ¬

(¬1) رواه مسلم (2816). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((اعتقاد أئمة أهل الحديث)) (ص: 68 - 69).

المبحث الثالث: قيام الحجة

المطلب الأول: التكفير والتعذيب يكون بعد قيام الحجة استدل أهل السنة بأدلة كثيرة على أن التكفير، والتعذيب لا يكون إلا بعد قيام الحجة ومنها قوله تعالى: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] وقوله عز وجل: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقوله تعالى: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ [الملك:8 - 9] وقال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [الأنعام:130] وقوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [القصص:59]. وقوله تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية) .. ثم ذكر عدداً من الأدلة ... إلى أن قال: (فمن قد آمن بالله ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلاً، أما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله ورسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به (¬1) لم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها) (¬2). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله بعدما ذكر هذه الآيات: (وهذا كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة) (¬3). وقال الإمام الذهبي رحمه الله: (فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة عليه، والله لطيف رؤوف بهم، قال تعالى: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا يبلغهم إلا بعد أشهر، فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص، وكذا يعذر بالجهل من لم يعلم حتى يسمع النص والله أعلم) (¬4). لكن قد يقول قائل: إن هذه الأدلة المستدل بها تنفي العذاب في الدنيا فقط؟ فيقال أولاً: (أنه خلاف ظاهر القرآن، لأن ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مطلقاً، فهو أعم من كونه في الدنيا، وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع إلا بدليل يجب الرجوع إليه. ¬

(¬1) أي تفصيلاً. (¬2) ((مجموع الفتاوي)) (12/ 493، 494)، وانظر (17/ 308). (¬3) ((طريق الهجرتين)) (ص: 384)، وانظر ((تفسير ابن كثير)) (3/ 28). (¬4) ((الكبائر)) للذهبي (12)، تحقيق محي الدين مستو.

الوجه الثاني: أن القرآن دل في آيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة، كقوله: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالوا بلى [الملك:8 - 9] وهو دليل على أن جميع أفواج أهل النار ما عذبوا في الآخرة إلا بعد إنذار الرسل) (¬1). ويمكن أن يقال ثالثاً: إن هذه النصوص إذا نفت التعذيب الدنيوي فالأخروي من باب أولى والله أعلم. إذاً لا تقوم الحجة إلا بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبلوغ ذلك إلى المعين (¬2). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 218 ولقد أرسل الله الرسل عليهم السلام مبشرين ومنذرين، وأقام سبحانه للناس أسباب الهداية، ومن تمام حكمته وعدله أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] وقال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]، وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ [الملك: 7 - 8]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)) (¬3) وتوضيحاً لما سبق ذكره نختار نبذة من مقولات العلماء على النحو الآتي: يقول ابن حزم: قال الله تعالى لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19]، وقال عز وجل وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]. فنص تعالى على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته، لا من لم تبلغه، وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل، فصح بذلك أنه من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف، والأصم، ومن كان في الفترة، والمجنون، فيقول المجنون يارب أتاني الإسلام، وأنا لا أعقل، ويقول الخرف والأصم، والذي في الفترة أشياء ذكرها، فيوقد لهم نار، ويقال لهم: أدخلوها، فمن دخلها وجدها برداً وسلاماً)) (¬4)، وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين، فإنه معذور لا ملامة عليه. (¬5). ويقول الشاطبي: _ جرت سنته _ سبحانه _ في خلقه، أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكلٍ جزاء مثله. ¬

(¬1) ((أضواء البيان)) (3/ 434). (¬2) وسيأتي بعض الإيضاح لذلك في الفصل القادم. (¬3) رواه مسلم (240) (¬4) رواه أحمد (4/ 224) (16344) ولفظه: (أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئاً وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة، فيقول رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن أدخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها، لكانت عليهم برداً وسلاماً). قال محققه شعيب الأرناؤوط: حديث حسن. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (881): صحيح. (¬5) ((الفصل)) (4/ 105).

كما أنه تعالى أنزل القرآن برهاناً في نفسه على صحة ما فيه، وإقامة للحجة وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه كفاية (¬1) ويقول ابن تيمية: وهذا أصل لابد من إثباته، وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولاً تقوم به الحجة عليه. (¬2) ثم ساق النصوص القرآنية الدالة على ذلك ... ثم قال: وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه، كقوله تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19]. فمن بلغه بعض القرآن دون بعض، قامت الحجة عليه بما بلغه دون ما لم يبلغه. (¬3) " ثم قال: (والذي عليه السلف والأئمة أن الله تعالى لا يعذب إلا من بلغته الرسالة، ولا يعذب إلا من خالف الرسل كما دل عليه الكتاب والسنة، ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال، والمجانين وأهل الفترات، فهؤلاء فيهم أقوال، أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب) (¬4). ... ويقرر ابن القيم أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل (¬5). ومن الفوائد التي أوردها العراقي في شرحه لحديث ((لا يسمع بي أحد من هذه الأمة .. )) قوله: ومفهومه إن لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور على ما تقرر في الأصول أن لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح (¬6). وأورد الشنقيطي مسألة (هل يعذر المشركون بالفترة (¬7) أم لا؟) ثم قال: (والتحقيق أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل) (¬8). ومن خلال ما أوردناه من نصوص ونقول، يتقرر أن العذاب والمؤاخذة لا يقع إلا بعد النذارة وقيام الحجة، وأن أهل الفترة ومن في حكمهم يمتحنون يوم القيامة، كما جاءت بذلك الأحاديث والله تعالى أعلم (¬9). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف– ص56 من بلغته الدعوة، فقد قامت عليه الحجة، كما قال ابن تيمية: (حكم الوعيد على الكفر، لا يثبت في حق الشخص المعين، حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله) (¬10). ¬

(¬1) ((الموافقات)) (3/ 377)، بتصرف يسير. (¬2) ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (1/ 309). (¬3) ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (1/ 310). (¬4) ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (1/ 312). باختصار، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (تفسير سورة الإخلاص) (17/ 308). (¬5) ((طريق الهجرتين)) (ص 414)، وانظر ((مدارج السالكين)) (1/ 188). (¬6) ((طرح التثريب شرح التقريب)) (7/ 160). (¬7) الفترة: هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسي عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم / انظر ((تفسير ابن كثير)) (2/ 34). (¬8) ((أضواء البيان)) (3/ 481)، وانظر التفصيل لهذه المسألة في نفس الكتاب (3/ 474 - 484). (¬9) انظر للمزيد من التفصيل في هذا المطلب: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 28 - 32)، و ((إيثار الحق)) لابن الوزير (ص206)، ((فتح الباري)) (3/ 246)، ((تفسير المنار)) (6/ 72، 73)، ((أهل الفترة ومن في حكمهم)) لموفق أحمد شكري. (¬10) ((بغية المرتاد)) (ص: 311).

ويقول في موضع آخر: إن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلف إلا بعد البلاغ لقوله تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19] وقوله: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، ولقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]، ومثل هذا في القرآن متعدد، بين الله سبحانه أنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغه ما جاء به الرسول (¬1) وقد يشكل على البعض: كيف تقوم الحجة على من قضى الله تعالى بخذلانه وحرمانه؟ ولكن كما قال ابن القيم رحمه الله: (فإن قيل كيف تقوم حجته عليهم، وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه، قيل: حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، وأقام لهم أسباب الهداية باطناً وظاهراً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه، نعم قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه ... ) (¬2). 2 - وأمر آخر وهو أن إقامة الحجة ليس لكل مسألة مطلقاً، ... فهناك أمور كالمسائل الظاهرة مما هو معلوم من الدين بالضرورة لا يتوقف في كفر قائلها، ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس ... وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله) (¬3). ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (إن الذين توقفوا في تكفير المعين، في الأشياء التي قد يخفى دليلها، فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر سواء فهم، أو قال: ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد وأما ما علم بالضرورة أن رسول الله جاء به وخالفه، فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف سواء في الأصول أو الفروع ما لم يكن حديث عهد بالإسلام) (¬4). 3 - وإذا أردنا أن نتحدث عن الضابط في قيام الحجة على المعين، فيمكن القول بأن الأصل أنه لا تكفير للمعين إلا إذا كانت الحجة الرسالية قد بلغته، وقد يراد ببلوغ الحجة الرسالية مجرد البلوغ العام الذي تقوم به الحجة بأصل الدين الذي هو عبادة الله والتقرب إليه وحده والإتباع المجمل للشريعة، وقد يراد ببلوغ الحجة ما يتعلق بتفاصيل الحجة الرسالية، والإتباع المفصل للشريعة بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فلابد فيه لإقامة الحجة من الإبلاغ التفصيلي، فمن لم تبلغه حجة الله بشيء من تلك الأمور، لم يكن مكلفاً، فالحجة الرسالية على التفصيل شرط في التكليف. وأما الإقرار بأصل الدين الشهادتين علماً وعملاً فهو كاف في قيام الحجة في استحقاق الله وحده للعبادة دون غيره، ومجمل الإتباع للشريعة (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (22/ 41). (¬2) ((شفاء العليل)) (ص: 173). (¬3) ((الدرر السنية)) (8/ 244) وانظر (8/ 90). (¬4) ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (1/ 74)، وانظر ((فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء)) (1/ 528). (¬5) انظر للمزيد: ((رسالة ضوابط التكفير)) لعبد الله القرني (ص 298 - 326)

وأما شرط قيام الحجة على الخلق (فالحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله، كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً، وهذه أوقات الفترات) (¬1). 4 - ومما يجدر ذكره هاهنا أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص، كما قال ابن القيم: (إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له) (¬2). 5 - كما ينبغي أن يفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (وأصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 44]. وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها نوع آخر، فإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قول صلى الله عليه وسلم في الخوارج: ((أينما لقيتموهم فاقتلوهم)). (¬3) مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها) (¬4). ويقول أيضاً: (0من المعلوم أن قيام الحجة ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ [الإسراء: 46] وقوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ [الأنفال: 22]) (¬5). ومقصود الشيخ الإمام من فهم الحجة ها هنا: أي الفهم الذي يقتضي الانتفاع والتوفيق والاهتداء، كما مثل له بفهم الصديق رضي الله عنه، وأما قيام الحجة فتقضي الإدراك وفهم الدلالة، والإرشاد، وإن لم يتحقق توفيق أو انتفاع، كما قال الله تعالى وَأَما ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17]. ومما يؤكد ذلك ما سطره تلميذه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله حيث قال: (وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلياً كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليه حجة الله مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) (¬6). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف – ص: 71 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/ 59)، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (19/ 17). (¬2) ((طريق الهجرتين)) (ص: 414). (¬3) رواه البخاري (6931)، ومسلم (1066). (¬4) ((مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) (3/ 12، 13). (¬5) ((الدرر السنية)) (8/ 79) وانظر كلام الشيخ عبدالله أبا بطين في ((الدرر السنية)) (8/ 213، 214) و ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 515). (¬6) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 638) وانظر رسالة ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص: 344، 345).

المطلب الثاني: كيفية قيام الحجة على المعين

المطلب الثاني: كيفية قيام الحجة على المعين أكد العلماء على ضرورة بلوغ الحجة للمعين، وثبوتها عنده وتمكنه من معرفتها، وكل ذلك لا يتم إلا بوجود من يحسن إقامة الحجة. يقول شيخ الإسلام في ذلك: (وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها: قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان) (¬1) ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله – (وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل) (¬2) .. ويقول أيضاً: (. فإن حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبلوغ ذلك إليه، وتمكنه من العلم به، سواء علم أو جهل، فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، فقصر عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة، والله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه) (¬3). ويقول الإمام ابن حزم – رحمه الله -: (وكل ما قلناه فيه أنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة، فهو ما لم تقم الحجة عليه، معذور مأجور وإن كان مخطئا، وصفة قيام الحجة عليه أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها وبالله التوفيق) (¬4). وحكى الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن عن الإمام المجدد أنه (قرر أن من قامت عليه الحجة، وتأهل لمعرفتها، يكفر بعبادة القبور) (¬5) ويقول العلامة سليمان بن سحمان كلاماً متيناً مهما حول من يقيم الحجة: (الذي يظهر لي والله أعلم أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها، وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ولا ما ذكره العلماء في ذلك، فإنه لا تقوم به الحجة) (¬6). إذاً خلاصة ما سبق أن يقال، لابد من قيام حجة صحيحة تنفي عمن تقام عليه أي شبهة أو تأويل، وبذلك ندرك عظم المسئولية الملقاة على عاتق العلماء والدعاة ممن يحسن إقامة الحجة، ليقيموا الحجة على الخلق ويزيلوا الشبه عنهم. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 243 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوي)) (23/ 346) ومثله (3/ 231) (20/ 59). (¬2) ((طريق الهجرتين)) (384)، كلام الإمام ابن القيم في الحكم الأخروي، لكن الشاهد منه قوله وعدم التمكن من معرفتها). (¬3) ((مدارج السالكين)) (2/ 239). (¬4) ((الإحكام لابن حزم)) (1/ 67). (¬5) ((حكم تكفير المعين)) (ص: 18). (¬6) ((منهاج الحق والاتباع)) (ص: 68).

المطلب الثالث: قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص

المطلب الثالث: قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فالمسألة نسبية فقد تقوم الحجة على أهل هذا البلد لانتشار العلم والعلماء، ولا تقوم على بلد آخر لضعف من يدعو ويبلغ، وقد تقوم الحجة على هذا الشخص لعلمه وفهمه، ولا تقوم على آخر لعدم تمكنه من العلم لأنه حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة ونحو ذلك. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول) (¬1)، وقال أيضاً: ( ... ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا. بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية) (¬2). وقد فصل في هذا المعنى، وزاده إيضاحاً الإمام الخطابي حيث قال: ( ... وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة، وامتنعوا عن أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي؟. قلنا: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها قرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، ومنها أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريباً فدخلتهم الشبهة فعذروا، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأول يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده فإنه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه، فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة) (¬3). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوي)) (11/ 407)، وانظر (7/ 610، 619،35،165) وغيرها. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 407). (¬3) ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 8)، و ((مسلم بشرح النووي)) (1/ 173).

ومثال ذلك ما قاله الإمام ابن قدامة – رحمه الله – في حكم من جحد وجوب الصلاة: (ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحداً لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك، فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام والناشيء بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم، لم يحكم بكفره، وعرف ذلك وتثبت له أدلة وجوبها فإن جحدها بعد ذلك كفر، وأما الجاحد لها ناشئا في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحدها، وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها وهي الزكاة والصيام، والحج لأنها مبادئ الإسلام وأدلة وجوبها لا تكاد تخفى إذ كان الكتاب والسنة مشحونين بأدلتها والإجماع منعقد عليها، فلا يجحدها إلا معاند للإسلام يمتنع من التزام الأحكام غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته، إلى أن يقول: وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول الشبهة ويستحله بعد ذلك) (¬1) ويمكن أن نستخلص من أقوال الأئمة السابقة ما يلي: أ- اتفاق الأئمة على أن حديث العهد بالإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة يعذر بجهل الأحكام الظاهرة المتواترة كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم شرب الخمر .. الخ. ب- أن من أنكر هذه الأمور في دار إسلام وعلم ولم يكن حديث عهد بإسلام أنه يكفر بمجرد ذلك، وبذلك ندرك خطأ من يظن أن الجاهل لا يكفر مطلقاً. ج- أن هناك أحكاماً ظاهرة متواترة مجمع عليها ومسائل خفية غير ظاهرة ولكنها لا تعرف إلا من طريق الخاصة من أهل العلم. فهذه من أنكرها من العامة لا يكفر، ولكن من أنكرها من الخاصة يكفر (¬2) إذا كان مثله لا يجهلها. د- أيضاً يمكن أن يقاس على حديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة، من ينشأ في بلاد يكثر فيها الشرك والانحراف وتضعف بينهم دعوة التوحيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعدما ذكر بعض أنواع الشرك: (وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه) (¬3). وقول الإمام المجدد: (وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم .. ) (¬4). وقول الإمام عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب عن بعض من يعمل الشرك إنه لا يكفر (لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته بلسانه، وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة ولا وضحت له المحجة.) (¬5). إذاً الحجة تختلف من بلد إلى آخر ومن زمن إلى آخر، وكذلك تختلف الأنظار والاجتهادات بالنسبة لقيام الحجة على الأشخاص، فقد يرى شخص أن الحجة قائمة على فلان أو على أهل البلد الفلاني، لانتشار العلماء والدعاة وطلبة العلم والكتب والأشرطة والمذياع وما يشبه ذلك، وقد يرى آخر أنه رغم انتشار الدعاة وطلبة العلم إلا أنهم لا يعتنون بمسائل التوحيد والشرك، أو أنهم أنفسهم مصابون بهذا الداء، فمن أين يعرف أهل بلدهم حقيقة التوحيد؟ وأعظم ما يؤدي إلى هذا الاختلاف واللبس أمران أحدهما: التقصير في الدعوة إلى الله وإقامة الحجة على الجهال والبدء بالأهم فالمهم، والثاني: عدم وجود السلطة التي تقيم الحجة وتستتيب من يصر، والتي بها يتضح للناس من قامت عليه الحجة ومن لم تقم، ولعل هذا من أبرز أسباب كثرة الكلام حول هذه المسألة بين المتأخرين والله أعلم. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 230 ¬

(¬1) ((المغني)) (ص: 131 - 132). (¬2) انظر ((العواصم من القواصم لابن الوزير)) (4/ 174). (¬3) انظر النص في ((الرد على البكري)) (ص: 376). (¬4) ((مجموعة الشيخ، فتاوى ومسائل)) (9/ 11). (¬5) ((الهدية السنية)) (46، 47).

المبحث الرابع: عدم التكفير بكل ذنب

المبحث الرابع: عدم التكفير بكل ذنب من الأصول المجمع عليها عند أهل السنة: أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب- ما لم يستحله، ويقصدون بالذنب - الذي لا يكفر صاحبه- فعل الكبائر أو الصغائر أو ترك الواجبات، خلافاً للوعيدية، الذين يكفرون أهل الكبائر، وبعضهم يكفر أهل الصغائر، لكن قد يفهم البعض من عبارات السلف في ذلك أنهم لا يكفرون بكل ذنب، مطلقاً، فدفعاً لهذا اللبس (امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج وفرق بين النفي العام، ونفي العموم .. ) (¬1). فالنفي العام قد يفهم منه عدم تكفير المعين مطلقاً مهما عمل من الذنوب، ولو عمل النواقض. أما نفي العموم، فيفهم منه أنهم يكفرون ببعض الذنوب، ولا يكفرون ببعضها فمن الذنوب التي يكفر مرتكبها نواقض الإسلام الكبرى المعلومة، ومن ذلك – أيضاً – الخلاف المشهور عند أهل السنة في التكفير بترك الأركان وخاصة الصلاة، أما الذنوب التي لا يكفرون بها ففعل الكبائر وترك الواجبات ما لم يستحل الكبائر، أو ينكر الواجبات نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 2221 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (العقيدة الواسطية): وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 178]، وقال: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين [الحجرات:9] , إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] قال الشيخ خليل الهراس-رحمه الله- في شرح كلام شيخ الإسلام المتقدم: ومع أن الإيمان المطلق مركَّب من الأقوال والأعمال والاعتقادات؛ فهي ليست كلها بدرجة واحدة؛ بل العقائد أصلٌ في الإيمان، فمَن أنكر شيئًا مما يجب اعتقاده في الله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أو مما هو معلومٌ من الدين بالضرورة؛ كوجوب الصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا والقتل إلخ؛ فهو كافرٌ، قد خرج من الإيمان بهذا الإنكار. شرح العقيدة الواسطية للهراس – ص: 233 وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-في شرحه لكلام ابن تيمية المتقدم: فالمسلم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر بمطلق المعاصي والكبائر (¬2). والفرق بين الشيء المطلق ومطلق الشيء: أن الشيء المطلق يعني الكمال، ومطلق الشيء؛ يعني: أصل الشيء. فالمؤمن الفاعل للكبيرة عنده مطلق الإيمان؛ فأصل الإيمان موجود عنده لكن كماله مفقود. فكلام المؤلف رحمه الله دقيق جداً. آية القصاص هي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178] والمراد ب (أخيه) هو المقتول. ¬

(¬1) ((شرح الطحاوية)) (ص: 356). (¬2) وتأمل قول المؤلف: (بمطلق المعاصي)، ولم يقل: بالمعاصي والكبائر؛ لأن المعاصي منها ما يكون كفراً، وأما مطلق المعصية؛ فلا يكون كفراً

ووجه الدلالة من هذه الآية على أن فاعل الكبيرة لا يكفر أن الله سمى المقتول أخاً للقاتل، مع أن قتل المؤمن كبيرة من كبائر الذنوب. وقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] , إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] (¬1) [(اقتتلوا) جمع، و (بينهما) مثنى، و (طائفتان) مثنى؛ فكيف يكون مثنى وجمع ومثنى آخر والمرجع واحد؟!] نقول: لأن قوله: (طائفتان): الطائفة عدد كبير من الناس، فيصح أن أقول: اقتتلوا، وشاهد هذا قوله تعالى: وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء: 102]، ولم يقل: لم تصل. فالطائفة أمة وجماعة، ولهذا عاد الضمير إليها جمعاً فيكون الضمير في قوله (اقتتلوا) عائداً على المعنى، وفي يقوله: (بينهما) عائداً على اللفظ. فهاتان الطائفتان من المؤمنين اقتتلوا، وحمل السلاح بعضهم على بعض، وقتال المؤمن للمؤمن كفر، ومع هذا قال الله تعالى بعد أن أمر بالصلح بينهما للطائفة الثالثة التي لم تدخل القتال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] , إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات 10]، فجعل الله تعالى الطائفة المصلحة إخوة للطائفتين المقتتلتين. وعلى هذا؛ ففي الآية دليل على أن الكبائر لا تخرج من الإيمان. وعلى هذا؛ لو مررت بصاحب كبيرة؛ فإني أسلم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من حقوق المسلم على المسلم ((إذا لقيته فسلم عليه)) (¬2)، وهذا الرجل ما زال مسلماً، فأسلم عليه؛ إلا إذا كان في هجره مصلحة؛ فحينئذ أهجره للمصلحة؛ كما جرى لكعب بن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم المسلمون خمسين ليلة حتى تاب الله عليهم (¬3). وهل نحبه على سبيل الإطلاق أو نكرهه على سبيل الإطلاق؟ نقول: لا هذا ولا هذا؛ نحبه بما معه من الإيمان، ونكرهه بما معه من المعاصي، وهذا هو العدل. شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين– 2/ 237 ¬

(¬1) هذا دليل آخر لقول أهل السنة: إن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان (¬2) رواه مسلم (2162). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) وقصة كعب بن مالك رضي الله عنه في الصحيحين: رواها البخاري (4418)، ومسلم (2769).

المبحث الخامس: اعتبار المقاصد

المبحث الخامس: اعتبار المقاصد إن مما ينبغي مراعاته في موضوع نواقض الإيمان: مسألة اعتبار المقاصد، فينظر إلى قصد ومراد من قد يكون متلبساً بكفر، مع النظر في نفس الوقت إلى ما ظهر منه من قول أو فعل، فهناك ارتباط وتلازم بين الباطن (القصد) والظاهر ومما أورده ابن تيمية في اعتبار المقاصد قوله: (ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي)) (¬1) قال له سعد بن معاذ (أنا أعذرك، إن كان من الأوس ضربت عنقه .. ) والقصة مشهورة فلما لم ينكر ذلك عليه، دل على أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم وتنقصه يجوز ضرب عنقه، والفرق بين ابن أبيّ وغيره ممن تكلم في شأن عائشة، أنه كان يقصد بالكلام فيها عيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن عليه، وإلحاق العار به، ويتكلم بكلام ينتقصه به، فلذلك قالوا: نقتله، بخلاف حسان ومسطح وحمنة، فإنهم لم يقصدوا ذلك، ولم يتكلموا بما يدل على ذلك، ولهذا إنما استعذر النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أبيّ دون غيره ... ) (¬2). ويقول أيضاً: (فإن سب موصوفاً بوصف أو مسمى باسم، وذلك يقع على الله سبحانه، أو بعض رسله خصوصاً أو عموماً، ولكن قد ظهر أنه لم يقصد ذلك، إما لاعتقاده أن الوصف أو الاسم لا يقع عليه، أو لأنه وإن كان يعتقد وقوعه عليه، لكن ظهر أنه لم يرده لكون الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره، فهذا القول وشبهه حرام في الجملة، يستتاب صاحبه منه إن لم يعلم أنه حرام، ويعزر مع العلم تعزيزاً بليغاً لكن لا يكفر بذلك ولا يقتل، وإن كان يخاف عليه الكفر) (¬3). ويقول في موضع ثالث: (إن المسلم إذا عنى معنى صحيحاً في حق الله تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن خبيراً بدلالة الألفاظ، فأطلق لفظاً يظنه دالاً على ذلك المعنى، وكان دالاً عل غيره أنه لا يكفر ... وقد قال تعالى: لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا [البقرة: 104] وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون لم يقصدوا ذلك فنهاهم الله تعالى عنها، ولم يكفرهم بها) (¬4). ولما تحدث السبكي عن مسألة إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بقول أو نحوه، قال: (لكن الأذى على قسمين أحدهما: يكون فاعله قاصداً لأذى النبي صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن هذا يقتضي القتل، وهذا كأذى عبدالله بن أبي في قصة الأفك، والآخر أن لا يكون فاعله قاصداً لأذى النبي صلى الله عليه وسلم مثل كلام مسطح وحمنة في الإفك، فهذا لا يقتضي قتلاً. ومن الدليل على أن الأذى لابد أن يكون مقصوداً قول الله تعالى: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الأحزاب: 53]. فهذه الآية في ناس صالحين من الصحابة، لم يقتض ذلك الأذى كفراً، وكل معصية ففعلها مؤذي، ومع ذلك فليس بكفر، فالتفصيل في الأذى الذي ذكرناه يتعين) (¬5). وإذا أشرنا إلى مسألة اعتبار المقاصد في موضوع نواقض الإيمان، فإن هذه المسألة لا تنفك عن مسألة الإرتباط والتلازم بين الظاهر والباطن. ¬

(¬1) رواه البخاري (4750) ومسلم (2770). (¬2) ((الصارم المسلول)) (ص: 179، 180)، وانظر (ص: 58، 59). (¬3) ((الصارم المسلول)) (ص: 562) وانظر (ص: 495). (¬4) ((الرد على البكري)) (ص: 341، 342)، وانظر ((أعلام الموقعين لابن القيم)) (3/ 110). (¬5) ((فتاوى السبكي)) (2/ 591، 592)، وانظر ((الفروق)) للقرافي (4/ 118، 119).

يقول ابن تيمية موضحاً هذا التلازم: (إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة، كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما لزم من نقص هذا، نقص هذا، إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع) (¬1). ويقول أيضاً: إن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وإنّ إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءًا من الإيمان (¬2) كما يقرر أن الإيمان القلبي لما كان له موجبات في الظاهر، فإن الظاهر دليل على إيمان القلب ثبوتاً وانتفاء، كقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، وقوله عز وجل وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة:81] (¬3) ويقول الشاطبي من هذه المسألة: (الأعمال الظاهرة في الشرع دليل على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرما ً، حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه، وسائر الأحكام العاديات، والتجريبيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً) (¬4). وهذا التلازم بين الظاهر والباطن، ليس تلازماً بإطلاق، فقد لا يكون العمل الظاهر مستلزماً لإيمان القلب (الباطن) حقيقة، كما هو الشأن في حال المنافقين، ومن ثم فيتعين عدم الخلط بين أحكام الدنيا، وأحكام الآخرة ... فالمنافق مثلاً في أحكام الدين تجري عليه أحكام أهل الإسلام الظاهرة، وإن كان في الحقيقة وفي الحكم الأخروي من الكافرين، وفي الدرك الأسفل من النار، وإليك أقوال أهل العلم في هذه المسألة على النحو التالي: يقول الإمام الشافعي: وإنما كلف العباد الحكم على الظاهر من القول والفعل، وتولى الله الثواب على السرائر دون خلقه، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [المنافقون:1 - 2] (¬5) ثم قال: (وأحكام الله ورسوله تدل على أنه ليس لأحد أن يحكم على أحد إلا بظاهر، والظاهر ما أقر به، أو قامت به بينة تثبت عليه) (¬6). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 582). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 616،) وانظر: (7/ 621). (¬3) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 142). (¬4) ((الموافقات)) (1/ 233). (¬5) ((الأم)) (1/ 259). (¬6) ((الأم)) (1/ 260).

ويقول أيضاً: أخبر عز وجل عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بأيمانهم، وحكم فيهم جلّ ثناءه في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان، وإن كانوا به كاذبين لهم جنة من القتل، وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم – إذ حقن الله تعالى دماء من أظهر الإيمان بعد الكفر – أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين، فكان بيِّناً في حكم الله عز وجل في المنافقين، ثم حكم رسول الله صلى الله عيه وسلم أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر، لأن أحداً لا يعرف ما غاب إلا ما علمه الله عز وجل (¬1). ويقول ابن تيميه:- (إن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردةً ظاهرة، فلا يرث ولا يورث، ولا يناكح ... وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا (ثلاث أصناف) مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون في نفاقه، ومن نزل القرآن ببيان نفاقه – كابن أبيّ وأمثاله ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات له ميت، آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماءهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته) (¬2). ويقول أيضاً:- (وبالجملة فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان:- كفر ظاهر وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين) (¬3). ولما عرض ابن تيمية مسألة الحكم على أولاد الكفار أقوال العلماء فيها قال بعد ذلك: (ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة: اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم، وحضانة آبائهم لهم، وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبين آبائهم، واسترقاقهم إذا كان آباؤهم محاربين. وغير ذلك، صار من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به فإذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعاً لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة. وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله، إذا قاتلوا الكفار، فيقتلونه، ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين، وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة، كما أن المنافقين تجري عليهم أحكام المسلمين، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، فحكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا). (¬4) ويقول الشاطبي رحمه الله: (إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً أيضاً، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي، يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه) (¬5). ويقول الحافظ ابن حجر: ¬

(¬1) ((الأم)) (6/ 157)، وانظر (6/ 165)، وانظر ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 540، 961) (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 617). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 620، 621). (¬4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 432، 433). (¬5) ((الموافقات)) (2/ 271)، وانظر ((لاعتصام)) (2/ 196)، و ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 128).

(وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (¬1) وهو عام يخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجرى عليه أحكام الظاهر). ثم قال: (وإظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة: ((هل شققت عن قلبه)). (¬2) وقال للذي ساره في قتل رجل: ((أليس يصلي؟: قال: نعم، قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم)). (¬3) 3 - وإذا تقرر ما سبق، فإن القصد (الباطن) مع الظاهر في مسألة التكفير، له أحوال متنوعة، فقد يكون القصد مكفراً دون أن يدل عليه العمل الظاهر، ومرة يكون العمل الظاهر قاطعاً في كفر الباطن، ومرة ثالثة يتلبس المعين بما هو كفر قطعاً لكن يمنع من تكفيره الإحتمال في قصده (¬4)، وحالة رابعة حيث يأتي المعين بقول مجمل، أو فعل مشكل يحصل التردد في قصده ومراده، مما يوقع تردداً وتوقفاً وإختلافاً بين العلماء في تكفيره (¬5). فمثال الحالة الأولى التي يكون فيها القصد مكفراً، لكن لايدل عليه العمل الظاهر، فمثل أعمال المنافقين التي هى في الظاهر طاعات، مع أنهم كفار حقيقة، لعدم إخلاصهم لله تعالى، قال تعالى: وَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ آمَنا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8]، وإن كانوا في الظاهر تجري عليهم أحكام الإسلام كما سبق، ومثال الحالة الثانية التي يكون فيها العمل الظاهر قاطعاً في كفر الباطن فمثل سب الله تعالى، وسب رسوله صلى الله عليه وسلم ونحوها؛ لأن هذا السب لنفس الأمر كفر بذاته؛ ولا يقع من مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا يقول ابن تيمية: (إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل) (¬6). ويقول أيضاً: (لو أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء، ويقول أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذباً فيما أظهره من القول) (¬7). ومثال الحالة الثالثة والتي يقوم بالمعين ما هو كفر قطعاً، لكن يمنع من تكفيره الاحتمال في قصده، ما جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فو الله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات، فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: _ يارب خشيتك، فغفر له)).) (¬8) ¬

(¬1) رواه البخاري (6922). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) الحديث بنحوه رواه البخاري (6872)، ومسلم (96). (¬3) رواه عبد بن حميد في ((مسنده)) (490)، والبيهقي (3/ 367). من حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء. قال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (1/ 22):هذا إسناد رجاله رجال الصحيح. وقال الذهبي في ((المهذب)) (3/ 1295): هذا إسناد رجاله رجال الصحيح. (¬4) انظر هذه الحالات الثلاث تفصيلاً في رسالة ((ضوابط التكفير)) (ص 274 - 297). (¬5) انظر هذه الحالة تفصيلاً في ((الشفا)) (2/ 978 - 985). (¬6) ((الصارم المسلول)) (ص: 512). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 616)، وانظر ((شرح الأصفهانية)) (ص 142)، و ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 107). (¬8) رواه البخاري (3481)، ومسلم (2756). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ففي هذا الحديث .. نجد أن هذا الرجل قد شك في قدرة الله تعالى، وبعث الأجساد وهذا كفر بالاتفاق، لكن الله تعالى قد غفر له حيث كان مؤمناً بالله واليوم الآخر على سبيل الإجمال والذي حمله على فعله هو جهله، وخشيته من الله عز وجل. ومثال الحالة الرابعة حيث يتلبس المعين بقبول مجمل أو فعل مشكل يحصل التردد في قصده ومراده، ما أورده القاضي عياض حيث قال: (وقد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه غريمه، فقال له: صل على النبي محمد، فقال له الطالب: لا صلى الله على من صلى عليه، فقيل لسحنون: هل هو كمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم، أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه، قال: لا، إذا كان على ما وصفت من الغضب؛ لأنه لم يكن مضمراً الشتم. وقال أبو إسحاق البرقي، وأصبغ بن الفرج: لا يقتل، لأنه إنما شتم الناس، وهذا نحو قول سحنون؛ لأنه لم يعذره بالغضب في شتم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما احتمل الكلام عنده، ولم تكن معه قرينة على شتم النبي صلى الله عليه وسلم، أو شتم الملائكة صلوات الله عليهم، ولا مقدمة يحمل عليها كلامه، بل القرينة تدل على أن مراده الناس غير هؤلاء، لأجل قول الآخر له: صل على النبي، فحمل قوله وسبه لمن يصلي عليه الآن لأجل أمر الآخر له بهذا عند غضبه. وذهب الحارث بن مسكين القاضي وغيره في مثل هذا إلى القتل (¬1).) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف – ص85 ¬

(¬1) ((الشفا)) (2/ 979، 980)، وانظر ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 108).

الفصل الرابع: موانع التكفير

تمهيد والذي عليه علماء أهل السنة والجماعة أنَّ موانع التكفير أربعة: (الجهل، والخطأ، والتأويل أو الشبهة، والإكراه)، فمن وقع في كفرٍ عملاً أو قولاً ثم أقيمت عليه الحجة وبُيِّن له أنَّ هذا كفرٌ يخُرج من الملة فأصَرَّ على فعله طائعاً غير مُكْرَهٍ، متعمّداً غير مخطىءٍ ولا متأوّلٍ فإنَّه يكفر ولو كان الدافع لذلك الشهوة أو أيّ غرضٍ دنيويٍّ، وهذا ما عليه أهل الحق وعليه ظاهرين إلى قيام الساعة إن شاء الله. التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد لعلوي بن عبد القادر السقاف – ص: 16

المبحث الأول: العذر بالجهل

المبحث الأول: العذر بالجهل الجهل نوعان: جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئاً عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئاً عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه فإن كان منتسباً إلى الإسلام، لم يضره، وإن كان منتسباً إلى الكفر، فهو كافر في الدنيا، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح، يمتحن، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار. فعلى هذا من نشأ ببادية بعيد ليس عنده علماء ولم يخطر بباله أن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء واجب، فهذا يعذر، وله أمثلة: منها: رجل بلغ وهو صغير وهو في بادية ليس عنده عالم، ولم يسمع عن العلم شيئاً، ويظن أن الإنسان لا تجب عليه العبادات إلا إذا بلغ خمس عشرة سنة، فبقي بعد بلوغه حتى تم له خمس عشرة سنة وهو لا يصوم ولا يصلي ولا يتطهر من جنابه، فهذا لا نأمره بالقضاء لأنه معذور بجهله الذي لم يفرط فيه بالتعلم ولم يطرأ له على بال، وكذلك لو كانت أنثى أتاها الحيض وهي صغيرة وليس عندها من تسأل ولم يطرأ على بالها أن هذا الشيء واجب إلا إذا تم لها خمس عشرة سنة، فإنها تعذر إذا كانت لا تصوم ولا تصلي. وأما من كان بالعكس كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل، لكن عنده تهاون وغفلة، فهذا لا يعذر، لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه، ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة، فهو مفرط، فيلزمه القضاء ولا يعذر بالجهل. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/ 204 إن من شروط الإيمان عند أهل السنة والجماعة وجود العلم والمعرفة عند الشخص المؤمن به؛ لذا فمن أنكر أمراً من أمور الشرع جاهلاً به، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله؛ فإنه لا يكفر؛ حتى لو وقع في مظهر من مظاهر الشرك أو الكفر: لأنه لم يكن يعلم بهذا المكفر قبل إسلامه. أو يعيش في بلد فاش فيه الجهل، أو بعيد عن ديار العلم وأهله، أو نشأ في بلد انقلبت فيه موازين الشرع؛ فصار الشرك فيه هو التوحيد، والبدعة فيه هي السنة، وكثر فيه الانحراف، وزين فيه الباطل والكفر، ولبس عليهم. أو أنه وقع في المكفر وهو غير قاصد له، أو أن هذا المكفر من المسائل الخفية التي لا يطلع عليها إلا العلماء. فمثل هذا الشخص لا يستحق العقوبة حتى تقام عليه الحجة؛ لأن الجهل ببعض الأمور العقدية قد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض الصحابة رضي الله عنهم ومع ذلك لم يكفرهم صلى الله عليه وسلم. وأهل السنة والجماعة؛ يراعون اختلاف أحوال الناس، وأماكنهم وزمانهم؛ من حيث انتشار العلم، أو عدم انتشاره، لأنهم لا يشتركون جميعاً في معرفة الأمور الضرورية على درجة واحدة؛ بل قد يعرف البعض ما لا يعرفه الآخرون؛ أو قد يكون بعض المسائل من المسلمات عند البعض مع أن غيرهم يجهلها. ومع هذا فلا يعني أن الجهل عندهم عذر مقبول لكل من ادعاه؛ فالجهل عندهم درجات مختلفة، فجهل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، غير جهل ما دونه. والجاهل العاجز عن السؤال والعلم؛ غير الجاهل المتمكن المفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله تعالى. وكون الرجل يعذر بالجهل عندهم لا يعني ذلك إبقاء منزلته كما هي؛ بل تنحط منزلته، وينقص إيمانه بقدر بعده عن الحق. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري–ص: 265

كثيراً ما يقال: هذه من مسائل العقيدة التي لا يعذر من يجهلها، أو من مسائل الأصول، أو هذه مسألة قطعية لا عذر فيها ونحو ذلك، وهذا التعبير غير دقيق وغير منضبط فمن قال: هذه من مسائل الأصول التي لا يعذر جاهلها، يقال له: ماذا تقصد بمسائل الأصول؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل العقيدة، ومسائل الفروع هي مسائل العمل، يقال له: هناك من مسائل العمل كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم الفواحش .. الخ، ما هو أعظم من كثير من مسائل الاعتقاد وأقوى وأوضح دليلاً ولا يعذر من يجهلها في دار الإسلام وهناك من مسائل الاعتقاد، اختلف السلف فيها ولم يورث اختلافهم تضليلاً ولا تبديعاً ولا تفسيقاً، كمسألة: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والعذاب في القبر على الروح وإلا على الروح والبدن، وهل إبليس من الجن أو الملائكة الخ وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية (أو ما هو معلوم من الدين بالضرورة) والفروع ليست قطعية، فيقال له: كون المسألة قطعية أو ظنية أمر نسبي إضافي، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فكون الشيء معلوماً من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلاً عن كونه يعلمه بالضرورة، وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي- صلى الله عليه وسلم –سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، وأكثر الناس لا يعلمه البتة) (¬1). ولكن مما ينبغي التنبيه إليه، أن هناك أموراً تعلم من الدين بالضرورة بلا خلاف (¬2)، وأموراً لا تعلم من الدين بالضرورة بلا خلاف، ويبقى بينهما أمور ومسائل تختلف حولها الأنظار والأفهام، ولذلك يمكن أن نقول: إن هذا التعبير غير دقيق لأننا لا نستطيع أن نضع حداً منضبطاً لا يختلف حوله والله أعلم. الجهل يأتي بعدة معاني منها: خلو النفس من العلم (¬3) وهو المشهور، ومنها: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه (¬4)، ومنها: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً (¬5)، ومنه قوله سبحانه: فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6]، ومقصود العلماء بالجهل الذي يعذر صاحبه أو لا يعذر، أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً بخلاف ما حقه أن يفعل، أو يعتقد اعتقاداً بخلاف ما هو عليه من الحق. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوي)) (13/ 118) وانظر (19/ 211) ((منهاج السنة)) (5/ 87 - 95) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص: 613). (¬2) كثيراً ما يعبر عن هذه الأمور: (بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة) انظر ((الفتاوى)) (12/ 496، 7/ 610، 11/ 406)، و ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 64) , وغيرها إذاً لابد من شرطين أن تكون ظاهرة ومتواترة، ولذلك اعتبرت كثير من المسائل المتواترة غير الظاهرة مما يعذر بجهلها في دار الإسلام، ومن أشهر الأمثلة التي يذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب وتلامذته، مسألة الصرف والعطف رغم اعتباره السحر ومنه الصرف والعطف، من نواقض الإسلام، انظر ((مجموع الشيخ)) (9/ 12)، و ((فتاوى ومسائل)) (12/ 213). (¬3) انظر ((المفردات)) (ص: 102) و ((لسان العرب)) (11/ 129). (¬4) انظر ((المفردات)) (ص: 102)، و ((التعريفات)) (ص: 84). (¬5) انظر ((المفردات)) (ص: 102).

والعذر بالجهل كما هو معلوم له حالات، فهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، والأشخاص يختلفون فمنهم من قامت عليه الحجة، ومنهم من لم تقم عليه باعتباره مثلاً حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، وكذلك الجهل يختلف إن كان جهلاً بما هو معلوم من الدين بالضرورة أو ما دون ذلك نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 225 إنَّ من أظهر الأدلة في اعتبار الجهل عذراً، ما ثبت في (الصحيح) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن رجلاً لم يعمل خيراً قط فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل، فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يارب وأنت أعلم فغفر الله له)) (¬1) ويقول ابن قتيبة: عن هذا الحديث: (وهذا رجل مؤمن بالله، مقر به، خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أنه إذا أحرق وذري في الريح أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له بمعرفته ما بنيته، وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته) (¬2). ويقول ابن تيمية: (وكنت دائماً أذكر هذا الحديث .. فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك) (¬3). ويفصل ابن تيمية ذلك بقوله: (فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم، بعدما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك. وهذان أصلان عظيمان، أحدهما: متعلق بالله تعالى، وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير، والثاني: متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملاً صالحاً وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه غفر الله بما كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح) (¬4). ويضيف ابن تيمية في بيان هذا الحديث قائلاً: (فإن هذا الرجل جهل قدرة الله على إعادته ورجا أن لا يعيده بجهل ما أخبر به من الإعادة، ومع هذا لما كان مؤمناً بالله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، خائفاً من عذابه، وكان جهله بذلك جهلاً لم تقم عليه الحجة التي توجب كفر مثله، غفر الله له، ومثل هذا كثير في المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخبر بأخبار الأوّلين، ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة) (¬5). ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (3478) ومسلم (2756) بلفظ مقارب. (¬2) ((تأويل مختلف الحديث)) (ص 136) ت: محمد الأصفر. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 231)، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (28/ 501، 11/ 409، 410) وانظر ((الفصل)) لابن حزم (3/ 296). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 491) وانظر ((السبعينية)) ((بغية المرتاد)) (ص 342). (¬5) ((الصفدية)) (1/ 233) , وانظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 338، 339) ((إيثار الحق على الخلق)) لابن الوزير (ص 436) وانظر ((مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) (3/ 11) ((الفتاوى)) ((ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن عثيمين)) (3/ 605).

ومما يجدر ذكره هاهنا، أننا في زمان قد تهيأت فيه الأسباب لتبليغ ونشر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في البلدان عن طريق الوسائل المختلفة، التي جعلت سائر أقطار العالم كالبلد الواحد (¬1) إلا أن العذر بالجهل لا يزال ظاهراً في عصرنا، حيث قل أهل العلم العاملون، وكثر الأدعياء الذين يزينون الباطل والكفر للعامة، ويلبسون عليهم، وقد أشار ابن تيمية إلى أهل زمانه وهو بلا شك أقل سوء من زماننا الحاضر وما كان عليه الكثير من الوقوع في أنواع من الكفر، ومع ذلك عذرهم بهذا الجهل قائلاً: (وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات، يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف ((يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاةً، ولا صياماً، ولا حجاً، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون لا إله إلا الله، فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار)) (¬2) (¬3).). وعندما نقرر أن للعذر بالجهل اعتباراً في مسألة التكفير، فلا يعني أن الجهل عذر مقبول لكل من ادعاه. ولذا يقول الإمام الشافعي: (إن من العلم ما لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل، والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا) (¬4). ¬

(¬1) انظر ((المنتخبات من مكتوبات أحمد السر هندي)) (ص 68). (¬2) رواه ابن ماجه (4049)، والحاكم (4/ 550). وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال البوصيرى في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 194): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) ((الفتاوى)) (35/ 165). (¬4) ((الرسالة)) (ص 357).

وكما يقول ابن قدامه: أثناء كلامه عن تارك الصلاة (فإن كان جاحداً لوجوبها (أي الصلاة) نظر فيه، فإن كان جاهلاً به، وهو ممن يجهل ذلك كالحديث بالإسلام، والناشئ ببادية، عرف وجوبها وعلم ذلك، ولم يحكم بكفره لأنه معذور، فإن لم يكن ممن يجهل ذلك كالناشئ من المسلمين في الأمصار والقرى، لم يعذر ولم يقبل منه إدعاء الجهل، وحكم بكفره؛ لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسنة، والمسلمين يفعلونها على الدوام، فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله، ولا يجحدها إلا تكذيباً لله تعالى، ورسوله وإجماع الأمة، وهو يصير مرتداً عن الإسلام، ولا أعلم في هذا خلافاً) (¬1). ومن المهم أن يعلم أن العذر بالجهل تكتنفه وتتعلق به عدة أمور، منها نوعية المسألة المجهولة (¬2)، كأن تكون من المسائل الخفية، وكذلك حال الجاهل كحديث عهد بالإسلام، أو الناشئ في البادية، ومن حيث حال البيئة، ففرق بين وجود مظنة العلم أو عدمه. يقول ابن تيمية: (إن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة، لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة) (¬3). ويقول أيضاً: (لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك) (¬4). ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (إن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف (¬5) فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة) (¬6). ويقول في موضع آخر: (إن الشخص المعين إذا قال ما يوجب الكفر، فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضوح المحجة) (¬7). ¬

(¬1) ((المغني)) (2/ 442). (¬2) يقسم بعضهم تلك المسائل _ بهذا الاعتبار _ إلى أربعة أقسام: _ الأول: ما يكفر به مطلقاً ولا يعذر بجهله وهي الأمور الظاهرة والمعلومة من الدين بالضرورة. الثاني: ما لا يكفر بجهله وهي المسائل الخفية التي اختلف فيها، ولم يجمع عليها. الثالث: ما لا يكفر به إذا فعله جاهلاً، إلا بعد إعلامه بحكم الله فيه، وهو مما أجمع عليه .. ولكن تعرض فيه شبهه وسوء فهم. الرابع: المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص قطعي الرواية والدلالة، فهذه يعذر فيها كل مجتهد باجتهاده. انظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 520، 521). (¬3) ((بغية المرتاد)) (ص: 311). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 501) وانظر (11/ 407). (¬5) الصرف والعطف من السحر، فيزعمون أنه يحبب المرأة لزوجها فلا ينصرف عنها. (¬6) ((مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) (3/ 11) ((الفتاوى))، وانظر ((الفتاوى)) (4/ 54، 12/ 180) لابن تيمية, وانظر تعليق الشيخ محمد رشيد رضا في ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 517) وانظر ((مجموع فتاوى ابن باز)) (4/ 26، 27). (¬7) ((الدرر السنية)) (8/ 244) , وانظر ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (1/ 73، 74).

وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر، باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحاً وخفاء، وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفا) (¬1). كما ورد في نفس الفتوى ما يلي: (ومن عاش في بلاد يسمع فيها بالدعوة إلى الإسلام وغيره، ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله، فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية، وأصر على الكفر) (¬2). (أما من عاش في بلاد غير إسلامية، ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن القرآن الكريم والإسلام، فهذا على تقدير وجوده، حكمه حكم أهل الفترة، يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه شريعة الإسلام أصولاً وفروعاً، إقامة للحجة، وإعذاراً إليه، ويوم القيامة يعامل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه، أو بلهه، أو صغره، وعدم تكليفه، وأما ما يخفى من أحكام الشريعة من جهة الدلالة، أو لتقابل الأدلة وتجاذبها، فلا يقال لمن خالف فيه آمن وكفر، ولكن يقال: أصاب وأخطأ) (¬3). ومما يحسن التنبيه عليه أن العذر بالجهل فيمن قارفوا الكفر، لا يعني نفي الكفر عنهم وقد أظهروه، كما يقتضيه الحكم الدنيوي عليهم. وفي هذا يقول ابن تيمية: (أخبر الله تعالى عن هود أنه قال لقومه: اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ [هود:50] فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه، لكونهم جعلوا مع الله إلهاً آخر، فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة، فإنه يشرك بربه ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أنداداً قبل الرسول ... وأما التعذيب فلا) (¬4). ولما ذكر ابن القيم طبقات المكلفين، ذكر منهم طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم، فكان مما قاله عن تلك الطبقة: (اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، لا الصحابة ولا التابعين، ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة)) (¬5) وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر، وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين. والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً) (¬6). ¬

(¬1) ((فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء)) (2/ 97) , جمع أحمد الدويش. (¬2) ((فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء)) (2/ 97)، جمع أحمد الدويش. (¬3) ((فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء)) (2/ 97) , جمع أحمد الدويش. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 37، 38). (¬5) رواه البخاري (3062)، ومسلم (111). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) ((طريق الهجرتين)) (ص: 411) باختصار

ويقول أيضاً: (الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم) (¬1). ويقول الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبو بطين: (قد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، فنعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم) (¬2). وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما يلي: (كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ما جاء به في الشريعة، إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي، وصاحب قبر، أو شيخ طريق يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام، مشركاً مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده، لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله، ولكنه قد يعذر لجهله، فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة، ويمهل ثلاثة أيام إعذاراً إليه ليراجع نفسه عسى أن يتوب، فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته ... فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة، لا ليسمى كافراً بعد البيان، فإنه يسمى كافراً بما حدث منه من سجود لغير الله مثلاً) (¬3). ومن خلال ما سبق ندرك خطأ إطلاق القول بأن الجهل عذر في أصل الدين وفي غيره، كما أن إطلاق القول بأن الجهل ليس عذراً خطأ أيضاً، بل لابد من التفريق بين ما كانت المخالفة فيه بمناقضته أصل الدين ونحوه من الأمور الظاهرة والمعلومة من الدين بالضرورة، وما كانت المخالفة فيه متعلقة بأمور تحتاج إلى بيان وتفصيل، كما أنه لابد من التفريق بين أحكام الدنيا (ظاهراً)، وأحكام الآخرة (باطناً) (¬4). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف – ص60 ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين)) (ص: 413) وانظر ((مدارج السالكين)) (3/ 489). (¬2) ((الدرر السنية)) (8/ 213). (¬3) ((فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)) (1/ 220) باختصار. (¬4) انظر رسالة ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص: 298).

المبحث الثاني: الخطأ

المطلب الأول: تعريف الخطأ لغة واصطلاحا (الخطأ والخطاء: ضد الصواب، قال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ [الأحزاب:5] عداه بالباء لأنه في معنى عثرتم أو غلطتم، وأخطأ الطريق، عدل عنه، وأخطأ الرامي الغرض: لم يصبه .. والخطأ: ما لم يتعمد، والخطأ: ما تعمد، وقال الأموي: المخطئ: من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ: من تعمد ما لا ينبغي، والخطيئة الذنب على عمد، والخطأ: الذنب في قوله تعالى: إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا [الإسراء:31] أي إثماً، وقال تعالى: فيما حكاه عن أخوة يوسف: إِنا كُنا خَاطِئِينَ [يوسف:97] آي آثمين .. ) (¬1)، وقال الراغب في (المفردات): (الخطأ: العدول عن الجهة) ثم ذكر بعض صور الخطأ ومنها: (أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال أخطأ فهو خطيء، وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، وهذا المعنى بقوله – صلى الله عليه وسلم- ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) (¬2)، وبقوله: ((من اجتهد فأخطأ فله أجر)) (¬3)، وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء:92] إلى أن يقول (وجملة الأمر أن من أراد شيئاً فاتفق منه غيره يقال: أخطأ، وإن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، وقد يقال: لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل إنه أخطأ) (¬4). والخلاصة أن معنى الخطأ في اللغة: أن يريد ويقصد أمراً، فيقع في غير ما يريد، أما الخطء: فهو الإثم أو الذنب المتعمد والله أعلم. أما معنى الخطأ في الاصطلاح: فهو قريب من المعنى اللغوي، قال الحافظ ابن رحب- رحمه الله -: (الخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غير ما قصده، مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلماً) (¬5)، أو يظن أن الحق في جهته، فيصادف غير ذلك (¬6)، وقال الجرجاني: (الخطأ وهو ما ليس للإنسان فيه قصد .. كما إذا رمى شخصاً ظنه صيداً أو حربيا فإذا هو مسلم .. ) (¬7)، وهناك تعريفات أخرى (¬8) قريبة مما ذكر وحاصلها أن الخطأ في الاصطلاح: (كل ما يصدر عن المكلف من قول أو فعل خال عن إرادته وغير مقترن بقصد منه) (¬9). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 1/ 302 ¬

(¬1) ((لسان العرب)) (1/ 65 - 68) وانظر ((مختار الصحاح)) (ص: 179، 180) و ((النهاية في غريب الحديث)) (2/ 44،45) ((المعجم الوسيط)) (1/ 232). (¬2) الحديث بهذا اللفظ ذكره ابن السبكي في ((طبقات الشافعية الكبرى)) (2/ 186) وقال: وقفت على كتاب ((اختلاف الفقهاء)) للإمام محمد نصر قال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه). إلا أنه ليس له إسناد يحتج بمثله. ا. هـ.: ثم قال: استفدت من هذا أن لهذا اللفظ إسنادا ولكنه لم يثبت ثم قال: قلت: ثم وجد رفيقنا في طلب الحديث شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي الحديث بلفظه في رواية أبي القاسم الفضل بن جعفر بن محمد التميمي المؤذن المعروف بأخي عاصم فإنه قال: حدثنا الحسين بن محمد حدثنا محمد بن المصفى حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ. والنسيان. وما استكرهوا عليه) لكن ابن ماجه روى في (سننه) الحديث بهذا الإسناد بلفظ غيره. اهـ. ثم ذكر إسناد ابن ماجه. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (ص: 82): منكر. ولفظ حديث ابن ماجه هو: (إن الله وضع .. ). رواه ابن ماجه (2045)، والحاكم (2/ 198)، والبيهقي (7/ 356) بلفظ: (تجاوز لي). من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: جوّد إسناده بشر بن بكر وهو ثقة. والحديث صحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (ص: 99) -كما أشار لذلك في مقدمته -. وحسنه النووي في ((الأربعين النووية)) (ص: 39)، وقال ابن كثير في ((تحفة الطالب)) (ص: 232): إسناده جيد. وحسنه ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (1/ 281). وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (1/ 461): لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬3) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. (¬4) ((المفردات)): (151)، وانظر كلاماً مفصلاً حول معنى الخطأ في الكتاب والسنة وكلام السلف: ((مجموع الفتاوى)) (20/ 19 - 24). (¬5) ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 352). (¬6) انظر ((فتح الباري)) (13/ 319) (¬7) ((التعريفات)) (ص: 104). (¬8) انظر بعضها في ((عوارض الأهلية عند الأصوليين)) د. حسين الجبوري (ص: 395 - 396). (¬9) ((عوارض الأهلية عند الأصوليين)) (ص: 396).

المطلب الثاني: الفرق بين الخطأ وبين الجهل

المطلب الثاني: الفرق بين الخطأ وبين الجهل الجهل يأتي بعدة معانى منها: خلو النفس من العلم (¬1) وهو المشهور، ومنها: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه (¬2)، ومنها: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً (¬3) ومنه قوله سبحانه: فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6]. وقد سبق الكلام عن أدلة أهل العلم في العذر بالجهل، ومقصودهم بالجهل الذي يعذر صاحبه: أن يقول قولاً أو يعتقد اعتقاداً بخلاف (الحق)، غير عالم وغير قاصد للمخالفة، رغم اجتهاده في رفع الجهل عن نفسه، وهو بهذا المعنى يتفق مع الخطأ حيث إن الجاهل والمخطئ - حسب هذا المفهوم- غير قاصدين للمخالفة، لذلك وردت النصوص من الكتاب والسنة في إعذارهما ورفع الإثم عنهما – في الحقيقة- في حكم من لم تقم عليه الحجة والله أعلم. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 1/ 302 ¬

(¬1) انظر ((المفردات)) (ص: 102) ((لسان العرب)) (11/ 129). (¬2) انظر ((المفردات)) (ص: 102) ((لسان العرب)) (ص: 84). (¬3) انظر ((المفردات)) (ص: 102).

المطلب الثالث: أدلة العذر بالخطأ

المطلب الثالث: أدلة العذر بالخطأ استدل أهل السنة لذلك بأدلة كثيرة، سنأخذ أهمها ومنها: 1 - قوله سبحانه: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:5]، قال الحافظ في الفتح: ( .. قال ابن التين: أجرى البخاري قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ [الأحزاب:5]، في كل شيء، وقال غيره: هي في قصة مخصوصة وهي: ما إذا قال الرجل يا بني وليس هو ابنه ولوسلم أن الآية نزلت فيما ذكر لم يمنع ذلك من الاستدلال بعمومها، وقد أجمعوا على العمل بعمومها في سقوط الإثم) (¬1). 2 - واستدلوا بقوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فقيد الوعيد على قاتل المؤمن بالتعمد (¬2)، وفرقت النصوص بين القتل المتعمد والقتل الخطأ في أحكام الدنيا والآخرة. 3 - ومن الأدلة المشهورة قوله تعالى رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا [البقرة:286] وثبت في الحديث الصحيح أن الله سبحانه استجاب لهذا الدعاء فقال: فقد فعلت (¬3). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (11/ 551). (¬2) انظر ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 436). (¬3) رواه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

4 - ومن الأحاديث المشهورة في العذر بالخطأ قوله- صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)) (¬1)، قال الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث (الخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غير ما قصده، مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلماً، والنسيان أن يكون ذاكراً الشيء فينساه عند الفعل، وكلاهما معفو عنه: يعني لا إثم فيه، ولكن رفع الإثم لا ينافي أن يترتب على نسيانه حكم، ولو قتل مؤمناً خطأ فإن عليه الكفارة والدية بنص الكتاب، وكذا لو أتلف مال غيره خطأ بظنه أنه مال نفسه .. ) إلى أن يقول: (والأظهر، والله أعلم أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما، وأما رفع الأحكام عنهما فليس مراداً من هذه النصوص فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر (¬2). وقد استدلوا بالحديث المشهور في قصة الرجل من بني إسرائيل (¬3)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تعليقه عليها: (فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل هذين الاعتقادين كفر، يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته، فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد، من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل فيغفر الله خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه، وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك، فعظيم .. ) (¬4). فهذا الحديث كثيراً ما يستدل به شيخ الإسلام في مسائل العذر بالجهل والخطأ، والتأويل. ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (2045) واللفظ له، والحاكم (2/ 198)، والبيهقي (7/ 356) بلفظ: (تجاوز لي). من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: جوّد إسناده بشر بن بكر وهو ثقة. والحديث صحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (ص: 99) -كما أشار لذلك في مقدمته -. وحسنه النووي في ((الأربعين النووية)) (ص: 39)، وقال ابن كثير في ((تحفة الطالب)) (ص: 232): إسناده جيد. وحسنه ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (1/ 281). وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (1/ 461): لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 352 - 354). (¬3) الحديث رواه البخاري (3481)، ومسلم (2756). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((الاستقامة)) (1/ 164،165)،وانظر (3/ 231،12/ 490)، وغيرها.

فهذا الرجل وقع في الخطأ – فتكلم بالكفر من غير قصد – بسبب جهله – فعذره الله سبحانه لعدم قيام الحجة عليه، أما الاستدلال به على مسألة العذر بالتأويل فمن باب أولى، لأن المتأول في حقيقته مجتهد مخطئ، فإذا لم يكفر المخطئ من غير اجتهاد- كما في هذه القصة – فعدم كفر من اجتهد في طلب الحق فأخطأ من باب أولى، وفي هذا المعنى يقول ابن الوزير – رحمه الله -: ( .. قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ والظاهر أن أهل التأويل أخطأوا، ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم) ثم ذكر بعض أدلة الإعذار بالخطأ ومنها قصة الرجل من بني إسرائيل، ثم علق عليها قائلاً (وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد ولذلك خاف العقاب .. وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل) (¬1)، فذكر أنه أخطأ بسبب الجهل فعذر، ثم استدل به على الخطأ بسبب التأويل والله أعلم .. ¬

(¬1) ((إيثار الحق)) (ص: 435، 436).

5 - ونختم هذه الأدلة بحديث خاص بإعذار المجتهد المخطئ في الأحكام، وهو قوله – صلى الله عليه وسلم-: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) (¬1) قال الحافظ الخطيب البغدادي – رحمه الله -: (فإن قيل: كيف يجوز أن يكون للمخطئ فيما أخطأ فيه أجر، وهو إلى أن يكون عليه في ذلك إثم لتوانيه وتفريطه في الاجتهاد حتى أخطأ؟ فالجواب، أن هذا غلط لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- لم يجعل للمخطئ أجراً على خطئه، وإنما جعل له أجراً على اجتهاده، وعفا عن خطئه لأنه لم يقصده، وأما المصيب فله أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته) (¬2)، واستدل جمهور العلماء بهذا الحديث على تخطئة بعض المجتهدين ممن لم يصب الحق وأن الحق مع أحدهم أو بعضهم، وفيه رد على من قال: كل مجتهد مصيب، يقول الإمام ابن قدامة – رحمه الله-: (والحق في قول واحد من المجتهدين ومن عداه مخطئ، سواء كان في فروع الدين أو أصوله) (¬3)، ثم ذكر الأدلة على ذلك ومنها هذا الحديث، وقال الإمام الزركشي: (واختلف العلماء في حكم أقوال المجتهدين، هل كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد؟ ذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء رحمهم الله إلى أن الحق في أحدهما، وإن لم يتعين لنا فهو عند الله متعين، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالاً حراماً، ولأن الصحابة تناظروا في المسائل واحتج كل واحد على قوله: وخطأ بعضهم بعضاً، وهذا يقتضي أن كل واحد يطلب إصابة الحق، ثم اختلفوا، هل كل مجتهد مصيب أم لا؟ فعند الشافعي أن المصيب منهم واحد وإن لم يتعين، وإن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد وبه قال مالك وغيره .. ) (¬4)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (فإذا أريد بالخطأ الإثم، فليس المجتهد بمخطئ بل كل مجتهد مصيب مطيع لله، فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر فالمصيب واحد، وله أجران .. ) (¬5)، ونختم الكلام حول هذا الحديث بالإشارة إلى أن من أخطأ فحكم أو أفتى بغير علم واجتهاد فهو آثم عاص (¬6)، يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – ( .. فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله فهذا مغفور له خطؤه .. ) (¬7)، لكنه لا يكفر إن فرط في الاجتهاد فوقع في الكفر خطأ، لأن الكفر يكون بعد قيام الحجة، يقول شيخ الإسلام: ( .. ¬

(¬1) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. (¬2) ((الفقيه والمتفقه)) (1/ 191)، وانظر ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 262)، و ((الأحكام)) لابن حزم (2/ 652) وغيرها. (¬3) ((روضة الناظر)) (ص: 193). (¬4) ((البحر المحيط في أصول الفقه)) للزركشي (6/ 241). (¬5) ((مجموع الفتاوي)) (13/ 124)، وانظر (20/ 24)، وانظر تفريعات وتفصيلات أخرى لهذه المسألة في ((الفقيه والمتفقه)) (ص: 58 - 64)، و ((المحصول)) للرازي (2/ 47 - 91)، و ((الأحكام)) لابن حزم (2/ 658 - 660)، و ((روضة الناظر)) (ص: 193 - 200) وغيرها. (¬6) انظر ((فتح الباري)) (13/ 319). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 317)، وانظر (12/ 496).

وأما (التكفير) فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم- وقصد الحق، فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين: فهو كافر، ومن اتبع هواه، وقصر في طلب الحق، وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته .. ) (¬1)، ويقول – أيضاً -: (وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة) (¬2)، وخلاصة هذا المبحث ما يلي: قد تواترت النصوص من الكتاب والسنة في إعذار المخطئ، وأن حكمه حكم الجاهل والمتأول – فلا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه -، وأنه إن كان مجتهداً فيما يسوغ فيه الاجتهاد – فله أجر باجتهاده – ولو أخطأ – أما إن لم يكن مجتهداً وأخطأ فيأثم لتفريطه. لكن هل يفرق في ذلك بين العقائد والأحكام؟ ب- هل يفرق بين العقائد والأحكام؟ ... هذا التقسيم لا دليل عليه ولا يعرف عن السلف، والمفرقون لم يذكروا حدا منضبطاً يمكن به التفريق بين الأصول والفروع، والعذر بالخطأ من جنس العذر بالجهل، لذلك بين أئمة السلف أنه لا يأثم المجتهد المخطئ لا في الأصول ولا في الفروع، والخلاف في هذه المسألة بين أئمة السلف ومخالفيهم من المتكلمين ومن تأثر بهم، فرع عن الخلاف في أصل عام شامل، وهو: هل يمكن لكل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع، وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق، بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر، ولم يكن هو الحق في نفس الأمر: هل يستحق أن يعاقب أم لا؟ وهل يفرق في ذلك بين الأصول والفروع أو بين المسائل العلمية والعملية (¬3)؟ ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 180). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 466)، وانظر (12/ 523، 524). (¬3) أطال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في مناقشة هذا الأصل وأقوال الناس فيه، ثم بين أقوال السلف وأدلتهم، ومن باب الاختصار سنكتفي ببيان مذهب السلف في هذا الأمر، انظر ((منهاج السنة))، (5/ 84 - 125)، و ((مجموع الفتاوى)) (19/ 203 - 227).

نقل شيخ الإسلام الأقوال في هذه المسألة، ثم بين أن قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة، والشافعي، والثوري وداود بن علي وغيرهم أنهم (لا يؤثمون مجتهداً مخطئاً لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر عنهم ابن حزم وغيره، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء (¬1) إلا الخطابية (¬2)، ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين، ولا يصلى خلفه. وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين: إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية، قالوا: والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره، قالوا: والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام، لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة، فهي باطلة عقلاً، فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة .. ) (¬3) ثم ذكر هذه الفروق ورد عليها، وفي مواضع أخرى، ذكر بعض الأمثلة عن السلف فقال: ( ... وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل (¬4)، واتفقوا على عدم التكفير بذلك مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض، أقوال معروفة، وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: 12] , ويقول: إن الله لا يعجب فكان يقول بل عجبت فهذا قد أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة، وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروفاً من القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ [الرعد:31] وقال: إنما هي: أو لم يتبين الذين آمنوا، وإنكار الآخر قراءة قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِياهُ [الإسراء:23] (¬5). ¬

(¬1) رغم أنهم مخطئون في المسائل العلمية، وإنما عذر من عذر منهم لاجتهاده وتأوله، أما من رد شهادتهم من الأئمة – كمالك وأحمد – فليس ذلك مستلزماً لإثمهم، لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، انظر ((الفتاوى)) (13/ 125). (¬2) الخطابية: أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مقلاص الأسدي الكوفي الأجدع المقتول سنة 143هـ، من غلاة الشيعة، قال النوبختي الرافضي: (كان أبو الخطاب يدعي أن أبا عبدالله جعفر بن محمد (الصادق) عليهما السلام جعله قيمه ووصيه من بعده، وعلمه اسم الله الأعظم، ثم ترقى إلى أن ادعى الرسالة، ثم ادعى أنه من الملائكة وأنه رسول الله إلى أهل الأرض والحجة عليهم ((فرق الشيعة)) للنوبختي الرافضي 37،38، وانظر ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 75 - 81)، ((الملل والنحل)) (1/ 380 - 385) وغيرها. (¬3) ((منهاج السنة)) (5/ 87،88)، وانظر ((الفتاوي)) (19/ 207،208، 13/ 125، 126، 23/ 346) وغيرها. (¬4) أي المسائل العلمية الخبرية أو مسائل العقيدة. (¬5) وانظر الإشارة إلى قراءة ووصى ربك ((تفسير الطبري)) (15/ 47)، و ((زاد المسير)) (5/ 22).

وقال: إنما هي: ووصى ربك وبعضهم كان حذف المعوذتين، وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر .. ) (¬1). إذاً العذر بالخطأ يعم المسائل العلمية والعملية، وليس في النصوص ما يدل على التفريق، لكن قد يقول قائل: إذا قلنا: إن المجتهد المخطئ في مسائل العقيدة يرفع عنه الإثم، فهل نقول أيضاً: إن المجتهد المخطئ يؤجر أجراً واحداً، كالمجتهد في أمور الأحكام والعمل؟ فيجاب عن ذلك، بأن النصوص الواردة، فيها رفع الإثم عن المجتهد المخطئ، وليس فيها ما يدل على أن كل مجتهد مخطئ يكون مأجوراً باستثناء قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب .. )) الحديث (¬2)، وهذا كما هو واضح من سياقه خاص بالحاكم أي القاضي، ومثله المفتي، وقد أشار شيخ الإسلام إلى شيء من هذا المعنى حيث قال: ( .. وكذلك كل من عبد عبادة نهى عنها ولم يعلم بالنهي – لكن هي من جنس المأمور به – مثل من صلى في أوقات النهي، وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي، أو تمسك بدليل خاص مرجوح، مثل صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- صلاهما بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك، فإن هذا لا ثواب فيه، وإن كان لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة كما قال تعالى: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15]. فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسالة، وأما بطلانها في نفسها فلأنها غير مأمور بها، فكل عبادة غير مأمور بها فلابد أن ينهى عنها، ثم إن علم أنها منهي عنها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت من جنس المشروع فإنه لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت من جنس المشروع فإنه يثاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به) (¬3). فشيخ الإسلام – فيما يبدو – استند في كلامه هذا إلى القاعدة المعروفة في أن العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً أريد به وجه الله، صواباً بما شرع الله، فلما لم يشرع جنسه غالباً يكون في أمور العقيدة كصور الشرك ونحوها من البدع الحقيقية التي يكثر وجودها لدى الفرق المشهورة، أما الاجتهاد الخاطئ فيما شرع جنسه فغالباً يكون في مسائل الاجتهاد من أمور التعبد ونحوها. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 1/ 304 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 492، 493)، وانظر أمثلة أخرى، ((الفتاوي)) (20/ 33 - 36)، (3/ 229،230). (¬2) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 31 - 32).

المبحث الثالث: التأويل

المطلب الأول: تعريف التأويل لغة واصطلاحا في اللغة مادة (أول) في كل استعمالاتها اللغوية تفيد معنى الرجوع، والعود، جاء في اللسان: (الأول: الرجوع: آل الشيء يؤول أولاً ومآلاً: رجع، وأول إليه الشيء: رجعه، وآلت عن الشيء: ارتددت والإيل والأيل: من الوحش، وقيل هو الوعل، قال الفارسي: سمي بذلك لمآله إلى الجبل يتحصن فيه وقال أبو عبيد في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران:7] قال: التأويل المرجع والمصير، مأخوذ من آل يؤول إلى كذا أي صار إليه، وأولته: صيرته إليه) (¬1) وفي تهذيب اللغة: (وأما التأويل فهو تفعيل من أول يؤول تأويلاً وثلاثيه آل يؤول: أي رجع وعاد) (¬2) وقال ابن فارس: (أول الحكم إلى أهله: أي أرجعه ورده إليهم ... وآل الجسم إذا نحف، أي رجع إلى تلك الحالة، ومن هذا الباب تأويل الكلام وهو عاقبته وما يؤول إليه، وذلك قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53]، ويقول: ما يؤول إليه في وقت بعثهم ونشورهم ... ) (¬3). إذا التأويل هو ما أول إليه أو يؤول إليه، أو تأول إليه، والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويؤول إلى حقيقته التي هي عين المقصود به (¬4)، وهذا هو المعنى الوارد في الكتاب والسنة. ب- أما معنى التأويل في اصطلاح العلماء، فله ثلاثة معان: الأول: (أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وإن وافق ظاهره، وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53] ومنه قول عائشة – رضي الله عنها -: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا ولك الحمد: اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)) (¬5). الثاني: يراد بلفظ التأويل: (التفسير) وهو اصطلاح كثير من المفسرين، ولهذا قال مجاهد – إمام أهل التفسير -: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فإنه أراد بذلك تفسيره وبيان معانيه، وهذا مما يعلمه الراسخون. الثالث: أن يراد بلفظ (التأويل): صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك، لدليل منفصل يوجب ذلك، وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفاً لما يدل عليه اللفظ ويبينه، وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنما سمي هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام، وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشهب ... ) (¬6)، وهذا التأويل الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في مسألة الصفات والقدر ونحوها. وهو من أعظم أصول الضلال والانحراف حيث صار ذريعة لغلاة الجهمية والباطنية والمتصوفة في تأويل التكاليف الشرعية على غير مقصودها أو إسقاطها أو تأويل جميع الأسماء والصفات. وأهل التأويل المذموم (مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون الأخبار والأوامر، وما بين صائبة فلاسفة عامة الأخبار عن الله واليوم الآخر، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء، وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ويتأولون آيات الصفات، وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر، وآخرون من أصناف الأمة وإن كان تغلب عليهم السنة، فقد يتأولون أيضاً مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه) (¬7). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 2/ 20 ¬

(¬1) ((لسان العرب)) (11/ 32 - 34). (¬2) ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/ 437). (¬3) ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/ 159)، وانظر في المعني اللغوي، ((النهاية)) (1/ 80 - 81)، ((مجموع الفتاوى)) (13/ 290 - 294)، و ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/ 175 –178)، وانظر مبحثاً نفيسا حول أطوار استعمالات كلمة التأويل في ((الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل)) لمحمد السيد الجليند (ص: 27 - 50). (¬4) نظر ((مجموع الفتاوى)) (13/ 293). (¬5) رواه البخاري (817)، ومسلم (484). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 68 – 70) وانظر (3/ 54 – 68، 5/ 28 – 36، 13/ 277 – 313)، وانظر ((الصواعق المرسلة)) (1/ 175 – 233)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: 231 - 236). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 287).

المطلب الثاني: العذر بالتأويل

المطلب الثاني: العذر بالتأويل والمقصود بالتأول ها هنا: التلبس والوقوع في الكفر من غير قصد لذلك، وسببه القصور في فهم الأدلة الشرعية، دون تعمد للمخالفة، بل قد يعتقد أنه على حق (¬1). يقول ابن حجر في تعريف للتأويل السائغ: (قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم) (¬2). والتأويل السائغ والإعذار به له اعتبار في مسألة التكفير، بل في الوعيد عموماً ولذا يقول ابن تيمية: (إن الأحاديث المتضمنه للوعيد يجب العمل بها في مقتضاها، باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعد بذلك الوعيد، لكن لحوق الوعيد له متوقف على شروط، وله موانع. وهذه القاعدة تظهر بأمثلة، منها أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)) (¬3). وصح عنه من غير وجه أنه قال لمن باع صاعين بصاع يداً بيد: ((أوه عين الربا)) (¬4) كما قال: ((البر بالبر ربا، إلا هاء وهاء.)) (¬5) الحديث، وهذا يوجب دخول نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسيئة في الحديث. ثم إن الذين بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الربا في النسيئة)) (¬6). فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يداً بيد، مثل ابن عباس رضي الله عنه، وأصحابه ... الذين هم من صفوة الأمة علماً وعملاً، لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه، أو من قلده بحيث يجوز تقليده تبلغهم لعنة آكل الربا؛ لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة) (¬7). ويقول أيضاً: (وعمل السلف وجمهور الفقهاء بأن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود، ولا دية، ولا كفارة، وإن كان قتلهم وقتلهم محرما) (¬8). ويقول ابن تيمية - في موضع ثالث -: (والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً) (¬9). ويقرر ابن حزم العذر بمثل هذا التأويل قائلاً: - (ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأول في خلافه إياه، أو ردّ ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك، فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة). (¬10). كما يقرر ذلك ابن الوزير حيث يقول: (قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: 106]، ويؤيد أن المتأولين غير كفار؛ لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعاً، أو ظناً، أو تجويزاً، أو احتمالاً) (¬11). ¬

(¬1) انظر: رسالة ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص: 328، 346). (¬2) ((فتح البارى)) (12/ 3،4). (¬3) رواه مسلم (1958) بلفظ: (لعن رسول الله.). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (2312)، ومسلم (1594). (¬5) رواه البخاري (2312)، ومسلم (1594). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬6) رواه مسلم (1596) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 263) باختصار يسير، وقد أطنب ابن تيمية في ذكر أمثلة عديدة. انظر ((مجموع الفتاوى)) (20/ 264 - 268)، و ((الاستقامة)) (2/ 189). (¬8) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 254). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 231) وانظر (3/ 283، 12/ 523). (¬10) ((الدرة)) (ص: 414)، وانظر ((الفصل)) (3/ 296، 297) (¬11) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 437).

ويعلق الشوكاني على عبارة صاحب كتاب (الأزهار) (¬1): (والمرتد بأي وجه .. كفر " فيقول: أراد المصنف إدخال كفار التأويل اصطلاحاً في مسمى الردة، وهذه زلة قدم يقال عندها لليدين وللفم، وعثرة لا تقال، وهفوة لا تغتفر، ولو صح هذا لكان غالب من على ظهر البسيطة من المسلمين مرتدين) (¬2). ويقول الشيخ عبدالرحمن السعدي: (إن المتأولين من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقاً والتزموا ذلك، لكنهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دل الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك) (¬3). 2 - إذا ظهر أن التأويل عذر في مسألة التكفير، فإن هذا لا يعني أن كل من ادعى التأويل فهو معذور بإطلاق، بل يشترط في ذلك التأويل أن لا يكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وقبول شريعته؛ لأن هذا الأصل (الشهادتين) لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه، ولهذا أجمع العلماء على كفر الباطنية مثلاً وأنهم لا يعذرون بالتأويل؛ لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى، وعدم عبادة الله وحده، وإسقاط شرائع الاسلام (¬4). ومن ثم فليس كل التأويل يعتبرا سائغاً أو عذراً مقبولاً، فهناك من التأويل ما يعتبر سائغاً، ومنه ما ليس كذلك، فلابد من مراعاة ذلك، وعدم الخلط بينهما. يقول قوام السنة إسماعيل الأصفهاني: - (المتأول إذا أخطأ وكان من أهل عقد الإيمان، نظر في تأويله، فإن كان قد تعلق بأمر يفضي به إلى خلاف بعض كتاب الله أو سنة يقطع بها العذر، أو إجماع فإنه يكفر ولا يعذر؛ لأن الشبهة التي يتعلق بها من هذا ضعيفة لا يقوى قوة يعذر بها؛ لأن ما شهد له أصل من هذه الأصول، فإنه في غاية الوضوح والبيان، فلما كان صاحب هذه المقالة لا يصعب عليه درك الحق، ولا يغمض عنده بعض موضع الحجة لم يعذر في الذهاب عن الحق، بل عمل خلافه في ذلك على أنه عناد وإصرار، ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول، وكان جاهلاً لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يقصد اختيار الكفر، ولا رضي به، وقد بلغ جهده، فلم يقع له غيره ذلك، وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار فقال تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم ما يَتَّقُونَ [التوبة: 115]. فكل من هداه الله عز وجل، ودخل في عقد الإسلام، فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان) (¬5). ويقول ابن حزم: (وأما من كان من غير أهل الإسلام من نصراني أو يهودي أو مجوسي، أو سائر الملل، أو الباطنية القائلين بإلهية إنسان من الناس، أو بنوة أحد من الناس، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعذرون بتأويل أصلاً، بل هم كفار مشركون على كل حال) (¬6). ¬

(¬1) ((كتاب الأزهار في فقه الزيدية))، وعنوانه كاملاً: ((الأزهار في فقه الأئمة الأخيار)) ومؤلفه: أحمد بن يحيي المهدي المتوفي سنة 840 هـ، انظر ((الأعلام)) (1/ 269). (¬2) ((السيل الجرار)) (4/ 373))، وانظر أيضاً (4/ 576). (¬3) ((الإرشاد في معرفة الأحكام)) (ص: 207). (¬4) انظر رسالة ((ضوابط التكفير)) (ص: 369)، وانظر ((فتوى شيخ الاسلام ابن تيمية في شأن الباطنية)) (35/ 161، 162). (¬5) ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 510، 511). (¬6) ((الدرة)) لابن حزم (ص: 441) وانظر (ص: 414).

ويذكر أبو حامد الغزالي التأويل الغير سائغ ومثاله فيقول: (ولابد من التنبيه على قاعدة وهو أن المخالف قد يخالف نصاً متواتراً، ويزعم أنه مؤول، مثاله: ما في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطى العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، وأما أن يكون واحداً في نفسه، وموجوداً، وعالماً على معنى اتصافه فلا، وهذا كفر صراح؛ لأن حمل الوحدة على اتحاد الوحدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلاً ... فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبر عنها بالتأويلات) (¬1). كما يورد ابن الوزير أمثلة للتأويل المردود، مما لا يمكن أن يكون عذراً لمن تلبس به فيقول: (لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار) (¬2). ويقول السعدي موضحاً تباين أهل البدع ممن تلبس بتأويل وشبهة: (هؤلاء المبتدعة المخالفون لما ثبتت به النصوص الصريحة والصحيحة، أنهم في هذا الباب أنواع، من كان منهم عارفاً بأن بدعته مخالفة للكتاب والسنة فتبعها ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهره، وشاق الله ورسوله من بعد ما تبين له الحق، فهذا لا شك في تكفيره، ومن كان منهم راضياً ببدعته معرضاً عن طلب الأدلة الشرعية، وطلب ما يجب عليه من العلم الفارق بين الحق والباطل ناصراً لها، راداً ما جاء به الكتاب والسنة مع جهله وضلاله، واعتقاده أنه على الحق، فهذا ظالم فاسق بحسب تركه ما أوجب الله عليه، وتجرئه على ما حرم الله تعالى ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من هو حريص على اتباع الحق واجتهد في ذلك، ولم يتيسر له من يبين له ذلك فأقام على ما هو عليه، ظاناً أنه صواب من القول، غير متجرئ على أهل الحق بقوله، ولا فعله، فهذا ربما كان مغفوراً له خطؤه والله أعلم) (¬3). ثم يكشف السعدي الفرق بين أهل التأويل السائغ وغيرهم فيقول: (والمقصود أنه لا بد من هذا الملحظ في هذا المقام؛ لأنه وجد بعض التفاصيل التي كفر أهل العلم فيها من اتصف بها، وثم أخر من جنسها لم يكفروه بها، والفرق بين الأمرين أن التي جزموا بكفره بها لعدم التأويل المسوغ وعدم الشبهة المقيمة لبعض العذر، والتي فصلوا فيها القول، لكثرة التأويلات الواقعة فيها) (¬4). ... أما التأويلات التي لا يعذر أصحابها، فتأويلات الباطنية والفلاسفة ونحوهم ممن حقيقة أمرهم تكذيب للدين جملة وتفصيلا، أو تكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به كإنكار الفلاسفة لحشر الأجساد وقولهم إن الله سبحانه لا يعلم الجزئيات، أو تأويل الفرائض والأحكام بما يخرجها عن حقيقتها وظاهرها، أو الاعتقاد بألوهية بعض البشر كتأليه علي أو الحاكم بأمره كما عند النصيرية والدروز، أو القول بتحريف القرآن، أو تأويل جميع الأسماء والصفات أو القول بسقوط التكاليف عن البعض ونحو ذلك من الاعتقادات الغالية التي لا تعتمد على أي مستند نصي أو لغوي ولو من وجه محتمل. ¬

(¬1) ((فيصل التفرقة)) (ص: 147). (¬2) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 415) وانظر (ص 129)، و ((العواصم)) لابن الوزير (4/ 177). (¬3) ((الإرشاد في معرفة الأحكام)) (ص: 209)، ولمعرفة أقوال العلماء تفصيلاً. في الحكم على المتأولين انظر ((الشفا)) لعياض (2/ 1051 - 1065). (¬4) ((الإرشاد في معرفة الأحكام)) (ص: 209).

يقول ابن الوزير – رحمه الله -: (وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم ضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار، وإنما يقع الإشكال في تكفير من قام بأركان الإسلام الخمسة المنصوص على إسلام من قام بها إذا خالف المعلوم ضرورة للبعض أو للأكثر لا المعلوم له، وتأول وعلمنا من قرائن أحواله أنه ما قصد التكذيب أو التبس ذلك علينا في حقه وأظهر التدين والتصديق بجميع الأنبياء والكتب الربانية مع الخطأ الفاحش في الاعتقاد، ومضاده الأدلة الجلية، ولكن لم يبلغ مرتبة الزنادقة المقدمة) (¬1). ويقول أيضاً: ( ... أما من كذب اللفظ المنزل أو جحده، كفر متى كان ممن يعلم بالضرورة أنه يعلمه بالضرورة، وإنما الكلام في طوائف الإسلام الذين وافقوا على الإيمان بالتنزيل، وخالفوا في التأويل فهؤلاء لا يكفر منهم إلا من تأويله تكذيب، ولكن سماه تأويلاً مخادعة للمسلمين ومكيدة للدين كالقرامطة الذين أنكروا وصف الله تعالى بكونه موجوداً وعالماً وقادراً ونحو ذلك من الصفات التي علم الكافة بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بها على ظاهرها) (¬2)، وقال الملا القاري الحنفي: (وأما من يؤول النصوص الواردة في حشر الأجساد، وحدوث العالم، وعلم الباري بالجزئيات فإنه يكف لما علم قطعاً من الدين أنها على ظواهرها بخلاف ما ورد في عدم خلود أهل الكبائر في النار لتعارض الأدلة في حقهم) (¬3)، وذكر الإمام ابن حزم رحمه الله أمثلة كثيرة لبعض الطوائف الغالية المنسوبة إلى الإسلام، وبعض ضلالاتها فقال: (وقد تسمى باسم الإسلام من أجمع جميع فرق الإسلام على أنه ليس مسلماً، مثل طوائف من الخوارج غلوا فقال: إن الصلاة ركعة بالغداة، وركعة بالعشي فقط، وقالوا: إن سورة يوسف ليست من القرآن، وطوائف كانوا من المعتزلة ثم غلوا فقالوا بتناسخ الأرواح، وآخرون قالوا: إن النبوة تكتسب بالعمل الصالح، وآخرون قالوا قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء، وأن من عرف الله حق معرفته فقد سقطت عنهم الأعمال والشرائع وقال بعضهم بحلول الباري تعالى في أجسام خلقه كالحلاج وغيره) (¬4). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 2/ 220 حكم المتأول من حيث العموم هو حكم الجاهل. بل قد يكون المتأول في بعض أحواله أولى بالإعذار من الجاهل. لأن الجاهل من حيث الأصل جاهل بالحق فقط. وأما المتأول فهو مع جهله بالحق يدعي أن ما هو عليه هو الحق. فالجاهل قد تكون مخالفته في الظاهر بكفر أو ما دونه من غير قصد إلى ذلك فقط. وأما المتأول فهو مع مخالفته الظاهرة وعدم قصده إلى المخالفة يدعي أنه على الحق. وبهذا نعلم أن من كان جهله لعدم العلم يكفي في قيام الحجة عليه مجرد بلوغ الحجة، وأما من كان جهله لعدم العلم يكفي في قيام الحجة عليه مجرد بلوغ الحجة، وأما من كان جهله مع ادعاء أنه في مخالفته على حق، فإنه قد لا يكفي في قيام الحجة عليه مجرد بلوغ الحجة، بل لابد مع ذلك من إزالة شبهته. ... وأما من كان جهله مع وجود شبهة وتأول، فإنه ولو بلغته الحجة مع تمكن الشبهة منه قد يكون معذوراً إذا لم يلتزم بمقتضى الحجة. ¬

(¬1) ((إيثار الحق)) (ص: 415). (¬2) ((العواصم والقواصم)) (4/ 176). (¬3) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 69)، وانظر ((فيصل التفرقة))، للغزالي (ص: 147)، و ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 156 – 160). (¬4) ((الفصل)) (2/ 114).

وهنا قد يقول قائل: إن المناط في قيام الحجة على المعين مطلقاً هو مجرد بلوغها، ولا فرق في ذلك بين أن يكون عنده شبهة أولا يكون. ومقتضى ذلك ألا يعذر أحد بالشبهة بعد بلوغ الحجة الرسالية. ويستند من يقول هذا القول إلى أن الله قد حكم بالكفر على من وصفهم بأنهم لا يفقهون، وأنهم لا يعلمون، وأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ونحو ذلك. ومن ذلك قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الإسراء: 46]. وقول الله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 44]. وقوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال: 22 – 23]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] [الأعراف: 179]. وقوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 103 – 105]. ونحو ذلك من الآيات مما في هذا المعنى كثيرة. والجواب أن هذا بحمد الله لا يعارض إعذار المتأول، ويتبين ذلك بوجهين: الأول: أن هناك فرقاً بين فهم الدلالة وفهم الهداية. فليس كل من بلغته الحجة وفهمها يهتدي بها. لكن الله قد جعل فهم الدلالة شرطاً في تكليف عموم الناس، مؤمنهم وكافرهم، ولم يجعل فهم الهداية والتوفيق إلا لمن أراد لهم ذلك. فالفهم المشروط في قيام حجة الله على العباد غير الفهم الذي هو مقتضى هداية الله تعالى وتوفيقه. والشبهة التي تتعلق بفهم الحجة غير الشبهة التي هي لعدم الهداية ولو بلغت الحجة، وهذا فرق ظاهر. يبين ذلك أن الآيات التي قد يستدل بها من لا يفرق بين هذين الأمرين كلها فيما يتعلق بنفي العلم والعقل الذي هو مقتضى الهداية. ولذلك فإن الله كما نفى عمن حكم بكفرهم في تلك الآيات العلم والفهم، فقد نفى عنهم أنهم يسمعون أو يبصرون. ومعلوم أن السمع والبصر المنفي هنا هو مقتضى الهداية، لا أنهم صم لا يسمعون شيئاً عمي لا يرون شيئاً. فكذلك العقل والفهم المنفي عنهم، هو مقتضى الهداية والتوفيق، لا أنهم مجانين لا يعرفون شيئاً، ولا يفهمون ما يقال لهم. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال: 23]. (أخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم، فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعاً تقوم به عليهم حجته) (¬1). ¬

(¬1) ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 97).

ويقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: (والسمع الذي نفاه الله عنهم، سمع المعنى المؤثر في القلب. وأما سمع الحجة فقد كانت حجة الله تعالى عليهم بما سمعوه من آياته، وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيراً يصلحون به لسماع آياته) (¬1). ثم يقال أيضاً: إن الشبهة التي تحصل للكافر بل وللمبتدع الضال الذي لم يكفر ببدعته ليست ابتداءً من الله بعبده، بل لا تكون إلا جزاءً على إعراض العبد عن الحق بعد تبينه له وقيام الحجة به عليه. ومعرفة هل الشبهة لأجل عدم الفهم حقيقة أم لأجل عدم الهداية إلى الفهم مما لا يمكن الاطلاع عليه، لأنه أمر باطن لا يعلم، ونحن إنما نحكم على الظاهر، وإذا ثبت أن من حصلت له شبهة من جهة عدم الفهم فهو معذور كان هذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في حكم الظاهر، لأنه هو الظاهر. الثاني: إن من القواعد الشرعية المقررة أن المؤاخذة والتأثيم لا تكون على مجرد المخالفة ما لم يتحقق القصد إليها. والمتأول في حقيقته مخطئ غير متعمد للمخالفة، بل هو يعتقد أنه على حق، وذلك هو قصده ونيته، وقد قال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]. وهذا عام في كل خطأ، لأنه يكون عن غير قصد ولا تعمد. وقد جاء في (صحيح مسلم) أنه لما نزل قول الله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] قال الله: (قد فعلت) (¬2). فدل هذا على أن من أخطأ أو نسي فإنه غير مؤاخذ لوعد الله له بذلك وعفوه عن عباده. وقال الله تعالى: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] وفي آية أخرى: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّم ُالأَيْمَانَ [المائدة: 89] وهذا ليس خاصا بالخطأ في اليمين، بل هي قاعدة عامة في كل خطأ لايمكن العلم بالحق فيه إلا من جهة الحجة الرسالية. فتبين من كل ما سبق أنه لابد قبل الحكم على المعين من التحقق من قصد المعين بضوابطه الشرعية، وأن ذلك ركن مشروط في الحكم عليه مع تحقق المخالفة في الظاهر. ثم يقال بعد تقرير هذا: إذا كان تحقق القصد إلى المخالفة شرطاً في التأثيم والمؤاخذة، فقد لا يكفي مجرد بلوغ الحجة في إزالة الشبهة، فقد يتأول من عنده شبهة تلك الحجة لتوافق شبهته، غير قاصد تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا رد الشريعة، ولكنه يظن أن ذلك هو مفهوم الحجة، ومثل هذا معذور إذا تأول، لأنه في الحقيقة مخطئ فكيف يقال مع هذا إن مجرد بلوغ الحجة كاف في قيامها على المعين مطلقاً، وعدم إعذاره إذا كان له شبهة؟ وهذا الذي تقرر من الإعذار بالشبهة، ولو مع بلوغ الحجة إذا تأولها المتأول، بحيث نعلم من حاله أنه غير مكذب لها ولا مستحل مخالفتها هو منهج سلف الأمة وأئمتها، وقد يطلقون القول بكفر من قال كذا، كما أطلق الإمام أحمد رحمه الله القول بكفر من قال بخلق القرآن لكنهم لا يلتزمون بذلك في الحكم على كل معين لأن الكلام في حكم القول من جهة وصفه الشرعي غير الحكم على المعين بذلك الحكم، ولو تلبس بما هو كفر في الشرع ولو لم تكن الشبهة عذراً معتبراً للزوم تكفير المتكلمين بتأويلهم لنصوص الصفات، وحملهم لها على المجاز، وأنها ليست ثابتة لله على الحقيقة، لظنهم أن ذلك يستلزم تشبيه الله بخلقه، فردهم لنصوص الصفات مبني على إرادة التنزيه لله عن مشابهة خلقه حسب ظنهم وعلى هذا فهم لم يريدوا رد تلك النصوص تكذيباً بها. ¬

(¬1) ((تفسير السعدي)) (3/ 155). (¬2) رواه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

فرد النصوص كفر، لكن من تحقق منه ذلك قد يكون مكذبا بالنص فيكون كافراً، وقد يكون له شبهة فلا يكون مكذباً فلابد من التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين ولذلك لم يكفر الإمام أحمد رحمه الله كل من دعا إلى القول بخلق القرآن بعينه، مع قوله إن القول بخلق القرآن كفر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. فإن الإمام أحمد مثلاً قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل. والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذا ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر). إلى أن قال: (ومعلوم أن هذا من التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب. ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع. وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة. فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفضيل فيقال: من كفره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه. هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم) (¬1) ويقول في موضع آخر عن نفس المسألة: (فالإمام أحمد رضي الله تعالى عنه ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا من قال ذلك لهم) (¬2). فهذا الإمام أحمد رحمه الله لم يكفر من إطلاق القول بتكفيرهم على العموم، مع أنه قد بلغ حجة الله في ذلك وجادلهم وعرفوا ما عنده مما يبين حكم الله فيما يقولونه من الكفر. وكان هو في وقته علم الأمة، وإمام أهل السنة، فلم يكن المانع من تكفيرهم إلا ما عرفوه الإمام أحمد من حالهم، وأنهم لم يقصدوا التكذيب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما ظنوا أن قولهم هو الحق، لما عرض لهم من الشبه في ذلك، فعذرهم ولم يكفرهم بأعيانهم، مع قيامه بحجة الله وبيان أن قولهم كفر. ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (12/ 487 - 489). (¬2) ((المسائل الماردينية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ص: 126).

ولهذا لم يكفر الإمام ابن تيمية الذين جادلوه من الجهمية في عصره مع أن قولهم كفر. ويحكى ذلك عن نفسه فيقول: (كنت أقول للجهمية من الحلولية (¬1)، والنفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر. وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال. وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم. وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم، في قصور من معرفة المنقول الصححيح والمعقول الصريح الموافق له) (¬2). وما وصف به الإمام ابن تيمية هؤلاء من الجهل إنما هو ما حصل لهم من الشبهات التي اقتضت ما قالوه من الكفر، لا أنهم جهال لم تبلغهم الحجة. كيف وقد جادلهم في ذلك، وبين حكم الله فيما قالوه، وبين لهم أن قولهم كفر. وعلى هذا فقيام الحجة لا يكفي فيه مجرد بلوغها، بل لابد مع ذلك من فهم تلك الحجة، وألا تعرض للمعين شبهة معتبرة تمنعه من اعتقاد ما هو مقتضى تلك الحجة، وإلا كان معذوراً إذا تأولها، لا فرق في ذلك بين الشبهة في المقالات الخفية وغيرها، ولا الشبهة عند من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بإسلام أو لم يكن كذلك. وذلك أن كون المقالة خفية من الأمور النسبية التي تختلف بحسب أحوال الناس، فلا بد من اعتبار تلك الأحوال، والتبين والتثبت من تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه قبل المعين. وهذا الذي تقرر هو منهج أهل السنة، الذين هم أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق، وأما غيرهم من الفرق فقد أسرفوا في تكفير مخالفيهم، بناء على ما قرروه من أن ما هم عليه أصول لا يعذر أحد بمخالفتها لشبهة أو لغير شبهة. وقد تهافتوا في ذلك من غير ضابط، حتى كفروا مخالفيهم بالجزئيات الخفية فضلاً عن الظاهرة، وبالإلزام فضلاً عن الالتزامات، بل أكثر ما يكفرون به ليس كفرا في الأصل وحكم الشرع. وعدم الجزم بتكفير من تأول لشبهة، ولو كان تأوله كفرا مبني على أصل، وهو أن من تحقق منه ذلك ثبت له وصف الإسلام بيقين، والحكم عليه بالكفر، مع ظهور ما يدل على أن قصده ليس تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا مضادة الشريعة مجازفة وتهور من غير بينة ولا برهان. وأحكامنا مبينة على الظاهر، وظاهر من كان كذلك لا قطع فيه بالكفر. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني- ص331 ¬

(¬1) ليس المقصود بالحلولية هنا أهل الحلول والاتحاد، وإنما المقصود الجهمية الذين ينفون أسماء الله وصفاته وكونه على العرش استوى. (¬2) ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 259).

المطلب الثالث: الموقف من أهل التأويل

المطلب الثالث: الموقف من أهل التأويل الخلاف بين العلماء في حدود التأويل المقبول وغير المقبول، أدى إلى خلاف بينهم في الحكم على الفرق المتأوّلة، ونحن لن نبحث تفصيل الحكم على كل فرقة، وهل الراجح تكفيرها أو عدمه، وإنما مقصودنا الإشارة المجملة إلى إعذار الأئمة للمتأوّلين المعينين، مهما بلغ خطؤهم إذا لم تقم عليهم الحجة.

يلخص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موقف الأئمة من الفرق المشهورة فيقول: (وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير (المرجئة) و (الشيعة المفضلة) ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع – من هؤلاء وغيرهم – خلافاً عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم وهذا غلط على مذهبه، وعلى الشريعة، ومنهم من لم يكفر أحداً من هؤلاء إلحاقاً بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب، فكذلك لا يكفرون أحداً ببدعة، والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير (الجهمية المحضة) الذين ينكرون الصفات، وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره، وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال) (¬1)، ثم بين سبب التنازع، فيقول: (وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان، الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً، فيتعارض عندهم الدليلان، وحقيقة الأمر أنهم أصابوا في ألفاظ العموم في كلام الأئمة، ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، بين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة، الذين أطلقوا هذه العمومات (¬2)، ولم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه .. ) (¬3)، ثم ضرب مثالاً كرره في عدة مواضع – وهو موقف الإمام أحمد من أعيان الجهمية فقال: (مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلاة خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين، وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالاً مبتدعين، وظلمة فاسقين) (¬4)، ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 351، 352)، (282)، وانظر (7/ 507). (¬2) مثل قولهم، من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر ونحو ذلك. (¬3) ((الفتاوى)) (12/ 487، 488). (¬4) ((الفتاوى)) (7/ 507، 508))، وانظر (12/ 488)، (489، 23/ 348، 349) ..

أما تكفير الإمام أحمد لبعض أعيان الجهمية، فبين شيخ الإسلام ذلك بقوله: (وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوماً معينين، فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه، فليقام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم) (¬1). ونختم هذه النقولات عن شيخ الإسلام، بنص أشبه بالقاعدة، التي تساعدنا على فهم كلام الأئمة في التكفير أو التبديع على العموم وعلى التعيين، يقول: (فإذا رأيت إماماً قد غلظ على قائل مقالته، أو كفره فيها فلا يعتبر هذا حكماً عاماً في كل من قالها، إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه، والتكفير له، فإن جحد شيئاً من الشرائع الظاهرة، وكان حديث العهد بالإسلام، أو ناشئاً ببلد جهل لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية، وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة، قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت، عدم بلوغ الحجة له، فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول) (¬2). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 489) وانظر ((الإرشاد إلى معرفة الأحكام))، للسعدي (ص: 209). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 61)

ونختم هذه الفقرة بتفصيل جيد ذكره الشيخ ابن سعدي – رحمه الله – بين فيه موقف السلف من المبتدعة ومن يعذر منهم ومن لا يعذر، قال: (أما أهل السنة والجماعة فيسلكون معهم ومع جميع أهل البدع المسلك المستقيم المبني على الأصول الشرعية والقواعد المرضية، ينصفونهم، ولا يكفرون منهم إلا من كفره الله ورسوله، ويعتقدون أن الحكم بالكفر والإيمان من أكبر حقوق الله وحقوق رسوله، فمن جحد ما جاء به الرسول أو جحد بعضه غير متأوّل من أهل البدع فهو كافر، لأنه كذب الله ورسوله واستكبر على الحق وعانده، فكل مبتدع من جهمي وقدري وخارجي ورافضي ونحوهم عرف أن بدعته مناقضة لما جاء به الكتاب والسنة ثم أصر عليها ونصرها فهو كافر بالله العظيم مشاق لله ورسوله من بعد ما تبين له الهدى، زمن كان من أهل البدع مؤمناً بالله ورسوله ظاهراً وباطناً معظماً لله ورسوله ملتزماً ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه خالف الحق وأخطأ في بعض المقالات وأخطأ في تأويله، من غير كفر وجحد للهدى الذي تبين له لم يكن كافراً، ولكنه يكون فاسقاً مبتدعاً، أو مبتدعاً ضالاً، أو معفواً عنه لخفاء المقالة، وقوة اجتهاده في طلب الحق الذي لم يظفر به، ولهذا كان الخوارج والمعتزلة والقدرية ونحوهم من أهل البدع أقساماً متنوعة: منهم من هو كافر بلا ريب كغلاة الجهمية (¬1)، الذين نفوا الأسماء والصفات وقد عرفوا أن بدعتهم مخالفة لما جاء به الرسول، فهؤلاء مكذبون للرسول عالمون بذلك، ومنهم من هو مبتدع ضال فاسق كالخوارج المتأولين والمعتزلة الذين ليس عندهم تكذيب للرسول ولكنهم ضلوا ببدعتهم، وظنوا أن ما هم عليه هو الحق، ولهذا اتفق الصحابة رضي الله عنهم، في الحكم على بدعة الخوارج ومروقهم كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة فيهم، واتفقوا – أيضاً على عدم خروجهم من الإسلام (¬2) مع أنهم استحلوا دماء المسلمين، وأنكروا الشفاعة في أهل الكبائر، وكثيراً من الأصول الدينية، ولكن تأويلهم منع من تكفيرهم، ومن أهل البدع من هو دون هؤلاء ككثير من القدرية وكالكلابية والأشعرية، فهؤلاء مبتدعة ضالون في الأصول التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، وهي معروفة مشهورة، وهم في بدعهم مراتب بحسب بعدهم عن الحق وقربهم، وبحسب بغيهم على أهل الحق بالتكفير والتفسيق والتبديع، وبحسب قدرتهم على الوصول إلى الحق، واجتهادهم فيه، وضد ذلك، وتفصيل القول فيه يطول جداً ... ) (¬3) وخلاصة موقف السلف من المتأوِّلين أنهم لا يحكمون على جميع الفرق المتأوّلة المنتسبة لهذه الأمة، حكماً عاماً بالكفر أو عدمه، وإذا حكموا على بعضها بالكفر (كحكمهم على غلاة الجهمية) فيفرقون بين الحكم العام، وبين الحكم على المعين، فالمعينون متفاوتون بحسب قيام الحجة عليهم أو عدم قيامها، وبحسب اجتهادهم وتأويلهم، أو استكبارهم وجحدهم، ففيهم المنافق والزنديق، وفيهم المبتدع الضال، وفيهم الفاسق، وفيهم المجتهد المغفور له خطؤه والله أعلم. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 2/ 31 ¬

(¬1) مع التفريق: بين التكفير بالعموم والتعيين. (¬2) ذكر الإمام الطبري والخطابي الإجماع على كفر الخوارج، ونقل عن غيرهم من الأئمة خلاف ذلك، انظر ((فتح الباري)) (12/ 299 – 301)، و ((الفتاوى)) (3/ 28)، ((إيثار الحق)) (ص: 429)، ((العواصم والقواصم)) (4/ 369)، وغيرها. (¬3) ((توضيح الكافية الشافية)) (ص: 156 – 158)، وانظر نصاً مشابهاً في ((الإرشاد إلى معرفة الأحكام)) (ص: 207 – 209)، وانظر في مسألة إكفار المتأولين، ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 1051 – 1086)، ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 420 – 450)، و ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى)) للشيخ محمد العثيمين (ص: 87 – 89) وتفصيل جيد لسعيد بن ناصر الغامدي في ((حقيقة البدعة وأحكامها)) (2/ 262 - 300).

المطلب الرابع: التكفير بالمآل أو بلازم المذهب

المطلب الرابع: التكفير بالمآل أو بلازم المذهب (التكفير بالمآل)، والمقصود به أن يقول قولاً يؤديه سياقه إلى كفر، وهو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه، كحال بعض أهل البدع والمتأولين (¬1). يقول ابن رشد الحفيد: (ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم) (¬2). وقد بين أهل العلم هذه المسألة، ومن ذلك ما ذكره القاضي عياض حيث قال عند ذكره للمعطلة: (فأما من أثبت الوصف، ونفى الصفة فقال: أقول: عالم ولكن لا علم له، ومتكلم ولكن لا كلام له، وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة، فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله، ويسوقه إليه مذهبه كفر، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم، فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قولهم. ومن لم ير أخذهم بمآل قولهم، ولا ألزمهم موجب مذهبهم، لم ير إكفارهم، قال: لأنهم إذا وقفوا على هذا، قالوا: لا نقول ليس بعالم، ونحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتموه لنا، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر، بل نقول: إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك. والصواب: ترك إكفارهم والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران، وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم، ووراثاتهم، ومناكحتهم، ودياتهم، والصلاة عليهم، ولكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب، وشديد الزجر والهجر، حتى يرجعوا عن بدعتهم) (¬3). ويبطل ابن حزم الكفر بالمآل فيقول: _ (وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفراً، بل قد أحسن إذ قد فر من الكفر) (¬4). إلى أن قال (فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله، ونص معتقده، ولا ينفع أحد أن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط) (¬5). كما ينفي الشاطبي الكفر بالمآل فيقول: (والذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول (إن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال) كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به) (¬6). 4 - ومما هو قريب من مسألة التكفير بالمآل ما يسمى بالتكفير بلازم القول (¬7). ومعنى اللازم: ما يمتنع إنفكاكه عن الشيء، وقد يكون هذا اللازم بيناً، وهو الذي يكفي تصوره مع تصور ملزومه في جزم العقل باللزوم بينهما. وقد يكون غير بين، وهو الذي يفتقر جزم الذهن باللزوم بينهما إلى وسط (¬8). إن التكفير بلازم القول مطلقاً قد أورث في الأمة تفرقاً واختلافاً ... وكما قال الإمام الذهبي رحمه الله: (لا ريب أن بعض علماء النظر بالغوا في النفي، والرد والتحريف والتنزيه بزعمهم حتى وقعوا في بدعة، أو نعت الباري بنعوت المعدوم. ¬

(¬1) انظر ((الشفا)) (2/ 1056). (¬2) ((بداية المجتهد)) (2/ 492). (¬3) ((الشفا)) (2/ 1084 - 1086) (¬4) ((الفصل)) (3/ 294). (¬5) ((الفصل)) (3/ 294) (¬6) ((الاعتصام)) (2/ 197) (¬7) أطلق ابن الوزير على مسألة التكفير بالمآل: التكفير بالإلزام، انظر ((العواصم والقواصم)) (4/ 367). (¬8) انظر ((التعريفات)) (ص: 190) للجرجاني.

كما أن جماعة من علماء الأثر، بالغوا في الإثبات (¬1)، وقبول الضعيف والمنكر ولهجوا بالسنة والإتباع. فحصل الشغب ووقعت البغضاء، وبدع هذا هذا، وكفر هذا هذا ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفر مسلماً موحداً بلازم قوله، وهو يفر من ذلك اللازم، وينزه ويعظم الرب) (¬2). وقد بين العلماء هذه المسألة وأحوالها، وسنورد جملة من كلامهم في ذلك على النحو التالي: سئل ابن تيمية: هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ فكان من جوابه ما يلي: (الصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه، كانت إضافته إليه كذباً عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال. ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء وغيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه وصفاته حقيقة) (¬3). ويقول في موضع آخر: لازم قول الإنسان نوعان: أحدهما: لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب. والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له، فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول، لو ظهر له فساده لم يلتزمه، لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه. وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب أو ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله (¬4). وقال الشاطبي: (ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضاً أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر عليه، أنكره غاية الإنكار) (¬5). وأورد السخاوي مقالة شيخه ابن حجر حيث قال: (والذي يظهر أن الذي يحكم عليه بالكفر من كان الكفر صريح قوله، وكذا من كان لازم قوله وعرض عليه فالتزمه .. أما من لم يلتزمه وناضل عنه فإنه لا يكون كافراً ولو كان اللازم كفراً) (¬6). وذكر الشيخ السعدي تحقيقه في هذه المسأله قائلاً: (والتحقيق الذي يدل عليه الدليل أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهباً؛ لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان نلزم القائل بما لم يلتزمه. ونقوله ما لم يقله، ولكننا نستدل بفساد اللازم على فساد الملزوم، فإن لوازم الأقوال من جملة الأدلة على صحتها وضعفها وعلى فسادها، فإن الحق لازمه حق، والباطل يكون له لوازم تناسبه، فيستدل بفساد اللازم خصوصاً اللازم الذي يعترف القائل بفساده على فساد الملزوم) (¬7). وخلاصة ما سبق أن يقال: أن لازم أقوال المذاهب والعلماء له ثلاث حالات: ¬

(¬1) عفا الله عن الإمام الذهبي، فلو سلمنا بأن بعض علماء الأثر بالغوا في الإثبات، فلا يسوى هؤلاء العلماء بأولئك المتكلمين كما يفهم من عبارة الذهبي. (¬2) ((الرد الوافر)) لابن ناصر الدين (ص: 48). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 217). (¬4) ((القواعد النورانية)) (ص: 129،128)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 306، 477) و ((شرح نونية ابن القيم)) لابن عيسى (2/ 394، 395). (¬5) ((الاعتصام)) (2/ 549). (¬6) ((فتح المغيث)) (1/ 334)، وانظر ((العلم الشامخ)) للمقبلي (ص: 412) (¬7) ((توضيح الكافية الشافية)) (ص: 113).

الحالة الأولى: أن يذكر اللازم للقائل، ويلتزم به فهو يعد قولاً له. الحالة الثانية: أن يذكر له اللازم، ويمنع التلازم بينه وبين قوله، فهذا ليس قولاً له، بل إن إضافته إليه كذب عليه. الحالة الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتاً عنه؛ فلا يذكر بالتزام، ولا منع، فحكمه في هذه الحال أن لا ينسب إلى القائل، لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر فتبين له لزومه وبطلانه أن يرجع عن قوله (¬1). وبهذا يعلم أنه لا يصح التكفير بلازم المذهب بإطلاق، خاصة إذا كان من تلبس به ينفي ذلك اللازم وينكره، أو كان يجهله، أو يغفل عنه، والله أعلم (¬2). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف– ص80 ¬

(¬1) انظر ((القواعد المثلى في صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى)) لمحمد بن عثيمين (ص: 15). (¬2) ذكر المقبلي حكايات لبعضهم، تضمنت التكفير بإلزامات متكلفة، فذكر أن بعض الناس منع أحد هؤلاء المتفقهة نعله، فقال ذاك الفقيه: كفرت؛ لأنك هونت العلماء، وهو تهوين للشريعة، ثم للرسول، ثم المرسل. وفعل بعضهم شيئاً من منكرات الدولة، فقال المظلوم: هذا ظلم وحاشا السلطان من الأمر والرضى به، فقال: أنا خادم الدولة المنتمية إلى السلطان، فقد نسبت الظلم إلى السلطان، فهونت ما عظمت الشريعة من أمر السلطان فكفرت، فأخذوه وجاؤا به إلى القاضي، وحكم عليه بالردة، ثم جدد إسلامه وفعل ما يترتب على ذلك!! انظر: ((العلم الشامخ)) (ص: 413).

المبحث الرابع: الإكراه

المطلب الأول: تعريف الإكراه لغة واصطلاحا جاء في اللسان: (وقد أجمع كثير من أهل اللغة أن الكَره والكُره لغتان، فبأي لغة وقع فجائز) (¬1). وقال الفراء: (الكره، بالضم، المشقة، يقال: قمت على كره: أي على مشقة، قال: ويقال أقامني فلان على كره، بالفتح، إذا أكرهك عليه، وقال ابن سيده: الكره الإباء والمشقة تحتملها من غير أن تكلفها .. ) (¬2). وجاء في المعجم: (كره الشيء كرهاً وكراهة وكراهية: خلاف أحبه فهو كريه ومكروه، وأكرهه على الأمر: قهره عليه، وكره إليه الأمر، صيره كريهاً إليه، والمكره: ما يكرهه الإنسان ويشق عليه، وجمعه مكاره) (¬3)، وجاء في المصباح المنير: (الكره، بالفتح، المشقة، وبالضم، القهر، وقيل: بالفتح، الإكراه، وبالضم، المشقة، وأكرهته على الأمر إكراهاً، حملته عليه قهراً، يقال: فعلته كرهاً، بالفتح، أي إكراهاً، ومنه، قوله تعالى: طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران:83] فقابل بين الضدين) (¬4) فنلاحظ مما سبق، أن معاني الإكراه، تدور حول المشقة والقهر والإجبار، ومنافاة الرضى والمحبة والاختيار. ب- المعنى الاصطلاحي: عرف الفقهاء الإكراه، بتعريفات كثيرة، بينها بعض الاختلافات اليسيرة، بحسب اختلافهم في بعض شروط الإكراه وأنواعه، وسأذكر بعض التعريفات باختصار: قال ابن حزم – رحمه الله – في تعريف الإكراه: (والإكراه هو كل ما سمي في اللغة إكراهاً، وعرف بالحس أنه إكراه، كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك) (¬5). وعرفه ابن حجر – رحمه الله – بقوله: (هو إلزام الغير بما لا يريده) (¬6). وعرفه الشرقاوى من الشافعية فقال في تعريفه: (الإلجاء إلى فعل الشيء قهراً) (¬7). وعرفه علاء الدين البخاري، تعريفاً شاملاً، فقال: (حمل الغير على أمر يمتنع عنه، بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه، ويصير الغير خائفاً فائت الرضا بالمباشرة) (¬8). وهذه التعريفات وإن اختلفت عباراتها، إلا أنها متفقة في معانيها من حيث الإجمال: فتتفق هذه التعريفات على: أن في الإكراه إلزاماً للغير قهراً – بالوعيد بالقتل أو غيره – على فعل أمر لا يريده ولا يحبه، وهذه المعاني تتفق مع المعنى اللغوي. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 2/ 5 ¬

(¬1)) [9649]) ((لسان العرب)) (13/ 534) (مادة: كره). (¬2)) [9650]) ((لسان العرب)) (13/ 534). (¬3)) [9651]) ((المعجم الوسيط)) (2/ 791) (مادة: كره). (¬4)) [9652]) ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 643). (¬5)) [9653]) ((المحلى)) لابن حزم (8/ 33). (¬6)) [9654]) ((فتح الباري)) (12/ 311). (¬7)) [9655]) ((حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب)) (2/ 390). (¬8)) [9656]) ((كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام)) البزدوي (4/ 482)، وانظر ((تعريفات أخرى لأئمة المذاهب في الإكراه وأثره في التصرفات))، د. عيسى شقره (40،41)، ((الإكراه في الشريعة)) د. فخري أبو صفية (21 - 24) , و ((الإكراه وأثره في التصرفات))، د. محمد المعيني (29 - 32) وغيرها.

المطلب الثاني: أنواع الإكراه

المطلب الثاني: أنواع الإكراه قسم جمهور الأصوليين والفقهاء الإكراه إلى نوعين إكراه ملجئ وهو الإكراه التام، وإكراه غير ملجئ، وهو الإكراه الناقص. أ-الإكراه الملجئ (التام): وهو الذي يقع على نفس المكره: ولا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار: كأن يهدد الإنسان بقتله أو بقطع عضو من أعضائه كيده أو رجله، أو بضرب شديد يفضي إلى هلاكه أو بإتلاف جميع ماله، فمتى غلب على ظنه أن ما هدد به سيقع عليه، جاز له القيام بما دفع إليه بالتهديد، باعتباره في حالة ضرورة شرعية (¬1). ب-الإكراه غير الملجئ (الناقص): وهو التهديد أو الوعيد بما دون تلف النفس أو العضو، كالتخويف بالضرب أو القيد أو الحبس أو إتلاف بعض المال، وهذا النوع يفسد الرضا، ولكنه لا يفسد الاختيار لعدم الاضطرار إلى مباشرة ما أكره عليه لتمكنه من الصبر على ما هدد به (¬2). وقد يلحق بهذا النوع، التهديد بحبس الأب أو الابن أو الزوجة والأخت والأم والأخ، وهناك نزاع في اعتبار هذا القسم من أقسام الإكراه (¬3)، فالقياس يقتضي عدم اعتباره من الإكراه لأن الضرر فيه لا يلحق بالمكره – والأصل في اعتبار المكره به (وسيلة الإكراه) – أن يلحق المكره بالتهديد به، الخوف والمشقة والضيق، أما الاستحسان فيعده من الإكراه، لأن المكره يلحقه الغم والاهتمام والحزن والحرج إذا أصاب أحداً من محارمه مكروه، فيندفع إلى الإتيان بما أمر به كما لو وقع الضرر به أو أشد (¬4). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: (وإن توعد بتعذيب ولده، فقد قيل ليس بإكراه لأن الضرر لاحق بغيره، والأولى أن يكون إكراهاً لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله، والوعيد بذلك إكراه فكذلك هذا) (¬5). قال في (الإنصاف): (ضرب ولده وحبسه ونحوهما: إكراه لوالده، على الصحيح من المذهب، صححه في الفروع، والقواعد الأصولية، وغيرهما) (¬6). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي- 2/ 7 ويمكن تقسيمه باعتبار آخر إلى: 1 - الإلجاء حيث ينعدم الرضا والاختيار، وتنتفي الإرادة والقصد، وذلك بالوقوع تحت التعذيب الشديد أو نحو ذلك، وهذه الحالة هي التي نزلت فيها آية النحل: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان (265) [سورة النحل: 106]. 2 - التهديد: حيث ينعدم الرضا، ولا ينعدم الاختيار تماماً وهذه في مثل الحالة التي يختار فيها الإنسان أخف الضررين مثل حال شعيب عليه السلام مع قومه إذ خيروه بين العودة إلى الكفر أو الخروج من قريتهم. ¬

(¬1)) [9657]) انظر ((الإكراه وأثره في عقود المفاوضات المالية)) د. إبراهيم العروان، ((البدائع)) للكاساني (7/ 175) ((حاشية ابن عابدين)) (5/ 109)، وانظر في ((الفرق بين الإكراه والضرورة))، التشريع الجنائي (1/ 576،577)، و ((الإكراه وأثره في التصرفات))، د. محمد المعيني (ص: 37 - 44). (¬2)) [9658]) انظر ((كشف الأسرار)) للبزودي (4/ 383)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/ 181)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/ 109). (¬3)) [9659]) ذهب بعض الأحناف إلى اعتبار هذا القسم نوعاً ثالثاً، أما بقية الفقهاء فقد أدخلوه في النوعين السابقين، انظر ((كشف الأسرار)) (4/ 383)، ((الإكراه وأثره في التصرفات)) د. عيسى شقره (ص: 61). (¬4)) [9660]) انظر ((الإكراه وأثره في التصرفات))، د. عيسى شقره (ص: 60، 61)، وانظر في ترجيح ذلك المبسوط للسرخسي (24/ 143، 144). (¬5)) [9661]) ((المغني)) (7/ 120)، انظر في ذلك ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/ 290)، ((أسني المطالب)) (3/ 283)، ((فتح الباري)) (12/ 324). (¬6)) [9662]) ((الإنصاف)) للمرداوي (8/ 141).

قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [سورة الأعراف: 88 - 89]. فلا تجوز الاستجابة لمثل هذا الإكراه لهذا النص ولقوله تعالى: وَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ آمَنا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ الناسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنا كُنا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (266) [العنكبوت: 10]. 3 - الاستضعاف: وهنا لا تعذيب ولا تهديد ولكن المستضعف داخل تحت وضع مفروض عليه من غيره كالمقيم في مكة بعد هجرة المسلمين عنها، فإذا كان دخوله تحت هذا الوضع لعجزه عن دفعه وعن الخروج منه، ولو أمكنه ذلك لفعل مهما كانت تضحياته وتكاليفه فهذا قد عفا الله عنه (267). ... قال ابن تيمية: تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص في غير موضع، إن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب وقيد، ولا يكون الكلام إكراهاً (268). الولاء والبراء في الإسلام لسعيد بن علي بن وهف القحطاني – ص: 372

المطلب الثالث: شروط الإكراه

المطلب الثالث: شروط الإكراه قال ابن حجر: شروط الإكراه أربعة: 1 - أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار. 2 - أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك. 3 - أن يكون ما هدد به فورياً، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك غداً لا يعد مكرهاً. ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جداً، أو جرت العادة بأنه لا يخلف. 4 - أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره. ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور، ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حق (257). قال الخازن: قال العلماء: يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به مثل التخويف بالقتل والضرب الشديد، والإيلامات القوية مثل التحريق بالنار ونحوه (258). وأجمعوا أيضاً: على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة الكفر تصريحاً، بل يأتي بالمعاريض وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان، غير معتقد ما يقوله من كلمة الكفر، ولو صبر حتى قتل كان أفضل لفعل ياسر وسمية وصبر بلال على العذاب (259). لقد كان بلال رضي الله عنه تفعل به الأفاعيل حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم ويقول: أحد. أحد. ويقول – والله لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها (260). وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. فيقول أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك (262). وكما فعل الصحابي الجليل عبدالله بن حذافة السهمي: فإنه لما أسرته الروم جاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت. فقال: إذا أقتلك قال: أنت وذاك، فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر، في رواية ببقرة من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه فقال له: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله! وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياماً ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ قال: أما أنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشمتك في، فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي أسارى المسلمين، قال: نعم فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبدالله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه (264) الولاء والبراء في الإسلام لسعيد بن علي بن وهف القحطاني – ص: 372

المطلب الرابع: الإكراه على الكفر

المطلب الرابع: الإكراه على الكفر الأصل في ذلك قوله سبحانه: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106]. والمشهور في سبب نزولها ما رواه أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: ((أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك، قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد)) (¬1)، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: (واتفقوا على أنه (أي عمار) نزل فيه إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ [النحل:106]. (¬2). قال أبو بكر الجصاص عن هذه الآية: (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه) (¬3)، بل إن هذا أصل العذر بالإكراه في الأصول والفروع، قال ابن العربي: (لما سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به) (¬4). قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]: (فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً، لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله) (¬5)، وقال الإمام ابن الجوزي – رحمه الله -: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]. أي: ساكن إليه راض به، وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106]. قال قتادة: (من أتاه بإيثار واختيار)، وقال ابن قتيبة: (من فتح له صدره بالقبول)، وقال أبو عبيدة: (المعنى: من تابعته نفسه، وانبسط إلى ذلك، يقال: ما ينشرح صدري بذلك، أي: ما يطيب) (¬6)، وقال الإمام الشوكاني: وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106] (أي: اعتقد وطابت به نفسه، واطمأن إليه) (¬7)، إذاً لابد من طمأنينة القلب بالإيمان، وبغض وكراهية الكفر، وهذا شرط مجمع عليه (¬8). ¬

(¬1) رواه الحاكم (2/ 357) والبيهقي (8/ 208، 209). قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 295): إسناده صحيح وزاد بعضهم وفي هذا أنزلت: من كفر بالله من بعد إيمانه .. الآية. وقال ابن حجر في ((الدراية)) (2/ 197): إسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه. وقال الألباني في ((فقه السيرة)) (103): في ثبوت هذا السياق نظر وعلته الإرسال. (¬2) ((الإصابة)) (2/ 512)، وانظر بعض الآثار المصرحة بذلك في ((تفسير الطبري)) (24/ 122)، و ((طبقات ابن سعد)) (3/ 249)، و ((الدر المنثور)) (5/ 170). (¬3) ((أحكام القرآن)) (3/ 192). (¬4) ((أحكام القرآن)) (3/ 1180). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 587). (¬6) ((زاد المسير)) (4/ 496). (¬7) ((فتح القدير)) (3/ 196). (¬8) اشترط بعض الفقهاء للنطق بكلمة الكفر، أن يكون الإكراه تاماً (ملجئا)، واشترط آخرون التعريض والتورية بالكفر حال الإكراه، ولم يسندوا كلامهم بأدلة معتبرة، انظر بعض هذه الأقوال في بدائع الصنائع (7/ 177) ((حاشية ابن عابدين)) (6/ 134)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/ 1178)، و ((أحكام الجصاص)) (3/ 192، 194)، و ((الإكراه وأثره في التصرفات))، د. عيسى شقره (ص: 115 – 118)، و ((الإكراه وأثره في الأحكام)) د. عبد الفتاح الشيخ (ص: 63 – 66).

قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر: (أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته) (¬1). وقال ابن العربي – رحمه الله -: (وأما الكفر بالله، فذلك جائز له (أي المكرَه) بغير خلاف على شرط أن يلفظ وقلبه منشرح بالإيمان، فإن ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثماً كافراً، لأن الإكراه لا سلطان له في الباطن، وإنما سلطانه على الظاهر) (¬2). لكن ينبغي أن نعلم، أنه وإن جاز قول الكفر أو فعله بسبب الإكراه – إلا أن الصبر أفضل وأعظم أجراً، قال ابن بطال – رحمه الله -: (أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل، أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة) (¬3)، ويقول الإمام ابن العربي – رحمه الله -: (إن الكفر وإن كان بالإكراه جائزاً عند العلماء فإن من صبر على البلاء ولم يفتتن حتى قتل فإنه شهيد، ولا خلاف في ذلك، وعليه تدل آثار الشريعة التي يطول سردها) (¬4). وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: (والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله) (¬5). واستدلوا لذلك بأحاديث كثيرة من أشهرها حديث خباب بن الأرت – رضي الله عنه – وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)) (¬6). قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: (فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر، وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة) (¬7). ويتأكد الصبر في حق من يفتدي به العوام ويتبعونه في تصرفاته وأقواله، فلو تلفظ – مثل هذا – بالكفر رخصة – مع احتمال أن الكثير من العوام لا يعرفون حقيقة الأمر، وهو أن ما أظهره خلاف ما يبطنه، فيؤدي هذا التصرف إلى فتنتهم، بل قد يصل الأمر إلى التحريم في حقه بسبب ما يسببه من فساد (¬8)، وفي هذا المعنى قول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل – رحمه الله – حين سئل عن العالم وهل يأخذ بالتقية قال: (إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟) (¬9). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– ص 2/ 5 ... كما أجمعوا على أن من أكره على الكفر، فاختار القتل؛ أعظم أجراً عند الله تعالى ممن اختار الرخصة؛ وذلك لأن الصبر والأخذ بالعزيمة له منزلة رفيعة عند الله تعالى، وأولى من الأخذ بالرخص، ولو كانت مباحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر؛ فأمره ونهاه فقتله)) (¬10). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (12/ 314)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (10/ 182). (¬2) ((أحكام القرآن)) (3/ 1178). (¬3) ((فتح الباري)) (12/ 317)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (10/ 188). (¬4) ((أحكام القرآن)) (3/ 1179). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 588)، وانظر ((المغني)) (8/ 146)، و ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/ 192). (¬6) رواه البخاري (6943). (¬7) ((تفسير القرطبي)) (10/ 188). (¬8) انظر ((عوارض الأهلية عند الأصوليين)) (ص: 495). (¬9) ((البحر المحيط)) لأبي حيان (2/ 424). (¬10) رواه الحاكم (3/ 215). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)): صحيح.

أما من نطق بالكفر، وقال: قصدت المزاح؛ فهو كافر ظاهراً وباطناً، إذ حكم الكفر يلزم الجاد، والهازل، والمازح على السواء، وفي الآخرة أمرهم إلى الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر؛ فإنه يكفر بذلك ظاهراً وباطناً، ولا يجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام) (¬1). الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص265 هل للإكراه حد يستوي فيه جميع أفراد المعينين؟ والجواب: أنه ليس للإكراه حد منضبط يحكم به على جميع المعينين، بل يختلف الحكم فيه باختلاف النظر في ثلاثة أمور هي: 1 - حال المكره، فإن الناس يختلفون في قدراتهم ومكانتهم وتحملهم للإكراه. 2 - حال من وقع منه الإكراه، فإن الأمر في ذلك أيضاً مختلف. 3 - الأمر الذي وقع عليه الإكراه. وهذا ظاهر أيضاً، فليس الإكراه على الكفر كالإكراه على المعصية، وليس الإكراه على مجرد القول كالإكراه على القول والفعل أو مجرد الفعل وهكذا. فأما اختلاف الناس في قدراتهم فظاهر، فقد يكون إكراها في حق إنسان ما ليس بإكراه في حق غيره، لاختلافهما في تحمل الإكراه، حتى قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به) (¬2). ثم إن إكراه العالم مثلاً ليس كإكراه غيره، فإنه قد يضل بعض الناس بتقية العالم وأخذه بالرخصة. ولهذا شدد الإمام أحمد رحمه الله في هذا الأمر حين سئل عن العالم وهل له أن يأخذ بالتقية في فتواه فقال: (إذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟) (¬3). وصدق الإمام أحمد رحمه الله، فإنه ما وقع اللبس والغبش في الأمة إلا بمداهنة العلماء وتجرؤ الجهال بالإفتاء بلا علم. وقد جعل رحمه الله من نفسه مثلاً في ذلك، فلم يداهن ولم يلن حين فتن على القول بخلق القرآن لما علم من افتتان الناس وانطماس وجه الحق لو فعل ذلك. وأما اختلاف الإكراه باختلاف حال من يقع منه فظاهر وفرق بين من يعلم أنه عازم على إنفاذ وعيده وبين المهدد الذي يحتمل منه ذلك فقط وفرق أيضاً بين من كان له سلطة في تحقيق ما توعد به وبين من كان دون ذلك. وأما اختلاف الإكراه باختلاف الأمر المكره عليه فأمر التفاوت فيه واسع، فما كان إكراها في أمر قد لا يكون إكراها في أمر آخر. يقول الإمام النووي في بيان هذا التفاوت: (لا يشترط سقوط الاختيار، بل إذا أكرهه على فعل يؤثر العاقل الإقدام عليه حذراً مما تهدده به حصل الإكراه. فعلى هذا ينظر فيما يطلبه منه، وما هددوه به، فقد يكون الشيء إكراهاً في مطلوب دون مطلوب وفي شخص دون شخص) (¬4). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نفس المسألة: (تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره. فليس المعتبر في كلمات الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها. فإن الإمام أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب أو قيد ولا يكون الكلام إكراها، وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها بمسكنه فلها أن ترجع، على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء عشرتها فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراها. ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص: 532). (¬2) ((المحلى)) لابن حزم (8/ 336). (¬3) ((البحر المحيط)) لأبي حيان (2/ 424). (¬4) ((روضة الطالبين)) للإمام النووي (8/ 60).

ومثل هذا لا يكون إكراها على الكفر، فإن الأسير إذا خشي الكفار أن لا يزوجوه أو أن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر (¬1). وقد يعظم الأمر وينحسر الإعذار بالتقية حتى لا يعذر بها كما في حال المكره على الكفر مع الدوام على ذلك لا في حالة عارضة. ولهذا لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه أله أن يرتد؟ فكرهه كراهة شديدة، وقال: ما يشبه هذا عندي الذي أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاؤوا، وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم) (¬2). وبعد كل هذا: فإنه إذا كان الرضى بالكفر الظاهر هو مناط التكفير على الحقيقة، ولم يمكن الحكم عليه ومعرفته إلا من حيث دلالة الظاهر عليه، وكان الإكراه مانعاً من الحكم بتكفير المعين، ولم يكن الإكراه محدوداً بحد منضبط يستوي فيه جميع أفراد المكلفين، فلم يبق إذن إلا اعتبار الإكراه ما أمكن أن يكون عذراً في درء الحكم بوصف الكفر للمعين، حتى إذا لم يمكن بحال أن يكون المعين مكرهاً ولو ادعاه كان كافراً. ومعلوم أن مجرد احتمال عدم الإكراه أمر نسبي يختلف من معين إلى آخر، وأنه لابد للتحقق منه من تبين حال كل معين على التفصيل، قبل الحكم عليه بأن ما ادعاه إكراهاً، محتمل أو غير محتمل. وهنا قد يحصل الخلاف في حكم معين، وهل هو معذور أم غير معذور، للاختلاف في أن ما اعتذر به من الإكراه محتمل أو غير محتمل وهذا خلاف في تحقيق مناط الحكم. لكن الذي لا يصح الخلاف فيه هو مناط الحكم لا تحقيق مناطه. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني- ص: 378 ¬

(¬1) ((مجموعة التوحيد)) (ص: 297). (¬2) ((المغني)) لابن قدامة (8/ 147).

المبحث الخامس: التقليد

المطلب الأول: تعريف التقليد لغة واصطلاحا أ- أصل التقليد في اللغة: وضع الشيء في العنق محيطاً به، وذلك الشيء يسمى قلادة، والجمع قلائد، ومنه تقليد الهدي، فكأن المقلد جعل الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده، ويستعمل التقليد – أيضاً – في تفويض الأمر إلى الشخص كأن الأمر جعل في عنقه كالقلادة، قالت الخنساء: يقلده القوم ما نابهم ... وإن كان أصغرهم مولداً (¬1) ب- أما في الاصطلاح: فتكاد تنحصر تعريفات الأئمة في ثلاثة تعريفات متقاربة المعنى. الأول: أن التقليد: قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أين قاله، (أي لا تعرف مأخذه) (¬2). الثاني: قبول قول الغير بلا حجة (¬3). الثالث: اتباع قول من ليس قوله حجة (¬4)، وهو قريب من الثاني. (فخرج بقولنا: (من ليس قوله حجة) اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع أهل الإجماع، واتباع الصحابي إذا قلنا حجة فلا يسمى اتباع شيء من ذلك تقليداً لأنه اتباع للحجة .. ) (¬5). وبذلك نلاحظ تقارب هذه التعريفات، وأن التعريف الثالث أدق، لأن من يتبع من قوله حجة لا يحتاج إلى معرفة مأخذه، أو حجته باعتباره حجة بنفسه. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 2/ 39 ¬

(¬1) انظر في التعريف اللغوي ((لسان العرب)) (3/ 367)، ((مختار الصحاح)) (ص: 548)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 270)، ((الأحكام في أصول الأحكام)) للأمدي (4/ 221)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (ص: 265)، ((مختصر حصول المأمول من علم الأصول)) لصديق حسن خان، (ص: 118)، ((شرح الورقات)) عبدالله بن صالح الفوزان (ص:170) وغيرها. (¬2) وهذا التعريف نسب إلى القفال، انظر ((البحر المحيط)) (6/ 270)، و ((إرشاد الفحول)) (ص: 265). (¬3) ذكره ابن حزم في ((الأحكام)) (2/ 836)، وابن تيمية (2/ 15، 16)، والجويني، والغزالي والآمدي وابن حزم في ((الأحكام)) (2/ 836)، وابن الحاجب وغيرهم انظر ((الأحكام)) للآمدي (4/ 221)، ((البحر المحيط)) (6/ 270)، ((شرح الورقات)) للفوزان (ص: 171). (¬4) وهو ترجيح أبي عبدالله بن خويز منداد البصري المالكي، وابن الهمام في التحرير، والشوكاني وغيرهم انظر ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 117)، ((إرشاد الفحول)) (265). (¬5) ((الأصول من علم الأصول)) للشيخ محمد العثيمين (ص: 100)، وانظر ((شرح الورقات)) لعبد الله الفوزان (ص: 171).

المطلب الثاني: أنواع التقليد

المطلب الثاني: أنواع التقليد 1 - التقليد المباح: يكون في حق العامي الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية، ويعجز عن معرفتها، ولا يمكنه فهم أدلتها، ولكن له طلب الدليل الشرعي من المفتي؛ لأن المسلم من حقه أن يستوثق من أمر دينه. 2 - التقليد المذموم: هو تقليد رجل واحد معين دون غيره من العلماء في جميع أقواله، أو أفعاله، ولا يرى الحق إلا فيه. ذهب جمهور أئمة أهل السنة والجماعة إلى جواز التقليد في العقائد والأحكام للعامي، والذي يعجز عن فهم الحجة والنظر والاستدلال. ويحرم التقليد على العالم، أو الذي يستطيع النظر والاستدلال؛ إذا اجتهد وبان له الحق في المسألة أن يقلد غيره، سواء كان ذلك في العقائد أو الأحكام؛ لورود الأدلة في ذم التقليد والمقلدين. واتفقوا على أن التقليد من موانع التكفير؛ لأن المقلد جاهل لا يفهم الدليل أو الحجة، ولا بصيرة له ولا فقه؛ فهو معذور حتى تقام عليه الحجة ويعلم. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص272 يلخص شيخ الإسلام – رحمه الله – مذهب جماهير الأمة في التقليد والاجتهاد، فيقول: ( ... والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأما القادر على الاجتهاد، فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز حيث عجز الاجتهاد: إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء، وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزئ والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز ... ) (¬1)، ويقول الإمام ابن عبد البر – رحمه الله – بعدما ساق من الأدلة والأقوال في إبطال التقليد وفساده -: (هذا كله لغير العامة، فإن العامة لابد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها، لأنها لا تبين موقع الحجة ولا تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك، لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة والله أعلم، ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها) (¬2). وفصل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في بيان التقليد الجائز وغير الجائز. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 203 - 204). (¬2) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 114،115).

فقال: (والتحقيق أن التقليد منه ما هو جائز، ومنه ما ليس بجائز، ومنه ما خالف فيه المتأخرون المتقدمين من الصحابة وغيرهم من القرون الثلاثة المفضلة، أما التقليد الجائز الذي لا يكاد يخالف فيه أحد من المسلمين فهو تقليد العامي عالماً أهلاً للفتيا في نازلة نزلت به، وهذا النوع من التقليد كان شائعاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف فيه، فقد كان العامي، يسأل من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم النازلة تنزل به، فيفتيه فيعمل بفتياه، وإذا نزلت به نازلة أخرى لم يرتبط بالصحابي الذي أفتاه أولاً، بل يسأل عنها من شاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعمل بفتياه، وأما ما لا يجوز من التقليد بلا خلاف، فهو تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاد، مجتهد آخر يرى خلاف ما ظهر له هو، للإجماع على أن المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده، لا يجوز له أن يقلد غيره المخالف لرأيه (¬1)، أما نوع التقليد الذي خالف فيه المتأخرون الصحابة وغيرهم من القرون المشهود لهم بالخير، فهو تقليد رجل واحد معين غيره من جميع العلماء، فإن هذا النوع من التقليد، لم يرد به نص من كتاب ولا سنة، ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير، وهو مخالف لأقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله، فلم يقل أحد منهم بالجمود على قول رجل واحد معين دون غيره من جميع علماء المسلمين، فتقليد العالم المعين من بدع القرن الرابع، ومن يدعي خلاف ذلك فليعين لنا رجلاً واحداً من القرون الأولى التزم مذهب رجل واحد معين ولن يستطيع ذلك أبداً، لأنه لم يقع ألبتة ... ) (¬2). والخلاصة مما سبق، أن التقليد يجوز العامي العاجز عن فهم الحجة، ويحرم على العالم إذا اجتهد وبان له الحق في المسألة أن يقلد مجتهداً مثله، أما إذا لم يجتهد في المسألة مع قدرته فيجوز له التقليد في حالات معينة على الصحيح والله أعلم. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 2/ 39 ¬

(¬1) يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – في بيان حكم تقليد المجتهد لمجتهد مثله: (ولهذا نقل غير واحد الإجماع على أنه لا يجوز للعالم أن يقلد غيره إذا كان قد اجتهد واستدل وتبين له الحق الذي جاء به الرسول، فهناك لا يجوز له تقليد من قال خلاف ذلك بلا نزاع، ولكن هل يجوز مع قدرته على الاستدلال أن يقلد هذا فيه قولان.) ((الفتاوى)) (19/ 261). (¬2) ((أضواء البيان)) (7/ 487 – 489)، وهذا هو التقليد الذي تكلم الأئمة المحققون في بيان فساده وبطلانه.

المطلب الثالث: التقليد في العقيدة وهل يعتبر عذرا

المطلب الثالث: التقليد في العقيدة وهل يعتبر عذرا اختلف الأئمة والعلماء في مسألة التقليد في العقائد، فذهب كثير من الأصوليين والمتكلمين إلى تحريم التقليد، وذهب كثير من الفقهاء من الحنابلة والظاهرية وغيرهم إلى جواز ذلك، وسنعرض إلى هذين الرأيين – باختصار -. الرأي الأول: قال الزركشي رحمه الله: ( .. والعلوم نوعان: عقلي وشرعي، الأول: العقلي، وهو المسائل المتعلقة بوجود الباري وصفاته، واختلفوا فيها، والمختار أنه لا يجوز التقليد، بل يجب تحصيلها بالنظر، وجزم به الأستاذ أبو منصور (¬1) والشيخ أبو حامد الأسفراييني في تعليقه، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في (شرح الترتيب) عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف، وقال أبو الحسين بن القطان في كتابه: لا نعلم خلافاً في امتناع التقليد في التوحيد ... وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين، وطائفة من الفقهاء وقالوا: لا يجوز للعامي التقليد فيها، ولابد أن يعرف ما يعرفه بالدليل .. ) (¬2). وقال الفخر الرازي رحمه الله: (لا يجوز التقليد في أصول الدين، لا للمجتهد، ولا للعوام، وقال كثير من الفقهاء بجوازه) (¬3) ومن أهم أدلة من يمنع ذلك ما يلي: 1 - أن النظر واجب، وفي التقليد ترك للواجب فلا يجوز (¬4) واستدلوا لذلك بالأدلة العامة الواردة في ذلك من مثل قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار [آل عمران: 190 - 191]. وبعضهم وضع ذلك شرطاً في صحة الإيمان، قال الزركشي: (وجزم أبو منصور بوجوب النظر، ثم قال: فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل، فاختلفوا فيه، فقال أكثر الأئمة: إنه مؤمن من أهل الشفاعة، وإن فسق بترك الاستدلال، وبه قال أئمة الحديث، وقال الأشعري وجمهور المعتزلة: (لا يكون مؤمناً، حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين) (¬5). 2 - وفرقوا بين العقائد والأحكام، وقالوا: إن المطلوب في العقائد العلم واليقين، وذلك لا يحصل من التقليد، بخلاف الفروع فإن المطلوب فيها الظن، وهو حاصل من التقليد (¬6)، وقالوا: العقائد أهم الفروع والمخطئ فيها كافر (¬7). ¬

(¬1) أبو منصور البغدادي. (¬2) ((البحر المحيط)) (6/ 278). (¬3) ((المحصول)) (2/ 125)، وانظر ((الأحكام)) للآمدي (4/ 223)، و ((اللمع في أصول الفقه)) لأبي إسحاق الشيرازي (ص: 125)، و ((المسودة)) (ص: 457)، و ((إرشاد الفحول)) (ص: 266) وغيرها. (¬4) انظر: ((الأحكام)) للآمدي (4/ 223)، و ((المعتمد)) (2/ 941). (¬5) ((البحر المحيط)) (6/ 278)، وقال الزركشي: (وقد اشتهرت هذه المقالة عن الأشعري، أن إيمان المقلد لا يصح، وقد أنكر أبو القاسم القشيري، والشيخ أبو محمد الجويني وغيرهما من المحققين صحته عنه) 6/ 279. وانظر في مسألة إيمان المقلد، ((المنهاج في شعب الإيمان)) للحليمي (1/ 145 – 150)، ((وأصول الدين)) للبغدادي (ص: 254، 255)، و ((شرح الفقه الأكبر)) لملا القاري (ص: 121)، ((فتح الباري)) (13/ 349). (¬6) انظر ((الأحكام)) للآمدي (4/ 228). (¬7) انظر ((البحر المحيط)) (6/ 283)، و ((المحصول)) (2/ 127).

الرأي الثاني: جواز التقليد في العقائد، ونقل عن الأئمة الأربعة، واشتهر عن الحنابلة والظاهرية وغيرهم (¬1) ونسبه شيخ الإسلام – رحمه الله – إلى جمهور الأمة. قال رحمه الله: (أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك، فإن ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على تحصيل العلم، وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق، فكيف يكلف العلم بها؟) (¬2). ومن أهم أدلتهم: (أن الأصول والفروع قد استويا في التكليف بهما، وقد جاز التقليد في الفروع فكذلك في الأصول) (¬3)، ولا دليل على التفريق بينهما، وردوا على ما اشترط أو أوجب النظر على الجميع، بأن ذلك يقتضي تضليل أو تكفير عوام المسلمين، وأن ذلك من تكليف ما لا يطاق، يقول المظفر بن السمعاني – رحمه الله – (إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون، بعيد جداً عن الصواب، ومتى أوجبنا ذلك، فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك؟ ويصدر عقيدته عنه؟ كيف وهم لو عرضت عليهم تلك الأدلة لم يفهموها، وإنما غاية العامي أن يتلقى ما يريد أن يعتقده ويلقى به ربه من العلماء، ويتبعهم في ذلك ويقلدهم) إلى أن يقول: (ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به رد الخاطر، وإنما المنكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اعتقدوا، وساموا به الخلق، وزعموا أن من لم يفعل ذلك لم يعرف الله تعالى، ثم أدى بهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع .. ) (¬4). ويقول الحافظ صلاح الدين العلائي في بيان ذلك: (من لا أهلية له لفهم شيء من الأدلة أصلاً وحصل له اليقين التام بالمطلوب، إما بنشأته على ذلك أو لنور يقذفه الله في قلبه، فإنه يكتفي منه ذلك، ومن فيه أهليه لفهم الأدلة لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد بحسبه وتكفي الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت له شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه أما من غلا فقال لا يكفي إيمان المقلد فلا يلتفت إليه، لما يلزم منه القول بعدم إيمان أكثر المسلمين، وكذا من غلا أيضاً فقال: لا يجوز النظر في الأدلة، لما يلزم منه من أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر) (¬5)، ورد الإمام الشوكاني على ما حكاه أبو منصور البغدادي عن أئمة الحديث بأنهم يفسقون تارك الاستدلال، فقال: (فيالله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود وترجف عند سماعها الأفئدة، فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة، وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه، وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد، ولا قاربوها – الإيمان الجملي، ولم يكلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته، وما حكاه الأستاذ أبو منصور عن أئمة الحديث من أنه مؤمن وإن من فسق فلا يصح التفسيق عنهم بوجه من الوجوه بل مذهب سابقهم ولاحقهم الاكتفاء بالإيمان الجملي، وهو الذي كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (¬6). ¬

(¬1) انظر ((البحر المحيط)) (6/ 278)، ((إرشاد الفحول)) (266)، ((الأحكام)) للآمدي (4/ 223)، وغيرها. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 202). (¬3) ((الأحكام)) للآمدي (4/ 225)، أما القول بأن المطلوب في العقائد اليقين وفي الفروع الظن فهذا من بدع المتكلمين المشهورة، وبسببها قالوا: لا يحتج بحديث الآحاد في أمور العقيدة، ولا يصح إيمان المقلد وغير ذلك من البدع. (¬4) ((البحر المحيط)) (6/ 279)، وانظر ((إرشاد الفحول)) (ص: 267). (¬5) ((فتح الباري)) (13/ 354). (¬6) ((إرشاد الفحول)) (ص: 266).

أما اشتراط بعضهم النظر، واستدلالهم بالآيات الواردة في ذلك (فلا حجة فيها لأن من لم يشترط النظر لم ينكر أصل النظر، وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلامية إذا لا يلزم من الترغيب في النظر جعله شرطاً) (¬1). الخلاصة والترجيح: بعرض الرأيين ندرك بطلان اشتراط النظر والاستدلال، أو إيجابه على الجميع، لضعف الاستدلال على ذلك، ولقيامه على أصل فاسد، وهو التفريق بين الأصول والفروع، وقولهم: إن الأصول يجب فيها اليقين والعلم فلا يجوز فيها التقليد، والفروع يكفي فيها الظن، ... إذا يجوز التقليد في العقائد للعامي الذي لا يستطيع النظر والاستدلال، كجواز ذلك في الأحكام ولا فرق. أما من يستطيع الاستدلال فلا يجوز له التقليد في العقائد أو الأحكام، للأدلة الواردة في ذم التقليد والمقلدين (¬2). لكن لا يشترط النظر والاستدلال لصحة الإيمان والله أعلم. ... حكم من وقع في الكفر تقليداً، هل يعذر بذلك؟ الذي يظهر من كلام الأئمة أن العذر بالتقليد من جنس العذر بالتأول والجهل، باعتبار المقلد جاهلاً لا يفهم الدليل أو الحجة، فإذا عذر من وقع في الكفر متأوّلاً رغم علمه واجتهاده، فعذر من يقلده من العوام الجهّال من باب أولى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعدما تكلم عن كفر وضلال أهل الحلول والاتحاد من غلاة المتصوفة كابن سبعين وابن عربي وابن الفارض وأمثالهم: (فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب، ووافقهم عليه، كان أظهر كفراً، وإلحاداً، وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلاماً وإيماناً، ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقراراً لهؤلاء وإحساناً للظن بهم، وتسليماً لهم بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافراً ملحد، أو جاهل ضال) (¬3). فنلاحظ من كلام شيخ الإسلام إعذاره للجهال الذين يحسنون الظن بكلام هؤلاء الغلاة ولا يفهمونه حيث قال: إن فيهم إسلاماً وإيماناً ومتابعة للكتاب والسنة رغم ضلالهم وجهلهم، وفي موضع آخر يشير رحمه الله إلى موقف الإمام أحمد رحمه الله من ولاة الأمر الذين قالوا بقول الجهمية، وامتحنوا وعاقبوا من خالفهم (ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم (¬4) يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا، وقلدوا من قال لهم ذلك ... ) (¬5) فالإمام أحمد رحمه الله عذر هؤلاء لأنهم مقلدون لمن يظنونهم من أهل العلم، وقد استدل شيخ الإسلام بهذا الموقف من إمام أهل السنة من بعض أتباع الجهمية على العذر بالتأويل والجهل كما سبق مما قد يدل على أن العذر بالتقليد عنده من جنس العذر بالجهل والخطأ والله أعلم. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (13/ 354). (¬2) إلا إذا عجز عن الاستدلال إما لتكافؤ الأدلة، أو لضيق الوقت عن الاجتهاد ونحو ذلك، انظر ((الفتاوى)) (20/ 204). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 367). (¬4) في الأصل (لمن)، والصحيح ما أثبتناه. (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 349).

وفي موضع ثالث يشير إلى عذر بعض من يقلد الشيوخ والعلماء فيما هو من جنس الشرك، قال رحمه الله بعد كلام حول هذا الموضوع: ( .. وإن كانت من جنس الشرك، فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به، وهذا لا يكون مجتهداً، لأن المجتهد لابد أن يتبع دليلاً شرعياً، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء, والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع، أو لحديث كذب سمعوه، فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون .. ) (¬1). وقال أيضاً: (وأما المنتسبون إلى الشيخ يونس، فكثير منهم كافر بالله ورسوله، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، بل لهم من الكلام في سب الله ورسوله والقرآن والإسلام ما يعرفه من عرفهم. أما من كان فيهم من عامتهم لا يعرف أسرارهم وحقائقهم، فهذا يكون معه إسلام عامة المسلمين الذي استفاده من سائر المسلمين لا منهم) (¬2). ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان أقسام أهل البدع فيقول: (وأما أهل البدع الموافقون أهل الإسلام، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم، فهؤلاء أقسام: أحدهما: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر ولا يفسق، ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 98 - 99]. القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورئاسته ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته. القسم الثالث: أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى، ويتركه تقليداً أو تعصباً، أو بغضاً ومعاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل) (¬3). مما سبق يتبين لنا إعذار الأئمة لمن وقع في الكفر تقليداً إن كان جاهلاً لا بصيرة له ولا فقه، أما إن كان قادراً على فهم الحجة وفرط في طلبها فإنه يأثم، ولكنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة والله أعلم. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 2/ 39 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 32، 33). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 106 – 107)، وانظر (2/ 131 – 133، 378). (¬3) ((الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)) لابن القيم – رحمه الله – (ص: 174، 175) وانظر نفس التفصيل في ((النونية شرح ابن عيسى)) (2/ 241، 244).

المبحث السادس: العجز

المبحث السادس: العجز إن الشريعة الإسلامية سهلة ميسرة، ومحكمة شاملة لجميع نواحي الحياة، ومناسبة لجميع أحوال العباد حسب طاقاتهم وقدراتهم، وأحكامها مختلفة حسب حال العبد من السعة والرخاء، والعبد لا يكلف ما لا يطيق ولا يقدر على أدائه. قال تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:276] (¬1). اتفق أئمة أهل السنة والجماعة على أن العجز عن أداء ما شرع الله تعالى أو عن أداء بعضه؛ يعتبر من موانع التكفير؛ إذا كان سببه انتفاء الإرادة وعدم الاختيار والرضا والقصد بذلك، واتقى صاحبه الله ما استطاع؛ فإنه معذور غير مؤاخذ على ما تركه. كالذين بلغتهم دعوة الإسلام وهم في دار الكفر وأسلموا ولكن لم يتمكنوا من الهجرة إلى دار الإسلام، ولا الالتزام بجميع شرائعه؛ لأنهم ممنوعون من إظهار دين الإسلام، أو ليس عندهم من يعلمهم جميع شرائع الدين؛ فهؤلاء معذرون، وإن ماتوا على حالهم فهم من أهل الجنة إن شاء الله. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص265 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 203).

المبحث السابع: التقية

المطلب الأول: تعريف التقية عرفها حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما فيما روي عنه أنه قال: التقاة: التكلم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان (¬1) وقال أبو العالية: التقية باللسان وليس بالعمل (¬2). وقال ابن حجر العسقلاني: التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير (¬3). الولاء والبراء في الإسلام لسعيد بن علي بن وهف القحطاني – ص372 التقية من الاتقاء، وهي الاستخفاء بالإسلام لعذر يبيح ذلك، سواء كان ذلك بكتمان الدين وعدم إظهاره، أو بإظهار ما يخالف الإيمان من كفر أو معصية. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني- ص: 372 ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (6/ 314 - 315)، والحاكم (2/ 319)، والبيهقي (8/ 209). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. (¬2) ((تفسير الطبري)): (6/ 315). (¬3) ((فتح الباري)) (12/ 314).

المطلب الثاني: العذر بالتقية

المطلب الثاني: العذر بالتقية هي حالة استثنائية لا تباح إلا لموجب، إذ الأصل في المسلم أن يتطابق ظاهره وباطنه، بحيث يكون ظاهره كباطنه، ولهذا كان التظاهر بكفر أو معصية من غير عذر نفاقاً وخداعاً لا يصح بحال في غير التقية إلا في حال واحدة هي أن يكون ذلك حيلة لمصلحة المسلمين في الحرب خاصة، دون غيرها لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الحرب خدعة)) (¬1). ومثال ذلك ما فعله نعيم بن مسعود رضي الله عنه، حين أسلم أثناء حرب الأحزاب، ولم يكن أحد يعلم بإسلامه. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله. إني أسلمت فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)). وذهب إلى اليهود ومشركي قريش، وأوهمهم بما فرق الله به بينهم، وكان مع ذلك يتظاهر لكل منهم بالنصح، وأنه لم يسلم، فكتم إسلامه لأجل هذه المصلحة (¬2). وأما الخدعة بإظهار الكفر فمثاله ما حصل من محمد بن مسلمة وصحبه، حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى الله ورسوله. فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئاً. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا،، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضاً والله لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه)) الحديث (¬3). فهذا محمد بن مسلمة رضي الله عنه يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول شيئاً، فيأذن له صلى الله عليه وسلم، فيتظاهر أنه منافق، وأنه لم يسلم رغبة في الإسلام، حتى يستدرج كعب بن الأشرف، وكان ذلك حين خرج له في الليل فقتله محمد بن مسلمة وأصحابه. وهذا مما يدخل في عموم الإعذار بمثل هذا في الحرب، ولهذا بوب الإمام البخاري رحمه الله لهذه القصة بقوله: (باب الكذب في الحرب). وبوب لهم الإمام أبي داود بقوله: (باب: العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم). ومن كل ما سبق يعلم أن التقية إذا لم تكن لعذر تباح له، ولم تكن في حرب فإنها لا تكون إلاّ نفاقاً. فإن كان التظاهر للكفار بما هو كفر كان كفراً ونفاقاً أكبر، وإن كان بمعصية لم يكن ذلك من النفاق المخرج من الملة. بقي أن يعلم بعد ذلك أحكام التقية على التفصيل، والفرق بين التقية بكتمان الدين، والتقية بإظهار الكفر، ومناط الإعذار في ذلك. أولاً ـ التقية بكتمان الدين: الأصل في المسلم القيام بدينه وإظهاره وعدم الاختفاء به، وهذا واجب عليه. لكنه قد يعيش في مجتمع لا يستطيع فيه ذلك، وإلاّ أوذي وفتن عن دينه، وهنا تجب عليه الهجرة إلى بلد يستطيع فيه إظهار دينه. وهذا الوجوب هو مناط إيجاب الهجرة على من فتن في دينه ولم يستطع إظهاره. ولا علاقة لهذا بكون الدار كفر أو لا، فمتى تحقق الأمن للمسلم واستطاع إظهار دينه وموالاة المسلمين والبراءة من الكافرين لم تكن الهجرة واجبة عليه. ¬

(¬1) رواه البخاري (3030)، ومسلم (1739). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. (¬2) انظر ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/ 273). (¬3) رواه البخاري (4037). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها، إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم، العباس بن عبد المطلب وغيره إذا لم يخافوا الفتنة، وكان يأمر جيوشه أن يقولون لمن أسلم: ((إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين، وإن أقمتم فأنتم كأعراب))، وليس يخيرهم إلاّ فيما يحل لهم) (¬1). لكن ليس كل أحد يفتن في دينه يستطيع الهجرة فما الحكم؟ إن الواجب على المسلم أن يظهر دينه بقدر استطاعته، فإن خاف الفتنة ولم يستطع الهجرة جاز له كتمان دينه وعدم إظهاره لئلا يفتن. لكن مع الاستمساك به في الخفاء، وعدم مشايعة الكفار على كفرهم، بل ولا على معاصيهم ابتداءً من غير إكراه يبيح ذلك. ومن هذا يعلم أن إنكار من كان حاله كذلك لا يمكن في الظاهر باليد ولا باللسان، فيكفيه حينئذ الإنكار بالقلب الذي هو كره الكفر وأهله، وعدم الرضى عنهم وعن كفرهم، لأنه لا يمكنه إلاّ ذلك. وهذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬2). وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ((فإن لم يستطع فبقلبه)) يقول الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: (معناه فليكره بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير، لكنه هو الذي في وسعه وفي هذا الحديث دليل أن من خاف من القتل أو الضرب سقط عنه التغيير، وهو مذهب المحققين سلفاً وخلفاً، وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك) (¬3). وأما من استطاع إنكار المنكر في الظاهر فلم يفعل فإنه يأثم لتركه الواجب عليه في ذلك. لكنه لا يكفر بمجرد عدم إنكاره مع قدرته حتى يتحقق منه ما يستوجب الكفر في الظاهر من قول أو فعل. وقد شذ عن هذه القاعدة من يرون أن الأصل في الناس اليوم هو الكفر. فلم يكفهم اشتراط التبين لإثبات وصف الإسلام مع وجود ما يدل عليه من الإقرار أو ما يقوم مقامه بدعوى أن الناس يجهلون مفهوم الشهادتين. حتى حكموا بأن عدم الاعتراض الظاهر على من يحكمون غير الشريعة من القوانين الوضعية دليل كاف على الرضى في الباطن. وأنهم بذلك قد شايعوا حكامهم وتابعوهم على عدم تحكيم الشريعة. وأن ذلك هو الأصل فيهم، حتى يظهر منهم ما يدل على خلافه بعد التبين. ونتيجة هذا القول أن من لم يتبين إسلامه ولم يهاجر في مثل هذه الظروف يكون كافراً، لا ولاية بينه وبين المسلمين. ويعتمدون في ذلك على ما يفهمونه من آيات الأنفال، في نفي الولاية بين المسلمين المهاجرين، وبين من أسلم بمكة ولم يهاجر. والآيات هي قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال: 72]. ¬

(¬1) ((الأم)) (4/ 169 - 170) للإمام الشافعي, وانظر: ((السنن الكبرى)) (9/ 15) للبيهقي. (¬2) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 105) لابن دقيق العيد.

إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]. والملاحظ أن الله قد ذكر مع المؤمنين من المهاجرين والأنصار طائفة ثالثة، هم المؤمنون الذين لم يهاجروا. وقد حكم الله تعالى أن لهذه الطائفة الثالثة حق النصرة في الدين، إلاّ على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق. لكن مع ذلك فليس لهم ولاية حتى يهاجروا. ومعلوم علماً قطعياً أن الولاية المنفية عنهم ليست الولاية التي هي مقتضى الأخوة الإيمانية، لتحقيق وصف الإيمان لهم، كما حكم الله به لهم. وليست أيضاً ولاية النصرة، مع أن الله قد أمر بنصرهم في الدين إذا لم يكن ثم ميثاق بين من استنصروا بالمسلمين عليهم وبين المسلمين. فما هي الولاية المنفية عنهم في الآية إذن. لقد حصل اللبس في فهم المقصود بفهم الولاية هنا قديماً، كما وقع ذلك حديثاً، ونكتفي هنا ببيان الإمام أحمد رحمه الله لذلك حيث يقول: (وأما قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]. وقال في آية أخرى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ [الأنفال: 72]، وكان عند من لا يعرف معناه ينقض بعضه بعضاً. أما قوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ [الأنفال:72] يعني من الميراث، وذلك أن الله حكم على المؤمنين لما هاجروا إلى المدينة أن لا يتوارثون إلاّ بالهجرة، فإن مات رجل بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم وله أولياء بمكة لم يهاجروا كانوا لا يتوارثون. وكذا إن مات رجل بمكة وله ولي مهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرثه المهاجر، فذلك قوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ [الأنفال:72] من الميراث (حتى يهاجروا). فلما كثر المهاجرون رد ذلك الميراث إلى الأولياء، هاجروا أم لم يهاجروا، وذلك قوله: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) [الأحزاب:6]. وأما قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71] يعني في الدين، والمؤمن يتولى المؤمن في دينه. فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة) (¬1). ... ولأجل ما تقدم، فإن الصحابة قد اختلفوا في شأن من أسلم بمكة وبقي فيها ولم يهاجر، مع قدرتهم على ذلك، ثم أكرهوا على القتال مع الكفار يوم بدر. فمن الصحابة من تأسف لقتلهم، ومنهم من رأى أنهم يقتلون لأجل تفريطهم في عدم الهجرة، حتى أكرهوا على القتال مع المشركين. ولو كانوا عندهم كفاراً لم يتأسفوا عليهم. يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (إن ناساً من المسلمين لم يهاجروا كراهة مفارقة الأهل والوطن والأقارب فلما خرجت قريش إلى بدر خرجوا معهم كرهاً، فقتل بعضهم بالرمي، فلما علم الصحابة أن فلاناً قتل وفلاناً قتل تأسفوا على ذلك، وقالوا: قتلنا إخواننا. فأنزل الله تعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ إلى قوله: وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 97 - 100]. ¬

(¬1) ((الرد على الجهمية، ضمن عقائد السلف)) (ص: 62).

فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة، وما أنزل الله فيها من الآيات، فإن أولئك لو تكلموا الكفر، وفعلوا كفراً ظاهراً يرضون به قومهم لم يتأسف الصحابة على قتلهم، لأن الله بين لهم وهم بمكة لما عذبوا قوله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106]. فلو كانوا سمعوا عنهم كلاماً أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه ما كانوا يقولون: قتلنا إخواننا) (¬1). ثانياً ـ التقية بإظهار الكفر: لا يجوز بحال إظهار الكفر ابتداء من غير إكراه بدعوى التقية، بل لا يجوز ذلك بما هو معصية. ولهذا لما فعل حاطب بن أبى بلتعة رضي الله عنه ما فعل، من مكاتبة كفار قريش بخبر مسير الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه لفتح مكة لم يعذره الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إن بعض الصحابة كعمر رضي الله عنه قال: إنه قد نافق. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم تبين حاله، لاحتمال أن يكون فعله كفراً وردة عن الإسلام، أو أن يكون معصية لا تخرجه من الملة. فلما تبين للرسول صلى الله عليه وسلم حاله، وأنه إنما كاتب قريشاً مصانعة ومداهنة لهم، وتقية لأجل حفظ ماله وأهله بمكة، لا مظاهرة للمشركين ولا موالاة لهم على دينهم لم يكفره، وكانت تلك المعصية منه مغفورة بحسنته العظمى يوم بدر. فإذا كان هذا في معصية ولم يعذر حاطب رضي الله عنه، بل كان آثماً بذلك فكيف بالكفر؟. فالتظاهر بكفر أو معصية من دون عذر يبيح ذلك يوجب المؤاخذة بحسب ما تحقق في الظاهر من كفر أو معصية. وهذا الاشتراط في التقية هو حقيقة الفرق بين منهج أهل السنة في التقية ومنهج الشيعة في ذلك فإن التقية عندهم هي الأصل، فتباح من دون إكراه موجب، بل لمجرد احتمال الضرر ولو لم يتحقق فعلا وهذا في الحقيقة نفاق وليس من التقية في شيء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان هذه المسألة: (التقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي، فإن هذا نفاق، ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬2). فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، لكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه. مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله، بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون. وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه، وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر، فهذا لم يبحه الله إلا لمن أكره، بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر، والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره. والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين، لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان) (¬3). ومن هنا نعلم الفرق بين المناط في الإعذار بكتمان الدين، وأنه العجز عن إظهاره ولو لم يكن إكراه. وأما إظهار الكفر والمعصية فلابد لإباحة التقية فيه الإكراه. وذلك لأن القيام بتحقيق المطلوب مشروط بالاستطاعة، وأما ترك المنهي فالأصل فيه الترك، وليس مما تشترط فيه الاستطاعة، وإنما يكون اشتراط الاستطاعة عند الإكراه على المخالفة بفعل المنهي عنه. ¬

(¬1) ((مختصر سيرة الرسول، ضمن المجموع)) (ص: 33، 34). (¬2) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) ((منهاج السنة النبوية)) شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 424).

ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (( .. وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (¬1) فعمم الأمر بالامتناع عن كل منهي عنه، وقيد فعل المأمور بالاستطاعة. وعلى هذا الأصل أعني اشتراط الإكراه في التظاهر بالكفر – أدلة كثيرة، منها وهو أوضحها وأظهرها قول الله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل:106]. فلم يعذر الله أحداً في الكفر الظاهر بغير الإكراه. فمن تظاهر بالكفر ولم يكن مكرها فإنه لا يكون إلا كافراً، لانشراح صدره بالكفر، لتلازم الظاهر والباطن. فلا عذر لأحد في ذلك بغير الإكراه مطلقا، سواء كان كفره محبة لوطنه أو لأهله وعشيرته أو توقعه أذى الكفار ونحو ذلك. يقول الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بيان دلالة هذه الآية على هذا الأصل: (لم يعذر الله إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره. فالآية تدل على هذا من وجهين: الأول: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد. والثانى: قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:107] , فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو جهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) (¬2). ولهذا فإنه لما كان بمكة قوم قد نطقوا بالشهادتين، لكنهم ظاهروا المشركين من غير إكراه، لم يعذرهم الله تعالى، بل حكم بنفاقهم وكفرهم، وبين ذلك للمسلمين فقال تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا [النساء: 88 - 89]. ¬

(¬1) رواه البخاري (7288). ومسلم (1337). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) ((كشف الشبهات)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ضمن مجموعة مؤلفاته – ((العقيدة والآداب الإسلامية)) (ص: 180).

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: (قال العوفي عن ابن عباس نزلت في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس. وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت طائفة: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله أو كما قالوا، أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم، عن شيء فنزلت: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء: 88]. رواه ابن أبي حاتم، وقد روى عن أبي سلمة بن عبدالرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا) (¬1). فهؤلاء لما ظاهروا المشركين ووالوهم على دينهم لم ينفعهم ما تظاهروا به من الإسلام لأن ما فعلوه لم يكن تقية أكرهوا عليها، وإنما كان اختيارا منهم لذلك، فلم يكن لهم عذر، وعلى هذا الأصل تفهم آية التقية، وهي قول الله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ. [آل عمران:28] فمعنى الآية هو: أن مظاهرة المشركين وموالاتهم على دينهم كفر مطلقا، سواء كان ذلك بقول أو فعل إلا أن يكون ذلك تقية. والتقية في ذلك لا تكون بمجرد الخوف وتوقع الضرر، وإنما تكون بحصول الإكراه حقيقة. فهنا فرق بين التقية بكتمان الدين، والذي يكفي في الإعذار فيه مجرد خوف الضرر، لكن إظهار الكفر لابد فيه من تحقق الإكراه، لا مجرد الخوف والتوقع. ولهذا نهى الله تعالى عن موالاة أهل الكتاب، وبين أن موالاتهم ولو مع الخوف كفر، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52] فلم يجعل الله مجرد الخشية من أن تكون الدائرة والغلبة للكافرين عذرا في موالاتهم، بل جعل من تولاهم معتذرا بذلك منهم، ثم بين أنه لا يفعل ذلك إلا من كان في قلبه مرض النفاق. ومثل هؤلاء في عصرنا من يحكمون القوانين الوضعية، ويرفضون الحكم بالشريعة، ويعتذرون بالخوف من الكافرين لو التزموا بالشريعة، ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، ويسوفون في أمر تحكيم الشريعة، ولا يفرقون بين تحكيم الشريعة والعجز عن تطبيق بعض أحكامها. والحقيقة أن ذلك لا يدخل في حكم الإكراه، بل ولا في أحكام الضرورة، فإنه لا مانع ابتداء من إعلان تحكيم الشريعة إلا الخوف وموالاة الكافرين. وإنما يكون المانع عند تطبيق بعض ما يتعلق بتنفيذ الحكم بالشريعة على التفصيل بعد إقرارها ابتداء، بحيث تكون هي أصل التشريع، وهذا مما يدخل تحت قاعدة التكليف على قدر الاستطاعة. فمن عجز عن تطبيق بعض أحكام الشريعة بعد التسليم لها ورفض ما سواها من القوانين الجاهلية كان معذوراً. ولابد من التفريق بين هاتين الحالتين. ومما يدل على أن موالاة الكافرين خوفاً منهم أو مشحة بالوطن كفر ما لم يكن ذلك عن إكراه، ما ذكره الله عن نبيه شعيب عليه السلام، وتهديد قومه له بإخراجه من أرضهم إن لم يعد في ملتهم، ويوافقهم على ما هم عليه. ولكن نبي الله شعيبا عليه السلام قال كما حكى الله عنه: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89]. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني- ص 267 ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 533). وانظر في ترجيح سبب النزول المذكور: ((تفسير الطبري)) (5/ 194 - 195).

الباب الثاني: نواقض الإيمان في باب التوحيد

الباب الثاني: نواقض الإيمان في باب التوحيد • المبحث الأول: ما يناقض قول القلب. • المبحث الثاني: ما يناقض عمل القلب. • المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالاعتقاد.

المبحث الأول: ما يناقض قول القلب

المبحث الأول: ما يناقض قول القلب • المطلب الأول: الشرك في الربوبية. • المطلب الثاني: الشرك في الألوهية. • المطلب الثالث: إنكار اسم أو صفة لله تعالى. • المطلب الرابع: الإعراض عن دين الله. • المطلب الخامس: الشك في حكم من أحكام الله أو خبر من أخباره.

المطلب الأول: الشرك في الربوبية

المطلب الأول: الشرك في الربوبية كل اعتقاد، أو قول، أو فعل؛ فيه إنكار لخصائص ربوبية الله تعالى، أو بعضها؛ كفر وردة. أو ادعاء شيء من هذه الخصائص؛ كادعاء الربوبية، كما قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24.]. أو ادعاء الملك، أو الرزق، أو التصرف من دون الله تعالى، وغيرها من الأمور التي هي من أفعال الله تعالى وخصائصه، وكذلك يكفر من يصدق بهذه الدعوى، ومن الأمثلة على ذلك: الاعتقاد بأن لله تعالى شريكاً في الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير. الاعتقاد بأن الأولياء لهم تصرف في الكون مع الله تعالى. اعتقاد تأثير وتصرف غير الله تعالى؛ من الأبراج والكواكب ومساراتها ومواقعها على حياة الناس. الاعتقاد بأن المخلوق يمكنه أن يرزق المخلوق، أو يمنع عنه الرزق، أو يمكنه أن يضر، أو ينفع من دون الله تعالى. الاعتقاد بأن أحداً دون الله تعالى يعلم الغيب. اعتقاد حلول الله تعالى في خلقه، أو أن الله في كل مكان. الاعتقاد بأن الشفاء من الطبيب أو الدواء، أو اعتقاد التوفيق في حياة العبد من ذكائه، أو جهده واجتهاده. الاعتقاد بأن للمخلوق حقًّا في سن القوانين وتشريعها، وهي تلك النظم التي تحكم في أموال الناس وأعراضهم. وغيرها من الاعتقادات التي تناقض الإيمان وتبطله. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري- ص169 ومنه أيضاً أن يوصف أحد من الخلق بأي صفة من صفات الله عز وجل الذاتية أو الفعلية المختصة به كالخلق أو الرزق أو علم الغيب أو التصرف في الكون، حتى مع إثبات هذه الصفات لله عز وجل. وهذا الشرك يكثر لدى بعض الفرق المنحرفة كغلاة الصوفية والرافضة والباطنية عموماً، حيث يعتقد الرافضة- مثلاً- في أئمتهم أنهم يعلمون الغيب، وتخضع لهم ذرات الكون ونحو ذلك، وكذلك يعتقد الباطنية والصوفية في أوليائهم نحو ذلك، فعامة شرك الربوبية عند هؤلاء يقع في العلم والتصرف، أما في الخلق، والرزق فيقر به عامة الصوفية، وكذا المشركون الأوائل يعتقدون بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق، لكنهم يدعون ويستغيثون بالأولياء من دون الله لزعمهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، لذلك اقتصر مفهومهم للشرك باعتقاد أن الأولياء يخلقون أو يرزقون من دون الله، أو باعتقاد تصرفهم في الخلق استقلالاً. وبعد تقرير هذا الأصل ولكثرة أنواع الشرك في الربوبية، فقد رأيت أن أختار مثالين منهما وهما الشرك في العلم والشرك في التصرف ومن خلال نقل بعض أقوال الفرق يتضح انحرافها في هذا الأصل، ثم نرد عليهم ونبين المنهج الحق في ذلك: أولاً: الشرك في العلم أ- نُقول عن الفرق فيها نقض لتوحيد الربوبية الأقوال كثيرة ومشتهرة وسأقتصر على الأقوال الصريحة منها:

فالباطنية زعموا أن أئمتهم وأولياءهم يعلمون ما كان وما يكون، ومن النقولات في ذلك ما ذكره صاحب (تأويل الدعائم) من أنه (جاء عن أولياء الله من الأخبار عما كان ويكون من أمر العباد) (¬1) وجاء في كتاب (المجالس المؤيدية) (أن الأئمة يعلمون من أمر المبدأ والمعاد ما حجبه الله عن كافة العباد) (¬2)، وروى النعمان القاضي عن المعز لدين الله أنه قال: ( ... أفمن أودعه الله علم ما يكون يجهل فضله ... فكيف بمن علمه الله علم ما يكون مما لم يكن بعد) (¬3)، وقال المعز: (إن عندنا علم ما يطلب، كقول جده علي: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي خلق الحبة وبرأ النسمة لا تسألوني عن علم ما كان وما يكون، ومن علم ما لا تعلمون إلا أخبرتكم به ... ) (¬4)، فهذه النصوص- كما نلاحظ- فيها دعوى أن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون من أمر العباد وأمر الجن أو المعاد. ومثل ذلك ما نقل عن الرافضة حيث ينسب الكليني إلى جعفر الصادق قوله: (ورب الكعبة ورب البنية لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله وراثة) (¬5). وينسبون إلى الحسن بن علي رضي الله عنه قوله: (إنا نعلم المكنون والمخزون والمكتوم الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غير محمد وذريته) (¬6). ولا حاجة للإشارة إلى كذبهم على الحسن- رضي الله عنه- أو جعفر الصادق- رحمه الله- وإنما المقصود أن الرافضة يعتقدون فيهم هذا، ولهذا نقلوا هذه الأقوال عنهم ونسبوها إليهم. وهذه الفكرة موجودة لدى المتصوفة فبينهم وبين الرافضة أوجه شبه كثيرة من أهمها تقديس الأئمة والأولياء. فهذا عبد الكريم الجيلي صاحب كتاب (الإنسان الكامل) يزعم أنه كشف عن حقائق الأمور على ما هي عليه من الأزل إلى الأبد وأنه رأى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة ... إلخ (¬7). وهذا الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى) ينقل عن شيخه الخواص أنه كان يعلم ما في اللوح المحفوظ ساعة بساعة (¬8)، ومما قاله المتصوفة: ( ... وينبغي على المريد أن يعتقد في شيخه أنه يرى أحواله كلها كما يرى الأشياء في الزجاجة) (¬9). ويدخل في ذلك الكهانة والعرافة ونحوها، وكذلك إتيان الكهنة والعرافين وتصديقهم بما يقولون. ب- اعتقاد أهل السنة في ذلك وحكم من ادعى علم الغيب اعتقاد أهل السنة في ذلك: ¬

(¬1) ((تأويل الدعائم)) للقاضي النعمان (1/ 145). (¬2) ((المجالس المؤيدية)) لهبة الله الشيرازي (441) نقلاً عن ((الإسماعيلية))، لإحسان إلهي ظهير (376). (¬3) ((المجالس والمسايرات)) للقاضي النعمان (404). (¬4) ((المجالس والمسايرات)) للقاضي النعمان (ص: 404)، وقد كذبوا على علي رضي الله عنه فيما نقلوا عنه. (¬5) ((الكافي)) للكليني (1/ 260 - 261). (¬6) ((دلائل الإمامة)) أبو جعفر الطبري الشيعي (ص: 67). (¬7) ((الإنسان الكامل)) (2/ 97). (¬8) راجع ذلك وأمثاله في ((الفكر الصوفي)) (ص: 179 - 181). لعبد الرحمن عبد الخالق (¬9) ((رماح حزب الرحيم في نحور حزب الرجيم)) (1/ 28) نقلاً عن ((التيجانية)) (ص: 184)، د. علي الدخيل الله, وانظر نصوصاً أخرى في نفس الموضع.

يؤمن أهل السنة بأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب، دون من سواه من ملك مقرب أو نبي مرسل، وأنه يطلع من يرتضيه من رسله على بعض الغيب متى شاء وإذا شاء وبذلك جاءت الآيات والأحاديث، قال سبحانه: وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123]، وقال تعالى: وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ [يونس: 20]، وقال عز وجل: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف: 26]، وقال سبحانه: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران: 179] وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام: 50] يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: (قل لهؤلاء المنكرين نبوتك: لست أقول لكم إني الرب الذي له خزائن السموات والأرض، فأعلم غيوب الأشياء الخفية التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء، فتكذبوني فيما أقول من ذلك، لأنه لا ينبغي أن يكون رباً إلا من له ملك كل شيء، وبيده كل شيء، ومن لا يخفى عليه خافية، وذلك لا إله غيره) (¬1). ومن الآيات في هذا المعنى قوله عز وجل: قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]. يقول الإمام القرطبي في تفسيرها: (فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه وتعالى شيئاً عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك، ألا ترى إلى قوله تعالى: قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]، وقوله: لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف: 187] , فكان هذا كله مما استأثر الله بعلمه لا يشركه فيه غيره) (¬2). ومن أصرح الآيات دلالة ما جاء في سورة الأنعام، قال تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 59]، وتفسيرها في سورة لقمان، قال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره آية لقمان: (هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى أو شقيًّا أو سعيداً علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك، وهذه (أي الآية) شبيهة بقوله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام:59] , وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب) (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (11/ 371) تحقيق أحمد شاكر. (¬2) ((تفسير القرطبي)) (4/ 17). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 453).

ثم ساق الحافظ عدة أحاديث في هذا المعنى، ومنها ما رواه البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)) (¬1). وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( ... ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: لا يعلم الغيب إلا الله) (¬2). فالآيات والأحاديث المذكورة وغيرها مما لم نذكره قطعية الدلالة على اختصاصه عز وجل بعلم الغيب دون سواه من الأنبياء والرسل أو الملائكة أو الأولياء. 2 - تفسير قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:29] مرَّ معنا نصوص صريحة بأن الرسل وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلمون الغيب مثل قوله تعالى: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام: 5] وسنزيد هذه المسألة إيضاحاً قبل أن نتكلم عن الاستثناء المذكور في الآية، قال تعالى: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]. (أي لو كنت أعلم جنس الغيب، لتعرضت لما فيه الخير، فجلبته إلى نفسي، وتوقيت ما فيه السوء، حتى لا يمسني، ولكني عبد لا أدري ما عند ربي، ولا ما قضاه في، وقدره لي، فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه؟) (¬3). وقال- عز وجل-: وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [هود:31] وقال سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]. ففي هذه الآية دليل على نفي علم الأنبياء بالغيب، وإذا لم يعلم الرسل والأنبياء ذلك فمن ادعاه لنفسه أو لغيره فهو مضاد ومكذب بما جاء في القرآن. وقال سبحانه في حكاية المحاورة بين موسى عليه السلام وفرعون: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:51 - 52] فأضاف موسى عليه السلام هذا العلم إلى الله سبحانه، ونفاه عن نفسه فدل على أن الأنبياء لا يعلمون منه شيئاً إلا ما يخبرهم به سبحانه (¬4). وقال سبحانه: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الأحقاف: 9] لقد قص علينا- سبحانه وتعالى- من أحوال الأنبياء والرسل وأخبارهم ما يؤكد هذا المعنى ويرسخه، فها هو إبراهيم عليه السلام لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة، وجاءته الملائكة في صورة بشر فلم يعرفهم فذبح لهم عجلاً وقربه إليهم، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى قوم لوط، وأما لوط فإنه ساءته رؤية الملائكة ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن أعلموه أنهم جاءوا لإنجائه وإنجاء أهله (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (7379). (¬2) رواه البخاري (7380). (¬3) ((الدين الخالص)) لصديق خان (1/ 434). (¬4) انظر ((الدين الخالص)) لصديق خان (1/ 434). (¬5) انظر ((الفكر الصوفي)) (ص: 144) لعبد الرحمن عبد الخالق.

وها هو المصطفى صلى الله عليه وسلم أصابه همٌّ عظيم وقلق وانشغل باله فيما قذف المنافقون عائشة رضي الله عنها، ومكث أياماً يستشير أصحابه في الأمر، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أنزل الله عز وجل براءتها وكذب المنافقين (¬1)، فكل هذه الآيات والأخبار تدل دلالة قطعية على أن الأنبياء لا يعلمون الغيب فإذا كان الأنبياء الأصفياء المقربون لا يعلمون ذلك، فغيرهم من باب أولى. أما الاستثناء الوارد في قوله تعالى: إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن:29] , فمعناه: (أي من اصطفاه من الرسل، أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه، ليكون ذلك دالًّا على نبوته) (¬2). وقال الإمام ابن العربي المالكي: (وعند الله تعالى علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه، فلا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله بدليل قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 179] وقال الطيبي: ( .. فلا يظهر إظهاراً تامًّا وكشافاً جليًّا إلا لرسول يوحى إليه مع ملك وحفظة، ولذلك قال: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدً [الجن: 27] , وتعليله بقوله: لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ [الجن: 28] , وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات، وليسوا في ذلك كالأنبياء) (¬3)، وقال الحافظ ابن حجر: (وفي الآية رد على المنجمين، وعلى من يدعي أنه مطلع على ما سيكون من حياة أو موت أو غير ذلك؛ لأنه مكذب للقرآن وهم (أي المنجمين ومن في حكمهم) أبعد شيء من الارتضاء مع سلب صفة الرسولية عنهم) (¬4). إذاً الآية صريحة الدلالة في أن الغيب مختص به ولا سبيل إلى علمه إلا من إخبار الله تعالى لمن يشاء من رسله وأنبيائه. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الله عز وجل عن يوسف عليه السلام، قال تعالى: قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف: 37] وقوله عن عيسى عليه السلام: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 49]. ¬

(¬1) انظر ((الدين الخالص)) (1/ 425) ((الفكر الصوفي)) (ص: 145). (¬2) ((فتح القدير)) (5/ 311)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (19/ 28). (¬3) ((أحكام القرآن)) (2/ 738) لأبي بكر بن العربي. (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 464).

ومن ذلك أيضاً ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من فتوحات إسلامية، وفتن وملاحم وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم، وإخباره عن علامات الساعة، والشهادة لبعض الصحابة بالجنة وأحوال أهل الجنة والنار ... إلخ (¬1). والرسول يخبر أمته بما أعلمه الله تعالى، وقد أورد الشوكاني سؤالاً وأجاب عنه فقال: (إذا تقرر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه، فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته؟ قلت (أي الشوكاني): نعم ولا مانع من ذلك وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة، فمن ذلك ما صح أنه قام مقاماً أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة، وما ترك شيئاً مما يتعلق بالفتن ونحوها حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، كذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث من الفتن بعده، ومنها تحدثه لعمر رضي الله عنه عن الفتن التي تموج كموج البحر، وكذلك ما ثبت من إخباره صلى الله عليه وسلم لأبي ذر بما يحدث له، وإخباره لعلي بن أبي طالب بخبر ذي الثدية، ونحو هذا الكلام مما يكثر تعداده ولو جمع جاء منه مصنف مستقل) (¬2). ثانياً: الشرك في التصرف أ- نماذج من انحراف الفرق في ذلك من المعروف عن الباطنية تأليههم لبعض الأشخاص، فالنصيرية مثلاً يؤلهون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والدروز يؤلهون الحاكم بأمره وهكذا، فالباطنية لديهم غلو ظاهر في هذا الجانب، ولعلنا نقتصر هنا على إبراز معتقد النصيرية في ذلك، وملخصه ما يلي: يعتقدون أن الله يحل في الأشخاص، وأن آخر حلول له كان في علي بن أبي طالب، بل ذهبوا إلى ما يشبه عقيدة التثليث عند النصارى، إذ إنهم ألفوا ثالوثاً يتكون من علي، ومحمد، وسلمان الفارسي، ويزعمون أن العلاقة بين أطراف هذا الثالوث علاقة إيجاد، فعلي خلق محمداً، ومحمد خلق سلمان، وسلمان خلق الأيتام الخمسة ويقصدون بهم: المقداد بن الأسود، وأبا ذر الغفاري، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن رواحة، وقنبر بن كادان مولى علي، وأكدوا لهؤلاء مسئوليات معينة في تصريف الكون، فالمقداد موكل إليه الرعد والصواعق والزلازل، وأبو ذر موكل بالرياح وقبض أرواح البشر، وقنبر موكل بنفخ الأرواح في الأجسام (¬3)، إذاً علي بن أبي طالب وسلمان والأيتام الخمسة يتفردون بتصريف أمور الكون من الخلق والموت والحياة وغيرها، وهذه من أخص صفات الربوبية، ولا غرابة في هذا الاعتقاد عند النصيرية ماداموا يؤلهون البشر، ويعتقدون بالحلول على طريقة النصارى. ¬

(¬1) انظر ((عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي)) (ص: 81) لعثمان جمعة ضميرية. (¬2) ((فتح القدير)) (5/ 312)، بتصرف يسير. (¬3) انظر ((الباكورة السليمانية)) (29، 30) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 147) و ((دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين)) (316 - 318)، د. أحمد جلي.

أيضاً يعتقد الرافضة الإمامية في أئمتهم شيئاً من ذلك، فينسبون إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه من رواية جعفر بن محمد قوله: (انتقل النور إلى غرائزنا ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النجاة ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهدينا تنقطع الحجج .. ) (¬1) وينسبون إليه أيضاً قوله: (ونحن الذين بنا تمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا تمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وتنشر الرحمة ... ) (¬2)، ويقول أحد أئمتهم المعاصرين وهو الخميني: (فإن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية، وخلافه تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون ... ) (¬3). فالكون بذلك خاضع لولايتهم وسيطرتهم وتصرفهم. أما المتصوفة فاعتقادهم بأوليائهم وتصرفهم في الكون وشئون الخلق مشهور معلوم، (فعامتهم يجعلون الولي مساوياً لله عز وجل في جميع صفاته فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون، ولهم تقسيمات للولاية فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم والأقطاب الأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدال السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر الغوث والنجباء وكل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصائر الخلق) (¬4). بل يزعم بعض المتصوفة أن من كرامات أوليائهم أنهم يحيون الموتى، فهذا البدوي تستغيث به امرأة ليحيي ولدها الذي مات (فمد سيدي أحمد البدوي يده إليه ودعا له فأحياه الله تعالى) (¬5)، والبدوي يميت من يتعرض له من الأحياء كما فعل مع معارضيه في العراق، فقد قال لهم: موتوا. فوقعوا على الأرض قتلى، ثم قال: قوموا بإذن من يحيي ويميت الأحياء. فقاموا (¬6). ومما يدخل تحت دعوى المخلوقات بشئون الكون من دون الله ما يدعيه أهل الجاهلية ومن تبعهم من الاعتقاد بأن الأنواء والنجوم والكواكب هي التي تنشئ السحاب وتنزل المطر من دون الله عز وجل. ب- اعتقاد أهل السنة في ذلك، وحكم من أثبت لمخلوق تصرفاً في الكون من دون الله عز وجل من أصول اعتقاد أهل السنة ومما تواترت به النصوص من الكتاب والسنة الاعتقاد الجازم بأن النفع والضر، والخير والشر، والخلق والرزق والموت والحياة والتصرف في الكون وفي شئون العالم لا يكون إلا لله عز وجل، وبقضائه وقدره وأمره لملائكته أو أحد من خلقه بفعل شيء من ذلك. ¬

(¬1) ((مروج الذهب)) للمسعودي (1/ 33). (¬2) انظر ((نشأة الفكر الفلسفي)) (النشار) (2/ 297). (¬3) ((الحكومة الإسلامية)) (52) للخميني. (¬4) ((الفكر الصوفي)) (ص: 38) لعبد الرحمن عبد الخالق، وانظر نصوص عن المتصوفة في ذلك في نفس الكتاب (242،244،269،271). (¬5) ((الجواهر السنية)) (ص: 46) نقلاً عن ((السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة)) (ص: 233) د. أحمد صبحي منصور (¬6) ((السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة)) (ص: 234) د. أحمد صبحي منصور.

قال تعالى موجهاً نبيه صلى الله عليه وسلم: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] وقال عز وجل: قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن: 21]، وقوله: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران: 154]، وقوله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأنفال: 10] وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [يونس: 3]، بل إن الأمر معلوم حتى لمشركي العرب، قال تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس: 31] وقال- عز وجل-: قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ اللهُ [المؤمنون: 88] وقال- عز وجل- عن الكفار: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا [النحل: 73]، وقال تعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106]، وقوله سبحانه: وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107]، وقوله تعالى أيضاً: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر: 2] , وقال سبحانه وتعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ [سبأ: 22]، أي: ليس لهم قدرة على خير ولا شر، ولا على جلب نفع، ولا دفع ضر في أمر من الأمور وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ أي: ليس للآلهة الباطلة في السموات والأرض مشاركة لا بالخلق ولا بالملك ولا بالتصرف) (¬1). ¬

(¬1) ((الدين الخالص)) (2/ 10،11) وانظر آيات أخرى في هذا المعنى في نفس المرجع (2/ 5 - 16) وفي ((توحيد الخلاق)) (ص: 145، 146) و ((فتح المجيد)) (ص: 173 - 179) وغيرها.

والأحاديث الشريفة في هذا المعنى كثيرة ومنها حديث وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث جاء فيها: (( ... واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ... )) الحديث (¬1). وجاء في دعائه صلى الله عليه وسلم قوله: ((اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) (¬2) فهذه كلها نصوص صريحة الدلالة في أن النفع والضر والرزق والخلق والتصرف والنصر كلها من الله عز وجل، فلذلك لا يجوز أن يدعى ويطلب من غيره النفع والضر أو الرزق كما لا يجوز أن يعتقد في غيره أن له تصرفاً في الكون من خلق وغيره، فكل ذلك شرك صريح مناقض لقول القلب. قال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله في الرد على من ادعى ذلك: (هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفاً بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات، .... ) قال: (وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة)، ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات: فيرده قوله تعالى: أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ [النمل: 61]، وقوله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54] , لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الشورى: 49] , ونحوها من الآيات الدالة على أنه المتفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفاً وملكاً وإماتة وخلقاً ... ) (¬3). وقال الشيخ صديق خان في تعليقه على قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73]: (ومفهوم الآية أن قول العامة: إن الأنبياء والأولياء والشهداء والأئمة لهم تصرف في العالم، وقدرة عليه، ولكنهم شاكرون لتقدير الله تعالى، راضون بقضائه، ولا يقولون شيئاً ولا يفعلون أمراً، أدباً منهم، ولو شاءوا لغيروا الأمور في آن، وسكوتهم إنما هو تعظيماً للشرع الشريف غلط فاضح، وكذب واضح؛ لأنهم لا يستطيعون شيئاً لا حالاً ولا استقبالاً، ولا حول لهم على ذلك أصلاً، وهذه العقيدة فيها شرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه ليس في الدار غيره ديار (¬4). ومن خلال هذه النقول يتبين حكم هذه المسألة، القطعية المجمع عليها. و ... في ختام هذا المبحث ... أشير إلى مسألة الاستسقاء بالنجوم لأن البعض قد يغلط فيها ... : قال الشافعي في تعليقه على حديث زيد بن خالد: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (¬5)، قال رحمه الله: ( ... ومن قال مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عني بعض أهل الشرك من الجاهلية فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب)، وقال الإمام ابن عبد البر في معنى الحديث، قال: فمعناه على وجهين: أما أحدهما: فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل، فذلك كافر كفراً صريحاً، يجب استتابته وقتله إن أبى، لنبذه الإسلام ورده القرآن، والوجه الثاني: أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجهاً مباحاً، فإن فيه أيضاً كفراً بنعمة الله عز وجل وجهلاً بلطيف حكمته ... ) (¬6). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي- 2/ 86 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2516) وأحمد (1/ 293) (2669) وأبو يعلى (4/ 430) والطبراني (12/ 238) قال الترمذي حديث حسن صحيح، وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 55): حسن, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/ 233): إسناده صحيح, وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (844) ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة, (¬3) ((فتح المجيد)) (ص: 173 - 175). (¬4) ((الدين الخالص)) (2/ 8). (¬5) رواه البخاري (846)، ومسلم (71). (¬6) انظر ((تفسير القرطبي)) (17/ 229،23) وانظر تفصيل لذلك ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 454 - 455) ((الدين الخالص))، (2/ 128 - 134).

المطلب الثاني: الشرك في الألوهية

المطلب الثاني: الشرك في الألوهية توحيد الألوهية: هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، أي: إفراده – جل وعلا – بالعبادة والخضوع والطاعة المطلقة، وأن لا يشرك به أحد كائناً من كان، ولا يصرف شيء من العبادة لغيره تعالى. أي: أن الله تعالى وحده هو المعبود بحق، وأن ما سواه من المعبودات كلها باطل لا تستحق أي شيء من العبادة. فمن اعتقد غير هذا، أو قال قولاً، أو فعل فعلاً، ينافي هذا المعنى، أو أنكر حق الله تعالى في ألوهيته، أو انتقص شيئاً منه، أو صرف شيئاً منه لغيره؛ فقد كفر، وارتد عن الإسلام. فأكثر الأمم السابقة، وأكثر الناس في الإسلام وقعوا في الشرك أو الكفر في توحيد الألوهية؛ لأنهم لم يكونوا ينكرون ربوبية الله تعالى؛ بل أقروا بأن الله تعالى هو الرب والخالق والرازق والمحي والمميت، ولكنهم صرفوا شيئاً من العبادة لغيره تعالى؛ فجعلهم الله في عداد الكافرين بإشراكهم غيره في العبادة. وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له؛ هي غاية الخالق – جل جلاله – من خلق عباده، ولذلك هي موضوع الامتحان للعبادة في الدنيا، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. فكل اعتقاد، أو قول، أو عمل؛ يتضمن أحد هذين الأمرين يخرج صاحبه من الإسلام. قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ [البقرة: 165]. وقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 21 - 22]. وقال: مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 40]. الأمثلة من نواقض الإيمان في توحيد الألوهية والعبادة: - عبادة أحد مع الله، أو دون الله، أو يُدعى مع الله تعالى، وأن يستغاث بغيره سبحانه؛ في جلب خير، أو دفع ضر، أو يتوكل عليه، أو يستعاذ به، أو يخاف منه، أو يرجى، أو يخضع له، أو يتقرب إليه بأي نوع من أنواع العبادة، أو يطاع الطاعة المطلقة، أو يحب كحب الله تبارك وتعالى، أو يعظم كتعظيم الله تعالى؛ سواء كان هذا المعظم أو المدعو ملكاً، أو نبيًّا، أو وليًّا، أو قبراً، أو حجراً، أو شجراً. - الركوع، والسجود، والصوم، والطواف، والذبح، والنذر، والخشوع لغير الله تعالى. - الطاعة والانقياد لغير الله تعالى، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. - الاعتقاد بأن لشخص حق تشريع ما لم يأذن به الله تعالى؛ من التحليل والتحريم وسن القوانين. - الاعتقاد بأن شرع الله تعالى لا يصلح في هذا الزمان. يكفر من أتى شيئاً من هذه النواقض، أو رضي بها، أو عمل بعضها، وإلى غير ذلك من النواقض التي تخص توحيد العبادة. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري ص- 170

المطلب الثالث: إنكار اسم أو صفة لله تعالى

المطلب الثالث: إنكار اسم أو صفة لله تعالى يقول الإمام أحمد: (إذا قال الرجل: العلم مخلوق. فهو كافر؛ لأنه يزعم أنه لم يكن له علم حتى خلقه). وقال أيضاً: (من قال: القرآن مخلوق. فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله عز وجل، قال الله عز وجل: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: 61]) (¬1). ويقول رحمه الله: (من قال إن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فهو كافر) (¬2). وقال هارون بن معروف (¬3): (من زعم أن الله عز وجل لا يتكلم فهو يعبد الأصنام). وقال محمد بن مصعب العابد (¬4): (من زعم أنك لا تتكلم ولا تُرى في الآخرة فهو كافر بوجهك لا يعرفك، أشهد أنك فوق العرش، فوق سبع سماوات، وليس كما يقول أعداء الله الزنادقة) (¬5). وقال نعيم بن حماد (¬6): (من شبَّه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف به نفسه ورسوله تشبيه) (¬7) وقال ابن خزيمة (¬8): (من لم يقر بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سماواته، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على مزبلة؛ لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة) (¬9). وقال الآجري: (باب ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله عز وجل، وأن كلامه جل وعلا ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر). ثم قال: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن قول المسلمين الذين لم تزغ قلوبهم عن الحق ووفقوا للرشاد قديماً وحديثاً؛ أن القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، لأن القرآن من علم الله تعالى، وعلم الله لا يكون مخلوقاً تعالى الله عز وجل عن ذلك، دل على ذلك القرآن والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم، وقول أئمة المسلمين رحمة الله تعالى عليهم، لا ينكر هذا إلا جهمي خبيث، والجهمية عند العلماء كفار) (¬10). وقال هارون الفروي (¬11): ¬

(¬1) ((السنة)) للإمام عبد الله بن الإمام أحمد (1/ 102، 103) , وانظر (2/ 385) و ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي)) (3/ 405، 406) و ((الشريعة)) (ص: 80) للآجري. (¬2) ((مسائل الإمام أحمد)) لأبي داوود ((عقائد السلف)) (ص: 105) , وانظر ((الشريعة)) (ص: 255) للآجري. (¬3) أبو علي هارون بن معروف المروزي البغدادي، وثقة أبو حاتم وغيره مات سنة 231 هـ. (¬4) هو أبو جعفر، محمد بن صعب، أحد العبَّاد المشهورين، والقراء المعروفين، أثنى عليه أحمد بن حنبل ووصفه بالسنة، مات ببغداد سنة 228هـ. انظر: ((تاريخ بغداد)) (3/ 279). (¬5) ((تاريخ بغداد)) (1/ 173) وقال المحقق: إسناده صحيح، وانظر ((مختصر العلو)) (ص: 183) للذهبي. (¬6) هو نعيم بن حماد الخزاعي الفرضي المروزي، الحافظ، أحد علماء الحديث، له تصانيف، نصر السنة، ومات في محنة القول بخلق القرآن سنة 229 هـ. انظر: ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 595) و ((شذرات الذهب)) (2/ 67). (¬7) ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (3/ 406) وانظر ((مختصر العلو)) للذهبي (ص: 184). (¬8) محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الشافعي، إمام الأئمة، صاحب التصانيف، حافظ فقيه، نصر السنة ورد على المبتدعة، توفي سنة 321 هـ. انظر: ((طبقات الشافعية)) (3/ 109) و ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 365). (¬9) ((مختصر العلو)) للذهبي (ص: 225) وانظر ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 373). (¬10) ((الشريعة)) للآجري (ص: 75). (¬11) هارون بن موسى الفروي المدني، روى عنه الترمذي والنسائي وغيرهما، مات سنة 253 هـ. انظر: ((تهذيب التهذيب)) (11/ 13).

(لم أسمع أحداً من أهل العلم بالمدينة وأهل السنن إلا وهم ينكرون على من قال: القرآن مخلوق. ويكفرونه) (¬1). وقال النووي: (قال المتولي: لو نفى ما هو ثابت للقديم (¬2) بالإجماع، ككونه عالماً قادراً ... كان كافراً) (¬3). ويقول ابن تيمية: (والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك، عرف ذلك، كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر) (¬4). ويقول أيضاً: (القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين) (¬5). وجاء في (الفتاوى البزازية): (يجب إكفار القدرية في نفيهم كون الشر من خلق الله تعالى، وفي دعواهم أن كل فاعل خالق فعل نفسه) (¬6). وقال المرداوي: (من أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته كفر بلا نزاع في الجملة) (¬7). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف - ص118 ¬

(¬1) ((الشريعة)) للآجري (ص: 78). (¬2) [9783])) لفظ (القديم) من الألفاظ المجملة، والمتعين أن يوصف ربه سبحانه بالألفاظ الشرعية. (¬3) ((روضة الطالبين)) (10/ 64). (¬4) [9785])) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 486). (¬5) [9786])) ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 26، 27) باختصار، وانظر (9/ 396، 370). (¬6) [9787])) ((الفتاوى البزازية)) (6/ 318، 319). (¬7) [9788])) ((الإنصاف)) (10/ 326) وانظر ((المبدع شرح المقنع)) (9/ 171) و ((الفروع)) (6/ 164) و ((كشاف القناع)) (6/ 168) و ((شرح منتهى الإرادات)) (3/ 386).

المطلب الرابع: الإعراض عن دين الله

المطلب الرابع: الإعراض عن دين الله الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به ذكر الإمام ابن القيم- رحمه الله- والإمام محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة الإعراض كناقض من نواقض الإسلام، فما المقصود بالإعراض؟ وما هو الإعراض المناقض للإسلام؟ أ- مفهوم الإعراض: ورد ذكر الإعراض في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضعاً (¬1)، سنستعرض بعضها، وننقل شيئاً من أقوال المفسرين حولها، وقبل ذلك نشير بإيجاز إلى كلام أهل اللغة في معنى الإعراض، ثم نذكر الخلاصة. قال في اللسان: ( ... والمعرض: الذي يستدين ممن أمكنه من الناس، .. وقال الأصمعي: قوله فادَّان معرضاً: أي أخذ الدين ولم يبال أن لا يؤديه، ولا ما يكون من التبعة، ... وقيل: إن أراد أن يعرض إذا قيل له لا تستدن فلا يقبل، من أعرض عن الشيء إذا ولاه ظهره، وقيل: أراد معرضاً عن الأداء مولياً عنه) (¬2). (والإعراض عن الشيء: الصد عنه، وأعرض عنه: صد) (¬3). (والإعراض الصدود، أعرض عنه: صد وولى) (¬4). وقال في اللسان في معنى التولي (وتولى عنه: أعرض: وولى هارباً: أي أدبر ... وقد ولى الشيء وتولى إذا ذهب هارباً ومدبراً، وتولى عنه إذا أعرض، والتولي يكون بمعنى الإعراض، ويكون بمعنى الاتباع، قال الله تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] أي: إن تعرضوا عن الإسلام ... ) (¬5). وقال الراغب الأصفهاني: (وقولهم: تولى) إذا عدي بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع منه، يقال: وليت سمعي، ووليت عيني كذا، ووليت وجهي كذا أقبلت به عليه، قال الله عز وجل: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة: 144] وإذا عدي بمن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض وترك قربة .. فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران: 144] إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ [الغاشية: 23] والتولي قد يكون بالجسم، وقد يكون بترك الإصغاء والائتمار) (¬6). وقال أبو البقاء الكفوي في (الكليات): (الإعراض: أن تولي الشيء عرضك: أي جانبك ولا تقبل عليه، والتولي: الإعراض مطلقاً، ولا يلزمه الإدبار ... والإعراض: الانصراف عن الشيء بالقلب، قال بعضهم: المعرض والمتولي يشتركان في السلوك إلا أن المعرض أسوأ حالاً ... وغاية الذم الجمع بينهما) (¬7). وبعد هذه الإشارة السريعة للمعنى اللغوي نستعرض بعض الآيات المتعلقة بالموضوع مع ذكر أقوال بعض المفسرين. 1 - قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [السجدة: 22]. قال الإمام القرطبي: (ثم أعرض عنها بترك القبول) (¬8) وقال الحافظ ابن كثير- رحمه الله- (أي: تناساها، وأعرض عنها، ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالاً) (¬9). ¬

(¬1) ((المعجم المفهرس)) (ص: 457، 458). (¬2) ((لسان العرب)) (7/ 176) انظر ((المفردات)) (ص: 330) للراغب الأصفهاني و ((مختار الصحاح)) (ص: 425) و ((النهاية)) (3/ 209). (¬3) ((لسان العرب)) (7/ 182). (¬4) ((الإفصاح في فقه اللغة)) (1/ 195). (¬5) ((لسان العرب)) (15/ 415). (¬6) ((المفردات)) (ص: 534)، انظر ((الكليات)) (ص: 280) لأبي البقاء الكفوي. (¬7) ((الكليات)) (ص: 28). (¬8) ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 108). (¬9) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 91).

وقال الإمام الشوكاني- رحمه الله-: (أي: لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها، وأعرض عن قبولها، ولم يتدبرها حق التدبر، ويتفكر فيها حق التفكر) (¬1)، وقال محمد الأمين الشنقيطي- رحمه الله-: (فأعرض عنها: أي تولى وصد عنها) (¬2). 2 - قال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] قال أبو حيان- رحمه الله-: (الغفلة عن الشيء، والإعراض عنه متنافيان، لكن يجمع بينهما باختلاف حالين، أخبر عنهم، أولاً: أنهم لا يتفكرون في عاقبة بل هم غافلون عما يئول إليه أمرهم، ثم أخبر ثانياً، أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يئول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك) (¬3). 3 - قال عز وجل: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا [طه: 100] (أي: أعرض عنه فلم يؤمن به، ولا عمل بما فيه) (¬4). 4 - وقال تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ [الأنبياء: 34]، قال أبو حيان - رحمه الله -: (والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق، وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن أكثرهم لا يعلمون الحق لإعراضهم عنه، وليس المعنى فهم معرضون؛ لأنهم لا يعلمون، بل المعنى فهم معرضون ولذلك لا يعلمون الحق) (¬5). 5 - وقال سبحانه: وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 17]. قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (يعني القرآن، قاله ابن زيد، وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما: عن القبول، إن قيل في أهل الكفر، الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين) (¬6). 6 - وقال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ [البقرة: 83] قال ابن عباس رضي الله عنه: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ: أعرضتم عن طاعتي، إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ قال: القليل الذين اخترتهم لطاعتي، وسيحل عقابي عمن تولي وأعرض عنها) (¬7). وقال أيضاً: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ، أي تركتم ذلك كله (¬8). 7 - قال سبحانه: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ [آل عمران: 23] قال الإمام الطبري- رحمه الله-: (ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه، معرضاً عنه منصرفاً، وهو بحقيقته وحجته عالم) (¬9). وورد في القرآن الكريم ذكر التولي بمعنى الإعراض، وترك الطاعة مثل: 8 - قوله سبحانه: ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة: 64]، قال ابن جرير- رحمه الله-: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُم ثم أعرضتم، وإنما هو (تفعلتم) من قولهم: ولاني فلان دبره. إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره، ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها) (¬10). ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (3/ 296). (¬2) ((أضواء البيان)) (4/ 124). (¬3) ((البحر المحيط)) (6/ 296). (¬4) ((فتح القدير)) (3/ 385). (¬5) ((البحر المحيط)) (6/ 306) انظر ((فتح القدير)) (3/ 403). (¬6) ((الجامع لأحكام القرآن)) (19/ 19) انظر (14/ 108). (¬7) ((تفسير الطبري)) (2/ 299) تحقيق أحمد شاكر،. (¬8) ((تفسير الطبري)) (2/ 299). (¬9) ((تفسير الطبري)) (6/ 291). (¬10) ((تفسير الطبري)) (2/ 162) انظر (3/ 115, 6/ 477، 483، 8/ 562).

9 - وقال تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة: 43] قال الإمام الطبري: (يَتَوَلَّوْنَ يقول: يتركون الحكم به، بعد العلم بحكمي فيه، جرأة علي وعصياناً لي) (¬1). وقال- رحمه الله-: (وأصل التولي عن الشيء الانصراف عنه ... ) (¬2). 10 - وورد لفظ التولي بمعنى التولي عن الطاعة في مواضع من القرآن، كقوله تعالى: فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً [الفتح: 16]. وقوله سبحانه: لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15 - 16] وقوله عز وجل: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31 - 32] قال شيخ الإسلام: (فالتكذيب للخبر، والتولي عن الأمر، وإنما الإيمان تصديق الرسل فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا) (¬3). وقال في موضع آخر تعليقاً على هذه الآيات: (فعلم أن التولي ليس هو التكذيب، بل هو التولي عن الطاعة، فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر، ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة، التولي) (¬4). وقال- رحمه الله-: (والمتولي هو العاصي الممتنع عن الطاعة) (¬5). الخلاصة: بعد هذا الإيجاز لكلام أهل اللغة والمفسرين، يمكن أن نستخلص من معاني الإعراض ما يلي: 1 - يأتي بمعنى: عدم الاستماع لأوامر الله عز وجل، وعدم المبالاة بها أو التفكر فيها وهو الغالب. 2 - ويأتي بمعنى: عدم القبول لها، وهذا يأتي بعد الاستماع لها والتذكير بها. 3 - ويأتي بمعنى الامتناع والتولي عن الطاعة، وهذا يكون بعد الاستماع والقبول. 4 - ويأتي بمعنى: ترك العمل. 5 - ويأتي بمعنى: الصدود. 6 - ويأتي بمعنى: ترك حكم الله، والانصراف عنه مع العلم بحقيقته. وحاصل ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور: الأول: يتعلق بالعلم (قول القلب)، من عدم الاستماع، وعدم المبالاة. الثاني: يتعلق بالعمل (عمل القلب والجوارح). أ - عمل القلب: من عدم القبول والاستسلام. ب- عمل الجوارح: من الامتناع وترك العمل، والتولي عن الطاعة. الثالث: الإعراض عن حكم الله والتحاكم إليه. فهذا هو مفهوم الإعراض، وهذه هي أنواعه وحالاته. ب- الإعراض المكفر وغير المكفر بعد ذكر مفهوم الإعراض وحالاته، يرد علينا هذا التساؤل، ما الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام؟ ذكر الإمام ابن القيم- رحمه الله- من أنواع الكفر الأكبر: كفر الإعراض، وعرفه قائلاً: (وأما كفر الإعراض: فإن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول، لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتة) (¬6)، وفصل ذلك في موضع آخر فقال: ( .. إن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل) (¬7). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (10/ 366) انظر (10/ 392، 575). (¬2) ((تفسير الطبري)) (10/ 377). (¬3) ((الإيمان)) (ص: 56). (¬4) ((الإيمان)) (ص: 137). (¬5) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 154). (¬6) ((مدارج السالكين)) (1/ 366، 367) انظر ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 94). (¬7) ((طريق الهجرتين)) (ص: 384) انظر ما قبلها، وانظر ((مفتاح دار السعادة)) (ص: 44) و ((إرشاد الطالب)) (ص: 12، 13).

فالإعراض المكفر على حسب ما ذكره هو نوع من اللامبالاة فلا يسمع الحجة، ولا يبحث عنها، ولا يفكر في ذلك، ولا يعني ذلك أن الإمام يحصر كفر الإعراض بما ينافي قول القلب فقط، لكنه لا يسمي في كلامه ترك العمل بعد العلم كفر إعراض، وإنما يطلق عليه كفر عناد وهو نفسه كفر الإعراض من جهة التولي وترك العمل والامتناع .... كذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- كفر الإعراض المنافي لقول القلب حيث قال: (والكفر أعم من التكذيب فكل من كذب الرسول كافر، وليس كل كافر مكذباً، بل من يعلم صدقه، ويقر به وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر، أو من أعرض فلم يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر وليس بمكذب) (¬1). وكذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- ذكر ضمن نواقض الإسلام (العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة: 22] (¬2)، فالإمام كما يبدو من كلامه يعتبر جهل أصول الدين والإعراض عن تعلمه مع القدرة كفر أكبر وكذلك ترك العمل بعد ما يعلم. أما الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ- رحمه الله- فقد أجاب إجابة شاملة وموجزة حينما سئل عن الإعراض الناقض للإسلام، فقال: (إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجوداً والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به الإسلام وأعرض عن هذا بالكليه، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179]، وقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124]، ولكن عليك أن تعلم أن المدار على معرفة حقيقة الأصل وحقيقة القاعدة وإن اختلف التعبير واللفظ) (¬3). فالشيخ عبد اللطيف - رحمه الله - بين ووضح أنه إذا اختل الأصل (أي أصل الإيمان ... ) بالإعراض التام عن قول القلب أو عمله، أو قول اللسان أو جنس عمل الجوارح فهذا هو الإعراض الناقض لأصل الإيمان، أما ترك الواجبات والمستحبات والإعراض عن فعلها فلا يعد ضمن الإعراض المكفر، ويلاحظ في كلام الشيخ أنه لم يذكر ترك الأركان ضمن الإعراض غير الناقض ولعل ذلك للخلاف المشهور حول حكم تارك الأركان، وخاصة الصلاة. ¬

(¬1) ((التسعينية)) (5/ 166). (¬2) ((الرسائل الشخصية)) (ص: 214). (¬3) ((منهاج أهل الحق والاتباع)) (ص: 64، 65) , للشيخ سليمان بن سحمان انظر ((منهاج التأسيس والتقديس)) (ص: 227، 228) , للشيخ عبد اللطيف.

كذلك من صور الإعراض المكفر، الإعراض عن حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 47 - 51]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في تعليقه على هذه الآيات: (فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن، وإن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالنقض والسب ونحوه) (¬1)، فشيخ الإسلام يبين أن الإيمان يزول بمجرد الإعراض والترك المحض لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لو لم يقترن بهذا الترك استحلال أو جحود والله أعلم. وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا [النساء: 61] , قال الإمام ابن القيم في معنى هذه الآية: (فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه والتسليم لما حكم به رضى واختيار ومحبة فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق ... ) (¬2). وإذاً نستخلص من كلام الأئمة في تفسيرهم للآيات وكلامهم عن كفر الإعراض أن الإعراض الناقض للإسلام هو إعراض عن أصل الإيمان، إما أن يعرض إعراضاً تاماً عن تعلم أصول الدين مع قدرته على ذلك أو عن قبولها والانقياد القلبي لها، أو يعرض إعراضاً تاماً عن العمل بالجوارح (أن يترك جنس العمل)، أو يعرض عن حكم الله ورسوله. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي– 2/ 121 ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص: 39). (¬2) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (3/ 353) انظر ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 557).

المطلب الخامس: الشك في حكم من أحكام الله أو خبر من أخباره

المطلب الخامس: الشك في حكم من أحكام الله أو خبر من أخباره ذكر علماء السنة أن من شروط لا إله إلا الله (اليقين المنافي للشك)، واستدلوا لذلك بنصوص كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم (( ... أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)) (¬1) وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة ((اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة)) (¬2)، قال الشيخ حافظ حكمي – رحمه الله - موضحاً هذا الشرط: (بأن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة يقيناً جازماً، فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، فكيف إذا دخله الشك، قال الله - عز وجل -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15]، فاشترط في الصدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا، (¬3) أي: لم يشكوا، فأما المرتاب فهو من المنافقين- والعياذ بالله- الذين قال الله تعالى فيهم: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 45]، ثم ذكر الحديثين السابقين وعلق عليهما قائلاً: (فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط) (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم، (27) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (31). (¬3) الريب والريبة: الشك والظن والتهمة قال القتيبي: الريبة والريب: الشك، لا ريب فيه: لا شك فيه، قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ *البقرة: 2* أي لا شك فيه، ((لسان العرب)) (1/ 442) , قال ابن أبي حاتم: (لا أعلم في هذا خلافاً) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 71) انظر ((تفسير الطبري)) (1/ 228، 229) تحقيق أحمد شاكر. (¬4) ((معارج القبول)) (1/ 378، 379).

قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – موضحاً منزلة اليقين وأهميتها، ومعارضتها لكل شك وريب: (فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط) ثم ذكر من تعريفات اليقين (المكاشفة، وهو على ثلاثة أوجه: مكاشفة في الأخبار، ومكاشفة بإظهار القدرة، ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان، ومراد القوم بالمكاشفة: ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين، فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلاً، وهذا نهاية الإيمان، وهو مقام الإحسان) (¬1)، إذاً هناك ترابط بين اليقين والإحسان، فغاية اليقين، هي الإحسان، لكن الإحسان في عمل الجوارح، واليقين في عمل القلب، وكذلك هناك ترابط بين العلم واليقين، فالعلم أول اليقين (¬2)، وليس مقصودنا هنا الكلام عن اليقين وأنواعه ودرجاته، وإنما المقصود الإشارة إلى اليقين الذي هو شرط في الإيمان والنجاة في الآخرة، وكذلك الكلام عن الشك الذي هو ناقض من نواقض أصل الإيمان، فأما اليقين الذي هو شرط في صحة الإيمان فهو حقيقة العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن ثم ذكر بعض العلماء (العلم) شرطا مستقلا من شروط الشهادتين مستدلين بقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد: 91]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) (¬3) فمن شك في الله أو في رسوله وما جاء به عن الله فهو كافر لا شهادة له ولا إيمان (¬4)، فالشك نقيض اليقين (¬5)، (وهو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه .. ) (¬6). قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في معرض كلامه عن أنواع الكفر الأكبر: (أما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا يكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها، وأما مع التفاته إليها ونظره فيها، فإنه لا يبقى معه شك ... ) (¬7). فكفر الشك – كما يظهر من كلام الأئمة، يشبه كفر الإعراض، إلا أن كفر الإعراض يتعلق بعمل القلب فلا يلزم أن يكون صاحبه جاهلاً، أما كفر الشك فيتعلق بقول القلب بسبب اختلال شرط العلم والله أعلم. بعض الأمثلة التي ذكرها العلماء حول كفر الشك: ¬

(¬1) ((مدراج السالكين)) (2/ 413 - 415). (¬2) انظر إيضاح لذلك في رسالة د. سفر الحوالي ((ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي)) رسالة دكتوراة، مطبوع على الآلة الكاتبة، (ص: 432، 434). (¬3) رواه مسلم (26) من حديث عثمان رضي الله عنه. (¬4) انظر ((ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي)) سفر الحوالي (ص: 431 – 432). (¬5) انظر ((لسان العرب)) (10/ 451). (¬6) ((الضياء الشارق)) (ص: 374) لسليمان بن سحمان. (¬7) ((مدارج السالكين)) (1/ 367).

منها الشك في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو الشك في البعث، أو الشك في كفر الكافر، أو الشك في شيء من القرآن أو الشك في حكم من الأحكام، قال القاضي عياض - رحمه الله - عند كلامه عن بعض المكفرات: (وكذلك من أضاف إلى نبينا الكذب فيما بلغه وأخبر به، أو شك في صدقه، أو سبه ... فهو كافر بإجماع (¬1). وقال أيضاً: ( ... ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهار ما أظهره من خلاف ذلك) (¬2)، وقال: (اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرف منه آية، أو كذب به أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما حرم به من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع) (¬3). وذكر شيخ الإسلام حكم من لم يكفر الكافر سواء كان كافراً أصليًّا كاليهود والنصارى، أو من ثبت كفره يقيناً كالباطنية فقال – رحمه الله – في رده على أهل الحلول والاتحاد: (وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى، وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى، ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه، فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين) (¬4)، وقال في بيان حكم من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً أو أنهم فسقوا عامتهم، قال: (فهذا لا ريب – أيضا- في كفره لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفره مثل هذا فإن كفره متعين ... ) (¬5). وذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – من نواقض الإسلام: (الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر إجماعاً) (¬6)، وقال الإمام سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله -: ( ... فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر) (¬7). وقال الشيخ ابن سحمان – رحمه الله -: (وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء) (5). وفي آخر هذا المبحث نشير إلى فائدتين هامتين ... وقد ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الأولى: التنبيه إلى الفرق بين الشك والوسوسة، (فالوسوسة هي مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان) (¬8)، أما الشاك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو تارك للإيمان الذي لا نجاة ولا سعادة إلا به. الثانية: مر معنا في أول هذا المبحث أن معنى الريب: الشك هذا من حيث الإجمال، ويذكر شيخ الإسلام فرقاً دقيقاً بين الريب والشك، فيقول: (والريب يكون في علم القلب وفي عمل القلب، بخلاف الشك، فإنه لا يكون إلا في العلم، ولهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علماً وعملاً) (¬9)، وبذلك يكون الشك أخص من الريب، ويكون الشاك كافراً بسبب الإخلال بشرط العلم الذي هو أصل قول القلب، والله أعلم. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي-بتصرف- 2/ 69 ¬

(¬1) ((الشفا)) (2/ 1069). (¬2) ((الشفا)) (2/ 1071). (¬3) ((الشفا)) (2/ 1101). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 368). (¬5) ((الصارم المسلول)) (ص: 591، 592). (¬6) مجموعة الشيخ ((الرسائل الشخصية)) (ص: 213). (¬7) رسالة ((أوثق عرى الإيمان))، ((الجامع الفريد)) (ص: 370). (¬8) ((الضياء الشارق)) (ص: 374). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 108) وانظر ((الإيمان)) (ص: 268).

المبحث الثاني: ما يناقض عمل القلب

المطلب الأول: كفر الإباء والاستكبار ومن الكفر المناقض لعمل القلب كفر الإباء والاستكبار والامتناع (¬1) ككفر إبليس، وفرعون، واليهود حيث إنهم عرفوا الحق فلم ينقادوا ويستسلموا له، قال تعالى في حكاية حال إبليس لما أمر بالسجود وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]، فهل جحد إبليس ربه؟ وهو يقول: قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39]، ويقول: قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر: 36] إيماناً منه بالبعث، وإيماناً بنفاذ قدرته، في إنظاره إياه إلى يوم البعث، أو هل جحد أحداً من أنبيائه، وأنكر شيئاً من سلطانه، وهو يحلف بعزته؟! وهل كان كفره إلا بترك سجدة واحدة، أمره بها، فأباها!! (¬2). قال شيخ الإسلام عن هذا الكفر: (وكفر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم، فإن إبليس لم يخبره أحد بخبر، بل أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين، فكفره بالإباء والاستكبار وما يتبع ذلك، لا لأجل تكذيب، وكذلك فرعون وقومه جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا ... ) (¬3). وقال الإمام ابن القيم – رحمه الله – عند كلامه عن أنواع الكفر الأكبر ( ... وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس، فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقد له إباء واستكباراً، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل ... ) (¬4)، إذ وجه كون الإباء والاستكبار كفراً، مناقضته للانقياد والاستسلام الذي هو أساس عمل القلب وأصله، قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: (وكلام الله خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب جِمَاعُه الخضوع والانقياد للأمر وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار ... ) (¬5). وقال موضحاً إيمان القلب: (إن الإيمان قول وعمل – أعني في الأصل – قولاً في القلب، وعملاً في القلب، فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره، فيصدق القلب أخباره تصديقاً يوجب حالاً في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو نوع من العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين، فمتى ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين وإن كان مصدقاً ... ) (¬6). وقال الشيخ حافظ حكمي – رحمه الله – عن هذا النوع: ( ... وإن انتفى عمل القلب، وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان فكفر عناد واستكبار، ككفر إبليس، وكفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه أمثال حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف وغيرهم، وكفر من ترك الصلاة عناداً واستكباراً، ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب) (¬7)، فهذا النوع لا خلاف ولا إشكال في تكفير من وقع فيه – سواء كان فرداً أو طائفة – لأن الاستكبار ينافي حقيقة الإسلام وهو الاستسلام لله بالطاعة والانقياد له بالتوحيد والخلوص من الشرك. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي-1/ 387 ¬

(¬1) لا يلزم الترابط التام بين الإباء والاستكبار والامتناع في كل الأحوال، فقد يوجد إباء وامتناع دون استكبار، ولذلك سنبحث أولا الإباء والامتناع مع الاستكبار، ثم الإباء والامتناع بدون استكبار. (¬2) ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (1/ 394، 395). (¬3) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 76)، وانظر (الفتاوى) (20/ 97) و (العبودية) (ص: 110). (¬4) ((مدارج السالكين)) (1/ 366). (¬5) ((الصارم المسلول)) (ص: 521). (¬6) ((الصارم المسلول)) (ص: 522). (¬7) ((معارج القبول)) (2/ 22، 23).

المطلب الثاني: الشرك الأكبر بعمل القلب

المطلب الثاني: الشرك الأكبر بعمل القلب قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي في بيان حد الشرك الأكبر: إنَّ حدَّ الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده: (أن يصرِفَ العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله) فكلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو عملٍ ثبت أنَّه مأمورٌ به من الشَّارع فصرفُه لله وحده توحيدٌ وإيمانٌ وإخلاصٌ، وصرفُه لغيره شركٌ وكفرٌ. فعليك بهذا الضَّابط للشِّرك الأكبر الَّذي لا يشذُّ عنه شيءٌ القول السديد لعبد الرحمن السعدي – ص: 54 وهذه صور لما يلحق أعمال القلب من الشرك الأكبر: فالإخلاص يضاده الإشراك فمن ليس مخلصاً، فهو مشرك، إلا أن الشرك درجات، وقد جرى العرف على تخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، فإذا امتزج قصد التقرب بباعث آخر من رياء أو غيره من حظوظ النفس فقد خرج عن الإخلاص (¬1). إذ ينافي إخلاص النية والقصد لله عز وجل الشرك في النيات والإرادات، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله -: (وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته، والإخلاص: أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونيته، وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله تعالى بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام، كما قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) [آل عمران: 85]) (¬2). ¬

(¬1) ((موعظة المؤمنين)) (ص: 427). (¬2) ((الجواب الكافي)) (ص: 200).

لكن الشرك في النية والإرادة درجات، قد يكون شركاً أكبر وقد يكون دون ذلك، يقول الإمام ابن رجب – رحمه الله – موضحاً ذلك: (واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضاً بحيث لا يراد سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، قال الله عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 142] وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضاً وحبوطه، وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) (¬1)، وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضره، فإن كان خاطراً ودفعه فلا يضره بلا خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازي على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى (¬2)، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره، فأما إذا عمل العمل لله خالصاً ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك لم يضره ذلك، وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير يحمده الناس عليه فقال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) (¬3)) (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم (2985). (¬2) الخلاف والله أعلم في قبول العمل أو بطلانه، وليس في النقصان والخلل الحاصل بسبب الاسترسال في الرياء. (¬3) رواه مسلم (2642). (¬4) ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 13 - 16) وانظر ((معارج القبول)) (1/ 450 - 454).

ولخص ذلك الشيخ حافظ حكمي بعبارة أسهل ... ، قال – رحمه الله -: (ثم اعلم أن الرياء قد أطلق في كتاب الله كثيراً، ويراد به النفاق الذي هو أعظم الكفر، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 264] وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا [النساء: 38] والفرق بين هذا الرياء الذي هو النفاق الأكبر وبين الرياء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم شركاً أصغر خفيًّا هو حديث ((الأعمال بالنيات ... )) (¬1) فإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله والدار الآخرة وسلم من الرياء في فعله، وكان موافقاً للشرع فذلك العمل الصالح المقبول، وإن كان الباعث على العمل هو إرادة غير الله عز وجل فذلك النفاق الأكبر، سواء في ذلك من يريد به جاهاً ورئاسة وطلب دنيا، ومن يريد حقن دمه وعصمة ماله وغير ذلك، فهذان ضدان ينافي أحدهما الآخر لا محالة وإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله عز وجل والدار الآخرة، ولكن دخل عليه الرياء في تزيينه وتحسينه فذلك هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر، وهذا لا يخرج من الملة، ولكنه ينقص من العمل بقدره، وقد يغلب على العمل فيحبطه كله والعياذ بالله) (¬2)، خلاصة ما سبق في شرك النية والإرادة والقصد: أن من أراد بعمله غير الله عز وجل فذلك شرك أكبر، وإن أراد بالعمل وجه الله عز وجل ولكن دخل عليه الرياء في أصله فقد حبط العمل وهذا هو الشرك الأصغر، أما إن طرأت عليه نية الرياء فقد نقص أجر عمله بحسب ذلك، ولنضرب لذلك مثالاً واحداً يتضح من خلاله المقصود. عبادة النسك والذبح يجب أن تكون خالصة لله سبحانه، فمن قصد بذبحه غير الله فقد أشرك الشرك الكبر، ومن قصد الله عز وجل، ولكن دخل الرياء في أصل نيته فقد بطل أجر هذا العمل، وإن طرأ الرياء عليه، فقد نقص من أجره بحسب ذلك، وهذا يرد على جميع العبادات من الأقوال والأفعال فالشرك فيها بحسب النية والقصد، وبذلك ندرك خطورة الشرك في ذلك، وضرورة توقيه. شرك المحبة: لما كانت المحبة أصل كل عمل من أعمال القلب والجوارح، كان الإشراك في المحبة، أصل كل إشراك عملي (¬3)، فأصل الشرك في المشركين هو اتخاذهم أنداداً يحبونهم كحب الله (¬4). قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة: 165]. ¬

(¬1) رواه البخاري (1). (¬2) ((معارج القبول)) (1/ 453،454). (¬3) انظر ((قاعدة في المحبة)) (69). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 754).

يقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، وما لهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أنداداً أي أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه وهو الله لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه، وفي (الصحيحين) عن عبدالله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك)) (¬1)، وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة: 165] ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئاً بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ويلجأون في جميع أمورهم إليه) (¬2). قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في تعريف هذا الشرك: (الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب مخلوقاً كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة: 165] وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم، وقد جمعتهم الجحيم: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98] ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والملك، والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل ... ) (¬3). وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله -: (ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال الله تعالى فيهم وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167] وذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبًّا عظيماً، فلم يدخلوا في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟) (¬4). ولو طبقنا ما سبق على الشرك العملي المتعلق بعمل الجوارح من مثل دعاء الأموات والاستغاثة بهم، أو إيجاب طاعة غير الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به أو ينهى عنه، لوجدنا أن ذلك يرجع في الحقيقة إلى الإشراك في المحبة، يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – في ذلك: (فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة، لزم أن يكون محبًّا له، ومحبته هي الأصل في ذلك) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (4477) ومسلم (86). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 202). (¬3) ((الجواب الكافي)) (ص: 195) , وانظر ((مدارج السالكين)) (1/ 368، 3/ 200، 21) و ((إغاثة اللهفان)) (2/ 193). (¬4) ((فتح المجيد)) (ص: 114). (¬5) ((فتح المجيد)) (ص: 114).

ويقول أيضاً: (فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندًّا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، يدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام الله ورسوله فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة: 165]) (¬1). وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن في بيان ذلك: (فكل من اتخذ ندًّا لله يدعوه من دون الله ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام فلابد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك، فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى، ويقولون لا إله إلا الله ويصلون ويصومون، فقد أشركوا في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره، فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه، لأن المشرك لا يقبل منه عمل، ولا يصح منه، وهؤلاء وإن قالوا لا إله إلا الله فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة) (¬2)، إذاً يمكن أن نستخلص مما سبق ما يلي: أن الشرك بعمل الجوارح يرجع في الحقيقة إلى عمل القلب، فكما ذكرنا في شرك النية والقصد دخول ذلك في جميع العبادات إذا قصد بها غير الله، يمكن أن نقول هنا، إن صرف أي نوع من العبادات لغير الله (كالدعاء والطاعة)، هو في الأصل بسبب المحبة لذلك الغير فلابد، من إخلاص القصد والمحبة لله وحده، ومحبة غيره تبع لمحبته. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي - بتصرف– 2/ 195 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 267). (¬2) ((فتح المجيد)) (ص: 106).

المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالاعتقاد

المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالاعتقاد ومن نواقض الإيمان الاعتقادية أيضا والتي تكون بمجرد اعتقاد القلب، وإن لم يتكلم بها، وإن لم يفعل شيئاً منها: 1 - الجحد، أو الشك في وجود الله سبحانه وتعالى، أو الاعتقاد بأن لله تعالى شريكاً في ربوبيته جل وعلا. 2 - التكذيب أو الشك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجحد عموم رسالته، وختمه للنبوة، أو إنكار بعض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو الطعن فيه بعد ثبوته. 3 - الاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى الله تعالى إليه وهو مأمور بتبليغه، أو بلغه لبعض المسلمين دون بعض. 4 - التكذيب أو الشك في شيء من أركان الإسلام الخمسة، أو أركان الإيمان الستة، أو الجنة أو النار، أو الثواب والعقاب، أو الجن أو الملائكة، أو شيء مما هو مجمع عليه؛ كالإسراء والمعراج، وغيرها. 5 - إنكار شيء من القرآن، أو اعتقاد زيادة فيه، أو الاعتقاد أن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأن باطنه يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن مخصوص للبعض دون بعض. 6 - الإيمان بشريعة غير الإسلام، واعتقاد صلاحيتها للبشر، والعمل بها، وتطبيقها. 7 - اعتقاد عدم كفر الكفار من الملحدين والمشركين والمرتدين، أو الشك في كفرهم، أو موالاتهم على حساب الدين. 8 - الاعتقاد بأن الكنائس بيوت الله – جل وعلا – وأن الله تعالى يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله، وطاعة له - سبحانه – ولأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام. 9 – جحد وجوب شيء معلوم من الدين بالضرورة؛ كالصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، والحج وغيرها. 10 - اعتقاد تحريم مباح معلوم من الدين بالضرورة؛ كالبيع والنكاح، أو اعتقاد إباحة محرم معلوم من الدين بالضرورة؛ كالقتل، والزنا، والربا، أو إعطاء غير الله تعالى حق الأمر والنهي، وحق التحليل والتحريم، وحق التشريع، أو اعتقاد جواز الاحتكام إلى غيره تعالى. 11 - تكذيب واحد من رسل الله تعالى، في أي أمر من الأمور الثابتة عنهم. 12 - ادعاء النبوة، أو تصديق من يدعيها. 13 - الاعتقاد بأن البعض يسعه الخروج عن شريعة الإسلام، وأنه يجوز للشخص أن يلتزم بدين آخر غير الإسلام. 14 - الاعتقاد بأن جمهور الصحابة – رضي الله عنهم – ارتدوا، أو فسقوا؛ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. 15 - الرضا بالكفر، والعزم على الكفر، أو تعليق الكفر بأمر مستقبل. 16 - من ضحك لمن تكلم بالكفر مع الرضا به. 17 - من شك في كفر من عمل الأعمال المكفرة الظاهرة التي استبان دليلها واتفق أئمة أهل السنة والجماعة عليها. الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري- ص 294

الفصل الثاني: النواقض القولية في باب التوحيد

المطلب الأول: حكم سب الله تعالى أو الاستهزاء به: حكى غيرُ واحدٍ الإجماع على أنَّ سبَّ اللهِ ورسولِه كفرٌ مخرج من الملة، ومن هؤلاء: الإمام إسحاق بن راهويه ومحمد بن سحنون وغيرهما. فظنَّ بعض الناس أنَّ الكفرَ العمليَّ لا يخرج صاحبه من الإسلام وأنَّ سبَّ الله ورسوله مستثنى من ذلك ... ومن فرَّق بين سبِّ الله أو رسوله وبين أي قولٍ أو عملٍ أجمع المسلمون أنه كفر كالذبح لغير الله أو السجود لصنمٍ أو نحو ذلك فعليه الدليل. فلا يظنُّ ظانٌّ أَنَّ في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، إذ لا يستطيع أحدٌ أَنْ يحكي عن واحدٍ من علماء أهل السنة والجماعة خلاف ذلك البتَّةَ. التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد لعلوي بن عبد القادر السقاف-ص 12. قال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام: أجمع المسلمون على أن من سبَّ الله، أو سبَّ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أو دفع شيئاً مما أنزل الله عزَّ وجلَّ، أو قتل نبيًّا من أنبياء الله، أَنَّه كافر بذلك وإِنْ كان مُقِرًّا بكلِّ ما أنزل الله. الصارم المسلول لابن تيمية -2/ 15 وقال ابن قدامة: ومن سبَّ الله تعالى كفر، سواءً كان مازحاً أو جادًّا وكذلك من استهزأ بالله تعالى، أو بآياته أو برسله، أو كتبه، قال الله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65 - 66]. وينبغي أَنْ لا يُكْتَفى من الهازئ بذلك بمجرَّد الإسلام، حتى يؤدَّب أدباً يزجره عن ذلك، فإنَّه إذا لم يُكتف مِمَّن سبَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالتوبة، فمِمَّن سبَّ الله تعالى أولى. المغني لابن قدامة -12/ 298. وقال ابن تيمية: فإنَّا نعلم أَنَّ من سبَّ الله ورسولَه طوعاً بغير كَرْه، بل من تكلَّم بكلمات الكفر طائعاً غير مُكْرَهٍ، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافرٌ باطناً وظاهراً، وأنَّ من قال: إِنَّ مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإِنَّما هو كافرٌ في الظَّاهر، فإنَّه قال قولاً معلوم الفساد بالضَّرورة من الدِّين، وقد ذكر الله كلماتِ الكفَّار في القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها ولو كانت أقوالهم الكفريَّة بمنزلة شهادةِ الشُّهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقِرُّ لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صِدْقاً وقد تكون كَذِباً، بل كان ينبغي أَنْ لا يعذِّبهم إلاَّ بشرط صِدْق الشَّهادة وهذا كقوله تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة: 73] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 17] وأمثال ذلك. مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/ 757 وقال أيضاً: (إنَّ من سبَّ الله أو سبَّ رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواءً كان السابُّ يعتقد أَنَّ ذلك محرَّم، أو كان مستحلًّا له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنَّة القائلين بأنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ) الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية- 3/ 955

المطلب الثاني: هل من سب الله تقبل توبته وهل يستتاب كالمرتد؟

المطلب الثاني: هل من سب الله تقبل توبته وهل يستتاب كالمرتد؟ اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين: القول الأول: أنها لا تقبل، وهو المشهور عن الحنابلة، بل يقتل كافراً، ولا يصلَّى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال: إنه تاب أو إنه أخطأ، لأنهم يقولون: إن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيها التوبة. وقال بعض أهل العلم: إنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة، كقوله تعالى قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم وهذا هو الصحيح، إلا أن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله، فإنها تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعاً، أما ساب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يتعلق به أمران: الأول: أمر شرعي لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب. الثاني: أمر شخصي لكونه من المرسلين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه صلى الله عليه وسلم ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل، غسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ألف كتاباً في ذلك اسمه: (الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول) أو: (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، وذلك لأنه استهان بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه، فإنه يقتل ولا يجلد. فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل منه وأطلقه؟ أجيب: بلى، هذا صحيح لكن هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد أسقط حقه، أما بعد موته، فلا ندري، فننفذ ما نراه واجباً في حق من سبه صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفو موجب للتوقف؟ أجيب: إنه لا يوجب التوقف، لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه. فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عمن سبه؟ أجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحداً بعينه من المنافقين لقتلناه، قال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – 3/ 330 وقال شيخ الإسلام: ثم اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته يعني من سب الله تعالى، بمعنى أنه هل يستتاب كالمرتد ويَسقط عنه القتل إذا أظهر التوبةَ من ذلكَ بعد رفعه إلى السلطانِ وثبوت الحد عليه؟ على قولين:

أحدهما: أنه بمنزلةِ سابِّ الرسول، فيه الروايتان كالروايتين في سابِّ الرسولِ، هذه طريقةُ أبي الخطاب وأكثر من احْتَذَى حَذْوَهُ من المتأخرين، وهو الذي يدلُّ عليه كلام الإمام أحمد حيث قال: (كل من ذكر شيئاً يُعَرِّض بذكر الربِّ ـ تبارك وتعالى ـ فعليه القتل، مسلماً كان أو كافراً، وهذا مذهب أهل المدينة)، فأطلق وجوب القتل عَلَيْهِ، ولم يذكر استتابته، وذكر أنه قول أهل المدينة، ومن وجب عليه القتلُ لم يسقط بالتوبةِ، وقول أهل المدينة المشهورُ أنه لا يَسقط القتلُ بتوبته، ولو لم يرد هذا لم يخصه بأهل المدينة، فإن الناس مجمعون على أن من سب الله تعالى من المسلمين يُقتل، وإنما اختلفوا في توبته، فلما أخَذ بقول أهل المدينة في المسلم كما أخذ بقولهم في الذمي عُلم أنه قَصَد محل الخلافِ بين المدنيين والكوفيين في المسألتين، وعلى هذه الطريقة فظاهر المذهب أنه لا يسقط القتلُ بإظهارِ التوبةِ بعد القدرةِ عليهِ، كما ذكرناه في ساب الرسول. وأما الرواية الثانية فإن عبدالله قال: سئل أبي عن رجلٍ قال (يا ابن كذا وكذا أنت ومَن خَلَقَك" قال أبي: هذا مرتدٌّ عن الإسلام، قلت لأبي: تُضربُ عنقهُ؟ قال: نعم، نضربُ عنقه، فجعله من المرتدين). والرواية الأولى قول الليث بن سعد وقولُ مالك، روى ابنُ القاسم عنه قال: (مَنْ سَبَّ الله تعالى من المسلمين قُتل ولم يُستتب، إلا أن يكون افترى على اللهِ بارتداده إلى دينٍ دان به وأظهره فيُستتابُ، وإن لم يُظهِره لم يُستتب، وهذا قول ابن القاسم، ومطرف، وعبدالملك، وجماهير المالكية). والثاني: أنه يستتاب وتقبلُ توبتهُ بمنزلة المرتد المَحْضِ، وهذا قولُ القاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي علي بن البناءِ، وابن عقيلٍ، مع قولهم: إن من سب الرسولَ لا يستتابُ، وهذا قول طائفةٍ من المدنيين: منهم محمد بن مسلمة، والمخزومي، وابن أبي حازمٍ، قالوا: (لا يقتل المسلم بالسب حتى يُستتاب، وكذلك اليهودي والنصراني، فإن تابوا قُبِل منهم، وإن لم يتوبوا قُتلوا، ولا بد من الاستتابة، وذلك كلهُ كالردةِ)، وهو الذي ذكرهُ العراقيون من المالكية. وكذلك ذكر أصحابُ الشافعي رضي الله عنه، قالوا: سب الله ردةٌ، فإذا تاب قُبلت توبته، وفَرَّقوا بينه وبين سبِّ الرسول على أحد الوجهين: وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة أيضاً.

وأما من استتاب السابَّ للهِ ولرسولهِ فمأخذهُ أن ذلك من أنواعِ الردة، ومن فَرَّق بين سب الله والرسولِ قال: سب الله تعالى كفرٌ محضٌ، وهو حقٌّ لله، وتوبةُ من لم يصدر منه إلا مجردُ الكفرِ الأصلي أو الطارئ مقبولةٌ مُسقِطةٌ للقتل بالإجماع، ويدلُّ على ذلك أن النصارى يسبون الله بقولهم: هو ثالث ثلاثةٍ، وبقولهم: إن له ولداً، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله ـ عز وجل ـ أنه قال: ((شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وكذَّبَنِي ابنُ آدَمَ، ومَا ينبغي لهُ ذلكَ، فأمَّا شَتْمُهُ إيَّاي فقولُهُ: إنَّ لِيْ وَلَداً، وَأنا الأَحَدُ الصَّمَدُ)) (¬1) وقال سبحانه: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إلى قوله: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 74 - 73]، وهو سبحانه قد عُلِم منه أنه يُسقط حقه عن التائب، فإن الرجل لو أَتَى من الكفر والمعاصي بملء الأرض ثم تاب تَاب الله عليه، وهو سبحانه لا تلحقه بالسب غضاضةٌ ولا مَعَرَّةٌ، وإنما يعودُ ضرر السب على قائله، وحرمته في قلوبِ العباد أعظم من أن يهتكها جرأةُ السابِّ، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الرسول، فإن السبَّ هناك قد تعلق به حقُّ آدمي، والعقوبة الواجبة لآدمي لا تسقط بالتوبة، والرسول تلحقه المعرَّة والغَضَاضة بالسب، فلا تقومُ حرمته وتثبتُ في القلوب مكانته إلا باصطلام سابه، لما أن هَجوه وشتمه ينقص من حرمته عند كثير من الناس، ويقدح في مكانه في قلوب كثيرةٍ، فإن لم يُحفظ هذا الحمى بعقوبة المنتهك وإلا أفضى الأمر إلى فسادٍ. وهذا الفرق يتوجه بالنظر إلى أن حدَّ سب الرسولِ حقٌّ لآدمي، كما يذكره كثيرٌ من الأصحاب، وبالنظر إلى أنه حقٌّ لله أيضاً، فإن ما انتهكه من حرمة الله لا ينجبر إلا بإقامة الحد، فأشبه الزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد القدرة عليهم. وأيضاً، فإن سب الله ليس له داعٍ عقلي في الغالب، وأكثر ما هو سبٌّ في نفس الأمر إنما يصدرُ عن اعتقادٍ وتدينٍ يُراد به التعظيم لا السب، ولا يَقْصد الساب حقيقة الإهانة لعلمه أن ذلك لا يؤثر، بخلاف سب الرسول، فإنه في الغالب إنما يُقصد به الإهانة والاستخفاف، والدواعي إلى ذلك متوفرةٌ من كلِّ كافرٍ ومنافقٍ، فصار من جنس الجرائم التي تدعو إليها الطباعُ، فإن حدودها لا تسقطُ بالتوبةِ، بخلاف الجرائم التي لا داعي إليها. ونكتة هذا الفرق أن خصوص سب الله تعالى ليس إليه داعٍ غالب الأَوْقَاتِ، فيندرج في عموم الكفر، بخلاف سب الرسول، فإن لخصوصه دواعي متوفرةً، فناسب أن يشرع لخصوصه حدٌّ، والحدُّ المشروع لخصوصه لا يَسقط بالتوبة كسائر الحدود، فلما اشتمل سبُّ الرسول على خصائص من جهة توفر الدواعي إليه، وحرص أعداء الله عليه، وأن الحرمةَ تنتهك به انتهاك الحرماتِ بانتهاكها، وأن فيه حقًّا لمخلوق تحتمت عقوبته، لا لأنه أغلظ إثماً من سب الله، بل لأن مفسدته لا تنحسم إلا بتحتم القتل. ¬

(¬1) رواه البخاري (3193) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, بدون ((وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد)).

ألا ترى أنه لا ريب أن الكفر والردة أعظم إثماً من الزنى والسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر، ثم الكافر والمرتد إذا تابا بعد القدرة عليهما سقطت عقوبتهما، ولو تاب أولئك الفساق بعد القدرة لم تسقط عقوبتهم، مع أن الكفر أعظم من الفسق، ولم يدل ذلك على أن الفاسق أعظم إثماً من الكافر؟ فمن أخذ تحتم العقوبة وسقوطها من كِبَرِ الذنب وصغره فقد نَأَى عن مسالك الفقه والحكمة. ويوضح ذلك أنا نقرُّ الكفار بالذمة على أعظم الذنوب، ولا نقرُّ واحداً منهم ولا من غيرهم على زنىً ولا سرقةٍ ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود، وقد عاقب الله قوم لوطٍ من العقوبات بما لم يعاقبه بشراً في زمنهم لأجل الفاحشة، والأرض مملوءةٌ من المشركين وهم في عافيةٍ، وقد دُفن رجلٌ قَتَلَ رَجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مراتٍ والأرض تَلفِظُهُ في كلِّ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلكِنَّ اللهَ أَرَاكُمْ هذَا لِتَعْتَبِرُوا)) (¬1) ولهذا يعاقب الفاسق المِلِّي من الهجر والإعراض والجلد وغير ذلك بما لا يُعاقب به الكافرُ الذميُّ، مع أن ذلك أحسن حالاً عند الله وعندنا من الكافر. فقد رأيتَ العقوبات المقدرة المشروعة تتحتم حيث تؤخر عقوبةُ ما هو أشد منها، وسبب ذلك أن الدنيا في الأصل ليست دار الجزاء، وإنما الجزاءُ يوم الدين، يوم يدينُ الله العباد بأعمالهم: إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، لكن ينزل الله سبحانه من العقاب ويشرع من الحدود بمقدار ما يزجر النفوس عما فيه فسادٌ عامٌّ لا يختصُّ فاعله، أو ما يطهر الفاعل من خطيئته، أو لتغلظ الجرم، أو لما يشاء سبحانه، فالخطيئة إذا خِيف أن يتعدى ضررها فاعلها لم تنحسم مادتها إلا بعقوبةِ فاعلها، فلما كان الكفر والردةُ إذا قُبلت التوبة منه بعد القدرةِ لم تترتب على ذلك مفسدةٌ تتعدى التائب وجب قبولُ التوبةِ، لأن أحداً لا يريدُ أن يكفر أو يرتد ثم إذا (أُخِذَ) أظهر التوبة لعلمه أن ذلك لا يُحَصِّل مقصوده، بخلاف أهل الفسوق فإنه إذا أُسقطت العقوبة عنهم بالتوبة كان ذلك فتحاً لباب الفسوق، فإن الرجل يعمل ما اشتهى، ثم إذا أُخذ قال: إني تائبٌ، وقد حصل مقصوده من الشهوة التي اقتضاها، فكذلك سبُّ الله هو أعظم من سب الرسول، لكن لا يخاف أن النفوس تتسرعُ إلى ذلك إذا استُتيب فاعله وعُرِضَ على السيف، فإنه لا يصدر غالباً إلا عن اعتقادٍ، وليس للخَلْق اعتقادٌ يبعثهم على إظهار السبِّ لله تعالى، وأكثر ما يكون ضجراً وتبرُّماً وسفهاً، ورَوْعه بالسيف والاستتابةُ تكفُّ عن ذلك، بخلاف إظهار سب الرسول، فإن هناك دواعي متعددة تبعث عليه، متى عُلم صاحبها أنه إذا أظهر التوبة كُفَّ عنه لم يَزَعْه ذلك عن مقصوده. ومما يدلُّ على الفرق من جهة السنة أن المشركين كانوا يسبون الله بأنواع السب، ثم لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في قبول إسلام أحدٍ منهم، ولا عَهِد بقتل واحدٍ منهم بعينه، وقد توقّف في قبول توبةِ من سَبَّهُ مثل أبي سفيان وابن أبي أمية، وعَهِد بقتل من كان يسبه من الرجال والنساء ـ مثل الحويرث بن نُقَيد، والقينتين، وجاريةٍ لبني عبدالمطلب، ومثل الرجال والنساءِ الذين أمر بقتلهم بعد الهجرة ... ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (3930) , من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه, بلفظ: ((إن الأرض لتقبل من هو شر منه, ولكن الله أحب أن يريكم تعظيم حرمة - لا إله إلا الله). قال الألباني في ((صحيح ابن ماجه)): حسن بما قبله.

وأما من قال: لا تقبل توبة من سب اللهَ - سبحانه وتعالى - كما لا تقبل توبة من سب الرسول. فوجهه ما تقدم عن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ من التسوية بين سب الله وسب الأنبياء في إيجابِ القتل، ولم يأمر بالاستتابة، مع شهرة مذهبه في استتابة المرتد، لكن قد ذكرنا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه يستتاب، لأنه كَذَّب النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمل ذلك على السبِّ الذي يتدين به. وأيضاً، فإن السب ذنبٌ منفردٌ عن الكفر الذي يطابق الاعتقاد، فإن الكافر يتدين بكفره، ويقول: إنه حقٌّ، ويدعو إليه وله عليه موافقون، وليس من الكفار من يتدين بما يعتقده استخفافاً واستهزاءً وسبًّا لله، وإن كان في الحقيقة سبًّا، كما أنهم لا يقولون: إنهم ضُلالٌ جهالٌ معذَّبونَ أعداءُ الله، وإن كانوا كذلك، وأما السابُّ فإنهُ مظهِرٌ للتنقصِ والاستخفافِ والاستهانةِ باللهِ منتهكٌ لحرمته انتهاكاً يعلم من نفسه أنه منتهكٌ مستخف مستهزئٌ، ويعلم من نفسه أنه قد قال عظيماً، وأن السمواتِ والأرضَ تكادُ تنفطرُ من مقالته وتخرُّ الجبالُ، وأن ذلك أعظمُ من كل كفرٍ، وهو يعلم أن ذلك كذلك، ولو قال بلسانه: إني كنت لا أعتقد وجود الصانع ولا عظمته، والآن فقد رجعت عن ذلك. علمنا أنه كاذبٌ، فإن فِطَر الخلائق كلها مجبولةٌ على الاعتراف بوجود الصانع وتعظيمه، فلا شبهة تدعوه إلى هذا السبِّ ولا شهوة له في ذلك، بل هو مجردُ سخريةٍ واستهزاءٍ واستهانةٍ وتمردٍ على ربِّ العالمين، تنبعثُ عن نفسٍ شيطانيةٍ ممتلئةٍ من الغضب أو من سفيه لا وقارَ للهِ عنده، كصدور قطع الطريق والزنى عن الغضب والشهوة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون للسب عقوبةٌ تخصهُ حدًّا من الحدود، وحينئذٍ فلا تسقط تلك العقوبةُ بإظهار التوبة كسائر الحدود. ومما يبين أن السبَّ قَدْرٌ زائدٌ على الكفر قوله تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 108]. ومن المعلوم أنهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله، ثم نُهِي المسلمون أن يفعلوا ما يكون ذريعةً إلى سبهم لله، فعلم أن سب الله أعظم عنده من أن يُشْرَك به ويُكَذَّب رسوله ويُعادى، فلابد له من عقوبةٍ تختصه لما انتهكه من حُرمةِ اللهِ كسائرِ الحُرماتِ التي تنتهكها بالفعل وأولى، ولا يجوز أن يُعَاقَب على ذلك بدون القتل، لأن ذلك أعظم الجرائم، فلا يقابل إلا بأبلغ العقوباتِ. ويدل على (ذلِكَ) قولهُ سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [الأحزاب: 57] فإنها تدلُّ على قتل من يُؤذي الله كما تدلُّ على قتل من يؤذي رسوله، والأذى المطلق إنما هو باللسان ... وأيضاً، فإن إسقاط القتل عنه بإظهار التوبة لا يرفع مفسدة السب لله سبحانه فإنه لا يشاءُ أن يفعل ذلك ثم إذا أُخذ أَظهر التوبة إلا فَعَلَ كما في سائر الجرائم الفِعليَّة. وأيضاً، فإنه لم ينتقل إلى دينٍ يريد المقام عليه حتى يكون الانتقال عنه تركاً له، وإنما فَعل جريمةً لا تستدام، بل هي مثل الأفعال الموجبةِ للعقوبات، فتكون العقوبةُ على نفس تلك الجريمة الماضية، ومثل هذا لا يستتاب، وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ من يعاقَبُ على ذنبٍ مستمر من كفرٍ أو رِدَّةٍ.

وأيضاً، فإن استتابةَ مِثْلِ هذا توجب أن لا يقام حدٌّ على ساب لله، فإنا نعلمُ أن ليس أحدٌ من الناس مصرًّا على السب لله الذي يرى أنه سبٌّ، فإن ذلك لا يدعو إليه عقلٌ ولا طبعٌ، وكلُّ ما أفضى إلى تعطيل الحدود بالكلية كان باطلاً، ولما كان استتابةُ الفساق بالأفعال يفضي إلى تعطيل الحدود لم يشرع، مع أن أحدهم قد لا يتوب من ذلك لما يدعوه إليه طبعه، وكذلك المستتاب من سب الرسول فلا يتوب لما يستحله من سبه، فاستتابةُ الساب لله الذي يسارع إلى إظهار التوبة منه كلُّ أحدٍ أولى أن لا يُشرع إذا تضمن تعطيل الحدِّ، وأوجب أن تمضمض الأفواه بهتك حرمة اسم الله والاستهزاء به. وهذا كلام فقيهٍ، لكن يعارضه أن ما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى تحقيق إقامة الحد، ويكفي تعريض قائله للقتل حتى يتوب. ولمن ينصُر الأول أن يقول: تحقيقُ إقامة الحد على السابِّ للهِ ليس لمجرَّدِ زَجْرِ الطباع عما تهواه، بل تعظيماً للهِ، وإجلالاً لذكره، وإعلاءً لكلمتهِ، وضبطاً للنفوس أن تتسرع إلى الاستهانة بجنابهِ، وتقييداً للألسنِ أن تتفوه بالانتقاص لحقه. وأيضاً، فإن حدَّ سبِّ المخلوق وقذفه لا يسقط بإظهار التوبة، فحد سب الخالق أولى. وأيضاً، فحدُّ الأفعال الموجبة للعقوبة لا تسقط بإظهار التوبة، فكذلك حَدُّ الأقوال، بل شأن الأقوال وتأثيرها أعظم. وجماع الأمر أن كلَّ عقوبةٍ وجبت جزاء ونكالاً على فعلٍ أو قولٍ ماض فإنها لا تسقط التوبة بعد الرفع إلى السلطان، فسب الله أولى بذلك، ولا ينتقض هذا بتوبة الكافر والمرتد، لأن العقوبة هناك إنما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال المستصحب من الماضي، فلا يصلح نقضاً لوجهين: أحدهما: أن عقوبة الساب لله ليست لذنب استصحبه واستدامه، فإنه بعد انقضاء السب لم يستصحبه ولم يستدمه، وعقوبة الكافر والمرتد إنما هي الكفر الذي هو مُصِرٌّ عليه مقيم على اعتقاده. الثاني: أن الكافر إنما يُعاقَب على اعتقاد هو الآن في قلبه، وقوله وعمله دليلٌ على ذلك الاعتقاد، حتى لو فرض أن علمنا أن كلمة الكفر التي قالها خرجت من غير اعتقادٍ لموجبها لم نكفِّره ـ بأن يكون جاهلاً بمعناها، أو مخطئاً قد غلط وسبق لسانه إليها مع قصد خلافها، ونحو ذلك ـ والسابُّ إنما يُعاقَب على انتهاكه لحرمة الله واستخفافه بحقه فيُقتل، وإن علمنا أنه لا يَسْتحسن السب لله ولا يَعتقده ديناً، إذ ليس أحدٌ من البشر يدينُ بذلك، ولا ينتقض هذا أيضاً بترك الصلاة والزكاة ونحوهما، فإنهم إنما يُعاقَبون على دوام الترك لهذه الفرائض، فإذا فعلوها زال الترك، وإن شئت أن تقول الكافر والمرتد وتاركوا الفرائض يعاقبون على عدم فعل الإيمان والفرائض، أعني على دوام هذا العدم، فإذا وُجد الإيمانُ والفرائضُ امتنعت العقوبة لانقطاع العدم، وهؤلاء يعاقَبون على وجود الأقوال والأفعال الكبيرة، لا على دوام وجودها، فإذا وُجدت مرةً لم يرتفع ذلك بالترك بعد ذلك. وبالجملة فهذا القول له تَوَجُّهٌ وقوةٌ ... ولا خلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله سبحانه وسقوط الإثم بالتوبة النصوح. ومن الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكاً آخر، وهو أنه جعله من باب الزنديق ... لأن وجود السب منه - مع إظهاره للإسلام- دليلٌ على خُبث سَرِيرته، لكن هذا ضعيفٌ، فإن الكلام هنا إنما هو في سبٍّ لا يتدين به، فأما السب الذي يُتَدَيّن به ـ كالتثليث، ودعوى الصاحبة والولد ـ فحكمه حكم أنواعِ الكفر، وكذلك المقالاتُ المكفِّرةُ ـ مثل مقالةِ الجهمية، والقدرية، وغيرهم من صنوف البدع. وإذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فإنه يُؤّدَّبُ أَدباً وَجِيعاً حتى يَرْدَعه عن العود إلى مثل ذلك، هكذا ذكره بعض أصحابنا، وهو قولُ أصحاب مالك في كلِّ مرتدٍّ. الصارم المسلول لابن تيمية – بتصرف - 3/ 1017

المبحث الثاني: أمثلة لنواقض الإيمان بالقول

المبحث الثاني: أمثلة لنواقض الإيمان بالقول - دعاء الأولياء والصالحين، والاستغاثة بهم عند الكرب والشدة، وسؤالهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وكذلك الاستعاذة بهم. - الاستهزاء بالله تعالى، أو بكلامه وكتابه (القرآن العظيم)، أو سائر كتبه، أو بآية من آياته، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم مثل: الطعن في صدقه، أو في أمانته، أو عفته، أو الاستهزاء والاستخفاف به، أو بسنته صلى الله عليه وسلم. وكذلك السخرية من أسماء الله تعالى، أو تنقصه، أو بوعده بالجنة أو وعيده بالنار؛ كقول بعضهم: لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها، لو شهد عندي الأنبياء والرسل بكذا ما قبلت شهادتهم، أو ما لحقني منذ صليت، أو ما نفعتك صلاتك، وغير ذلك. - القول: أنا لا أخاف الله. أو أنا لا أحب الله تعالى. - القول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجب علينا الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج ... إلخ. - القول: إن الدين لا صلة له بالدولة، وسائر شؤون الحياة، أو إن تعاليم الإسلام لا تتناسب مع هذا الزمن. - القول لمن عمل بدين الإسلام: أنت رجعي. - القول: إن دين الإسلام وتعاليمه؛ هو سبب تأخر المسلمين، أو بلاد المسلمين. - قول شخص عن عدوه: لو كان ربي ما عبدته، أو لو كان نبياً ما آمنت به. - قول شخص عن ولده أو زوجته: هو أحب إلي من الله، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. - ادعاء الوحي، وإن لم يدع معها النبوة. - قول الشخص: إن الله نقص من مالي، وأنا أنقص من حقه ولا أصلي. - قول من صلى في رمضان فقط، ثم قال: هذا أيضا كثير، أو هذا يكفي وزيادة. - قول الفاسق إذا قيل له صل حتى تجد حلاوة الصلاة: لا أصلي حتى أجد حلاوة الترك. - من طعن في عدالة الصحابة، أو جمهورهم، كأن يقول عنهم: فساق، أو ضلال. - من قال بألوهية علي - رضي الله عنه- أو نبوته (¬1). - ادعاء أن جبريل- عليه السلام - خان الأمانة؛ فأنزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم بدلاً من أن ينزله على علي (¬2). - قذف أم المؤمنين عائشة بنت الصديق – رضي الله عنهما- بما برأها الله تعالى منه من فوق سبع سموات. إلى غير ذلك من الأقوال القبيحة المناقضة للإيمان والإسلام. الإيمان، حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة – عبد الله بن عبد الحميد الأثري – ص: 297 ¬

(¬1) أول من قال بها عبدالله بن سبأ لعنة الله عليه، ومن بعده النصيرية. انظر في ذلك: ((الفرق بين الفرق)) لعبد القاهر البغدادي ص225 ـ 228، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (2/ 623). (¬2) انظر: ((المنية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 30)، ((الفرق بين الفرق)) لعبد القاهر البغدادي (ص: 225)، ((الفصل في الملل والأهواء)) لابن حزم (5/ 42).

الفصل الثالث: النواقض العملية في باب التوحيد

المطلب الأول: الذبح والنذر الركوع والسجود والطواف العبادة حق لله وحده لا شريك له سواء كانت ذبحاً أو نذراً أو سجوداً أو ركوعاً أو طوافاً ونحوها، فإن من جعل شيئاً منها لمخلوق كائناً من كان فقد أشرك بالله تعالى في عبادته، واتخذ مع الله أنداداً. وبيان ذلك أن الذبح أو النذر لغير الله تعالى شرك بالله تعالى، لأنهما عبادتان يجب صرفهما لله تعالى وحده، فمن صرفهما لغيره فقد أشرك، كما أن هؤلاء الذين ينحرون أو ينذرون لغير الله تعالى سواء كان للأموات، أو للجن، أو للملائكة عليهم السلام، أو لطلعة سلطان ونحوها، إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد باطل، فيعتقدون أنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ومنهم من يقدم تلك النحائر والنذور إلى هذه المعبودات من أجل أن تقربهم عند الله زلفى ... يقول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 3]. يقول ابن عطية في تفسير قوله تعالى: - وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ: (يعني ما ذبح لغير الله تعالى، وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل، وكذلك النصارى، وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به، فذلك إهلاله) (¬1). ويقول ابن تيمية: - (قوله تعالى: - وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ [المائدة:3] , ظاهره أنه ما ذبح لغير الله تعالى، مثل أن يقال هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن، متقربين به إلى الله سبحانه، كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك أولى، وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله، ولم يحرم ما ذبح لغير الله، كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، بل لو قيل بالعكس لكان أوجه، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب، بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان) (¬2). ويقول ابن كثير: (وقوله تعالى: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج: - وهي ثلاثمائة وستون نصباً ... فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب، فهو من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا) (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير ابن عطية)) (5/ 21). (¬2) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 563). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 12) باختصار.

ويقول الشوكاني: (قوله تعالى: ذَلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا، والفسق الخروج عن الحد، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن الفسق هو أشد الكفر، لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر) (¬1). وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئاً يكتمه الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع، فقيل: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاُ، ولعن الله من غير منار الأرض)) (¬2). ومما يبين لك أن هؤلاء الذين ينذرون أو يذبحون لغير الله تعالى، إنما هو عن اعتقاد بأنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ما يرى من أحوالهم وأوضاعهم، وقد بين العلماء ذلك في كتبهم، فهذا الصنعاني يوضح هذا الأمر فيقول – مناقشاً شبهات من يذبح لغير الله -: (فإن قال إنما نحرت لله، وذكرت اسم الله عليه، فقل: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم، فقل له: هذا النحر لغير الله تعالى، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين؟ إليه أنت تعلم يقيناً أنك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصداً له) (¬3). ويقول أيضاً – مبيناً حكم هذه النذور والنحائر -: (فإن قلت هذه النذور والنحائر ما حكمها؟ قلت: قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها، يسعون في جمعها، ولو بارتكاب كل معصية، ويقطعون الفيافي من أدنى الأرض والأقاصي، فلا يبذل أحد من ماله شيئاً إلا معتقداً لجلب نفع أكثر منه، أو دفع ضرر، فالناذر للقبر ما أخرج ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما أراده، ما أخرج درهماً) (¬4). ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (2/ 10) وانظر ((فتح القدير)) (1/ 57) و ((إيثار الحق على الخلق)) لابن الوزير (ص: 451). (¬2) رواه مسلم (1978). (¬3) ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 33). (¬4) ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 33)، وانظر ((سبل السلام)) (4/ 225) للصنعاني.

وكذلك الشوكاني يقرر أن هذه الأعمال الشركية صادرة عن الباطن، وأن أصحابها يعتقدون فيها النفع والضر، فيقول: (وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال، والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف، ومن زعم أن ثم فرقاً بين الأمرين فليهده إلينا، ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر لهم عبادتهم، فقل له: فلأي مقتضى صنعت هذا الصنع؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر ربك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عرض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم، فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله، وتنذر لله، فلأي معنى جعلت ذلك للميت وحملته إلى قبره، فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، أو أمر قد أردته .. ) (¬1). ويعلل صاحب كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) (¬2) كون النذر لغير الله تعالى من الشرك الاعتقادي قائلاً: (لأن الناذر لم ينذر هذا النذر الذي لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أنه يضر وينفع، ويعطي ويمنع، إما بطبعه، وإما بقوة سببية فيه، ويجلب الخير والبركة ويدفع الشر والعسرة، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين وشركهم حكيهم وقولهم أنهم قد وقعوا في شدائد عظيمة، فنذروا نذراً لفلان، وفلان، فانكشفت شدائدهم واستراحت خواطرهم، فقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي سبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، ومن تأمل القرآن وسنة المبعوث به صلى الله عليه وسلم، ونظر أحوال السلف الصالح، علم أن هذا النذر نظير ما جعلته المشركون لآلهتهم في قوله تعالى: هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا [الأنعام: 136]) (¬3). ويتحدث مبارك الميلي (¬4) عن واقع أولئك الناس الذين يذبحون لغير الله تعالى، ويبين أنهم إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد وطلب للقربى من تلك المعبودات ... فكان مما قاله: (إن كل من خالط العامة، يجزم بأن قصدهم بذبائح الزردة (¬5) التقرب من صاحب المزار، ويكشف عن ذلك أشياء: أحدها: أنهم يضيفون الزردة إلى صاحب المزار، فيقولون: زردة سيدي فلان، أو طعام سيدي عبد القادر مثلاً. ثانيها: إنهم يفعلونها عند قبره، وفي جواره، لا يرضون لها مكاناً آخر. ثالثها: إنهم إن نزل المطر إثرها، نسبوه إلى سر المذبوح له، وقوي اعتقادهم فيه، وتعويلهم عليه. ¬

(¬1) ((الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد)) (ضمن الرسائل السلفية) (ص: 20، 21). (¬2) اشترك في تأليف هذا الكتاب كل من: الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وحمد بن معمر، ومحمد بن غريب. انظر للتحقيق في هذا التوثيق كتاب ((دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) للكاتب (59، 60). (¬3) ((التوضيح)) (ص: 382، 383) = باختصار، وانظر ((فتح المنان تتمة منهاج التأسيس)) لمحمود الألوسي (ص: 418 – 421). (¬4) مبارك بن محمد الميلي، من علماء الجزائر، عاش في قسنطينة، وولي أمانة سر جمعية علماء الجزائر، له مؤلفات، توفي حوالي سنة 1357 هـ. انظر ((معجم المؤلفين)) (8/ 175). (¬5) هكذا تسمى الذبائح التي ذبحت لغير الله باسم " الزردة" أو " النشرة " في بعض جهات الجزائر، بينما يسمون ما ينذرون لغير الله بالغفارة انظر ((رسالة الشرك ومظاهره)) لمبارك الميلي (ص: 225، 256، 269)، وفي اليمن يسمون تلك الذبائح بالجلبة، وأما النذور فيطلقون عليها " التلم " انظر ((الدرر السنية)) (8/ 286)، و ((تطهير الاعتقاد)) للصنعاني (ص: 37).

رابعها: - أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة، نكسوا على رؤوسهم، وقالوا: إن وليهم غضب عليهم، لتقصيرهم في جانبه) (¬1). وفي ختام مسألة الذبح أو النذر لغير الله تعالى، ننبه إلى عدم الخلط بين ما يذبح لغير الله تعالى تقرباً أو تعظيماً فهذا من باب العبادات والقربات، وبين ما يذبح عادة بقصد الأكل أو إكرام ضيف ونحوهما. ولما ساق النووي كلام بعض علماء الشافعية في هذا الشأن قائلاً:- (وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً، أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله تعالى، قال الرافعي هذا إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه كذبح العقيقة لولادة المولود، وقيل هذا لا يوجب التحريم، والله أعلم) (¬2). فقد عقب الميلي على ما سبق إيراده فقال: (ونقله عن الرافعي غير مخالف لفتوى أهل بخارى إلا بالقصد، فهو خلاف في حال. فمن قصد التقرب إلى الأمير، صدقت عليه الفتوى، ومن قصد مجرد السرور أفتى بقول الرافعي) (¬3). وقال سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب معلقاً على هذه المسألة:- (إن كانوا يذبحونه استبشاراً كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك، وإن كانوا يذبحونه تقرباً إليه، فهو داخل في الحديث يعني حديث ((لعن الله من ذبح لغير الله)) (¬4)) (¬5). كما يجب التفريق بين النذر الشركي المخرج من الملة، وبين نذر المعصية فيما دون ذلك، ونبين ذلك من خلال نص في كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) حيث جاء فيه ما يلي:- (والنذر غير الجائز قسمان: أحدهما: نذر فعل معصية، كشرب الخمر، وقتل المعصوم، فيحرم الوفاء به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) (¬6)؛ ولأن معصية الله تبارك وتعالى لا تباح في حال من الأحوال ... الثاني: النذر لغير الله تعالى كالنذر لإبراهيم الخليل، أو محمد النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، أو ابن عباس، أو عبد القادر، أو الخضر، فلا خلاف بين من يعتد به من علماء المسلمين أنه من الشرك الاعتقادي) (¬7). ومن جانب آخر، فقد لبس خصوم عقيدة التوحيد في هذه المسألة، فزعموا أن الذبح لغير الله، وكذا النذر لغيره، إنما هي من المحرمات التي دون الشرك .. ، وذلك بسبب سوء فهمهم للنصوص الشرعية، وكلام أهل العلم، بل ربما نسبوا هذا التلبيس لبعض أئمة السلف) (¬8). وقد قام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بكشف هذا التلبيس، وبيان الحق في هذه القضية فكتب جواباً في الرد على ابن سحيم، حين زعم الأخير أن النذر لغير الله حرام ليس بشرك، فقال الشيخ في الرد عليه: ¬

(¬1) ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص257). (¬2) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (13/ 141) وانظر ((روضة الطالبين)) للنووي (3/ 205). (¬3) ((رسالة الشرك ومظاهره)) (ص 253). (¬4) [9883])) رواه مسلم (1978). (¬5) تيسير العزيز الحميد (ص 192) , وقد أشار الشاطبي في الموافقات إلى هذا التفريق (2/ 210). (¬6) [9885])) رواه البخاري (6696). (¬7) ((التوضيح)) (ص: 382، 383) (¬8) كما فعل ذلك داود بن جرجيس النقشبندي، فزعم أن ابن تيمية وابن القيم لا يرون كفر من ذبح أو نذر لغير الله ... وحرف بعض كلامهما، وبتر البعض الآخر، وأساء الفهم والقصد في هذه المسألة، وقد قام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ بالرد عليه في كتاب تحت عنوان ((منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس)) وأتمه محمود شكري الألوسي.

(فدليلك قولهم أن النذر لغير الله حرام بالإجماع، فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك فإن كان هذا قدر عقلك، فكيف تدعي المعرفة؟ يا ويلك ما تصنع بقول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151] , فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر يا هذا الجاهل الجهل المركب، ما تصنع بقول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف: 33] , إلى قوله: وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [الأعراف: 33].هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام، أنه ليس بكفر، فقولك أن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم، بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه أنه مصرح في (الإقناع) أن النذر عبادة، ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره، كيف لا يكون شركاً؟) (¬1). ويورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاعدة مهمة أثناء جوابه على من ادعى أن الذبح للجن منهي عنه فهو معصية وليس ردة .. حيث قال الشيخ: (قوله: الذبح للجن منهي عنه، فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي أن لفظ التحريم والكراهة وقوله: لا ينبغي ألفاظ عامة تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي هي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، مثل استعمالها في المكفرات قوله: لا إله إلا الذي لا تنبغي العبادة إلا له (¬2)، وقوله: وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 92] , ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [الأنعام: 151] , وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: (يحرم كذا) لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر، وقولهم (يكره) كقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء: 23] إلى قوله: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 38] , وأما كلام الإمام أحمد في قوله: (أكره كذا) فهو عند أصحابه على التحريم. إذا فهمت هذا فهم صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج (¬3)، وقالوا الذبيحة حرام ولو سمي عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان، الأول: - أنها مما أهل به لغير الله، والثاني: أنها ذبيحة مرتد والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل وسمى عليها) (¬4). (ب) وإذا انتقلنا إلى حكم السجود أو الركوع لغير الله تعالى، فهذا من الشرك الظاهر، فلا ريب أن السجود والركوع عبادتان لله وحده لا شريك له، فمن سجد أو ركع لغير الله تعالى فقد أشرك. ¬

(¬1) ((مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) (5/ 229) (¬2) يقول ابن القيم: - " وإنما تجيء لا ينبغي في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للذي هو في غاية الامتناع شرعاً ((الجواب الكافي)) (ص: 179)، وانظر ((تجريد التوحيد)) للمقريزي (ص: 21). (¬3) أي تخرج من الملة. (¬4) ((مجموعة مؤلفات الشيخ)) (3/ 66، 67)، وانظر ((منهاج التأسيس)) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص: 239، 245).

يقول الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37] , أي: لا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به) (¬1). (قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: إن من أراد أن يكون عبداً لله خالصاً، فلا يسجد إلا له سبحانه، ولا يسجد للشمس والقمر، نبه بهما على غيرهما من المخلوق العلوي، فالسفلي من الأحجار والأشجار والضرائح ونحوها بالأولى. وقد دلت هذه الآية على أن ديننا هو أن السجود حق الخالق، فلا يسجد لمخلوق أصلاً كائناً ما كان، فإن المخلوقية يتساوى فيها الشمس والقمر، والولي والنبي، والحجر والمدر، والشجر ونحوها) (¬2). وأيضاً فإن الله تعالى قال بعد الآية السابقة: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38] , فمن سجد لله وحده، فقد خضع وانقاد لله وحده، وحقق كمال الذل والمحبة لله تعالى، وضده من استكبر عن إفراد الله بالعبادة - ومنها السجود - وقد توعد الله تعالى هؤلاء المستكبرين بالعذاب المهين، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] (¬3). ويقول القرطبي: (وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم، وعند دخولهم على مشايخهم، واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه، يسجد للأقدام لجهله سواء كان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم) (¬4). ويقول ابن القيم في بيان هذا الشرك: (ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ، فإنه شرك من الساجد والمسجود له، والعجب أنهم يقولون: ليس هذا سجود، وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراماً وتواضعاً، فيقال لهؤلاء ولو سميتموه ما سميتموه، فحقيقة السجود: وضع الرأس لمن يسجد له، وكذلك السجود للصنم، وللشمس، وللنجم، وللحجر، كله وضع الرأس قدامه. ومن أنواعه: ركوع المتعممين بعضهم لبعض عند الملاقاة، وهذا سجود في اللغة، وبه فسر قوله تعالى: وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [البقرة: 58] , أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول بالجبهة على الأرض، ومنه قول العرب: سجدت الأشجار إذا أمالتها الريح) (¬5). ويقول أيضاً: (جاء شيوخ الضلال والمزاحمون للربوبية فزينوا لمريديهم حلق رؤوسهم لهم، كما زينوا لهم السجود لهم وسموه بغير اسمه، وقالوا: هو وضع الرأس بين يدي الشيخ. ولعمر الله إن السجود لله تعالى هو وضع الرأس بين يديه سبحانه، وزينوا لهم أن ينذروا لهم، ويتوبوا لهم، ويحلفوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذهم أرباباً وآلهة من دون الله، قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 79 - 80]. ¬

(¬1) انظر ((تفسير ابن كثير)) (4/ 104). (¬2) ((الدين الخالص)) (2/ 53). (¬3) أي صاغرين حقيرين. (¬4) ((تفسير القرطبي)) (1/ 294). (¬5) ((مدارج السالكين)) (1/ 344، 345)، وانظر ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 178)، و ((تجريد التوحيد)) للمقريزي (ص: 21)

وأشرف العبودية عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشيوخ منها أشرف ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع، فإذا لقي بعضهم بعضاً ركع له، كما يركع المصلي لربه سواء، وأخذ الجبابرة منهم القيام، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم، وهم جلوس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطيها مخالفة صريحة له، فنهى عن السجود لغير الله وقال: ((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد)) (¬1). وتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله، وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوز العبودية لغير الله، وأيضاً فالانحناء عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى: وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً [البقرة: 58]، أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه والمقصود أن النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه، وأشركت فيها من تعظمه من الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له، وقامت بين يديه قيام الصلاة وحلفت لغيره، ونذرت لغيره، وحلقت لغيره، وذبحت لغيره، وطافت لغير بيته وسوت من تعبده من المخلوقين برب العالمين، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل، وهم الذين بربهم يعدلون. قال تعالى تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 97 - 98]) (¬2). وإذا تقرر كون السجود لغير الله تعالى شركاً بالله تعالى، فينبغي أن نفرق بين سجود العبادة، وسجود التحية، فأما سجود العبادة فقد سبق الحديث عنه، وأما سجود التحية فقد كان سائغاً في الشرائع السابقة، ثم صار محرماً على هذه الأمة، فهو معصية لله تعالى، فمن المعلوم أن سجود العبادة القائم على الخضوع والذل والتسليم والإجلال لله وحده هو من التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وإن صرف لغيره فهو شرك وتنديد، ولكن لو سجد أحدهم لأب أو عالم ونحوهما وقصده التحية والإكرام فهذه من المحرمات التي دون الشرك، أما إن قصد الخضوع والقربة والذل له فهذا من الشرك، ولكن لو سجد لشمس أو قمر أو قبر فمثل هذا السجود لا يتأتى إلا عن عبادة وخضوع وتقرب فهو سجود شركي، وإليك توضيح ذلك من خلال النصوص التالية:- يقول الله تعالى:- وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا [يوسف: 100]. ¬

(¬1) ذكره السيوطي في ((الدر المنثور)) (2/ 250) قال: وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: (بلغني أن رجلا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ *آل عمران: 79 - 80*, قال المناوي في ((الفتح السماوي)) (1/ 370): قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: لم أجد لَهُ إِسْنَادًا، وَنَقله الواحدي فِي ((الْأَسْبَاب)) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَكَذَا أخرجه عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) عَنهُ. (¬2) ((زاد المعاد)) (4/ 159 –161) باختصار، وانظر ((إعلام الموقعين)) (3/ 117، 155) و ((شرح الشروط العمرية)) (ص: 94)

يقول ابن عطية – في معنى السجود: (واختلف في هذا السجود، فقيل: كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض، وقيل: بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه، مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود – على أي هيئة كان – فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: - هذه كانت تحية الملوك عندهم) (¬1). ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وقد كان سائغاً في شرائعهم، إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصًّا بجناب الرب سبحانه وتعالى، هذا مضمون قول قتادة وغيره – إلى أن قال: - والغرض أن هذا كان جائزاً في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سجداً) (¬2). ويقول محمد رشيد رضا- عند تفسيره لقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [البقرة: 34]-: (وهو سجود لا نعرف صفته، ولكن أصول الدين تعلمنا أنه ليس سجود عبادة إذ لا يعبد إلا الله تعالى، والسجود في اللغة التطامن والخضوع والانقياد، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان، ووضع الجبهة على التراب، وكان عند القدماء من تحية الناس للملوك والعظماء، ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليهم السلام) (¬3). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها)) (¬4). وعن قيس بن سعد (¬5) رضي الله عنه قال: ((أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم (¬6) فقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك. قال: أرأيت لو مررت على قبري أكنت تسجد له، قال: لا، قال: - فلا تفعلوا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق)) (¬7). قال الطيبي (¬8): ¬

(¬1) ((تفسير ابن عطية)) (9/ 377،378)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (1/ 293، 9/ 265) (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 491) باختصار. (¬3) ((تفسير المنار)) (1/ 265). (¬4) رواه أحمد (3/ 158) (12635) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 363) , الحديث ذكره الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) وقال: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح غير حفص ابن أخي أنس وهو ثقة, ووافقه الألباني في ((إرواء الغليل)) (7/ 55). (¬5) هو قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، صحابي جليل، أمير مجاهد، كان يطعم الناس، وصاحب دهاء، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، مات سنة 85 هـ. انظر ((الإصابة)) (5/ 473)، و ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 102). (¬6) أي الفارس الشجاع. (¬7) رواه أبو داود (2140) والطبراني (18/ 351) والحاكم (2/ 204) والدارمي (1/ 406) وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال ابن حزم في ((المحلى)) (10/ 332): ساقط, وقال الذهبي في ((المهذب)) (6/ 2872): فيه عبد الرحمن بن أبي بكر إن كان ابن شريك فهو ضعيف, وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/ 362): في إسناده شريك بن عبد الله القاضي وقد تكلم فيه غير واحد وأخرج له مسلم في المتابعات, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) دون جملة ((القبر)). (¬8) هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي، من علماء الحديث والتفسير، له ردود على المبتدعة، كان كريماً جواداً، له مؤلفات، توفي سنة 743 هـ. انظر ((الدرر الكامنة)) 2/ 156، و ((البدر الطالع)) (1/ 229).

(أي: اسجدوا للحي الذي لا يموت، ولمن ملكه لا يزول، فإنك إنما تسجد لي الآن مهابة وإجلالاً، فإذا صرت رهين رمس، امتنعت عنه) (¬1). ويبين ابن تيمية هذه المسألة فيقول: (أما تقبيل الأرض، ووضع الرأس، ونحو ذلك مما فيه السجود، مما يفعل قدام بعض الشيوخ، وبعض الملوك، فلا يجوز، بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضاً، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ((الرجل منا يلقى أخاه، أينحني له؟ قال لا ... )) (¬2). وأما فعل ذلك تديناً وتقرباً فهذا أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة وتديناً فهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل) (¬3). ويقول أيضاً: (وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله عز وجل منهي عنه) (¬4). ويقول في موضع ثالث: (وحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحجرة الخليل، وغيرهما من المدافن التي فيها نبي ورجل صالح، لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة، بل منهي عن ذلك، وأما السجود لذلك فكفر) (¬5). (ج) وإذا انتقلنا إلى الطواف، فإن المراد بالطواف الذي يكون شركاً هو الطواف بغير الكعبة مع قصد التقرب لغير الله تعالى، كالطواف بالقبور والمشاهد ونحوها، فالطواف عبادة؛ لقوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29] , وصرف العبادة أو شيء منها لغير الله شرك، وأما لو طاف بتلك القبور بقصد التقرب إلى الله تعالى فهذا محرم، وبدعة منكرة، ووسيلة لعبادة تلك القبور). يقول ابن تيمية في هذه المسألة: (وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب، فقال: طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به رسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره) (¬6). ويقول أيضاً: (ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلي إليها فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكاناً يطاف به كما يطاف بالكعبة؟ والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال ... ) (¬7). ¬

(¬1) ((عون المعبود)) (6/ 187). (¬2) رواه الترمذي (2728) وابن ماجه (3702) وأحمد (3/ 198) (13067) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 100) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه واللفظ للترمذي, ونصه: (قال رجل: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال لا ..... ) , قال الترمذي هذا حديث حسن, وصححه ابن القيم في ((زاد المعاد)) (4/ 148) , وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/ 516): في إسناده حنظلة بن عبيد الله البصري ضعفوه ونسبوه إلى الاختلاط, وقال ابن حجر في ((تلخيص الحبير)) (3/ 1164): استنكره أحمد لأنه من رواية السدوسي وقد اختلط وتركه يحيى القطان، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 372) باختصار. (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 92). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 136)، وانظر ((تهذيب رسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات)) (ص: 50، 51). (¬6) ((تهذيب رسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات)) (2/ 308). (¬7) ((تهذيب رسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات)) (27/ 10) باختصار.

وإذا تقرر حكم هذه الأعمال ... فيمكن إيجاز أوجه كون هذه الأعمال كفر بما يلي:- (أ) أن هذه الأعمال شرك يناقض توحيد العبادة، فإذا كان الذبح والنذر، وكذا السجود والركوع والطواف عبادات لا يجوز صرفها إلا لله تعالى وحده، فمن أثبت لغير الله تعالى ما لا يكون إلا لله فهو كافر (¬1)؛ لأن الشرك الأكبر ... هو صرف نوع أو فرد من العبادة لغير الله تعالى، والعبادة الشرعية تتضمن غاية الذل لله تعالى، مع غاية المحبة له) (¬2). وكما يقول ابن تيمية: (فالإله هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، والخوف والرجاء ونحو ذلك) (¬3). ومن المعلوم أن الذبح والنذر والسجود والركوع والطواف ونحوها عبادات تجمع بين الخضوع والخوف والإجلال، والرجاء والمحبة والقرب، فإذا صرفت هذه العبادات لله وحده فهذا إيمان وتوحيد، وإذا صرفت لغيره فهذا كفر وتنديد. وقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم عندما زعموا أن شرك التقرب والنسك ليس شركاً بإطلاق، ما لم يتضمن عندهم الشرك في التوحيد العلمي الخبري؛ لأنهم حصروا التوحيد في الربوبية والأسماء والصفات ومن ثم فالشرك عندهم هو الشرك في هذا التوحيد) (¬4). ومثال ذلك ما توهمه بعضهم بأن السجود لغير الله تعالى لا يكون كفراً إلا إذا اعتقد الربوبية فيمن سجد له (¬5)، والصحيح أن السجود لغير الله تعالى شرك يناقض توحيد العبادة، وإذا انضم إلى ذلك اعتقاد الربوبية فيمن سجد له، فهذا شرك في توحيد الربوبية. ومنهم من قال: إن السجود للصنم أو الشمس ونحوهما علامة الكفر (¬6) وإن لم يكن في نفسه كفر، وهذا ليس بصحيح، بل السجود للصنم أو الشمس في حد ذاته كفر وشرك بالله تعالى في العبادة، فهو خضوع ورجاء وتذلل لغير الله تعالى، ولا تقوم عبودية الله تعالى إلا بتحقيق السجود له سبحانه، كما قال تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37]. (ب) أن من قصد بتلك العبادات غير الله تعالى، وصرفها لغيره سبحانه، فقد شبه المخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر. ولذا يقول ابن القيم: (ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونها: غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع - إلى أن قال- فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة فمن تاب لغيره فقد شبهه به) (¬7). ويقول- في كتاب آخر -: (ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم، والذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله. ¬

(¬1) انظر ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 214). (¬2) انظر ((العبودية)) لابن تيمية (ص: 44). (¬3) ((العبودية)) (ص: 51). (¬4) انظر: لمزيد من التفصيل رسالة ((ضوابط التكفير للقرني)) (ص: 173، 174) .. (¬5) انظر: ((تهذيب الفروق والقواعد السنية)) لمحمد علي بن حسين المالكي (بهامش الفروق للقرافي) (1/ 137)، وانظر ((السيل الجرار)) للشوكاني (4/ 580)، وقارنه بكلامه في ((الدر النضيد)) (ص: 34، 35). (¬6) انظر ((أصول الدين)) لعبد القاهر البغدادي (ص: 266)، و ((الشفا)) لعياض (2/ 1072) (¬7) ((الجواب الكافي)) (ص: 183) باختصار.

فأهل الشرك غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلهاً واحداً، وقالوا: اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص: 6] , وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف، ويعظم ويسجد له، وتقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى، فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه) (¬1). ويقول ابن القيم أيضاً: (وقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [فصلت: 11] إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك، أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبهون والمشركون. وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام .. فإن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم، والخضوع، والنذر له والسجود له وحلق الرأس له، والاستغاثة به) (¬2). ومما قاله المقريزي – في شأن هذا التشبيه: (إن المشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، وهي التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى. وسوَّى بين التراب ورب الأرباب، فأي فجور وذنب أعظم من هذا. واعلم أن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعاً وفطرة، فمن جعل ذلك لغيره فقد شبه الغير بمن لا شبيه له، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم، أخبر من كتب على نفسه الرحمة أنه لا يغفره أبداً ومن خصائص الإلهية للسجود، فمن سجد لغيره فقد شبهه به، ومنها الذبح له فمن ذبح لغيره قد شبهه به، ومنها حلق الرأس إلى غير ذلك) (¬3). ويتحدث أحمد الدهلوي (¬4) عن هذا التشبيه قائلاً: (حقيقة الشرك أن يعتقد إنسان في بعض المعظمين من الناس أن الآثار العجيبة منه إنما صدرت لكونه متصفاً بصفة من صفات الكمال مما لم يعهد في جنس الإنسان بل يختص بالرب جل مجده، لا يوجد في غيره إلا أن يخلع هو خلعة الألوهية على غيره، فيتذلل عنده أقصى التذلل، ويعامل معه معاملة العباد مع الله تعالى) (¬5). إضافة إلى ذلك فإن هذا التشبيه من أظلم الظلم وأشنعه، ولذا يقول إسماعيل الدهلوي:- (قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] وقد هَدَت لقمان الحكمة العميقة التي أكرمه الله وخصه بها، إلى أن أفحش الظلم أن يجود الإنسان على أحد بحق غيره، فمن أعطى حق الله لأحد خلقه فقد عمد إلى حق أكبر كبير، فأعطاه أذل ذليل، وكان كرجل وضع تاج الملك على مفرق إسكاف، وأي جور أكبر من هذا الجور، وأي ظلم أفحش من هذا الظلم) (¬6). ¬

(¬1) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 322،323) باختصار. (¬2) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 329 - 341) باختصار. (¬3) ((تجريد التوحيد)) (ص 27، 28) باختصار، وكلام المقريزي هاهنا يكاد يطابق كلام ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (ص: 182، 183). (¬4) هو ولي الله بن أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، نشأ بدلهي في الهند، ورحل إلى الحجاز، وصار من كبار العلماء، وأتقن علوماً كثيرة، وله مؤلفات جمة وجهود إصلاحية متعددة، توفي سنة 1180 هـ انظر: ((معجم المؤلفين)) (4/ 292). ومقدمة كتابه ((الفوز الكبير في أصول التفسير)). (¬5) ((حجة الله البالغة)) (1/ 61) بتصرف يسير. (¬6) ((رسالة التوحيد)) (ص: 48، 49).

(ج) أجمع العلماء على أن من صرف عبادة لغير الله تعالى فهو كافر وكما يقول ابن تيمية: (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين) (¬1). ولذا علق الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب على هذا الإجماع قائلاً: (وهو إجماع صحيح، معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادة) (¬2). كما أن حرمة مثل هذا الشرك من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، كما وضحه ابن تيمية بقوله: (فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدًا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله) (¬3). كما يقول أيضاً: (كان من أتباع هؤلاء (المشركين) من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها كما يدعو الله تعالى، ويصوم لها وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك) (¬4). 4 - وفي ختام هذا المبحث، نسرد مجموعة من أقوال العلماء في هذه المسألة:- يقول ابن نجيم الحنفي: (والسجود للجبابرة كفر إن أراد به العبادة، لا إن أراد به التحية على قول الأكثر) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 124). (¬2) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 229). (¬3) ((الرد على البكري)) (ص 376)، وانظر ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/ 29). (¬4) ((درء التعارض)) (1/ 227، 228). (¬5) ((البحر الرائق)) (5/ 134).

وجاء في (الفتاوى البزازية): (والسجدة لهؤلاء الجبابرة كفر؛ لقوله تعالى مخاطباً للصحابة رضي الله عنهم: أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 80] , نزلت حين استأذنوا في السجود له عليه الصلاة والسلام (¬1) ولا يخفى أن الاستئذان لسجود التحية بدلالة: بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ومع اعتقاد جواز سجدة العبادة لا يكون مسلماً، فكيف يطلق عليهم بعد إذ أنتم مسلمون)، وقيل لا يكفر لقصة إخوة يوسف عليه السلام، والقائل الأول يدعي نسخه بتلك الآية، وبقوله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] , وقيل: إن أراد العبادة كفر، وإن أراد التحية لا، وهذا موافق لما ذكر في فتاوى الأصل) (¬2). وقال محمد علاء الدين الحصكفي (¬3) فيمن نذر لغير الله: (واعلم أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشموع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء الكرام تقرباً إليهم فهو بالإجماع باطل وحرام) (¬4). وقال ابن عابدين شارحاً لما سبق: (قوله باطل وحرام لوجوه: منها أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق، ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى، واعتقاده ذلك كفر) (¬5). ¬

(¬1) ذكره السيوطي في ((الدر المنثور)) (2/ 250) قال: وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: (بلغني أن رجلا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ *آل عمران: 79 - 80*, قال المناوي في ((الفتح السماوي)) (1/ 370): قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: لم أجد لَهُ إِسْنَادًا، وَنَقله الواحدي فِي ((الأَسْبَاب)) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَكَذَا أخرجه عبد بن حميد فِي ((تَفْسِيره)) عَنهُ. (¬2) ((الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية)) (6/ 343)، وانظر كلام صنع الله الحلبي الحنفي في ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب (ص: 207)، وفتح المنان للألوسي (ص: 420)، ورسالة في ((تحريم اتخاذ الضرائح المصنوعة من الخشب)) لمحمد الأبادي (ص: 25 – 28)،: - و ((روح المعاني)) للألوسي (17/ 212)، و ((نصاب الاحتساب)) لعمر السنامي (ص: 317). (¬3) محمد بن علي بن محمد الحصكفي الدمشقي الحنفي، فقيه، أصولي، مفسر، نحوي، رحل إلى القدس، وتولى إفتاء الأحناف، له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 1088 هـ. انظر: ((معجم المؤلفين)) (11/ 56). (¬4) ((الدر المختار مع حاشية ابن عابدين)) (2/ 439) (¬5) ((حاشية ابن عابدين)) (2/ 439).

ويقول ابن عبد البر عند شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (¬1): (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجداً، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم) (¬2). ويقول القاضي عياض: (وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر ... كالسجود للصنم، وللشمس، والقمر، والصليب، والنار) (¬3). ويقول النووي: (اعلم أن الذبح للمعبود وباسمه، نازلة منزلة السجود له، وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان، أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة، لم تحل ذبيحته، وكان فعله كفراً، كمن سجد لغيره سجدة عبادة) (¬4). ويقول أيضاً: (والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح كالسجود للصنم، أو الشمس ... ) (¬5). ولما أورد الرملي (¬6) أنواع الردة ... كان مما قاله: (السجود لصنم أو شمس، أو مخلوق آخر؛ لأنه أثبت لله شريكاً، نعم إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كسجود أسير في دار الحرب بحضرة كافر خشية منه فلا كفر – إلى أن قال – وإن قصد تعظيم مخلوق بالركوع كما يعظم الله به فلا فرق بينهما في الكفر حينئذ) (¬7). ويقول البربهاري: (ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يردَّ آية من كتاب الله عز وجل، أو يردَّ شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله، وإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام) (¬8). ¬

(¬1) رواه مالك (1/ 172) من حديث عطاء بن يسار, وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (2/ 150) من حديث زيد ابن أسلم, قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/ 347): روي متصلا مسنداً, وقال في ((التمهيد)) (5/ 41): مرسل غريب وهو صحيح, وقال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 349): مرسل, وصححه الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (1/ 165) وقال: رواه مالك مرسلا. وروى أحمد (2/ 246) (7352) والحميدي (2/ 445) من حديث أبي هريرة بنحوه. (¬2) ((التمهيد)) (5/ 45) (¬3) ((الشفا)) (2/ 1072) (¬4) ((روضة الطالبين)) (3/ 205، 206) وانظر (1/ 326) (¬5) ((روضة الطالبين)) (10/ 64)، وانظر ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 136). (¬6) محمد بن أحمد بن حمزة الرملي المصري الشافعي، تولى إفتاء الشافعية بمصر، وصنف شروحاً وحواشي كثيرة، توفي سنة 1004 هـ انظر ((الأعلام)) (6/ 7)، و ((معجم المؤلفين)) (8/ 255). (¬7) ((نهاية المحتاج)) (7/ 417)، وانظر ((قليوبي وعميرة)) (4/ 176)، و ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص 403)، و ((الإعلام)) لابن حجر الهيتمي (ص: 348). (¬8) ((شرح السنة)) للبربهاري (ص: 31).

ويقول ابن تيمية في مسألة السجود لغير الله ووسائلها: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقال: ((فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار)) (¬1) , ونهى عن تحري الصلاة في هذا الوقت، لما فيه من مشابهة الكفار في الصورة، وإن كان المصلي يقصد السجود لله لا للشمس، لكن نهي عن المشابهة في الصورة لئلا يفضي إلى المشاركة في القصد، فإذا قصد الإنسان السجود للشمس وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، كان أحق بالنهي والذم والعقاب، ولهذا يكون كافراً، كذلك من دعا غير الله، وحج إلى غير الله هو أيضاً شرك، والذي فعله كفر) (¬2). ويبين ابن تيمية أن السجود الشركي من الأمور المتفق على تحريمها عند الرسل عليهم السلام، فيقول: (أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله، كما قال سبحانه وتعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45]) (¬3). ومما سطره هذا الإمام في مسألة النذر الشركي قوله رحمه الله: (ولا يجوز أن ينذر أحد إلا طاعة، ولا يجوز أن ينذرها إلا لله، فمن نذر لغير الله فهو مشرك. كمن صام لغير الله، وسجد لغير الله، ومن حج إلى قبر من القبور فهو مشرك) (¬4). ويقول أيضاً: (وأما النذر للموتى من الأنبياء والمشائخ وغيرهم، أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم، فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى، سواء كان النذر نفقة أو ذهباً أو غير ذلك، وهو شبيه بمن ينذر للكنائس والرهبان وبيوت الأصنام) (¬5). ويؤكد ابن تيمية على إزالة مثل تلك النذور فيقول: وكل ما ينذر له، أو يعظمه من الأحجار أو الأشجار، ونحوها، يجب أن يزال؛ لأنه يحصل للناس به ضرر عظيم في دينهم، كما كسر الخليل عليه السلام الأصنام، وكما حرق موسى عليه السلام العجل، وكما كسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصنام وحرقها لما فتح مكة). (¬6) إلى أن قال: (ومن قال أنه يشفى بمثل نذره لهذه الأشياء فهو كاذب، بل يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإنه مكذب لله ورسوله ... ) (¬7). وأورد الشاطبي مثال من ذبح لغير الله تعالى مع أمثلة أخرى على مسألة قررها بقوله: (كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل ... ؛ لأن الأخذ في خلاف مقاصد الشريعة مشاقة ظاهرة، والله تعالى يقول: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] , كما أن القاصد لخلاف الشرع مستهزئ بآيات الله وأحكامه، والله تعالى يقول: وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا [البقرة: 231]) (¬8). ¬

(¬1) رواه مسلم (832) من حديث عمرو بن عبسة السلمي. (¬2) ((الرد على الأخنائي)) (ص: 61)، وانظر ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/ 11، 23، 11/ 502) و ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 768). (¬3) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 192). (¬4) ((منهاج السنة)) (2/ 440). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 504). (¬6) رواه البخاري (2478) ومسلم (1781) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا فجعل يطعنها بعود كان بيده .... )) (¬7) ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص 551)، وانظر ((الفتاوى)) (33/ 123)، و ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 644 - 646). (¬8) انظر: ((الموافقات)) (2/ 333 – 335) باختصار.

وذكر مرعي بن يوسف الكرمي أن السجود للحكام بقصد العبادة كفر، وبقصد التحية كبيرة (¬1). ومما قاله أحمد الفاروقي السرهندي (¬2) في مكتوباته: (والتبري من الكفر شرط الإسلام، والاجتناب عن شائبة الشرك توحيد، والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام، كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام عين الشرك والضلالة، وطلب الحوائج من الأحجار المنحوته نفس الكفر – إلى أن قال – وما يفعلونه من ذبح الحيوانات المنذورة للمشائخ عند قبور المشائخ المنذورة لهم جعله الفقهاء داخلاً في الشرك، وألحقوه بجنس ذبائح الجن الممنوع عنها شرعاً) (¬3). ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب في هذا الشأن: (والعبادة أنواع كثيرة، لكني أمثلها بأنواع ظاهرة لا تنكر، من ذلك السجود فلا يجوز لعبد أن يضع وجهه على الأرض ساجداً إلا لله وحده لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي، ومن ذلك الذبح فلا يجوز لأحد أن يذبح إلا لله وحده، كما قرن الله بينهما في القرآن في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162] , والنسك هو الذبح، وقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] فتفطن لهذا، واعلم أن من ذبح لغير الله من جني أو قبر، فكما لو سجد له، وقد لعنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) (¬4). ومما كتبه الشوكاني عن مفاسد البناء على القبور قوله: (ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمي بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام: أن كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام، وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقرباً به إليه، راجياً ما يضمر حصوله منه، فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان، إذ إنه لا فرق بين نحر النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثناً، وبين قبر لميت يسمونه قبراً ... ) إلى أن قال: (ولا شك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه، واستدفاع الشر به، وهذا عبادة لا شك فيها، وكفاك من شر سماعه) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((غاية المنتهى)) (3/ 337)، وانظر ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 137). (¬2) أحمد بن عبدالأحد السرهندي، النقشبندي، من علماء الهند، دعا إلى نبذ البدع، اشتغل بالتدريس، له مؤلفات، توفي سنة 1034 هـ. انظر ((الأعلام)) (1/ 142)، ((جم المؤلفين) (1/ 259). (¬3) ((منتخبات من المكتوبات) للسرهندي (ص220) (¬4) [9956])) رواه مسلم (1978). (¬5) ((شرح الصدور بتحريم رفع القبور)) (ص20) باختصار

ومما قاله الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين في هذا الموضوع: (فالدين كله داخل في العبادة، فإذا علم الإنسان وتحقق معنى الإله، وأنه المعبود، وعرف حقيقة العبادة، تبين له أن من جعل شيئاً من العبادة لغير الله، فقد عبده واتخذه إلهاً، وإن فر من تسميته معبوداً أو إلهاً، فتغير الاسم لا يغير حقيقة المسمى، ولا يزيل حكمه ولما سمع عدي بن حاتم (¬1) - وهو نصراني – قول الله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ [التوبة: 31] , قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم. قال: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى، قال: فذلك عبادتهم)) (¬2). فعديٌّ ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم لهم، فأخبره صلى الله عليه وسلم أن ذلك عبادة منهم لهم، مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم. وكذلك ما يفعله عباد القبور من دعاء أصحابها، والتقرب إليهم بالذبائح والنذور، عبادة منهم للمقبورين، وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة) (¬3). ويقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب – في توجيهه القول بأن النذر لغير الله شرك -: (وذلك لأن الناذر لله وحده قد علق رغبته به وحده، لعلمه بأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فتوحيد القصد هو توحيد العبادة، ولهذا ترتب عليه وجوب الوفاء فيما نذره طاعة لله، والعبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك شركاً بالله لالتفاته إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، فقد جعله شريكاً لله في العبادة) (¬4). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف- ص 269 ¬

(¬1) عدي بن حاتم بن عبدالله الطائي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلم في سنة تسع، شهد فتح العراق، وكان جواداً، مات سنة 68 هـ. انظر: ((الإصابة)) (4/ 472) و ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 162). (¬2) [9959])) رواه الترمذي (3095) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 116) والطبراني (17/ 92) , قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث, وحسنه ابن تيمية في ((حقيقة الإسلام والإيمان)) (ص: 111) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 861): علة الحديث هي جهالة غطيف ابن أعين, وحسنه في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) ((الانتصار)) (ص: 33،34) باختصار. (¬4) ((قرة عيون الموحدين)) (ص: 85) وانظر جواب الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ عن الذبح لغير الله تعالى في ((الدرر السنية)) (8/ 286) وجواب الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ عن الذبح لغير الله وكذا النذر لغير الله في ((فتاويه)) (1/ 105 – 107) وانظر ((فتاوى ابن باز)) (3/ 322) و ((المجموع الثمين)) لابن عثيمين (1/ 41)، و ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 89، 110، 112 – 116، 127، 132، 220، 258).

المطلب الثاني: الاستغاثة بغير الله تعالى

المطلب الثاني: الاستغاثة بغير الله تعالى لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين، مثل أن يقول: يا سيدي فلاناً أغثني وانصرني وادفع عني، أو أنا في حسبك. ونحو ذلك. بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم - لما كانوا من جنس عباد الأوثان - صار الشيطان يضلهم ويغويهم، كما يضل عباد الأصنام ويغويهم فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به، وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة، كما تخاطب الشياطين الكهان، وبعض ذلك صدق، لكن لابد أن يكون في ذلك ماهو كذب، بل الكذب أغلب عليه من الصدق. - وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم، وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صور ملكاً على صورته فعل ذلك، ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله! وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به. - كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم، كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب، وهو اليوم موجود في المشركين من الترك والهند وغيرهم. - وأعرفُ من ذلك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به قد جئنا في الهواء ورفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينتُ لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين. - وهذا من أكبر الأسباب التي بها أشرك المشركون وعبدةُ الأوثان، وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم الذين يسمونهم العلاّس يرون أيضاً من يأتي على صورة ذلك الشيخ النصراني الذي استغاثوا به فيقضي بعض حوائجهم. - وهؤلاء الذين يستغيثون بالأموات من الأنبياء والصالحين والشيوخ وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم غاية أحدهم أن يجري له بعض هذه الأمور أو يحكي لهم بعض هذه الأمور فيظن أن ذلك كرامة وخرق عادة بسبب هذا العمل. - ومن هؤلاء من يأتي إلى قبر الشيخ الذي يشرك به ويستغيث به فينزل عليه من الهواء طعام أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك كرامة لشيخه، وإنما ذلك كله من الشياطين. - وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان. وقد قال الخليل عليه السلام: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم: 35 - 36]. كما قال نوح عليه السلام، ومعلوم أن الحجر لا يضل كثيراً من الناس إلا بسبب اقتضى ضلالهم، ولم يكن أحد من عباد الأصنام يعتقد أنها خلقت السموات والأرض، بل إنما كانوا يتخذونها شفعاء ووسائط لأسباب: - منهم من صورها على صور الأنبياء والصالحين، ومنهم من جعلها تماثيل وطلاسم للكواكب والشمس والقمر، ومنهم من جعلها لأجل الجن، ومنهم من جعلها لأجل الملائكة. - فالمعبود لهم في قصدهم إنما هو للملائكة والأنبياء والصالحين أو الشمس أو القمر وهم في نفس الأمر يعبدون الشياطين، فهي التي تقصد من الإنس أن يعبدها وتظهر لهم ما يدعوهم إلى ذلك، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ:40 - 41].

- وإذا كان العابد ممن لا يستحل عبادة الشياطين أوهموه أنه إنما يدعو الأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم ممن يحسن العابد ظنه به. وأما إن كان ممن لا يحرم عبادة الجن عرفوه أنهم الجن. - وقد يطلب الشيطان الممثل له في صورة الإنسان أن يسجد له، أو أن يفعل به الفاحشة أو أن يأكل الميتة ويشرب الخمر، أو أن يقرِّب لهم الميتة، وأكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن من يخاطبهم إما ملائكة وإما رجال من الجن يسمونهم رجال الغيب، ويظنون أن رجال الغيب أولياء الله غائبون عن أبصار الناس. - وأولئك جن تمثلت بصور الإنس أو رئيت في غير صور الإنس، قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6]. - كان الإنس إذا نزل أحدهم بواد يخاف أهله قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، وكانت الإنس تستعيذ بالجن فصار ذلك سبباً لطغيان الجن، وقالت: الإنس تستعيذ بنا!. - وكذلك الرقى والعزائم الأعجمية هي تتضمن أسماء رجال من الجن يُدعون ويُستغاث بهم ويُقسم عليهم بمن يعظمونه، فتطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور. - وهذا من جنس السحر والشرك قال تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 102]. - وكثير من هؤلاء يطير في الهواء وتكون الشياطين قد حملته وتذهب به إلى مكة وغيرها، ويكون مع ذلك زنديقاً يجحد الصلاة وغيرها مما فرض الله ورسوله، ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله. - وإنما يقترن به أولئك الشياطين لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى إذا آمن بالله ورسوله وتاب والتزم طاعة الله ورسوله، فارقته تلك الشياطين، وذهبت تلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات. - وأنا أعرف من هؤلاء عدداً كثيراً بالشام ومصر والحجاز واليمن، وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها، وبلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم. - وإنما ظهرت هذه الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان بحسب ظهور أسبابها، فحيث قوي الإيمان والتوحيد ونور الفرقان والإيمان وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية. - وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشيطانية، والشخص الواحد الذي يجتمع فيه هذا وهذا الذي تكون في مادة تمدُّه للإيمان ومادة تمدُّه للنفاق يكون فيه من هذا الحال وهذا الحال.

- والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل البخشية والطونية والبُدَّى ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم الذين يكونون للكفار من الترك والهند والخُطا وغيرهم تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر، ويصعد أحدهم في الهواء ويحدثهم بأمور غائبة، ويبقى الدف الذي يغني لهم به يمشي في الهواء، ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم، ولا يرون أحداً يضرب له، ويطوف الإناء الذي يشربون منه عليهم ولا يرون من يحمله، ويكون أحدهم في مكان فمن نزل منهم عنده ضَيَّفَه طعاماً يكفيهم، ويأتيهم بألوان مختلفة. - وذلك من الشياطين تأتيه من تلك المدينة القريبة منه أو من غيرها تسرقه وتأتي به. - وهذه الأمور كثيرة عند من يكون مشركاً أو ناقص الإيمان من الترك وغيرهم، وعند التتار من هذا أنواع كثيرة. وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا التوحيد واتباع الرسول، بل دعوا الشيوخ الغائبين واستغاثوا بهم، فلهم من الأحوال الشيطانية نصيب بحسب ما فيهم مما يرضي الشيطان. - ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين مع نوع جهل. يُحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت، ولا يبيت بمزدلفة، ولا يطوف طواف الإفاضة، ويظن أنه حصل له بذلك عمل صالح وكرامة عظيمة من كرامات الأولياء، ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان به، فإن مثل هذا الحج ليس مشروعاً ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين. ومن ظن أن هذا عبادة وكرامة لأولياء الله فهو ضال جاهل. - ولهذا لم يكن أحد من الأنبياء والصحابة يفعل بهم مثل هذا، فإنهم أجل قدراً من ذلك. - وقد جرت هذه القضية لبعض من حُمل وطائفة معه من الإسكندرية إلى عرفة، فرأى ملائكة تنزل وتكتب أسماء الحجاج فقال: هل كتبتموني؟ قالوا: أنت لم تحج كما حج الناس، أنت لم تتعب ولم تحرم ولم يحصل لك من الحج الذي يثاب الناس عليه ما حصل للحجاج. - وكان بعض الشيوخ قد طلب منه بعض هؤلاء أن يحج معهم في الهواء فقال لهم: هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم؛ لأنكم لم تحجوا كما أمر الله ورسوله. قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص 300 ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرح قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (كتاب التوحيد): من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره. يقول: قوله: "من الشرك"، من: للتبعيض، فيدل على أن الشرك ليس مختصاً بهذا الأمر. والاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة. وكلام المؤلف رحمه الله ليس على إطلاقه، بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به، إما لكونه ميتاً، أو غائباً، أو يكون الشيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر فهذا كله من الشرك، ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزاً، قال الله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ [القصص: 15]. وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحاً لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة، لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/ 335

المطلب الثالث: دعاء الموتى

المطلب الثالث: دعاء الموتى إن الدعاء عبادة من أعظم العبادات، وأجل الطاعات، وإنه يجب صرفه لله تعالى وحده لا شريك له، فإن من دعا أو استغاث أو استعان أو استعاذ (¬1) بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فقد كفر وخرج من الملة، سواء كان هذا الغير نبيًّا، أو وليًّا، أو ملكاً، أو جنيًّا، أو غير ذلك من المخلوقات. كما قال الله تعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 106 - 107]. وقوله تعالى: فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت: 17]. وقال تعالى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [الشعراء: 213]، وقال عز وجل: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88]. وقال سبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5 - 6]. وقال سبحانه وتعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار)). (¬2) ولذا يقول ابن تيمية: (ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان، أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]) (¬3). ويبين ابن القيم شناعة هذا الشرك فيقول: (ومن أنواعه (الشرك الأكبر) طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده) (¬4). ويجب أن يعلم أن من قصد غير الله بدعاء أو استعاذة أو استعانة فهو كافر، وإن لم يعتقد فيمن قصده تدبيراً، أو تأثيراً، أو خلقاً، فمشركو العرب الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقولون عن معبوداتهم أنها تخلق، وترزق، وتدبر أمر من قصدها، بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه بل كانوا يدعونها، ويستغيثون بها مع إقرارهم بأن الله هو المدبر الخالق الرزاق ... (¬5) ¬

(¬1) يقول ابن تيمية: ((الاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة كلها من نوع الدعاء أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة)) , انظر ((مجموع الفتاوى)) (15/ 227). (¬2) [9963])) رواه البخاري (4497). (¬3) ((الرد على البكري)) (ص: 95). (¬4) ((مدارج السالكين)) (1/ 346). (¬5) انظر في مناقشة من زعم جواز دعاء الأموات ما دام الداعي يعترف بأن الله هو الخالق: ((تفسير المنار)) (2/ 65)، و ((الدر النضيد)) للشوكاني (ص: 16 - 19) و ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص: 139 - 148).

ولذا يقول ابن تيمية: (كان من أتباع هؤلاء (المشركين) من يسجد للشمس والقمر، والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى يصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك) (¬1). وقد تمادى دعاة الوثنية في تجويز الاستغاثه بغير الله تعالى بحجة أن هؤلاء المستغيثين لا يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، حتى نفوا التأثير وأسقطوا الأسباب، فليس دعاء الأموات سبباً في حصول المطلوب، ولكنه مقترن (فقط) بحصول المطلوب!! (¬2) ويقول حسين بن مهدي النعمي: (لا يشترط في التنديد: أن ينتحل للسوى من الصفات والأسماء والفعال ما يختص به الحميد المجيد، بل هو أن تتكيف لذلك السوى بكيفية العابدية، وتتحقق أنت له بصفة المربوبية، وتقضي له بحالتك التي صنعتها، وصورة نعتك في عبادتك إياه فقط بأنه يربك ويربيك) (¬3). ولذا فقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم عندما زعموا أن الشرك في الدعاء لا يكون شركاً إلا مع اعتقاد شريك مع الله سواء في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله (¬4) وأما وجه كون دعاء غير الله من نواقض الإيمان، وكذا الاستغاثة والاستعانة والاستعاذة بغيره تعالى من نواقض الإيمان، فمن وجوه عديدة، منها ما يلي: (أ) من المعلوم أن الله تعالى هو الإله الحق، وأن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله تعالى وحده، فهو سبحانه وحده المستحق لجميع أنواع العبادة، والدعاء من أجل العبادات وأعظمها شأناً، وقد سماه الله تعالى عبادة، كما قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]. وقال سبحانه وتعالى في شأن إبراهيم عليه السلام: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ [مريم: 48 - 49]. وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5 - 6]. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: ¬

(¬1) ((درء التعارض)) (1/ 227، 228). (¬2) انظر لمعرفة أقوالهم والرد عليهم في كتاب ((دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) لعبد العزيز العبد اللطيف (ص: 247 - 250، 270 - 275). (¬3) ((معارج الألباب)) (ص: 243) وانظر (ص: 214). (¬4) انظر لمزيد من التفصيل رسالة ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص: 173).

((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60])) (¬1). فدعاء الله وحده إيمان وتوحيد، ودعاء غيره كفر وتنديد، فمن استغاث بغير الله تعالى فقد اتخذ مع الله ندًّا، وقد قال تعالى في حال من أشرك وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار [الزمر: 8] فكفره تعالى باتخاذ الأنداد، وهم الشركاء في العبادة (¬2) وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار)) (¬3). وإذا كان الدعاء عبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده، فمن أثبت لغير الله تعالى ما لا يكون إلا لله فهو كافر (¬4)، وقد تقدم أن حد الشرك الأكبر هو صرف نوع أو فرد من العبادة لغير الله تعالى. يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ومن أنواع العبادة الدعاء، كما كان المؤمنون يدعون الله وحده ليلاً ونهاراً في الشدة والرخاء، ولا يشك أحد أن هذا من أنواع العبادة، فتفكر رحمك الله فيما حدث في الناس اليوم من دعاء غير الله. في الشدة والرخاء، فهذا تلحقه الشدة في البر أو البحر، فيستغيث بعبد القادر أو شمسان أو نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء أن ينجيه من هذه الشدة، فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف أن الإله هو المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة، فكيف تدعو مخلوقاً ميتاً، وتترك الحي القيوم الحاضر الرؤوف الرحيم القدير؟) (¬5). وجاء في كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق): (والداعي غير الله فيما لا يقدر عليه غيره سبحانه وتعالى جاعل لله ندًّا من خلقه فيما يستحقه تعالى من الألوهية المقتضية للرهبة والرغبة، والاستعاذة، وذلك كفر بإجماع الأمة، لأن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته، فإنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب بالرغبة لديه، والفزع عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر بالعبودية مقهور بها، فكيف يصلح أن يكون إلهاً مرغوباً مرهوباً مدعوًّا؟) (¬6). ¬

(¬1) [9971])) رواه أبو داود (1479) والترمذي (2969) وابن ماجه (3828) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 450) وأحمد (4/ 267) (18378) وابن حبان (890) والطبراني في ((المعجم الصغير)) (2/ 208) والحاكم (1/ 667) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح, وقال البغوي في ((شرح السنة)) (3/ 158): حسن لا يعرف إلا من حديث ذر، وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/ 64): إسناده جيد, وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (1/ 273): ثابت, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) انظر ((الدرر السنية)) (2/ 95، 96). (¬3) [9973])) رواه البخاري (4497). (¬4) انظر ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص 214). (¬5) ((الدرر السنية)) (2/ 54). (¬6) ((التوضيح عن توحيد الخلاق)) لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وآخرين، (ص 129)

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن (¬1) موضحاً أن الطلب من الأموات شرك ... (إن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، وذلك أن الاستمداد نتيجته الاعتماد، والاعتماد هو معنى التوكل الذي هو من خصائص الإلهية وأجمعها لأعمال القلوب. كما أن مورد العبادة القلب واللسان والأركان، والمستمد لا يكون إلا داعياً وراغباً، وراهباً، وخاشعاً، ومتذللاً، ومستعيناً، فإن الاستمداد طلب المدد بالقلب، واللسان، والأركان ولابد، وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله وحده، فقد آلهه العبد، فإذا صرف لغير الله تعالى، صار مألوها له) (¬2). ويقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين في هذا الشأن: (فمن صرف لغير الله شيئاً من أنواع العبادة، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلهاً، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر من تسمية فعله ذلك تألهاً وعبادة وشركاً، ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها ... فالشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمناً مسبة للرب، وتنقصه وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته توسلاً، وتشفعاً، وتعظيماً للصالحين، وتوقيراً لهم ونحو ذلك، فالمشرك مشرك شاء أم أبى ... ) (¬3). (ب) قد سمى الله تعالى دعاء غيره شركاً وكفراً، وقد جاء هذا في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 40 - 41] وقوله سبحانه وتعالى: قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63،- 64]. وقوله عز وجل: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [الأعراف: 37]. وقوله تبارك وتعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [النمل: 53 - 54]. وقوله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 65 - 66]. ¬

(¬1) هو عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة 1193هـ، وتولى القضاء، وبعد سقوط الدرعية انتقل إلى مصر، ودرس على علمائها، ثم عاد إلى نجد، له مؤلفات، توفي بالرياض سنة 1282 هـ. انظر: ((مشاهير علماء نجد)) (ص 78)، و ((علماء نجد)) (1/ 56). (¬2) ((الدرر السنية)) (9/ 152) بتصرف يسير (¬3) ((الدرر السنية)) (2/ 143، 144) بتصرف يسير

وقوله سبحانه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم: آية 35]. وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13 - 14]. وقوله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8]. (جـ) إن دعاء المخلوق وقصده هو تشبيه للمخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر، إذ الدعاء حق خالص لله وحده لا شريك له، فمن دعا غير الله فقد تنقص الرب جل وعلا، ووقع في أعظم الظلم وأشنعه كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. وأيضاً فمن سأل مخلوقاً ما لا يقدر عليه إلا الله فهو من جنس مشركي العرب الذين يدعون الملائكة والأنبياء والتماثيل، ومن جنس سؤال النصارى للمسيح وأمه. وقد وضح ابن القيم حقيقة هذا التشبيه فقال: (حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعكس من نكس الله قلبه، وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر، وجعل التوحيد تشبيهاً، والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق) (¬1). إلى أن قال: (ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والتوكل والاستعانة ... كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لله وحده ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه، وتضمنه غاية الظلم، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة) (¬2). ويذكر ابن القيم المشبهة بقوله: (المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم والخضوع، والسجود له، والاستغاثة به ... فهؤلاء هم المشبهة حقاً) (¬3). ويقول ابن القيم أيضاً: (فأما القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن سوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في الفطر السليمة فوق كل قبيح، يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده، متأله خاضع، ذليل له والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والجلال والتأله والخضوع، وهذا خالص حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره، أو يشرك بينه وبينه فيه) (¬4). وعندما تحدث ابن تيمية عن معنى الواسطة بين الله تعالى وخلقه ... كان مما قاله: ¬

(¬1) ((الجواب الكافي)) (ص: 182). (¬2) ((الجواب الكافي)) (ص: 182، 183). (¬3) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 340، 341) باختصار (¬4) ((الجواب الكافي)) (ص: 186).

(وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه، كالحجاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك الحوائج للناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أنداداً ... ) (¬1) ويقول في موضع آخر: (من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية، فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى) (¬2). ويقول أيضاً: (والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت، فيقول أحدهم: إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ. وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه) (¬3). ويذكر ابن تيمية أن دعاء غير الله هو من جنس أفعال الكفار فيقول: (وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور، لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه. فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء، يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]) (¬4). (د) أجمع أهل العلم على أن من دعا غير الله أو استغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فهو كافر خارج من الملة الإسلامية. يقول ابن تيمية: (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 126). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 126). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 126). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (27/ 72) بتصرف يسير، وانظر (27/ 67، 81 - 90، 3/ 275). و ((قاعدة جليلة في التوسل)) (ص 49) و ((الرد على البكري)) (55). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 124) وانظر ((الإنصاف للمرداوي)) (10/ 327) و ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 168) و ((غاية المنتهى)) (3/ 337) والفروع (3/ 553)

ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (¬1) معلقاً على هذا الإجماع: (وهو إجماع صحيح، معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادة) (¬2). ويقول ابن تيمية أيضاً: (سؤال الميت والغائب نبيًّا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين أن أحداً منهم كان يقول إذا نزلت به ترة (تبعة)، أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها) (¬3). ويقول في موضع ثالث: (وأما دعاء صفات الله وكلماته فكفر باتفاق المسلمين فهل يقول مسلم يا كلام الله اغفر لي وارحمني، وأغثني، أو أعني، أو يا علم الله، أو يا قدرة الله، أو يا عزة الله، أو يا عظمة الله ونحو ذلك) (¬4). ويقول رحمه الله: (إن دعاء غير الله كفر، ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين لا الأنبياء ولا غيرهم عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين) (¬5). ويقول ابن عبد الهادي (¬6): (ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركاً محرماً بإجماع المسلمين) (¬7). والآن نسوق جملة من كلام أهل العلم في هذا المبحث على النحو التالي: (قال ابن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، ومن إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ التراب تبركاً) (¬8). ويقول ابن تيمية: (فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح ... وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال، التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهاً آخر) (¬9). ويقول أيضاً: ¬

(¬1) ولد في الدرعية عام 1200هـ اشتغل بالعلم والتدريس، وله عناية فائقة بالحديث، وتولى القضاء، وله مؤلفات، توفي مقتولاً سنة 1233 هـ انظر: ((علماء نجد)) (1/ 293) و ((الأعلام)) (3/ 129) (¬2) ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 229). (¬3) ((الرد على البكري)) (ص: 231) (¬4) ((الرد على البكري)) (ص: 231) (¬5) ((قاعدة جليلة)) (ص: 285)، وانظر ((الرد على البكري)) (ص: 312). (¬6) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، مقرئ، فقيه، أصولي محدث، له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 744 هـ. انظر: ((الدرر الكامنة)) (3/ 421)، و ((البدر الطالع)) (2/ 108). (¬7) ([9995]) ((الصارم المنكي) (ص 436). (¬8) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص455) (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 359) باختصار، وانظر ((قاعدة جليلة)) (ص 243، 300)، والرد على الأخنائي (ص 61) , و ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 703) و ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص 191، 193، 195).

(فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، ولم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال: هذا أصل دين الإسلام) (¬1). ويقول الأمير الصنعاني (¬2): (من نادى الله ليلاً ونهاراً، سرًّا وجهاراً خوفاً وطمعاً، ثم نادى معه غيره، فقد أشرك في العبادة، فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر، آية 60]، بعد قوله: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]) (¬3). ويقول حسين بن مهدي النعمي: (هذه العبادة بكيفيتها موضوعة للرب الأحد الصمد، السميع القريب المجيب، مالك الملك، والدعاء هذا مجراه، وهذه منزلته، فدعاء غير الله تعالى إخراج للدعاء عن محله وموضوعه، كقيامه بتلك الصلاة على تلك الكيفية للمقبور والحجر، سواء بسواء، والفصل بين الصلاة والدعاء فصل بين متآخيين، وإلا فليجعلوا للمقبور صلاة وصياماً ونحوهما، يفارق الذم والتشريك، ويكون صالحاً خالياً عن الفساد والمنكر، سبحانك ربنا، هذا بهتان عظيم. فما بال الدعاء الذي هو العلم المشهور في العبادة، وآيات التنزيل، بل هو في الحقيقة بداية الأمر ومشرعه، وقطب رحاه، سل من مركزه، واستنزل من شوامخ صياصيه، وهو أظهر وأشهر معنى من العبادة، وأكثر تنصيصاً وتعييناً!) (¬4). ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (فمن دعا غير الله طالباً منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب نفع، أو دفع ضر فقد أشرك في عبادة الله، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6 - 7]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14 - 15]. فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال يا رسول الله، أو يا عبد الله بن عباس، أو يا عبد القادر، أو يا محجوب زاعماً أنه يقضي حاجته إلى الله تعالى، أو أنه شفيعه عنده أو وسيلته إليه فهو الشرك الذي يهدر الدم، ويبيح المال إلا أن يتوب من ذلك) (¬5). ويقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: ¬

(¬1) ((الرد على البكري)) (ص: 376) وانظر ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/ 29). (¬2) هو محمد بن إسماعيل الصنعاني، محدث فقيه أصولي، من أئمة اليمن، رحل إلى الحرمين له مؤلفات، توفي بصنعاء سنة 1182 هـ. انظر: ((البدر الطالع)) (2/ 133) و ((معجم المؤلفين)) (9/ 56). (¬3) ((تطهير الاعتقاد)) (ص: 24)، وانظر (ص: 19). (¬4) ((معارج الألباب)) (ص: 225). (¬5) ((الدرر السنية)) (2/ 19)

(لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة، ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه والتحذير من فعله والوعيد عليه) (¬1). وقال الشوكاني: (وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره ولا من غيره فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]، لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ [الرعد: 14]) (¬2). ويقول أيضاً: (فإن الشرك هو دعاء غير الله الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه، ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكاً بالصنم والوثن والإله لغير الله زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية، أو أطلق عليه اسماً آخر، فلا اعتبار بالاسم قط) (¬3). ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في هذا المقام: (من المستحيل شرعاً وفطرة وعقلاً أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى، والغائبين والاستغاثة بهم في المهمات والملمات) (¬4). ويقول أيضاً: (الأدلة والنصوص متواترة متظاهرة على أن طلب الحوائج من الموتى والتوجه إليهم شرك محرم، وأن فاعله من أسفه السفهاء، وأضل الخلق، وأنه ممن عدل بربه، وجعل له أنداداً وشركاء في العبادة التي لا تصلح لسواه، ولا تنبغي لغيره) (¬5). ويقول محمد رشيد رضا: (فمن دعا إلى عبادة نفسه، فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله، وإن لم ينههم عن عبادة الله ... ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء فقد عبد هذه الواسطة من دون الله؛ لأن هذه الواسطة تنافي الإخلاص له وحده، ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة، ولذلك قال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 2 - 3] فلم يمنع توسطهم بالأولياء إليه تعالى أن يقول إنهم اتخذوهم من دونه) (¬6). ويقول أيضاً: (ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين، وهم يفعلون مثل ما يفعل جميع المشركين، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة، وقد يسمونها توسلاً وشفاعة، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله شركاء، ولكن لا يأبون أن يسموهم أولياء وشفعاء وإنما الحساب والجزاء على الحقائق لا على الأسماء. إلى أن قال ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن العبادة بالدعاء في أكثر الآيات الواردة في ذلك وهي كثيرة جداً، يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ولاسيما عند الشدة) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف- ص 139 ¬

(¬1) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 602). (¬2) الدر النضيد (ضمن الرسائل السلفية) (ص: 17). (¬3) الدر النضيد (ضمن الرسائل السلفية) (ص: 18). (¬4) ((دلائل الرسوخ)) (ص: 79). (¬5) ((مصباح الظلام)) (ص: 252). (¬6) ((تفسير المنار)) (3/ 347)

المبحث الثاني: شرك التشريع والحكم بغير ما أنزل الله

المبحث الثاني: شرك التشريع والحكم بغير ما أنزل الله قال ابن أبي العز شارح (الطحاوية) (¬1): (وهنا (¬2) أمر يجب أن يُتفطَّن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرًا ينقل عن الملَّة، وقد يكون معصيةً كبيرةً أو صغيرةً، ويكون كفرًا: إما مجازيًّا، وإما كفرًا أصغر، على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحكم: فإنه إن اعتقد أنَّ الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخيَّر فيه، أو استهان به، مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا كفرٌ أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة (¬3)، وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحقٌّ للعقوبة؛ فهذا عاصٍ، ويسمى كافرًا كفرًا مجازيًّا أو كفرًا أصغر، وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطائه؛ فهذا مخطئ، له أجرٌ على اجتهاده، وخطؤه مغفور) (¬4).اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى): (ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله؛ لا بين المسلمين، ولا الكفار، ولا الفتيان، ولا رماة البندق، ولا الجيش، ولا الفقراء، ولا غير ذلك؛ إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك؛ تناوله قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، وقوله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]؛ فيجب على المسلمين أن يحكِّموا الله ورسوله في كل ما شجر بينهم ... ) (¬5). وقال أيضًا: (وولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة؛ حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا، حتى يعرف الحق؛ حكم به، وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا؛ ترك المسلمين على ما هم عليه، كل يعبد الله على حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحدًا بقبول قول غيره، وإن كان حاكمًا. وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا؛ فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما حكم قوم بغير ما أنزل الله؛ إلا وقع بأسهم بينهم)) (¬6). وهذا من أعظم أسباب تغيُّر الدول؛ كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا. ¬

(¬1) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص323). (¬2) ذكر الشارح هذا الكلام عند شرحه لقول الطحاوي: ((ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)). انظر: (ص267). (¬3) هو هنا رحمه الله يتحدث عن الوقائع والقضايا الحالَّة. (¬4) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص323). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 407 - 408). (¬6) رواه ابن ماجه (4019)، والحاكم (4/ 540)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 333). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ولفظ ابن ماجه: ((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيَّروا مما أنزل الله؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم))، وأوله: ((يا معشر المهاجرين .. )). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 185 - 186): هذا حديث صالح العمل به. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن. وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) (رقم 106).

ومن أراد الله سعادته؛ جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيَّده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه؛ فإن الله يقول في كتابه: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40 - 41]. فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم؛ فإن الحاكم إذا كان ديِّنًا، لكنه حكم بغير علم؛ كان من أهل النار، وإن كان عالمًا؛ لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه؛ كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم؛ كان أولى أن يكون من أهل النار. وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص، وأما إذا حكم حكماً عامًّا في دين المسلمين (¬1)، فجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ونهى عما أمر الله به ورسوله؛ فهذا لون آخر، يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مالك يوم الدين، الذي لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون [القصص:70]، الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفي بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (¬2). أقوال العلماء في التشريع العام: 1 - قول العلامة ابن حزم الأندلسي: (لا خلاف بين اثنين من المسلمين ... أن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأتِ بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام) (¬3). 2 - قول شيخ الإسلام ابن تيمية: (نُسَخُ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدَّلة والمنسوخة فهو كافر) (¬4). 3 - قول الحافظ ابن القيم: (قالوا: وقد جاء القرآن وصحَّ الإجماع بأنَّ دين الإسلام نَسَخَ كل دين كان قبله، وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنَّه كافر، وقد أبطل الله كلَّ شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام؛ فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام) (¬5). 4 - قول الحافظ ابن كثير: (من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسق (¬6) وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين) (¬7). ¬

(¬1) شيخ الإسلام هنا يفرق بين الحكم في قضية معينة والحكم العام أو التشريع العام، واعلم أن الحكم في قضية أو قضايا معينة كفر وذنب عظيم، وهو من باب كفر دون كفر، أمَّا التشريع العام فنصوص العلماء قديمًا وحديثًا - بل قد نَقَل ابن حزم وابن القيم وابن كثير الإجماع - على أنه كفر أكبر مخرج من الملة، كثيرة جدًا، ويمكن جمعها في كتاب، لكن سأكتفي هنا بنقل بعضٍ منها. (¬2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/ 387 - 388). (¬3) ((الإحكام في أصول الأحكام)) (5/ 173). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 200)، بتصرف يسير. (¬5) ((أحكام أهل الذمة)) (1/ 259). قال السقاف: إذا كان من اتبع التوراة أو الإنجيل عند ابن حزم وابن تيمية وابن القيم كافرًا؛ فكيف بمن اتبع القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر وحثالة عقولهم؟! (¬6) و (الياسق) ويقال: (الياسا): هي قوانين جنكيز خان التتاري الذي ألزم الناس بالتحاكم إليها. (¬7) ((البداية والنهاية)) (13/ 119).

وقال في تفسير سورة المائدة (الآية -50): (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خيرٍ، الناهي عن كل شرٍّ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال (¬1) بلا مستند من شريعة الله ... ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. ملحق العقيدة الواسطية لعلوي بن عبد القادر السقاف – ص: 18 لقد وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف: قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]. وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]. وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]. واختلف أهل العلم مع ذلك: فقيل: إن هذه الأوصاف لموصوف واحد، لأن الكافر ظالم، لقوله تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، وفاسق، لقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة:20]، أي: كفروا. وقيل: إنها لموصوفين مُتعدِّدين، وإنها على حسب الحكم، وهذا هو الراجح. فتكون كافراً في ثلاثة أحوال: أ- إذا اعتقدت جواز الحكم بغير ما أنزل الله، بدليل قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [المائدة:50]، فكل ما خالف حكم الله، فهو من حكم الجاهلية، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فالمُحلُّ والمُبيح للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حلَّ الزنا أو الخمر أو تحريم الخبز أو اللبن. ب- إذا اعتقدت أن حكم غير الله مثل حكم الله. جـ- إذا اعتقدت أن حكم غير الله أحسن من حكم الله. بدليل قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائده:50]، فتضمنت الآية أن حكم الله أحسن الأحكام، بدليل قوله تعالى مقرراً ذلك: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8]، فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكاماً وهو أحكم الحاكمين؛ فمن ادَّعى أن حكم غير الله مثل حكم الله أو أحسن فهو كافر لأنه مُكذّب للقرآن. ويكون ظالماً: إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للعباد والبلاد، وأنه الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله، فهو ظالم. ويكون فاسقاً: إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوي في نفسه مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، لكن حكم بغيره لهوى في نفسه، أي محبة لما حكم به لا كراهية لحكم الله ولا ليضر أحداً به، مثل: أن يحكم لشخصٍ برشوةٍ رُشِيَ إياها، أو لكونه قريباً أو صديقاً، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه، فهذا فاسق، وإن كان أيضاً ظالماً، لكن وصف الفسق في حقه أولي من وصف الظلم. أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين، فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه خير للعباد والبلاد من شريعة الله، وعندما نقول بأنه كافر، فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر. ولكن قد يكون الواضع له معذوراً، مثل أن يغرر به كأن يقال: إن هذا لا يخالف الإسلام، أو هذا من المصالح المرسلة، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس ... ومن سَنَّ قوانين تخالف الشريعة وادَّعى أنها من المصالح المرسلة، فهو كاذب في دعواه؛ لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن اعتبرها الشرع ودل عليها فهي حق ومن الشرع، وإن لم يعتبرها، فليست مصالح، ولا يمكن أن تكون كذلك، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمى بالمصالح المرسلة، بل ما اعتبره الشرع، فهو مصلحة، وما نفاه، فليس بمصلحة، وما سكت عنه، فهو عفو ... القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 2/ 223 ¬

(¬1) ليس هناك وصف للقوانين الوضعية أبلغ من هذا الوصف: آراء وأهواء واصطلاحات وضعها الرجال.

المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالفعل

المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالفعل 1 - السجود لغير الله تعالى، والنذر لغير الله سبحانه، والذبح لغيره تعالى. 2 - السخرية باسم من أسماء الله تعالى، أو بأمره، أو وعيده، أو ذكر اسم الله تعالى عند تعاطي الخمر والزنا والدخان؛ استخفافاً. 2 - الاستهانة بالمصحف الشريف، أو إلقاؤه في القاذورات، أو دوسه بالقدم متعمداً، أو الإشارة إليه باليد أو بالقدم أو بالشفة؛ إشارة استهانة، أو قراءته على ضرب الدف على سبيل الاستخفاف، وهكذا فعل أمثال هذه الأشياء بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - الطواف بالأضرحة وقبور الأولياء والصالحين؛ من أجل التقرب إليهم. 4 - إظهار المقت والكراهية عند ذكر الله تعالى، أو عند ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، أو عند ذكر الإسلام، أو عند الدعوة إليه. 5 - لبس شيء من شعار الكفار؛ كالصليب، أو قلنسوة المجوس، ونحوه مما هو خاص بشعائرهم الدينية؛ عالماً، عامداً، راضياً بذلك. 6 - مشاركة أهل الكفر في عباداتهم؛ كصلاتهم ونحوها. 7 - هدم معالم الإسلام؛ كهدم المساجد لأجل ما يفعل فيها من العبادة. 8 - بناء دور العبادة للكفار، أو إعانتهم على ذلك؛ كبناء الكنائس ونحوها. 9 - أن يعمل فعلاً أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر. 10 - تعلم السحر، وتعاطيه، وتعليمه. 11 - الإعراض التام عن دين الإسلام لا يتعلمه ولا يعمل به. 12 - عدم تكفير الكفار من الملحدين والمشركين والمرتدين، وموالاتهم، أو إظهار موافقتهم على دينهم، والتقرب إليهم بالأقوال والأفعال والنوايا. 13 - عدم إفراد الله تعالى بالحكم والتشريع، كالحكم بغير ما أنزل الله، أو التشريع المخالف لشرع الله، وتطبيقه، والإلزام به: فمن شرع حكماً غير حكم الله تعالى، وحكمه في عباده، أو بدل شرع الله تعالى، أو عطله، ولم يحكم به، واستبدل به حكماً طاغوتيًّا وحكم به؛ فهذا كفر أكبر؛ لأنه ناقض من نواقض الإيمان وردة عن الإسلام. ولا يشترط فيه الاستحلال؛ لأن فعله إباء وامتناع عن الالتزام بشرع الله تعالى، وتشريع من دون الله، وكره واحتقار لما جاء به الله، ودليل على تسويغه اتباع غير شرع الله، ولو لم يصرح بلسانه؛ لأن لسان الحال أقوى من لسان المقال. وذلك لأن التشريع والتحليل والتحريم من خصائص الله تعالى، فهو حق خالص لله وحده لا شريك له؛ فالحلال ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن شرع من دون الله، أو ألزم الناس بغير شرع الله؛ فقد نازع الله فيما اختص به سبحانه وتعالى، وتعدى على حق من حقوقه، وأعاره لنفسه، ورفض شريعة الله؛ فهذا العمل شرك بالله تعالى، وصاحبه مشرك ضال ضلالاً بعيداً. وأما من تحاكم إلى الطاغوت، أو حكمه في نفسه، أو في غيره؛ ثم ادعى الإيمان؛ فهذه دعوى كاذبة لا وزن لها عند رب العالمين؛ لأن الله تعالى جعل طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان ومقتضياته. 14 - ترك الصلاة – وإن كان مقراً بوجوبها – من الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ لأن باعث الإعراض عن الطاعة بالكلية فقدان عمل القلب الذي هو شرط لصحة الإيمان. والصلاة هي آكد الأعمال التي لا يصح إيمان العبد بدون شيء منها، وهي أعظم الواجبات وأدلها وأجلها. وهي كذلك أعظم قرينة دالة على إسلام المرء؛ تمنع من تكفيره، أو إساءة الظن فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم. ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله؛ فلا تخفروا الله في ذمته)) (¬1). الإيمان، حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن عبد الحميد الأثري – ص: 300 ¬

(¬1) رواه البخاري (391). من حديث أنس رضي الله عنه.

الباب الثالث: نواقض الإيمان في باب النبوات

تمهيد اشتهر هذا المعتقد عند غلاة الصوفية والباطنية، ويعبرون عنه بتعبيرات مختلفة مؤداها واحد.

المطلب الأول: رأي من يعتقد هذا الاعتقاد باختصار

المطلب الأول: رأي من يعتقد هذا الاعتقاد باختصار يقول داعيهم الباطني سنان بن راشد الدين: إن الإنسان متى عرف الصورة الدينية فقد عرف حكم الكتاب، ورفع عنه الحساب، وسقط عنه التكليف، وسائر الأسباب (¬1). ويقول الداعي الإسماعيلي طاهر بن إبراهيم الحارثي اليماني: حجج الليل هم أهل الباطن المحض، المرفوع عنهم في أدوار الستر التكاليف لعلو درجاتهم (¬2)، وينسبون إلى جعفر بن محمد الباقر قوله: من عرف الباطن فقد سقط عنه عمل الظاهر ... ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر (¬3)، ويقول أحد الدعاة الباطنيين: من عرف هذا الباطن فقد عمل الظاهر وإنما وضعت الأصفاد والأغلال على المقصرين، أما من بلغ وعرف هذه الدرجات التي قرأتها عليك فقد أعتقته من الرق ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر (¬4). هذا عن الباطنية، أما المتصوفة فقد قال عنهم الإمام الأشعري رحمه الله: وفي النسّاك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى درجة تزول فيها عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم (¬5). ¬

(¬1) كتاب ((شيخ الجبل الثالث المصطفي غالب)) (ص: 141)، نقلاً عن ((أصول الإسماعيلية)) (2/ 831)، رسالة دكتوراه، د. سليمان السلومي (مخطوط). (¬2) ((الأنوار اللطيفة)) (ص: 102). (¬3) ((الهفت الشريف)) للمفضل الجعفي (ص: 42)، تحقيق غالب الإسماعيلي. (¬4) ((الهفت الشريف)) (ص: 65). (¬5) ((مقالات الإسلاميين)) (ص: 289).

وقالوا: إذا وصلت إلى مقام اليقين سقطت عنك العبادة، مؤولين قول الله عز وجل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] (¬1)، وقال عنهم الإمام ابن حزم: (ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل، وقالوا: من بلغ من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة، وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك، واستباحوا بهذا نساء غيرهم، وقالوا: بأننا نرى الله، ونكلمه، وكل ما قذف في قلوبنا فهو حق ... ) (¬2)، وصور الإمام ابن الجوزي حال هؤلاء فقال: (إن قوماً منهم داموا على الرياضة مدة فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا وإنما الأوامر والنواهي رسوم للعوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، قالوا: وحاصل النبوة ترجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام، ولسنا من العوام، فندخل في حجر التكليف لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة ... ) (¬3)، وأطال شيخ الإسلام في وصف حال هؤلاء فقال: (ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش: كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب، والخلو بهن، زعماً منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان محرماً في الشريعة، وكذلك يستحل ذلك مع المردان ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلون الفاحشة الكبرى ... ) (¬4)، وقال عنهم: (ومن هؤلاء من يحتج بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، ويقول معناه: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض، وارتكاب المحارم) (¬5)، وربما احتج بعضهم: بقصة موسى والخضر فيحتجون بها على وجهين: أحدهما: أن يقولون: إن الخضر كان مشاهداً للإرادة الربانية الشاملة، والمشيئة الإلهية العامة، وهي (الحقيقة الكونية)؛ فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، ... وأما الوجه الثاني: فإن من هؤلاء من يظن: أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو في بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه إما مطلقاً، وإما من بعض الوجوه على النبي، زاعمين أن قصة الخضر حجة لهم ... (¬6). ¬

(¬1) ((إتحاف السادة)) للزبيدي (8/ 278). (¬2) ((الفصل)) (4/ 226). (¬3) ((تلبيس إبليس)) (ص: 496). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 405). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 417). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 420 - 422).

وكثيراً ما يحكي الصوفية قصصاً وروايات عمن يسمونهم الأولياء، تتضمن هذه القصص سقوط الفرائض، أو بعضها عنهم، بل ويحكى عنهم فعل الفواحش والمنكرات واستحلالها، وفي (طبقات الشعراني)، و (جامع كرامات الأولياء) للنبهاني من ذلك الكثير، فمنه مثلاً: ما ذكره العطار عن ذي النون المصري أنه نصح أحد مريديه بترك الصلاة، فعلق العطار قائلاً: لو سأل سائل ما الحكمة في الأمر بترك الصلاة؟ فالجواب: إن الطريقة أحياناً تخالف ظاهر الشريعة كقتل الخضر الولد بدون سبب ظاهري، فإذاً لا إنكار في الطريقة على مثل هذه الأمور. وحكي عن العطار نفسه أنه كان تاركاً للصلاة وكان يقول: إن الله رفع عني فريضة الصلاة (¬1). وذكر الشعراني (¬2) في آخر كتابه (الطبقات الكبرى) مشايخه الذين أدركهم في القرن العاشر، فقال: (وفيهم سيدي بركات الخياط رضي الله تعالى عنه: كان رضي الله عنه من الملامتية) (¬3) قال: (مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر وجماعة فقالوا: امضوا بنا نزوره وكان يوم جمعة فسلم المؤذن على المنارة، فقالوا: نصلي الجمعة، فقال: ما لي عادة بذلك، فأنكروا عليه، فقال: نصلي اليوم لأجلكم ... ) (¬4). (ومنهم: سيدي الشريف المجذوب - رضي الله عنه ورحمه - وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان، ويقول: أنا معتوق، أعتقني ربي ... ) (¬5)، (ومنهم: الشيخ شعبان المجذوب، وذكر من أحواله أنه كان يقرأ سوراً غير السور التي في القرآن على كرسي المساجد يوم الجمعة وغيرها، ... وكان يرى حلال زينة الدنيا كالحرام في الاجتناب، وكان الخلائق تعتقده اعتقاداً زائداً لم أسمع قط أحدا ينكر عليه شيئاً من حاله، بل يعدون رؤيته عيداً عندهم ... ) (¬6). لعل فيما ذكرنا كفاية وغنية يتبين من خلالها إتيان الصوفية للمحظور وتركهم الواجب وادعائهم أن بعض الناس، يصل إلى درجة يسقط عنه التكليف، ويستغني عن الشريعة وعن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم (¬7). نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي - 2/ 74 ¬

(¬1) ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار (ص: 73، 86) نقلاً عن: ((دراسات في التصوف)) إحسان إلهي ظهير رحمه الله (ص: 98). (¬2) هو: عبدالوهاب بن أحمد بن علي الشعراني، فقيه، أصولي، من أعلام الصوفية، ولد في قلقشنده بمصر سنة 898 هـ له تصانيف كثيرة منها: ((الجوهر المصون والسر المرقوم)) و ((لواقح الأنوار في طبقات الأخيار)) توفي سنة 973 هـ. انظر: ((شذرات الذهب)) لابن العماد الحنبلي (8/ 372)، ((فهرس الفهارس)) للكتاني (2/ 405)، ((معجم المؤلفين)) لعمر كحالة (218). (¬3) الملامتية: ومقصودهم الظهور بين الناس بالمظاهر التي لا تتفق مع الشرع؛ كإتيان البهائم، وشرب الخمور، والسرقة ليستروا عن الناس ولايتهم - زعموا - وليستجلبوا ملامة الناس وتأنيبهم فيسقطوا من أعينهم، ومن أشهر رجالهم: حمدون القصار، وأبو حفص الحداد. انظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 482،491)، ((دراسات في التصوف الإسلامي))، د. محمد جلال شرف، ((الكشف عن حقيقة التصوف)) لمحمود القاسم (ص: 355). (¬4) ((الطبقات الكبرى)) (2/ 144). (¬5) ((الطبقات الكبرى)) (2/ 150). (¬6) ((الطبقات الكبرى)) (2/ 185، 186). (¬7) يراجع في هذا mm المبحث: ((التصوف المنشأ والمصادر)) لإحسان إلهي ظهير - رحمه الله - (260 - 273)، ((أصول الإسماعيلية)) رسالة دكتوراه (مخطوطة) د. سليمان السلومي (2/ 834 - 841)، ورسالة ((التكفير والمكفرات)) رسالة ماجستير (مخطوطة) حسن بن علي العواجي (2/ 455 - 466).

المطلب الثاني: الرد على هذا الادعاء

المطلب الثاني: الرد على هذا الادعاء الرد على هذه الفكرة بشكل مجمل: 1 - التكاليف الشرعية مشروطة بالعلم والقدرة، فمتى ما تحققت وجب العمل، ولذلك يسقط التكليف عمن لا يمكنه العلم كالطفل والمجنون، كما يسقط عمن يعجز، كسقوط الجهاد عن الأمي والأعرج والمريض، وكما لا تجب الطهارة بالماء، والصلاة قائماً، والصوم على من يعجز عنه (¬1) ... الخ، أما غير هؤلاء فلا يسقط عنهم شيء من التكاليف باتفاق المسلمين. 2 - أعظم الناس درجة ومنزلة ومعرفة لله عز وجل هم الأنبياء والمرسلون ومع ذلك لم يستغنوا عن الشريعة، بل كانوا أشد الناس عبادة وإقامة للشعائر، واجتناباً للفواحش والمنكرات. 3 - معلوم إجماع العلماء على كفر من استحلّ محرماً من المحرمات الظاهرة المتواترة، وكفرِ جاحدٍ أو منكرٍ واجباً من الواجبات الظاهرة والمتواترة، فكيف بمن يستحل جميع المحرمات، وجحد جميع الواجبات؟ 4 - من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى - عليهم السلام -، فإذا لم يجز الخروج من شريعته إلى شريعة رسول، فكيف بالخروج عن شريعته، وعن الرسل جميعاً؟ (¬2). 5 - حقيقة الولاية تُنال بتقوى الله عز وجل والتزام الأوامر والنواهي: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62 - 63]، وكلما ازداد المرء عبوديةً وعلماً ازدادت واجباته وصار مطالباً بأمور وزيادات لا يطالب بها من لم يصل إلى ذلك، لا أنه يخلع عن عنقه ربقة التكليف. 6 - أما استدلالهم بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، فهي عليهم لا لهم، قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلاً دون الموت، وقرأ قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين، وذلك مثل قوله: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلى قوله: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:42 - 47] فهذا قالوه وهم في جهنم، وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين حتى أتاهم اليقين، ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]، وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون، وهو اليقين ... (¬3). ويقول الإمام ابن كثير: ويستدل بها (أي هذه الآية) على تخطئة من ذهب من الملاحدة، إلى أن المراد باليقين المعرفة فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادةً ومواظبةً على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين ههنا الموت كما قدمنا (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/ 244). (¬2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 422). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 418، 419)، وانظر: (11/ 539، 540). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 560).

7 - وأخيراً نأتي إلى أشهر استدلالاتهم، وهو احتجاجهم بقصة الخضر مع موسى التي وردت في القرآن الكريم في سورة الكهف ووردت في (صحيح البخاري) وغيره، فقد جعلوا هذه القصة دليلاً على أن هناك ظاهراً شرعياً، وحقيقة صوفية تخالف الظاهر، وجعلوا إنكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة أمراً مستغرباً، وجعلوا الخضر مصدراً للوحي والإلهام، ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها إلى الخضر، وليس منهم صغير أو كبير ممن دخل في طريقهم إلا وادعى لقيا الخضر والأخذ عنه، كما زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله، بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل البعثة وبعدها (¬1) ... إلخ، هذه الخيالات والخزعبلات، كل هذه الأشياء لا تعنينا هنا، فهي تحتاج إلى دراسات موسعة، وقد ألف في شأن الخضر عدة كتب (¬2)، وإنما الذي يهمنا في هذا المبحث دعوى: أن بعض الأولياء يسوغ له الخروج عن الشريعة، لأن الخضر وهو من أعظم الأولياء خرج عن شريعة موسى. يجيب على هذه الدعوى الإمام ابن تيمية- رحمه الله- في عدة مواضع من كتبه (¬3)، - وستأتي إجابته في المطلب الثالث - قال ابن عباس رضي الله عنه: حدثني أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موسى رسول الله عليه السلام قال: ذكر الناس يوماً، حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولَّى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحداً أعلم منك؟ قال: لا فعتب عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى. قال: أي رب فأين؟ قال: بمجمع البحرين ... إلى أن لقي الخضر، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: بأرض من سلام؟ (¬4) من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً ... يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه ... )) (¬5) ثم ذكر باقي القصة المذكورة في القرآن. والآن نأتي إلى ردّ الإمام ابن تيمية على هذه الشبهة، قال رحمه الله تعالى: الأول: موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس (¬6)، ولو أدركه من هو أفضل من الخضر: كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه، فكيف بالخضر سواء كان نبياً أو ولياً؟ ولهذا قال الخضر لموسى: أنا على علمٍ من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا. ¬

(¬1) انظر: ((الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة)) د. عبدالرحمن عبد الخالق (ص: 125). (¬2) رصد بعض الباحثين أكثر من عشرين كتاباً، أُلِّفت عن الخضر، من أشهرها: ((الحذر في أمر الخضر)) لملا علي القاري، و ((الروض النضر في الكلام عن الخضر)) لمرعي المقدسي، و ((الزهر النضر في نبأ الخضر)) لابن حجر العسقلاني، و ((عجالة المنتظر في شرح حال الخضر)) لابن الجوزي. انظر: مقدمة كتاب ((الحذر في أمر الخضر)) لملا القاري، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف (ص: 45 - 49). (¬3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/ 234، 3/ 422، 4/ 318،10/ 334، 344، 11/ 402 - 426، 539، 607). (¬4) بأرض من سلام، استفهام جاء في بعض الروايات، هل بأرض من سلام؟ قال في الفتح: وهو استفهام استبعاد يدل على أن أهل تلك الأرض لم يكونوا إذ ذاك مسلمين، ((فتح الباري)) (8/ 270). (¬5) رواه البخاري (4726). (¬6) انظر: ((الحذر في أمر الخضر)) لملا قاري (ص: 144).

الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفاً لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإنَّ خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفاً من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيراً، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتلٍ جاز قتله، قال ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان، قال له: إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم (¬1). وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض، والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفاً شرع الله (¬2). الثالث: يمكن أن يقال: إن ما فعله الخضر كان عن وحي من الله تعالى وليس مجرد خيال، وهذا لا يمكن أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس، إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، ومن ادَّعى حصوله فقد كفر (¬3). نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي - بتصرف - 2/ 78 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 224) (1967)، ومحمد بن نصر المروزي في ((السنة)) (153)، عن عطاء بن يسار قال: ((كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان؟ وعن الخمس لمن هو؟ وعن الصبي متى ينقطع عنه اليتم؟ وعن النساء هل كان يخرج بهن أو يحضرن القتال؟ وعن العبد هل له في المغنم نصيب؟ قال: فكتب إليه ابن عباس: أما الصبيان؛ فإن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم)). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): صحيح. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 263، 264) , ومثله: (11/ 425، 426)، (12/ 234)، (13/ 266). (¬3) انظر: ((الفكر الصوفي)) (ص: 132).

المطلب الثالث: حكم من اعتقد هذا الاعتقاد

المطلب الثالث: حكم من اعتقد هذا الاعتقاد هذا الاعتقاد يناقض الشريعة من وجوه كثيرة أشرنا إليها، ولذلك شدد الأئمة في كلامهم على من يعتقد مثل هذا الاعتقاد، وسأنقل بعض كلامهم فيمن يعتقد ذلك: 1 - قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج: إن الصلاة طرفي النهار، ... وقول بعض المتصوفة: إن العبادة وطول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها، وإباحة كل شيءٍ لهم، ورفع عهد الشرائع عنهم (¬1). 2 - وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ومن اعتقد لأحدٍ طريقاً إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يجب عليه اتباعه، أو أن لغيره خروجاً عن اتباعه، أو قال: أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كفر في هذا كله (¬2). 3 - وتكلم شيخ الإسلام عن كفر هؤلاء في مواضع كثيرة نختار بعضاً منها: أ- قال رحمه الله: ... فمن لم يؤمن بأن هذا رسول الله إلى جميع العالمين، وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وأن الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يجوز الخروج عن دينه وشريعته وطاعته، إما عموماً وإماً خصوصاً ... ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله، وأن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل ... (¬3). ب- وقال أيضاً: (ومن فضّل أحداً من المشايخ على النبي صلى الله عليه وسلم، أو اعتقد أن أحداً يستغني عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، استتيب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، وكذلك من اعتقد أن أحداً من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى عليه السلام، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه (¬4). جـ- وقال رحمه الله: (فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه) (¬5). د- وأجاب حينما سُئل عمن يقول: إن غاية التحقيق، وكمال سلوك الطريق، ترك التكليف، وإن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة، فإذا حصلت زال عنه التكليف؟ قال: (ومن قال هذا فإنه كافر باتفاق أئمة الإسلام فإنهم متفقون على أن الأمر والنهي جارٍ على كل بالغ عاقل إلى أن يموت ... ) (¬6). 4 - قال الإمام ملا قاري: ذهب بعض أهل الإباحة إلى أن العبد إذا بلغ غاية المحبة، وصفا قلبه من الغفلة، واختار الإيمان على الكفر سقط عنه الأمر والنهي، ولا يدخله الله النار بارتكاب الكبائر، وذهب بعضهم إلى أنه سقط عنه العبادات الظاهرة، وتكون عباداته التفكر وتحسين الأخلاق الباطنة، ... وهذا كفر وزندقة وضلال وجهالة (¬7). 5 - وعدّ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، هذا المعتقد من نواقض الإسلام، حيث قال: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم، وأنه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام فهو كافر) (¬8) نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي - 2/ 82 ¬

(¬1) ((الشفا)) (2/ 1074). (¬2) ((الإقناع مع شرحه كشاف القناع)) (6/ 171). (¬3) ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (ص: 44، 45). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 422)، وانظر كلاماً مشابهاً للقسطلاني في ((الحذر في أمر الخضر)) (ص: 145، 146). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 402). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 539). (¬7) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص183). (¬8) ((الرسائل الشخصية)) (ص214).

المبحث الثاني: ادعاء النبوة

المبحث الثاني: ادعاء النبوة قوله: ((وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون)) (¬1)، حصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدد، وكلهم يزعم أنه نبي أوحي إليه، وهم كذابون، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، فمن زعم أنه نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال، ومن صدقه في ذلك، فهو كافر حلال الدم والمال، وليس من المسلمين ولا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن زعم أنه أفضل من محمد، وأنه يتلقى من الله مباشرةً ومحمد صلى الله عليه وسلم يتلقى منه بواسطة الملك، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/ 585 قال السفارييني (¬2): ولا تنال رتبة النبوة ... بالكسب والتهذيب والفتوة لكنها فضل من المولى الأجل ... لما يشاء من خلقه إلى الأجل - وإذا كان الأمر كذلك، فإن ادعاء النبوة - كذباً وزوراً - من أشنع الكذب وأقبحه، كما يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: إن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما، وتعرف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ (¬3). ويتحدث ابن تيمية عن هذه المسألة قائلاً: معلوم أن مدعي الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم، وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم، ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام: والله لا أقول لك كلمة، إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أرد عليك (¬4). فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم، وما أحسن قول حسان (¬5): لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تأتيك بالخبر وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين، إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور، واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، وما من أحدٍ ادّعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز (¬6). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4252)، والترمذي (2219)، وابن ماجه (3952)، وأحمد (5/ 278) (22448)، والحاكم (4/ 496). من حديث ثوبان رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (906) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وحسّنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 406) – كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 267). (¬3) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 140). (¬4) انظر: ((تفسير البغوي)) (7/ 265)، و ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (16/ 210). (¬5) ونسبه ابن تيمية في ((الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح)) لعبدالله بن رواحة (4/ 316)، انظر: تعليق محقق ((الطحاوية)) (1/ 141). (¬6) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص89)، وانظر: ((الجواب الصحيح)) (1/ 29، 30).

ويقول أيضاً: والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب، ولا يتبين صدق الصادق، وكذب الكاذب، من وجوهٍ كثيرة، لاسيما والعالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا، وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون وما كانوا يدعون إليه، ويأمرون به، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض، ولم يزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل، ويفرقون بين الرسل وغير الرسل (¬1). ويذكر ابن كثير الفرق الشاسع بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب، عند تفسيره لقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس: 17]. فيقول: يقول تعالى لا أحد أظلم، ولا أعتى، ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً وتقوّل على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرماً، ولا أعظم ظلماً من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإن من قال هذه المقالة صادقاً، أو كاذباً فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم، وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى، وبين نصف الليل في حندس الظلام (¬2). - وادعاء النبوة قد يكون بأن يدعي شخص النبوة لنفسه كذباً وافتراءً، إما استقلالاً، أو شركة مع نبيٍ آخر، وقد يكون بتصديق من ادعاها، أو القول بتجويزها بعد ختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو زعم أنه يمكن اكتسابها، أو ادعى أنه يوحى إليه، أو ينكر ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم. فكل هذه الصور - وما يلحق بها من أمثالها - من نواقض الإيمان القولية في النبوات، وذلك لعدة اعتبارات منها ما يلي: أ- أن ادعاء النبوة من أظلم الظلم، وأعظم الافتراء والكذب على الله تعالى، فلا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً ممن افترى على الله كذباً، فزعم أن الله أرسله، وهو ليس كذلك، ولقد قرر القرآن أن هذا الافتراء من صفات الكافرين المكذبين، الذين لا يؤمنون بآيات الله، ومن ثم فلا أحد أشد عقوبة منهم، فقد توعد الله تعالى من ادعى النبوة بالعذاب المهين. وكما قال ابن تيمية: ولم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار ... (¬3). وأيضاً: قد نُفي الفلاح عن هذا الصنف، وقد قال الشنقيطي: (الفلاح لا يُنفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه، وهو الكافر) (¬4). وقد دل ... استقراء آيات القرآن الكريم، فنسوق بعضها مع كلام المفسرين في بيانها على النحو التالي: 1 - يقول الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي لا أظلم ممن تقوّل على الله، فادّعى أن الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (أي لا يفلح هذا ولا هذا، ولا المفتري، ولا المكذب) (¬5). ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص91). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 392)، وانظر: (3/ 475). (¬3) ((الصارم المسلول)) (ص52). (¬4) ((أضواء البيان)) (4/ 442). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 120)، وانظر: ((تفسير المنار)) (7/ 343, 344)، و ((تفسير السعدي)) (2/ 385).

2 - ويقول تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]. يقول ابن عطية: هذه ألفاظ عامة، فكل من واقع شيئاً مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله بقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم ... إلى أن قال: وقد خصص المتأولون في هذه الآية ذكر قوم قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها، ثم هي إلى يوم القيامة، تتناول من تعرض شيئاً من معانيها كطليحة الأسدي، والمختار بن أبي عبيد، وسواهما (¬1). ويقول السعدي: لا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً، ممن كذب على الله، فإنه نسب إلى الله قولاً أو حكماً، وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق؛ لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله وهو من أكبر المفاسد، ويدخل في ذلك ادعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه وهو كاذب في ذلك، فإنه مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه، يوجب على الخلق أن يتبعوه. ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم. ويدخل في هذه الآية كل من ادعى النبوة كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي والمختار وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف (¬2). 3 - وقال سبحانه: وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ [الأنعام:124]. يقول ابن كثير: هذا وعيد شديد من الله، وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله، والانقياد له فيما جاؤوا به فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار، وهو الذلة الدائمة (¬3). 4 - ويقول الحق تبارك وتعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:17]. يقول ابن كثير: يقول تعالى لا أحد أظلم، ولا أعتى ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً، وتقوّل على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر إجراماً ولا أعظم ظلماً من هذا (¬4). ومن الآيات القرآنية في هذا الشأن قوله تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]. وقوله سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ [العنكبوت:68]. وقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ [الزمر:32]. ¬

(¬1) ((تفسير ابن عطية)) (6/ 108, 109) بتصرف يسير، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 149)، و ((تفسير البيضاوي)) (1/ 321)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 86). (¬2) ((تفسير السعدي)) (2/ 434). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 165). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 392).

ولذا يقول ابن تيمية: ومن ادعى النبوة وهو كاذب، فهو من أكفر الكفار، وأظلم الظالمين، وشر خلق الله تعالى، قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144]. وقال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60] (¬1) ب- أن ادعاء النبوة تكذيب لصريح القرآن الكريم، حيث نص القرآن نصاً قطعياً ظاهراً على أن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبي بعده. يقول تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40]. يقول ابن كثير: هذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس (¬2). وقال القرطبي: قال ابن عطية: هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفاً وسلفاً متلقاة على العموم التام مقتضية نصاً أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم (¬3). وقال الشربيني: أي آخرهم الذي ختم؛ لأن رسالته عامة، ومعها إعجاز القرآن، فلا حاجة إلى استنباء ولا إرسال، فلا يأتي بعده نبي مطلقاً بشرع جديد، ولا يتجدد بعده مطلقاً استنباء، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده (¬4). ويقول الألوسي: والمراد بكونه عليه الصلاة والسلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحلِّيه عليه الصلاة والسلام بها في هذه النشأة (¬5). جـ- أن ادعاء النبوة تكذيب وإنكار لما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبوة ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنكر هذا المتواتر كافر، فختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم أمر معلوم من الدين بالضرورة. وإذا كان إسحاق بن راهويه يقول: من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم رده بغير تقية فهو كافر (¬6). كما أن ابن الوزير يقول: إن التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديث كفر صحيح (¬7)، فما بالك بمن أنكر أحاديث متواترة وصحيحة تقطع بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبي بعده؟ عدا أن عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية من الأمور الواجبة المعلومة من الدين بالضرورة عند المسلمين. يقول عبد القاهر البغدادي: كل من أقر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقر بأنه خاتم الأنبياء والرسل، وأقر بتأييد شريعته، ومنع من نسخها. وقد تواترت الأخبار عنه بقوله: ((لا نبي بعدي)) (¬8) ومن رد حجة القرآن والسنة فهو الكافر (¬9). ¬

(¬1) ((الجواب الصحيح)) (1/ 30)، و (4/ 272) بتصرف. (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 474). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (14/ 196). (¬4) ((تفسير الشربيني)) (3/ 237, 238). (¬5) ((روح المعاني)) (22/ 34). (¬6) ((الإحكام)) لابن حزم (1/ 89). (¬7) ((العواصم والقواصم)) (2/ 374). (¬8) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬9) ((أصول الدين)) (ص162، 163) بتصرف يسير.

ويقول ابن حزم: قد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل الكواف التي نقلت نبوته وأعلامه وكتابه أنه أخبر أنه لا نبي بعده ... فوجب الإقرار بهذه الجملة، وصحّ أن وجود النبوة بعده عليه السلام باطل لا يكون ألبتة (¬1). ويقول ابن كثير: قد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل (¬2). ونسوق طرفاً من هذه الأحاديث؛ فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((وإنه سيكون في أمتي كذابون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)) (¬3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستار والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه فقال: ((أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له)) (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي)) (¬5). وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومثلي ومثل الأنبياء كرجلٍ بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون، ويقولون لولا موضع اللبنة))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء)) (¬6). إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة (¬7). د- أن ادعاء النبوة يتضمن أنواعاً كثيرة من المخالفات المناقضة لدين الله تعالى وآياته ورسوله. فادعاء النبوة يناقض حقيقة كمال الدين وتمامه، وقد قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3] يقول ابن كثير: هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه (¬8). يقول ابن حزم: اتفقوا أن دين الإسلام هو الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ لجميع الأديان قبله، وأنه لا ينسخه دين بعده أبداً، وأن من خالفه ممن بلغه كافر مخلد في النار أبداً (¬9). ¬

(¬1) ((الفصل)) (1/ 146). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 475). (¬3) رواه أبو داود (4252)، والترمذي (2219)، وابن ماجه (3952)، وأحمد (5/ 278) (22448)، والحاكم (4/ 496). من حديث ثوبان رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (ص: 906) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وحسّنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 406) – كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬4) رواه مسلم (479). (¬5) رواه البخاري (3455) ومسلم (1842). (¬6) رواه البخاري (3534)، ومسلم (2287). (¬7) انظر مثلاً كتاب ((عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية)) لأحمد سعد الغامدي (ص30 - 55)، حيث ساق في هذا الموضوع أكثر من ستين حديثاً رواها سبعة وثلاثون صحابياً. (¬8) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 13). (¬9) ((مراتب الإجماع)) (ص: 167، 173).

وادعاء النبوة يناقض كون القرآن حجة على كل من بلغه، حيث قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغ [الأنعام:19]. فالقرآن نذير لكل من بلغه من العالمين، فمن ادَّعى النبوة فقد طعن في كون القرآن نذيراً لكل من بلغه من الثقلين، كما أن ادعاء النبوة طعن في حفظ القرآن الكريم عن الزيادة والنقصان، يقول تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. إضافة إلى ذلك، فإن ادعاء النبوة طعن في عموم الرسالة المحمدية، وقد قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] فهو صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، كما جاءت بذلك الكثير من النصوص والأحاديث الصحيحة، وهو أمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فالثقلان مطالبون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفته، فما بالك بمن افترى على الله كذباً، فزعم أنه نبي يوحي إليه؟ هـ- أن ادعاء النبوة تكذيب للإجماع، فقد أجمع العلماء على أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعده، كما أجمعوا على تكفير من ادعى النبوة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونورد جملة من أقوال أهل العلم ممن حكى هذا الإجماع على النحو التالي: يقول عبد القاهر البغدادي: أجمع المسلمون وأهل الكتاب على أن أول من أرسل من الناس آدم عليه السلام، وآخرهم عند المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم (¬1). ويقول ابن حزم: واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبداً (¬2). ويقول في موضع آخر: وأما من قال أن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير عيسى ابن مريم، فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد (¬3). ويقول في موضع ثالث: من ادعى نبوة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - حاشا عيسى ابن مريم - فهو كافر، ولا خلاف في ذلك من أحد من أهل الإسلام، وذلك لخلافه القرآن، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4). ويقول القاضي أبو يعلى: ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ولا يبعث الله نبياً بعد نبينا، خلافاً لأهل التناسخ، والخرمية (¬5) في قولهم: يجوز أن يبعث الله نبياً بعد نبينا، وإن الأنبياء لا ينقطعون عن الخلق أبداً، والدلالة عليه إجماع الأمة أن نبينا خاتم النبيين، وقد قال الله تعالى وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زاوية، فقال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)) (¬6) (¬7). ¬

(¬1) ((أصول الدين)) (ص159). (¬2) ((مراتب الاجماع)) (ص173). (¬3) ((الفصل)) (3/ 293) بتصرف يسير. (¬4) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص206)، وانظر: (ص414، 415). (¬5) الخرمية: أتباع بابك الخرمي الذي ظهر بناحية أذربيجان، وكان يستحل المحرمات، ويظهر الإلحاد، وهم فرقة خارجة عن الإسلام كبقية فرق الباطنية. انظر: ((التبصير في الدين)) (ص135)، و ((اعتقادات فرق المسلمين)) (ص79). (¬6) رواه البخاري (3535)، ومسلم (2286). (¬7) ((المعتمد في أصول الدين)) (ص167).

ويقول القاضي عياض: وكذلك من ادّعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه وسلم، أو بعده كالعيسوية من اليهود، القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب، وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم وبعده، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والرسالة ... أو من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها، والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها. وكذلك من ادّعى منهم أنه يوحى إليه، وإن لم يدع النبوة .. فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأنه أرسل كافة للناس. وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ولا تخصيص، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعاً إجماعاً وسمعاً (¬1). ويقول ابن نجيم: إذا لم يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فليس بمسلم؛ لأنه من الضروريات (¬2). ويقول ملا علي قاري: ودعوى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع (¬3). ويقول الألوسي: وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب، وصدعت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعي خلافه، ويقتل إن أصر (¬4). - إذا تقرر وجه كون ادعاء النبوة ناقضاً من نواقض الإيمان القولية في موضوع النبوات، فإننا نسوق طرفاً من كلام العلماء في تقرير هذا الأمر: يقول أحمد الدردير المالكي: ويكفر إذا جوز اكتساب النبوة، أي تحصيلها بسبب رياضة؛ لأنه يستلزم جواز وقوعها بعد النبي (¬5). ويقول محمد عليش المالكي: ويكفر بأن ادّعى شركاً أي: شخصاً مشاركاً مع نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لمخالفته قوله تعالى وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ويكفر إن جوّز اكتساب النبوة بتصفية القلب، وتهذيب النفس، والجدّ في العبادة، لاستلزامه جوازها بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتوهين ما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم (¬6). وقال النووي: إذا ادّعى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، أو صدّق مدعياً لها ... فكل هذا كفر (¬7). وقال الشربيني: من نفى الرسل، بأن قال لهم: لم يرسلهم الله، أو نفى نبوة نبي، أو ادّعى النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو صدّق مدعيها، أو قال: النبوة مكتسبة، أو تنال رتبتها بصفاء القلوب، أو أوحي إليه ولم يدع النبوة ... فقد كفر (¬8). ويقول ابن قدامة: من ادّعى النبوة، أو صدّق من ادّعاها فقد ارتد؛ لأن مسيلمة لما ادّعى النبوة، فصدقه قومه، صاروا بذلك مرتدين، وكذلك طليحة الأسدي ومصدقوه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه رسول الله)) (¬9) (¬10). ¬

(¬1) ((الشفا)) (2/ 1070، 1071). (¬2) ((الأشباه والنظائر)) (ص192). (¬3) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص244). (¬4) ((روح المعاني)) (22/ 41). (¬5) ((الشرح الصغير)) (6/ 149) بتصرف يسير. (¬6) ((شرح منح الجليل)) (4/ 464) بتصرف، وانظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 269). (¬7) ((روضة الطالبين)) (10/ 64، 65). (¬8) ((مغني المحتاج)) (4/ 135) بتصرف، وانظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/ 395)، و ((قليوبي وعميرة)) (4/ 175). (¬9) رواه البخاري (3609)، ومسلم (157). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريباً من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله)). (¬10) ((المغني)) (8/ 150).

ويقول ابن تيمية: ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه، أو أخبر عن الله خبراً كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين، فإنه كافر حلال الدم (¬1). ويقول أيضاً: أما من اقترن بسبه - أي: للصحابة - دعوى أن علياً إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرائيل عليه السلام في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. (¬2). ويقول منصور البهوتي: من ادّعى النبوة، أو صدّق من ادّعاها كفر؛ لأنه مكذب لله تعالى في قوله: وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ولحديث: ((لا نبي بعدي)) (¬3)، وفي الخبر: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه رسول الله)) (¬4) (¬5). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف - ص184 ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص148). (¬2) ((الصارم المسلول)) (ص518). وأشار ابن تيمية - في عدة مواضع من كتبه - إلى ادّعاء ملاحدة الفلاسفة والصوفية اكتساب النبوة ... انظر مثلاً: ((الصفدية)) (1/ 229، 284)، و ((درء التعارض)) (1/ 318)، و (5/ 22)، و ((الرد على المنطقيين)) (ص487)، و ((الأصفهانية)) (ص106). (¬3) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (3609)، ومسلم (157). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريباً من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله)). (¬5) ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/ 386)، وانظر: ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح المؤرخ (9/ 171)، و ((الإقناع)) للحجاوي (4/ 297).

المبحث الثالث: إنكار الكتب المنزلة أو شيء منها

المبحث الثالث: إنكار الكتب المنزلة أو شيء منها 1 - من المعلوم أن الإيمان بالكتب المنزلة من عند الله على رسله عليهم السلام هو أحد أركان الإيمان قال الله تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإسماعيل وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]. وقال سبحانه: قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإسماعيل وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [آل عمران:84]. وقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:136]. وقال تعالى: وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ [الشورى:15]. ووجوب الإيمان بهذه الكتب، يعتبر أمراً بدهياً بالنسبة للمؤمن، فما دام يؤمن بالله تعالى، وقد صدّق بما نزل من عنده من الوحي، وما دام أن الله تعالى يخبره في كتابه الكريم أنه قد أنزل كتباً سابقة على الأنبياء والرسل، فالواجب أن يؤمن بهذه الكتب المنزلة، ويعتقد يقيناً أنها منزلة من عند الله تعالى. ومعنى الإيمان بالكتب: التصديق بأن جميع هذه الكتب منزّلة من عند الله تعالى على رسله عليهم السلام إلى عباده، وأنها كلام الله عز وجل، وأن الإيمان بكل ما فيها من الأحكام كان واجباً على الأمم التي نزلت إليهم تلك الكتب، وكذا الانقياد لها والحكم بما فيها، كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]. والإيمان بكتب الله عز وجل يجب إجمالاً فيما أجمل، وتفصيلاً فيما فصّل ومما يجب الإيمان به مفصلاً: الإيمان بالقرآن الكريم بتصديقه واتباعه، وتحقيق النصيحة لهذا القرآن العظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله: قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬1). يقول النووي - في بيان معنى النصيحة لكتابه -: وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى، فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، ولا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذّبّ عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه، وإلى ما ذكرنا من نصيحته (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً قبل حديث (57)، ورواه مسلم موصولاً (55). من حديث تميم الداري رضي الله عنه. (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 38)، وانظر: ((التبيان في آداب حملة القرآن)) للنووي (ص97, 98).

ويقول ابن رجب - في شرح معنى النصيحة لكتابه -: وأما النصيحة لكتابه: فشدة حبه وتعظيم قدره، إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية في تدبره، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعد ما يفهمه وكذلك الناصح من العباد يفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه عني بفهمه ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك الناصح لكتاب ربه يعنى بفهمه، ليقوم لله بما أمره به، كما يحب ربنا ويرضى، ثم ينشر ما فهم في العباد ويديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه (¬1). 2 - إن الأقوال التي تناقض الإيمان بالكتب المنزلة لها صور متعددة، وأمثلة كثيرة يصعب حصرها، منها: التكذيب والإنكار لهذه الكتب أو بغضها، أو سبها والطعن فيها، أو الاستهزاء بها وانتقاصها والاستخفاف بها، أو الادعاء باختلاقها وافترائها ... وسيكون حديثنا في هذا المبحث قاصراً على مثال من تلك النواقض، وهو الإنكار والاستهزاء بالكتب المنزلة، فأما معنى الإنكار فهو الجحود وعدم الاعتراف، وأما الاستهزاء فهو السخرية والاستخفاف ... ووجه كون إنكار الكتب المنزلة أو الاستهزاء بها كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان عدة أمور منها: أ- إن هذا الإنكار أو الاستهزاء تكذيب للقرآن، حيث أمر الله تعالى بالإقرار بآياته وتصديقها، وعدم اتخاذها هزواً، وأيضاً فإن الله تعالى قد حكم بالكفر على من جحد آياته، كما توعده بالعذاب المهين (¬2) وأخبر تعالى أنه لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة ... قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56]. وقال سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ [الأنعام:157]. وقال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:36]. وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الحج:57]. وقال تعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ [العنكبوت:47]. وقال عز وجل: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:27, 28]. ومن الآيات التي جاءت في شأن المستهزئين، قوله تعالى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الجاثية:9]. ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) (ص78). (¬2) وكما قال ابن تيمية: ولم يجيء إعداد العذاب المهين إلا في حق الكافر. ((الصارم المسلول)) (ص: 52).

وقوله تبارك وتعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية:34، 35]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون [الأحقاف:26]. وقال تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66]. يقول ابن تيمية: نقل عن الشافعي أنه سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى، أنه قال كافر، واستدل بقوله تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (¬1). ويقول ابن تيمية عن قوله تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر ... (¬2). ب- إن الإيمان بالكتب المنزلة يتضمن الإقرار بها وتصديقها، ولا شك أن إنكارها يناقض هذا الإقرار والتصديق، فإنكار الكتب المنزلة يناقض قول القلب وهو التصديق، كما يناقض قول اللسان وهو الإقرار. والإيمان بالكتب المنزلة يتضمن أيضاً وجوب تعظيمها وإجلالها وإكرامها، وإن الاستهزاء بها لا يجتمع مع هذا التعظيم والإجلال، فهو مناقض لعمل القلب، كما أنه يناقض الإيمان الظاهر باللسان. جـ- إن إنكار الكتب السماوية يتضمن إنكاراً لصفة الكلام الإلهي، ونفي هذه الصفة من الإلحاد في أسماء الله تعالى، وسوء الظن بالله تعالى، وعدم قدر الله تعالى حق قدره. كما أن هذا الإنكار طعن في الرسل عليهم السلام وتنقص لهم، ... وأن الطعن في الرسل عليهم السلام وسبّهم من نواقض الإيمان. كما أن هذا الإنكار والاستهزاء هو إنكار واستهزاء بشرائع الدين وأحكامه الإلهية المتلقاة من هذا الوحي، والاستهزاء بالدين كفر (¬3)؛ لأن أصل الدين قائم على التعظيم (¬4). د- روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المراء في القرآن كفر)) (¬5). ومما قاله الخطابي في بيان هذا الحديث: اختلف الناس في تأويله. فقال بعضهم: معنى المراء هنا: الشك فيه، كقوله تعالى فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ [هود:17] أي: في شك، ويقال: بل المراء هو الجدال المشكك فيه. ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص513). (¬2) ((الصارم المسلول)) (ص31)، وانظر: ((المحلى)) لابن حزم (13/ 500). (¬3) انظر: ((تفسير الرازي)) (16/ 124). (¬4) انظر: ((تفسير السعدي)) (3/ 259). (¬5) رواه أبو داود (4603)، وأحمد (2/ 300) (7976). والحديث سكت عنه أبو داود. وحسنه ابن القيم في ((تهذيب السنن)) (12/ 353)، وابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 159) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 154): رواه كله أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (15/ 146): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.

وتأوله بعضهم على المراء في قراءاته دون تأويله ومعانيه، مثل أن يقول قائل: هذا قرآن قد أنزله الله تبارك وتعالى، ويقول الآخر: لم ينزله الله هكذا، فيكفر به من أنكره، وقد أنزل سبحانه كتابه على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن إنكار القراءة التي يسمع بعضهم بعضاً يقرؤها، وتوعدهم بالكفر عليها لينتهوا عن المراء فيه والتكذيب به (¬1). فإذا كان الشك في القرآن يعد كفراً، فإن إنكاره أشد كفراً. هـ- حكى أهل العلم الإجماع على كفر من أنكر الكتب المنزلة أو بعضها - ولو كانت آيةً واحدةً - وكذا أجمعوا على كفر المستهزئ بهذه الكتب المنزلة. فهذا ابن عبد البر يحكي الإجماع قائلاً: وأجمع العلماء أن ما في مصحف عثمان وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا، هو القرآن المحفوظ الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، ولا تحل الصلاة لمسلم إلا بما فيه ... - إلى أن قال: - وإنما حلّ مصحف عثمان رضي الله عنه هذا المحل، لإجماع الصحابة وسائر الأمة عليه، ولم يجمعوا على ما سواه ... ويبين لك أن من دفع شيئاً مما في مصحف عثمان كفر (¬2). وينقل ابن عبد البر الإجماع الذي حكاه إسحاق بن راهويه، حيث قال إسحاق: قد أجمع العلماء أن من سبّ الله عز وجل، أو سبّ رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقرّ بما أنزل الله أنه كافر. فإذا كان دفع شيء أنزله الله كفراً بالإجماع ولو كان مقراً به، فما بالك بمن أنكر هذا الوحي؟. ويقول القاضي عياض: اعلم أن من استخفّ بالقرآن، أو المصحف، أو بشيءٍ منه، أو سبّهما، أو جحده، أو حرفاً منه أو آيةً، أو كذّب به، أو بشيءٍ منه، أو كذّب بشيءٍ مما صرح به فيه من حكم، أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علمٍ منه بذلك، أو شك في شيءٍ من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماعٍ، قال الله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. وكذلك إنْ جحد التوارة والإنجيل وكتب الله المنزلة، أو كفر بها، أو لعنها، أو سبها، أو استخف بها فهو كافر. وقال أبو عثمان الحداد: جميع من ينتحل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر (¬3). ويقول ابن حزم: من قال: إن القرآن نقص من بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حرف أو زيد فيه حرف، أو بُدِّلَ منه حرف، أو أن هذا المسموع أو المحفوظ أو المكتوب أو المنزل ليس هو القرآن، وإنما هو حكاية القرآن، وغير القرآن، أو قال: إن القرآن لم ينزل به جبريل صلى الله عليه وسلم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنه ليس هو كلام الله تعالى فهو كافر، خارج عن دين الإسلام؛ لأنه خالف كلام الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل الإسلام (¬4). ويقول ابن قدامة: ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن من جحد آية، أو كلمة متفقاً عليها أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر (¬5). - وإذا تقرر أوجه كون الإنكار أو الاستهزاء بالوحي من نواقض الإيمان، فإننا نسوق طرفاً من كلام العلماء في هذه المسألة كما يلي: ¬

(¬1) ((معالم السنن)) مع ((سنن أبي داود)) (5/ 9)، وانظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/ 91) و ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/ 302). (¬2) ((التمهيد)) (4/ 278، 279). (¬3) ((الشفا)) (2/ 1101 - 1105) باختصار. (¬4) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص220, 221)، وانظر قريباً من هذا الكلام في: ((المحلى)) (1/ 15, 16, 39)، و ((الفصل)) (5/ 40). (¬5) ((حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة)) (ص33).

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله (¬1). وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: من كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع (¬2). وقال عبدالله بن المبارك: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر، ومن قال: لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر (¬3). ويقول ابن بطة: وكذلك وجوب الإيمان والتصديق بجميع ما جاءت به الرسل من عند الله، وبجميع ما قاله الله عز وجل فهو حقٌّ لازمٌ، فلو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئاً واحداً، كان بردّ ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء (¬4). ويقول أيضاً: من كذب بآيةٍ أو بحرفٍ من القرآن، أو ردّ شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر (¬5). وقال القاضي عياض: وكذلك من أنكر القرآن، أو حرفاً منه، أو غيّر شيئاً منه، أو زاد فيه كفعل الباطنية والإسماعيلية، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو ليس فيه حجة ولا معجزة، كقول هشام الغوطي، ومعمر الضمري، أنه لا يدل على الله، ولا حجة فيه لرسوله ... لا محالة في كفرهما بذلك القول. وكذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن - بعد علمه - أنه من القرآن الذي في أيدي الناس ومصاحف المسلمين، ولم يكن جاهلاً، ولا قريب عهد بالإسلام ... (¬6). وقال ابن نجيم: ويكفر إذا أنكر آيةً من القرآن، أو سخر بآيةٍ منه إلا المعوذتين، ففي إنكارهما اختلاف، والصحيح كفره ... (¬7). وجاء في (الفتاوى البزازية): إدخال القرآن في المزاح، والدعابة كفر؛ لأنه استخفاف به (¬8). وجمع محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي أقوال الأحناف في هذه المسألة، فكان مما أورده: وفي (الخلاصة): من قرأ القرآن على ضرب الدف والقضيب يكفر، وكذا من لم يؤمن بكتاب من كتب الله تعالى، أو جحد وعداً أو وعيداً مما ذكره الله تعالى في القرآن، أو كذب شيئاً منه. وفي (يتيمة الفتاوى): من استخف بالقرآن، أو بالمسجد، أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر. وفي (جواهر الفقه): من قيل له: ألا تقرأ القرآن، أو ألا تكثر قراءته؟ فقال: شبعت أو كرهت، أو أنكر آية من كتاب الله، أو عاب شيئاً من القرآن، أو أنكر المعوذتين من القرآن غير مؤول كفر. وفي (الفتاوى الظهيرية): من قرأ آيةً من القرآن على وجه الهزل يكفر (¬9). وذكر النووي أن من جحد آيةً من القرآن على وجه الهزل يكفر (¬10). ¬

(¬1) ((حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة)) (ص33). (¬2) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (2/ 232). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 182). (¬4) ((الإبانة الصغرى)) (ص211). (¬5) ((الإبانة الصغرى)) (ص201). (¬6) ((الشفا)) (2/ 1076، 1077) باختصار. (¬7) ((البحر الرائق)) (5/ 131). (¬8) ((الفتاوى البزازية)) (3/ 338). (¬9) ((تهذيب رسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات)) (ص22، 23) باختصار، وانظر: ((شرح الفقه الأكبر)) لملا علي قاري (ص250 - 254). (¬10) انظر: ((روضة الطالبين)) (10/ 64)، وانظر أيضاً: ((مغنى المحتاج)) للشربيني (4/ 135)، و ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/ 395).

وسُئل ابن تيمية عن رجل لعن اليهود، ولعن دينه وسبّ التوراة فهل يجوز لمسلم أن يسب كتابهم أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، ليس لأحد أن يلعن التوراة، بل من أطلق لعن التوراة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها، فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء. وأما إن لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس في ذلك، فإنهم ملعونون هم ودينهم، وكذلك إنْ سبَّ التوراة التي عندهم بما يبين أن قصده ذكر تحريفها مثل أن يقال: نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر، فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله، والله أعلم. (¬1). ويقول في موضع آخر: من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت ... فلا خلاف في كفره. (¬2). كما أن ابن قدامة حكم بالكفر على من استهزأ بآيات الله (¬3)، كما قال تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65, 66] ويقول البهوتي: من جحد كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه، أو استهزأ بالله تعالى، أو بكتبه أو رسله فهو كافر، لقوله تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66] وكذا إن وجد منه امتهان للقرآن أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف أو مقدور على مثله أو إسقاط لحرمته، لقوله تعالى: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21] وقوله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:82]. وقوله: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88] (¬4) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف -بتصرف – ص199 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 200). (¬2) ((الصارم المسلول)) (ص586) باختصار. (¬3) انظر: ((المغنى)) (10/ 113). (¬4) ((كشاف القناع)) (6/ 168، 169) بتصرف. وانظر: ((غاية المنتهى)) (3/ 339)، و ((المبدع)) (9/ 171).

المبحث الرابع: بغض أو كراهية بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

المبحث الرابع: بغض أو كراهية بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم البغض والكراهة ضد المحبة، والمحبة شرط من شروط لا إله إلا الله (وأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة، فهو أصل كل فعل ومبدؤه، كما أن البغض والكراهة مانع وصاد لكل ما انعقد بسببه ومادته، فهو أصل كل ترك) (¬1)، والمحبة المقصودة ... إخلاص المحبة لله عز وجل، فلا يكون له شريك في الحب، ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تستلزم محبة أوامره وفعلها، وبغض وكراهية ما نهى عنه وتركه، ومحبة أوليائه، وضد ذلك كراهية وبغض أوامره أو بعضها، ومحبة معاصيه، وبغض أوليائه ومحبة أعدائه. وكراهية الحق من صفات الكافرين، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 9]، كرهوا ما أنزل الله من القرآن، فلم يقبلوه، بل أبغضوه (¬2). وقال سبحانه: بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [المؤمنون: 70]، وقد وصف سبحانه المنافقين بهذه الصفة كما في قوله تعالى: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة: 54]، وقال سبحانه: فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ... [التوبة: 81]. فقد كرهوا الجهاد بسبب ما في قلوبهم من النفاق (¬3)، ولذلك ذكر الأئمة ..... بغض أو كراهية ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعضه، ضمن أقسام النفاق الأكبر. والبغض والكراهة ينافيان عمل القلب من وجهين: الأوَّل: أن فيه إخلالاً بشرط المحبة والتعظيم لله عز وجل، ومحبة أوامره، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنَّ فيه تركاً للقبول والانقياد والتسليم لأن ذلك مقتضى المحبة، ولذلك كفّر العلماء من اتصف بهذه الصفة، (لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه، ... وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع ... ) (¬4)، وجاء في شرح الإقناع: (قوله: أو كان مبغضاً لما جاء به الرسول، ولم يشرك بالله، لكن أبغض السؤال عنه ودعوة الناس إليه، كما هو حال من يدعي العلم ويقرر أنه دين الله ورسوله ويبغضونه أكثر من بغض دين اليهود والنصارى، بل يعادون من التفت إليه، ويحلون دمه وماله، ويرمونه عند الحاكم ... ) إلى أن يقول: (والتكفير بالاتفاق فيمن أبغض النهي عنه، وأبغض الأمر بمعاداة أهله، ولو لم يتكلم وينصر، فكيف إذا فعل ما فعل ... ) (¬5). ¬

(¬1) ((قاعدة في المحبة)) (ص: 7). (¬2) انظر ((تفسير السعدي)) (7/ 67). (¬3) انظر: ((فتح القدير)) (2/ 388). (¬4) ((الصارم المسلول)) (ص: 524)، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (14/ 108)، و ((قاعدة في الحبة)) (ص: 193). (¬5) ((مجموعة الشيخ القسم الثالث)) (ص: 62)، وانظر ((الكلمات النافعة)) (ص: 79).

لكن ينبغي التفريق بين الكره والنفور الطبعي، وبين الكره الاعتقادي، قال الراغب رحمه الله: (الكره المشقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، والكره ما يناله من ذاته وهو يعافه، وذلك على ضربين، أحدهما: ما يعاف من حيث الطبع، والثاني: ما يعاف من حيث العقل أو الشرع، ولهذا يصح أن يقول الإنسان في الشيء الواحد إني أريده وأكرهه بمعنى إني أريده من حيث الطبع وأكرهه من حيث الشرع، أو أريده من حيث العقل أو الشرع وأكرهه من حيث الطبع، وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة: 216] أي تكرهونه من حيث الطبع) (¬1)، وقال الإمام البغوي رحمه الله: (وهو كره لكم، أي شاق عليكم، قال بعض أهل المعاني: هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح، لا أنهم كرهوا أمر الله تعالى ... ) (¬2)، وقال الإمام القرطبي رحمه الله: (وإنما كان الجهاد كرهاً لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى) (¬3)، وبين الإمام ابن القيم رحمه الله أن الكره لا ينافي الرضى والتسليم فقال: (وليس من شرط الرضى أن لا يحس بالألم والمكاره، بل أن لا يعترض على الحكم ولا يتسخطه، ولهذا أشكل على بعض الناس الرضى بالمكروه، وطعنوا فيه: وقالوا: هذا ممتنع على الطبيعة، وإنما هو الصبر، وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهة؟ وهما ضدان، والصواب: أنه لا تناقض بينهما، وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى، كرضى المريض بشرب الدواء الكريه، ورضى الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ، ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها ... ) (¬4). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي –بتصرف – 2/ 177 ¬

(¬1) ((المفردات)) (ص: 429). (¬2) ((تفسير البغوي)) (1/ 246). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (3/ 39). (¬4) ((مدارج السالكين)) (2/ 182، 183).

المبحث الخامس: اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل

المبحث الخامس: اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه وأن حكم غيره أحسن من حكمه كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر. قال الشارح حفظه الله: من اعتقد أن هناك هدياً أحسن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول: الفلاسفة أو الصابئة أو الصوفية طريقتهم أحسن من طريقة محمد صلى الله عليه وسلم فهذه الطريقة فيها الهداية أو مماثلة لهداية النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كافر؛ فإنه ليس هناك هدي أحسن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إنما هو وحي يوحى فمن قال: إن هناك هدياً أحسن من هدي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو مماثل له كأن يتدين أو يطلب الطريق إلى الله عن طريق الفلاسفة أو طريق الفلسفة أو الصبو (الصابئة) أو التصوف أو غير ذلك؛ فهذا كافر مرتد. وكذلك إذا اعتقد أن هناك حكماً أحسن من حكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كأن يعتقد أن الحكم بالقوانين أحسن من الحكم بالشريعة فهذا مرتد بإجماع المسلمين. وكذلك إذا اعتقد أن الحكم بالقوانين مماثل لحكم الشريعة يكفر أيضاً. وكذلك إذا اعتقد أن الحكم بالشريعة أحسن من الحكم بالقوانين, لكن يجوز الحكم بالقوانين كأن يقول: الإنسان مخير يجوز له أن يحكم بالقوانين, ويجوز له أن يحكم بالشريعة, لكن الشريعة أحسن فهذا يكفر بإجماع المسلمين فالإنسان ليس مخيرا, وهذا أنكر معلوماً من الدين بالضرورة؛ فالحكم بالشريعة هذا أمر واجب على كل أحدٍ وهذا يقول: إنه ليس بواجب وأنه يجوز للإنسان أن يحكم بالقوانين فهذا يكفر ولو قال: إن أحكام الشريعة أحسن. فعلى هذا إذا حكم بالقوانين واعتقد أنها أحسن من حكم الشريعة كفر. وإذا حكم بالقوانين واعتقد أنها مماثلة لحكم الشريعة كفر. وإذا حكم بالقوانين واعتقد أن حكم الشريعة أحسن من الحكم بالقوانين لكن يجوز الحكم بالقوانين كفر أيضاً. ففي الحالات الثلاث كلها يكفر. وهناك حالة رابعة إذا حكم بالقوانين أو بالقانون في مسألة من المسائل أو في قضية من القضايا وهو يعتقد أن الحكم بالشريعة هو الواجب, وأنه لا يجوز الحكم بالقوانين, وأنه لا يجوز أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أنه ظالم وأنه مستحق للعقوبة لكن غلبته نفسه وهواه وشيطانه فحكم بغير ما أنزل الله لشخص حتى ينفع المحكوم له أو حتى يضر المحكوم عليه, فينفع المحكوم له؛ لأنه صديق له أو قريب له, أو جار له, أو يضر المحكوم عليه لأنه عدو له, وهو يعلم أن الحكم بما أنزل الله واجب وأنه مرتكب للمعصية هذا يكفر كفراً أصغر ولا يخرج من الملة. فيكون الحكم بغير ما أنزل الله أربع حالات, ثلاث حالات يكفر فيها كفراً أكبر, والرابعة يكفر كفراً أصغر. مسألة: حكم إزالة الشريعة كلها والحكم بالقوانين: إذا كان سنّ القوانين كلها, وأزال الشريعة كلها رأساً على عقب هذا بدّل الدين, وهذا ذهب جمع من أهل العلم إلى أنه يكفر لأنه بدّل دين الله, وهذا هو الذي أفتى به سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مفتي الديار السعودية سابقاً قال: إن هذا بدّل الدين رأساً على عقب ليس في قضية من القضايا, إنما بدّل الأحكام كلها فأزال الشريعة كلها وأبدلها بالقوانين في كل صغيرة وكبيرة. وذهب سماحة شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله إلى أنه أيضاً ولو بدّل الدين لا بد أن يعتقد أنه يجوز الحكم بالقوانين حتى تقوم عليه الحجة. إذاً هذه هي الحالة الخامسة وهي: إذا بدّل الدين. وهناك حالة سادسة وهي: أن الحاكم الشرعي إذا بذل وسعه, واستفرغ جهده في تعرّف الحكم الشرعي لكن أخطأ وحكم بغير ما أنزل الله خطأً فهذا ليس كافراً ولا عاصياً بل هو مجتهد له أجر واحد لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران, وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) (¬1) فهذا خطأه مغفور وله أجر على اجتهاده. وإذا بذل وسعه وأصاب الحق فله أجران أجر الاجتهاد وأجر الإصابة. تبصير الأنام بشرح نواقض الإسلام لعبد العزيز الراجحي ص 35 ¬

(¬1) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716) بلفظ: (إذا حكم الحاكم). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

المبحث السادس: كفر من سوغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

المبحث السادس: كفر من سوغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم جميع الشرائع السابقة عليها .. فيحرم بل يكفر كل من سوَّغ اتباع شريعة سابقة منسوخة فضلاً عن أن يسوغ اتباع شريعة قانونية أرضية من شرائع الناس فهذا أشد كفراً وردة عن الإسلام. نص كلام شيخ الإسلام في المسألة: قال – رحمه الله -: (ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوَّغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر) (¬1). ذكر من نقل الإجماع من أهل العلم أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: قال الإمام ابن حزم – رحمه الله -: (نسخ عز وجل بملته كل ملة وألزم أهل الأرض جنهم وإنسهم اتباع شريعته التي بعثه بها ولا يقبل من أحد سواها) (¬2). وهذا أمر مقرر ومعروف عند أهل الإسلام .. والجهل به جهل بالدين كله، ومن سوغ اتباع شريعة غير شريعة الإسلام سواء كانت من الشرائع السابقة المحرفة والمنسوخة، أو كانت من الشرائع الحادثة الأرضية، فهو كافر لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. والعلم بذلك ضرورة من ضروريات هذا الدين .. ولهذا قدم شيخ الإسلام نقله للإجماع عليها بقوله: (ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين). ذكر مستند الإجماع على كفر من سوَّغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم: حق التشريع لله وحده .. وقد بعث رسوله بشرعه وأمر الناس باتباعه .. وجعل الاتباع في طريقه ونهجه، فكل ما يخالف شرعه فهو ضلال وتيه، والإيمان بذلك أصل من أصول الدين – أن تعرف دينك – وهو ما شرعه لك ربك في محكم كتابه أو على لسان نبيك .. فمن أنكر هذا أو شك فيه أو رضي غيره أو سوَّغ اتباع غير الشريعة فهو كافر أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50]، قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 32]، وكل من سوَّغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد تولى عن طاعة الله ورسوله .. ومن تولى عن طاعة الله ورسوله فهو من الكافرين، بل يقسم الله عز وجل على عدم إيمان من لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينه وبين الناس فيقول: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] فكيف من يسوغ اتباع شريعة أخرى غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم!!. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 805 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 524). (¬2) ((المحلى)) (1/ 8).

المبحث السابع: من استهزأ بشيء جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

المبحث السابع: من استهزأ بشيءٍ جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من هزل بالله أو بآياته الكونية أو الشرعية أو برسله؛ فهو كافر، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة. كيف يسخر ويستهزئ بأمر يؤمن به؟! فالمؤمن بالشيء لابد أن يعظمه وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به. والكفر كفران: كفر إعراض، وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جداً، ورُبّ كلمة أوقعت بصاحبها البلاء بل والهلاك وهو لا يشعر، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله عز وجل لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار. فمن استهزأ بالصلاة ولو نافلة، أو بالزكاة، أو الصوم، أو الحج، فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلاً: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه، فهذا كفر مخرج عن الملة، لأن الرب عز وجل كل أفعاله مبنية على الحكمة وقد لا نستطيع بلوغها بل لا نستطيع بلوغها. ثم اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين: القول الأول: أنها لا تقبل، وهو المشهور عن الحنابلة، بل يقتل كافراً، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال: إنه تاب أو إنه أخطأ، لأنهم يقولون: إن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيها التوبة. وقال بعض أهل العلم: إنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة، كقوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم. وهذا هو الصحيح، إلا أن سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله، فإنها تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعاً، أما سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يتعلق به أمران: الأول: أمر شرعي لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب. الثاني: أمر شخصي لكونه من المرسلين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه صلى الله عليه وسلم، ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل، غسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ألّف كتاباً في ذلك اسمه: (الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول)، أو (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، وذلك لأنه استهان بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه، فإنه يقتل ولا يجلد. فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل منه وأطلقه؟ أجيب: بلى، هذا صحيح لكن هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد أسقط حقه، أما بعد موته، فلا ندري، فننفذ ما نراه واجباً في حق من سبه صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفو موجب للتوقف؟ أجيب: إنه لا يوجب التوقف، لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه. فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عمن سبه؟

أجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحداً بعينه من المنافقين لقتلناه. قال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط. وقول الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65 - 66]. قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: سألت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة. قوله: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أي: ما لنا قصد، ولكننا نخوض ونلعب، واللعب يقصد به الهزء، وأما الخوض، فهو كلام عائم لا زمام له. هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول، فإنه يكون الخوض في الكلام، واللعب في الجوارح. وقوله: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ: إِنَّمَا: أداة حصر، أي: ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونعلب. قوله: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ الاستفهام للإنكار والتعجب، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة، ويتعجب كيف يكون أحق الحق محلاً للسخرية؟ قوله: أَبِاللَّهِ أي: بذاته وصفاته. قوله: وآياته: جمع آية، ويشمل: الآيات الشرعية، كالاستهزاء بالقرآن، بأن يقال: هذا أساطير الأولين والعياذ بالله، أو يستهزئ بشيءٍ من الشرائع، كالصلاة والزكاة والصوم والحج. والآيات الكونية، كأن يسخر بما قدره الله تعالى، كيف يأتي هذا في هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشيء؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية. قوله: وَرَسُولِهِ المراد هنا: محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: لَا تَعْتَذِرُوا المراد بالنهي: التيئيس، أي: انههم عن الاعتذار تيئيساً لهم بقبول اعتذارهم. قوله: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أي: بالاستهزاء وهم لم يكونوا منافقين خالصين بل مؤمنين، ولكن إيمانهم ضعيف، ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله. قوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ. نَعْفُ: ضمير الجمع للتعظيم، أي: الله عز وجل. وقوله: عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ قال بعض أهل العلم: هؤلاء حضروا وصار عندهم كراهيةً لهذا الشيء لكنهم داهنوا فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة، ولهذا عفا الله عنهم وهداهم للإيمان وتابوا. قوله: نُعَذِّبْ طَائِفَةً هذا جواب الشرط، أي: لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة، فلابد أن نعذب الآخرين. قوله: بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ الباء للسببية، أي: بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء وعندهم جرم والعياذ بالله، فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يعفي عنهم. ويستفاد من الآيتين: ... أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر، بدليل الاستفهام والتوبيخ. أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحاً، لقوله: أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ وتقديم المتعلق يدل على الحصر كأنه ما بقي إلا أن تستهزئوا بهؤلاء الذين ليسوا محلاً للاستهزاء، بل أحق الحق هؤلاء الثلاثة.

أن المستهزئ بالله يكفر، لقوله: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. استعمال الغلظة في محلها، وإلا فالأصل أن من جاء يعتذر يرحم، لكنه هنا ليس أهلاً للرحمة. قبول توبة المستهزئ بالله؛ لقوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ، وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عفي عنه وهُدي للإسلام وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح أن المستهزئ بالله تقبل توبته، لكن لابد من دليل بيّن على صدق توبته، لأن كفره من أشد الكفر أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحود. وهؤلاء الذين حضروا السبّ مثل الذين سبّوا، قال تعالى: وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140] وهم يستطيعون المفارقة، والنبي صلى الله عليه وسلم امتثل أمر الله بتبليغهم، حتى إن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له: أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65 - 66]، ولا يزيد على هذا أبداً مع إمكان أن يزيده توبيخاً وتقريعاً. عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة، دخل حديث بعضهم في بعض: أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عن اللقاء (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء). فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعةِ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:67]، ما يلتفت إليه وما يزيده عليه (¬1). قوله: (ما رأينا) تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية. قوله: (مثل قرائنا) .. والمراد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قوله: (أرغب بطوناً) .. أي: أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى: السعة، لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل. قوله: (ولا أكذب ألسناً) الكذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن: جمع لسان، والمراد: ولا أكذب قولاً، واللسان يطلق على القول كثيراً في اللغة العربية، كما في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4] أي: بلغتهم. ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (14/ 333)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (7/ 313).

قوله: (ولا أجبن عند اللقاء) الجبن: هو خور في النفس يمنع المرء من الإقدام على ما يكره، فهو خلق نفسي ذميم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه (¬1) لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه، فلهذا كان صفة ذميمة، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين، فالمؤمن يأكل بمعيٍ واحد: ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه، والكافر يأكل بسبعة أمعاء، والمؤمن أصدق الناس لساناً ولاسيما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن الله وصفهم بالصدق في قوله: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]. والمنافقون أكذب الناس، كما قال الله فيهم: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب من علامات النفاق (¬2)، والمنافقون من أجبن الناس، قال تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ .. [المنافقون:4]، فلو سمعوا أحداً ينشد ضالته، لقالوا: عدو عدو، وهم أحب الناس للدنيا، إذ أصل نفاقهم من أجل الدنيا ومن أجل أن تحمي دماؤهم وأموالهم وأعراضهم. قوله: (كذبت) أي: أخبرت بخلاف الواقع، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر، وأن السكوت عليه لا يجوز. قوله: (ولكنك منافق) لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجل تسمى بالإسلام إلا منافق، وبهذا يعرف أن من يسبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر، لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته. فيكون طعناً في الله، لأنه طعن في حكمته، حيث اختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه. وطعناً في الرسول صلى الله عليه وسلم: لأنهم أصحابه، والمرء على دين خليله، والإنسان يستدل على صلاحه أو فساده أو سوء أخلاقه أو صلاحها بالقرين. وطعناً في الشريعة: لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في نقل الشريعة، وإذا كانوا بهذه المثابة، فلا يوثق بهذه الشريعة. قوله: (فوجد القرآن قد سبقه) أي: بالوحي من الله تعالى، والله عليمٌ بما يفعلون وبما يريدون وبما يبيتون، قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108]. قوله: (وقد ارتحل وركب ناقته) الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير، لأن ركوب الناقة هو الارتحال. قوله: (كأني أنظر إليه) كأن إذا دخلت على مشتق، فهي للتوقع، وإذا دخلت على جامد، فهي للتشبيه، وهنا دخلت على جامد، والمعنى: كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به. قوله: (بنسعة) هي الحزام الذي يربط به الرحل. قوله: (والحجارة تنكب رجليه) أي: يمشي والحجارة تضرب رجليه وكأنه والله أعلم يمشي بسرعة، ولكنه لا يحس في تلك الحال، لأنه يريد أن يعتذر. قوله: (وما يزيده عليه) أي: لا يزيده على ما ذكر من توبيخ امتثالاً لأمر الله عز وجل، وكُفي بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخاً. فيه مسائل: الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا كافر. أي من هزل: بالله وآياته ورسوله. ¬

(¬1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل، فكنت أسمعه كثيرا يقول: ((اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال)) رواه البخاري (2893). (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) رواه البخاري (33)، ومسلم (59).

الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان. أي: سواء كان منافقاً أو غير منافق ثم استهزأ، فإنه يكفر كائناً من كان. ا. هـ. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/ 30 حكم من استهزأ بالصلاة أو المصلين وسائر العبادات: فإذا استهزأ بالصلاة كفر، أو استهزأ بالزكاة كفر، أو استهزأ بالصوم كفر، أو استهزأ بالمصلين؛ كأن يسخر بالصلاة التي يصليها المسلم كفر، أو يستهزئ باللحية، كراهة لما جاء به الإسلام من الأمر بإعفاء اللحية، فإنه يكفر؛ لأن الله شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرع إعفاءها. أما إذا سخر من الشخص لذاته أو لشخصه فلا يكفر. حكم من استهزأ بالجنة والنار: وكذلك إذا استهزأ بالجنة أو النار، فالجنة ثواب للمؤمنين والنار عقاب للكافرين، فإذا استهزأ وسخر، وقال: ما الجنة؟ وما النار؟ مستهزئا فإنه يكفر والعياذ بالله. [حكم من استهزأ بثواب الأعمال الصالحة:] ومن استهزأ بثواب الأعمال الصالحة؛ كمن سمع أو قرأ مثلاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال سبحان الله وبحمده. في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)) (¬1). فاستهزأ بهذا الثواب وسخر به لا أنه لم يصح عنده، فإنه يكفر. فإذا استهزأ بشيء من دين الرسول عليه الصلاة والسلام، أو استهزأ بالثواب الذي أعده الله للمطيع، أو أعده الله على العمل الصالح، أو العقوبة التي أعدها الله للعاصي، أو للكافر فإنه يكفر، والدليل قول الله تعالى في سورة التوبة: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم [التوبة: 65 - 66] فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان. تبصير الأنام بشرح نواقض الإسلام لعبد العزيز الراجحي ص41 ¬

(¬1) رواه البخاري (6405).

المبحث الثامن: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الشك في رسالته

المبحث الثامن: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الشك في رسالته ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض هذه الصور فقال: (فمن النفاق ما هو أكبر، ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبدالله بن أُبي وغيره، بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله، وهذا القدر كان موجوداً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومازال بعده، بل هو أكثر منه على عهده ... ) (¬1). وقال في موضع آخر: (فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه، فأن لا يرى وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر - علماً وعملاً - وأنه يجوز تصديقه وطاعته لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحداً، ويرى أنه تحصيل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته، إما بطريق الفلسفة والصبو، أو بطريق التهود والتنصر ... ) (¬2) ونقل هذه الأنواع الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله فقال: ... فأما النفاق الاعتقادي فهو ستة أنواع، تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول أبو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرّة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار (¬3) فيتحصل مما ذكره هذان الإمامان - بعد دمج الأنواع المتشابهة أو المتقاربة- خمس صفات أو أنواع وهي: 1 - تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكذيب بعض ما جاء به. 2 - بغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض ما جاء به. 3 - المسرة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الكراهية بانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم. 4 - عدم اعتقاد وجوب تصديقه فيما أخبر. 5 - عدم اعتقاد وجوب طاعته فيما أمر. وبالنظر إلى الآيات التي ذكرت أحوال المنافقين، وكلام المفسرين حولها، يمكن أن يضاف إلى هذه الصفات صفات أخرى وهي: 6 - أذى الرسول صلى الله عليه وسلم أو عيبه ولمزه. 7 - مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المؤمنين. 8 - الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين لأجل إيمانهم وطاعتهم لله ولرسوله. 9 - التولي والإعراض عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. فالوقوع في أي صفة من هذه الصفات يخرج من الملة، وهذه الصفات أكثرها متعلق بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ... فالنفاق يقع كثيراً في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته ... (¬4) نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – ص: 316 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 434). (¬2) ((الإيمان الأوسط)) (ص180). (¬3) ((مجموعة التوحيد)) (ص7). (¬4) ((الإيمان الأوسط)) (ص181)، وانظر: ((الإيمان)) (ص285).

المبحث التاسع: كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض

المبحث التاسع: كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض من المسلَّم به أن الرسل كلهم متفقون في أصل الدين، فلزم من ذلك أن من أقر بنبوة البعض دون الآخر فإنه كافر بالجميع، وذلك لاتفاقهم جميعاً في أصل رسالتهم، قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13]. نص كلام شيخ الإسلام في المسألة: قال – رحمه الله -: (المسلمون متفقون على كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض) (¬1). ذكر من نقل الإجماع من أهل العلم أو نص على المسألة مما سبق شيخ الإسلام: الرسل والأنبياء كلهم دينهم واحد بعثوا بعبادة الله وحده وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ [النحل: 36] فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالآخرين ولهذا كان الإيمان بهم جميعاً ركناً من أركان الإيمان الستة. قال الإمام ابن بطة العكبري – رحمه الله -: (الإيمان والتصديق بجميع ما جاءت به الرسل من عند الله وبجميع ما قال الله عز وجل فهو حق لازم فلو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئاً واحداً كان برد ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء) (¬2). وهذا الكفر في رد شيء واحد جاء به الرسول، فكيف فيمن كفر بالرسول وكل ما جاء به .. فكفره أظهر أولى. ذكر مستند الإجماع على كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [النساء: 150 - 151]، قال ابن كثير – رحمه الله -: (من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية، ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله أي: وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ في الإيمان وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أي: طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم، فقال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا أي: كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به، لأنه ليس شرعياً، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته) (¬3). فبين الله عز وجل أن الذين يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض أنهم هم الكافرون حقاً. ¬

(¬1) ((منهاج السنة)) (6/ 433). (¬2) ((الشرح والإبانة)) (ص: 211). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 445).

ثم ذكر وصف المؤمنين وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 152] فالمؤمنون يؤمنون برسل الله ولا يفرقون بين أحد منهم وأنهم جميعاً يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبد من دونه، وأنهم بلغوا رسالات الله بصدق وأمانة، وأن خاتمهم محمد بن عبد الله، نسخت شريعته جميع الشرائع السابقة، فنؤمن بجميع الأنبياء والرسل إجمالاً وندين بدين وشرعة محمد بن عبد الله إجمالاً وتفصيلاً، لا يقبل الله بعد بعثته ديناً سوى دينه. وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فمن كذب وكفر بنبي واحد فقد كذب وكفر بسائر الأنبياء، قال تعالى عن قوم نوح: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105]، وقال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ [الفرقان: 37] وهم إنما كذبوا وكفروا بنوح عليه السلام، لكن لما كان تكذيب نبي واحد والكفر به بمثابة من كذب وكفر بسائر الأنبياء، قال تعالى عنهم: كَذَّبُوا الرُّسُلَ [الفرقان: 37] وكَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد)) (¬1). فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء دينهم واحد، متفقون في أصل دينهم ورسالتهم وهو التوحيد .. فمن كفر بواحد منهم كفر بالجميع. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 783 ¬

(¬1) رواه البخاري (3443)، ومسلم (2365).

الفصل الثاني: النواقض القولية في باب النبوات

المطلب الأول: كفر وقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كفر وقتل من سبه .. ولهذا عندما أغلظ رجل على أبي بكر الصديق، فقال أبو برزة الأسلمي: (ألا أضرب عنقه؟ فانتهره أبو بكر، وقال: ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬1). نص كلام شيخ الإسلام في المسألة: قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: (إن الساب إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف) (¬2). ذكر من نقل الإجماع من أهل العلم أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: قال الإمام إسحاق بن راهويه – رحمه الله -: (أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم .. أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله) (¬3). وقال الإمام محمد بن سحنون – رحمه الله -: (أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر) (¬4). وقال ابن المنذر – رحمه الله -: (وأجمعوا على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أن له القتل) (¬5). وقال ابن حزم – رحمه الله-: (كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد يقتل ولابد) (¬6). وقد نقل شيخ الإسلام في (الصارم المسلول) عن غير هؤلاء حكايتهم للإجماع على قتل وتكفير شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم (¬7). ذكر مستند الإجماع على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين فإنه يكفر ويقتل: قال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61] إلى قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة: 63]. فإيذاء رسول الله بسبه وتنقصه محادة لله ورسوله، وحكم الله عز وجل لمن يحادد الله ورسوله بأن له نار جهنم خالداً فيها، والخلود للكافرين، قال ابن جرير الطبري في تأويل هذه الآية: (إنه من يحارب الله ورسوله، ويخالفهما فيناوئهما بالخلاف عليهما فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ في الآخرة خَالِدًا فِيهَا .. لابثاً فيها مقيماً إلى غير نهاية) (¬8)، وهذا الوصف الذي ذكره الإمام الطبري لا يتحقق إلا في الكافرين فهم الذين يقيمون في النار إلى غير نهاية. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره للآيات السابقة: ( .. دل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر، لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها ولم يقل: وهي جزاؤه، وبين الكلامين فرق) (¬9). وقال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65 - 66] الآية، فالاستهزاء برسول الله كفر وردة بنص القرآن، فسب رسول الله أعظم من الاستهزاء لما فيه من التنقص والإيذاء العظيم له عليه الصلاة والسلام، فهو كفر من باب أولى. ¬

(¬1) رواه البخاري (3443)، ومسلم (2365). (¬2) ((الصارم المسلول)) (2/ 16). (¬3) نقلاً من كتاب ((الصارم المسلول)) (2/ 15). (¬4) نقلاً من كتاب ((الصارم المسلول)) (2/ 15). (¬5) ((الإجماع)) لابن المنذر (ص: 76) كتاب المرتد، رقم: (720). (¬6) ((المحلى)) (11/ 414). (¬7) ((الصارم المسلول)) (2/ 13 - 19). (¬8) ((تفسير الطبري)) (6/ 407). (¬9) ((الصارم المسلول)) (2/ 58).

وقد ذكر ابن حزم في كتابه المحلى وبإسناده فقال: حدثنا صمام نا عباس ... عن عروة بن محمد عن رجل بن بلقين قال: ((كان رجل يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يكفيني عدواً لي؟ فقال خالد بن الوليد: أنا. فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله)). (¬1) المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 799 وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحابِ الشافعي إجماعَ المسلمين على أنَّ حدَّ من يَسبّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم القتلُ كما أن حدَّ من سَبَّ غيرَه الجلدُ (¬2) وهذا الإجماعُ الذي حكاه هذا محمولٌ على إجماعِ الصَّدْرِ الأول مِن الصحابة والتابعين، أو أنه أرادَ به إجماعَهم على أن سَابَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يجبُ قتلُه إذا كان مسلماً، وكذلك قَيَّدَه القاضي عِيَاضٌ، فقال: أجمعت الأمةُ على قَتْل متنقِّصِه من المسلمين وسابِّه، ... تحرير القول في حكم الساب: وتحرير القول فيها: أنَّ السابَّ إن كان مسلماً فإنه يَكفُرُ ويُقْتَلُ بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، ... وممن حكى الإجماع على ذلك من الأئمة ... : إسحاقُ بن رَاهُوْيَه وغيره، وإن كان ذمِّيّاً فإنه يقتل أيضاً في مذهب مالكٍ وأهْلِ المدينة، ... وهو مذهبُ أحمد وفقهاءِ الحديث ... نصوص الإمام أحمد: وقد نَصَّ أحمدُ على ذلك في مواضعَ متعددة. قال حَنْبَل: سمعت أبا عبدالله يقول: كلُّ من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقَّصه - مسلماً كان أو كافراً - فعليه القتلُ، وأرى أن يُقتل ولا يُستتاب. قال: وسمعت أبا عبدالله يقول: كلُّ مَن نَقَضَ العهدَ وأحدث في الإسلام حَدَثاً مثل هذا رأيتُ عليه القتل، ليس على هذا أعْطُوا العهدَ والذِّمَّة. وكذلك قال أبو الصقر: سألت أبا عبدالله عن رجل من أهل الذمَّة شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ماذا عليه؟ قال: إذا قامت عليه البينة يقتل مَنْ شتم النبي صلى الله عليه وسلم، مسلماً كان أو كافراً. رواهما الخَلاَّل. وقال في رواية عبدالله وأبي طالب وقد سُئل عمّن شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: يُقتل، قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم، أحاديث منها: حديثُ الأعمى الذي قَتَلَ المرأة، قال: سمعتها تَشتمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم (¬3) ... وذلك أنه من شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فهو مُرْتَدٌّ عن الإسلام، ولا يشتم مسلمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (5/ 237) عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما مرسلاً. وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (11/ 413). (¬2) تكملة ((المجموع)) للمطيعي (19/ 427). (¬3) رواه أبو داود (4361)، والنسائي (7/ 107)، والحاكم (4/ 394). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (2/ 744): صحيح على طريقة بعض أهل الحديث - كما اشترط على نفسه في المقدمة -، وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (ص: 363): رواته ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

زاد عبدُالله: سألتُ أبي عمن شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، يُستتاب؟ قال: قد وجب عليه القتلُ، ولا يُستتاب؛ خالد بن الوليد قَتَلَ رجلاً شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَسْتَتِبْه، (رواهما) أبو بكر في (الشافي)، وفي رواية أبي طالب: سئل أحمدُ عمن شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: يُقْتَلُ، قد نَقَضَ العَهْدَ. وقال حرب: سألتُ أحمد عن رجلٍ من أهل الذمة شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: يقتل، إذا شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم. رواهما الخَلاَّل، وقد نص على هذا في (غير) هذه الجوابات. فأقوالُه كلُّها نصٌّ في وجوب قتله، وفي أنه قد نقض العهد، وليس عنه في هذا اختلافٌ. وكذلك ذَكَرَ عامةُ أصحابه متقدمُهُمْ ومتأخرهم، لم يختلفوا في ذلك. .... قولُه سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ مَنْ يُحَادِد اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلكَ الخِزْيُ العَظِيم [التوبة:63]، فإنه يدلُّ على أنَّ أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَادَّةٌ لله ولرسوله؛ لأنه قال هذهِ الآيةَ (عَقِبَ) قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة:61]. ثم قال: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:62 - 63]، فلو لم يكونوا بهذا الأذى مُحَادِّين لم يحسن أن يوعَدُوا بأنَّ للمحاد نار جهنَّم؛ لأنه يمكن حينئذٍ أن يقال: قد علموا أن للمحاد نارَ جهنَّم؛ لكنهم لم يحادّوا، وإنما آذَوْا، فلا يكون في الآية وعيدٌ لهم؛ فعُلِم أنَّ هذا الفعل لابُدَّ أن يندرج في عموم المحادَّة؛ ليكون وعيدُ المحادِّ وعيداً له ويلتئمُ الكلامُ. ويدلُّ على ذلك أيضاً ما روى الحاكمُ (صحيحه) بإسناد صحيح عن ابن عباس أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ في ظِلِّ حُجْرَةٍ من حُجرِهِ، وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ المسْلِمينَ، فَقَالَ: ((إنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إنْسَانٌ يَنْظُر إليكم بِعَيْنِ شَيْطَانٍ، فَإذَا أَتَاكُمْ فَلا تُكَلِّمُوهُ، فَجَاء رَجُلٌ أزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: عَلامَ تَشْتُمُني أنْتَ وَفُلانٌ وَفُلانٌ، فانْطَلَقَ الرَّجُلُ، فَدَعَاهُمْ فَحَلَفُوا بِاللهِ وَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ فأنزل اللهُ تعالى: يوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [المجادلة:18]، ثم قال بعدَ ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:5] فعُلم أنَّ هذا داخلٌ في المحادَّةِ)) (¬1) ... وإذا كان الأذى مُحَادَّةً للهِ ولرسولِهِ فقد قالَ اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20 - 21] والأذلُّ: أبلغُ مِن الذليلِ، ولا يكون أذلَّ حتى يخاف على نفسه وماله إنْ أظهر المحادَّة؛ لأنه (إنْ) كان دمُه ومالُه معصوماً لا يُسْتَبَاح فليس بأذلَّ، ... وأما الآيات الدَّالة على كفر الشاتم وقتله، أو على أحدهما، إذا لم يكن مُعَاهِداً - إن كان مظهراً للإسلام - فكثيرة، مع أن هذا مُجْمَعٌ عليه الصارم المسلول لابن تيمية - بتصرف - 2/ 13 ¬

(¬1) رواه الحاكم (2/ 524)، والحديث: رواه أحمد (1/ 350) (3277). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

أذى الرسول صلى الله عليه وسلم أو عيبه ولمزه: وهذا داخل في سبّه صلى الله عليه وسلم لأن السب: هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف .... (¬1) والعيب، واللمز فيه انتقاص. قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58] نزلت هذه الآية في ذي الخويصرة التميمي حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ((ويلك، ومن يعدل إذ لم أعدل؟)) قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: ((دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) ... قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم قال: فنزلت فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ (¬2). قال الإمام الشوكاني في تفسيرها: قوله: ومنهم من يلمزك، يقال: لمزه يلمزه: إذا عابه، قال الجوهري: اللمز العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، ومعنى الآية: ومن المنافقين من يعيبك في الصدقات: أي في تفريقها وقسمتها (¬3). وقال في آيةٍ أخرى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61] إلى قوله سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة:63] قال شيخ الإسلام رحمه الله: فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله ولرسوله لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً، ... ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها ... (¬4) وقال الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية: قوله: ومنهم؛ هذا نوع آخر مما حكاه الله من فضائح المنافقين وقبائحهم، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم هو أذن، قال الجوهري: يقال رجل أذن: إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع ومرادهم، أقمأهم الله، أنهم إذا آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وبسطوا فيه ألسنتهم، وبلغه ذلك اعتذروا له وقبل ذلك منهم، لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه أنه أذن مبالغة، لأنهم سموه بالجارحة التي هي آلة السماع، حتى كأن جملته أذن سامعة، ... وإيذاؤهم له وهو قولهم هُوَ أُذُنٌ لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كل ما يقال له ولا يفرق بين الصحيح والباطل اغتراراً منهم بحلمه عنهم، وصفحه عن خباياهم كرماً وحلماً وتغاضياً ... (¬5). وهذه الآية والتي قبلها ذكرهما شيخ الإسلام ضمن الآيات الدالات على كفر شاتم الرسول وقتله. وذكر أن إيذاء الرسول ولمزه من الصفات الدالة على نفاق صاحبها فقال رحمه الله: وذلك أن الإيمان والنفاق، أصله في القلب، وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه، فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه، فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم، والذين يؤذونه من المنافقين، ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له، معلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصل المدلول عليه، فثبت أنه حيث ما وجد ذلك كان صاحبه منافقاً سواء كان منافقاً قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول (¬6) وهذا السبّ من الإيذاء واللمز والاستخفاف منافٍ لعمل القلب من الانقياد والاستسلام ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد واستسلام، فلا يكون فيه إيمان، وهذا هو بعينه كفر إبليس، فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولاً ولكن لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافرا (¬7). نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 2/ 161 ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص: 561). (¬2) رواه البخاري (6933)، ومسلم (1064). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) ((فتح القدير)) (2/ 540). (¬4) ((الصارم المسلول)) (ص: 38). (¬5) ((فتح القدير)) (2/ 546). (¬6) ((الصارم المسلول)) (ص: 35). (¬7) ((الصارم المسلول)) (ص: 521).

المطلب الثاني: الأدلة على كفر ساب الرسول

أولاً: الأدلة من القرآن على كفر ساب الرسول الدليل الأول: من القرآن على كفر الساب: منها قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبيَّ ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ إلى قوله: والذينَ يُؤْذونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ إلى قوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنْهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:61 - 63]، فعُلم أن إيذاء رسول الله محادَّة لله ولرسوله؛ لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادّة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً إذا أمكن أن يقال: إنه ليس بمحاد، ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادّ َة كفر؛ لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها، ولم يقل: (هي جزاؤه)، وبين الكلامين فَرْق، بل المحادَّة هي المعاداة والمشاقَّة، وذلك كفر ومحاربة؛ فهو أغْلَظُ من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً، عدوّاً للهِ ورسوله، محارباً لله ورسوله، لأن المحادَّة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كلُّ واحد منهما في حد كما قيل: المشاقَّة: أن يصير كل منهما في شق، والمعاداة: أن يصير كل منهما في عِدْوةٍ. وفي الحديث أنَّ رجلاً كان يسبُّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَنْ يَكْفِيني عَدُوِّي؟)) (¬1)، وهذا ظاهر قد تقدم تقريره، وحينئذٍ فيكون كافراً حَلال الدم؛ لقوله تعالى: إنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين [المجادلة:20]، ولو كان مؤمناً معصوماً لم يكن أذلّ؛ لقوله تعالى: وَللهِ العزةُ ولرسُولهِ وللمؤمِنيْنَ [المنافقون:8] وقوله: كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة:5]، والمؤمن لا يُكبت كما كُبت مكذبو الرسل قط، ولأنه قد قال تعالى: لاَ تجدُ قوماً يُؤمنونَ بِاللهِ واليوْمِ الآخرِ يُوآدُّونَ منَ حآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، فإذا كان من يُوَادّ المحادَّ ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه؟ وقد قيل: إن من سبب نزولها أن أبا قُحَافَةَ شتم النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الصديق قتله، وأن ابن أُبَيّ تنقَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن ابنُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قتله لذلك، فثبت أن المحادَّ كافرٌ حلالُ الدم. وأيضاً فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادِّين لله ورسوله والمعادين لله ورسوله، فقال تعالى: لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ منَ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَه ولوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ [المجادلة:22]، وقال: يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوّي وَعَدوَّكُمْ أَوْلَيَاءَ تُلْقُونَ إليهِمْ بالْموَدَّةِ [الممتحنة:1]، فعُلم أنهم ليسوا من المؤمنين. وأيضاً، فإنه قال سبحانه: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابُ النَّار ذَلِكَ بأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَآقِّ اللهَ فإنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ [الحشر:3 - 4]. فجعل (سبب) استحقاقهم العذابَ في الدنيا ولعذاب النار في الآخرة هو مُشَاقَّةَ الله ورسوله، والمؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مُشَاقٌ للهِ ورسوله ... والعذاب هنا هو الإهلاك بعذابٍ من عنده، أو بأيدينا، وإلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذَهَاب الأموال وفراق الأوطان. ¬

(¬1) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (5/ 237) عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما مرسلاً.

وقال سبحانه: إذْ يُوْحِي رَبُّكَ إلَى المَلاَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ إلى قوله: سَأُلْقِي في قُلُوبِ الذينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْربُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ واضْرِبُوا مِنْهُم كَلَّ بَنَانٍ ذلكَ بأنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ ورسولهُ [الأنفال:11 - 13] فجعل إلقاء الرُّعب في قلوبهم والأَمر بقتلهم لأجل مشاقَّتهم لله ورسوله، فكل من شاقَّ الله ورسوله يستوجب ذلك. والمؤذي للنبي مُشَّاقٌ للهِ ورسوله كما تقدم فيستحق ذلك. وقولهم: هُوَ أُذُن قال مجاهد: هو أذُنٌ يقولون: سنقول ما شئنَا ثم نحلف له فيصدقنا (¬1) ... قال بعض أهل التفسير: كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنّا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا، فقال الجُلاَّسُ: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا، فإنما محمدٌ أذنٌ سامعة، فأنزل الله هذه الآية (¬2). وقال ابن إسحاق: كان نَبْتَل بن الحارث الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ((مَن أَرَادَ أَنْ يَنْظُرْ إلَى الشَّيْطَانِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَل بنِ الحَارِثِ)) ينمُّ حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له: لا تَفْعَلْ، فقال: إنما محمد أُذُن، مَن حدّثه شيئاً صدَّقه، نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا عليه، فأنزل الله هذه الآية (¬3). وقولهم: أُذُن قالوه ليبينوا أن كلامهم مقبول عنده، فأخبر الله أنه لا يصدِّق إلا المؤمنين، وإنما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه أُذن خير، لا لأنه صدَّقهم. قال سفيان بن عُيَيْنَة: أُذن خير يقبل منكم ما أظهرتم من الخير ومن القول، ولا يؤاخذكم بما في قلوبكم، ويَدَعُ سرائركم إلى الله، وربما تَضَمَّنت هذه الكلمة نوع استهزاء واستخفاف. فإن قيل: فقد روى نُعيم بن حماد ثنا محمد بن ثور عن يونُس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ لا تجعَلْ لفاجرٍ ولا لفاسق عندي يداً ولا نعمةً فإني وجدت فيما أوحيتَه: لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22])). قال سفيان: يرون أنها أُنزلت فيمن يخالط السلطان، رواه أبو أحمد العسكري (¬4). وظاهرُ هذا أن كل فاسق لا تبتغي مَودَّته فهو محادّ لله ورسوله، مع أن هؤلاء ليسوا منافقين النفاق المبيح للدَّم. الدليل الثاني: قوله سبحانه: يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُوْرَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا في قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزئُوا إنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون ولَئِن سَألْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخوُضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبالله وآياتِهِ وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرتُمْ بَعْدَ إيْمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرميْنَ [التوبة:64 - 66] وهذا نصٌّ في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسبُّ المقصود بطريق الأَوْلى، وقد دلَّتْ هذه الآية على (أنَّ) كل مَنْ تنقَّصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جادّاً أو هازلاً فقد كفر ... الدليل الثالث: قال سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:58] واللمز: العيبُ والطعن، قال مجاهد: يتهمك يسألك يزْراك، وقال عطاء: يَغْتَابُك. العبرة بعموم اللفظ: ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (14/ 426)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (7/ 307). (¬2) انظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 67). (¬3) انظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 67). (¬4) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 55).

وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الذِينَ يُؤْذُونَ النّبي [التوبة:61]، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ من لمزه أو آذاه كان منهم؛ لأنّ الَّذِينَ ومَنْ اسمان موصولان، وهما من صيغ العموم، والآية وإن كانت نزلت بسبب لَمْزِ قَوْمٍ وأذى آخرين، فحكمها عامٌّ كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب، وليس بين الناس خلافٌ نعلمه أنها تعمُّ الشخصَ الذي نزلت بسببه ومَن كان حاله كحاله، ولكن إذا كان اللفظ أعمَّ من ذلك السبب فقد قيل: إنه يُقْتَصَر على سببه، والذي عليه جماهيرُ الناس أنه يجب الأخْذُ بعموم القول، ما لم يقم دليل يوجب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه. وأيضاً، فإن كَوْنَه منهم حكم معلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى، وهو مناسبٌ لكونه منهم؛ فيكون ما منه الاشتقاقُ هو علَّة لذلك الحكمِ، فيجب اطِّرَادُه. وإذا ثبت أن كل مَن لمز النبي صلى الله عليه وسلم أو آذاه منهم فالضميرُ عائد على المنافقين والكافرين؛ لأنه سبحانه لما قال: انِفرُوا خِفافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بأمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمون [التوبة:41] قال: لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكْن بَعُدَتْ عَليْهمُ الشُقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ باللهِ [التوبة:42] وهذا الضمير عائد إلى معلومٍ غير مذكورٍ، وهم الذين حلفوا: لَوِ اسْتَطَعْنَا لخَرَجْنَا مَعَكُمْ [التوبة:42] وهؤلاء هم المنافقون بلا ريب ولا خلاف، ثم أعاد الضمير إليهم إلى قوله: قُلْ أَنفقُوا طَوْعاً أَو كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكم إنَّكم كُنْتُم قَوْماً فَاسِقينَ ومَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُم إلاَّ أنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ وَبِرَسُولهِ [التوبة:53] فثبت أن هؤلاء الذين أضمروا كفَرُوا بالله ورسوله، وقد جعل منهم مَن يلمز، و (منهم) من يؤذي. وكذلك قوله: وَمَا هُمْ مَنْكُمْ [التوبة:56] إخراجٌ لهم عن الإيمان ... الدليل الرابع: قوله سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] أقْسَمَ سبحانه بنفسهِ أنهم لا يؤمنون حتى يحكِّموه في الخصومات التي بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً من حكمه، بل يُسلِّموا لحكمه ظاهراً وباطناً. من دُعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فلم يقبل كان منافقاً:

وقال قبل ذلك: أَلَم تَرَ إلى الَّذِين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قبْلِكَ يُريدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإذَا قِيلَ لَهُمُ تَعَالَوْا إلى مَا أَنزلَ اللهُ وإلَى الرَسُولِ رَأَيتَ المنافقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً [النساء:60 - 61] فبيّن سبحانه أن مَن دُعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصدَّ عن رسوله كان منافقاً، وقال سبحانه: وَيقُولُونَ آمنَّا باللهِ وَبالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ باِلمؤمِنَينَ وَإِذَا دُعُوا إلى اللهِ ورسُولهِ لِيحكُمَ بَينهُمْ إذا فَرِيقٌ مِّنْهمْ مُّعْرِضونَ وَإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأَتُوا إليهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَليهمْ ورسُولهُ بَلْ أُوْلَئكَ هُمُ الظَالِمُونَ إنّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤمِنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ وَرَسُولهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعنا وأطعْنَا [النور:47 - 51] فبيّن سبحانه أنّ من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمنٍ، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا؛ فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع إن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالتّنقّص والسبّ ونحوه؟ الدليل الخامس: ما استدل به العلماء على ذلك: قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الأحزاب:58] ودلالتها من وجوه: أحدها: أنه قَرَن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن آذى الله فهو كافر حَلالُ الدَّمِ، يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبةَ اللهِ ورسوله وإرضاءَ اللهِ ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئاً واحداً فقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبْنَاؤكُمْ وإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيْرَتُكمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبَّ إلَيكم مِنَ اللهِ وَرَسُولهِ [التوبة:24] وقال: وَأَطِيعُوا الله والرَّسُول في مواضع متعددة، وقال تعالى: وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ [التوبة:62] فوحَّدَ الضميرَ، وقال أيضاً: إنَّ الَّذِينَ يُبَايعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ الله وقال أيضاً: يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُل الأنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1]. وجعل شقاق الله ورسوله ومحادَّةَ الله ورسوله وأذى الله ورسوله ومعصيةَ الله ورسوله شيئاً واحداً، فقال: ذَلِكَ بأنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرسُولَهُ [الأنفال:13] وقال: إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسولَه [. وقال تعالى: ألَمْ يَعْلمُوا أنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسولَهُ] المجادلة:5 [وقال: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسولَهُ] الجن:23 [.] حق الله وحق رسوله متلازمان:

وفي هذا وغيرِه بيانٌ لتلازم الحقّين، وأن جهةَ (حرمة) الله ورسوله جهة واحدة؛ فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله؛ لأن الأمة لا يَصِلون ما بينهم وبين ربهم إلا (بواسطة) الرسول، ليس لأحدٍ منهم طريقٌ غيرُه ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مُقَام نفسِهِ في أمره ونَهْيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يُفَرَّقَ بين الله ورسوله في شيءٍ من هذه الأمور. وثانيها: أنه فَرَّق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل هذا قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والآخرة، وأعَدَّ له العذابَ المُهين، ومعلومٌ أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجَلْد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل. الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعَدَّ لهم عذاباً مهيناً، واللَّعْنُ: الإبعاد عن الرَّحمة، ومَن طَرَده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلاَّ كافراً، فإن المؤمن يقرب إليها بعضَ الأوقاتِ، ولا يكون مباحَ الدَّمِ؛ لأن حقْنَ الدم رحمةٌ عظيمة من الله؛ فلا يثبت في حقه. ويؤيد ذلك قولُه: لَّئِن لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالذِينَ فِي قُلُوبِهمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهمْ ثمَّ لا يُجَاورُونَكَ فِيْهَا إلاَّ قَلِيلاً [مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً] الأحزاب:60 - 61 [، فإنّ أخْذَهم وتقتيلَهم - والله أعلم - بيانٌ لصفةِ لعنهم، وذكرٌ لحُكْمه، فلا موضع له في الإعراب، وليس بحالٍ ثانية؛ لأنهم إذا جاوروه ملعونين ولم يَظْهر أثر لعنهم في الدنيا، لم يكن في ذلك وعيد لهم.] بل تلك اللعنة ثابتةٌ قبل هذا الوعيد وبعده؛ فلابد أن يكون هذا الأخْذُ والتقتيل من آثار اللعنة التي وُعِدُوهَا، فثبتت في حق مَن لعنه الله في الدنيا والآخرة. ويؤيدُه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَعْنُ المؤمِنِ (كَـ) ـقَتْلهِ)) متفق عليه (¬1)، فإذا كان الله لعن هذا في الدنيا والآخرة فهو كقتله، فعلم أن قتله مُبَاحٌ. قيل: واللَّعْنُ إنما يستوجبه مَن هو كافر، لكن هذا ليس جيداً على الإطلاق. ويؤَيده أيضاً قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيقُولُونَ للَّذَينَ كفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء:51 - 52]، ولو كان معصوم الدم يجب على المسلمين نَصْرُه لكان له نصير. الدليل السادس: أن الله سبحانه قال: وَمَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه أبَداً إنَّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً [الأحزاب:53]، فحرَّم على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده؛ لأن ذلك يؤذيه، وجعله عظيماً عند الله تعظيماً لحرمته، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد تُوُفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة (¬2)، ثم إن مَن نكح أزواجه أو سَرَاريه (فإن) عقوبته القتلُ، جزاءً له بما انتهك من حرمته، فالشاتم له أولى. ¬

(¬1) رواه البخاري (6105)، ومسلم (110). (¬2) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (14/ 228)، ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 424).

والدليل على ذلك ما روى مسلم في (صحيحه) عن زُهَيْر عن عَفَّان عن حماد عن ثابت عن أنس ((أن رجلاً كان يُتَّهَمُ بأم ولد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَه"، فأتاه عليّ فإذا هو في رَكيٍّ يتبرد، فقال له علي: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مَجْبُوبٌ ليس له ذَكَر، فكفَّ علي، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوبٌ ماله ذَكَر)) (¬1)، فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحلَّ من حرمته، ولم يأمر بإقامة حدِّ الزنا، لأن حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان مُحصناً رُجِمَ، وإن كان غير محصن جُلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيلٍ بَيْنَ أن يكون محصناً أو غير محصن عُلم أن قتله لما انتهكه من حرمته، ولعله قد شهد عنده شاهدان أنهما رَأيَاه يباشر هذه المرأة، أو شهدا بنحو ذلك، فأمر بقتله، فلما تبين أنه كان مَجْبُوباً علم أن المفسدة مأمونة منه، أو أنه بَعثَ علياً ليَستبري القصة، فإن كان ما بلغه عنه حقاً قتله، ولهذا قال في هذه القصة أو غيرها: أكون كالسكة المحماة، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: ((بَلِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لاَ يَرَى الغَائِبُ)) (¬2). ويدلُ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ قتيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الأشعث، ومات قبل أن يدخل بها، وقبل أن تقدم عليه، وقيل أنه خيَّرها بين أن يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين وبين أن يطلقها فتنكح من شاءت، فاختارت النكاح، قالوا: فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ أبا بكر، فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما، فقال عمر: ما هي من أمهات المؤمنين، ولا دخل بها، ولا ضرب عليها الحجاب، وقيل: إنها ارتَدَّت، فاحتجَّ عمر على أبي بكر أنها ليس من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بارتدادها (¬3). فوجه الدلالة: أن الصدِّيق رضي الله عنه عَزَم على تحريقها وتحريق مَن تزوجها، لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه، فكف (عنهما) لذلك، فعلم أنهم (كانوا) يَرَوْنَ قتلَ من استحل حُرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقال: إن ذلك حد الزنا لأنها كانت تكون محرمة عليه، ومَن (تَزَوَّجَ) ذات مَحْرمٍ حُدَّ حَدَّ الزنا أو قُتل؛ لوجهين: أحدهما: أن حد الزنا الرجم. الثاني: أن ذلك الحد يفتقر إلى ثبوت الوطْءِ ببينة أو إقرار، فلما أراد تحريق البيت مع جواز ألا يكون غَشِيها عُلم أن ذلك عقوبة لما انتهكه من حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الصارم المسلول لابن تيمية - 2/ 58 ¬

(¬1) رواه مسلم (2771). (¬2) رواه أحمد (1/ 83) (628). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((مختصر البزار)) (1/ 605): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (3728): صحيح. (¬3) رواه الحاكم (4/ 40). من حديث أبي عبيدة معمر بن المثنى رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/ 139 - 140): روى أبو نعيم في ((المعرفة)) في ترجمة قتيلة من حديث داود عن الشعبي مرسلاً، وأخرجه البزار من وجه آخر عن داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه موصولاً، وصححه ابن خزيمة والضياء من طريقه في ((المختارة)) ... ورواه الحاكم بسنده إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى رضي الله عنه.

ثانيا: الأدلة من السنة على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم

ثانياً: الأدلة من السنة على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث الأول: ما رواه الشَّعبيُّ عن علي: ((أن يهوديةً كانت تَشْتُم النبي صلى الله عليه وسلم وتَقَع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت فأَبْطَل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها))، هكذا رواه أبو داود في (سننه) .. (¬1) ... وله شاهد حديث ابن عباس (¬2) الذي يأتي؛ فإن القصة إما أن تكون واحدة أو يكون المعنى واحداً، وقد عمل به عوام أهل العلم، وجاء ما يوافقه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا المرسل لم يتردَّدِ الفقهاء في الاحتجاج به. وهذا الحديث نَصٌّ في جواز قتلها لأجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، ودليل على قتل الرجل الذمي وقتل المسلم والمسلمة إذا سبَّا بطريق الأَولى؛ لأن هذه المرأة كانت مُوادعة مُهادِنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وَادَعَ جميع اليهود الذين كانوا بها مُوَادَعة مطلقة، ولم يضرب عليهم جِزْيَةً ... الحديث الثاني: ما رَوَى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحَّام عن عِكْرِمَة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعْمَى كانت له أمُّ ولدٍ تَشْتُمُ النبي صلى الله عليه وسلم وتَقَعُ فيه؛ فَيَنْهَاها فلا تَنْتَهِي، ويزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جَعَلَت تقعُ في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه؛ فأخَذَ المِغْول فوضَعَه في بطنها واتَّكَأَ عليها فقتلها، فلما أصْبَحَ ذُكِرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناسَ فقال: ((أنْشدُ الله رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌ إِلاَّ قَامَ))، فقام الأعْمَى يتخطَّى الناسَ وهو يتدلدل، حتى قَعَدَ بين يَدَي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أنا صَاحِبُهَا، كانت تشتمك وتَقَعُ فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجُرُها فلا تَنزَجر، ولي منها ابْنَانِ مِثْلُ اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقعُ فيك، فأخذت المِغْول فوضعته في بطنها واتَّكَأْتُ عليه حتى قتلتُهَا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَرٌ)) رواه أبو داود والنسائي (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4362)، والبيهقي (7/ 60). والحديث سكت عنه أبو داود. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 409) - كما ذكر ذلك في المقدمة -، وقال الشوكاني في ((نيل الوطار)) (7/ 380): رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (5/ 91): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) رواه أبو داود (4361)، والنسائي (7/ 107)، والحاكم (4/ 394). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (363): رواته ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) صحيح. (¬3) رواه أبو داود (4361)، والنسائي (7/ 107)، والحاكم (4/ 394). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (363): رواته ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) صحيح.

قال الخطابي: فيه بيان أن سابَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وذلك أن السبّ منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدَادٌ عن الدين، وهذا دليلٌ على أنه اعتقد أنها كانت مسلمة، وليس في الحديث دليل على ذلك، بل الظاهر أنها كانت كافرة، وكان العهد لها يملك المسلم إياها؛ فإن رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حُكْمُ أهل الذمة، وهم أشَدُّ في ذلك من المعاهدين، أو بتزوج المسلم بها؛ فإن أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهلِ الذمة في العصمة؛ لأن مثل هذا السبِّ الدائم لا يفعله مسلم إلا عن ردةٍ واختيار دين غير الإسلام ... وهذه المرأة إما أن تكون كانت زوجَةً لهذا الرجل أو مملوكة له، وعلى التقديرين فلو لم يكن قَتْلُهَا جائزاً لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم له أن قتلها كان محرماً، وأن دمها كان معصوماً، ولأوْجَبَ عليه الكفَّارَةَ بقتل المعصوم والدِّيَةَ إن لم تكن مملوكة له، فلما قال: ((اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَر)) - والهدر الذي لا يضمن بقَوَد ولا ديّةٍ ولا كفَّارَة - عُلم أنه كان مباحاً مع كونها كانت ذمية، فعُلِم أن السبَّ أباح دَمَهَا، لاسيما والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما أهْدَرَ دَمَهَا عقب إخباره بأنها قُتلت لأجل السبِّ، فعُلم أنه الموجِبُ لذلك، والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك. الحديث الثالث: ... ما رواه عمرو بن دِينَارٍ عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لِكَعْبِ بِنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى الله َوَرَسُولُهُ؟)) فقام محمد بن مَسْلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحبُ أنَّ أقتله؟ قال: ((نعم))، قال: ائْذَن لِي أن أقول شيئاً، قال: ((قل))، قال: فأتاه وذكَر ما بينهم، قال: إن هذا الرجل قد أراد الصَّدَقة وعنَّانا، فلما سَمِعه، قال: وأيضاً والله لَتَمَلُنَّهُ، قال: إنا قد اتبعْنَاهُ الآن، ونكره أن نَدَعَه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تُسْلِفَنِي سَلفاً، قال: فما ترهنني؟ نساءكم، قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟! قال: ترْهَنُوني أولادَكم، قال: يُسَبّ ابن أحدنا فيقال: رُهِنت في وِسْقَيْن من تمَرٍ، ولكن نرهنك اللأْمَةَ - يعني السلاح - قال: نعم، ووَاعَدَه أن يأتَيهُ بالحارث، وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر، فجاؤوا فَدَعَوْهُ ليلاً، فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني لأسمع صَوْتاً كأنَّه صوت دَمٍ، قال: إنما هذا محمد ورضيعُه أبو نائلة، إن الكريم لو دُعِيَ إلى طَعْنة ليلاً لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمُدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فَدُونكم، (قال): فلما نزل نزلَ وهو مُتَوَشِحْ، قالوا: نجد منك رِيحَ الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعْطَرُ نساء العرب، قال: أفتأذن لي أن أشمَّ منه؟ قال: نعم، فشمَّ، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن منه، ثم قال: دونكم فقتلوه)) متفق عليه (¬1) ... والاستدلالُ بقتل كعب بن الأشرف من وجهين: أحدهما: أنه كان مُعَاهداً مُهَادناً، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير، وهو عندهم من العلم العام الذي يُستغنى فيه عن نقل الخاصة. ¬

(¬1) رواه البخاري (4037)، ومسلم (1801).

ومما لا رَيْبَ فيه عند أهل العلم ما قَدَّمناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهَد لما قدم المدينة جميعَ أصناف اليهود: بني قَيْنُقَاع والنضير وقرَيْظَة، ثم نقَضَت بنو قَيْنُقَاع عَهْدَه، فحاربهم؛ ثم نقضَ عهده كعبُ بن الأشرف، ثم نقض عهده بنو النَّضير، ثم بنو قُرَيْظَة. وكان ابن الأشرف من بني النَّضير، وأمرُهم ظاهرٌ في أنهم كانوا مصالحين للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نَقَضُوا العهدَ لما خرج إليهم يستعينهم في دِيَةِ الرجلين اللذَينِ قَتلهما عمرو بن أمَيَّة الضَّمْرِيُّ، وكان ذلك بعد مقتل كَعب بن الأشرف، وقد ذكرنا الروايَةَ الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهِداً للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جعله ناقضاً للعهد بهجائه وأذاه بلسانه خاصة. ... وأيضاً، فإنه جعل مطلق أذى الله ورسوله مُوجِباً لقتل رجل معاهد، ومعلوم أن سَبَّ الله ورسوله أذَىً لله ولرسوله، وإذا رُتِّب الوَصْفُ على الحكم بحرف الفاء دل على أن الوصف علة لذلك الحكم، لاسيما إذا كان مُنَاسباً، وذلك يدل على أن أذَى الله ورسوله عِلة لنَدْب المسلمين إلى قتل مَن يفعل ذلك من المعاهَدِين، وهذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله ورسوله، والسبُّ من أذى الله ورسولهِ باتفاق المسلمين، بل هو أخص أنواع الأذى. الحديث الرابع: قصة رجل أغلظ للصديق ما روى عبدالله بن قُدَامة عن أبي بَرْزَة قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: أقتله؟ فانتهرني وقال: ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه النسائي من حديث شعبة عن توبة العنبري عنه (¬1). ورواه أبو داود في (سننه) بإسنادٍ صحيح عن عبدالله بن مُطَرِّف (عن أبي برزة) قال: كنتُ عند أبي بكر رضي الله عنه، فتغيَّض على رجل فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه قال: فأذهَبتْ كلمتي غضبه، فقام فدخل، فأرسل إليَّ فقال: ما الذي قُلَتَ آنفاً؟ قلت: ائذن لي أضْرِبْ عنقه، قال: أكنت فاعلاً لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا، والله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). وقد استدل به على جواز قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم جماعات من العلماء، منهم أبو داود وإسماعيل بن إسحاق القاضي وأبو بكر عبدالعزيز والقاضي أبو يعلي وغيرهم من العلماء، وذلك لأن أبا برزة لما رأى الرجل قد شتم أبا بكر وأغلظ له حتى تغيظ أبو بكر استأذنه في أن يقتله لذلك، وأخبره أنه لو أمره لَقَتَله، فقال أبو بكر: ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. فعُلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل من سبّه ومن أغلظ له، وأن له أن يأمر بقتل مَنْ لا يعلم الناس منه سبباً يبيح دمه، وعلى الناس أن يطيعوه في ذلك؛ لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا يأمر بمعصية الله قط، بل من أطاعه فقد أطاع الله. فقد تضمن الحديث خَصِيصَتَيْنِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداهما: أنه يطاع في كل من أمر بقتله. والثانية: أنَّ له أن يَقْتُلَ من شتمه وأغلظ له. ¬

(¬1) رواه النسائي (7/ 108)، وأحمد (1/ 9) (54). قال أحمد شاكر في ((المسند)) (1/ 44): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (4363)، والنسائي (7/ 109). والحديث سكت عنه أبو داود. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (755) كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

وهذا المعنى الثاني الذي كان له باقٍ في حقّه بعد موته؛ فكل من شتمه أو أغلظ في حقه كان قتله جائزاً، بل ذلك بعد موته أَوْكَدُ وأَوْكَد؛ لأن حُرْمَته بعد موته أكمل، والتساهل في عِرْضِه بعد موته غير ممكن. وهذا الحديث يفيد أن سبّه في الجملة يبيح القتل، ويستدل بعمومه على قتل الكافر والمسلم. الحديث الخامس: قصة ابن أبي سرح، وهي مما اتفق عليها أهل العلم، واستفاضت عندهم استفاضة يستغنى عن رواية الآحاد، وذلك أثبت وأقوى مما رواه الواحد العدل، فنذكرها مسندة مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها: عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يومُ فتحِ مكة اختبأ عبدالله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، بَايْع عبدالله، فرفع رأسه، فنظر إليه، ثلاثاً، كلُّ ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال: ((أما كان فيكم رَجُلٌ رَشِيد يقومُ إلى هذا حيث رآني كَفَفَتُ يَدِي عن بيعته فيقتله)) فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أوْمَأْت إلينا بعينك، قال: ((إنه لا يَنْبَغِي لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأُعْيُن)) رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬1). ورواه النسائي كذلك بأبسط من هذا ... وجه الدلالة: أن عبدالله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُتَمِّم له الوحي ويكتب له ما يريد، فيوافقه عليه، و (أنه) يُصَرَّفه حيث شاء، وبغير ما أمره به من الوحي، فيُقرُّه على ذلك، وزعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله؛ إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه، والافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر (به) والردة في الدين، وهو من أنواع السبِّ. وكذلك لما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية، قَصَمَه الله وعاقبه عقوبة خارجة عن العادة ليتبين لكل أحد افتراؤه؛ إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة رَيْباً بأن يقول القائل: كاتبه أعلم الناس بباطنه وبحقيقة أمره، وقد أخبر عنه بما أخبر، فمِنْ نَصْر الله لرسوله أن أظهر فيه آية يبين بها أنه مفترِ. قصة كاتب آخر قصمه الله لافترائه على الرسول فروى البخاري في (صحيحه) عن عبدالعزيز بن صهيب عن أنس قال: كان رجلاً نصرانياً، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لَفَظَتْه الأرض، فقالوا: هذا فِعْلُ محمدٍ وأصحابه، نَبَشُوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له وأعمقوا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه (¬2) ... ¬

(¬1) رواه أبو داود (2683)، والحاكم (3/ 47). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (549) - كما أشار لذلك في مقدمته – وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/ 450): صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه البخاري (3617). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مراراً، وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً؛ إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب؛ إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. الحديث السادس: ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل، ففي (الصحيحين) من حديث الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المِغْفَر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: ((اقتلوه)) (¬1) وهذا مما استفاض نقله بين أهل العلم واتفقوا عليه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره، وأنه قتل. فمن احتج بقصته يقول: لم يُقتل لقتل النفس؛ لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يقتل قوداً، والمقتول من خزاعة له أولياء، فكان حكمه لو قتل قوداً أن يُسَلّم إلى أولياء المقتول، فإما أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا الدية، ولم يقتل لمجرد الردة؛ لأن المرتد يستتاب، وإذا اسْتَنْظَرَ أُنْظِرَ، وهذا ابن خطل قد فرَّ إلى البيت، عائذاً به، طالباً للأمان، تاركاً للقتال، ملقياً للسلاح، حتى يُنْظَر في أمره، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك كله أن يُقتل، وليس هذا سنة من يقتل لمجرد الردة، فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء، وأن الساب وإن ارتد، فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة، ولا يؤخر قتله، وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة. الصارم المسلول لابن تيمية - بتصرف- 2/ 125 ¬

(¬1) رواه البخاري (1846)، ومسلم (1357).

المبحث الثاني: من كذب على رسول الله

المبحث الثاني: من كذب على رسول الله وقد رَوى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع عن أبي سلمة عن أسامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن يَقُلْ عَلَيَّ مَا لم أقُلْ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) (¬1) ... اختلاف العلماء في حكم من كذب على الرسول: وللناس في هذا الحديث قولان: أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء من قال: يكفر بذلك؛ قاله جماعة منهم أبو محمد الجُوَيْنِي حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي الفضل الهمداني: مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث أشد من الملحدين؛ لأن الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلدٍ سعوا في فساد أحواله، والملحدون كالمحاصرين من خارج فالدخلاء يفتحون الحصن، فهم شرّ على الإسلام من غير الملابسين له. ووجه هذا القول: أن الكذب عليه كذبٌ على الله، ولهذا قال: ((إِنَّ كَذِباً عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدِكُمْ)) (¬2) فإن ما أمر به الرسول فقد أمر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله، وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به. ومن كذَّبه في خبره أو امتنع من التزام أمره (فهو كمن كذّب خبر الله وامتنع من التزام أمره)، ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبراً كَذَبَ فيه كمسيلمة والعَنْسِي ونحوهما من المتنبئين فإنه كافر حلال الدم، فكذلك من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يبين ذلك أن الكذب عليه بمنزلة التكذيب له، ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لمَّا جَاءهُ [العنكبوت:68]، بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثماً من المكذِّب له، ولهذا بدأ الله به، كما أن الصادق عليه أعظمُ درجة من المصدِّق بخبره، فإذا كان الكاذب مثل المكذِّب أو أعظم، والكاذب على الله كالمكذب له، فالكاذب على الرسول كالمكذب له. يوضّح ذلك أن تكذيبه نوع من الكذب؛ فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق، وذلك إبطال لدين الله، ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار، وإنما صار كافراً لما تضمنه من إبطال رسالة الله ودينه. والكاذب عليه يُدخِل في دينه ما ليس منه عمداً، ويزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الخبر وامتثال هذا الأمر لأنَّهُ دين الله، مع العلم بأنه ليس لله بدين. والزيادة في الدين كالنقص منه، ولا فرق بين مَن يكذب بآيةٍ من القرآن أو يضيف كلاماً ويزعم أنه سورة من القرآن عامداً لذلك. ¬

(¬1) رواه الطبراني في ((طرق حديث من كذب علي متعمداً)) (70)، وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 83 - 84) من طريق أبي بكر بن مردويه. وكلاهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. قال الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (5883): لم أقف على إسناده بهذا التمام. والحديث رواه ابن ماجه (34) بلفظ: ((من تقوّل عليَّ ما لم أقل ... )). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه في ((الصحيحين)) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ... وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) رواه البخاري (110)، ومسلم (3). (¬2) رواه البخاري (1291)، ومسلم (4). بلفظ: (أحد) بدلاً: من (أحدكم). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

وأيضاً، فإن تعمد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف؛ لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به، بل وقد لا يجوز الأمر بها، وهذه نسبة له إلى السَّفَه، أو أنه يخبر بأشياء باطلة، وهذه نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح. وأيضاً، فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان، أو صلاة سادسة زائدة ونحو ذلك، أو أنه حَرَّم الخبز واللحم عالماً بكذب نفسه؛ كفر بالاتفاق. فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوْجب شيئاً لم يوجبه أو حرم شيئاً لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول، وزاد عليه بأن صَرَّح بأن الرسول قال ذلك، وأنه - أفتى القائل - لم يَقُلْه اجتهاداً واستنباطاً. وبالجملة فمن تعمد الكذب الصريح على الله فهو كالمتعمد لتكذيب الله وأسوأ حالاً، ولا يخفى أن من كذب على من يجب تعظيمه؛ فإنه مستخفٌّ به مستهين بحرمته. وأيضاً، فإن الكاذب عليه لا بد أن يشينه بالكذب عليه وتنقصه بذلك، ومعلوم أنه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سرح في قوله: كان يتعلم مني. أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة؛ كفر بذلك، فكذلك الكاذب عليه؛ لأنَّهُ إما أن يَأْثُر عنه أمراً أو خبراً أو فعلاً، فإن أثر عنه أمراً لم يأمر به فقد زاد في شريعته، وذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به، لأنه لو كان كذلك لأمر به صلى الله عليه وسلم، لقوله: ((مَا تَرَكْتُ مِن شَيءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلى الجَنَّةِ إِلاَّ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلاَ مِن شيءٍ يُبعدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلاَّ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ)) (¬1)، فإذا لم يأمر به فالأمر به غير جائز منه، فمن روى عنه أنه قد أمر به فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له الأمر به، وذلك نسبة له إلى السفه. وكذلك إن يقل عنه خبراً، فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له الإخبار به لأخبر به؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين، فإذا لم يخبر به فليس هو مما ينبغي له أن يخبر به، وكذلك الفعل الذي ينقله عنه كاذباً فيه لو كان مما ينبغي فعله وترجح لَفَعَلَه، فإذا لم يفعله فتركه أولى. فحاصله أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في جميع أحواله، فما تركه من القول والفعل فتركه أولى من فعله، وما فَعَله ففِعْله أكمل من تركه، فإذا كذب الرجل عليه متعمداً (أو) أخبر بما لم يكن (فذلك) الذي أخبر به عنه نقص بالنسبة إليه؛ إذ لو كان كمالاً لوجد منه، ومن انتقص الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر. واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه، لكن يتوجه أن يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهةً وبين الذي يكذب عليه بواسطةٍ، مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا فإن هذا إنما كذب على ذلك الرجل، ونسب إليه ذلك الحديث، فأما إن قال: هذا الحديث صحيح، أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالماً بأنه كذب، فهذا قد كذب عليه، وأما إذا افتراه ورواه روايةً ساذجة ففيه نظر، لاسيما والصحابة عدول بتعديل الله لهم. فالكذب لو وقع من أحدٍ ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين، فأراد صلى الله عليه وسلم قَتل من كذب عليه وعَجَّل عقوبته ليكون ذلك عاصماً من أن يدخل في العدول مَن ليس منهم من المنافقين ونحوهم. ¬

(¬1) رواه الحاكم (2/ 5)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 299)، والبغوي في ((شرح السنة)) (7/ 242)، وفي ((تفسيره)) (6/ 254). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 54): فيه انقطاع. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2866): الحديث حسن على أقل الأحوال.

وأما من روى حديثاً يعلم أنه كذب فهذا حرام، كما صحّ عنه أنه قال: ((مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيْثاً يَعْلَم أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبِين)) (¬1)، لكن لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر؛ لأنه صادق في أن شيخه حدثه به، لكن لعلمه بأن شيخه كَذَبَ فيه لم تكن تحلُّ له الرواية، فصار بمنزلة أن يشهد على إقرارٍ أو شهادةٍ أو عقدٍ وهو يعلم أن ذلك باطل، فهذه الشهادة حرام، لكنه ليس بشاهد زور. وعلى هذا القول فمن سبّه فهو أولى بالقتل ممن كذب عليه، فإن الكاذب عليه قد زاد في الدين ما ليس منه، وهذا قد طعن في الدين بالكلية وحينئذ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة، فكذلك الساب له وأولى. فإن قيل: الكذب عليه فيه مفسدة - وهو أن يصدق في خبره فيزاد في الدين ما ليس منه أو ينتقص منه ما هو منه - والطاعن عليه قد علم بطلان كلامه بما أظهر الله من آيات النبوة. قيل: والمحدث عنه لا يقبل خبره إن لم يكن عدلاً ضابطاً، فليس كل من حدث عنه قبل خبره، لكن قد يظن عدلاً وليس كذلك، والطاعن عليه قد يُؤثر طعنه في نفوس كثير من الناس، ويُسقِط حرمته من كثير من القلوب، فهو أوكد على أن الحديث عنه له دلائل يميز بها بين الكذب والصدق. الثاني: أن الكاذب عليه تُغلظ عقوبته، لكن لا يكفر ولا يجوز قتله؛ لأن موجبات الكفر والقتل معلومة، وليس هذا منها، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له، ومن قال هذا فلا بد أن يقيد قوله بأن لم يكن الكذب عليه متضمناً لعيبٍ ظاهرٍ، فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاماً يدل على نقصه وعيبه دلالةً ظاهرةً مثل حديث عَرَق الخيل ونحوه من التُّرَّهَاتِ فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهراً، ولا ريب أنه كافر حلال الدم. وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه كان منافقاً فقتله لذلك، لا للكذب. وهذا الجواب ليس بشيءٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من سنته أنه يقتل أحداً من المنافقين الذين أخبر الثقة عنهم بالنفاق أو الذين نزل القرآن بنفاقهم فكيف يقتل رجلاً بمجرد علمه بنفاقه؟ ثم إنه سمى خلقاً من المنافقين لحذيفة وغيره، ولم يقتل منهم أحداً. وأيضاً، فالسبب المذكور في الحديث إنما هو كذبه على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً له فيه غرض، وعليه رتب القتل، فلا يجوز إضافة القتل إلى سببٍ آخر، وأيضاً، فإن الرجل إنما قصد بالكذب نيل شهوته، ومثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار. وأيضاً، فإما أن يكون نفاقه لهذه الكذبة أو لسببٍ ماضٍ فإن كان لهذه فقد ثبت أن الكذب عليه نفاق، والمنافق كافر، وإن كان النفاقُ متقدماً وهو المقتضي للقتل لا غيره، فعلام تأخير الأمر بقتله إلى هذا الحين؟ وعلام لم يؤاخذه الله بذلك النفاق حتى فعل ما فعل؟ وأيضاً، فإن القوم أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله، فقال: ((كَذَبَ عَدُوُّ الله)) ثم أمر بقتله إن وجد حياً، وقال: ((ما أراكَ تجده حَيّاً)) (¬2) لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن ذنبه يوجب تعجيل العقوبة. الصارم المسلول لابن تيمية - 2/ 319 ¬

(¬1) رواه مسلم في مقدمة ((الصحيح))، باب: وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذّابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه (39)، وأحمد (5/ 14) (20175). من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (5/ 81). من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. وقال: [فيه] صالح بن حيان عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 374): منكر. وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (4/ 1469): حسن. وقال المعلمي في ((الأنوار الكاشفة)) (137): راويه عن ابن بريده صالح بن حيان وهو ضعيف له أحاديث منكرة.

المبحث الثالث: سب الأنبياء

المبحث الثالث: سب الأنبياء يقول القاضي عياض: من استخف بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو بأحد من الأنبياء، أو أزرى عليهم، أو آذاهم فهو كافر بالإجماع (¬1). ويقول أيضاً: وحكم من سبّ سائر أنبياء الله تعالى ... واستخفّ بهم أو كذّبهم فيما آتوا به، وأنكرهم وجحدهم حكم نبينا صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150، 151]، وقال تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [البقرة:285] (¬2). ولقد بيّن ابن تيمية حكم هذه المسألة بياناً شافياً حيث قال: والحكم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا، فمن سب نبياً مسمى باسمه من الأنبياء المعروفين المذكورين في القرآن أو موصوفاً بالنبوة - مثل أن يذكر في حديث: أن نبياً فعل كذا وقال كذا، فيسبّ ذلك القائل أو الفاعل، مع العلم بأنه نبي، وإن لم يعلم من هو، أو يسبّ نوع الأنبياء على الإطلاق - فالحكم في هذا كما تقدم (في مسألة حكم من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم)؛ لأن الإيمان بهم واجب عموماً، وواجب الإيمان خصوصاً بمن قصّه الله علينا في كتابه، وسبّهم كفر وردة إن كان من مسلم، ومحاربة إن كان من ذمي. وقد تقدم في الأدلة الماضية (وهي الأدلة على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم كافر) ما يدل على ذلك بعمومه لفظاً أو معنى، وما أعلم أحداً فرّق بينهما، وما كان أكثر كلام الفقهاء إنما فيه ذكر من سبّ نبينا، فإنما ذلك لمسيس الحاجة إليه، وأنه وجب التصديق له، والطاعة له جملة وتفصيلاً، ولا ريب أن جرم سابه أعظم من جرم ساب غيره، كما أن حرمته أعظم من حرمة غيره، وإن شاركه سائر إخوانه من النبيين والمرسلين في أن سابهم كافر حلال الدم. فأما إن سبّ نبياً غير معتقد لنبوته فإنه يستتاب من ذلك، إذا كان ممن علمت نبوته بالكتاب والسنة؛ لأن هذا جحد لنبوته، إن كان ممن يجهل أنه نبي، فإنه سبّ محض، فلا يقبل قوله: إني لم أعلم أنه نبي (¬3). ويحكي ابن تيمية الإجماع على كفر ساب نبي من الأنبياء فيقول: من خصائص الأنبياء أن من سب نبياً من الأنبياء قتل باتفاق الأئمة، وكان مرتداً، كما أن من كفر به وبما جاء به كان مرتداً، فإن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله (¬4). ويقول أيضاً: والمسلمون آمنوا بالأنبياء كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم، فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم، ومن سبّ نبياً من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء (¬5). ¬

(¬1) ((الشفا)) (2/ 1069). (¬2) ((الشفا)) (2/ 1097) بتصرف. (¬3) ((الصارم المسلول)) (ص: 565). (¬4) ((الصفدية)) (1/ 261). (¬5) ((الصفدية)) (2/ 311).

ويذكر ابن تيمية ما يوجبه الطعن في الأنبياء عليهم السلام من الطعن في توحيد الله تعالى وشرعه، وأن سبّ الأنبياء هو أصل جميع أنواع الكفر، فيقول: الطعن في الأنبياء طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه عامة الأسباب التي بينه وبين خلقه، بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوةٍ أو أثر نبوة، وإنّ كل خيرٍ في الأرض فمن آثار النبوات وليست أمة مستمسكة بالتوحيد إلا أتباع الرسل، قال سبحانه وتعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13]؛ فأخبر أن دينه الذي يدعو إليه المرسلون كبر على المشركين، فما الناس إلا تابع لهم أو مشرك، وهذا حق لا ريب فيه. فعلم أن سب الرسل والطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر، وجماع جميع الضلالات، وكل كفر ففرع منه، كما أن تصديق الرسل أصل جميع شعب الإيمان، وجميع مجموع أسباب الهدى (¬1). وقد أورد ابن حزم أدلة القائلين بتكفير ساب نبي من الأنبياء عليهم السلام ثم رجّح هذا القول ... فكان مما قاله في هذه المسألة: فقوله تعالى في المستهزئين بالله وآياته، ورسوله، أنهم كفروا بذلك بعد إيمانهم (¬2)، فارتفع الإشكال، وصح يقيناً أن كل من استهزأ بشيء من آيات الله وبرسول من رسله فإنه كافر بذلك مرتد. وقد علمنا بضرورة المشاهدة أن كل ساب وشاتم فمستخفّ بالمشتوم مستهزئ به، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد. ووجدنا الله تعالى قد جعل إبليس باستخفافه بآدم عليه السلام كافراً، لأنه إذ قال: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ [ص:76]، فحينئذ أمره تعالى بالخروج من الجنة ودحره، وسماه كافراً بقوله: وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [ص:74] (¬3). إلى أن قال: فصح بما ذكرنا أن كل من سبّ نبياً من الأنبياء، أو استهزأ به ... فهو بذلك كافر مرتد، له حكم مرتد، وبهذا نقول. (¬4). 3 - وإذا تقرر ما سبق إيراده، فإننا نذكر جملة من كلام أهل العلم في ختام هذه المسألة: يقول القاضي عياض: قال مالك في كتاب ابن حبيب ومحمد، وقال ابن القاسم، وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وسحنون فيمن شتم الأنبياء، أو أحداً منهم، أو تنقصه: قتل ولم يستتب، ومن سبهم من أهل الذمة: قتل إلا أن يسلم. وروى سحنون عن ابن القاسم: من سب الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفر، ضرب عنقه، إلا أن يسلم (¬5). وقال ابن نجيم الحنفي: ويكفر بعيبه نبياً بشيء ... (¬6). ويقول الدردير المالكي: من سب نبياً مجمعاً على نبوته، أو عرّض بسب نبي، بأن قال عند ذكره: أما أنا فلست بزانٍ أو سارقٍ فقد كفر. وكذا إن ألحق بنبيٍ نقصاً، وإن ببدنه كعرج، وشلل، أو وفور علمه، إذ كل نبي أعلم أهل زمانه وسيدهم صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق (¬7). ويقول الشربيني الشافعي: من كذّب رسولاً أو نبياً، أو سبّه أو استخفّ به أو باسمه .. فقد كفر (¬8). ويقول مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي: من سب رسولاً ... كفر. (¬9). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف –ص: 180 ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص250، 251) باختصار. (¬2) يعني قوله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ *التوبة:65 - 66*. (¬3) ((المحلى)) (13/ 500، 501) باختصار. (¬4) ((المحلى)) (13/ 501، 502). وانظر: ((الفصل)) (3/ 299). (¬5) ((الشفا)) (2/ 1098). (¬6) ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 130) بتصرف يسير. (¬7) ((الشرح الصغير على أقرب المسالك)) للدردير (6/ 149, 150) بتصرف. وانظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 274)، و ((بلغة السالك)) للصاوي (3/ 448)، و ((منح الجليل)) لعليش (2/ 276)، و ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (ص: 2276). (¬8) ((مغنى المحتاج)) للخطيب الشربيني (4/ 134). وانظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/ 395)، و ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 175). (¬9) ((غاية المنتهى)) لمرعي الكرمي (3/ 335) باختصار. وانظر: ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح المؤرخ (9/ 171)، و ((شرح منتهى الإرادات)) (3/ 386)، و ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 168).

الفصل الثالث: النواقض العملية في باب النبوات (الاستهانة بالمصحف مثالا)

الفصل الثالث: النواقض العملية في باب النبوات (الاستهانة بالمصحف مثالاً) أجمع أهل السنة والجماعة على كفر من استخف بالمصحف واستهان به، سواء كان ذلك بالقول أو الفعل. ومن المعلوم بالضرورة لكل مسلم أنه يجب الإيمان بالقرآن الكريم، وتعظيمه وإجلاله، ولا شك أن الاستهانة بالمصحف تناقض هذا الإيمان بالكلية؛ لأن الإيمان خضوع وانقياد، والاستخفاف إهانة وإذلال، ومحال أن يجتمع هذان الضدان في قلب واحد. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (إن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدان، فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر، فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد) (¬1). وأيضاً فإن الاستهانة بالقرآن استهانة بمن تكلم به، وهو رب العزة عز وجل، فمن فعل ذلك كان كافراً مباح الدم بإجماع المسلمين. نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: نقل رحمه الله إجماع المسلمين على كفر من استخف بالمصحف، بقوله: (وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله إهانة له أنه كافر مباح الدم) (¬2). ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: اجتمعت كلمة أهل العلم على أن ما في المصحف هو كلام الله، فيجب احترامه وإجلاله، لأن الإيمان مبني على إجلال الله وتعظيم كلامه، والاستهانة بالمصحف تناقض هذا الإيمان. وممن نقل هذا الإجماع القاضي عياض رحمه الله حيث يقول: (واعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده أو حرفاً منه أو آية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41 - 42]) (¬3). وقرر الإمام النووي رحمه الله أن الاستخفاف بالمصحف يعتبر من الأفعال الموجبة للكفر، والتي تصدر عن تعمد واستهزاء صريح بالدين حيث قال: (والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات) (¬4). ومن المعلوم أن الاستخفاف والاستهانة ليست محصورة في السب والتنقص فقط، بل الأمر يتعدى ذلك إلى التحريف أو التصحيف أو الزيادة أو النقص، فكل ذلك من الاستهانة (¬5). وقد ذكر ابن حزم رحمه الله اتفاق العلماء على: (أن كل ما في القرآن حق، وأن من زاد فيه حرفاً من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نقل الكافة، أو نقص حرفاً، أو بدل منه حرفاً مكان حرف، وقد قامت عليه الحجة أنه من القرآن فتمادى متعمداً لكل ذلك عالماً بأنه بخلاف ما فعل فإنه كافر) (¬6). ومثل هذه الأمور لا يمكن أن تصدر من المسلم المنقاد لأمر الله، المعظم لكلام الله وإنما هي من فعل من قد خبثت طويته، وفسدت عقيدته. وقد نقل ابن قدامة رحمه الله اتفاق المسلمين على تعظيم المصحف وتبجيله (¬7)، ولا شك أن الاستخفاف ينافي هذا التعظيم ويناقضه. ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (3/ 969). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (8/ 425). (¬3) ((الشفا)) (2/ 304). (¬4) ((روضة الطالبين)) (10/ 64). (¬5) انظر: ((نواقض الإيمان القولية والعملية)) (ص: 398). (¬6) ((مراتب الإجماع)) (ص: 270). (¬7) ((حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدع)) (ص: 49).

مستند الإجماع في المسألة: لقد حكم الله تعالى بالكفر على من استهزأ بشيء من آياته فقال عز وجل في كتابه العزيز: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: 64 - 66]. ولا ريب أن الاستهزاء بآيات الله استخفاف واستهانة. وقد توعد الله من اتخذ آياته هزواً بالعذاب المهين، كما في قوله تعالى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الجاثية: 9]، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار. وأيضاً فقد توعد الله عز وجل المستهزئين بآياته بالخلود في النار، ولا يخلد فيها إلا الكافر قال الله تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية: 34 - 35]. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو حتى لا يقع في أيديهم فيكون عرضة للاستخفاف والاستهانة. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) (¬1). وفي رواية مسلم: (مخافة أن يناله العدو) (¬2). قال ابن عبد البر رحمه الله: (ومعلوم أن من تنزيه القرآن وتعظيمه إبعاده عن الأقذار والنجاسات، وفي كونه عند أهل الكفر تعريض له بذلك وإهانة له، وكلهم أنجاس لا يغتسلون من الجنابة، ولا يعافون ميتة) (¬3). المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: 732 والاستهانة بالمصحف تناقض هذا الإيمان، وتنافيه بالكلية، والمقصود بالاستهانة - هاهنا - الاستخفاف والاستهزاء والاحتقار (¬4). والاستهانة بالمصحف قد تكون أقوالاً (¬5)، وقد تكون أعمالاً. والاستهانة العملية بالقرآن الكريم أن يفعل عامداً ما يتضمن احتقاراً أو استخفافاً بهذا القرآن، أو إسقاطاً لحرمته، ولهذه الاستهانة عدة أمثلة منها: أن يضع المصحف تحت قدمه، أو يلقيه في القاذورات، أو يسعى إلى تغييره وتبديله بزيادةٍ أو نقصانٍ ...... لقد تكفّل الله تعالى بحفظ كتابه عن كل ما لا يليق من زيادة، أو نقصان، أو تصحيف أو تحريف ونحوه، ومن ثم فإن هذا القرآن لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض. ولذا فإن المناسب أن نورد بعض النصوص الشرعية التي تقرر حفظ الله تعالى لكتابه العزيز، ونسوق أقوالاً مختارة لبعض الأئمة في ذلك. ¬

(¬1) رواه البخاري (2990)، ومسلم (1869). (¬2) رواه البخاري (1869). (¬3) ((التمهيد)) (15/ 255). (¬4) انظر: ((لسان العرب)) (13/ 438)، و ((المصباح المنير)) (ص795)، و ((مختار الصحاح)) للرازي (ص2, 7). (¬5) انظر أمثلة على تلك الأقوال الكفرية: ((شرح الفقه الأكبر)) لملا علي قاري (ص249 - 254)، و ((الفتاوى البزازية)) (بهامش الفتاوى الهندية) (3/ 338)، و ((الإعلام)) للهيتمي (ص359).

يقول الله تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:82]، يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية: يعني جل ثناؤه بقوله: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ: أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله فيعملوا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم لاتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضاً بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض (¬1). ويقول ابن عطية: قوله: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ هذا أمر بالنظر والاستدلال ثم عرف تعالى، بمواقع الحجة، أي: لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور وظهر فيه تناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه، إذ ذلك موجود في كلام البشر والقرآن منّزه عنه إذ هو كلام المحيط بكل شيءٍ علماً. فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافاً في شيءٍ من كتاب الله، فالواجب أن يتَّهم نظره ويسأل من هو أعلم منه (¬2). ويقول محمد رشيد رضا: وإن تعجب فعجب أن تمر السنون والأحقاب، وتكر القرون والأجيال، وتتسع دوائر العلوم والمعارف، وتتغير أحوال العمران ولا تنقض كلمة من كلمات القرآن، لا في أحكام الشرع، ولا في أحوال الناس وشؤون الكون، ولا في غير ذلك من فنون القول (¬3). ويقول الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وهو القرآن وإنا وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه (¬4). ويقول أبو السعود: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ من كل ما لا يليق به فيدخل فيه تكذيبهم له واستهزاؤهم به دخولاً أولياً، فيكون وعيداً للمستهزئين، وأما الحفظ عن مجرد التحريف والزيادة والنقص وأمثالها فليس بمقتضى المقام، فالوجهُ الحملُ على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه، والمجادلة في حقّيته، ويجوز أن يراد حفظه بالإعجاز دليلاً على التنزيل من عنده تعالى، إذ لو كان من عند غير الله لتطرّق عليه الزيادة والنقص والاختلاف (¬5). ويقول الألوسي: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، أي: من كل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك، حتى إن الشيخ المهيب لو غيّر نقطة يردّ عليه الصبيان ويقول له من كان: الصواب كذا. ولم يحفظ سبحانه كتاباً من الكتب كذلك، بل استحفظها جلّ وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع، وتولّى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظاً أولاً وآخراً (¬6). وعقد الإمام البخاري في (صحيحه) باباً بعنوان: (باب من قال: لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين) وساق بسنده إلى عبدالعزيز بن رفيع حيث قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما، فقال شداد بن معقل: أترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيءٍ؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين؛ قال: ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه، فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين (¬7). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (8/ 567). (¬2) ((تفسير ابن عطية)) (4/ 187، 188). (¬3) ((تفسير المنار)) (5/ 289). (¬4) ((تفسير الطبري)) (17/ 68). وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 528)، و ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 5). (¬5) ((تفسير أبي السعود)) (3/ 296). وانظر: ((فتح القدير)) للشوكاني (3/ 122). (¬6) ((روح المعاني)) (14/ 16) باختصار. (¬7) رواه البخاري (5019).

يقول الحافظ ابن حجر: وهذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيراً من القرآن ذهب لذهاب حملته، وهو شيء اختلقه الروافض لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي، واستحقاقه الخلافة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً في القرآن وأن الصحابة كتموه، وهي دعوى باطلة؛ لأنهم لم يكتموا مثل: ((أنت عندي بمنزلة هارون من موسى)) (¬1)، وغيرها من الظواهر التي قد يمسك بها من يدعي إمامته (¬2). ويقول الشاطبي: إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة. ويتبين ذلك من وجهتين: أحدهما: الأدلة الدالة على ذلك تصريحاً وتلويحاً، كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقوله: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1] والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفّر دواعي الأمة للذّبِّ عن الشريعة، والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل. أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلاً عن القراء الأكابر (¬3). وتحدث ابن حزم عما يجب اعتقاده في مسألة حفظ الله تعالى لكتابه فقال: إن القرآن المقروء المكتوب في المصاحف حق نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كلام الله عز وجل، حقاً لا مجازاً، وهو علم الله تعالى، وأنه محفوظ لم يُغيّر منه شيء ولا حرف، ولا زيد فيه حرف فما فوقه، ولا نقص منه حرف فما فوقه، قال الله عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:193 - 194]، وقال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]. وقال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:77 - 79]. وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. فمن قال إن القرآن نقص منه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرف، أو زيد فيه حرف، أو بُدّل منه حرف، أو أن هذا المسموع أو المحفوظ أو المكتوب أو المنزّل ليس هو القرآن، أو قال: إن القرآن لم ينزل به جبريل صلى الله عليه وسلم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنه ليس هو كلام الله تعالى؛ فهو كافر، خارج عن دين الإسلام؛ لأنه خالف كلام الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل الإسلام (¬4). إن الاستهانة بالقرآن ناقض من نواقض الإيمان لجملة من الاعتبارات نذكر منها ما يلي: أ- أن الاستهانة بالمصحف تناقض الإيمان، فالإيمان مبني على إجلال الله تعالى وتعظيم كلامه، والاستهانة استخفاف واستهزاء، يقول الله تعالى: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ [التوبة: 65, 66]، والإيمان: انقياد وخضوع، والاستهانة بالمصحف لا تجتمع مع هذا الانقياد والخضوع، فمن استهان بالمصحف، امتنع أن يكون منقاداً لأمر الله تعالى. يقول ابن تيمية: إن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدّان، فمتى حصل في القلب أحدهما، انتفى الآخر فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (3706)، ومسلم (2404). (¬2) ((فتح الباري)) (9/ 65). (¬3) ((الموافقات)) (2/ 58, 59) باختصار. (¬4) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص218 - 221) باختصار يسير. (¬5) ((الصارم المسلول)) (ص521).

ب- أن الله تعالى توعد من اتخذ آياته هزواً بالعذاب المهين، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار (¬1). كما توعد أولئك المستهينين بآياته بالخلود في النار. فقال تعالى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الجاثية:9] وقال سبحانه: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية:34, 35]. جـ- أن الاستهانة بالمصحف تكذيب لله تعالى في خبره، ومناقضة لما أمر الله تعالى به من تعظيم كلامه عز وجل، والاستهانة بالقرآن استهانة بمن تكلم به تعالى (¬2). يقول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ويقول سبحانه: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: 82]. وقال تعالى: - قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. وقال سبحانه: - وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ [الحج:52] فأخبر تعالى أنه يحفظ آياته، ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل (¬3). فمن استهان بالمصحف سواء كان بتحريف، أو تصحيف أو زيادة، أو نقص فهو مكذّب بمثل الآيات الكريمة التي سبق ذكرها، ولقد حكم الله تعالى - ولا معقب لحكمه - بالكفر على من جحد آياته، وأخبر تعالى بأنه لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة. يقول الحليمي: إن الله حفظ القرآن، فقال عند ذكره إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقال: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. فمن أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيءٍ في القرآن أو نقصانه منه، أو تحريفه أو تبديله، فقد كذب الله في خبره، وأجاز الوقوع فيه، وذلك كفر (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((الصارم المسلول)) (ص52). (¬2) انظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 136). (¬3) انظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/ 58). (¬4) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 320).

ويقول القرطبي: لا خلاف بين الأمة ولا بين الأئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزة له، وأنه محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأ من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بحد، ولا في حصره بعد، فمن ادعى زيادة عليه أو نقصاناً منه فقد أبطل الإجماع، وبهت الناس، ورد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن المنزل عليه، ورد قوله تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، وأبطل آية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا ذاك يصير القرآن مقدوراً عليه، حين شيب بالباطل، ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية، وخرج عن أن يكون معجزاً. (¬1). (د) أن الاستهانة بالمصحف - تحريفاً أو تبديلاً - استهانةً بالدين، وهدم لأصول هذه الشريعة وفروعها، وهو طعن في تمام دين الإسلام وكماله. ولذا يقول ابن حزم: والدين قد تمّ فلا يُزاد فيه ولا يُنقص منه، ولا يبدّل. قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] وقال تعالى: لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ [يونس:64]، والنقص والزيادة تبديل (¬2). ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب: ومن اعتقد عدم صحة حفظه (أي: المصحف) من الإسقاط، واعتقد ما ليس منه أنه منه، قد كفر، ويلزم من هذا رفع الوثوق بالقرآن كله، وهو يؤدي إلى هدم الدين، ويلزمهم عدم الاستدلال به، والتعبد بتلاوته، لاحتمال التبدل، ما أخبث قول قوم يهدم دينهم. (¬3). وعندما تحدث محمود شكري الألوسي عن القرآن الكريم، وأنه محفوظ عن الزيادة والنقصان، ثم ذكر معتقد الاثني عشرية في القرآن ... قال بعد ذلك: والحقّ ما ذهب إليه أهل السنة وجمهور الفرق الإسلامية أنه ليس في القرآن تحريف ولا نقصان، وذلك لأن الله تعالى قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. وإذا كان الله تعالى الحافظ له، فكيف يتمكن أحد من تحريفه؟! (ذلك) لأن تبليغ القرآن كان واجباً على الرسول عليه الصلاة والسلام إلى كافة الناس، أو بمن اتبعه ... ولم يزل المسلمون يتعبدون بتلاوته آناء الليل، وأطراف النهار، ويرون ذلك من أفضل الطاعات والأعمال من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى زمننا هذا، وكل ما في هذا شأنه لا يمكن تغييره ولا إسقاط شيء منه، ولأنه لو كان فيه تحريف بتغيير أو نقصان لم يبق وثوق بالأحكام (¬4). هـ- أجمع العلماء على كفر من استهان بالمصحف، وخروجه عن الملة، وقد نقل هذا الإجماع جماعة من أهل العلم ونورد هاهنا ما يلي: ذكر ابن حزم أن العلماء اتفقوا على: أن كل ما في القرآن حق، وأن من زاد فيه حرفاً من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نقل الكافة، أو نقص حرفاً، أو بدل منه حرفاً مكان حرف، وقد قامت عليه الحجة أنه من القرآن فتمادى متعمداً لكل ذلك عالماً بأنه بخلاف ما فعل فإنه كافر (¬5). ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (1/ 80 - 81). (¬2) ((المحلى)) (1/ 31). (¬3) ((رسالة في الرد على الرافضة)) (ص14). (¬4) ((السيوف المشرقة مختصر الصواعق المحرقة)) (مخطوط) (ق129) باختصار. (¬5) ((مراتب الإجماع)) (ص174).

ويقول أيضاً: إن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحدٍ منهم وهو أنَّ كلَّ من بدّل آيةً من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عامداً كذلك، أو زاد فيها كلمة عامداً فإنه كافر بإجماع الأمة كلها (¬1). ويقول القاضي عياض: اعلم أن من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيءٍ منه، أو سبّهما، أو جحده، أو حرفاً منه، أو آيةً، أو كذّب به، أو بشيءٍ منه، أو كذّب بشيءٍ مما صرّح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه فهو كافر عند أهل العلم بإجماعٍ، قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42] (¬2). ... من كلام العلماء في هذه المسألة:- يقول ابن حزم - في الرد على اعتراض النصارى بأن الروافض يزعمون أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بدلوا القرآن ... : وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القرآن، فإن الروافض ليسوا من المسلمين (¬3). وقال محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي: من استخف بالقرآن أو بالمسجد أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر، ومن وضع رجله على المصحف حالفاً استخفافاً كفر (¬4). وذكر الدردير أن من موجبات الردة: إلقاء مصحف أو بعضه ولو كلمة، وكذا حرقه استخفافاً لا صوناً، ومثل إلقائه، وتركه بمكان قذر، ولو طاهراً كبصاق أو تلطيخه به ... ومثل المصحف: الحديث، وأسماء الله تعالى، وكتب الحديث، وكذا كتب الفقه إن كان على وجه الاستخفاف بالشريعة (¬5). وقال النووي: الأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمّد واستهزاء بالدين صريح، كإلقاء المصحف في القاذورات (¬6). وقال قليوبي شارحاً قول النووي: قوله: (كإلقاء مصحف بقاذورة) بالفعل أو بالعزم والتردد فيه ومسه بها كإلقائه فيها، وألحق بعضهم به وضع رجله عليه ونُوزع فيه، والمراد بالمصحف: ما فيه قرآن ومثله الحديث، وكل علم شرعي وما عليه اسم معظم، قال شيخنا الرملي: ولا بُدّ في غير القرآن من قرينةٍ تدل على الإهانة وإلا فعلاً، وشملت القاذورة الطاهرة كبصاق ومخاط ومني (¬7). وعدّ البهوتي من نواقض الإسلام ما يلي: أو وجد منه امتهان القرآن، أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف، أو مقدور في مثله، أو إسقاط حرمته كفر؛ لقوله تعالى: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، وقوله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:82]، وقوله: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] (¬8) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف –ص: 393 ¬

(¬1) ((الفصل)) (3/ 296)، وانظر: ((المحلى)) (1/ 39)، و ((الإحكام في أصول الأحكام)) (1/ 86). (¬2) ((الشفا)) (2/ 1101)، وانظر: (2/ 1076). (¬3) ((الفصل)) (2/ 213). وانظر: ((المحلى)) (1/ 15). (¬4) ((رسالة في ألفاظ الكفر)) (ص22)، ويقول ملا علي قاري معلقاً على الجملة الأخيرة: ولا يخفى أن قوله حالفاً قيد واقعي فلا مفهوم له. ((شرح الفقه الأكبر)) (ص250). (¬5) ((الشرح الصغير)) (6/ 145, 146). وانظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 301)، و ((بلغة السالك)) (2/ 416)، و ((الخرشي على مختصر خليل)) (7/ 62, 63). (¬6) ((روضة الطالبين)) (10/ 64). وانظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني الخطيب (4/ 136)، و ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/ 416). (¬7) ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 176)، وانظر: (الأعلام) للهيتمي (ص349). (¬8) ((كشاف القناع)) (6/ 137)، وانظر: ((شرح منتهى الإرادات)) (3/ 387)، و ((غاية المنتهى)) لمرعي الكرمي (3/ 339).

الباب الرابع: نواقض الإيمان في سائر الغيبيات

الفصل الأول: إنكار الملائكة والجن ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالملائكة عليهم السلام، والإيمان بالجن، فأما الإيمان بالملائكة فهو الإقرار الجازم بوجودهم، وأنهم من خلق الله تعالى، وهم عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26, 27]، وأنهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، فلا يتحقق إيمان عبدٍ حتى يؤمن بوجودهم ... وعليه أن يؤمن بمن ورد ذكرهم في القرآن والسنة على وجه التفصيل، كما يجب الإيمان بصفاتهم الخلقية والخلقية، والأعمال التي يقومون بها. يقول محمد رشيد رضا في ثنايا حديثه عن أهمية الإيمان بالملائكة: إن الإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي، ولذلك قدم ذكر الملائكة على ذكر الكتاب والنبيين، قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، فالملائكة هم الذين يؤتون النبيين الكتاب، قال تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ [القدر:4]، وقال سبحانه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: 193 - 195]، فليلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة وإنكار الأرواح، وذلك يستلزم إنكار اليوم الآخر (¬1). ويقول السعدي - في نفس المسألة السابقة -: الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان، ولا يتم الإيمان بالله وكتبه ورسله إلا بالإيمان بالملائكة (¬2). كما يجب الإيمان بوجود الجن في العالم، وأنهم خلق من خلق الله تعالى وأنهم أحياء عقلاء، ومأمورون ومنهيون، وأن ذلك أمرٌ متواتر معلوم بالاضطرار (¬3). 2 - وإذا تقرر وجوب الإيمان بالملائكة عليهم السلام والجن، فإن لهذا الإيمان ما يناقضه من الأقوال كإنكار وجود الملائكة، أو الجن، أو سب الملائكة والاستهزاء بهم، ووجه كون تلك الأقوال مناقضة لهذا الإيمان ما يلي: أ- أن إنكار وجود الملائكة أو الجن (¬4) هو تكذيب وجحود للأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة، فقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الملائكة والجن، ومن ثَمَّ فإن وجود الملائكة والجن أمر متواتر ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام. ¬

(¬1) ((تفسير المنار)) (2/ 113). (¬2) ((تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن)) (ص29). (¬3) أفاض القرآن الكريم، والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم في مواضع كثيرة، فقد ورد ذكرهم في القرآن في مواضع متعددة تقرب من أربعين موضعاً، عدا الآي التي تحدثت عن الشيطان، وهي كثيرة. انظر: ((المعجم المفهرس لألفاظ القرآن)) (ص:179)، و ((عالم الجن)) للأشقر (ص10). (¬4) ومن أمثلة هذا الإنكار ما يظنه ملاحدة الفلاسفة أنها قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة. انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 120، 121، 346)، و ((السبعينية)) (ص220)، و ((أصول اللالكائي)) (7/ 1217)، و ((الحجة)) للأصفهاني (2/ 390)، و ((فتح الباري)) (6/ 343)، و ((الفصل)) لابن حزم (1/ 90)، و ((الفرق بين الفرق)) لعبد القاهر البغدادي (ص279). وانظر: أمثلة لهذا الإنكار عند بعض العقلانيين المعاصرين في كتاب ((عالم الجن)) لعبد الكريم عبيدات (ص 118 - 169).

فمثلاً في شأن الملائكة عليهم السلام يقول الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:286]. ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:136]. يقول الألوسي في تفسيره لقول تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ .. الآية، أي: بشيءٍ من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو قد يرجع إلى كل واحدٍ، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وهاهنا قد دلت القرينة على الأول؛ لأن الإيمان بالكل واجب، والكل ينتفي بانتفاء البعض ... (¬1). وأما الجن فقد أفاض القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم، وانفردت سورة كاملة في الحديث عن نفر من الجن استمعوا للقرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء هذا مفصلاً في سورة (الجن)، قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]. يقول ابن بطة: فمن أنكر الجن فهو كافر بالله، جاحد بآياته، مكذب بكتابه (¬2). ويقول ابن حزم: لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم، مما أبدى على أيديهم من المعجزات ... بنصّ الله عز وجل على وجود الجن في العالم، وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم، وقد جاء النص بذلك، وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة، موعودة متوعدة متناسلة يموتون ... فمن أنكر الجن، أو تأوّل فيهم تأويلاً يخرجهم به عن هذا الظاهر، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال (¬3). ويقول القرطبي - في هذا الشأن-: وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، اجتراءً على الله وافتراءً، والقرآن والسنة ترد عليهم (¬4). ويقول ابن تيمية: وجود الجن ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أهل السنة والجماعة (¬5). ويقول في موضع آخر: إن وجود الجن قد تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء، فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفاتاً، وأعراضاً قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعمه بعض الملاحدة. فلما كان أمر الجن متواتراً عن الأنبياء تواتراً ظاهراً تعرفه العامة والخاصة لم يكن لطائفة كبيرة من طوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم (¬6). ويقول الألوسي: ونفي الجن كفر صريح كما لا يخفى (¬7). كما أن إنكار الملائكة والجن مناقض للإيمان بالكتب المنزلة، فالإيمان بالكتب يتضمن الإقرار بها وتصديقها، وإنكار الملائكة والجن هو تكذيب وجحود لآيات الله تعالى، فهو يناقض هذا الإقرار والتصديق، ومن ثَمَّ فقد توعّد الله تعالى أولئك المنكرين لآياته، المكذبين بها بالعذاب المهين والخلود في نار جهنم. ¬

(¬1) ((روح المعاني)) للألوسي (5/ 170). (¬2) ((الإبانة الصغرى)) (ص213) باختصار. (¬3) ((الفصل)) (5/ 112). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (19/ 6). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 276)، وانظر: (24/ 277، 280، 282). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 10)، انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 489، 490). (¬7) ((روح المعاني)) (29/ 82).

قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الحج:57]. بل إن صفة الجحود لتلك الآيات لا تقوم إلا في الكفار، كما قال تبارك وتعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ [العنكبوت:47] ب- أجمع العلماء على كفر من أنكر الملائكة أو الجن، أو استهزأ واستخفّ بالملائكة، أو سبّهم، فيقول القاضي عياض: وحكم من سبّ سائر أنبياء الله تعالى، وملائكته، واستخف بهم، أو كذبهم فيما أتوا به، أو أنكرهم وجحدهم، حكم نبينا صلى الله عليه وسلم ... (¬1). قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150 - 151] (¬2). وإذا كان العلماء قد أجمعوا على كفر من أنكر آية من كتاب الله تعالى (¬3)، فما بالك بمن أنكر آيات كثيرة جداً تثبت وجود الملائكة والجن! فوجود الملائكة عليهم السلام كما هو ثابت بالكتاب والسنة، فهو ثابت بالإجماع، وكذلك الجن. يقول ابن حزم: واتفقوا أن الملائكة حق، وأن جبريل وميكائيل ملكان رسولان لله عز وجل مقربان عظيمان عند الله تعالى، وأن الملائكة كلهم مؤمنون فضلاً، وأن الجن حق (¬4). ويذكر ابن حزم أن المسلمين والنصارى والمجوس والصابئين وأكثر اليهود كلهم مجمعون على وجود الجن (¬5). ويقول ابن تيمية: والإقرار بالملائكة والجن عام في بني آدم، لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الأمم، ولهذا قالت الأمة المكذبة: وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون:24] حتى قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون، قال قوم نوح: مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون:24]، وقال: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً [فصلت:13 - 14]، وليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكاراً عاماً، وإنما يوجد إنكار ذلك في بعضهم، مثل من قد يتفلسف فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم (¬6). ويقول - في موضع آخر -: من المعلوم بالاضطرار أن الرسل أخبرت بالملائكة والجن، وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها، ليست أعراضاً قائمة بغيرها (¬7). ¬

(¬1) ومن المعلوم أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو الاستهزاء به أو إنكاره من نواقض الإيمان بالإجماع. (¬2) ((الشفا)) (2/ 1097). (¬3) انظر: ((الشفا)) (2/ 1101)، و ((التمهيد)) (4/ 226)، و ((حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة)) لابن قدامة (ص33)، و ((الإبانة الصغرى)) (ص211). (¬4) ((مراتب الإجماع)) (ص174). (¬5) انظر: ((الفصل)) (5/ 112). (¬6) ((النبوات)) (ص21، 22) باختصار. (¬7) ((الصفدية)) (1/ 192، 193) بتصرف يسير. وانظر: ((الصفدية)) (1/ 168)، وانظر: ((المعتمد في أصول الدين)) لأبي يعلي (ص171، 172)، و ((آكام المرجان في أحكام الجان)) للشبلي (ص3).

إلى أن قال: فمن أنكر وجود الجن والشياطين وتأثيرهم ... كان مبطلاً باتفاق أهل الملل، واتفاق جمهور الفلاسفة، وكان كذبه معلوماً بالاضطرار عند من عرف هذه الأمور بالمشاهدة، أو الأخبار الصادقة (¬1). جـ- إن الإيمان بالملائكة عليهم السلام يوجب إجلالهم وإكرامهم، فهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولذا فإن سبّهم والاستهزاء بهم لا يجتمع مع إجلالهم وإكرامهم، وإن كان مقراً بوجودهم، لما في هذا من عدم تقدير الله تعالى حق قدره، والاستهزاء بآيات الله تعالى، ويقول سبحانه: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65 - 66]. يقول ابن حزم: صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو نبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر (¬2). ويقول أيضاً: قد علمنا أن الملائكة كلهم رسل الله تعالى، قال تعالى: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً [فاطر:1]، وكذلك بضرورة المشاهدة أن كل ساب وشاتم فمستخف بالمشتوم مستهزئ به، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد ... فصحّ بما ذكرنا أن كل من سبّ الله تعالى، أو استهزأ به، أو سبّ ملكاً من الملائكة، أو استهزأ به، أو سبّ نبياً من الأنبياء، أو استهزأ به، أو سبّ آيةً من آيات الله تعالى، أو استهزأ بها، والشرائع كلها، والقرآن من آيات الله تعالى فهو بذلك كافر مرتد، له حكم المرتد، وبهذا نقول، وبالله تعالى التوفيق (¬3). د- إن الإيمان بالملائكة عليهم السلام يقتضي محبتهم ومودتهم، وأما سبّهم وشتمهم فهو بسبب بغضهم وعداوتهم، وهو ما يناقض الإيمان بهم، كما قال تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:98]. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي؛ ورسله تشمل رسله من الملائكة، كما يقول تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]. وقوله تعالى: فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ فيه إيقاع المظهر مكان المضمر، حيث لم يقل فإنه عدو، بل قال: فإن الله عدو للكافرين ... وإنما أظهر الله هذا الاسم لتقرير هذا المعنى، وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً لله، فقد عادى الله، ومن عادى الله، فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة ... (¬4). ومما قاله البيضاوي في (تفسيره) لهذه الآية: وأفرد الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر، والتنبيه على أن معاداة الواحد والكلّ سواء في الكفر، واستجلاب العداوة من الله تعالى، وأن من عادى أحدهم، فكأنه عادى الجميع، إذ الموجب لعداوتهم ومحبتهم على الحقيقة واحد، ولأن المحاجة كانت فيهما، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر (¬5). ¬

(¬1) ((الصفدية)) (1/ 192، 193) بتصرف يسير. وانظر: ((الصفدية)) (1/ 168)، وانظر: ((المعتمد في أصول الدين)) لأبي يعلي (ص171، 172)، و ((آكام المرجان في أحكام الجان)) للشبلي (ص: 3). (¬2) ((الفصل)) (3/ 299). (¬3) ((المحلى)) (13/ 500 - 502) باختصار. (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 126، 127) باختصار. (¬5) ((تفسير البيضاوي)) (1/ 72).

ومما كتبه النسفي في (تفسيره) لهذه الآية قوله: قوله تعالى: فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ أي: لهم، جواب الشرط، والمعنى: من عاداهم عاداه الله، وعاقبه أشد العقاب، وإيثار الاسمية للدلالة على التحقق والثبات، ووضع الكافرين موضع المضمر للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر، وأن ذلك بيّن لا يحتاج إلى الإخبار به، وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور (¬1). 3 - وإذا تقرر أن إنكار وجود الملائكة عليهم السلام أو الجن أو سبّ الملائكة والاستهزاء بهم من نواقض الإيمان فإننا نسوق أقوالاً مختارة لأهل العلم في هذا الشأن. يقول ابن نجيم: ويكفر بقوله لغيره: رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت عند البعض خلافاً للأكثر، وقيل به إن قاله لعداوته لا لكراهة الموت، وبقوله لا أسمع شهادة فلان وإن كان جبريل أو ميكائيل عليهما السلام، وبعيبه ملكاً من الملائكة أو الاستخفاف به (¬2). يقول القاضي عياض: وقال القاضي بقرطبة سعيد بن سليمان في بعض أجوبته: من سبّ الله وملائكته قتل. وقال سحنون: من شتم ملكاً من الملائكة فعليه القتل. وقال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر: كأنه وجه مالك الغضبان، لو عرف أنه قصد ذم الملك قتل. ثم قال القاضي عياض: وهذا كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة والنبيين، ممن نصّ الله عليه في كتابه، أو حققنا علمه بالخبر المتواتر، والمشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع كجبريل وميكائيل، ومالك، وخزنة جهنم والزبانية، وحملة العرش المذكورين في القرآن من الملائكة، ومن سمي فيه من الأنبياء، وكإسرافيل، والحفظة ... فأما من لم تثبت الأخبار بتعيينه، ولا وقع الإجماع على كونه من الملائكة كهاروت وماروت ... فليس الحكم في سابهم والكافر بهم كالحكم فيما قدمناه (ممن اتفق على أنه ملك) ... (¬3). وقال الدردير المالكي: ويكفر إن سبّ نبياً مجمعاً على نبوته، أو ملكاً مجمعاً على ملكيته، أو ألحق به نقصاً وإن ببدنه كعرج، وشلل ... (¬4). ويقول ابن غنيم المالكي: ومن سبّ ملكاً مجمعاً على ملكيته، أو لعنه، أو عابه، أو قذفه، أو استخفّ بحقّه، أو غيّر صفته، أو ألحق به نقصاً في دينه، أو بدنه، أو خصلته، أو غضّ من مرتبته، أو وفور علمه، أو زهده، أو أضاف له ما لا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق به على طريق الذم ... قتل (¬5) حداً ويستعجل بقتله (¬6). ويقول النووي: ولو قال: لو شهد عندي الأنبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم كفر (¬7). ويقول ابن حجر الهيتمي معلقاً على هذه العبارة: وهل لو قال الملائكة فقط أو الأنبياء فقط يكفر أيضاً؟ الذي يظهر: نعم؛ لأن ملحظ الكفر كما لا يخفى نسبة الأنبياء أو الملائكة إلى الكذب، فإن قلت: جرى خلاف في العصمة؟ قلت: أجمعوا على العصمة عن الكذب ونحوه (¬8). ويقول ابن قدامة: وإن ارتدّ بجحود فرض، لم يسلم حتى يقر بما جحده، ويعيد الشهادتين؛ لأنه كذّب الله ورسوله بما اعتقده، وكذلك إن جحد ملكاً من ملائكته الذين ثبت أنهم ملائكة الله، أو استباح محرّماً فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحده (¬9). ويقول مرعي بن يوسف الكرمي: من أشرك بالله تعالى، أو سبّه، أو رسوله، أو ملكاً له ... كفر (¬10). ويذكر البهوتي أن من جحد الملائكة، أو أحداً ممن ثبت أنه ملك، كفر لتكذيبه القرآن (¬11). هذا طرف من أقول العلماء فيما يتعلق بالملائكة عليهم السلام، وأما الجن فإن وجودهم ثابت بالإجماع والتواتر، فهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، ومن ثَمَّ فإن إنكارهم هو إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة. نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف – ص: 208 ¬

(¬1) ((تفسير النسفي)) (1/ 221)، وانظر: ((تفسير القاسمي)) (1/ 204). (¬2) ((البحر الرائق)) (5/ 131). (¬3) ((الشفا)) (2/ 1097 - 1100) بتصرف. (¬4) ((الشرح الصغير)) (6/ 149, 150) بتصرف يسير. وانظر: ((بلغة السالك)) للصاوي (3/ 448). (¬5) قتل: هو جواب من الشرطية في أول النص. (¬6) ((الفواكه الدواني)) (2/ 227) بتصرف يسير. (¬7) ((روضة الطالبين)) (10/ 66)، وانظر: ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 175). (¬8) ((الإعلام)) (ص358). (¬9) ((المغني)) (10/ 100، 101) باختصار. (¬10) ((غاية المنتهى)) (3/ 335). (¬11) ((كشاف القناع)) (6/ 8).

الفصل الثاني: نواقض متعلقة باليوم الآخر

المبحث الأول: إنكار البعث لا شك أن إنكار البعث مناقض للإيمان، مهما تنوعت صوره وأمثلته، فقد يكون إنكارا لبعث الأرواح والأجساد، وقد يكون إنكارا لمعاد الأجساد مع الاعتراف بمعاد الأرواح، وتارةً يكون إنكار البعث بالقول بتناسخ الأرواح، ونقلها إلى أجسام أخرى، وتارة أخرى يكون هذا الإنكار بإنكار معاد النفوس الجاهلة دون العالمة. ومن صور هذا الإنكار ما زعمه بعضهم أن البعث عبارة عن خلق أبدان جديدة مغايرة تماماً للأبدان الفانية (¬1). وسنورد الآن بعضاً من أوجه كون إنكار البعث ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي: أ- أخبر الله عز وجل أن إنكار البعث كفر برب العالمين، فقال تعالى: وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ [الرعد:2 - 5]. وقال المؤمن للكافر الذي قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، فقال له: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً [الكهف:37] (¬2). وقال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء:97 - 98]. وقال سبحانه: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة:10]. وقال تعالى: وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [النحل:38 - 40]. فإنكار البعث يناقض الإيمان، وينافي تصديق القلب وإقرار اللسان. ب- تضمن إنكار البعث تعطيلاً لأسماء الله وصفاته ومقتضاها، وإنكاراً لعلم الله تعالى وقدرته وحكمته. قال الله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115 - 116]. يقول ابن القيم عن هذه الآيات: فجعل كمال ملكه، وكونه سبحانه الحق، وكونه لا إله إلا هو، وكونه رب العرش المستلزم لربوبيته لكل ما دونه، مبطلاً لذلك الظن الباطل، والحكم الكاذب. ¬

(¬1) انظر توضيحاً لهذه الأمثلة: ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 1067)، ((الدرة)) لابن حزم (ص: 206)، ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 458)، و ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 283, 314، 9/ 35، 36) ((الفوائد)) لابن القيم (ص5)، و ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/ 35). (¬2) انظر: ((أعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 147).

- إلى أن قال: فإنّ ملكه الحق يستلزم أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وكذلك يستلزم إرسال رسله، وإنزال كتبه، وبعث المعاد ليوم يجزى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقة ملكه، ولم يثبت له الملك الحق، ولذلك كان منكراً لذلك كافراً بربه، وإن زعم أنه يُقرّ بصانع العالم، فلم يؤمن بالملك الحق الموصوف بصفات الجلال، والمستحق لنعوت الكمال (¬1). ويقول في موضع آخر: وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه، وكمال قدرته، وكمال حكمته، فإنّ شبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع: أحدهما: اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص. الثاني: أن القدرة لا تتعلق بذلك. الثالث: أن ذلك أمر لا فائدة فيه، أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئاً بعد شيء، هكذا أبداً كلما مات جيل، خلفه جيل آخر، فأما أن يميت النوع الإنساني كله، ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك، فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول: أحدهما: تقرير كمال علم الرب سبحانه، كما قال في جواب من قال: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78 - 79]، وقال: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4]. الثاني: تقرير كمال قدرته، لقوله: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم [يس:81] وقوله: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4]، وقوله ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6]. الثالث: كمال حكمته، كقوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الدخان:38]، وقوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً [ص:27]، وقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزّه عما يقوله منكروه، كما ينزّه كماله عن سائر العيوب والنقائص (¬2). إضافة إلى ذلك فإنكار البعث سوء ظن بالله عز وجل، كما قال ابن القيم: ومن ظنّ أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دارٍ يجازي المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبيّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه، وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء (¬3). وسوء الظن بالله تعالى ذنب عظيم، وعقابه شديد، حتى قال ابن القيم أيضاً: ولم يجئ في القرآن وعيد أعظم من وعيد من ظن به ظن السوء. قال تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] إلخ (¬4). ¬

(¬1) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص101). (¬2) ((الفوائد)) (ص6 - 7). (¬3) ((زاد المعاد)) (3/ 230). (¬4) ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1356).

جـ- أن إنكار البعث تكذيب ظاهر لآيات القرآن الصريحة في إثبات البعث، كما أن هذا الإنكار رد للأخبار الصحيحة في وقوع البعث، وتكذيب لما اتفقت عليه دعوة الرسل عليهم السلام. ونزلت به الكتب السماوية، وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56]. وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف40]. وقال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الحج:57] يقول ابن أبي العز الحنفي: الإيمان بالمعاد مما دلّ عليه الكتاب والسنة، والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن (¬1). وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً أن الله تعالى يقول: ((يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله إن لي ولداً، وأما تكذيبه فقوله لن يعيدني كما بدأني)) (¬2). وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده في ثلاثة مواضع: الأول: في سورة يونس في قوله تعالى: وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53]. الثاني: في سورة سبأ في قوله تعالى:- وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3] الثالث: في سورة التغابن في قوله تعالى:- زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] (¬3). وقد أقسم الله تعالى في مواضع كثيرة على وقوع البعث، كقوله تعالى: اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [النساء:86]. وذم سبحانه المكذبين بالمعاد،؛ فقال سبحانه: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [يونس:45]. وتوعدهم بالعذاب والضلال البعيد؛ فقال تبارك وتعالى: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سبأ:8]. وقد تنوعت الأدلة، وتعددت البراهين في إثبات المعاد، وصحة وقوعه كما جاء مفصلاً في موضعه (¬4). د- انعقد الإجماع على إثبات البعث، كما أجمع علماء هذه الأمة على تكفير منكري البعث، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من أهل العلم نذكرهم فيما يلي: يقول ابن حزم: وأما من زعم أن الأرواح تنتقل إلى أجساد أخر فهو قول أصحاب التناسخ، وهو كفر عند جميع أهل الإسلام (¬5). ويقول أيضاً: واتفقوا أن البعث حق، وأن الناس كلهم يبعثون في وقت تنقطع فيه سكناهم في الدنيا ... (¬6). ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 589). (¬2) رواه البخاري (3193). (¬3) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 375) , (3/ 504). (¬4) انظر مثلاً: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 589 - 600)، و ((القواعد الحسان)) للسعدي (ص24، 25)، و ((القيامة الكبرى)) للأشقر (ص73 - 91)، و ((منهج القرآن في الدعوى للإيمان)) لعلي فقيهي (ص285 - 340). (¬5) ((المحلى)) (1/ 31). (¬6) ((مراتب الإجماع)) (ص175).

ويقول في كتاب ثالث: وأن البعث حق والحساب حق ... يجمع الله تعالى يوم القيامة بين الأرواح والأجساد، كل هذا إجماع من جميع أهل الإسلام، من خرج عنه خرج عن الإسلام (¬1). ثم يقول أيضاً: فمن قال إن الأرواح أعراض فانية، أو قال إنها تنتقل إلى أجسام أخر، فهو منسلخ من إجماع أهل الإسلام، لخلافه القرآن، والسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع، وهو قول أهل التناسخ، وهو كفر بلا خلاف، وكذلك من أنكر إحياء العظام والأجساد يوم القيامة، وأنكر البعث فخارج عن دين الإسلام بلا خلاف من أحد من الأئمة (¬2). ويقول في (الفصل): اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيامة، وعلى تكفير من أنكر ذلك (¬3). ويقول ابن عبد البر: وقد أجمع المسلمون على أن من أنكر البعث، فلا إيمان له ولا شهادة، وفي ذلك ما ينبغي ويكفي، مع ما في القرآن من تأكيد الإقرار بالبعث بعد الموت، فلا وجه للإنكار في ذلك. (¬4). ويقول القاضي عياض: وكذلك نقطع على كفر من قال بتناسخ الأرواح وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص، وتعذيبها أو تنعيمها فيها، بحسب ذكائها وخبثها. وكذلك من أنكر البعث أو الحساب ... فهو كافر بإجماعٍ للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً (¬5). ويقول ابن تيمية: وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرّون لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد، وقد بيّن الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد، وردّ على الكافرين والمنكرين لشيءٍ من ذلك، بياناً في غاية التمام والكمال. وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرّون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة، فإنهم يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلَّف من قول المجوس والصابئة ... وهؤلاء كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد بيّن ذلك بياناً شافياً قاطعاً للعذر ... (¬6). ويقول يحيى بن حمزة العلوي: اعلم أنه لا خلاف بين أهل القبلة وغيرهم - إلا شيئاً يحكى عن بعض الفلاسفة- في صحة المعاد (¬7). ويقول الإيجي: أجمع أهل الملل عن آخرهم على جواز حشر الأجساد ووقوعه، وأنكرهما الفلاسفة (¬8). ¬

(¬1) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص206). (¬2) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص211 - 215) باختصار يسير. (¬3) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (4/ 137). (¬4) ((التمهيد)) (9/ 116). (¬5) ((الشفا)) (2/ 1067، 1077) باختصار. (¬6) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 313) باختصار. وانظر: (4/ 282، 283). (¬7) الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام ص 123. (¬8) ((المواقف في علم الكلام)) (ص372).

ويقول الشوكاني: الحاصل أن هذا (أي: المعاد) أمر اتفقت عليه الشرائع، ونطقت به كتب الله عز وجل سابقها ولاحقها، وتطابقت عليه الرسل أولهم وآخرهم، ولم يخالف فيه أحد منهم، وهكذا اتفق على ذلك أتباع جميع الأنبياء من أهل الملل، ولم يسمع عن أحد منهم أنه أنكر ذلك قط، ولكنه ظهر رجل من اليهود زنديق، يقال له: موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي؛ فوقع منه كلام في إنكار المعاد، واختلف كلامه في ذلك، فتارة يثبته، وتارة ينفيه، ثم هذا الزنديق لم ينكر مطلق المعاد، إنما أنكر بعد تسليمه للمعاد أن يكون فيه لذات حسية جسمانية، بل لذات عقلية روحانية، ثم تلقّى عنه من هو شبيه به من أهل الإسلام كابن سينا فقلّده، ونقل عنه ما يفيد أنه لم يأت في الشرائع السابقة على الشريعة الإسلامية إثبات المعاد، وتقليداً لذلك اليهودي الملعون الزنديق، مع أن اليهود قد أنكروا عليه هذه المقالة ولعنوه وسموه كافراً ... (¬1). 3 - وإذا تقرر ما سبق ذكره فإننا نشير لطرف من أقوال العلماء في حكم منكر البعث؛ فهذا ابن نجيم يقرر كفر من أنكر البعث (¬2)، وكذلك البدر الرشيد (¬3). وقال الدردير المالكي: ويكفر إذا قال بتناسخ الأرواح، أي: إن من قال بأنّ من يموت تنتقل روحه إلى مثله، أو لأعلى منه إن كانت في مطيع، أو لأدنى منه، أو مثله إن كانت في عاصٍ فهو كافر؛ لأن فيه إنكار البعث (¬4). وأورد الدسوقي نفس هذا الكلام في (حاشيته) (¬5)، وكذا عليش في (شرحه) (¬6). ويقول الغزالي: فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع كالذي ينكر حشر الأجساد، وينكر العقوبات الحسّيّة في الآخرة بظنون وأوهام، واستبعادات من غير برهان قاطع، فيجب تكفيره قطعياً، إذ لا برهان على استحالة ردّ الأرواح إلى الأجساد، وذكر ذلك عظيم الضرر في الدين، فيجب تكفير كل من تعلق به ... (¬7). ويذكر الشربيني إنكار البعث ضمن أنواع الردة (¬8)، وكذا ذكر ذلك قليوبي (¬9)، وابن حجر الهيتمي (¬10). ويقول البهوتي: وإذا جحد البعث كفر، لتكذيبه للكتاب والسنة وإجماع الأمة. (¬11) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف - 223 ¬

(¬1) ((إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات)) (ص32). (¬2) انظر: ((البحر الرائق)) (5/ 132). (¬3) انظر: ((رسالته في ألفاظ الكفر)) (ص53). (¬4) ((الشرح الصغير)) (6/ 147، 148) بتصرف يسير. (¬5) انظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 269). (¬6) انظر: ((شرح منح الجليل)) (4/ 464). (¬7) ((فيصل التفرقة)) (ص142). (¬8) انظر: ((مغنى المحتاج)) (4/ 135). (¬9) انظر: ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 175). (¬10) انظر: ((الإعلام)) (ص374). (¬11) ((كشاف القناع)) (6/ 136).

المبحث الثاني: إنكار الوعد أو الوعيد أو الاستهزاء به

المبحث الثاني: إنكار الوعد أو الوعيد أو الاستهزاء به الوعد في أصل لغة العرب يستعمل في الخير والشر، ويعدّى بنفسه وبالباء، يقال: وعدته خيراً. ووعدته شراً، فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، مع العلم أن الوعيد لا يكون إلا بالشر (¬1). وقد حوى القرآن الكريم على وعد ووعيد، فالوعد يكون بالمغفرة والرضوان، والتكريم ودخول الجنان ونحو ذلك من أنواع الثواب، والوعيد يكون إما بلعنة أو غضب أو دخول نار ... وغير ذلك من أنواع العقاب. قال الله تعالى: وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ [التوبة:68]. وقال سبحانه: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التوبة:72]. وقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [التوبة:111]. وقال سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]. ومما أنعم الله تعالى به على عباده، أنه سبحانه قد أخبر أن من وعده على عملٍ صالحٍ فهو منجز له، فلا يخلف الله وعده تكرماً وتفضلاً، قال الله تعالى: لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الروم:6]. وقال سبحانه وتعالى: وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16]. وأما الوعيد في حقّ عصاة المؤمنين فهو تحت مشيئة الله تعالى، فقد يقع هذا الوعيد جزاءً وعدلاً، وقد يختلف هذا الوعيد في حقّ بعض العصاة لانتفاء شرط أو وجود مانع ... كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من وعده الله على عمل ثواباً، فهو منجز له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار)) (¬2). وقد جاء عمرو بن عبيد المعتزلي إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو. ويخلف الله ما وعده؟ قال: لا، قال: أفرأيت من أوعده الله على عملٍ عقاباً، أيخلف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد عاراً ولا خلفاً أن تعد شراً، ثم لا تفعله، ترى ذلك كرماً وفضلاً، وإنما الخلف أن تعد خيراً ثم لا تفعله. قال: فأوجدني هذا في كلام العرب؟ قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول (¬3): وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلفُ إيعادي ومنجزُ موعدي ¬

(¬1) انظر: ((المفردات)) للأصفهاني (ص826)، و ((لسان العرب)) (30/ 463)، و ((معجم مقاييس اللغة)) (6/ 125)، و ((المصباح المنير)) (ص830، 831)، و ((مختار الصحاح)) (ص728). (¬2) رواه أبو يعلى (6/ 66)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 240)، وابن أبي عاصم في السنة (960)، وقوّام السنة الأصفهاني في ((الحجة)) (2/ 71). قال البوصيري في ((إتحاف المهرة)) (7/ 136): رواه أبو يعلى والبزار، ومدار إسناديهما على سهيل بن أبي حزم، وهو ضعيف. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 214): رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، وفيه: سهيل بن أبى حزم وقد وُثِّقَ على ضعفه، وبقيّة رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2463): والحديث مع ضعف سنده فهو ثابت المتن عندي. (¬3) البيت لعامر بن الطفيل. انظر: ((لسان العرب)) (3/ 364).

وقال يحيى بن معاذ: الوعد والوعيد حقّ، فالوعد حقّ العباد على الله، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، ومن أولى بالوفاء من الله، والوعيد حقّه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا، فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ لأنه حقه، وأولاهما بربنا تبارك وتعالى العفو والكرم إنه غفور رحيم (¬1). وعندما نتحدث عن الواجب تجاه نصوص الوعد والوعيد، فهو الإيمان بجميع تلك النصوص، والتسليم لها، وإجلالها وتعظيمها، فنؤمن بالله تعالى، وما جاء عن الله، على مراد الله تعالى، ونؤمن برسول الله، وما جاء عن الرسول، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول ابن تيمية: لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد، وقد قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا [النساء:29 - 30]، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، والعبد عليه أن يصدق بهذا وهذا ... (¬2). ويقول أيضاً: ينبغي للمسلم أن يقدر كلام الله ورسوله، فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب، ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه (¬3). وقد التزم سلف الأمة بهذا التسليم والتعظيم لنصوص الوعد والوعيد؛ فهذا رجل يقول للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لطم الخدود)) (¬4)، ((وليس منا من لم يوقر كبيرنا)) (¬5) وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم (¬6). ولما ذكر عبدالله بن المبارك حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (¬7)؛ فقال فيه قائل: ما هذا؟ على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان - أي: كثيرو التشكي والكلام - أن نحدّث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلّما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا ونلزم الجهل أنفسنا (¬8). يقول إسماعيل الأصبهاني: أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصل الإيمان والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد ... (¬9). ¬

(¬1) انظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 74). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/ 270). (¬3) ((الإيمان)) (ص33، 34) باختصار. (¬4) رواه البخاري (1294). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. (¬5) رواه الترمذي (1919). من حديث أنس بن مالك. وقال فيه: هذا حديث غريب، ورواه أحمد (2/ 207) (6935). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. والحديث صححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2196). (¬6) ((السنة)) للخلال (3/ 579). (¬7) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (1/ 504 - 505). (¬9) ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 217).

- ومما يتضمنه الإيمان بالوعد والوعيد: الإيمان بالجنة والنار، وهو التصديق بوجودهما، وأنهما مخلوقتان موجودتان، لا تفنيان ولا تبيدان، وقد تواترت الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة في ذكرهما، وأوصافهما، وأحوالهما ... كما أجمع علماء الإسلام على ذلك وحكى الإجماع عدد كبير منهم، فنذكر طرفاً من أقوالهم فيما يلي: يقول أبو حنيفة النعمان: والجنة والنار مخلوقتان اليوم، لا تفنيان أبداً، ولا تموت الحور العين أبداً، ولا يفنى عقاب الله تعالى وثوابه سرمداً (¬1). ويقول أبو الحسن الأشعري: والجنة والنار حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور (¬2). ويقول ابن أبي حاتم الرازي: والجنة حق، والنار حق، وهما مخلوقتان لا تفنيان أبداً، فالجنة ثواب لأوليائه، والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم (¬3). يقول ابن أبي زيد القيرواني: وأن الله سبحانه قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه، وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم ... وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به، وألحد في آياته وكتبه ورسله، وجعلهم محجوبين عن رؤيته (¬4). ويقول ابن بطة: ثم الإيمان بأن الله عز وجل خلق الجنة والنار قبل خلق الخلق، ونعيم الجنة لا يزول، دائم أبداً في النضرة والنعيم، والأزواج من الحور العين، ولا يمتن ولا ينقصن ولا يهرمن، ولا ينقطع ثمارها ونعيمها، كما قال عز وجل: أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا [الرعد:35]، وأما عذاب النار فدائم أبداً، وأهلها فيها مخلدون خالدون من خرج من الدنيا غير معتقد للتوحيد ولا متمسك بالسنة (¬5). ويقول ابن حزم: وأن كل ما في القرآن من خبرٍ عن نبيٍ، أو عن المعاد، أو عن أمةٍ من الأمم، أو عن المسخ فعلى ظاهره، لا رمز في شيء من ذلك، ولا باطن ولا سرّ، وكذلك كلّ ما فيه من أمور الجنة من أكلٍ وشربٍ، وجماعٍ، والحور العين، والولدان المخلدين، ولباسٍ، وعذابٍ في النار بالزقوم، والحميم، والأغلال. وغير ذلك، فكله حقّ (¬6). ويقول ابن تيمية: الأكل والشراب في الجنة ثابت بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب، كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون، لم يخالف من المؤمنين بالله ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين: إما كافر، وإما منافق (¬7). ويقول ابن القيم - في تقرير وجود الجنة الآن -: لم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم وأهل السنة والحديث قاطبة وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك وإثباته، مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، فإنهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها (¬8). ¬

(¬1) ((الفقه الأكبر)) (ص6). (¬2) ((الإبانة)) (ص21). (¬3) ((أصل السنة واعتقاد الدين)) (ضمن روائع التراث) (ص21). (¬4) ((مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني)) (ص7). (¬5) ((الإبانة الصغرى)) (ص206 - 209). (¬6) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص221). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 313). (¬8) ((حادي الأرواح)) (ص17).

- وإذا تقرر وجوب الإيمان بالوعد والوعيد، ومنه الإيمان بالجنة والنار ... فإن ما يناقض هذا الإيمان له عدة صور وأمثلة؛ فمنها: إنكار الوعد والوعيد – ومنه: إنكار الجنة والنار -، والقول بأن الوعد والوعيد تخييل للحقائق لكي ينتفع به الجمهور ... كما يقول به ملاحدة الفلاسفة. ومن صور هذا الإنكار والاستهزاء، ما يدعيه ملاحدة المتصوفة أن الجنة أو النار معانٍ باطنةٍ يقصد بها نعيم الأرواح أو تألمها فقط ... أو ما يزعمه بعضهم أن أهل النار يتنعمون في النار، كما يتنعم أهل الجنة في الجنة ... ، ومن صور هذا الكفر: السخرية بالوعد والوعيد والاستهزاء بهما ... إلى غير ذلك من الأمثلة (¬1). فمن أمثلة هذه النواقض: إنكار الوعد والوعيد والاستهزاء بهما، ووجه كونه ناقضاً عدة أمور منها ما يلي: أ- أن الإيمان بنصوص الوعد والوعيد يتضمن الإقرار بها وتصديقها، وإجلالها وإكرامها، وهذا الإنكار يناقض هذا الإيمان، فإنكار الجنة والنار - مثلاً - يناقض تصديق القلب، كما يناقض قول اللسان، والاستهزاء بنصوص الوعد الوعيد - ومنها: نصوص الجنة والنار - يناقض هذا الإجلال والتعظيم؛ لأنه يناقض عمل القلب الذي يوجب توقير وتعظيم نصوص الوعد والوعيد. ب- أن هذا الإنكار أو الاستهزاء بنصوص الوعد والوعيد تكذيب للقرآن الكريم، حيث فرض الله تعالى الإقرار بآياته، وتصديقها، وعدم اتخاذها هزواً، وأيضاً فإن الله تعالى قد حكم بالكفر على من جحد آياته، كما توعده بالعذاب المهين، وأخبر تعالى بأنه لا أحد أظلم ممن كذّب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة ... قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ [الأنعام:157]. وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]. وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الحج:57]. وقال عز وجل: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الجاثية:9] وقد سمى الله تعالى الاستهزاء بآياته كفراً فقال: قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة 65 - 66]. جـ- أن إنكار نصوص الوعد والوعيد وصرفها عن ظاهرها، أو الاستهزاء بها يتضمن طعناً في الأنبياء عليهم السلام، وتنقّصاً لهم، وأنهم ربما كذبوا لمصلحة الجمهور كما يزعم ملاحدة الفلاسفة، مع أن الأنبياء عليهم السلام صادقون مصدقون، قد بلغوا البلاغ المبين، وأقاموا الحجة على الناس، فهم أفضل الخلق عند الله تعالى، وأكمل الخلق علماً وعملاً، حيث اختصهم الله تعالى بوحيه واصطفاهم من بين سائر الناس. وإن الطعن في الأنبياء كفر وردة عن الإسلام بل إن الطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر، وجماع الضلالات كما قرره ابن تيمية. ¬

(¬1) انظر لتفصيل ذلك: ((الشفا)) لعياض (2/ 1068)، ((فتاوى ابن تيمية)) (4/ 314)، (13/ 279)، (14/ 161)، (16/ 242)، و ((الدرء)) (1/ 8, 9، 104)، (5/ 4، 241)، (10/ 270)، ((الصفدية)) (1/ 245).

يقول ابن تيمية عن هؤلاء الفلاسفة - في هذا الشأن -: فأهل التخييل هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف ومتفقه، فإنهم يقولون إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع بها الجمهور، لا أنه بيّن به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق. ثم هم على قسمين، منهم من يقول: إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون إن من الفلاسفة من علمها، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم الأولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين، وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية، ومنهم من يقول بل الرسول علمها، لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق. ويقول هؤلاء يجب على الرسول أن يخبر بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون، مع أن ذلك باطل؛ لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد ... (¬1). كما يذكر ابن تيمية أن في هذا الإنكار نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول ... (¬2) إضافة إلى ذلك، فإن هذا الإنكار أو الاستهزاء بنصوص الوعد والوعيد، هو تعطيل للشرائع وإبطال للأوامر والنواهي، وتلاعب بالنصوص الشرعية، وتشكيك فيها. د- أن هذا الإنكار أو الاستهزاء مخالف للإجماع، وتكذيب له، فقد أجمعوا على إثبات الوعد والوعيد والتصديق به، وأجمعوا أيضاً على تكفير منكره أو المستهزئ به، كما سنذكره الآن. يقول ابن عبد البر: وأما الإقرار بالجنة والنار فواجب مجتمع عليه، ألا ترى أن ذلك مما يكتب في صدور الوصايا مع الشهادة بالتوحيد، وبالنبي صلى الله عليه وسلم (¬3). ويقول القاضي عياض: وكذلك من دان بالوحدانية وصحة النبوة، ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به، ادّعى في ذلك مصلحة بزعمه أو لم يدَّعها فهو كافر بإجماعٍ، كالمتفلسفين وبعض الباطنية، وغلاة المتصوفة، وأصحاب الإباحة؛ فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع وأكثر ما جاءت به الرسل من الإخبار عما كان ويكون من أمور الآخرة والحشر والقيامة، والجنة والنار، وليس منها شيء على مقتضى التصريح لقصور أفهامهم، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع، وتعطيل الأوامر والنواهي، وتكذيب الرسل والارتياب فيما أتوا به (¬4). ويقول أيضاً:- وكذلك من أنكر الجنة، أو النار، أو البعث، أو الحساب، أو القيامة فهو كافر بإجماعٍ للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً، وكذلك من اعترف بذلك، ولكنه قال: إن المراد بالجنة، والنار، والحشر، والنشر، والثواب، والعقاب معنى غير ظاهره، وأنها لذَّات روحانية، ومعانٍ باطنة (¬5). ويقول ابن حزم: وأن البعث حقّ، والحساب حقّ، والجنة حقّ، والنار حقّ، داران مخلوقتان مخلدتان، هما ومن فيهما بلا نهاية، يجمع الله تعالى يوم القيامة بين الأرواح والأجساد، كل هذا إجماع أهل الإسلام، من خرج عنه خرج عن الإسلام (¬6). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 31, 32) باختصار. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (5/ 241). (¬3) ((التمهيد)) (12/ 190, 191). (¬4) ((الشفا)) (2/ 1068). (¬5) ((الشفا)) (2/ 1077). (¬6) ((الدرة)) (ص207).

ويقول أيضاً: وأن كل ما في القرآن من أمور الجنة من أكلٍ وشربٍ وجماعٍ، والحور العين، والولدان المخلدين، ولباسٍ وعذابٍ في النار بالزقوم والحميم، والأغلال وغير ذلك فكله حق ... فمن خالف شيئاً من هذا فقد خرج عن الإسلام، لخلافه القرآن والسنن والإجماع (¬1). ويحكي ابن حزم الإجماع قائلاً: وأن الجنة حق، وأنها دار نعيم أبداً لا تفنى، ولا يفنى أهلها بلا نهاية، وأنها أعدت للمسلمين والنبيين المتقدمين، وأتباعهم على حقيقة، كما أتوا به قبل أن ينسخ الله أديانهم بدين الإسلام. وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية وأنها أُعدّت لكل كافر مخالف لدين الإسلام ... (¬2). ويقول البقاعي: اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية وإجماع المسلمين أن قول الله حق، وخبره صدق، ذلك واجب له لذاته سبحانه وتعالى، ومن أنكر أن خبر الله حق، أو أن وعده ووعيده صدق فهو كافر بإجماع المسلمين (¬3). ومما قاله الشوكاني في هذه المسألة: علماء الملّة الإسلامية مجمعون على ذلك (يعني على إثبات المعاد الجسماني، وإثبات اللذات الجسمانية والنفسانية في الجنة ... )، لا يخالف منهم فيه مخالف، ونصوص القرآن من فاتحته إلى خاتمته مصرحة بإثبات المعاد الجسماني، وإثبات تنعم الأجسام فيه بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها بما اشتمل عليه القرآن من تلك الأنواع المذكورة فيه، وهكذا النصوص النبوية المحمدية مصرحة بذلك تصريحاً يفهمه كل عاقل، بحيث لو جمع ما ورد في ذلك منها لجاء مؤلفاً بسيطاً (¬4). - والآن نسوق جملة من أقوال أهل العلم في تكفير منكر الوعد أو الوعيد، أو المستهزئ بهما ... فذكر ابن نجيم كفر من أنكر الجنة أو النار أو الحساب، كما يكفر من أنكر الوعد والوعيد (¬5). وجاء في (الفتاوى البزازية): أو أنكر وعداً أو وعيداً يكفر، إذا كان الجزاء ثابتاً بالقطع (¬6). ويقول محمد بن إسماعيل الرشيد: واعلم أن من أنكر القيامة، أو الجنة، أو النار، أو الصراط، أو الحساب، أو الصحائف المكتوبة فيها أعمال العباد كفر ... (¬7). وكفّر أبو حامد الغزالي من زعم أن الجنة لذة روحية، وأن النار شقاء نفسي ... ثم قال: والذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف في تكفير من يعتقد شيئاً من ذلك؛ لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع، والجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها، فوصف الجنة والنار لم يتفق ذكره مرة واحدة أو مرتين، ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوّز، بل بألفاظ صريحة لا يتمارى فيها ولا يُستراب (¬8). وقال الشربيني: ويكفر إن أنكر الجنة، أو النار، أو الحساب، أو الثواب، أو العقاب، أو أقر بها لكن قال: المراد بها غير معانيها (¬9). ويقول ابن تيمية: وقد يقول حذّاق هؤلاء من الإسماعيلية والقرامطة، وقوم يتصوفون، أو يتكلمون وهم غالية المرجئة: إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة ... وهؤلاء هم الكفار برسل الله وكتبه واليوم الآخر، المنكرون لأمره، ونهيه، ووعده ووعيده (¬10). وذكر البهوتي أن ما مما يوجب الردة: السخرية بالوعد، أو الوعيد (¬11). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف –ص: 231 ¬

(¬1) ((الدرة)) (ص221) بتصرف يسير. (¬2) ((مراتب الإجماع)) (ص173)، وانظر: (ص176). (¬3) ((تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي)) (ص159). (¬4) ((إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع)) (ص19)، مع العلم أن للشوكاني كتاباً مستقلاً بعنوان ((المقالة الفاخرة في بيان اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة)) وهو غير مطبوع. انظر: ((الشوكاني مفسراً)) لمحمد الغماري (ص95). (¬5) انظر: ((البحر الرائق)) (5/ 129، 132). (¬6) ((البحر الرائق)) (3/ 323). (¬7) ((تهذيب ألفاظ الكفر)) (ص53)، وانظر: ((شرح الفقه الأكبر)) لملا علي قاري (ص297). (¬8) ((فضائح الباطنية)) (ص153). (¬9) ((مغنى المحتاج)) (4/ 136). وانظر: ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 175)، و ((الإعلام)) لابن حجر الهيتمي (ص357, 374). (¬10) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 150). (¬11) انظر: ((كشاف القناع)) (6/ 170).

الباب الخامس: نواقض الإيمان الأخرى

تمهيد إن المعلوم من الدين بالضرورة منه ما هو مشترك بين جميع أفراد الأمة، علماء وعامة، ومنه ما هو مختص بالعلماء فقط، بحيث يكون معلوماً لهم بالضرورة، ولا يكون كذلك لمن هم دونهم في العلم كالعامة مثلاً. إلا أن ما درج عليه الاستعمال الاصطلاحي هو النوع الأول، وهو ما لا يسع أحداً جهله، بحيث يعلمه العالم والعامي على حد سواء. ولهذا وجب التفصيل في هذه المسألة عندما نريد أن نحدد مدى العذر بالجهل بهذا المعلوم من الدين بالضرورة، كما يجب تحديد الأحوال التي تكون فيها الشريعة معلومة لدى الناس بالاضطرار من دين الإسلام، والأحوال التي لا تكون فيها كذلك، وهذا يرتبط بمسألة قيام الحجة من عدمه. وعليه فإن إطلاق القول بأن المعلوم من الدين بالضرورة أمر قد قامت به الحجة على جميع الناس، فلا يسعهم جهله ومن ثمة مخالفته، فهذا قول غير دقيق ويحتاج إلى مراجعة وتأمل. كما أن مساواة المسائل المعلومة من الدين بالضرورة بغيرها من المسائل الخفية في إثبات العذر بجهلها، رغم ظهور الأولى وانتشارها وبغير النظر إلى حال الجاهل ومكانه وزمانه، فهذا أيضاً غير مستقيم. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 491

المطلب الأول: تنوع المعلوم من الدين بالضرورة

المطلب الأول: تنوع المعلوم من الدين بالضرورة إن المعلوم من الدين بالضرورة يتنوع بتنوع متعلقه من المسائل والأشخاص والأزمنة والأمكنة، ولذلك يختلف حكم جاحده أو جاهله باختلاف ذلك وتنوعه. فالمسائل الظاهرة المتواترة تكون في الجملة معلومة للناس من الدين بالضرورة، سواء كانت مسائل الوجوب أو مسائل التحريم، فلابد أن تكون ظاهرة ومتواترة حتى يمكن اعتبارها من المعلوم من الدين بالضرورة. ومما يندرج تحت هذا النوع جميع الواجبات الظاهرة المتواترة، وجميع المحرمات تحريماً ظاهراً متواتراً. وهذا الذي عبر عنه الإمام الشافعي بقوله (علم العامة)، ثم عرفه بأنه: (مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر. وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه، ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه. وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله، موجود عامّ عند أهل الإسلام، ينقله عوامّهم عمن مضى من عوامّهم، يحكونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتنازعون في حكايته، ولا وجوبه عليهم. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر والتأويل، ولا يجوز فيه التنازع) (¬1). وقال شيخ الإسلام – حاكياً اتفاق الصحابة على قتل من استحل الخمر -: (وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبر واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب، وإلا قتل) (¬2). وقد بنى أهل العلم على كون المعلوم من الدين بالضرورة – عند الإطلاق – ظاهراً ومشتهراً، والناس من العلم به سواء بنوا على هذا قولهم في تكفير جاحده، وفي منع التقليد فيه (¬3). قال الإمام النووي رحمه الله: (وإن جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة، حكم بردته وكفره، وكذا من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة) (¬4). وقال الإمام الخطابي رحمه الله: (وكذلك الأمر – يعني في التكفير وعدم العذر – في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت عليه الأئمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام) (¬5). وقال الإمام الزركشي رحمه الله عند حديثه عما يجوز فيه التقليد وما لا يجوز: (العلوم نوعان: نوع يشترك في معرفته الخاصة والعامة، ويعلم من الدين بالضرورة كالمتواتر، فلا يجوز التقليد فيه لأحد، كعدد الركعات، وتعيين الصلاة، وتحريم الأمهات والبنات، والزنا واللواط، فإن هذا مما لا يشق على العامي معرفته ولا يشغله عن أعماله) (¬6). ¬

(¬1) ((الرسالة)) للإمام الشافعي (ص: 357 - 359). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 405). (¬3) انظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 283)، و ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/ 1009)، ((حاشية العطار على جمع الجوامع)) (2/ 238). (¬4) ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 100). (¬5) ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 173). (¬6) ((البحر المحيط)) (6/ 283).

كما أن المعلوم من الدين بالضرورة هو من الأمور النسبية الإضافية، حيث إنه يختلف كونه علماً ضرورياً باختلاف الأشخاص من حيث العلم أو العامية، أو حداثة العهد بالإسلام، أو النشوء ببادية بعيدة. قال الإمام ابن الوزير رحمه الله: ("النوع الثاني" ما لا يعرف تواتره إلا الخاصة، فلا يكفر مستحله من العامة، لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل تحريم الصلاة على الحائض إلى أمثال لذلك كثيرة ... ) (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كون الشيء معلوماً من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلاً عن كونه يعلمه بالضرورة. وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، وأكثر الناس لا يعلمه البتة) (¬2). كما أن المعلوم من الدين بالضرورة يختلف كونه كذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة من حيث ظهور آثار الرسالة أو دروسها. (فالمعلوم من الدين بالضرورة في الأزمنة (والأمكنة) التي تشرق فيها شمس الشريعة، ويكثر فيها العلماء العاملون الذين يبلغون دين الله ويقيمون الحجة على عباد الله، غير المعلوم من الدين بالضرورة إذا غابت شمس الشريعة، وكان العلماء علماء سوء يلبسون على الناس دينهم، وأهل الحق قليلون، وصوتهم لا يصل إلى الناس كلهم) (¬3). فما يجب اعتباره في هذا المقام اختلاف الديار بين دار الإسلام التي هي مظنة لظهور أحكام الإسلام، ودار الكفر التي ليست مظنة لذلك. واختلاف الأمكنة بين مكان يشيع فيه العلم، وبادية بعيدة على العلم، وأمكنة يشيع فيها العلم الصحيح، وأخرى تخيم عليها الضلالة والانحراف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر ... ) (¬4). الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 492 ¬

(¬1) ((العواصم والقواصم)) (4/ 174). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 118). (¬3) ((العذر بالجهل والرد على بدعة التكفير)) لأحمد فريد (ص: 17). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 407).

المطلب الثاني: حكم الجهل بالمعلوم من الدين بالضرورة

المطلب الثاني: حكم الجهل بالمعلوم من الدين بالضرورة إنَّ لاختلاف العلم بمسائل الدين ضرورة أثرا قويًّا في اختلاف الحكم على من خالف هذا المعلوم من الدين بالضرورة، إما بجحده، أو بمخالفته. وفيما يلي سأذكر أهم هذه الأحكام مدعما إياها بأقوال أهل العلم: 1 - أن الأحكام الظاهرة والمتواترة، سواء كانت واجبات أو محرمات، إذا كانت كذلك في دار الإسلام، والعلم بها منتشر بين جميع الناس، لا فرق في ذلك بين عالم أو عامي، فإنها تكون من قبيل المعلوم من الدين بالضرورة الذي لا يسع أحداً من المسلمين جهله. وجاحده كافر بلا نزاع بين أهل العلم، والمخالف له بالترك إن كان واجبا، فيعاقب بقدر مخالفته وإن كان حراماً فعله، فكذلك يعاقب على ذلك الفعل. وعلى هذا المعنى يحمل أقوال العلماء في تكفير جاحد المعلوم من الدين بالضرورة، كقول الإمام النووي، وقول الإمام الخطابي، وقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد تقدمت جميعاً. ومن الأقوال في هذا المعنى ما ذكره الإمام ابن قدامة رحمه الله بقوله: (وأما الجاحد لها ناشئاً في الأمصار بين أهل العلم، فإنه يكفر بمجرد جحدها. وكذلك الحكم في. مباني الإسلام كلها، وهي الزكاة والصيام والحج؛ لأنها مبادئ الإسلام وأدلة وجوبها لا تكاد تخفى؛ إذ كان الكتاب والسنة مشحونين بأدلتها، والإجماع منعقد عليها، فلا يجحدها إلا معاند للإسلام يمتنع من التزام الأحكام، غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته ... ) (¬1). 2 - أن المعلوم للخاصة من الدين بالضرورة، يعذر جاهله من العامة إذا خالفه باستحلال أو جحود؛ لأنه من أخبار الخاصة التي ليست تبلغها العامة، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، ولهذا تكون مسائل هذا النوع من العلم غير معلومة بالكلية للعوام، فضلاً عن أن تكون معلومة لهم بالضرورة. فجاهل هذا النوع من العلم وإن كان معلوماً من الدين بالضرورة عند الإطلاق، معذور حتى يعلمه؛ لأنه خاص بالعلماء، لذلك لم يكن موسعاً لمن كان عالماً في جهله ومخالفته إذا كان مثله لا يجهله، وقد تقدم كلام الإمام ابن الوزير على هذه المسألة. وقال الإمام الخطابي رحمه الله: (أما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة) (¬2). 3 - أن من نشأ في بادية بعيدة عن حاضرة العلم والعلماء، أو كان حديث عهد بالإسلام، فإنه يعذر بجهل المعلوم من الدين بالضرورة عند غيره ممن ليسوا حديثي عهد بالإسلام، ويعيشون بين أهل العلم والدعوة؛ لأن في عدم عذره بجهله هذا النوع من العلم تكليفاً له بما لا يطيق في هذه الحالة، وهذا فيه من المشقة ما فيه. وقد علم أن القاعدة في مثل هذه الأحوال أن المشقة تجلب التيسير، ومن التيسير عليه في هذه الحالة عذره بالجهل حتى يتعلم وتقام عليه الحجة القاطعة للعذر. وهذا الحكم قد نقل الاتفاق عليه بين العلماء، وهذه جملة من أقوالهم: ¬

(¬1) ((المغني)) (2/ 46 - 48). (¬2) ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 173).

قال الإمام الخطابي رحمه الله: (هل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا عن أدائها، يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قلنا: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان، كان كافراً بإجماع المسلمين. والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها قرب العهد بزمان الشريعة التي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، ومنها أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريباً، فدخلتهم الشبهة فعذروا. فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها. وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام، إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئاً منه جهلاً به، لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه) (¬1). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله عند كلامه عمن جحد وجوب الصلاة: (لا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحداً لوجوبها، إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك. فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام والناشئ بغير دار الإسلام، أو بداية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم، لم يحكم بكفره، وعرف ذلك وتثبت له أدلة وجوبها، فإن جحدها بعد ذلك كفر ... وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك، وتزول الشبهة ويستحله بعد ذلك) (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول) (¬3). وقال أيضاً رحمه الله: (ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر محرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية) (¬4). والخلاصة: أن الحكم في مسألة المعلوم من الدين بالضرورة ومدى العذر بجهله ليس مطرداً، بل مجاله التفصيل على النحو الذي مر معنا؛ نظراً لاختلاف مناط الحكم بحسب الأحوال المعلقة بالمسائل العلمية، أو بالأشخاص ما بين علماء وعامة وحديث عهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة، أو بالأمكنة والأزمنة من حيث ظهور العلم وانتشاره أو دروسه وقلة حملته على الوجه الصحيح – والله تعالى أعلم. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر معاش – ص: 496 ¬

(¬1) ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 173). (¬2) ((المغني)) (2/ 46 - 48). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 407). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (11/ 407).

المطلب الثالث: إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة

المطلب الثالث: إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة فالإنكار بمعنى الجحود، وعدم الاعتراف وانتفاء الإقرار، والمقصود بحكم معلوم من الدين بالضرورة: ما كان ظاهراً متواتراً من أحكام الدين معلوماً عند الخاص والعام، مما أجمع عليه العلماء إجماعاً قطعياً مثل وجوب أحد مباني الإسلام كالصلاة والزكاة ونحوهما، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة مثل: الربا والخمر وغيرهما (¬1). ومن المعلوم أن الإيمان قائم على تصديق حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أهم هذه الأحكام وآكدها: الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة ... ولذا يقول ابن تيمية: إن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق (¬2). ويقول - في موضع آخر -: الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره (¬3). وهكذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة، والذي يعتبر منكره كافراً، له قيود يمكن معرفتها وتحديدها من خلال ما سنورده من كلام أهل العلم فيما يلي: فهذا الشافعي يبيّن أن من الأحكام ما هو معلوم عند العامة فضلاً عن الخاصة فلا يسعهم جهله فيقول: العلم علمان: علم عامةٍ لا يسع بالغاً غير مغلوبٍ على عقله جهله، مثل: الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كلّف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عما حرم عليهم منه. وهذا الصنف كله من العلم موجوداً (¬4) نصاً في كتاب الله، وموجوداً عاماً عند أهل الإسلام، ينقله عوامهم عن من مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، لا يجوز فيه التنازع (¬5). ويقول - في موضع آخر -: أما ما كان نص كتاب بيّن، أو سنة مُجتمع عليها فالعذر مقطوع، ولا يسع الشك في واحدٍ منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب (¬6). ¬

(¬1) ما يجدر التنبيه عليه أن إنكار حكم معلوم من الدين له أمثلة كثيرة - منها ما قد سبق إيراده في الفصول الماضية - سواء كانت أمثلة علمية أو عملية ... منها: توحيد الله تعالى وتنزيهه عن النقص والولد والشريك في تدبير الكون أو العبادة، وإثبات البعث، وختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم ... ونحو ذلك. انظر: ((فتاوى محمد رشيد رضا)) (6/ 2539)، وتعليقه على ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 517)، و ((إكفار الملحدين)) لمحمد الكشميري (ص2، 3). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (12/ 497)، وانظر: ((الاستقامة)) (2/ 186، 194). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/ 372). (¬4) موجوداً: جاءت منصوبة على أنها مفعول لفعل محذوف، تقديره: تجده، أو تراه. انظر: تعليق أحمد شاكر في ((الرسالة)) (ص358). (¬5) ((الرسالة)) (ص357 - 359) بتصرف يسير. (¬6) ((الرسالة)) (ص460)، وانظر: (ص478).

ويقرر النووي أن هذه الأحكام ثابتة بالإجماع المعلوم عند العامة فيقول: فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ... فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً عن طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذّر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة (¬1). ويقول - في كتاب آخر -: أطلق الإمام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعاً عليه فيه نص، وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو تحريم الخمر أو الزنا ونحو ذلك فهو كافر، ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة فليس بكافر ... (¬2). ويؤكد ابن دقيق العيد على ما قرره النووي، وأن الإجماع الذي يكفر منكره، إنما يكفر لتعلقه بمخالفة النص الظاهر المتواتر، فيقول: فالمسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلاً، وتارة لا يصحبها التواتر، فالقسم الأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر، لا لمخالفته الإجماع، والقسم الثاني لا يكفر به (¬3). كما أننا نجد القرافي قد جعل منكر الإجماع كافراً، لكن بشرط أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين فقال: ولا يعتقد أن جاحد ما أُجمع عليه يكفر على الإطلاق، بل لابد أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين حتى صار ضرورياً، فكم من المسائل المجمع عليها إجماعاً لا يعلمه إلا خواص الفقهاء، فجحْدُ مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفراً ... (¬4). ولابن تيمية كلام قريب مما سبق إيراده عندما قال: وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع: هل يكفر؟ على قولين. والتحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به، وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألةٍ لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره (¬5). وهكذا نلحظ في عبارة ابن تيمية أنه ينفي ثبوت إجماع معلوم في مسألة لا نص فيها ... ولذا يقول في موضع آخر: فلا يوجد قَطّ مسألة مجمع عليها، إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به (¬6). ويقيد العراقي - موافقة لمن مضى ذكرهم - كفر منكر الإجماع بقوله: والصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما علم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر (¬7). ¬

(¬1) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 205). (¬2) ((روضة الطالبين)) (2/ 146)، وانظر: (10/ 65)، وانظر: ((المجموع)) (3/ 16). (¬3) ((إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام)) (4/ 84). (¬4) ((الفروق)) (4/ 117)، وانظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 797). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 269، 270)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 38، 39)، وانظر: ((إيثار الحق)) لابن الوزير (ص427). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 195)، وانظر: (19/ 200 - 202)، وللشافعي في ((الرسالة)) كلام بهذا المعنى (ص471). (¬7) ((فتح الباري)) (12/ 202).

ويوضح ابن الوزير المقصود بالإجماع الذي يعتبر مخالفه كافراً فيقول: اعلم أن الإجماعات نوعان: أحدهما: صحته بالضرورة من الدين بحيث يكفر مخالفه، فهذا إجماع صحيح ولكنه مستغنى عنه بالعلم الضروري من الدين، وثانيها: ما نزل عن هذه المرتبة، ولا يكون إلا ظناً، لأنه ليس بعد التواتر إلا الظن، وليس بينهما في النقل مرتبة قطعية بالإجماع (¬1). - وإذا اتضح مفهوم إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، فإننا نشير إلى أن هذا الإنكار له عدة صور وأمثلة، فربما كان إنكاراً صريحاً ظاهراً كأن يقول - مثلاً - بإنكار وجوب الصلاة أو الزكاة ... أو يقول بحل الربا، أو الخمر ... أو يقول بتحريم ما كان حلالاً بالإجماع كالخبز والماء ونحوهما ... ، وقد يكون الإنكار عن طريق تأويلٍ فاسدٍ غير سائغٍ تأباه اللغة العربية، كتأويل الباطنية القائلين: أن الفرائض: أسماء رجال أُمروا بولايتهم، والمحرمات: أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم، فقد أجمع العلماء على كفر أصحاب تلك المقالة (¬2)، وكذلك ما يزعمه ملاحدة الصوفية أن من وصل إلى درجة اليقين فقد سقطت عنه التكاليف (¬3). ومما يلحق بهذا الإنكار - في الحكم بالكفر - أن يعترف شخص ما بهذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة ... لكنه يعلن عدم قبوله لهذا الحكم، ويأبى أن يذعن لله تعالى، ويرفض الانقياد لهذا الحكم عناداً واستكباراً، وقد فصّل ابن تيمية هذه المسألة تفصيلاً شافياً فقال: إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه، فهذا ليس بكافرٍ، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه، أو أنه حرمه، لكن امتنع من قبول هذا التحريم، وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفّره الخوارج، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدّقاً بأن الله ربه، فإن معاندته له ومحادّته تنافي هذا التصديق. وبيان هذا أن من فعل المحارم مُسْتَحلاً فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارةً بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهو يكون لخللٍ في الإيمان بالربوبية، ولخللٍ في الإيمان بالرسالة، ويكون جحداً محضاً غير مبنيٍ على مقدمةٍ، وتارةٍ يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء، إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس؛ وحقيقته كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك، ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقرّ بذلك، ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع ... (¬4). ¬

(¬1) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص168)، وانظر: ((العواصم والقواصم)) لابن الوزير (4/ 171، 174، 178). (¬2) انظر: ((الشفا)) لعياض (2/ 73). (¬3) انظر: ((الشفا)) لعياض (2/ 73)، و ((مجموع الفتاوى ابن تيمية)) (5/ 82)، و (10/ 434، 435)، و ((العبودية)) لابن تيمية (ص65)، و ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/ 207). (¬4) ((الصارم المسلول)) (ص521، 522)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/ 96).

وبهذا يعلم أن مما يعد كفراً ويلحق بإنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، أن لا يقبل حكم الله تعالى، مع علمه بأنه حكم الله تعالى واعترافه به، فهو يأبى ويمتنع من قبول هذا الحكم، ولذا قال إسحاق بن راهويه: وقد أجمع العلماء أن من دفع شيئاً أنزله الله ... وهو مع ذلك مُقرّ بما أنزل الله أنه كافر (¬1). فمناط الكفر - هاهنا - هو الترك والرد والإباء، لا عدم التصديق، ولهذا قرن الله تعالى في كتابه كفر التولي بكفر التكذيب؛ لأنه غيره كما قال سبحانه: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31 - 32]. وقال تعالى: لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:15 - 16]. -والآن نورد بعض الاعتبارات التي جعلت إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان: أ- إن هذا الإنكار افتراءً على الله سبحانه، ولا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً ممن افترى على الله تعالى كذباً، كما قال سبحانه:- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]. ويقول عز وجل: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:17]. وقال عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ [يونس:59 - 60]. ويقول سبحانه: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:115 - 117] يقول ابن كثير في تفسير تلك الآيات الأخيرة: ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم؛ فقال: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئاً مما حرم الله، أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه ... ثم توعّد على ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ أي: في الدنيا ولا في الآخرة (¬2)، وأما في الدنيا فمتاع قليل وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ... (¬3). ¬

(¬1) ((التمهيد)) (4/ 226) بتصرف يسير. وانظر: ((فتاوى محمد رشيد رضا)) (5/ 1752). (¬2) وكما قال الشنقيطي: الفلاح لا يُنفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر. ((أضواء البيان)) (4/ 242). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 570).

كما أن إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة اعتراض على شرع الله تعالى، ومشابهة للمشركين القائلين إنما البيع مثل الربا، ولذا يقول ابن تيمية: معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بـ (الملل والنحل) ما معناه: أصل كل شر هو من معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع (¬1)، وهو كما قال ... (¬2). إضافة إلى ذلك فهذا الإنكار طعن في ربوبية الله تعالى وأسمائه وصفاته، فتصديق أحكام الله تعالى والإقرار بها من مقتضيات إثبات الربوبية لله تعالى وحده، فحقيقة الرضا بالله تعالى رباً يتضمن الإقرار بأمره تعالى الشرعي والكوني، كما قال سبحانه أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]. وهذا الإنكار مناقض لأصل الرضا بربوبية الله عز وجل. كما أنه طعن في أسماء الله تعالى وصفاته، فهذا الإنكار يناقض إثبات كمال العلم لله تعالى، وينافي كمال حكمته عز وجل، ولذا قال ابن تيمية: وتارةً يعلم أن الله حرّمها، ويعلم أن الرسول إنما حرّم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أنّ من لم يلتزم التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته ... (¬3). ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]: وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا، ويحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم، أي: على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل (¬4). ب- أن الإيمان يتضمن الإقرار والتصديق، وهذا الإنكار تكذيب وجحود، فهو يناقض الإيمان ولا يجامعه، فإن إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة تكذيب لآيات كتاب الله عز وجل، وقد أمر الله تعالى بتصديق آياته، والإقرار بها، كما حكم الله تعالى بالكفر على من جحد آياته وأنكرها، وتوعدهم بالعذاب المهين (¬5)، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة. فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]. وقال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الحج:57]. وقال تعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ [العنكبوت: 47]. وقال تبارك وتعالى: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:27 - 28] ¬

(¬1) انظر: ((الملل والنحل)) (1/ 16). (¬2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 204). (¬3) ((الصارم المسلول)) (ص522). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 309). (¬5) قال ابن تيمية: ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكافر. ((الصارم المسلول)) (ص52). وانظر: ((العواصم)) لابن الوزير (9/ 299، 304).

جـ- إن هذا الإنكار تكذيب ظاهر للأحاديث الصريحة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو طعنٌ في مقام الرسالة، وكما قال ابن تيمية: والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارةً بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ولخلل في الإيمان بالرسالة ... (¬1). وقد قرر العلماء أن من ردّ حديثاً صحيحاً، أو كذّبه فهو كافر. حتى قال إسحاق بن راهويه: من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقرّ بصحته، ثم رده بغير تقية فهو كافر (¬2). ويقول ابن بطة: لو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئاً واحداً كان برد ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء (¬3). وقال ابن الوزير: إن التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديثه كفر صريح (¬4). فإذا كان هؤلاء العلماء الأجلاء قد كفّروا من كذّب بحديثٍ واحدٍ، فكيف بحال مُنْكِر الأحاديث المتواترة؟ ويدل على ما سبق حديث البراء بن عازب رضي الله عنه حيث قال: مر بي عمي (وفي رواية: خالي) الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فسألته، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب عنق رجل تزوج امرأة أبيه (¬5). فمن المعلوم قطعاً تحريم نكاح زوجات الآباء إجماعاً، ولذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل من تزوج امرأة أبيه؛ لأنه مرتد عن الإسلام، قال تعالى: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً [النساء:22]. يقول ابن كثير - عن هذا النكاح -: فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال (¬6). ويقول ابن جرير في شرح حديث البراء: وكان الذي عرّس بزوجة أبيه متخطياً بفعله حرمتين، وجامعاً بين كبيرتين من معاصي الله، إحداهما: عقد نكاح على من حرم الله عقد النكاح عليه بنص تنزيله بقوله: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء [النساء:22]. والثانية: إتيانه فرجاً محرماً عليه إتيانه، وأعظم من ذلك تقدمه على ذلك بمشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلانه عقد النكاح على من حرم الله عليه عقده عليه بنص كتابه الذي لا شبهة في تحريمها عليه وهو حاضره، فكان فعله ذلك من أدل الدليل على تكذيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما آتاه به عن الله تعالى، وجحوده آية محكمة في تنزيله ... فكان بذلك من فعله حكم القتل وضرب العنق، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وضرب عنقه؛ لأن ذلك كان سنته في المرتد عن الإسلام (¬7). ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص521). (¬2) ((الإحكام)) لابن حزم (1/ 89). (¬3) ((الإبانة)) (ص211). (¬4) ((العواصم والقواصم)) (2/ 374). (¬5) رواه أبو داود (4457)، والترمذي (1362)، والنسائي (6/ 109)، وابن ماجه (2607)، وأحمد (4/ 292) (18602)، والحاكم (2/ 208). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث البراء حديث حسن غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (762) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/ 285): أسانيده كثيرة منها ما رجاله رجال الصحيح. وقال أحمد شاكر في ((المسند)) (1/ 479): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬6) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 444). وانظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/ 91 - 92). (¬7) ((تهذيب الآثار)) (2/ 148). وانظر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (4/ 598).

وقال الشوكاني: والحديث فيه دليل على أنه يجوز للإمام أن يأمر بقتل من خالف قطعياً من قطعيات الشريعة كهذه المسألة، فإن الله تعالى يقول: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء [النساء:22]، ولكنه لا بد من حمل الحديث على أنّ ذلك الرجل الذي أمر صلى الله عليه وسلم بقتله عالم بالتحريم وفعله مستحلاً، وذلك من موجبات الكفر (¬1). - أجمع العلماء على تكفير من أنكر حكماً معلوماً من الدين بالضرورة، وقد حكى هذا الإجماع عدد كثير من أهل العلم، نذكر منهم ما يلي: يقول ابن عبد البر: وقد أجمعوا على أن مُستحل خمر العنب المسكر كافر رادٌّ على الله عز وجل خبره في كتابه، مرتد يستتاب، فإن تاب ورجع عن قوله، وإلا استبيح دمه كسائر الكفار (¬2). ويقول أيضاً: قال إسحاق بن راهويه: قد أجمع العلماء أن من سبّ الله عز وجل، أو سبّ رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقرٌّ بما أنزل الله، أنه كافر (¬3). ويقول القاضي عياض: وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنا مما حرم الله، بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة الصوفية. وكذلك نقطع بتكفير كل من كذّب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عُرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول، ووقع الإجماع المتَّصل عليه، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات ... وكذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج: إن الصلاة طرفي النهار (¬4). ويقول ابن حزم: واتفقوا أن من آمن بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما أتى به عليه السلام، مما نقل عنه نقل الكافة، وشك في التوحيد، أو في النبوة، أو في محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أو في حرفٍ مما أتى به عليه السلام، أو في الشريعة التي أتى بها عليه السلام، مما نقل عنه نقل الكافة، فإن من جحد شيئاً مما ذكرناه، أو شك في شيءٍ منه، ومات على ذلك، فإنه كافر مشرك مخلد في النار أبداً (¬5). ويقول أيضاً: ولا خلاف بين اثنين من الأمة كلها أن من كفر بالصلاة، أو بالزكاة، أو بالحج، أو بالعمرة، أو بشيءٍ مما أجمع المسلمون عليه على أن الله تعالى بيّنه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ونصّ عليه من أعمال الشريعة فإنه كافر، حابط العمل (¬6). ويورد أبو يعلى هذا الإجماع بقوله: ومن اعتقد تحليل ما حرم الله بالنص الصريح من الله، أو من رسوله، أو أجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر، كمن أباح شرب الخمر، ومنع الصلاة والصيام والزكاة، وكذلك من اعتقد تحريم شيء حلله الله وأباحه بالنص الصريح، أو أباحه رسوله، أو المسلمون مع العلم بذلك فهو كافر كمن حرم النكاح والبيع والشراء على الوجه الذي أباحه الله عز وجل، والوجه فيه أن في ذلك تكذيباً لله تعالى، ولرسوله في خبره، وتكذيباً للمسلمين في خبرهم، ومن فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين (¬7). ويحكي ابن قدامة الإجماع في هذه المسألة فيقول: ومن اعتقد حلّ شيء أُجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة كلحم الخنزير، والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر ... وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك (يعني يكون كافراً) (¬8). ¬

(¬1) ((نيل الأوطار)) (8/ 322). (¬2) ((التمهيد)) (1/ 142 - 143). (¬3) ((التمهيد)) (4/ 226). (¬4) ((الشفا)) (2/ 1073). (¬5) ((مراتب الإجماع)) (ص177). (¬6) ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص337). (¬7) ((المعتمد في أصول الدين)) (ص271 - 272). (¬8) ((المغني)) (8/ 131).

ويورد ابن تيمية إجماع الصحابة والأئمة من بعدهم على هذه المسألة فيقول: اتفق الصحابة على أنّ من استحل الخمر قتلوه ... وهذا الذي اتفق عليه الصحابة، وهو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش، والظلم، والخمر، والميسر، والزنا وغير ذلك، أو جحد حلّ بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز، واللحم، والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل (¬1). ويقول أيضاً: والإنسان متى حلل الحرام - المجمع عليه - أو حرم الحلال - المجمع عليه - أو بدّل الشرع - المجمع عليه - كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء (¬2). وذكر ابن الوزير: إجماع الأمة على تكفير من خالف الدين المعلوم بالضرورة والحكم بردته (¬3). ويقول: واعلم أن أصل الكفر هو التكذيب المتعمد لشيءٍ من كتب الله تعالى المعلومة، أو لأحدٍ من رسله عليهم السلام، أو لشيءٍ مما جاؤا به، إذا كان ذلك الأمر المكذَّب به معلوماً بالضرورة من الدين، ولا خلاف أن هذا القدر كفر، ومن صدر عنه فهو كافر إذا كان مكلفاً مختاراً غير مختلّ العقل، ولا مكره، وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد ... (¬4) ويقول ملا علي قاري: لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، فإنه يستتاب فإن تاب منها، وإلا قتل كافراً مرتداً (¬5). - ونختم هذا المبحث بإيراد طرف من أقوال العلماء في هذه المسألة: يقول الإمام أحمد: ولا يخرج الرجل من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم أو بردّ فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها (¬6). ويقول البربهاري: ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يردّ آيةً من كتاب الله عز وجل، أو يردّ شيئاً من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم .. فإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام (¬7). ... ويقول ابن حزم: فمن أحلّ ما حرّم الله تعالى وهو عالمٌ بأن الله تعالى حرّمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه، وكل من حرّم ما أحلّ الله تعالى فقد أحلّ ما حرّم الله عز وجل؛ لأن الله تعالى حرّم على الناس أن يحرّموا ما أحل الله (¬8). ويقول ابن نجيم الحنفي: والأصل أن من اعتقد الحرام حلالاً، فإن كان حراماً لغيره كمالِ الغيْرِ لا يكفر، وإن كان لعينه فإن كان دليله قطعياً كفر، وإلا فلا، وقيل التفصيل في العالم، أما الجاهل فلا يُفرّق بين الحلال والحرام لعينه ولغيره، وإنما الفرق في حقه إنما كان قطعياً كفر به، وإلا فلا، فيكفر إذا قال: الخمر ليس بحرام، وقيده بعضهم بما إذا كان يعلم حرمتها، لا بقوله: الخمر حرام، ولكن ليست هذه التي تزعمون أنها حرام، ويكفر من قال: إن حرمة الخمر لم تثبت بالقرآن، ومن زعم أن الصغائر والكبائر حلال، وباستحلاله الجماع للحائض (¬9). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/ 404 - 405) باختصار. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/ 267 - 268). (¬3) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص116)، وانظر: (ص121، 138). (¬4) ((إيثار الحق على الخلق)) (ص415). (¬5) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص242). (¬6) ((طبقات الحنابلة)) (1/ 344). (¬7) ((شرح السنة)) للبربهاري (ص31). (¬8) ((الفصل)) (3/ 245). (¬9) ((البحر الرائق)) (5/ 132). وانظر: ((شرح الفقه الأكبر)) (ص226)، و ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص307).

وجاء في (الفتاوى البزازية): من اعتقد الحلال حراماً، أو على العكس يكفر (¬1). وقد ساق محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي ألفاظاً كثيرة من كتب الأحناف تتضمن هذا الإنكار، فمن ذلك قوله: وفي الظهيرية: ومن قيل له: كُلْ من الحلال، فقال: الحرام أحبّ إليَّ كفر، أو قال: يجوز لي الحرام كفر. وفي الجواهر: من قال: ليت الخمر أو الزنا، أو الظلم، أو قتل الناس كان حلالاً كفر، ومن أنكر حرمة الحرام المجمع على حرمته، أو شك فيهما كالخمر والزنا واللواطة والربا، أو زعم أن الصغائر والكبائر حلال كفر. وفي اليتيمية: من قال بعد استيقانه بحرمة شيء أو بحرمة أمر: هذا حلال كفر، ومن أجاز بيع الخمر كفر (¬2). وذكر الدردير أنه يكفر إذا أنكر مجمعاً عليه كوجوب الصلاة أو تحريم الزنا، أو حلّ مجمع على عدم إباحته، مما علم من الدين ضرورة بكتاب الله تعالى، أو سنة متواترة، فلا يكفر بإنكار إعطاء السدس لبنت الابن مع البنت وإن كان مجمعاً عليه لعدم علمه بالضرورة، ولا بإنكار خلافة علي رضي الله عنه ونحوه، أو وجود بغداد؛ لأنه ليس من الدين، ولا يتضمن تكذيب قرآن (¬3). وقيد النووي الكلام السابق - كما مضى ذكره مفصلاً (¬4) - فذكر أن من جحد مجمعاً عليه معلوم من دين الإسلام ضرورة فهو يكفر إن كان فيه نص. وذكر الشربيني أن من حلل محرماً بالإجماع كفر، كمن استحل الزنا واللواط والظلم وشرب الخمر، ومن هذا لو اعتقد حقّيّة المكس، مع حرمة تسميته حقاً. ويكفر - كما قرر الشربيني - فيما لو حرم حلالاً بالإجماع كالبيع والنكاح، أو نفى وجوب مجمع عليه كوجوب ركعة من الصلوات الخمس، كما يكفر إذا اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كزيادة ركعة من الصلاة المفروضة، أو وجوب صوم يوم من شوال (¬5). ثم قال الشربيني: لو قال أو نفى مشروعية مُجْمَعٍ عليه، لشمل إنكار المجمع على ندبه، فقد صرح البغوي في تعليقه: بتكفير من أنكر مجمعاً على مشروعيته من السنن كالرواتب وصلاة العيدين، وهو لأجل تكذيب التواتر ... (¬6). وقال عميرة: ويكفر إذا حلل محرماً بالإجماع لحديث معاوية بن قرة عن أبيه: ((أنه صلى الله عليه وسلم بعث أباه إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه، وأصفي ماله)) (¬7)، وحمل هذا على أنه استحلّ ذلك، ويكفر إذا نفى وجوب مجمع عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((والتارك لدينه المفارق للجماعة)) (¬8)، (¬9). وقال قليوبي: ويكفر إذا حلل محرماً بإجماع الأئمة الأربعة - وكذا العكس -، ولابد من كونه معلوماً بالضرورة فخرج إنكار أنّ لبنت الابن السدس مع بنت الصلب، فلا يكفر به ولو من عالم به خلافاً لبعضهم ... (¬10). ¬

(¬1) ((الفتاوى البزازية)) (3/ 321). (¬2) ((تهذيب رسالة البدر الرشيد)) (ص45، 46) باختصار. (¬3) ((الشرح الصغير)) (6/ 148 - 149). وانظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 303)، و ((بلغة السالك)) للصاوي (2/ 418)، و ((الخرشي على مختصر خليل)) (7/ 65). (¬4) ((روضة الطالبين)) (10/ 64) بتصرف يسير. (¬5) انظر: ((روضة الطالبين)) (10/ 65). (¬6) ((مغني المحتاج)) (4/ 136). وانظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/ 415، 416). (¬7) رواه ابن ماجه (2608)، والبيهقي (6/ 295)، والطبراني (19/ 24). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (3/ 116): هذا إسنادٌ صحيح رجاله ثقات. وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (1/ 57): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬8) رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676)، واللفظ له. من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬9) ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 175) بتصرف. (¬10) ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 175) بتصرف يسير.

ويقول ابن رجب: قد يترك الرجل دينه، ويفارق الجماعة، وهو مقرّ بالشهادتين، ويدعي الإسلام، كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام ... (¬1). وقرر مرعي بن يوسف الكرمي كفر من جحد وجوب عبادة من الخمس، ومنها الطهارة، أو حكماً ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، بلا تأويل كتحريم زنى أو لحم - لا شحم - خنزير أو حشيشة أو حِلَّ خبزٍ ونحوه، أو شك فيه، ومثله لا يجهله، أو يجهله، وعرف وأصر (¬2). وقال البهوتي: من استحلّ الحشيشة المسكرة كفر بلا نزاع، وإن جحد وجوب العبادات الخمس المذكورة في حديث: ((بني الإسلام على خمس ... )) (¬3)، أو جحد شيئاً منها، ومنها الطهارة من الحدثين كفر، أو جحد حِلَّ الخبز واللحم والماء، أو أحل الزنا ونحوه كشهادة الزور واللواط، أو أحل ترك الصلاة، أو جحد شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كلحم الخنزير والخمر وأشباه ذلك، أو شك فيه ومثله لا يجهله، كفر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله وسائر الأمة (¬4). ويعلل البهوتي - في كتاب آخر - السبب في كفر منكر حكم معلوم من الدين بالضرورة، فيقول: لمعاندته للإسلام، وامتناعه من قبول الأحكام، غير قابل لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة (¬5) وقال إبراهيم اللقاني في (جوهرة التوحيد) (¬6): ومن لمعلوم ضرورة جحد ... من ديننا يقتل كفراً ليس حد ومثل هذا من نفى لمجمع ... أو استباح كالزنا فلتسمع وقال البيجوري شارحاً لهذين البيتين: من جحد أمراً معلوماً من أدلة ديننا يشبه الضرورة، بحيث يعرفه خواص المسلمين وعوامهم، كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والخمر ونحوها، يقتل لأجل كفره؛ لأن جحده لذلك مستلزم لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، من نفى حكماً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، وهو ما اتفق المعتبرون على كونه إجماعاً، بخلاف الإجماع السكوتي، فإنه ظني لا قطعي، وظاهر كلام الناظم أن من نفى مجمعاً عليه يكفر، وإن لم يكن معلوماً من الدين بالضرورة، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وهو ضعيف وإن جزم به الناظم، والراجح أنه لا يكفر من نفى المجمع عليه إلا إذا كان معلوماً من الدين بالضرورة (¬7). وقال الشوكاني: قد تقرر في القواعد الإسلامية: أن منكر (الإجماع) القطعي وجاحده، والعامل على خلافه تمرداً، أو عناداً، أو استحلالاً، أو استخفافاً كافر بالله، وبالشريعة المطهرة التي اختارها الله لعباده (¬8). وقال السعدي: ومن جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو الصيام، أو الحج، فهو مكذّب لله ورسوله، ولكتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين، وهو خارج من الدين بإجماع المسلمين، ومن أنكر حكماً من أحكام الكتاب والسنة ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً كمن ينكر حِلّ الخبز والإبل والبقر والغنم ونحوها مما هو ظاهر، أو ينكر تحريم الزنا أو القذف أو شرب الخمر، فضلاً عن الأمور الكفرية والخصال الشركية، فهو كافر مكذّب لكتاب الله وسنة نبيه متّبع غير سبيل المؤمنين (¬9). ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 318). (¬2) ((غاية المنتهى)) (3/ 335). (¬3) رواه البخاري (8)، ومسلم (16). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬4) ((كشاف القناع)) (6/ 139 - 140) باختصار. وانظر: ((المقنع)) لابن قدامة (3/ 516). (¬5) ((شرح منتهى الإرادات)) (3/ 386، 387). (¬6) انظر: ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص199). (¬7) ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص 199). (¬8) ((الدواء العاجل في دفع العدو الصائل)) (ضمن الرسائل السلفية) (ص34). (¬9) ((الإرشاد إلى معرفة الأحكام)) (ص206 - 207).

ويقول محمد بن إبراهيم آل الشيخ: إن من الأصول المتقررة المتفق عليها بين أهل العلم أن من جحد أصلاً من أصول الدين، أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة (¬1). ويقول محمد سلطان المعصومي: إن تحريم الحلال وتحليل الحرام القطعي كفر، وكذا الحكم في الحل والحرمة والمنع والجواز جزافاً بلا دليل، فمن حرم ما حلله الشرع أو عكسه فقد كفر، لقول الله تعالى في سورة النحل:- وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل:116] وأخرج الطبراني في (الكبير) والسيوطي في (الصغير) عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أطيعوني ما كنت بين أظهركم، وعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله، وحرموا حرامه)) (¬2) (¬3). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف -بتصرف - ص242 ¬

(¬1) ((تحكيم القوانين)) (ص14). وانظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 50)، (2/ 17). (¬2) رواه الطبراني (18/ 38)، والسيوطي (1034). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 170): رواه الطبراني في ((الكبير))، ورجاله موثقون. وقال الألباني في ((صحيح الجامع الصغير)) (1034): صحيح. وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) (1472). (¬3) ((حبل الشرع المتين)) (ص108) باختصار.

المبحث الثاني: ما يناقض عمل القلب

أولاً: تعريف النفاق أ- معنى النفاق لغةً واصطلاحاً: اختلف علماء اللغة في أصل النفاق، فقيل: إن ذلك نسبةً إلى النفق وهو السرب في الأرض، لأن المنافق يستر كفره ويغيبه، فتشبه بالذي يدخل النفق يستتر فيه. وقيل: سمي به من نافقاء اليربوع، فإن اليربوع له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء، فإذا طلب من القاصعاء قصع فخرج من النافقاء، كذا المنافق يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي يدخل فيه، وقيل: نسبة إلى نافقاء اليربوع أيضاً، لكن من وجه آخر وهو إظهاره غير ما يضمر، وذلك: أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض ترك قشرة رقيقة حتى لا يعرف مكان هذا المخرج، فإذا رابه ريب دفع ذلك برأسه، فخرج، فظاهر جحره تراب كالأرض، وباطنه حفر، فكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر (¬1). ولعل النسبة إلى نافقاء اليربوع أرجح من النسبة إلى النفق (لأن النفق ليس فيه إظهار شيء، وإبطال شيء آخر، كما هو الحال في النفاق، وكونه مأخوذاً من النافقاء باعتبار أن المنافق يظهر خلاف ما يبطن، أقرب من كونه مأخوذاً منه باعتبار أنه يخرج من غير الوجه الذي دخل فيه، لأن الذي يتحقق فيه الشك الكامل بين النافقاء والنفاق هو إظهار شيء وإخفاء شيء آخر، إضافة إلى أن المنافق لم يدخل في الإسلام دخولاً حقيقياً حتى يخرج منه) (¬2). ¬

(¬1) انظر معاجم اللغة؛ مادة (نفق): ((لسان العرب)) (10/ 358)، و ((تاج العروس)) (13/ 463)، و ((معجم مقاييس اللغة)) (5/ 454)، و ((مفردات القرآن)) (ص819). وانظر معنى النفاق في: ((شرح السنة النبوية)) للبغوي (1/ 71، 72)، و ((تفسير القرطبي)) (1/ 195)، و ((حاشية مختصر سنن أبي داود)) (7/ 52 - 53)، و ((المنافقون في القرآن الكريم)) د. عبدالعزيز الحميدي (13). (¬2) ((المنافقون في القرآن)) (ص13).

أما النفاق في الاصطلاح الشرعي فهو: القول باللسان أو الفعل بخلاف ما في القلب من القول والاعتقاد (¬1)، أو هو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه، وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وإن كان أصله في اللغة معروفاً (¬2) كما سبق. والمنافق لابد وأن تختلف سريرته وعلانيته وظاهره وباطنه، ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، وقال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، وأمثال هذا كثير (¬3)، إذا أخص وأهم ما يميز المنافقين الاختلاف بين الظاهر والباطن، وبين الدعوى والحقيقة كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، قال الإمام الطبري رحمه الله: أجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه الصفة صفتهم (¬4)، وقد يطلق بعض الفقهاء لفظ الزنديق على المنافق، قال شيخ الإسلام - رحمه الله-: ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ (الزنديق) وشاعت في لسان الفقهاء وتكلم الناس في الزنديق: هل تقبل توبته؟ ... والمقصود هنا: أن (الزنديق) في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن ديناً من الأديان: كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطلاً جاحداً للصانع، والمعاد، والأعمال الصالحة ... ) (¬5)، وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في بيان مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم: الطبقة الخامسة عشر: طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار (¬6). نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي - ص308 وقال الله - تبارك وتعالى - عن المنافقين في كتابه العزيز: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. وقال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 17 - 20] وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:3]. ¬

(¬1) انظر: ((عارضة الأحوذي)) (10/ 97). (¬2) انظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (5/ 98)، و ((لسان العرب)) (10/ 359)، و ((الإيمان)) لابن تيمية (ص284). (¬3) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 162). وانظر: ((صفة النفاق)) للإمام الفريابي (ص29). (¬4) ((تفسير الطبري)) (1/ 268). (¬5) ((الإيمان الأوسط)) (ص13). (¬6) ((طريق الهجرتين)) (ص374).

وقال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [النور:64 - 66] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [التوبة:73 - 74] ولهذا جعل الله تبارك وتعالى المنافقين شراً من الكافرين. قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]. ولهذا جعل الله تبارك وتعالى المنافقين شراً من الكافرين. قال تعالى: إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]. الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن عبد الحميد الأثري - بتصرف - ص253

ثانيا: أنواع النفاق

ثانياً: أنواع النفاق النفاق كالكفر والشرك والفسق، درجات ومراتب؛ منها ما هو مخرج من الإسلام، ومنها غير مخرج منه: أولاً: النفاق الأكبر؛ المخرج من الملة، والموجب للخلود في الدرك الأسفل من النار: هو إبطان الكفر في القلب، وإظهار الإيمان على اللسان والجوارح، ويترتب على هذا النوع ما يترتب على الكفر الأكبر؛ من حيث انتفاء الإيمان عن صاحبه، وخلوده في جهنم؛ لكن المنافق أشد عذاباً من الكافر؛ لأنه في الدرك الأسفل من النار إذا مات عليه. والمنافق: إذا لم يظهر ما في باطنه من مخالفة الدين، وأظهر الأعمال الظاهرة من الإسلام؛ فهو في الظاهر مسلم، وتجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة في الدنيا، ويعامل معاملة المسلمين؛ لأننا لم نؤمر بالشق عن ما في القلوب، وهذا في الأصل خارج عن نطاق وقدرة ابن آدم. لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان الباطن الذي يكون صاحبه من المؤمنين حقاً. والنفاق: إذا أطلق ذكره في القرآن؛ فإن المراد به النفاق الأكبر المنافي للإيمان؛ بخلاف الكفر فإنه يأتي - أحياناً - بمعنى الكفر الأصغر، وكذلك الظلم والفسق والشرك، أما في السنة فقد ورد النفاق الأصغر. والمنافقون شر وأسوأ أنواع الكفار؛ لأنهم زادوا على كفرهم الكذب والمراوغة والخداع للمؤمنين، ولذلك أخبرنا الله تعالى عن صفاتهم في القرآن بالتفصيل، ووصفهم بصفات الشر كلها؛ لكي لا يقع المؤمنون في حبائلهم وخداعهم، ومن صفاتهم: الكفر وعدم الإيمان. التولي والإعراض عن حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. الاستهزاء بالدين وأهله والسخرية منهم. الميل بالكلية إلى أعداء الدين، ومظاهرتهم ومناصرتهم على المؤمنين والمسلمين. ومن أنواع النفاق الكثيرة: من أظهر الإسلام وهو مكذّب بما جاء به الله، أو بعض ما جاء به الله، أو كذّب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بعض ما جاء به الرسول، وكمثل من لم يعتقد وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم، أو أبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو آذى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كره الانتصار لدين الرسول صلى الله عليه وسلم أو سُرّ بكسر راية الدين، أو الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين؛ لأجل إيمانهم وطاعتهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أو التولي والإعراض عن الشرع ... إلى غير ذلك من الاعتقادات الكفرية المخرجة من الملة. وهذا الصنف من المنافقين موجودون في كل زمان ومكان. ثانياً: النفاق الأصغر؛ غير المخرج من الملة: هو النفاق العملي، واختلاف السر والعلانية في الواجبات، وذلك بعمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء أصل الإيمان في القلب وصاحبه لا يخرج من الملة، ولا يُنفى عنه مطلق الإيمان، ولا مسمى الإسلام، وهو معرّض للعذاب كسائر المعاصي، دون الخلود في النار، وصاحبه ممن تناله شفاعة الشافعين بإذن الله. وهذا النوع من النفاق مقدمة وطريق للنفاق الأكبر؛ لمن سلكه وكان ديدنه. وأمثلة ذلك: الكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر بالعهود، وكالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، وإظهار المودة للغير والقيام له بالخدمة مع إضمار عكسه في النفس. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (34)، ومسلم (58). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) (¬1). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) (¬2). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه؛ مات على شعبة من نفاق)) (¬3). الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن عبد الحميد الأثري - ص152 وتختلف عبارات الأئمة في إيضاح هذين النوعين: فبعض الأئمة كالإمام الترمذي، والإمام ابن العربي المالكي، والحافظ ابن كثير، وابن حجر يقسمون النفاق إلى نفاق اعتقادي، وهو المخرج من الملة وإلى نفاق عملي، قال الإمام الترمذي رحمه الله في تعليقه على حديث: (أربع من كن فيه كان منافقاً ... ) (¬4) (وإنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وإنما نفاق التكذيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا روي عن الحسن البصري شيئاً من هذا أنه قال: النفاق نفاقان، نفاق عمل ونفاق التكذيب (¬5). وقال الإمام ابن العربي: النفاق هو إظهار القول باللسان أو الفعل بخلاف ما في القلب من القول والاعتقاد. (أصوله) وهي قسمان: أحدهما: أن يكون الخبر أو الفعل في توحيد الله وتصديقه أو يكون في الأعمال، فإن كان في التوحيد كان صريحاً، وإن كان في الأعمال كانت معصية، وكان نفاقاً دون نفاق كما تقدم القول في كفر دون كفر ... (¬6). وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب ... (¬7) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والنفاق لغةً: مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في الترك اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك، وتتفاوت مراتبه (¬8). وبعض الأئمة كالإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم والحافظ ابن رجب يعبرون عن ذلك بتقسيم النفاق إلى الأكبر المخرج من الملة وإلى نفاق أصغر غير مخرج من الملة، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: فمن النفاق ما هو أكبر يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبدالله بن أُبي وغيره بأن يظهر تكذيب الرسول ... فهذا ضرب النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها ... (¬9)، ويقول أيضاً: والنفاق كالكفر نفاق دون نفاق، ولهذا كثيراً ما يقال: كفر ينقل عن الملة، وكفر لا ينقل، ونفاق أكبر، ونفاق أصغر، كما يقال: الشرك شركان أصغر، وأكبر ... (¬10). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان أقسام النفاق: وهو نوعان: أكبر، وأصغر؛ فالأكبر: يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذّب به ... (¬11). ¬

(¬1) رواه البخاري (33)، ومسلم (59). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (17)، ومسلم (74). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (1910). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (34)، ومسلم (58)، والترمذي (2632). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬5) ((عارضة الأحوذي)) (10/ 100)، والمقصود بنفاق التكذيب أن يظهر الإيمان بلسانه أو فعله وهو مكذّب بقلبه كالمنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬6) ((عارضة الأحوذي)) (10/ 100). (¬7) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 47). (¬8) ((فتح الباري)) (1/ 89). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 434 - 435) (¬10) ((الإيمان الأوسط)) (ص: 66). (¬11) ((مدارج السالكين)) (1/ 376)، وانظر في هذا التقسيم: ((الرياض النضرة)) للشيخ عبدالرحمن بن سعدي، رحمه الله (ص240)، و ((جامع العلوم والحكم)) (ص403).

وبين القولين تقارب فمن حصر النفاق المخرج من الملة بالنفاق الاعتقادي، فلعله قصد بذلك نفاق التكذيب، وهو أن يظهر الإيمان وهو مكذب بقلبه، أما إن كان المرء في الأصل مؤمناً بالله غير مكذب وطرأ النفاق على بعض الأعمال المتعلقة بفروع الإيمان، فهذا نفاق العمل، وهناك احتمال آخر وهو أن يقصد بحصر ذلك بالنفاق الاعتقادي اقتران المكفرات العملية الصادرة من المنافقين بالجانب الاعتقادي. في الغالب، والأقرب للصواب والله أعلم تقسيم النفاق إلى أكبر وأصغر لسببين: الأول: لأن النفاق الأكبر لا يختص بالجانب الاعتقادي فقط، ولذلك حين ذكر القرآن صفات المنافقين ذكر منها تنقيصهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وسخريتهم بالمؤمنين، ومناصرتهم للكفار ونحو ذلك. وهذه الأمور وإن اقترنت غالباً بفساد اعتقادي إلا أن ذلك ليس بلازم. الثاني: ليس كل نفاق اعتقادي يخرج من الملة، فقد يكون ذلك من جنس يسير الرياء ونحوه، وإليك إيضاحاً لنوعي النفاق: جـ - النفاق الأصغر: والأصل في ذلك ما ثبت في (الصحيحين) من حديث عبدالله بن عمرو وأبي هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهما، في ذكر آية المنافق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (¬1). وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (¬2). قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: هذا الحديث مما عدّه جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار، قال صلى الله عليه وسلم: ((كان منافقاً خالصاً)) معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، قال بعض العلماء هذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه، فهذا هو المختار في معني الحديث ... (¬3). وقال الإمام الخطابي رحمه الله: هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فتفضي به إلى النفاق، لا أنّ من بدرت منه هذه الخصال، أو فعل شيئاً من ذلك من غير اعتياد أنه منافق (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (33)، ومسلم (59). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (34)، ومسلم (58). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 46 - 47). (¬4) ((شرح السنة)) (1/ 76)، و ((جامع العلوم والحكم)) (ص407).

وقال - أي: الخطابي -: ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرار الفعل (¬1)، وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: والأولى ما قاله الكرماني: إنّ حذف المفعول من (حدّث) يدل على العموم، أي: إذا حدّث في كل شيء كذب فيه، أو يصير قاصراً، أي: إذا وجد ماهية الحديث كذب، وقيل: محمول على من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالباً (¬2)، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعدما شرح هذه الخصال: وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن ... (¬3). ومن هذا الباب الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين (¬4)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق)) (¬5)، ومن ذلك ما رواه البخاري في (باب ما يكره من ثناء السلطان، وإذا خرج قال غير ذلك): قال أناس لعبدالله بن عمر: إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعدها نفاقاً (¬6). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (1/ 90). (¬2) ((فتح الباري)) (1/ 91). وانظر أقوالاً أخرى حول الحديث في نفس الموضوع في ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 46 - 47)، و ((حاشية مختصر المنذري)) (7/ 53)، و ((شرح السنة)) (1/ 76)، و ((جامع العلوم والحكم)) (ص406))، و ((عارضة الأحوذي)) (10/ 98، 99). (¬3) ((جامع العلوم والحكم)) (ص406). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 436)، و ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (13/ 56). (¬5) رواه مسلم (1910). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (7178).

وهذا هو النفاق الذي خافه الصحابة على أنفسهم، يقول ابن رجب (¬1): ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر، برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقاً، كما في (صحيح مسلم) عن حنظلة الأسدي: أنه مر بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا، عافسنا الأزواج والضيعة فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فالله إنا لكذلك، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مالك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة على مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) (¬2)، ومما ورد في هذا المعنى أي: خوف الصحابة من النفاق ما قاله ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل (¬3)، يقول الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الأثر: والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلّهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجلّ من هؤلاء كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشعر به مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم (¬4). وخلاصة القول في النفاق الأصغر: أنه نوع من الاختلاف بين السريرة والعلانية مما هو دون الكفر، وذلك كالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، وكإظهار مودة الغير والقيام بخدمته مع إضمار بعضه والإساءة إليه وكالخصال الواردة في حديث شعب النفاق ونحو ذلك، فعلى المسلم الحذر من الوقوع في شيء من ذلك. د- النفاق الأكبر: ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) (ص408). (¬2) رواه مسلم (2750). (¬3) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث رقم (48)، ورواه موصولاً الخلال في ((السنة)) (3/ 607 - 608)، ومحمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 634). وانظر ((تغليق التعليق)) (2/ 52 - 53). (¬4) ((فتح الباري)) (1/ 111)، وانظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص409)، و ((جامع العلوم والحكم)) (ص407).

سبقت الإشارة إلى تعريفه عند الكلام عن أنواع النفاق، ويمكن اختصار تعريفه، بتعريف ذكره الحافظ ابن رجب حيث قال رحمه الله: النفاق الأكبر وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار (¬1)، ومن الآيات في تكفيرهم، ومصيرهم في الآخرة، قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، وقوله عز وجل: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا [التوبة:68]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:73 - 74]، وقوله عن طائفة من المنافقين من أسوأ أنواع الكفار، ومصيرهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، لأنهم زادوا على كفرهم، الكذب والمراوغة والخداع للمؤمنين، ولذلك فصّل القرآن الحديث حولهم وحول صفاتهم لكي لا يقع المؤمنون في حبائلهم وخداعهم. صور النفاق الأكبر: ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض هذه الصور فقال: فمن النفاق ما هو أكبر، ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبدالله بن أُبي وغيره، بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرّة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله، وهذا القدر كان موجوداً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومازال بعده، بل هو أكثر منه على عهده ... (¬2). وقال في موضع آخر: (فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه، فإنه لا يرى وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر- علماً وعملاً- وأنه يجوز تصديقه وطاعته لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحداً، ويرى أنه تحصيل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته، إما بطريق الفلسفة والصبو، أو بطريق التهود والتنصر ... ) (¬3). ونقل هذه الأنواع الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله فقال: ... فأما النفاق الاعتقادي فهو ستة أنواع، تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول أبو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار (¬4) فيتحصل مما ذكره هذان الإمامان - بعد دمج الأنواع المتشابهة أو المتقاربة - خمس صفات أو أنواع وهي: 1 - تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكذيب بعض ما جاء به. 2 - بغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض ما جاء به. 3 - المسرّة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الكراهية بانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم. 4 - عدم اعتقاد وجوب تصديقه فيما أخبر. 5 - عدم اعتقاد وجوب طاعته فيما أمر. وبالنظر إلى الآيات التي ذكرت أحوال المنافقين، وكلام المفسرين حولها، يمكن أن يضاف إلى هذه الصفات صفات أخرى وهي: 6 - أذى الرسول صلى الله عليه وسلم أو عيبه ولمزه. 7 - مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المؤمنين. 8 - الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين لأجل إيمانهم وطاعتهم لله ولرسوله. 9 - التولي والإعراض عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. فالوقوع في أي صفة من هذه الصفات يخرج من الملة، وهذه الصفات أكثرها متعلق بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ... فالنفاق يقع كثيراً في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته ... (¬5). نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – ص: 253 ¬

(¬1) ((جامع العلوم والحكم)) (ص403). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 434). (¬3) ((الإيمان الأوسط)) (ص180). (¬4) ((مجموعة التوحيد)) (ص7). (¬5) ((الإيمان الأوسط)) (ص181)، وانظر: ((الإيمان)) (ص285).

المطلب الثاني: مظاهرة المشركين على المسلمين

المطلب الثاني: مظاهرة المشركين على المسلمين والمقصود بمظاهرة المشركين على المسلمين أن يكون أولئك أنصاراً وظهوراً وأعواناً للكفار ضد المسلمين، فينضمون إليهم، ويذبّون عنهم بالمال والسنان والبيان، فهذا كفر يناقض الإيمان (¬1). وهذا ما يسميه بعض العلماء بـ (التولي) ويجعلونه أخص من عموم الموالاة، كما هو عند بعض أئمة الدعوة السلفية في نجد (¬2) مع أن جمهوراً من المفسرين يفسرون التولي بالموالاة، فعلى سبيل المثال نذكر ما يلي: يقول ابن عطية عند تفسيره لقوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة: 23]: أي: والاهم واتبعهم في أغراضهم (¬3). ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .. [الممتحنة:13]: ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة، كما نهى عنها في أولها فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا .. فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء؟ (¬4). ويقول البيضاوي عند تفسيره لقوله سبحانه: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]: أي: من والاهم منكم، فإنه في جملتهم، وهذا للتشديد في وجوب مجانبتهم (¬5). وما يؤكد أن التولي يكون بمعنى الموالاة، ما جاء في لغة العرب، فإن التولي والموالاة من مادة واحدة وهي: ولي بمعنى قرب، والولي: الناصر ضد العدو (¬6). ولذا فإن شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى - في عدة مواضع من تفسيره - يفسر معنى اتخاذ الكفار أولياء بمعنى جعلهم أنصاراً (¬7)، وهو بمعنى توليهم. وإذا كان التولي بمعنى الموالاة، فكما أن موالاة الكفار ذات شعب متفاوتة، منها ما يخرج من الملة كالموالاة المطلقة لهم، ومنها ما دون ذلك ... فإنّ تولي الكفار مثل موالاتهم، فهناك التولي المطلق التام الذي يناقض الإيمان بالكلية، وهناك مراتب دون ذلك (¬8). ولذا يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي عند (تفسيره) لقوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:9]: وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان تولياً تاماً، كان ذلك كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب، ما هو غليظ وما هو دونه (¬9). ويقول عند تفسيره لقوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]: إن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يكون العبد منهم (¬10). ¬

(¬1) انظر: ((تفسير الطبري)) (3/ 140)، و ((مجموعة التوحيد)) (ص38)، و ((الدرر السنية)) (7/ 201)، و ((فتاوى ابن باز)) (1/ 272). (¬2) انظر: ((الدرر السنية)) (7/ 201)، و ((عقود الجواهر المنضدة)) لابن سحمان (ص146). (¬3) ((تفسير ابن عطية)) (8/ 152). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 356). (¬5) ((تفسير البيضاوي)) (1/ 279)، وانظر: (2/ 462)، و ((تفسير الألوسي)) (28/ 32)، و ((تفسير الشوكاني)) (5/ 192)، ((وتفسير القاسمي)) (6/ 331). (¬6) انظر: ((معجم مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/ 141)، و ((ترتيب القاموس المحيط)) (4/ 658)، و ((المصباح المنير)) (ص841)، و ((مفردات الراغب)) (ص837)، و ((مختار الصحاح)) للرازي (ص736)، و ((نزهة الأعين النواظر)) لابن الجوزي (2/ 208). (¬7) انظر: ((تفسير الطبري)) (5/ 195)، (6/ 159، 166, 182)، (28/ 34). (¬8) انظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/ 19)، و ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (3/ 7). (¬9) ((تفسير السعدي)) (7/ 357). (¬10) ((تفسير السعدي)) (2/ 304).

وعلى كلٍّ، فلا مشاحة في الاصطلاح، فالمهم أن مظاهرة الكفار، ونصرتهم والذّبّ عنهم، يناقض الإيمان سواء سُمي ذلك تولياً أم موالاة. إن مظاهرة الكفار ضد المسلمين خيانة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، قال تعالى: تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:80، 81]. فتولي الكفار موجب لسخط الله تعالى، والخلود في عذابه، ولو كان متوليهم مؤمناً ما فعل ذلك. يقول الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]. ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهوراً وأنصاراً، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر (¬1). وتضمنت رسالة (الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك) للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله تعالى أكثر من عشرين دليلاً في النهي عن موالاة الكفار، فكان مما قاله الشيخ سليمان: قوله تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11] فإذا كان وعد المشركين في السر - بالدخول معهم ونصرتهم والخروج معهم إن أجلوا - نفاقاً وكفراً وإن كان كذباً، فكيف بمن أظهر لهم ذلك صادقاً، وقدم عليهم، ودخل في طاعتهم، ودعا إليها، ونصرهم وانقاد لهم، وصار من جملتهم وأعانهم بالمال والرأي؟ هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفاً من الدوائر كما قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [المائدة:52] (¬2). ويقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ - عن هذه المسألة -: وأما قوله وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وقوله: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:57] فقد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة ... (¬3). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (3/ 140). (¬2) ((الدلائل في حكم مولاة أهل الإشراك)) (ص52). (¬3) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (3/ 57).

وقد يخلط البعض بين مسألة تولي الكفار ومظاهرتهم، وبين مسألة الاستعانة بهم في قتال الكفار ... فالمسألة الأولى خروج عن الملة، ومحاربة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومفارقة لسبيل المؤمنين، يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ عن ذلك: وأكبر ذنب وأضله وأعظمه منافاة لأصل الإسلام؛ نصرة أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم، وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام (¬1). وأما مسألة الاستعانة بهم في قتال كفار آخرين ... فهي مسألة خلافية بين أهل العلم، فهناك من منعها، وهناك من أجازها بشروط كأن يحتاج إليهم، وتؤمن خيانتهم، وأن لا يكونوا أصحاب صولة وشوكة ... إلخ (¬2)، وأما الاستعانة بالكفار على بغاة المسلمين فهذه ممنوعة عند جماهير علماء الإسلام (¬3). ونورد كلاماً لابن حزم في هذه القضية حيث يقول: قد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب، فقد أبق عن الله تعالى، وعن إمام المسلمين وجماعتهم، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم أنه برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين (¬4)، وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر (¬5)، قال تعالى: - وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]. فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها، من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه وغير ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم. وأما من فرّ إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليه ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره (¬6). - إلى أن قال - وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين، وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين، أو على أخذ أموالهم أو سبيهم، فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع فهو هالك في غاية الفسوق، ولا يكون بذلك كافراً؛ لأنه لم يأت شيئاً أوجب به عليه كفراً: قرآن أو إجماع، وإن كان حكم الكفار جارياً عليه فهو بذلك كافر، فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافراً والله أعلم (¬7). 4 - والآن نورد جملة من الاعتبارات التي تجعل مظاهرة الكفار على المسلمين ناقضاً من نواقض الإيمان: أ- يقول الله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]. ¬

(¬1) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (3/ 57). (¬2) انظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (3/ 66, 67)، وكتاب: ((الاستعانة بغير المسلمين)) لعبدالله الطريقي (ص262 - 271). (¬3) انظر: كتاب: ((الاستعانة بغير المسلمين)) لعبدالله الطريقي (ص272 - 274). (¬4) الحديث: رواه أبو داود (2645)، والترمذي (1604). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. قال البخاري في ((البدر المنير)) (9/ 163): الصحيح أنه مرسل. وقال ابن حزم في ((المحلى)) (10/ 369): صحيح. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 298): إسناده صحيح. وقال ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (2/ 454): صحيح على طريقة بعض أهل الحديث - كما اشترط على نفسه في المقدمة -. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 408) –كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬5) مراد ابن حزم - هاهنا -: أن يلحق المسلم بدار الحرب مختاراً محارباً. انظر للمزيد من التوضيح: ((المحلى)) (13/ 140). (¬6) ((المحلى)) (13/ 138، 139). (¬7) ((المحلى)) (13/ 140، 141).

فبين الله تعالى أن من فعل ذلك فهو منهم أي: من أهل دينهم وملتهم، فله حكمهم. يقول الطبري في تفسير هذه الآية: من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍّ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه (¬1). ويقول الطبري في تفسيرها: قوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فإنه أي يعضدهم على المسلمين فَإِنَّهُ مِنْهُمْ بيّن أن حكمه حكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أُبي، ثم هذا الحكم باقٍ إلى يوم القيامة في قطع الموالاة (¬2). ويقول ابن حزم: صحّ أن قوله تعالى وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حقّ لا يختلف فيه اثنان من المسلمين (¬3). ويقول القاسمي في تفسيره: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: أي جملتهم، وحكمه حكمهم، وإن زعم أنه مخالف لهم في الدين، فهو بدلالة الحال منهم لدلالتها على كمال الموافقة (¬4). إضافة إلى ذلك فإن الله تعالى ذكر بعد هذه الآية، قوله سبحانه: إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]. وفي آية أخرى يقول عز وجل: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة:23]، والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر (¬5)، فدلّ هذا على أن مظاهرة الكفار على المسلمين خروج عن الملة. ب- ولا ريب أن مظاهرة الكفار على المسلمين تناقض الإيمان، وتنافيه بالكلية، فمثل هذه الموالاة تتضمن بغضاً لدين الله تعالى، وحرباً لعباد الله الصالحين، ونصرة للكفار ... ولا شك أن الإيمان لا يمكن أن يجتمع مع هذه الموالاة كما قال تعالى: تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:80 - 81] فبيّن سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم، كما سجل على من تولى الكافرين بالمذمّة وحلول السخط عليهم والخلود في العذاب (¬6). يقول ابن تيمية عن هذه الآيات: فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودلّ ذلك على أن من اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله وما أنزل إليه. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (6/ 160). (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (6/ 217). وانظر: ((تفسير البيضاوي)) (1/ 279)، و ((تفسير الشوكاني)) (2/ 50). (¬3) ((المحلى)) (13/ 35). (¬4) ((تفسير القاسمي)) (6/ 240). (¬5) انظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (2/ 78). (¬6) انظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 490)، و ((الدرر السنية)) (7/ 84).

ومثله قوله تعالى: لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هم منهم، والقرآن يصدق بعضه بعضاً (¬1). ويقول الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب في ذلك: قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]. أخبر تعالى أنك لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، وأن هذا منافٍ للإيمان مضاد له، لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار (¬2). جـ- جاء النص القرآني مقرراً براءة الله تعالى ممن ظاهر الكفار، فقال تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]. ويقول البيضاوي عند هذه الآية: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ (أي اتخاذهم أولياء) فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ أي من ولايته في شيءٍ يصح أن يُسمى ولاية، فإن موالاة المتعادييْن لا يجتمعان (¬3). ويقول الشوكاني في تفسير هذه الآية: قوله: لاَّ يَتَّخِذِ فيه النهي عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب ... وقوله: مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ في محل الحال: أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً أو اشتراكاً ... ومعنى قوله: فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ أي: من ولايته في شيءٍ من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال (¬4). د- إن مظاهرة أعداء الله تعالى كفر نفاق، وقد حكم الله تعالى بذلك في قوله عز وجل: - فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ [النساء:88 - 89]. وذلك أن قوماً كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد عليه السلام فليس علينا منهم بأس، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله أو كما قالوا تقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا، ويتركوا ديارهم، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك، فكانوا كذلك فئتين ... فنزلت الآية تقرر نفاقهم وكفرهم وأن الله تعالى أركسهم أي ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم (¬5). ¬

(¬1) ((الإيمان)) (ص: 13، 14)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 17, 542). (¬2) ((تفسير البيضاوي)) (1/ 155)، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 357). (¬3) ((الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك)) (ص56)، وانظر: (ص39). (¬4) ((فتح القدير)) (1/ 331). وانظر: ((رسالة أوثق عرى الإيمان)) (ص28)، و ((الدلائل)) (ص32) كلاهما للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب. (¬5) انظر: تفصيل ذلك: في ((تفسير الطبري)) (5/ 113).

إن مظاهرة الكفار على المسلمين خصلة من خصال المنافقين، وشعبة من شعب النفاق، كما جاء بيان ذلك في كثير من نصوص القرآن الكريم. قال تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [النساء:138 - 139]. وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المجادلة:14 - 15]. وقال عز وجل: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11]. وقال سبحانه: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [المائدة:52]. يقول ابن جرير في تفسير الآية الأخيرة: هذا خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهود والنصارى، ويغشون المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تدور دوائر إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك من عبدة الأوثان، أو غيرهم على أهل الإسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين فيكون بنا إليهم حاجة، وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبدالله بن أُبي، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين (¬1). وسُئل الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب عمن أظهر علامات النفاق ممن يدعي الإسلام، هل يقال عنه أنه منافق أم لا؟ فأجاب رحمه الله: من ظهرت منه علامات النفاق الدّالة عليه كارتداده عند التحزيب على المؤمنين وخذلانهم عند اجتماع العدو، كالذين قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. وكونه إذا غلب المشركون التجأ إليهم، ومدحه للمشركين بعض الأحيان، وموالاتهم من دون المؤمنين، وأشباه هذه العلامات التي ذكر الله أنها علامات للنفاق، وصفات للمنافقين، فإنه يجوز إطلاق النفاق عليه وتسميته منافقاً ... (¬2) ... يقول ابن تيمية: فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار، فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة (¬3). يقول ابن القيم: إنه سبحانه قد حكم، ولا أحسن من حكمه أنّ من تولّى اليهود والنصارى فهو منهم وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]؛ فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم (¬4). وذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله مظاهرة الكفار ضد المسلمين ضمن نواقض الإسلام، فقال: الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] (¬5). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (6/ 161). (¬2) ((الدرر السنية)) (7/ 79، 80). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 534)، وانظر: (28/ 530، 531)، و ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص507، 508)، و ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/ 41 - 43). (¬4) ((أحكام أهل الذمة)) (1/ 67). (¬5) ((مجموعة التوحيد)) (ص38).

ويقول الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ: التولي كفر يخرج من الملة، وهو كالذّب عنهم وإعانتهم بالمال والبدن والرأي (¬1). ويقول الشيخ عبدالعزيز بن باز: وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوعٍ من المساعدة فهو كافر مثلهم، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] (¬2). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبداللطيف - بتصرف - ص382 ومن أخص صفات المنافقين مظاهرة الكافرين ومعاونتهم على المؤمنين ... فهم في الظاهر مع المؤمنين، لكنهم في الحقيقة مع الكفار عيوناً وأعواناً لهم، يكشفون لهم عورات المسلمين وأسرارهم ويتربصون بالمؤمنين الدوائر. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51 - 52]. قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية بعدما ذكر الخلاف في المعنى بهذه الآية: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره، نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان (¬3). وقال في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، يقول: فإنّ من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍّ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمُه حكمَه ... (¬4)، وقال في تفسير قوله سبحانه: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... الآية. بعدما ذكر الخلاف فيمن عني بهذه الآية: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن ذلك من الله خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهود والنصارى ويغشون المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تدور دوائر - إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك من عبدة الأوثان، أو غيرهم - على أهل الإسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين نازلةً، فيكون بنا إليهم حاجة، وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبدالله بن أُبي، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين (¬5). ومن الآيات صريحة الدلالة في اتصاف المنافقين بهذه الصفة قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:138 - 139]. ¬

(¬1) ((الدرر السنية)) (7/ 201). (¬2) ((فتاوي ابن باز)) (1/ 274). (¬3) ((تفسير الطبري)) (10/ 398). (¬4) ((تفسير الطبري)) (10/ 400). (¬5) ((تفسير الطبري)) (10/ 404)، وانظر: ((تفسير القرطبي)) (6/ 216 - 218)، ((تفسير ابن كثير)) (2/ 68،69).

قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: ... أما قوله جل ثناؤه: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، فمن صفة المنافقين، يقول الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي، والإلحاد في ديني أولياء – يعني: أنصاراً وأخلاء - من دون المؤمنين – يعني: من غير المؤمنين - أيبتغون عندهم العزة، أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي؟، فإن العزة لله جميعاً، يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم، هم الأذلاء الأقلاء ... (¬1). ومعلوم أن موالاة الكفار مراتب (¬2)، منها ما يصل إلى درجة الكفر الأكبر، ومنها دون ذلك، وما نشير إليه هنا هو الموالاة المخرجة من الملة التي يختص بها المنافقون وهي اتخاذهم أنصاراً وأعواناً على المؤمنين، أو الموالاة التامة لهم بالرضى عن دينهم أو تصحيح مذهبهم ونحو ذلك، يقول الإمام الطبري رحمه الله مبيناً ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]. قال رحمه الله: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصاراً توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ... (¬3). وذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ضمن نواقض الإسلام: الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين؛ والدليل قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (¬4). ويقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ: وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان تولياً تاماً، كان ذلك كفراً مخرجاً من دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب، ما هو غليظ، وما هو دونه (¬5). وهذه الموالاة تدل على فساد في اعتقاد صاحبها، خاصة من جهة منافاتها لعمل القلب من الحب والبغض، فالحب والبغض - كما هو معلوم - أصل الولاء والبراء، فمحبة المؤمنين تقتضي موالاتهم ونصرتهم، وبغض الكافرين يقتضي البراءة منهم ومن مذاهبهم وعداوتهم ومحاربتهم، فإذا عادى المرء المؤمنين وأبغضهم، ووالى الكافرين وناصرهم على المؤمنين فقد نقض أصل إيمانه. نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي –بتصرف - ص: 320 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (9/ 319). (¬2) انظر: ((الولاء والبراء)) د. محمد القحطاني (231 - 247). (¬3) ((تفسير الطبري)) (6/ 313). (¬4) ((الرسائل الشخصية)) (ص: 213). (¬5) ((تفسير كلام المنان)) (7/ 357)، وانظر: (2/ 304).

الفصل الثاني: النواقض المختلف عليها

المطلب الأول: سب الصحابة رضي الله عنهم سب الصحابة ليس على مرتبة واحدة، بل له مراتب متفاوتة، فإن سب الصحابة أنواع ودركات، فمنها سب يطعن في عدالتهم، ومنها سب لا يوجب الطعن في عدالتهم، وقد يكون السب لجميعهم، وأكثرهم وقد يكون لبعضهم، وهناك سب لمن تواترت النصوص بفضله، ومنهم دون ذلك. وسنورد جملة من أنواع سب الصحابة رضي الله عنهم مما يعد ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي:- أ - إن كان مستحلاً لسب الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر (¬1)، فمن المعلوم أن جميع الصحابة رضي الله عنهم عدول، وقد أجمع العلماء على عدالتهم، لما جاء في الكتاب والسنة من الثناء الحسن عليهم، المدح لهم ونقل هذا الإجماع جمع كثير من العلماء، منهم النووي حيث يقول:- (وكلهم عدول رضي الله عنهم، ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة -إلى أن قال - ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين) (¬2). ويقول ابن الصلاح في مقدمته: (للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة. - إلى أن قال - ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، نظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه أتاح الإجماع على ذلك، لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم) (¬3). ويقول ابن كثير: (والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل) (¬4). وقد تقرر أن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة، قال تعالى:- وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا [الحجرات: 12]. قال ابن تيمية: (وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً) (¬5). وقال عز وجل: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران: 119]. قال ابن تيمية: (ومحبة الشيء كراهته لضده، فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة) (¬6). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين))) (¬7). فسب الصحابة كبيرة من كبائر الذنوب، لما ترتب عليه من الوعيد باللعنة (¬8)، واستحلال سبهم إنكار لما علم تحريمه من الدين بالضرورة، ومن ثم فهو خروج عن الملة). ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:- ¬

(¬1) [10544])) انظر ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص 569 - 571). (¬2) [10545])) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (15/ 149). (¬3) [10546])) ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص 427، 428). (¬4) [10547])) ((الباعث الحثيث)) (ص 205). (¬5) [10548])) ((الصارم المسلول)) (ص 571). (¬6) [10549])) ((الصارم المسلول)) (ص 574). (¬7) [10550])) رواه الطبراني (12/ 142) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 24): فيه عبد الله بن خراش وهو ضعيف, وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6285). (¬8) [10551])) انظر تعريف الكبيرة في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 526)، و ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (11/ 650).

(فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم والأحاديث المتواترة بمجموعها ناصة على كمالهم فإن اعتقد حلية سبهم أو إباحته فقد كفر، لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكذبه كافر) (¬1). (ب) ومما يناقض الإيمان: أن يسب جميع الصحابة، أو جمهورهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، كأن يرميهم بالكفر، أو الفسق، أو الضلال، وبيان ذلك من خلال النقول الآتية:- يقول القاضي عياض: (وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية (¬2) من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ... لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم، وإلى هذا – والله أعلم – أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة) (¬3). ويقول ابن تيمية: (وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام) (¬4). ويقول السبكي: (إن سب الجميع لا شك أنه كفر ... وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الطحاوي: وبغضهم كفر، فإن بغض الصحابة بجملتهم لا شك أنه كفر) (¬5). ويقول ابن كثير: (ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك - أي كتمان الوصية لعلي بالخلافة - فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضادته في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام ... ) (¬6). ويقول ابن حجر الهيتمي: (إن تكفير جميع الصحابة كفر؛ لأنه صريح في إنكار جميع فروع الشريعة الضرورية فضلاً عن غيرها ... ) (¬7). ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر هو: (هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث) (¬8). ويقول أيضاً: (ومن نسب جمهور أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى الفسق والظلم، وجعل اجتماعهم على الباطل فقد أزدرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وازدراؤه كفر) (¬9). ¬

(¬1) [10552])) ((الرد على الرافضة)) (ص: 18 - 19). (¬2) [10553])) الكميلية: ولعلها الكاملية، وهم أصحاب أبي كامل، وهم فرقة من غلاة الشيعة، أكفروا جميع الصحابة، وقالوا بالتناسخ والحلول. انظر: ((الملل والنحل)) (1/ 174)، و ((اعتقادات فرق المسلمين)) (ص 60). (¬3) [10554])) ((الشفا)) (2/ 1072) باختصار (¬4) [10555])) ((الصارم المسلول)) (ص 586 - 587). (¬5) [10556])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 575). (¬6) [10557])) ((البداية والنهاية)) (5/ 252) (¬7) [10558])) ((الأعلام)) (ص 380). (¬8) [10559])) ((الرد على الرافضة)) (ص 13). (¬9) [10560])) ((الرد على الرافضة)) (ص 8) وانظر (ص 17).

ويقول محمد العربي بن التباني المغربي (¬1):- (كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة (يعني الرافضة) في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم، تقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً ... ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح) (¬2). ويمكن أن نلحق بهذا النوع من السب - وإن كان أشنع مما سبق - فيما لو سب الصحابة رضي الله عنهم من أجل صحبتهم ونصرتهم لدين الله تعالى، ولو كان واحداً .. ، وإليك ما يبين ذلك من كلام أهل العلم. يقول ابن حزم: (ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه وجد الحرج في نفسه مما قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان بأيديهم، ومن عادى علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر) (¬3). ويقول السبكي: (إن سب الجميع بلا شك أنه كفر، وهكذا إذا سب واحداً من الصحابة حيث هو صحابي؛ لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة، ففيه تعرض إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك في كفر الساب. -إلى أن قال - ولا شك أنه لو أبغض واحداً منهما (أي الشيخين أبي بكر وعمر) لأجل صحبته فهو كفر، بل من دونهما في الصحبة، إذا أبغضه لصحبته كان كافراً قطعاً) (¬4). ومما أورده الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: - ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) (¬5) حيث قال رحمه الله: (فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة - وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق، ويقرب هذا زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديث البراء بن عازب (¬6): - ((من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم))) (¬7)، وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعه: - ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) (¬8). ¬

(¬1) [10561])) أبو عبد الله محمد العربي التباني الجزائري ثم المكي، عالم معاصر، أصولي، مفسر، محدث، مؤرخ، درس في الحرم المكي، وكذا في مدرسة الفلاح بمكة، له مؤلفات جمة، كان حياً عام 1374 هـ. انظر: مقدمة كتابه ((تحذير العبقري من محاضرات الخضري)) (1/ 9) (¬2) [10562])) ((إتحاف ذوي النجابة)) (ص 75). (¬3) [10563])) ((الفصل)) (3/ 300) (¬4) [10564])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 575) (¬5) [10565])) رواه البخاري (17). (¬6) [10566])) الحديث رواه معاوية بن أبي سفيان, وأبو هريرة رضي الله عنهم, وليس البراء بن عازب, كما ذكر المصنف, أما حديث البراء بن عازب لفظه: ((من أحب الأنصار أحبه الله, ومن أبغض الأنصار أبغضه الله)) رواه ابن ماجه (163) وابن منده في ((الإيمان)) (2/ 608) , وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (¬7) [10567])) رواه الطبراني (19/ 341) , من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه, وصححه العراقي في ((محجة القرب)) (255) , وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 42): رجاله رجال الصحيح غير النعمان بن مرة وهو ثقة , ورواه في ((الأوسط)) (1/ 298) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 42): رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن حاتم وهو ثقة, (¬8) [10568])) رواه مسلم (77).

ويوضح العيني هذا المعنى فيقول: (المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين، وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصرة، وغير ذلك، وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة، والمهاجرين، بل في كل الصحابة، إذ كل منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان، وبغضهم محض النفاق) (¬1). ويقول الصاوي: (وأما من كفَّر جميع الصحابة فإنه يكفر باتفاق، كما في الشامل؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وكذب الله ورسوله) (¬2). (ج) من أنواع سب الصحابة الذي يناقض الإيمان: أن يسب صحابياً تواترت النصوص بفضله، فيطعن في دينه وعدالته، وذلك لما فيه من تكذيب لهذه النصوص المتواترة، والإنكار والمخالفة لحكم معلوم من الدين بالضرورة. وإليك جملة من كلام أهل العلم في تقرير ذلك: - قال مالك رحمه الله: (من شتم أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل) (¬3). (وسئل الإمام أحمد عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة، فقال: ما أراه على الإسلام، وسئل عمن يشتم عثمان، فقال رحمه الله: هذه زندقة) (¬4). (وقال محمد بن يوسف الفريابي وسئل عمن شتم أبا بكر، فقال: كافر، قيل: فيصلى عليه؟ قال: لا، وسأله: كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته) (¬5). وجاء في (الفتاوى البزازية): (ومن أنكر خلافة أبي بكر فهو كافر في الصحيح، ومنكر خلافة عمر رضي الله عنه فهو كافر في الأصح، ويجب إكفار الخوارج بإكفار عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم. وفي الخلاصة: الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر) (¬6). وقال الخرشي: (إن رمى عائشة بما برأها الله منه بأن قال زنت، أو أنكر صحبة أبي بكر أو إسلام العشرة أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة، أو واحداً منهم كفر) (¬7). ¬

(¬1) [10569])) ((عمدة القارئ)) (1/ 173) وانظر ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص 581). (¬2) [10570])) ((الشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوي)) (6/ 160)، وانظر ((الرد على الرافضة)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص 19) (¬3) [10571])) ((الشفا)) (2/ 1107) (¬4) [10572])) ((المسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة)) للأحمدي (2/ 358 - 363)، وانظر ((السنة)) للخلال (3/ 493) (¬5) [10573])) ((السنة)) للخلال (3/ 499) (¬6) [10574])) ((الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية)) (6/ 318) وانظر ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 131). (¬7) [10575])) ((الخرشي على مختصر خليل)) (7/ 74)، وعلل العدوي ذلك في ((حاشيته)) على الخرشي (7/ 74): "لأن إسلام الصحابة صار معلوماً من دين الله بالضرورة. "

ويقول السبكي: (احتج المكفرون للشيعة والخوارج بتكفيرهم لأعلام الصحابة رضي الله عنهم، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في قطعه لهم بالجنة، وهذا عندي احتجاج صحيح فيمن ثبت عليه تكفير أولئك، وأجاب الآمدي بأنه إنما يلزم أن لو كان المكفر يعلم بتزكية من كفره قطعاً على الإطلاق إلى مماته بقوله صلى الله عليه وسلم: - ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة)) (¬1) إلى آخرهم، وإن كان هذا الخبر ليس متواتراً لكنه مشهور مستفيض، وعضده إجماع الأمة على إمامتهم وعلو قدرهم وتواتر مناقبهم أعظم التواتر الذي يفيد تزكيتهم فبذلك نقطع بتزكيتهم على الإطلاق إلى مماتهم لا يختلجنا شك في ذلك) (¬2). ويقول أيضاً: (وأما الرافضي فإنه يبغض أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لما استقر في ذهنه بجهله وما نشأ عليه من الفساد عن اعتقاد ظلمهما لعلي، وليس كذلك ولا علي يعتقد ذلك، فاعتقاد الرافضي ذلك يعود على الدين بنقض؛ لأن أبا بكر وعمر هما أصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مأخذ التكفير ببغض الرافضة لهما، وسبهم لهما) (¬3). ويقول في موضع ثالث: (وتحريم سب الصديق رضي عنه معلوم من الدين بالضرورة بالنقل المتواتر على حسن إسلامه، وأفعاله الدالة على إيمانه وأنه دام على ذلك إلى أن قبضه الله تعالى هذا لا شك فيه) (¬4). وهذه المسألة فيها خلاف، فهناك من لا يعد هذا السب كفراً، بل يجعله فسقاً، يوجب التأديب والتعزير. ولا شك أن هذا السب فسق بالاتفاق، بل إن القائلين بعدم تكفير من سب الصحابة مجمعون على ذلك، كما قال السبكي:- (وأجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة أنهم فساق) (¬5). ويذكر ابن تيمية أن أقل ما يفعل بشاتم الصحابة: التعزير ويعلل ذلك بقوله: (لأنه - أي التعزير- مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، وقال صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) (¬6). وهذا مما لا يعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة، فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم، وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول) (¬7). وإليك طرفاً من أقوال العلماء القائلين بعدم التكفير في هذا السب. سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أرى أن يضرب ... . وقال: (ما أراه إلا على الإسلام) (¬8). ويقول القاضي عياض: (قد اختلف العلماء في هذا، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع، قال مالك رحمه الله: - من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب). ¬

(¬1) [10576])) رواه أبو داود (4649) , وابن ماجه (133) , وأحمد (1/ 188) (1631) , والطبراني في ((الأوسط)) (9/ 185) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) , من حديث سعيد بن زيد, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 108): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)).وروي أيضا من حديث عبد الرحمن بن عوف. (¬2) [10577])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 569). (¬3) [10578])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 576). (¬4) [10579])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 587)، وانظر (2/ 589) وانظر ((الإعلام)) للهيتمي (ص: 352، 363، 380) (¬5) [10580])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 580). (¬6) [10581])) رواه البخاري (2443) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬7) [10582])) ((الصارم المسلول)) (ص 578). (¬8) [10583])) انظر: ((المسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة))، للأحمدي (2/ 363)، وانظر ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 323، 324).

وقال ابن حبيب: (من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أُدِّبَ أدباً شديداً، ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد، ويكرر ضربه، ويطال سجنه حتى يموت، ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سحنون: - من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: علياً أو عثمان أو غيرهما، يوجع ضرباً) (¬1). وقال السبكي: (وأما أصحابنا (الشافعية) فقد قال القاضي حسين في تعليقه في باب اختلاف نية الإمام والمأموم: - من سب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك، ومن سب صحابياً فسق، وأما من سب الشيخين أو الختنين (¬2) ففيه وجهان، أحدهما يكفر؛ لأن الأمة اجتمعت على إمامتهم، والثاني يفسق ولا يكفر) (¬3). ويقول الرملي: (ولا يكفر بسب الشيخين أو الحسن والحسين إلا في وجه حكاه القاضي حسين) (¬4). ويقول ابن عابدين: (نقل في البزازية عن الخلاصة أن الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر، وإن كان يفضل علياً عليهما فهو مبتدع. أهـ على أن الحكم عليه بالكفر مشكل، لما في الاختيار: اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم، وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفراً، ولكن يضلل ... الخ. وذكر في (فتح القدير) أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة. -إلى أن قال – فعلم أن ما ذكره في الخلاصة من أنه كافر قول ضعيف مخالف للمتون والشروح ... ) (¬5). ومما يستدل به القائلون بعدم كفر ساب الصحابة رضي الله عنهم بأن مطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر؛ لأن بعض من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما سب بعضهم بعضاً، ولم يكفر أحد بذلك (¬6) والجواب عن استدلالهم أن يقال: إن سب الصحابة نوعان، أحدهما سب يقدح في دين الصحابة وعدالتهم، كأن يرمي صحابياً بالكفر مثلاً ممن تواترت النصوص بفضله، فهذا من الكفر، لما يتضمنه من تكذيب للآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة الدالة على تزكيتهم وفضلهم، ولأن هذا السب إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومن ظن أن مثل هذا السب لا يعد كفراً، فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع. والآخر أن يسب صحابياً – وإن كان ممن تواترت النصوص بفضله – سباً لا يقدح في إسلامه ودينه، مثل وصفه بالبخل، أو الجبن، أو قلة معرفة بالسياسة ونحو ذلك، فهذا لا يعتبر كفراً، ولكن يستحق فاعله التأديب والتعزير (¬7). وكذا لو سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سباً يطعن في دينه، فلا يكفر بهذا السب، لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة (¬8). ¬

(¬1) [10584])) ((الشفا)) (2/ 1108)، وانظر ((الشرح الصغير)) للدردير (6/ 160)، و ((الخرشي على مختصر خليل)) (7/ 74)، و ((فتح العلي المالك)) لعليش (2/ 286)، و ((بلغة السالك لأقرب المسالك)) (2/ 420). (¬2) [10585])) يعني عثمان وعلياً رضي الله عنهما، وفي الأصل المطبوع: الحسين، والتصحيح من كتاب ((الإعلام)) لابن حجر (ص 352). (¬3) [10586])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 577)، وانظر ((فتح الباري)) (7/ 36). (¬4) [10587])) ((نهاية المحتاج)) (7/ 426)، وانظر ((قليوبي وعميرة)) (4/ 175). (¬5) [10588])) ((حاشية بن عابدين)) (4/ 237)، وانظر ((مجموعة رسائل ابن عابدين)) (1/ 342 – 345). (¬6) [10589])) انظر: ((الصارم المسلول)) (ص 579). (¬7) [10590])) انظر: ((الصارم المسلول)) (ص 571، 589). (¬8) [10591])) انظر: رسالة ((الرد على الرافضة)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص 18، 19).

ولا شك أن ما قد وقع بين بعض الصحابة من سب ليس من النوع الأول، ويشهد لذلك أن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬1). فقد جاءت رواية توضح وتبين حقيقة هذا السب، فقد روى الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده ... )) الحديث (¬2). وبهذا التفصيل والتفريق بين نوعي السب يمكن اجتماع القولين، كما يحصل التوفيق بين الأقوال المختلفة، فمثلاً الرواية السابقة عن الإمام أحمد: ما أراه إلا على الإسلام يمكن أن نضمها إلى الرواية الأخرى عن الإمام أحمد حيث قال: (ما أراه على الإسلام) (¬3). وقد قال القاضي أبو يعلى في الجمع بين تلك الروايتين المتعارضتين عن الإمام أحمد (يحتمل أن قوله (ما أراه على الإسلام) إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك، بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي، قال: ويحتمل قوله (ما أراه على الإسلام) على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الأمر بغير حق، ويحمل قوله في إسقاط القتل على سبٍ لا يطعن في دينهم، نحو قوله (كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة ... ) (¬4). ويقول ابن تيمية – في هذا الصدد -: (وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم) (¬5). وكذا يمكن التوفيق بين الروايات المختلفة عن الإمام مالك، فالرواية السابقة عن مالك: من شتم الصحابة أدب، لا تعارض مع ما جاء في الرواية الأخرى عنه حيث قال: (من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً) (¬6). فهذه الرواية تبين ما أجمل في الرواية الأولى، فمن شتم الصحابة – ممن تواترت النصوص بفضلهم – شتماً يقدح في دينهم فهو كافر يجب قتله، ومن شتمهم بغير هذا فليس بكافر، ويتعين تعزيره وتأديبه. وأيضاً فرواية مالك: (من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: - من رماها فقد خالف القرآن) (¬7). فمراده – والله أعلم – أن يسب الصديق رضي الله عنه سباً لا يقدح في دينه، وذلك لما ورد عنه رحمه الله من القول بالقتل فيمن شتم من هو دون الصديق. ¬

(¬1) [10592])) رواه مسلم (2541). (¬2) [10593])) رواه أحمد (3/ 266) (13839) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 19): رجاله رجال الصحيح, وقال الألباني في ((السلسة الصحيحة)) (4/ 556): إسناده صحيح على شرط البخاري. (¬3) [10594])) انظر ((المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد))، للأحمدي (2/ 363، 364). (¬4) [10595])) ((الصارم المسلول)) (ص: 571). (¬5) [10596])) ((الصارم المسلول)) (ص: 586). (¬6) [10597])) ((الشفا)) (2/ 1108) (¬7) [10598])) ((الشفا)) (2/ 1109)

يوضح ذلك ما قاله السبكي: (فيتلخص أن سب أبي بكر رضي الله عنه على مذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين عند الشافعية كفر، وأما مالك فالمشهور أنه أوجب الجلد، فيقتضي أنه ليس كفراً، ولم أر عنده خلاف ذلك، إلا في الخوارج فتخرج عنه أنه كفر، فتكون المسألة عنده على حالتين: إن اقتصر على السب من غير تكفير لم يكفر، وإن كفر كفر) (¬1). ويقول أيضاً: (القائل بأن الساب لا يكفر لم نتحقق منه أن يطرده فيمن يكفر أعلام الصحابة رضوان الله عليهم، فأحد الوجهين عندنا إنما اقتصرنا على مجرد السب دون التكفير، وكذلك أحمد إنما جبن عن قتل من لم يصدر منه إلا السب) (¬2). وإذا تقرر نوعا السب والطعن في حق الصحابة رضي الله عنهم، فإن من أنواع السب ما لا يمكن القطع بإلحاقه في أحد النوعين السابقين، بل يكون محل تردد، وهذا النوع هو ما قال عنه ابن تيمية:- (وأما من لعن وقبح مطلقاً، فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد) (¬3). من قذف إحدى أمهات المؤمنين، فإن كانت عائشة رضي الله عنها فهو كافر بالإجماع ومن قذف غيرها من أمهات المؤمنين فهو أيضاً كافر على أصح الأقوال. وبيان ذلك أن قذف عائشة رضي الله عنها تكذيب ومعاندة للقرآن، فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله تعالى. قال تعالى: - يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النور: 17]. كما قال الإمام مالك: (من سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن) (¬4). قال ابن حزم معلقاً على مقالة مالك: (قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها) (¬5). وذكر ابن بطة عائشة رضي الله عنها، وأنها: (مبرأة طاهرة خيرة فاضلة وصاحبته في الجنة، وهي أم المؤمنين في الدنيا والآخرة، فمن شك في ذلك، أو طعن فيه، أو توقف عنه، فقد كذب بكتاب الله، وشك فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه من عند غير الله عز وجل، قال الله تعالى: - يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النور: 17]، فمن أنكر هذا فقد برئ من الإيمان) (¬6). إضافة إلى ذلك، فإن قذف عائشة رضي الله عنها يعد تنقصاً للرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء له، ولذا قال السبكي: (وأما الوقيعة في عائشة رضي الله عنها والعياذ بالله فموجبة للقتل لأمرين:- أحدهما: أن القرآن الكريم يشهد ببراءتها، فتكذيبه كفر، والوقيعة فيها تكذيب له. الثاني: أنها فراش النبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة فيها تنقيص له، وتنقيصه كفر) (¬7). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (من قذف عائشة بالفاحشة ... فقد جاء بكذب ظاهر واكتسب الإثم، واستحق العذاب، وظن بالمؤمنين سوءاً وهو كاذب، وأتى بأمر ظنه هيناً وهو عند الله عظيم، واتهم أهل بيت النبوة بالسوء، ومن هذا الاتهام يلزم نقص النبي صلى الله عليه وسلم) (¬8). إضافة إلى ذلك، فقد أجمع العلماء على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فهو كافر. ¬

(¬1) [10599])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 590). (¬2) [10600])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 590). (¬3) [10601])) ((الصارم المسلول)) (ص 586)، وانظر ((فتاوى السبكي)) (2/ 579). (¬4) [10602])) انظر ((الشفا)) (2/ 1109). (¬5) [10603])) ((المحلى)) (13/ 504). (¬6) [10604])) ((الإبانة الصغرى)) (ص: 270). (¬7) [10605])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 592). (¬8) [10606])) ((الرد على الرافضة)) (ص: 24) بتصرف يسير

يقول ابن تيمية رحمه الله: (ذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فقد كفر؛ لأنه مكذب للقرآن) (¬1). ويقول ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: - إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور: 23]: - (وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن) (¬2). وأما من قذف سائر أمهات المؤمنين، فهل يكفر من قذفهن أم لا؟ على قولين أصحهما أنه يكفر. والقول الآخر أنه لا يكفر، وقالوا: إن القرآن قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، فمن خالف ذلك وأنكره، فهو مكذب للقرآن، ومن ثم فهو كافر بالله تعالى، ولم يرد مثل هذا في بقية أمهات المؤمنين. والجواب عن ذلك أن يقال: (المقذوفة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضب لها؛ لأنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء) (¬3). كما أن جميع أمهات المؤمنين فراش للنبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة في أعراضهن تنقص ومسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن سب المصطفى صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة بالإجماع (¬4). وقد اختار القول الأول جمع من المحققين، كابن حزم (¬5)، والقاضي عياض (¬6)، وابن تيمية (¬7)، والسبكي (¬8) وغيرهم. ويقول ابن تيمية: (والأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها؛ لأن هذا منه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن) (¬9). ويدل على هذا قوله تعالى: - إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور: 23]. فهذه الآية الكريمة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة، في قول كثير من أهل العلم كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين. وكذا روي عن أبي الجوزاء، والضحاك، والكلبي وغيرهم) (¬10). يقول ابن تيمية عن هذه الآية: (لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، فلعن صاحبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس: - ليس له توبة؛ لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاماً جديداً، وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة) (¬11). ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية: ¬

(¬1) [10607])) ((الرد على البكري)) (ص: 340). (¬2) [10608])) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 267)، وقد حكى ابن كثير هذا الإجماع أيضاً في ((البداية)) (8/ 92)، وانظر ((مجموعة رسائل ابن عابدين)) (1/ 345). (¬3) [10609])) انظر ((البداية)) لابن كثير (8/ 92) (¬4) [10610])) انظر ((فتاوى السبكي)) (2/ 592)، و ((طرح التثريب)) للعراقي (8/ 69). (¬5) [10611])) انظر ((المحلى)) (13/ 504). (¬6) [10612])) انظر ((الشفا)) (2/ 1113). (¬7) [10613])) انظر ((الصارم المسلول)) (ص 567). (¬8) [10614])) انظر ((فتاوى السبكي)) (2/ 592). (¬9) [10615])) ((الصارم المسلول)) (ص 567) (¬10) [10616])) انظر ((تفسير الطبري)) (18/ 74)، و ((تفسيرابن كثير)) (3/ 268)، و ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/ 164). (¬11) [10617])) ((الصارم المسلول)) (ص47)

(والمراد بها عائشة الصديقة رضي الله عنها، والجمع باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: - كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105]، ونظائره، وقيل أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولاً أولياً. وأما ما قيل من أن المراد هي الصديقة، والجمع باعتبار استتباعها للمتصفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة، فيأباه، أن العقوبات المترتبة على رمي هؤلاء عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، ولا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر، فيجب أن يكون المراد إياهن على أحد الوجهين، فإنهن قد خصصن من بين سائر المؤمنات، فجعل رميهن كفراً إبرازاً لكرامتهن على الله عز وجل، وحماية في صاحب الرسالة من أن يحوم حوله أحد بسوء) (¬1). 3 - ومن خلال عرض أنواع سب الصحابة التي تخرج عن الملة، فإنه يمكن أن نسوق جملة من الأوجه في كون هذا السب ناقضاً من نواقض الإيمان، على النحو التالي:- أ- أن في سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيباً للقرآن الكريم، وإنكاراً لما تضمنته الآيات القرآنية من تزكيتهم والثناء الحسن عليهم. ولذا يقول ابن تيمية: (إن الله سبحانه رضي عنهم رضاً مطلقاً بقوله تعالى:- وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة: 100] فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، وقال تعالى: - لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18]، والرضى من الله صفة قديمة (¬2)، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً إلى أن قال: (فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أن يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك) (¬3). ويقول ابن حجر الهيتمي: (ومنها قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18]، فصرح تعالى برضاه عن أولئك وهم ألف ونحو أربعمائة، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاة على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر، فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضي عنه، فعلم أن كلا من هذه الآية وما قبلها صريح في رد ما زعمه وافتراه أولئك الملحدون الجاحدون حتى للقرآن العزيز، إذ يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم، وأنهم عدول خيار، وأن الله لا يخزيهم وأنه رضي عنهم، فمن لم يصدق بذلك منهم فهو مكذب لما في القرآن، ومن كذب بما فيه مما لا يحتمل التأويل كان كافراً جاحداً ملحداً مارقاً) (¬4). ¬

(¬1) [10618])) ((تفسير أبي السعود)) (4/ 104 – 105). (¬2) [10619])) الرضى من صفات الله تعالى الفعلية التي تتعلق بمشيئة اختياره (¬3) [10620])) ((الصارم المسلول)) (ص 572، 573)، وانظر ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/ 117) (¬4) [10621])) ((الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة)) (ص 316).

وقد استنبط بعض الأئمة من نصوص قرآنية كفر من سب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فقال الإمام مالك بن أنس: (من تنقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا قوله تعالى: مَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ حتى أتى قوله: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ الآية [الحشر:7 - 10]، فمن تنقصهم أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له في الفيء حق) (¬1). وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (لا حظ للرافضي في الفيء والغنيمة لقول الله حين ذكر آية الفيء في سورة الحشر، فقال وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ .. الآية) (¬2). (وقال أبو عروة – رجل من ولد الزبير: - كنا عند مالك، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: - مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء حتى بلغ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ [الفتح:29] فقال مالك: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية) (¬3). قال القرطبي – معلقاً على قول مالك -: - (لقد أحسن مالك في مقالته، وأصاب في تأويله، فمن تنقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته، فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين) (¬4). ولما ذكر أبو المعالي الألوسي هذه الآية مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ قال: (قال العلماء هذه الآية ناصة على أن الرافضة كفرة؛ لأنهم يكرهونهم، بل يكفرونهم والعياذ بالله تعالى) (¬5). وننبه هاهنا إلى أن قول مالك رحمه الله: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية، إنما يحمل على غيظ سببه ما كان عليه الصحابة من الإيمان والقوة والكثرة، قال تعالى: - مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]. فكثرهم الله تعالى وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين، فمن غاظه حال الصحابة رضي الله عنهم لإيمانهم فهو كافر، كمن سبهم طعناً في دينهم وعدالتهم، وأما إن وقع الغيظ من غير هذه الجهة، فليس بكفر، فقد جرت حروب بين الصحابة، ووقع من بعضهم غيظ وبغض لبعض، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بكفر أو نفاق. ¬

(¬1) [10622])) ((الحلية)) لأبي نعيم (6/ 327)، وانظر ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (7/ 1268) (¬2) [10623])) ((السنة)) للخلال (3/ 498). (¬3) [10624])) ((الحلية)) لأبي نعيم (6/ 327) (¬4) [10625])) ((تفسير القرطبي)) (16/ 96 – 297) (¬5) [10626])) السيوف المشرقة (مخطوط)، (ق 238).

وتوضيحاً لذلك نورد ما قاله العيني، ونقله عن القرطبي (¬1) صاحب (المفهم) .. عند شرحه لحديث: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) (¬2) حيث يقول العيني: (المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار، وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق. وقال القرطبي: - وأما من أبغض والعياذ بالله أحداً منهم من غير تلك الجهة لأمر طارئ من حدث وقع لمخالفة غرض، أو لضرر ونحوه، لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام) (¬3). وبهذا ندرك خطأ ما قاله ابن حزم عند خطأ من حمل الآية: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ .. على ما استنبطه الإمام مالك (¬4)، فابن حزم لم يفرق بين الغيظ الذي يوجب خروجاً عن الملة، وبين الغيظ فيما دون ذلك. ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (فمن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم، ومن اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالى فيما أخبر من كمالهم وفضلهم ومكذبه كافر) (¬5). وإذا تقرر أن سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيب للقرآن الكريم، فإن القول بكفر جمهور الصحابة رضي الله عنهم، أو فسقهم يؤول إلى الشك في القرآن الكريم، والطعن في ثبوته وحفظه؛ لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، ولذا فإن الرافضة لما كفروا جمهور الصحابة، اتبعوا ذلك بدعوى تحريف القرآن الكريم وتبديله. (ب) أن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم نسبة الجهل إلى الله تعالى، أو العبث في تلك النصوص الكثيرة التي تقرر الثناء الحسن على الصحابة، وتزكيهم. ويبين ذلك الشيخ محمد العربي بن التباني المغربي حيث يقول:- (كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم، ورضاهم عنه بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة (أي الرافضة) في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم وتقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وكلاهما مصيبة كبرى، وذلك لأنه تعالى إن كان عالماً بأنهم سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبثاً، والعبث في حقه تعالى محال، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الدخان:38]، وإن كان تعالى غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم بالحسنى فهو جهل، والجهل عليه تعالى محال، ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح) (¬6). ¬

(¬1) [10627])) أبو العباس أحمد بن عمرو بن إبراهيم القرطبي المالكي، محدث، فقيه، رحل إلى المشرق، له مؤلفات، توفي بالإسكندرية سنة 656 هـ. انظر: ((الديباج المذهب)) (1/ 240)، و ((شذرات الذهب)) (5/ 273). (¬2) رواه البخاري (17)، ومسلم (74). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) [10629])) ((عمدة القارئ)) (1/ 173) باختصار، وانظر ((فتح الباري)) (1/ 63) (¬4) [10630])) انظر ((الفصل)) (3/ 294). (¬5) [10631])) ((الرد على الرافضة)) (ص17) (¬6) [10632])) ((إتحاف ذوي النجابة)) بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة (ص 75) باختصار

(ج) من سب الصحابة رضي الله عنهم، ورماهم بالكفر أو الفسق، فقد تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم وآذاه؛ لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم، ومن المعلوم أن تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة (¬1). أخرج الخطيب البغدادي – بسنده – عن أبي زرعة قال: - (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة) (¬2). ومن أشنع أنواع السب: أن يقذف إحدى أمهات المؤمنين، لما في الوقيعة في أعراضهن من التنقص والمسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ساق اللالكائي بسنده (أن الحسن بن زيد لما ذكر رجل بحضرته عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فأمر بضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26]. فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه. فضربوا عنقه) (¬3). وأخرج اللالكائي – بسنده – عن محمد بن زيد أنه قدم عليه من العراق رجل ينوح بين يديه فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود، وضرب به دماغه فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا وممن يتولانا، فقال: هذا سمى جدي قرنان (¬4) استحق عليه القتل فقتلته (¬5) إضافة إلى ذلك فإن هذا السب يستلزم اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم ينجح في دعوته، ولم يحقق البلاغ المبين، وقد زعم من لا خلاق له من الدين والعلم، أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم قد ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت على الإيمان إلا القليل، وقد يؤول هذا الأمر إلى اليأس من إصلاح البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن المعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده. (د) أن سب الصحابة رضي الله عنهم، والطعن في دينهم، هو طعن في الدين، وإبطال للشريعة، وهدم لأصله، لعدم توافر النقل المأمون له. وإليك هذه القصة التي تبين ذلك: - ¬

(¬1) [10633])) انظر ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (حاشية المحقق) (7/ 1238)، ((فتاوى السبكي)) (2/ 575)، و ((الرد على الرافضة)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص 8)، و ((صحابة الرسول)) للكبيسي (ص 337) (¬2) [10634])) ((الكفاية في علم الرواية)) (ص 63 - 64) (¬3) [10635])) انظر: ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (7/ 1269) (¬4) [10636])) في الأصل: قرتان، وقال المحقق: لم يتبين لي معناها ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (7/ 1270) والصحيح ما أثبته كما نقله ابن تيمية في ((الصارم المسلول)) (ص 67) ومعنى قرنان: - (هو الذي يشارك في امرأته كأن يقرن به غيره، وهو نعت سوء في الرجل الذي لا غيرة له) ((لسان العرب)) (13/ 338). (¬5) [10637])) انظر ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (7/ 1270).

قال عمر بن حبيب: (حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة تنازعها الحضور، وعلت أصواتهم، فاحتج أحدهم بحديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع بعضهم الحديث، وزادت المدافعة والخصومة، حين قال قائلون منهم: - لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل، صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه بيده والسيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب، ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين، فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، وأمر لي بعشرة آلاف درهم) (¬1). وقال ابن عقيل الحنبلي في هذا المقال: (الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف، وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم ... فإذا قال قائل: - إنهم أول ما بدؤوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة، وابنته في إرثها، وما هذا إلا لسوء اعتقاد في المتوفي. فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم. فإذا قالت الرافضة: إن القوم استحلوا هذا بعده، خابت آمالنا في الشرع؛ لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم. فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول، وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذوي العقول، ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه، فراعوه مدة الحياة، وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة، ولم يبقى على دينه إلا الأقل من أهله، فطاحت الاعتقادات، وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل، فهذا من أعظم المحن على الشريعة) (¬2). وقال الذهبي: (فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين؛ لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وبيان فضائلهم ومناقبهم وحبهم ... إلى أن قال – والطعن في الوسائط طعن الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره، وسلم من النفاق، ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته ... ) (¬3). ¬

(¬1) [10638])) ((تهذيب الكمال)) (2/ 1004، 1005). (¬2) [10639])) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص 107، 108) (¬3) [10640])) ((الكبائر)) (ص 285)

وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر: - (هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث ... فهؤلاء أشد ضرراً على الدين من اليهود والنصارى، وفي هذه الهفوة الفساد من وجوه، فإنها توجب إبطال الدين والشك فيه، وتجوز كتمان ما عورض به القرآن، وتجوز تغيير القرآن ... ) (¬1). ويقول محمد صديق حسن خان: (والعجب كل العجب من علماء الإسلام وسلاطين هذا الدين كيف تركوهم (أي الرافضة) على هذا المنكر البالغ في القبح إلى غايته ونهايته، فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد هذه الشريعة المطهرة ومخالفتها، طعنوا في أعراض الحاملين لها، الذين لا طريق لنا إليها إلا من طريقهم، واستذلوا أهل العقول الضعيفة والإدراكات الركيكة بهذه الذريعة الملعونة والوسيلة الشيطانية، فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة، ويضمرون العناد للشريعة ورفع أحكامها عن العباد) (¬2). (هـ) إن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم تضليل الأمة المحمدية، ويتضمن أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام (¬3). كما أن سبهم إنكار لما قام الإجماع عليه، قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة للنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في بيان علو مقامهم وعظيم شأنهم (¬4) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف- ص: 410 ¬

(¬1) [10641])) ((الرد على الرافضة)) (ص 13) باختصار (¬2) [10642])) ((الدين الخالص)) (3/ 404). (¬3) [10643])) انظر ((الصارم المسلول)) (ص 587)، و (الأعلام) لابن حجر الهيتمي (ص 380). (¬4) [10644])) انظر ((صحابة الرسول)) للكبيسي (ص337).

المطلب الثاني: الاستهزاء بالعلماء والصالحين

المطلب الثاني: الاستهزاء بالعلماء والصالحين إن الواجب تجاه العلماء والصالحين هو محبتهم ومودتهم، وتوقيرهم وإجلالهم، كما جاءت به الشريعة، دون غلو وإفراط. 2 - ولا شك أن الاستهزاء بالعلماء أو الصالحين يضاد محبتهم وإجلالهم، فالاستهزاء بهم يعني السخرية بهم والاستخفاف بهم (¬1). قال الألوسي: (الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وذكر الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وبالإشارة والإيماء ... وأصل هذه المادة الخفة، يقال: ناقة تهزأ به أي: تسرع وتخف) (¬2). إن الاستهزاء بأهل العلم والصلاح صفة من صفات الكافرين، وخصلة من خصال المنافقين، كما قرر ذلك القرآن في آيات كثيرة. يقول الله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212]. وقال سبحانه: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:103، 111]. وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:29 - 33]. وقال تعالى في شأن المنافقين: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:14 - 15]. وقال تعالى الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]. ولقد حرص أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وأذنابهم من منافقي هذا الزمان على تشويه سمعة العلماء، وزعزعة مكانتهم في نفوس الأمة المسلمة. فمما جاء في البروتوكول السابع عشر من بروتوكولات اليهود: ¬

(¬1) [10645])) انظر ((لسان العرب)) (1/ 183)، و ((المصباح المنير)) (ص 787). (¬2) [10646])) ((روح المعاني)) (1/ 158) باختصار

(وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأمميين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً) (¬1). وسعى هؤلاء في سبيل ذلك سعياً حثيثاً، فشنوا الحملات المسعورة، وأعدوا المخططات الرهيبة من أجل الكيد لهذا الدين والصد عنه، عن طريق الطعن في حملة الإسلام ودعاته وعلمائه، وقد آتت هذه المؤامرات ثمارها النكدة كما هو مشاهد في واقع الأمة، وتولت وسائل الإعلام في بلاد المسلمين وغيرها كبر هذه الهجمة الشرسة على علماء الأمة (¬2)، فظهر الاستهزاء بالعلماء والصالحين على وسائل الإعلام المختلفة، وتطاول الأقزام من أهل الشبهات والشهوات على مقامات أهل العلم والصلاح باسم حرية الرأي والفكر!، واستهزئ بأهل الصلاح والديانة تحت مظلة محاربة التطرف والتشدد! وساعد على استفحال هذا المنكر أسباب كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره، نذكر أيضاً من تلك الأسباب:- غلبة الجهل بدين الله تعالى بين المسلمين، سواء كان الجهل بحرمة المسلم وعظيم حقه ومنزلته، أو الجهل بحكم الاستهزاء بأهل العلم والصلاح. وسبب آخر وهو تنحية شرع الله تعالى في بلاد المسلمين ... فلو أن حد الردة– مثلاً– أقيم على من يستحقه ... فلن يتطاول سفيه على فتاوى أهل العلم، كما هو واقعنا الآن، ولن يسخر مريض قلب من استقامة أهل الديانة وطهرهم، والله حسبنا ونعم الوكيل. إن الاستهزاء بالعلماء والصالحين على ضربين:- أحدهما:- الاستهزاء بأشخاصهم، كمن يستهزئ بأوصافهم الخَلْقِّية أو الخُلُقِّية، وهذا محرم لقوله تعالى: - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال ((الكبر بطر الحق وغمص الناس)) (¬3) ويروى وغمط الناس. والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ... ) (¬4). والضرب الآخر: الاستهزاء بالعلماء لكونهم علماء، ومن أجل ما هم عليه من العلم الشرعي، فهذا كفر؛ لأنه استهزاء بدين الله تعالى، وكذا الاستهزاء بأهل الصلاح من أجل استقامتهم على الديانة، واتباعهم للسنة، فالاستهزاء – هاهنا – متوجه إلى الدين والسنة. ¬

(¬1) [10647])) ((بروتوكولات حكماء صهيون)) ترجمة محمد خليفة التونسي (ص 187). (¬2) [10648])) انظر ((المشايخ والاستعمار)) لحسني عثمان، و ((القول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين)) لعبد السلام آل عبد الكريم، و ((الاستهزاء بالدين وأهله)) لمحمد القحطاني (¬3) [10649])) رواه مسلم (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: ( ... وغمط الناس). (¬4) [10650])) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 213)

ومن المناسب هاهنا أن نورد تعقيباً لابن حجر الهيتمي على ما قاله أحد علماء الأحناف عند ذكره لنواقض الإيمان: (فقال هذا الحنفي (¬1): أو قال: إيش مجلس الوعظ، أو العلم لا يثرد (¬2)، أو وعظ على سبيل الاستهزاء، أو ضحك على وعظ العلم، أو قال: إيش هذا القبيح الذي خففت شاربك، أو قال: بئسما أخرجت السنة) (¬3) اهـ كلامه. فعقب ابن حجر قائلاً: (ما ذكره في إيش مجلس الوعظ .. الخ، إنما يتجه إن أراد الاستهزاء، وكذا إن أطلق على احتمال قوي فيه لظهور هذا اللفظ في الاستخفاف بمجلس الوعظ والعلم. وما ذكره في الوعظ استهزاء إنما يتجه إن أراد الاستهزاء بالواعظ وكذا بالوعظ من حيث هو وعظ، أما لو أراد الاستهزاء بالواعظ، أو بكلماته، لا من حيث كونه واعظاً فلا يتجه الكفر حينئذ، وكذا يقال في الضحك على الوعظ) (¬4). ولما كان الاستهزاء بالعلماء والصالحين محتملاً للضربين المذكورين آنفاً، صار محلاً للخلاف (¬5)، وبهذا التفريق بينهما يزول الإشكال، ويرتفع الخلاف. 3 - وأما وجه كون هذا الاستهزاء يناقض الإيمان، فلما يلي:- (أ) أن الله عز وجل جعل الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم (¬6)، فقال تبارك وتعالى:- قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم [التوبة:65، 66]. فقد جاء في سبب نزول هذه الآيات عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً (¬7)، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب (¬8) ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكبه الحجارة، وهو يقول: - يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم (¬9))). ونورد جملة من كلام أهل العلم في بيان ذلك: - يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - في هذا الشأن (وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو بعمل يعمل به ... ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله) (¬10). ¬

(¬1) [10651])) لم يذكر ابن حجر الهيتمي اسم هذا العالم (¬2) [10652])) لا يثرد من قولهم " ثرد الخبز: أي فته ثم بله بمرق, انظر ((اللسان)) (3/ 102)، وظاهر العبادة السابقة: العلم لا يثرد ... الاستهزاء بالعلم واحتقاره (¬3) [10653])) ((الإعلام)) لابن حجر (ص 372 - 373). (¬4) [10654])) ((الإعلام)) لابن حجر (ص 372 - 373) (¬5) [10655])) انظر ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 68)، و ((الإعلام)) لابن حجر (ص 362). (¬6) [10656])) انظر ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (2/ 14 - 15). (¬7) [10657])) أي: أوسع بطوناً، انظر ((الفائق في غريب الحديث)) للزمخشري (2/ 69). (¬8) [10658])) الحقب: حبل يشد به رحل البعير إلى بطنه. انظر ((الفائق في غريب الحديث)) للزمخشري (1/ 300) (¬9) [10659])) رواه ابن جرير في ((التفسير)) (14/ 333) , وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (7/ 313) , قال مقبل الوادعي في ((أسباب النزول)) (122): رجاله رجال الصحيح إلا هشام بن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد وله شاهد بسند حسن. (¬10) [10660])) ((قرة عيون الموحدين)) (ص 217).

وسئل الشيخ حمد بن عتيق- رحمه الله - عن معنى قول الفقهاء: من قال يا فقيه بالتصغير يكفر .. فكان من جوابه: (اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه فهو كافر، وكذا إذا أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء، واستدلوا بقوله تعالى: - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65 - 66]. وسبب النزول مشهور، وأما قول القائل: فقيه، أو عويلم، أو مطيويع ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل، أو الاستهزاء بالفقه أو العلم أو الطاعة، فهذا كفر أيضاً ينقل عن الملة فيستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً) (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (قوله تعالى: - أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ ... الآيات أي فليس لكم عذر؛ لأن هذا لا يدخله الخوض واللعب، وإنما تحترم هذه الأشياء وتعظم ويخشع عندها إيماناً بالله ورسوله، وتعظيماً لآياته، وتصديقاً وتوقيراً، والخائض واللاعب منتقص لها، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله، وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله) (¬2). وجاء في فتوى اللجنة الدائمة ما يلي:- (سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة، والاستهزاء بالمتمسك بها نظراً لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة، هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر، فإن أصر بعد العلم فهو كافر، قال الله تعالى: - قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65 - 66]) (¬3). (ب) ذكر الله عز وجل أن الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين سبب في دخول نار جهنم، وعدم الخروج منها. فعندما ينادي أهل النار قائلين: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]. يقول الله تعالى جواباً عنهم: قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:108– 110]. وتوضيحاً لذلك نسوق أقوال بعض المفسرين لهذه الآيات فمما قاله أبو السعود رحمه الله: (وقوله تعالى: (إنه) تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي أن الشأن كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي وهم المؤمنون .. يقولون في الدنيا رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ؛ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم ربنا آمنا الخ، وتتشاغلون باستهزائهم حَتَّى أَنسَوْكُمْ أي الاستهزاء بهم ذِكْرِي من فرط اشتغالكم باستهزائهم وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ وذلك غاية الاستهزاء). (¬4) ويقول الألوسي: (قيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتكم؛ لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم. ¬

(¬1) [10661])) ((الدرر السنية)) (8/ 242) باختصار يسير (¬2) [10662])) ((حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد))، (ص 323) (¬3) [10663])) ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 256 – 257) (¬4) [10664])) ((تفسير أبي السعود)) (4/ 87) باختصار يسير.

وقيل: - خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون، فتشاغلتم بهم ساخرين، واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم. وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم، كما نبه عليه أولاً في قوله تعالى مِّنْ عِبَادِي وختمه بقوله تعالى إِنِّي جَزَيْتُهُمُ إلى قوله تعالى: - هُمُ الْفَائِزُونَ) (¬1). ومما سطره الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآيات: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ .. إلى قوله تعالى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ حيث قال رحمه الله:- (قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن (إن) المكسورة المشددة من حروف التعليل كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته، وقوله في هذه الآية إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي الآيتين. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة على أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: - رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار. وحتى في قوله: حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي .. حروف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار والعياذ بالله) (¬2). (ج) أن الاستهزاء بالعلماء والصالحين لأجل ما هم عليه من العلم الشرعي، واتباعهم للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، هو في حقيقته استهزاء بآيات الله تعالى، وسخرية بشرائع دين الله عز وجل، ولا شك أن هذا الاستهزاء كفر يناقض الإيمان، يقول الله تعالى: - وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الجاثية:9]، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار (¬3). يقول ابن حزم: (صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر) (¬4). 4 - ونختم هذا المبحث بجملة من أقوال العلماء في تلك المسألة. يقول القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا .. الآية حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي أي اشتغلتم بالاستهزاء عند ذكري وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ استهزاء بهم، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين؛ لأنهم كانوا سبباً لاشتغالهم عن ذكره، وتعدى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم. ويستفيد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء، والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل. " (¬5) وجاء في (الفتاوى البزازية): (والاستخفاف بالعلماء لكونهم علماء استخفاف بالعلم، والعلم صفة الله تعالى منحه فضلاً على خيار عباده ليدلوا خلقه على شريعته نيابة عن رسله، فاستخفافه بهذا يعلم أنه إلى من يعود) (¬6). ¬

(¬1) [10665])) ((روح المعاني)) (18/ 69) باختصار يسير (¬2) [10666])) ((أضواء البيان)) (5/ 827 - 828) باختصار (¬3) [10667])) انظر ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص 52). (¬4) [10668])) ((الفصل)) (3/ 299)، وانظر ((المحلى)) (13/ 00 5 –502) (¬5) [10669])) ((تفسير القرطبي)) (12/ 154) باختصار (¬6) [10670])) ((الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى العالمكيرية)) (6/ 336).

وجاء أيضاً: (رجل يجلس على مكان مرتفع أو لا يجلس عليه، لكن يسألونه عن مسائل بطريق الاستهزاء، ويضربونه بما شاؤا وهم يضحكون كفروا) (¬1). ويقول ابن نجيم: (ويكفر بجلوسه على مكان مرتفع والتشبه بالمذكورين ومعه جماعة يسألون من المسائل ويضحكون منه، ثم يضربونه بالمخراق (¬2)، وكذا يكفر الجميع لاستخفافهم بالشرع، وكذا لو لم يجلس على مكان مرتفع، ولكن يستهزئ بالمذكورين ويتمشى والقوم يضحكون، وبقوله لا تذهب وإن ذهبت تطلق امرأتك استهزاء بالعلم والعلماء جواباً لمن قال إلى مجلس العلم، جواباً أين تذهب) (¬3). ويقول أيضاً:- (ولو صغر الفقيه أو العلوي قاصداً الاستخفاف بالدين كفر، لا إن لم يقصده) (¬4). ويقول – في كتاب آخر -: (الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر) (¬5). ويقول ملا علي قاري: (وفي الظهيرية من قال لفقيه أخذ شاربه: ما أشد قبحاً قص الشارب ولف طرف العمامة تحت الذقن يكفر؛ لأنه استخفاف بالعلماء يعني وهو مستلزم لاستخفاف الأنبياء عليهم السلام؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام، وقص الشارب من سنن الأنبياء عليهم السلام فتقبيحه كفر بلا اختلاف بين العلماء. وفي (الخلاصة): من قال: قصصت شاربك وألقيت العمامة على العاتق استخفافاً يعني بالعالم أو بعلمه فذلك كفر. ونقل عن الأستاذ نجم الدين الكندي بسمرقند أن من تشبه بالمعلم على وجه السخرية، وأخذ الخشبة، وضرب الصبيان كفر، يعني لأن معلم القرآن من جملة علماء الشريعة فالاستهزاء به وبمعلمه يكون كفراً. وفي (المحيط) ذكر أن فقيهاً وضع كتابه في دكان وذهب، ثم مر على ذلك الدكان، فقال صاحب الدكان: ههنا نسيت المنشار، فقال الفقيه عندك كتاب لا منشار، فقال صاحب الدكان: النجار بالمنشار يقطع الخشب، وأنتم تقطعون به حلق الناس، أو قال حق الناس، فشكى الفقيه إلى الإمام الفضلي يعني الشيخ محمد بن الفضل، فأمر بقتل ذلك الرجل؛ لأنه كفر باستخفاف كتب الفقه. وفي (التتمة): من أهان الشريعة أو المسائل التي لا بد منها كفر، ومن ضحك من المتيمم كفر) (¬6). وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن بعض الناس يسخرون بالملتزمين بدين الله ويستهزئون بهم فما حكم هؤلاء؟ فأجاب: (هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق، فإن الله قال عن المنافقين: - الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]. ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم، وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله لكنهم على خطر عظيم) (¬7). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف– ص441 ¬

(¬1) [10671])) ((الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى العالمكيرية)) (6/ 337) (¬2) [10672])) المخراق: - المنديل يلف ليضرب به, انظر: ((مختار الصحاح)) (ص 173) (¬3) [10673])) ((البحر الرائق)) (5/ 132). (¬4) [10674])) ((البحر الرائق)) (5/ 134). (¬5) [10675])) ((الأشباه والنظائر)) (ص 191). (¬6) [10676])) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص 260 – 262) باختصار، وانظر ((تهذيب ألفاظ الكفر)) لمحمد إسماعيل الرشيد (ص 26) (¬7) [10677])) ((المجموع الثمين)) (1/ 65)، وانظر ((الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة)) للدوسري (ص 63)، و ((المنافقون في القرآن)) لعبدالعزيز الحميدي (ص 384)

المبحث الثاني: النواقض العملية

المطلب الأول: ترك الصلاة تهاونا وكسلا من تعمد ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً، هل هو كافر أو مسلم؟ فيه قولان، وهذه المسألة محل خلاف طويل بين أهل العلم، ........ ، القول الأول:- قال بتكفير تارك الصلاة جمع من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين وكثير من أئمة العلم وأهله. يقول محمد بن نصر المروزي عن هذا القول: وهذا مذهب جمهور أصحاب الحديث. (¬1). ويقول ابن حزم: (فروينا عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – وعن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه رحمة الله عليهم، وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة، والتابعين رضي الله عنهم، أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها، فإنه كافر ومرتد، وبهذا يقول عبد الله بن الماجشون صاحب مالك، وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره) (¬2). وقال ابن قدامة: - واختلفت الرواية هل يقتل لكفره أو حداً؟ فروي أنه يقتل لكفره كالمرتد، فلا يغسل ولا يكفن ولا يدفن بين المسلمين، ولا يرثه أحد، ولا يرث أحداً، اختارها أبو إسحاق بن شاقلا، وابن حامد، وهو مذهب الحسن، والنخعي، والشعبي، وأيوب السختياني، والأوزاعي، وابن المبارك، وحماد بن زيد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن ... (¬3). وقال النووي: (من تركها بلا عذر تكاسلاً وتهاوناً فيأثم بلا شك، ويجب قتله إذا أصر، وهل يكفر؟ فيه وجهان، حكاهما المصنف الشيرازي وغيره، أحدهما يكفر، قال العبدري: وهو قول منصور الفقيه من أصحابنا وحكاه المصنف في كتابه في الخلاف عن أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا) (¬4). وقال ابن تيمية: (وإن كان التارك للصلاة واحداً فقد قيل إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلي، وجمهور العلماء على أنه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب، فإن تاب وصلى، وإلا قتل، وهل يقتل كافراً أو مسلماً فاسقاً؟ فيه قولان، وأكثر السلف على أنه يقتل كافراً، وهذا كله مع الإقرار بوجوبها) (¬5). وأما القائلون بعدم تكفير تارك الصلاة فكثير من الفقهاء. قال ابن قدامة: (والرواية الثانية: يقتل حداً، مع الحكم بإسلامه، كالزاني المحصن، وهذا اختيار أبي عبد الله ابن بطة، وأنكر قول من قال إنه يكفر ... وهذا قول أكثر الفقهاء، وقول أبي حنيفة ومالك، والشافعي) (¬6). وقال النووي – عن هذا القول: وهو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور. (¬7). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف- بتصرف - ص457 (ينظر التفصيل في الباب الثالث، الفصل الأول، من الكتاب الثامن في هذه الموسوعة) ¬

(¬1) [10678])) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 636) (¬2) [10679])) ((الفصل)) (3/ 274)، وانظر: ((المحلى)) (2/ 326، 327)، و ((الشريعة)) للآجري (ص133 - 135) و ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 669 - 684)، و ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 225). (¬3) [10680])) ((المغني)) (3/ 354)، وانظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (1/ 404، 405). (¬4) [10681])) ((المجموع)) (3/ 17). (¬5) [10682])) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 308)، وانظر: (28/ 359، 360)، وكتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص33)، و ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 147). (¬6) [10683])) ((المغني)) (3/ 355)، وانظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (1/ 404، 405). (¬7) [10684])) ((المجموع)) (3/ 17)، وانظر: ((طرح التثريب شرح التقريب)) للعراقي (2/ 147)، و ((مقدمات ابن رشد)) (ص101)، و ((التمهيد)) لابن عبد البر (4/ 230).

المطلب الثاني: السحر

تمهيد: سنتحدث عن السحر وما يلحق به؛ لأنه يضاد الإيمان وينافيه، وهو محل خلاف بين أهل العلم هل يعد كفراً أم لا؟ ومما يؤكد أهمية هذا الموضوع وجود ظاهرة السحر بأنواعه المختلفة في غالب الأمم، كما دل ذلك قوله تعالى: - كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52]. ولذا يقول ابن تيمية: (اسم الساحر معروف في جميع الأمم ... ) (¬1). فقد وجد السحر عند أهل فارس، وعند قدماء المصريين، وكذا في الهند، وبلاد اليونان، كما أن اليهود لما انحرفوا فأعرضوا عن كتاب الله تعالى ... أقبلوا على السحر، واتبعوا ما تتلو الشياطين كما قال سبحانه: - وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .... [البقرة:101 - 102]. يقول الشيخ السعدي – رحمه الله -: (لما كان من العوائد القدسية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكنه الانتفاع به ولم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاه، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان ومن ترك الذل لربه، ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل. كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلو الشياطين وتختلق من السحر ... ) (¬2). وبالفعل هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله تعالى، وانحرفوا عن عبادة الله وحده، عوقبوا بعبادة الشيطان عن طريق السحر، فتعرضوا للخذلان والحرمان، وأنواع الضنك والشقاء في الدنيا والآخرة، وقد أشار إلى ذلك ابن تيمية بقوله:- " إن الكثيرين من أرباب السحر ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق، ويحتاج إلى أعمال عظيمة، وأفكار عميقة، وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات، ومفارقة الشهوات والعادات، ثم آخر أمرهم الشك بالرحمن، وعبادة الطاغوت والشيطان، والفساد في الأرض، والقليل منهم من ينال غرضه، الذي لا يزيده من الله إلا بعداً، وغالبهم محروم مأثوم، يتمنى الكفر والفسوق والعصيان، وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان، سماعون للكذب، أكالون للسحت، عليهم ذلة المفترين. (¬3) وفي هذا العصر، عصر التقدم المادي ... تزداد ظاهرة السحر نفوذاً وانتشاراً، فأكثر شعوب العالم تقدماً مادياً تجري فيها طقوس السحر على نطاق واسع وبطرق متنوعة كأمريكا وفرنسا وألمانيا، بل إن السحر قد واكب هذا التطور المادي، فأقيمت الجمعيات والمعاهد لتعليم السحر سواء عن طريق الانتظام، أو الانتساب، كما نظمت المؤتمرات والندوات في هذا المجال. إضافة إلى ذلك فإن بلاد المسلمين – عموماً – تنتشر فيها مظاهر السحر وأنواعه بسبب ضعف الإيمان بالله تعالى، وظهور الجهل بأحكام الشريعة، وسذاجة الكثير من المسلمين وجهلهم بحل هؤلاء السحرة المشعوذين، وتعطيل أحكام الله تعالى في هؤلاء السحرة (¬4) 2 - السحر في لغة العرب هو كل ما لطف مأخذه ودق، وأصل السحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، وسحره بمعنى خدعه، وسحره بكلامه: استماله برقته، وحسن تركيبه (¬5). وأما تعريفه اصطلاحاً فإن السحر ليس نوعاً واحداً يمكن حده بحد يميزه عن غيره وقد أشار الشافعي رحمه الله إلى ذلك بقوله: (والسحر اسم جامع لمعان مختلفة) (¬6). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف- بتصرف – ص: 499 ¬

(¬1) [10685])) ((النبوات)) (ص 272)، وانظر ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قتيبة (ص 210) محمد الأصفر. (¬2) [10686])) ((تفسير السعدي)) (1/ 118). (¬3) [10687])) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 62، 63) باختصار يسير، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (29/ 384 - 385). (¬4) [10688])) انظر لمعرفة أحوال السحرة في هذا العصر ((عالم السحر والشعوذة)) لعمر الأشقر (ص 55 –68)، و ((تكملة المجموع)) لمحمد المطيعي (21/ 90، 91) و ((السحر والمجتمع)) لسامية الساعاتي، و ((العرافون الدجالون)) لياسين العجرمي (¬5) [10689])) انظر ((اللسان)) (4/ 348)، و ((المصباح المنير)) (ص 317)، و ((ترتيب القاموس المحيط)) (2/ 528)، و ((مختار الصحاح)) (ص 288). (¬6) [10690])) ((الأم)) (1/ 391).

أولا: تعريف السحر لغة وشرعا

أولاً: تعريف السحر لغةً وشرعاً السحر لغة: ما خفي ولطف سببه، ومنه سمي السَّحَر لآخر الليل، لأن الأفعال التي تقع فيه تكون خفية، وكذلك سمي السحور، لما يؤكل في آخر الليل، لأنه يكون خفياً، فكل شيء خفي سببه يسمى سحراً. وأما في الشرع، فإنه ينقسم إلى قسمين: الأول: عقد ورقي، أي: قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد به ضرر المسحور، لكن قد قال الله تعالى: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ [البقرة: 102]. الثاني: أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله، فتجده ينصرف ويميل، وهو ما يسمى عندهم بالصرف والعطف. فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى، حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء، والصرف بالعكس من ذلك. فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئاً فشيئاً حتى يهلك. وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه. وفي عقله، فربما يصل إلى الجنون والعياذ بالله. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – بتصرف - 2/ 5

ثانيا: حكم السحر

ثانياً: حكم السحر أولاً: السحر ينقسم إلى قسمين: - شرك، وهو الأول الذي يكون بواسطة الشياطين، يعبدهم ويتقرب إليهم ليسلطهم على المسحور. - عدوان، وفسق وهو الثاني الذي يكون بواسطة الأدوية والعقاقير ونحوها. ثانياً: بالتقسيم الذي ذكر نتوصل إلى مسألة مهمة، وهي: هل يكفر الساحر أو لا يكفر؟ اختلف في هذا أهل العلم: فمنهم من قال: إنه يكفر. ومنهم من قال: إنه لا يكفر. ولكن التقسيم السابق الذي ذكرناه يتبين به حكم هذه المسألة، فمن كان سحره بواسطة الشيطان، فإنه يكفر لأنه لا يتأتى ذلك إلا بالشرك غالباً، لقوله تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ... إلى قوله: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ [البقرة:102]، وأما قتل الساحر، فإن كان سحره بالأدوية والعقاقير ونحوهما، فلا يكفر، ولكن يعتبر عاصياً معتدياً. وأما قتل الساحر، فإن كان سحره كفراً، قُتِل قتل ردة، إلا أن يتوب على القول بقبول توبته، وهو الصحيح، وإن كان سحره دون الكفر، قُتِل قتل الصائل، أي: قتل لدفع أذاه وفساده في الأرض، وعلى هذا يرجع في قتله إلى اجتهاد الإمام وظاهر النصوص ... أنه يقتل بكل حال، فالمهم أن السحر يؤثر بلا شك، لكنه لا يؤثر بقلب الأعيان إلى أعيان أخرى، لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله ـ عز وجل ـ، وإنما يخيل إلى المسحور أن هذا الشيء انقلب وهذا الشيء تحرك أو مشى وما أشبه ذلك، كما جرى لموسى عليه الصلاة والسلام أمام سحرة آل فرعون، حيث كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ... قوله: (حد الساحر ضربة بالسيف). حده يعني: عقوبته المحددة شرعاً. وظاهره أنه لا يكفر، لأن الحدود تطهر المحدود من الإثم. والكافر إذا قتل على ردته، فالقتل لا يطهره. وهذا محمول على ما سبق: أن من أقسام السحر ما لا يخرج الإنسان عن الإسلام، وهو ما كان بالأدوية والعقاقير التي توجب الصرف والعطف وما أشبه ذلك. قوله: (ضربة بالسيف). روي بالتاء بعد الباء، وروي بالهاء، وكلاهما صحيح، لكن الأولى أبلغ، لأن التنكير وصيغة الوحدة يدلان على أنها ضربة قوية قاضية. وفي (صحيح البخاري) عن بجالة بن عبدة، قال: ((كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة)). قال: ((فقتلنا ثلاث سواحر)) (¬1). هذا كناية عن القتل، وليس معناه أن يضرب بالسيف مع ظهره مصفحاً .... وهذا القتل هل هو حد أم قتله لكفره؟ يحتمل هذا وهذا بناء على التفصيل السابق في كفر الساحر، ولكن بناء على ما سبق من التفصيل نقول: من خرج به السحر إلى الكفر فقتله قتل ردة، ومن لم يخرج به السحر إلى الكفر فقتله من باب دفع الصائل يجب تنفيذه حيث رآه الإمام. ¬

(¬1) [10691])) رواه أبو داود (3043) , وأحمد (1/ 190) (1657) , وأبو يعلى في ((المسند)) (2/ 166) , والشافعي في ((المسند)) (1/ 383) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 562) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 136) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الشافعي في ((السنن الكبرى للبيهقي)) (9/ 189): متصل ثابت, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 123): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)).

والحاصل: أنه يجب أن تقتل السحرة، سواء قلنا بكفرهم أم لم نقل، لأنهم يمرضون ويقتلون، ويفرقون بين المرء وزوجه، وكذلك بالعكس، فقد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء، ويتوصلون إلى أغراضهم، فإن بعضهم قد يسحر أحداً ليعطفه إليه وينال مأربه منه، كما لو سحر امرأة ليبغي بها، ولأنهم كانوا يسعون في الأرض فساداً، فكان واجباً على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة مادام أنه لدفع ضررهم وفظاعة أمرهم، فإن الحد لا يستتاب صاحبه، متى قبض عليه وجب أن ينفذ فيه الحد. وصح عن حفصة رضي الله عنها، (أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت) (¬1). وكذلك صح عن جندب (¬2). قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). وهم: عمر، وحفصة، وجندب الخير، أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والقول بقتلهم موافق للقواعد الشرعية، لأنهم يسعون في الأرض فساداً، وفسادهم من أعظم الفساد، فقتلهم واجب على الإمام، ولا يجوز للإمام أن يتخلف عن قتلهم، لأن مثل هؤلاء إذا تركوا وشأنهم انتشر فسادهم في أرضهم وفي أرض غيرهم، وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم، وارتدع الناس عن تعاطي السحر. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – بتصرف - 2/ 5 وقال ابن هبيرة: (اختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: - يكفر بذلك، إلا أن من أصحاب أبي حنيفة من فصل ذلك، فقال إن تعلمه ليتقه أو ليتجنبه فلا يكفر بذلك، وإن تعلمه معتقداً لجوازه أو معتقداً أنه ينفعه فإنه يكفر، ولم ير الإطلاق، وإن اعتقد أن الشياطين تفعل ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي: - إذا تعلم السحر قلنا له صف سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر بمثل ما اعتقد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر) (¬3). أما القائلون بتكفير الساحر، فنورد أمثلة من أقوالهم على النحو التالي:- ... ¬

(¬1) [10692])) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 871) , والشافعي في ((المسند)) (1/ 383) , والطبراني (23/ 187) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 453) , والحديث صححه ابن القيم في ((زاد المعاد)) (5/ 57) , وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 283): [هو] من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين وهي ضعيفة وبقية رجاله ثقات. (¬2) [10693])) رواه الترمذي (1460) والطبراني (2/ 161) , والحاكم (4/ 401) , والدارقطني (3/ 141) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , قال الترمذي لا نعرفه إلا مرفوعا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث والصحيح عن جندب موقوف, وقال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/ 462): [فيه] إسماعيل بن مسلم أحاديثه غير محفوظة عن أهل الحجاز والبصرة والكوفة إلا أنه ممن يكتب حديثه, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)): [فيه] إسماعيل بن مسلم ضعيف, وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (7/ 163): مرسل وليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم عن الحسن, وضعفه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/ 427) , وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 247): في إسناده ضعف, وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1446). (¬3) [10694])) ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (2/ 226)، وانظر ((المحلى)) لابن حزم (13/ 469)، و ((تفسير القرطبي)) (2/ 47 - 48).

يقول الدردير المالكي: (فقول الإمام رضي الله عنه: - إن تعلم السحر وتعليمه كفر، وإن لم يعمل به، ظاهر في الغاية إذ تعظيم الشياطين ونسبة الكائنات إليها لا يستطيع عاقل يؤمن بالله أن يقول فيه: إنه ليس بكفر) (¬1). وقال الخرشي: (والمشهور أن تعلم السحر كفر، وإن لم يعمل به) (¬2). وقال ابن قدامة: (إن تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم، قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، وروي عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يكفر (¬3)) (¬4). وقال مرعي الكرمي: (فساحر يركب المكنسة فتسير به في الهواء، أو يدعي أن الكواكب تخاطبه كافر، كمعتقد حله، لا من يسحر بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر، ويعزر بليغاً) (¬5). وجاء في الإنصاف: (الساحر الذي يركب المكنسة، فتسير به في الهواء ونحوه، كالذي يدعي أن الكواكب تخاطبه يكفر ويقتل، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب ... وعنه: لا يكفر .. فأما الذي يسحر بالأدوية، والتدخين، وسقي شيء يضر، فلا يكفر ولا يقتل، ولكن يعزر. هذا المذهب ... ) (¬6). وأما الفريق الآخر، فهذا الإمام الشافعي – رحمه الله – يقول: (والسحر اسم جامع لمعان مختلفة، فيقال للساحر صف السحر الذي تسحر به، فإن كان ما يسحر به كلام كفر صريح استتيب منه، فإن تاب وإلا قتل وأخذ ماله فيئاً، وإن كان ما يسحر به كلاماً لا يكون كفراً، وكان غير معروف ولم يضر به أحد نهي عنه، فإن عاد عزر، وإن كان يعمل عملاً إذا عمله قُتِل المعمول به، وقال عمدت قتله، قتل به قوداً، إلا أن يشاء أولياؤه أن يأخذوا ديته ... ) (¬7). وإذا تأملنا القولين فلا اختلاف معنوي بينهما، فعند التفصيل يزول الإشكال وتجتمع الأدلة، وكما قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله – (وعند التحقيق ليس بين القولين اختلاف، فإن من لم يكفر لظنه أنه يتأتى بدون الشرك وليس كذلك بل لا يأتي السحر الذي من قبل الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب، ولهذا سماه الله كفراً في قوله: - إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة:102] وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر، وإن سمي سحراً فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحراً، ولكنه يكون حراماً لمضرته، ويعزر من يفعله تعزيراً بليغاً) (¬8). ¬

(¬1) [10695])) ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 302)، وانظر ((الشرح الصغير)) (4/ 146)، و ((بلغة السالك)) (6/ 146). (¬2) [10696])) ((الخرشي على مختصر خليل)) (7/ 63). (¬3) [10697])) غالب الروايات عن الإمام أحمد تنص على قتل الساحر، ومنها روايات تنص على كفره وروايات أخرى لا تكفره انظر: ((المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة)) (2/ 60، 69، 101 – 107) (¬4) [10698])) ((المغني)) (8/ 150) (¬5) [10699])) ((غاية المنتهى)) (3/ 344) وانظر ((المبدع)) (9/ 188)، و ((شرح منتهى الإرادات)) (3/ 394). (¬6) [10700])) ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 349، 350) باختصار (¬7) [10701])) ((الأم)) (1/ 391، 392). (¬8) [10702])) ((وتيسير العزيز الحميد)) (ص: 384) باختصار.

وقال الشنقيطي: (التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل، فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة فإنه كفر بلا نزاع، كما دل عليه قوله تعالى: - وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة: 102] , وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها، فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر) (¬1). وللإمام النووي رحمه الله تعالى عبارة جامعة في حكم السحر حيث قال: - (قد يكون (السحر) كفراً، وقد لا يكون كفراً بل معصيته كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا، وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب ... ) (¬2). وإن السحر الذي يعد كفراً، قد يقع قولاً باللسان، أو اعتقاداً بالقلب، أو عملاً بالجوارح، ونورد أمثلة على ذلك: فمنه السحر الذي لا يتأتى إلا عن طريق الشياطين، كأن يستغيث بهم، ويدعوهم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وينطق بكلمة الكفر من أجل رضاهم والاستمتاع بهم، أو يعتقد نفعهم وضرهم بغير إذن الله تعالى، أو يذبح لتلك الشياطين ونحوهم ويتقرب إليهم، أو يهين ما أوجب الله تعظيمه من الكتاب العزيز وغيره، أو يدعي لنفسه أو لشياطينه علم الغيب ومشاركة الله في ذلك. 4 - وأما وجه كون هذا السحر كفراً فذلك لعدة اعتبارات منها:- (أ) قوله تعالى: - وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102 - 103]. فيستدل بهذه الآيات على كفر الساحر من وجوه:- 1 - قوله تعالى: - وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فظاهر هذا أنهم إنما كفروا بتعليمهم السحر؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بعليته، فصرحت الآية بكفر الشياطين منوطاً بتعليم السحر للناس (¬3). 2 - قوله تعالى: - وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ يعني من حظ ولا نصيب. يقول الشيخ حافظ الحكمي – في ذلك –: (وهذا الوعيد لم يطلق إلا فيما هو كفر لا بقاء للإيمان معه، فإنه ما من مؤمن إلا ويدخل الجنة، وكفى بدخول الجنة خلاقاً، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) (¬4). ¬

(¬1) [10703])) ((أضواء البيان)) (4/ 456). (¬2) [10704])) ((صحيح مسلم بالنووي)) (14/ 176) (¬3) [10705])) انظر: ((تفسير القرطبي)) (2/ 43)، ((فتح الباري)) (10/ 225)، و ((الزواجر)) لابن حجر الهيتمي (ص 104)، و ((معارج القبول)) للحكمي (1/ 514 – 516)، وكتاب ((السحر)) للحمد (ص 158) (¬4) [10706])) ((معارج القبول)) (1/ 517)، وانظر ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 442).

3 - قوله تعالى: - وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ .. يقول الجصاص – عن هذه الآية -: (فجعل ضد هذا الإيمان فعل السحر؛ لأنه جعل الإيمان في مقابلة فعل السحر، وهذا يدل على أن الساحر كافر، فإذا ثبت كفره، فإن كان مسلماً قبل ذلك، فقد كفر بفعل السحر، فاستحق القتل) (¬1). يقول ابن كثير: (وقد استدل بقوله وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا .. من ذهب إلى تكفير الساحر) (¬2). ويقول الحكمي – عن هذا الدليل -: (وهذا من أصرح الأدلة على كفر الساحر، ونفي الإيمان عنه بالكلية، فإنه لا يقال للمؤمن المتقي: ولو أنه آمن واتقى، وإنما قال تعالى ذلك لمن كفر، وفجر، وعمل بالسحر، واتبعه، وخاصم به رسوله، ونبذ الكتاب وراء ظهره) (¬3). (ب) قوله تعالى: - وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69] ومما قاله الشنقيطي – رحمه الله – في هذه الآية:- (إن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم ... فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى الآية يعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله حَيْثُ أَتَى وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر. ويدل على ذلك أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة لا يفلح يراد بها الكافر كقوله تعالى في سورة يونس: - قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [يونس:68 – 70]. وقوله في الأنعام: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21]) (¬4). (ج) أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن السحر بالشرك، وفي بعض الأحاديث سماه شركاً، وحكم صلى الله عليه وسلم بالكفر على من أتى ساحراً فصدقه، كما تبرأ صلى الله عليه وسلم من الساحر والمسحور. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - ((اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر .. الحديث)) (¬5) " وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)) (¬6). ¬

(¬1) [10707])) ((أحكام القرآن)) (1/ 53). (¬2) [10708])) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 137). (¬3) [10709])) ((معارج القبول)) (1/ 518). (¬4) [10710])) ((أضواء البيان)) (4/ 441 – 443) باختصار، وانظر ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/ 193). (¬5) [10711])) رواه البخاري (2766) , ومسلم (89). (¬6) [10712])) رواه النسائي (7/ 112) , والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 127) , قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 551): [فيه] عباد المنقري هو ممن يكتب حديثه, وقال المزي في ((تهذيب الكمال)) (9/ 429): [فيه] عباد بن ميسرة قال يحيى بن معين ليس به بأس وقال أبو داود ليس بالقوي, وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 378): لا يصح للين عباد بن ميسرة وانقطاعه, وقال الألباني في ((ضعيف النسائي)): ضعيف لكن جملة التعليق ثبتت في الحديث.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)). (¬1). (والتولة ضرب من السحر، قال الأصمعي: - وهو الذي يحبب المرأة إلى زوجها) (¬2). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - ((من أتى عرافاً، أو ساحراً، أو كاهناً فسأله فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)). (¬3). وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له .. )) الحديث (¬4) (د) أن الصحابة رضي الله عنهم أمروا بقتل أولئك السحرة، وقد تقرر شرعاً أن دماء المسلمين محظورة إلا ما استثناه الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم ((لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)). (¬5). وليس الساحر زانياً محصناً، ولا قاتل نفس، فتعين أن يكون كافراً مرتداً. يقول ابن تيمية: (أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله، وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحفصة بنت عمر، وعبد الله بن عمر، وجندب بن عبدالله ... ) (¬6). فمن هذه الآثار ما جاء (عن بجالة بن عبدة (¬7) أنه قال: (كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر). (¬8)). ¬

(¬1) [10713])) رواه أبو داود (3883) , وابن ماجه (3530) , وأحمد (1/ 381) (3615) , والطبراني (10/ 213) , والحاكم (4/ 463) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (5/ 219): إسناده حسن, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2972): إسناده صحيح. (¬2) [10714])) انظر ((شرح السنة)) للبغوي (12/ 158) (¬3) [10715])) رواه أبو يعلى في ((المسند)) (9/ 280) , والطبراني في (10/ 76) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 136) , قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 90): إسناده جيد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 118): رجاله رجال الصحيح خلا هبيرة بن مريم وهو ثقة, وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (3/ 98): صحيح موقوف. (¬4) [10716])) رواه البزار (8/ 426) , والطبراني (18/ 162) , وقال البزار: روي بعضه من غير وجه [وفيه] أبو حمزة العطار لا بأس به, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 88): إسناده جيد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 103): فيه إسحاق بن الربيع العطار وثقه أبو حاتم وضعفه عمرو بن علي وبقية رجاله ثقات, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2195): صحيح بمجموع طرقه. (¬5) [10717])) رواه البخاري (6878) , ومسلم (1676) , واللفظ له. (¬6) [10718])) ((مجموع الفتاوى)) (29/ 384)، وانظر ((المنتقى)) للباجي (7/ 117)، و ((المغني)) لابن قدامة (8/ 153) (¬7) [10719])) بجالة بن عبدة التميمي البصري، كان كاتباً لجزء بن معاوية في خلافة عمر، وثقه جمع من العلماء وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلك ولم يره. انظر ((تهذيب التهذيب)) (1/ 417)، و ((الإصابة)) (1/ 339). (¬8) [10720])) رواه أبو داود (3043) , وأحمد (1/ 190) (1657) , والشافعي في ((المسند)) (1/ 383) , وأبو يعلى في ((المسند)) (2/ 166) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 562) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 136) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الشافعي في ((السنن الكبرى للبيهقي)) (9/ 189): متصل ثابت, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 123): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)).

يقول ابن قدامة – معلقاً على هذا الأثر: (وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعاً). وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال إن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها سحرتها جارية لها، فأقرت بالسحر، وأخرجته، فقتلتها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فغضب، فأتاه ابن عمر رضي الله عنه، فقال: جاريتها سحرتها أقرت بالسحر وأخرجته، قال: فكف عثمان رضي الله عنه، قال إنما كان غضبه لقتلها إياها بغير أمره (¬1). وعن جندب الخير رضي الله عنه قال: (حد الساحر ضربة بالسيف) (¬2). وقتل جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ساحراً كان عند الوليد بن عقبه (¬3). وأما ما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما عندما باعت جارية مدبرة سحرتها، فيحمل على أن سحرها من قبيل الأدوية الضارة، والتدخينات المؤذية، كي تموت أم المؤمنين، فيتحقق عتقها، ولذا أمرت عائشة رضي الله عنها بعقاب تلك الجارية بنقيض قصدها، كما هو ظاهر في الحديث التالي:- فعن عمرة قالت: - ((اشتكت عائشة فطال شكواها، فقدم إنسان المدينة يتطبب فذهب بنو أخيها يسألونه عن وجعها، فقال: والله إنكم تنعتون نعت امرأة مطبوبة (¬4)، قال هذه امرأة مسحورة سحرتها جارية لها، فقالت: نعم (¬5) أردت أن تموتي فأعتق، قال وكانت مدبرة، قالت: فبيعوها في أشد العرب ملكة (¬6)، واجعلوا ثمنها في مثلها)) (¬7).). وقد أجاب الإمام الشافعي عن هذا الأثر قائلاً:- ¬

(¬1) [10721])) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 871) , والطبراني (23/ 187) , والشافعي في ((المسند)) (1/ 383) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 453) , الحديث صححه ابن القيم في ((زاد المعاد)) (5/ 57) , وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 283): [هو] من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين وهي ضعيفة وبقية رجاله ثقات. (¬2) [10722])) رواه الترمذي (1460) والطبراني (2/ 161) , والحاكم (4/ 401) , والدارقطني (3/ 141) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , قال الترمذي لا نعرفه إلا مرفوعا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث والصحيح عن جندب موقوف, وقال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/ 462): [فيه] إسماعيل بن مسلم أحاديثه غير محفوظة عن أهل الحجاز والبصرة والكوفة إلا أنه ممن يكتب حديثه, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)): [فيه] إسماعيل بن مسلم ضعيف, وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (7/ 163): مرسل وليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم عن الحسن, وضعفه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/ 427) , وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 247): في إسناده ضعف, وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1446). (¬3) [10723])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 136) , والدارقطني (3/ 114) , قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (3/ 163) روي من طرق. (¬4) [10724])) مطبوبة: أي مسحورة (¬5) [10725])) هذا جواب عن سؤال لم يذكر في الحديث، وكأن عائشة سألتها هل قول الطبيب صحيح؟ فقالت نعم أردت أن تموتي فأعتق. (¬6) [10726])) أي للأعراب الذين لا يحسنون إلى المماليك (¬7) [10727])) رواه أحمد (6/ 40) (24172) , وعبد الرزاق في ((المصنف)) (10/ 183) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 252): رجاله رجال الصحيح, وصححه الألباني في ((إرواء الغليل)) (1757).

(وأما بيع عائشة الجارية ولم تأمر بقتلها، فيشبه أن تكون لم تعرف ما السحر فباعتها؛ لأن لها بيعها عندنا، وإن لم تسحرها، ولو أقرت عند عائشة أن السحر شرك، ما تركت قتلها إن لم تتب، أو دفعتها إلى الإمام ليقتلها) (¬1). (هـ) أن السحر الذي يعد كفراً يتضمن أنواعاً كثيرة من المكفرات الاعتقادية والقولية والعملية، كأن يعتقد نفع الشياطين وضررهم بغير إذن الله تعالى، أو يعتقد أن الكواكب مدبرةً لأمر العالم، أو ينطق بكلمة الكفر كسب الله تعالى، أو الاستهزاء برسوله صلى الله عليه وسلم. كما يتضمن هذا السحر شركاً في توحيد العبادة، فمن ذلك أن يدعو غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو يستعيذ بالشياطين أو يذبح لهم، أو يتقرب إليهم بالنذور. وقد أورد القرافي أمثلة للكفر التي يتضمنها هذا السحر فقال: - (هذه الأنواع قد تقع بلفظ هو كفر، أو اعتقاد هو كفر، أو فعل هو كفر، فالأول كالسب المتعلق بمن سبه كفر، والثاني كاعتقاد انفراد الكواكب أو بعضها بالربوبية، والثالث كإهانة ما أوجب الله تعالى تعظيمه من الكتاب العزيز وغيره، فهذه الثلاثة متى وقع شيء منها في السحر، فذلك السحر كفر لا مرية فيه) (¬2). ويذكر ابن حجر الهيتمي أنواعاً من الكفر تندرج في هذا السحر فيقول:- (إن اشتمل (السحر) على عبادة مخلوق كشمس، أو قمر، أو كوكب أو غيرها، أو السجود له، أو تعظيمه كما يعظم الله تعالى، أو اعتقاد أن له تأثيراً بذاته، أو تنقيص نبي، أو ملك ... كان كفراً وردة) (¬3). ويبين الشيخ السعدي وجه إدخال السحر في الشرك قائلاً: - (السحر يدخل في الشرك من جهتين: - من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم، وربما تقرب إليهم بما يحبون ليقوموا بخدمته ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله في علمه وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك، وذلك من شعب الشرك والكفر) (¬4). 5 - واستكمالاً لهذا المبحث نورد جملة من كلام العلماء في معنى السحر وحكمه. يقول الخطابي: (والسحر من عمل الشيطان يفعله في الإنسان بنفثه ونفخه وهمزه ووسوسته، ويتلقاه الساحر بتعليمه إياه، ومعونته عليه، فإذا تلقاه عنه، استعمله في غيره بالقول والنفث في العقد) (¬5). وقال شيخ الإسلام الصابوني: (ومن سحر منهم واستعمل السحر، واعتقد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله فقد كفر بالله جل جلاله، وإذا وصف ما يكفر به استتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وإن وصف ما ليس بكفر، أو تكلم بما لا يفهم نهي عنه، فإن عاد عزر، وإن قال السحر ليس بحرام، وأنا أعتقد إباحته وجب قتله؛ لأنه استباح ما أجمع المسلمون على تحريمه) (¬6). ويقول ابن العربي: (إن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأن السحر كفر؛ لأنه تعالى قال: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ من السحر، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بقول السحر، وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ به وبتعليمه، وهاروت وماروت يقولان " إنما نحن فتنة فلا تكفر وهذا تأكيد للبيان) (¬7). ¬

(¬1) [10728])) ((الأم) (1/ 392)، وقد أورد البيهقي هذا الحديث تحت عنوان: (باب من لا يكون سحره كفراً ولم يقتل به أحداً لم يقتل)، انظر ((سنن البيهقي)) (8/ 137). (¬2) [10729])) ((الفروق)) (4/ 140). (¬3) [10730])) ((الأعلام)) (ص 391). (¬4) [10731])) ((القول السديد)) (ص 74، 75) (¬5) [10732])) ((شرح السنة)) للبغوي (12/ 188). (¬6) [10733])) ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)) (ص 96) (¬7) [10734])) ((أحكام القرآن)) (1/ 31).

وقال ابن الشاط: (فالذي يستقيم في هذه المسألة: ما حكاه الطرطوشي عن قدماء أصحابنا أنا لا نكفره حتى يثبت أنه من السحر الذي كفر الله تعالى به، أو يكون سحراً مشتملاً على كفر كما قال الشافعي) (¬1). ويقول القرطبي: (قوله تعالى: - وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ تبرئة من الله لسليمان، ولم يتقدم في الآية أن أحداً نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولما كان السحر كفراً صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر، ثم قال وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ فأثبت كفرهم بتعليم السحر) (¬2). وقال النووي: (والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح ... كالسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها ... ) (¬3). ويقول ابن تيمية: (إذا تقرب صاحب العزائم وكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذلك إلى الشياطين بما يحبون من الكفر والشرك، صار ذلك كالرشوة لهم، فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالاً ليقتل له من يريد قتله ... ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة، وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل، إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد وإما غيرهما .. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين، أعانتهم على بعض أغراضهم ... ) (¬4). ويقول السبكي: - وأما مذهب الشافعي فحاصله أن السحر له ثلاثة أحوال: حال يقتل كفراً، وحال يقتل قصاصاً، وحال لا يقتل أصلاً بل يعزر، أما الحالة التي يقتل فيها كفراً، فقال الشافعي رحمه الله: - أن يعمل بسحره، ما يبلغ الكفر، وشرح أصحابه ذلك بثلاثة أمثلة: - أحدهما أن يتكلم بكلام هو كفر ولا شك في أن ذلك موجب للقتل. المثال الثاني: - أن يعتقد ما اعتقده من التقريب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل بأنفسها فيجب عليه أيضاً القتل. المثال الثالث: - أن يعتقد أنه يقدر به على قلب العيان، فيجب عليه القتل كما قاله القاضي حسين والماوردي) (¬5). ويقول الذهبي: (إن الساحر لابد وأن يكفر، قال الله تعالى: - وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، وما للشيطان الملعون غرض في تعليمه الإنسان السحر إلا ليشرك به. فترى خلقاً كثيراً من الضلال يدخلون في السحر ويظنون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر، فيدخلون في تعلم السيمياء (¬6) وعملها، وهي محض السحر، وفي عقد المرء عن زوجته وهو سحر، وفي محبة الزوج لامرأته وفي بغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة أكثرها شرك وضلال. وحد الساحر القتل؛ لأنه كفر بالله أو ضارع الكفر ... فليتق العبد ربه ولا يدخل فيما يخسر به الدنيا والآخرة) (¬7). ويقول البيضاوي: (قوله تعالى وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ تكذيب لمن زعم ذلك، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبياً كان معصوماً عنه .. ) (¬8). ¬

(¬1) [10735])) ((تهذيب الفروق)) (4/ 157) (¬2) [10736])) ((تفسير القرطبي)) (2/ 43) (¬3) [10737])) ((روضة الطالبين)) (10/ 64). وانظر ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 136) (¬4) [10738])) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 34، 35) بتصرف. (¬5) [10739])) ((فتاوى السبكي)) (2/ 324). (¬6) [10740])) السيمياء: - أحد علوم السحر، وهو عبارة عما تركب من خواص توجب بعض التخيلات انظر: ((مقدمة ابن خلدون)) (3/ 1159)، و ((الفروق)) للقرافي (4/ 137)، و ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/ 389)، و ((مفتاح السعادة)) لطاش كبري (1/ 317)، ((أبجد العلوم)) لمحمد صديق حسن (2/ 332)، و ((أضواء البيان)) (4/ 452) (¬7) [10741])) ((الكبائر)) للذهبي (ص: 41) (¬8) [10742])) ((أنوار التنزيل)) (1/ 73)

وقال الحافظ ابن حجر: (وقد استدل بهذه الآية: وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه ... كالتعبد للشياطين، أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلاً. - إلى أن قال – وفي إيراد المصنف (البخاري) هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها: - وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر، فيكون العمل به كفراً، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه، وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك، وعلى هذا فتسميته ما عدا ذلك سحراً مجاز) (¬1). وقال الدردير: (وسحر فيكفر بتعلمه، وهو كلام يعظم به غير الله تعالى، وينسب إليه المقادير، ثم إن تجاهر به فيقتل إن لم يتب، وإن أسره فحكم الزنديق، يقتل بدون استتابة، وشهر بعضهم عدم الاستتابة مطلقاً) (¬2). وذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب السحر من نواقض الإسلام فقال: - (السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر) (¬3) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف- بتصرف - ص 499 يقول الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في شرحه لمنظومة سلم الوصول: وَالسِّحْرُ حَقٌّ وَلَهُ تَأْثِيرُ ... لَكِنْ بِمَا قَدَّرَهُ الْقَدِيرُ أَعْنِي بِذَا التَّقْدِيرِ مَا قَدْ قَدَّرَهْ ... فِي الْكُوْنِ لاَ فِي الشِّرْعَةِ الْمُطَّهَرَة ¬

(¬1) [10743])) ((فتح الباري)) (10/ 224، 225) باختصار يسير. (¬2) [10744])) ((الشرح الصغير)) (6/ 146) وانظر ((بلغة السالك)) (2/ 416)، و ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/ 288)، و ((الخرشي على خليل)) (7/ 63). (¬3) [10745])) مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب ((رسالة نواقض الإسلام)) (1/ 386) وانظر ((فتاوى محمد بن إبراهيم)) (1/ 163)، و ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 364)، و ((فتاوى ابن باز)) (2/ 119)، و ((المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 130)

(والسحر حق) يعني متحقق وقوعه ووجوده، ولو لم يكن موجوداً حقيقة لم ترد النواهي عنه في الشرع والوعيد على فاعله والعقوبات الدينية والأخروية على متعاطيه والاستعاذة منه أمراً وخبراً. وقد أخبر الله تعالى أنه كان موجوداً في زمن فرعون وأنه أراد أن يعارض به معجزات نبي الله موسى عليه السلام في العصا بعد أن رماه هو وقومه به بقولهم: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ - إلى قوله - وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الشعراء:34 - 37] وقال تعالى عن السحرة: فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116] وقال تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:66 - 69] يقال إنهم كانوا سبعين ألفاً مع كل واحد منهم حبل وعصا فأخذوا بأبصار الناس بسحرهم وألقوا تلك الحبال والعصى فرآها الناس حيات عظاماً ضخاماً وذلك قوله تعالى: سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وقوله: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى قال الله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه:67 - 69] يعني العصا تَلْقَفْ تبتلع مَا صَنَعُوا أي السحرة أي ما اختلقوا وائتفكوا من الزور التخييل، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117] وهون الله أمرهم على نبيه موسى عليه السلام بقوله سبحانه: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ مكره وخداعه وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ [الأعراف:119] إلى آخر الآيات، وقد أخبر الله تعالى عن قوم صالح وكانوا قبل إبراهيم عليه السلام أنهم قالوا لنبيهم عليه السلام: إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشعراء: 153] وكذا قام قوم شعيب له عليه السلام: إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وقالت قريش لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله تعالى ذلك عنهم في غير موضع بل ذكر الله عز وجل أن ذلك القول تداوله كل الكفار لرسلهم فقال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات:52] الآية، وقال سبحانه في ذم اليهود: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي

الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:101 - 102] وقال تعالى: وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] والنفاثات هن السواحر يعقدن وينفثن. والمقصود أنه قد ثبت بهذه النصوص وغيرها مما سنذكر ومما لا نذكر أن السحر حقيقة وجوده.

(وله تأثير) فمنه ما يمرض ومنه ما يقتل ومنه ما يأخذ بالعقول ومنه ما يأخذ بالأبصار ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، (لكن) تأثيره ذلك إنما هو (بما قدَّره القدير) سبحانه وتعالى، أي بما قضاه وقدره عندما يلقى الساحر ما ألقى، ولذا قلنا (أعني بذا التقدير) في قوله بما قدره القدير (ما قد قدره في الكون) وشاءه (لا) أنه أمر به (في الشرعة) التي أرسل الله بها رسله وأنزل بها كتبه (المطهرة)، من ذلك وغيره كما تقدم أن القضاء والأمر والحكم والإرادة كل منها ينقسم على كوني وشرعي، فالكوني يشمل ما يرضاه الله ويحبه شرعاً، وما لا يرضاه في الشرع ولا يحبه، والشرعي يختص بمرضاته سبحانه وتعالى ومحابه، ولهذا قال تعالى في الشرعي: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] وقال عز وجل: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7] فأخبر تعالى أنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر وأنه يرضى لهم الشكر ولا يرضى لهم الكفر، مع كون كل من العسر واليسر والشكر والكفر واقع بقضاء الله وقدره وخلقه وتكوينه ومشيئته، قال الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62] وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] والمقصود أن السحر ليس بمؤثر لذاته نفعاً ولا ضراً وإنما يؤثر بقضاء الله تعالى وقدره، وخلقه وتكوينه، لأنه تعالى خالق الخير والشر، والسحر من الشر، ولهذا قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ [البقرة:102] وهو القضاء الكوني القدري، فإن الله تعالى لم يأذن بذلك شرعاً، وقد ثبت في (الصحيحين) من طرق عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله عز وجل ودعاه ثم قال: أشعرت يا عائشة، إن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق. قال: فبماذا؟ قال: مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر. قال: فأين؟ قال: في بئر ذي أروان. قال فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البشر فنظر إليها وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين. قلت: يا رسول الله أفأخرجته: قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله عز وجل وشفاني وخشيت أن أثور على الناس منه شراً وأمر بها فدفنت)) (¬1). وفي رواية قال: ((ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقاً. قال وفيم؟ قال في مشط ومشاقة. قال: وأين؟ قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان – وذكره –)) (¬2) هذا لفظ البخاري المشاطة ما يخرج من الشعر، والمشط أسنان ما يمشط به، والمشاقة من مشاقة الكتان، وجف طلعة غشاؤها وهو الوعاء الذي يكون فيه الطلع، تحت راعوفة هو حجر يترك في البئر عند الحفر ثابت لا يستطاع قلعه يقوم عليه المستقى، وقيل حجر على رأس البئر يستقي عليه المستقي، وقيل حجر بارز من طيها يقف عليها المستقي والناظر فيها، وقيل في أسفل البئر يجلس عليه الذي ينظفها لا يمكن قلعه لصلابته. والله سبحانه وتعالى أعلم. ¬

(¬1) [10746])) رواه البخاري (5763) , ومسلم (2189). (¬2) [10747])) رواه البخاري (5765).

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في (شرح مسلم): قال المازري رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة خلافاً لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى في كتابه وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضاً مصرح بإثباته وأنه أشياء دفنت وأخرجت، وهذا كله يبطل ما قالوه فإحالة كونه من الحقائق محال، ولا يستنكر في العقل أن الله سبحانه وتعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر، وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة كالأدوية الحادة ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوي قتاله أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة. قال: ومن أنكر من بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب آخر فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وهذا الذي ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته، وعصمته صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل. فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان مفضلاً من أجلها وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد قيل إنه إنما كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ، وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة ولا حقيقة له، وقيل إنه يخيل إليه أنه فعل وما فعله، ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله فتكون اعتقاداته على السداد. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده. ويكون معنى قوله في الحديث حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، ويروى يخيل إليه أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور. وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه فعل شيء لم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لا كالخلل تطرق إلى العقل وليس في ذلك ما يدخل لبساً على الرسالة ولا طعناً لأهل الضلالة والله أعلم ا. هـ. قلت: قول المازري خلافاً لمن أنكر ذلك، قال ابن هبيرة رحمه الله تعالى: أجمعوا على أن السحر له حقيقة، إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده. ثم ذكر الاختلاف في حكم الساحر، وقال القرطبي رحمه الله تعالى: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفراييني حيث قالوا إنه تمويه وتخييل اهـ.

قلت: قد ثبت وتقرر من هذا وغيره تحقق السحر وتأثيره بإذن الله بظواهر الآيات والأحاديث وأقوال عامة الصحابة، وجماهير العلماء بعدهم رواية ودراية، فأما القتل به والأمراض والتفرقة بين المرء وزوجه وأخذه بالأبصار فحقيقة لا مكابرة فيها، وأما قلب الأعيان كقلب الجماد حيواناً وقلب الحيوان من شكل إلى آخر فليس بمحال في قدرة الله عز وجل ولا غير ممكن، فإنه هو الفاعل في الحقيقة وهو الفعال لما يريد، فلا مانع من أن يحول الله ذلك عندما يلقى الساحر ما ألقى امتحاناً وابتلاء وفتنة لعباده، ولكن الذي أخبرنا الله تعالى به في الواقع من سحرة فرعون في قصتهم مع موسى إنما هو التخييل والأخذ بالأبصار حتى رأوا الحبال والعصي حيات، فنؤمن بالخبر ونصدقه ولا نتعداه ولا نبدل قولاً غير الذي قيل لنا ولا نقول على الله ما لا نعلم. وبالله التوفيق. وَاحْكُمْ عَلَى السَّاحِرِ بِالتَّكْفِيرِ ... وَحَدُّهُ الْقَتْلُ بِلاَ نَكِيرِ كَمَا أَتَى فِي السُّنَّةِ الْمُصَرَّحَةْ ... مِمَّا رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَصَحَّحَهْ عَنْ جُنْدُبٍ وَهَكَذَا فِي أَثَرْ ... أَمْرٌ بِقَتْلِهِمْ رُوِيَ عَنْ عُمَرْ وَصَحَّ عَنْ حَفْصَةَ عِنْدَ مَالَكِ ... مَا فِيهِ أَقوَى مُرْشِدٍ للسَّالِكِ - حكم الساحر: (واحكم على الساحر) تعلَّمه أو علَّمه عمل به أو لم يعمل (بالتكفير) أي بأنه كفر بهذا الذنب الذي هو السحر، وذلك واضح صريح في آية البقرة بأمور: منها سبب عدول اليهود إليه وهو نبذهم الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [البقرة:101] سواء أريد بالكتاب التوراة التي بأيديهم أو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، كل ذلك نبذه كفر، وقد علم أن السحر لا يعمل إلا مع من كفر بالله، وهذا معلوم من سبب نزول الآية كما قال الربيع بن أنس وغيره: إن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله عز وجل: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102] الآيات.

ومنها قوله: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ تتقوله وتزوره عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي في ملكه وعهده، ومعلوم أن استبدال ما تتلوه الشياطين وتتقوله والانقياد له والعمل به عوضاً عما أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم هذا من أعظم الكفر، وهو من عبادة الطاغوت التي هي أصل الكفر، وقد سمى الله تعالى طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله، سمى ذلك عبادة وأنه اتخاذ لهم أرباباً من دون الله فقال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ [التوبة:31] الآية، قال عدي بن حاتم رضي الله عنه حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوها: إنا لسنا نعبدهم، قال: ((أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟)) قال بلى. قال: ((فتلك عبادتكم إياهم)) (¬1)، ولهذا قال تعالى بعدها: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] فإذا كان هذا في طاعة الأحبار والرهبان فكيف في طاعة الشيطان فيما ينافي الوحي، فهل فوق هذا الشرك من كفر؟ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ وعبادة الشيطان هي اتباعه فيما أمر به من الكفر والضلال ودعا إليه، كما قال عز وجل فيه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، وكما يقول للمجرمين يوم القيامة: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:60 - 62]. ¬

(¬1) [10748])) رواه الترمذي (3095) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 116) والطبراني (17/ 92) , قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث, وحسنه ابن تيمية في ((حقيقة الإسلام والإيمان)) (ص: 111) , وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 861): علة الحديث هي جهالة غطيف ابن أعين, وحسنه في ((صحيح سنن الترمذي)).

ومنها قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، برَّأ الله سبحانه وتعالى نبيه عليه السلام من الكفر، وهذا الكفر الذي برأه الله تعالى منه هو علم الساحر وعمله، وإن كان بريئاً من الكفر كله كان معصوماً مما هو دونه، لكن سياق الآية في خصوص السحر وأنه بريء منه، ولو فرض وجود عمله به لكفر لأنه شرك والشرك أقبح الذنوب وأعظم المحبطات للأعمال كما قال تعالى في جميع رسله سليمان وغيره عليهم السلام بعد أن ذكرهم: ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88]، وهذا معلوم من أصل القصة فإن اليهود قاتلهم الله تلقوا السحر عن الشياطين ونسبوه إلى سليمان عليه السلام، فبرأه الله تعالى من إفكهم بهذه الآية، كما قال مجاهد رحمه الله تعالى في هذه الآية: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ قال: كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها، فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك، فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس وهو السحر. وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: كان سليمان عليه السلام يتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيَّهِ في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا نعم. قالوا فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه، فاستثار به الإنس واستخرجوه وعملوا به، فقال أهل الحجاز – يعني اليهود من أهل الحجاز – كان سليمان يعمل بهذا وهو سحر، فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وقال محمد بن إسحاق بن يسار: (عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليهما السلام فكتبوا أصناف السحر، من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا، حتى إذا صنفوا السحر جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم، ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا، فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عد من المرسلين قال من كان بالمدينة من اليهود: تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبياً، والله ما كان إلا ساحراً. وأنزل الله تعالى في ذلك: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)) [البقرة: 102] , الآية) (¬1). وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه. فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل به. ¬

(¬1) [10749])) رواه ابن جرير في ((التفسير)) (2/ 407) , انظر ((تفسير بن كثير)) (1/ 348).

قال فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)) (¬1) وتفاسير السلف وآثارهم في هذه الآية كثيرة جداً، وما كان منه إسرائيلياً فهو من القسم المقبول لموافقته ظاهر الآية في أن اليهود تعلموا السحر من الشياطين ورموا به نبي الله سليمان وأكفروه به وسبوه، وخاصموا به محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فبين الله تعالى ما لبسوه وهدم ما أسسوه وبرأ نبيه سليمان عليه السلام مما ائتفكوه وأقام الحجة عليهم في بطلان ما انتحلوه فلله الحمد والمنة. ومنها قوله تعالى: وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102] أكذب الله تعالى اليهود فيما نسبوه إلى نبيه سليمان عليه السلام بقوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وهم إنما نسبوا السحر إليه، ولازم ما نسبوه إليه هو الكفر لأن السحر كفر، ولهذا أثبت كفر الشياطين بتعليمهم الناس السحر فقال تعالى: وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وكذلك كل من تعلم السحر أو علمه أو عمل به يكفر ككفر الشياطين الذين علموه الناس، إذ لا فرق بينه وبينهم، بل هو تلميذ الشيطان وخريجه، عنه روى وبه تخرج وإياه اتبع، ولهذا قال تعالى في الملكين: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فبين تعالى أنه بمجرد تعلمه يكفر سواء عمل به وعلمه أو لا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((فإذا أتاهما علما الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر، قال فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا فإذا أتى عاين الشيطان فعلمه، فإذا تعلمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعاً في السماء فيقول: يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع)) (¬2). وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: ((نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله تعالى أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)) (¬3)، وقال قتادة كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ أي بلاء ابتلينا به فَلاَ تَكْفُرْ وقال السدي إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة، فإذا أبى قالا له ائت هذا الرماد فبل عليه فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر فذلك قول الله تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ الآية. وعن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترئ على السحر إلا كافر، والفتنة هي المحنة والاختبار. ومنها قوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102]. ¬

(¬1) [10750])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (6/ 288) , وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 143): إسناده صحيح وهذا موقوف من كلام ابن عباس. (¬2) [10751])) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (1/ 279) , (¬3) [10752])) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (1/ 277) ,

ومنها قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن واتَّقَوْا السحر وسائر الذنوب وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ [البقرة:103] وهذا من أصرح الأدلة على كفر الساحر ونفي الإيمان عنه بالكلية، فإنه لا يقال للمؤمن المتقي: ولو أنه آمن واتقى، وإنما قال تعالى ذلك لمن كفر وفجر وعمل بالسحر واتبعه وخاصم به رسوله ورمى به نبيه ونبذ الكتاب وراء ظهره، وهذا ظاهر لا غبار عليه والله أعلم. وقد صرح بذلك أئمة السلف من الصحابة والتابعين، وإنما اختلفوا في القدر الذي يصير به كافراً، والصحيح أن السحر المتعلم من الشياطين كله كفر قليله وكثيره كما هو ظاهر القرآن. - عقوبة الساحر شرعاً ووعيداً:

(وحده) أي حدُّ الساحر (القتل) ضربة بالسيف (بلا نكير) بل هو ثابت بالكتاب من عموم النصوص في الكفار المرتدين وغيرهم (كما أتى) ثابتاً (في السنة المصرحة) الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم (مما رواه الترمذي) محمد بن عيسى بن سورة بمهملتين ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى الترمذي الحافظ الضرير أحد الأعلام وصاحب الجامع والتفسير عن خلق مذكورين في تراجمهم من جامعه وغيره، وعنه محمد بن إسماعيل السمرقندي وحماد بن شكر وأبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي راوي الجامع والهيثم بن كليب وخلق من أهل سمرقند ونسف وتلك الديار، وقال ابن حبان كان ممن جمع وصنف، قال أبو العباس المستغفري مات سنة تسع وسبعين ومائتين، مرفوعاً (وصححه) موقوفاً (عن جندب) هو ابن عبد الله بن سفيان البجلي العلقمي أو العلقي له ثلاثة وأربعون حديثاً اتفقا على سبعة وانفرد مسلم بخمسة. روى عنه الحسن وابن سيرين وأبو مجلز، مات بعد الستين، قال رحمه الله تعالى: (باب ما جاء في حد الساحر حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حد الساحر ضربة بالسيف)) (¬1) , هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع هو ثقة ويروي عن الحسن أيضاً والصحيح عن جندب موقوفاً والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل من سحره ما يبلغ الكفر فإذا عمل عملاً دون الكفر فلم ير عليه قتلاً. ويعني بقوله: ما يبلغ الكفر أي ما كان فيه اعتقاد التصرف لغير الله وصرف العبادة له كما يفعله عباد هياكل النجوم من أهل بابل وغيرهم والله أعلم. ¬

(¬1) [10753])) رواه الترمذي (1460) والحاكم (4/ 401) , والدارقطني (3/ 141) , والطبراني (2/ 161) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , قال الترمذي لا نعرفه إلا مرفوعا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث والصحيح عن جندب موقوف, وقال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/ 462): [فيه] إسماعيل بن مسلم أحاديثه غير محفوظة عن أهل الحجاز والبصرة والكوفة إلا أنه ممن يكتب حديثه, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)): [فيه] إسماعيل بن مسلم ضعيف, وقال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (7/ 163): مرسل وليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم عن الحسن, وضعفه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/ 427) , وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 247): في إسناده ضعف, وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1446).

(وهكذا في أثر أمر بقتلهم) يعني السحرة (روي عن عمر) ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي أبي حفص المدني أحد فقهاء الصحابة ثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأول من سمي أمير المؤمنين، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثاً اتفقا على عشرة وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر، وعنه أبناؤه عبد الله وعاصم وعبيد الله وعلقمة بن أبي وقاص وغيرهم، شهد بدراً والمشاهد والمواقف، وولي أمر الأمر بعد أبي بكر رضي الله عنهما وفتح في أيامه عدة أمصار، أسلم بعد أربعين رجلاً، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: ((إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) (¬1) , ولما دفن قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم)) (¬2). استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين ودفن في أول سنة أربع وعشرين في الحجرة النبوية وهو ابن ثلاث وستين وصلى عليه صهيب، ومناقبه جمة قد أفردت في مجلدات. وهذا الأثر المشار إليه في الباب هو ما رواه الإمامان الجليلان أحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إدريس الشافعي رحمهما الله تعالى قالا: أخبرنا سفيان هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال فقتلنا ثلاث سواحر (¬3). ¬

(¬1) [10754])) رواه الترمذي (3682) , وأحمد (2/ 53) (5145) , وابن حبان (15/ 318) , والحاكم (3/ 93) , والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 338) , قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (7/ 133): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)).والحديث روي عن أبي هريرة, ومعاوية ابن أبي سفيان, وأبو ذر الغفاري, وبلال, رضي الله عنهم. (¬2) [10755])) رواه الطبراني (9/ 162) , قال ابن تيمية في ((منهاج السنة)) (6/ 59): إسناده ثابت. (¬3) [10756])) رواه أحمد (1/ 190) (1657) , والشافعي في ((المسند)) (1/ 383) , والحديث رواه أبو داود (3043) , وأبو يعلى في ((المسند)) (2/ 166) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 562) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 136) , وسكت عنه أبو داود, وقال الشافعي في ((السنن الكبرى للبيهقي)) (9/ 189): متصل ثابت, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 123): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)).

(وصح) نقلاً (عن حفصة) بنت عمر بن الخطاب العدوية أم المؤمنين رضي الله عنها (عند مالك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبي عبد الله المدني أحد الأعلام في الإسلام وإمام دار الهجرة، ولد سنة ثلاث وتسعين وحمل به ثلاث سنين، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة ودفن بالبقيع رحمه الله تعالى ورضي عنه (ما) أي الذي (فيه أقوى) دليل (مرشد للسالك) وهو ما رواه في موطأه في باب ما جاء في الغيلة والسحر من كتاب العقول: عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه (أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت) (¬1)، قال مالك: (الساحر الذي يعمل السحر، ولم يعمل ذلك له غيره، هو مثل الذي قال الله تعالى في كتابه: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك هو نفسه) اهـ. قال ابن كثير رحمه الله: (وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله، يحيي الموتى! ورآه رجل من صالح المهاجرين فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء: 3] فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه والله أعلم). وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحاق عن حارثة فقال: (كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندب مشتملاً على سيفه فقتله، قال أراه كان ساحراً). وحمل الشافعي رحمه الله تعالى قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً. والله أعلم. (¬2) ... قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا، فأما إن قُتل بسحره إنسان فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا فإنه يقتل حداً عندهم، إلا الشافعي فإنه قال يقتل والحالة هذه قصاصاً. قال وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه: لا تقبل. وقال الشافعي وأحمد في الرواية: تقبل، وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة إنه يقتل كما يقتل الساحر إذا كان مسلماً، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل يعفى لقصة لبيد بن الأعصم. واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة إنها لا تقتل ولكن تحبس، وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل والله أعلم). وقال أبو بكر الخلال أخبرنا أبو بكر المروزي قال قرأ علي أبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل: عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال في الذمي: يقتل إن قتل سحره. وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر أحداً. الأولى أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل. والثانية أنه يقتل وإن أسلم. وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة: 102] , لكن قال مالك: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائباً قبلناه، فإن قتل بسحره قتل، قال الشافعي: فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ عليه الدية. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – بتصرف – ص 681 ¬

(¬1) [10757])) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 871) , والطبراني (23/ 187) , والشافعي في ((المسند)) (1/ 383) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (5/ 453) , والحديث صححه ابن القيم في ((زاد المعاد)) (5/ 57) , وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 283): [هو] من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين وهي ضعيفة وبقية رجاله ثقات. (¬2) [10758])) انظر ((تفسير ابن كثير)) (1/ 365).

ثالثا: أسباب الخلاف في حكم السحر

ثالثاً: أسباب الخلاف في حكم السحر وسبب ذلك الاختلاف: كثرة أنواع السحر، واختلاف صوره .. حتى جعله الفخر الرازي ثمانية أقسام (¬1)، وبعضهم جعله أكثر من ذلك (¬2) إضافة إلى توسع بعض العلماء في إطلاق السحر على كثير من الأحوال استناداً للمعنى اللغوي، فبعضهم يطلق السحر على النميمة، والكلام البليغ، وكذا الحركات القائمة على خفة اليد ومهارة الأداء. وأمر ثالث أوجب هذا الاختلاف، وهو تنوع السحر من ناحية حقيقته أو تخييله، ومن ثم فبعض العلماء يقول: إن السحر حقيقة، ومنهم من يقول إنه تخييل، والصحيح في ذلك: - أن منه ما هو حقيقة، فيفرق بين المرء وزوجه، ولذا أمر الله تعالى بالاستعاذة به سبحانه من السواحر، فدل ذلك على أن للسحر حقيقة، وبعض السحر تخييل لا حقيقة له. (¬3) وقد نبه الإمام القرافي رحمه الله إلى ضرورة تحديد معنى السحر وتمييزه عن غيره فقال: (أطلق المالكية وجماعة، الكفر على الساحر، وأن السحر كفر، ولا شك أن هذا قريب من حيث الجملة، غير أنه عند الفتيا في جزئيات الوقائع يقع فيهم الغلط العظيم المودي إلى هلاك المفتي، والسبب في ذلك أنه إذا قيل للفقيه ما هو السحر وما حقيقته حتى يقضي بوجوده على كفر فاعليه يعسر عليه ذلك جداً، فإنك إذا قلت له السحر والرقى والخواص والسيميا والهيميا وقوى النفوس شيء واحد، وكلها سحر، أو بعض هذه الأمور سحر، وبعضها ليس بسحر، فإن قال: الكل سحر، يلزمه أن سورة الفاتحة سحر؛ لأنها رقية إجماعاً، وإن قال: لكل واحدة من هذه خاصية تختص بها، فيقال: بين لنا خصوص كل واحد منها، وما به تمتاز، وهذا لا يكاد يعرفه أحد من المتعرضين للفتيا. وأنا طول عمري ما رأيت من يفرق بين هذه الأمور، فكيف يفتي أحد بعد هذا بكفر شخص معين أو بمباشرة شيء معين بناء على أن ذلك سحر، وهو لا يعرف السحر ما هو) (¬4). إلى أن قال: (إن الكتب الموضوعة في السحر، وضع فيها هذا الاسم (السحر) على ما هو كذلك كفر ومحرم، وعلى ما ليس كذلك، وكذلك السحرة يطلق لفظ السحر على القسمين، فلابد من التعرض لبيان ذلك) (¬5). ثم قال أيضاً: (وللسحر فصول كثيرة في كتبهم يقطع من قبل الشرع بأنها ليست معاصي ولا كفراً، كما أن لهم ما يقطع بأنه كفر فيجب حينئذ التفصيل كما قال الشافعي رضي الله عنه، أما الإطلاق بأن كل ما يسمى سحراً كفر فصعب جداً) (¬6). وصدق رحمه الله تعالى، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلابد للناظر في هذه المسألة أن يفصل ويميز ويفرق بين السحر الذي يعد كفراً، وما ليس كذلك ... نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف- بتصرف - ص 502 ¬

(¬1) [10759])) انظر ((تفسير الرازي)) (3/ 228 – 236)، وانظر ((المفردات)) للراغب (ص 331) (¬2) [10760])) انظر ((الفروق)) للقرافي (4/ 137 – 149)، و ((مفتاح دار السعادة)) لطائش كبري زاده (1/ 340 – 346)، و ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/ 452 –455)، وكتاب ((السحر)) للحمد (ص 18 - 36). (¬3) [10761])) انظر تفصيل هذه المسألة في كتاب ((السحر)) لأحمد الحمد (ص 37 – 88). (¬4) [10762])) ((الفروق)) للقرافي (4/ 135). (¬5) [10763])) ((الفروق)) للقرافي (4/ 137). (¬6) [10764])) ((الفروق)) للقرافي (4/ 141).

المطلب الثالث: ما يلحق بالسحر كالعيافة، والطرق، والطيرة

المطلب الثالث: ما يلحق بالسحر كالعيافة، والطرق، والطيرة قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت)) (¬1). قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض، والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في (صحيحه) لهم المسند منه. قوله: (العيافة)، مصدر عاف يعيف عيافة، وهي: زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فعند العرب قواعد في هذا الأمر، لأن زجر الطير له أقسام: فتارة يزجرها للصيد، كما قال أهل العلم في باب الصيد: إن تعليم الطير بأن ينزجر إذا زجر، فهذا ليس من هذا الباب. وتارة يزجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإذا زجر الطائر وذهب شمالاً تشاءم، وإذا ذهب يميناً تفاءل، وإن ذهب أماماً، فلا أدري أيتوقفون أم يعيدون الزجر؟ فهذا من الجبت. قوله: (الطرق). فسره عوف: بأنه الخط يخط في الأرض، وكأنه من الطريق، من طرق الأرض يطرقها إذا سار عليها، وتخطيطها مثل المشي عليها يكون له أثر في الأرض كأثر السير عليها. ومعنى الخط بالأرض معروف عندهم، يضربون به على الرمل على سبيل السحر والكهانة، ويفعله النساء غالباً، ولا أدري كيف يتوصلون إلى مقصودهم وما يزعمونه من علم الغيب، وأنه سيحصل كذا على ما هو معروف عندهم؟! وهذا نوع من السحر. أما خط الأرض ليكون سترة في الصلاة، أو لبيان حدودها ونحو ذلك، فليس داخلاً في الحديث. فإن قيل: قد صح ((عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن نبي من الأنبياء يخط، فقال: من وافق خطه، فذاك)) (¬2). قلنا: يجاب عنه بجوابين: الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علقه بأمر لا يتحقق الوصول إليه، لأنه قال: فمن وافق خطه فذاك، وما يدرينا هل وافق خطه أم لا؟ الثاني: أنه إذا كان الخط بالوحي من الله تعالى كما في حال هذا النبي، فلا بأس به، لأن الله يجعل له علامة ينزل الوحي بها بخطوط يعلمه إياها. أما هذه الخطوط السحرية، فهي من الوحي الشيطاني، فإن قيل: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يسد الأبواب جميعاً خاصة في موضوع الشرك، فلماذا لم يقطع ويسد هذا الباب؟ فالجواب: كأن هذا والله أعلم أمر معلوم، وهو أن فيه نبياً من الأنبياء يخط، فلا بد أن يجيب عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (من الجبت). سبق أن الجبت السحر، وعلى هذا، فتكون (من) للتبعيض على الصحيح، وليس للبيان، فالمعنى أن هذه الثلاثة: العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت. وقوله: (الطيرة) أي: من الجبت، على وزن فعلة، وهم اسم مصدر تطير، والمصدر منه تطير، وهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وقيل: التشاؤم بمعلوم مرئياً كان أو مسموعاً، زماناً كان أو مكاناً، وهذا أشمل، فيشمل ما لا يرى ولا يسمع، كالتطير بالزمان. وأصل التطير: التشاؤم، لكن أضيفت إلى الطير، لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، فعلقت به، وإلا، فإن تعريفها العام: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم. وكان العرب يتشاءمون بالطير وبالزمان وبالمكان وبالأشخاص، وهذا من الشرك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) [10765])) رواه أبو داود (3907) وأحمد (5/ 60) (20622) , وابن حبان (13/ 502) , والطبراني (18/ 396) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , والحديث سكت عنه أبو داود, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3900). (¬2) [10766])) رواه مسلم (537).

والإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم، ضاقت عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاءم، وقال: اليوم يوم سوء، وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتر ـ والعياذ بالله ـ، وكان بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء، ويقول: أنه يوم نحس وشؤم، ومنهم من يتشاءم بشهر شوال، ولا سيما في النكاح، وقد نقضت عائشة رضي الله عنها هذا التشاؤم، بأنه صلى الله عليه وسلم عقد عليها في شوال، وبنى بها في شوال، فكانت تقول: ((أيكن كان أحظى عنده مني؟)) (¬1) والجواب: لا أحد. فالمهم أن التشاؤم ينبغي للإنسان أن لا يطرأ له على بال، لأنه ينكد عليه عيشه، فالواجب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يعجبه الفأل (¬2)، فينبغي للإنسان أن يتفاءل بالخير ولا يتشاءم، وكذلك بعض الناس إذا حاول الأمر مرة بعد أخرى تشاءم بأنه لن ينجح فيه فيتركه، وهذا خطأ، فكل شيء ترى فيه المصلحة، فلا تتقاعس عنه في أول محاولة، وحاول مرة بعد أخرى حتى يفتح الله عليك. وأما قول الحسن: الجبت: رنة الشيطان، قال صاحب (تيسير العزيز الحميد) (¬3): لم أجد فيه كلاماً. والظاهر أن رنة الشيطان، أي: وحي الشيطان، فهذه من وحي الشيطان وإملائه، ولا شك أن الذي يتلقى أمره من وحي الشيطان أنه أتى نوعاً من الكفر، وقول الحسن جاء في (تفسير ابن كثير) باللفظ الذي ذكره المؤلف، وجاء في (المسند) بلفظ: ((إنه الشيطان)) (¬4). ووجه كون العيافة من السحر أن العيافة يستند فيها الإنسان إلى أمر لا حقيقة له: فماذا يعني كون الطائر يذهب يميناً أو شمالاً أو أماماً أو خلفاً؟ فهذا لا أصل له، وليس بسبب شرعي ولا حسي، فإذا اعتمد الإنسان على ذلك، فقد اعتمد على أمر خفي لا حقيقة له، وهذا سحر كما سبق تعريف السحر في اللغة. وكذلك الطرق من السحر، لأنهم يستعملونه في السحر، ويتوصلون به إليه. والطيرة كذلك، لأنها مثل العيافة تماماً تستند إلى أمر خفي لا يصح الاعتماد عليه، وسيأتي في باب الطيرة ما يستثنى منه. قوله: (إسناده جيد ... ). قال الشيخ: إسناده جيد، وعندي أنه أقل من الجيد في الواقع، إلا أن يكون هناك متابعات، وكان بعض العلماء يذهب إلى أن الحديث إذا صح متنه، وكان موافقاً للأصول، فإنه يتساهل في سنده، والعكس بالعكس، إذا كان مخالفاً للأصول، فإنه لا يبالي بالسند، وهذا مسلك جيد بالنسبة لأخذ الحكم من الحديث، لكن بالنسبة للحكم على السند بأنه جيد بمجرد شهادة الأصول لهذا الحديث بالصحة، فهذا مشكل لأنه يلزم أنه لو جاءنا هذا السند في حديث آخر حكمنا بأنه جيد، فالأولى أن يقال: إن السند فيه ضعف، ولكن المتن، صحيح، فأنا أرى أن مثل هذا لا يحكم له بالجودة، إذ جيد أرقى من حسن، ثم الحكم بالحسن في مثل هذا السند في نفسي منه شيء، لأنه ينبغي لنا أن نتحرى في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الذي يخفف الأمر هو صحة المتن، وأيهما أهم: السند أم المتن؟ ¬

(¬1) [10767])) رواه مسلم (1423). (¬2) [10768])) رواه البخاري (5776) , ومسلم (2224) , من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) [10769])) انظر: ((وتيسير العزيز الحميد)) (ص 398). (¬4) [10770])) رواه أحمد (5/ 60) (20623).

الجواب: كلاهما مهمان، لكن المتن إذا كان صحيحاً تشهد له الأصول قد تستغني عنه بما تشهد به الأصول، أما السند، فلا بد منه، يقول ابن المبارك: لولا السند، لقال كل من شاء ما شاء .... وللنسائي من حديث أبي هريرة: ((من عقد عقدة، ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر، فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً، وكل إليه)) (¬1). قوله: (من عقد عقدة). (من) شرطية، والعقد معروف. قوله: (ثم نفث فيها). النفث: النفخ بريق خفيف، والمراد هنا النفث من أجل السحر. أما لو عقد عقدة، ثم نفث فيها من أجل أن تحتكم بالرطوبة، فليس بداخل في الحديث، والنفث من أجل السحر يفعلونه بعض الأحيان للصرف، فيصرفون به الرجل عن زوجته، ولا سيما عند عقد النكاح، فيبعد الرجل عن زوجته، فلا يقوى على جماعها، فمن عقد هذه العقدة، فقد وقع في السحر كما قال تعالى: وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق: 4]. قوله: (ومن سحر فقد أشرك). (من) هذه شرطية، وفعل الشرط: (سحر)، وجوابه: (فقد أشرك). وقوله: (فقد أشرك). هذا لا يتناول جميع السحر، إنما المراد من سحر بالطرق الشيطانية. أما من سحر بالأدوية والعقاقير وما أشبهها، فقد سبق أنه لا يكون مشركاً، لكن الذي يسحر بواسطة طاعة الشياطين واستخدامهم فيما يريد، فهذا لا شك أنه مشرك. قوله: (ومن تعلق شيئاً وكل إليه). (تعلق شيئاً)، أي: استمسك به، واعتمد عليه. (وكل إليه)، أي: جعل هذا الشيء الذي تعلق به عماداً له، ووكله الله إليه، وتخلى عنه. ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها: أن النافخ في العقد يريد أن يتوصل بهذا الشيء إلى حاجته ومآربه، فيوكل إلى هذا الشيء المحرم. ووجه آخر: وهو أن من الناس من إذا سحر عن طريق النفخ بالعقد ذهب إلى السحرة وتعلق بهم، ولا يذهب إلى القراء والأدوية المباحة والأدعية المشروعة، ومن توكل على الله كفاه، قال تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ [الطلاق: 5]، وإذا كان الله حسبك، فلا بد أن تصل إلى ما تريد. لكن من تعلق شيئاً من المخلوقين وكل إليه، ومن وكل إلى شيء من المخلوقين وكل إلى ضعف وعجز وعورة، وقد يشمل الحديث من اعتمد على نفسه وصار معجباً بما يقول ويفعل، فإنه يوكل إلى نفسه، ويوكل إلى ضعف وعجز وعورة، ولهذا ينبغي أن تكون دائماً متعلقاً بالله في كل أفعالك وأحوالك حتى في أهون الأمور ... وأن هؤلاء الذين يتعلقون بالسحر، ويجعلونه صناعة يصلون بها إلى مآربهم يوكلون إلى ذلك، وآخر أمرهم الخسارة والندم. ... والمؤلف كان حكيماً في تعبيره بالترجمة، حيث قال: باب بيان شيء من أنواع السحر، ولم يحكم عليها بشيء، لأن منها ما هو شرك، ومنها ما هو من كبائر الذنوب، ومنها دون ذلك، ومنها ما هو جائز على حسب ما يقصد به وعلى حسب تأثيره وآثاره. فيه مسائل: الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. الثانية: تفسير العيافة والطرق. الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. الرابعة: العقد مع النفث من ذلك. الخامسة: أن النميمة من ذلك. السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة. قال: (فيه مسائل)، أي: في هذا الباب وما تضمنه من الأحاديث والآثار مسائل: ¬

(¬1) [10771])) رواه النسائي (7/ 112) , والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 127) , قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 551): [فيه] عباد المنقري هو ممن يكتب حديثه, وقال المزي في ((تهذيب الكمال)) (9/ 429): [فيه] عباد بن ميسرة قال يحيى بن معين ليس به بأس وقال أبو داود ليس بالقوي, وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 378): لا يصح للين عباد بن ميسرة وانقطاعه, وقال الألباني في ((ضعيف النسائي)): ضعيف لكن جملة التعليق ثبتت في الحديث.

المسألة الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. وقد سبق تفسير هذه الثلاثة وتفسير الجبت. الثانية: تفسير العيافة والطرق. وقد بينت في الباب أيضاً وشرحت. الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. لقوله: ((من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر)) (¬1)، وسبق الكلام عليها أيضاً. الرابعة: العقد مع النفث من ذلك. لحديث أبي هريرة: ((من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر)) (¬2)، وقد تقدم الكلام على ذلك. الخامسة: أن النميمة من ذلك. لحديث ابن مسعود: ((ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة)) (¬3)، وهي من السحر، لأنها تفعل ما يفعل الساحر من التفريق بين الناس والتحريش بينهم، وقد سبق بيان ذلك. السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة. أي: من السحر بعض الفصاحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحراً)) (¬4)، والمؤلف رحمه الله قال: بعض الفصاحة استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان"، لأن "من" هنا عند المؤلف للتبعيض، ووجه كون ذلك من السحر أن لسان البليغ ذي البيان قد يصرف الهمم وقد يلهب ما عنده من الفصاحة. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - بتصرف– 2/ 36 ¬

(¬1) [10772])) رواه أبو داود (3905) , وابن ماجه (3726) , وأحمد (1/ 227) (2000) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 138) , والطبراني (11/ 135) , كلهم رووه بلفظ: ((من اقتبس علماً من النجوم)) بدلاً من ((من اقتبس شعبةً من النجوم)) , والحديث سكت عنه ابو داود, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 193) , والنووي في ((رياض الصالحين)) (536) , والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/ 144) , وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 312): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (¬2) [10773])) رواه النسائي (7/ 112) , والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 127) , قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 551): [فيه] عباد المنقري هو ممن يكتب حديثه, وقال المزي في ((تهذيب الكمال)) (9/ 429): [فيه] عباد بن ميسرة قال يحيى بن معين ليس به بأس وقال أبو داود ليس بالقوي, وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 378): لا يصح للين عباد بن ميسرة وانقطاعه, وقال الألباني في ((ضعيف النسائي)): ضعيف لكن جملة التعليق ثبتت في الحديث. (¬3) [10774])) رواه مسلم (2606). (¬4) [10775])) رواه البخاري (5146) من حديث ابن عمر رضي الله عنه, ومسلم (869) من حديث عمار رضي الله عنه.

ومن أنواع السحر زجر الطير والخط بالأرض، قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عوف حدثنا حيان – قال غير مسدد: حيان بن العلاء – حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((العيافة والطيرة والطرق من الجبت)) رواه أحمد في (مسنده) (¬1). و ((الجبت هو السحر)) قاله عمر رضي الله عنه (¬2) وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم (¬3). وعن ابن عباس وغيره أيضاً ((الجبت الشيطان)) (¬4)، ولا ينافي الأول لأن السحر من عمل الشيطان، وعنه أيضاً الجبت الشرك (¬5)، وعنه الجبت الأصنام (¬6)، وعنه الجبت حيي بن أخطب (¬7)، وعن الشعبي الجبت كاهن (¬8). وعن مجاهد الجبت كعب بن الأشرف (¬9)، ولا منافاة أيضاً فإن السحر من الشرك الذي يشمله عبادة غير الله، وحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ممن خاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر، والكاهن عامل بالسحر، وقال في القاموس: الجبت بالكسر الصنم والكاهن والساحر والسحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله عز وجل. ومن أنواعه العقد والنفث فيه قال الله تعالى: وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] وقد تقدم حديث عائشة في قصة لبيد بن الأعصم، وقد ثبت في حديث نزول المعوذتين ورقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بهما أنه كان كلما قرأ آية انحلت عقدة. وقال النسائي رحمه الله تعالى في كتاب تحريم الدم من (سننه): (الحكم في السحرة) أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)) (¬10) ¬

(¬1) [10776])) رواه أبو داود (3907) وأحمد (5/ 60) (20622) , وابن حبان (13/ 502) , والطبراني (18/ 396) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 192) , والنووي في ((المنثورات)) (ص: 159): إسناده حسن, وقال الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (4/ 313): جاءت الآثار بذلك مجيئا متواترا, وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3900). (¬2) [10777])) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم بعد حديث (4582) , في باب: قوله وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ، قال ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (2/ 252): جاء موصولاً. (¬3) [10778])) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (4/ 198) , وابن جرير في ((التفسير)) (8/ 462). (¬4) [10779])) روى ابن جرير في ((التفسير)) (8/ 462) هذا الأثر عن قتادة, والسدي. (¬5) [10780])) ذكره ابن كثير في ((التفسير)) (2/ 334). (¬6) [10781])) رواه ابن جرير في ((التفسير)) (8/ 461) , وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (4/ 198). (¬7) [10782])) رواه ابن جرير في ((التفسير)) (8/ 464) , وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (4/ 198). (¬8) [10783])) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (4/ 199). (¬9) [10784])) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) (4/ 199) , وابن جرير في ((التفسير)) (8/ 465). (¬10) [10785])) رواه النسائي (7/ 112) , والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 127) , قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 551): [فيه] عباد المنقري هو ممن يكتب حديثه, وقال المزي في ((تهذيب الكمال)) (9/ 429): [فيه] عباد بن ميسرة قال يحيى بن معين ليس به بأس وقال أبو داود ليس بالقوي, وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 378): لا يصح للين عباد بن ميسرة وانقطاعه, وقال الألباني في ((ضعيف النسائي)): ضعيف لكن جملة التعليق ثبتت في الحديث ..

وقد أطلق السحر على ما فيه التخييل في قلب الأعيان وإن لم يكن السحر الحقيقي، كما في (الصحيحين) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من البيان لسحراً)) (¬1) يعني لتضمنه التخييل فيخيل الباطل في صورة الحق، وإنما عني به البيان في المفاخرة والخصومات بالباطل ونحوها كما يدل عليه أصل القصة في التميميين اللذين تفاخرا عنده بأحسابهما وطعن أحدهما في حسب الآخر ونسبه، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له على نحو ما أسمع، فمن حكمت له من حق أخيه بشيء فإنما هو قطعة من النار)) (¬2) أو كما قال: وهو في الصحيح، وأما البيان بالحق لنصرة الحق فهو فريضة على كل مسلم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهو من الجهاد في سبيل الله عز وجل. وقد سمى صلى الله عليه وسلم ما يعمل عمل السحر سحراً وإن لم يكن سحراً كقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم ما العضة، هي النميمة، القالة بين الناس)) رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه (¬3). والعضة في لغة قريش السحر، ويقولون للساحر عاضه، فسمى النميمة سحراً لأنها تعمل عمل السحر في التفرقة بين المرء وزوجه وغيرها من المتحابين بل هي أعظم في الوشاية لأنها تثير العداوة بين الأخوين. وتسعر الحرب بين المتسالمين كما هو معروف مشاهد لا ينكر. وقد جاء الوعيد للقتات في الآيات والأحاديث كثيرة جداً. ومع هذا فالخداع للكفار للفتك بهم وإظهار المسلمين عليهم وكسر شوكتهم وتفريق كلمتهم من أعظم الجهاد وأنفعه وأشده نكاية فيهم كما فعله نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه في تفريق كلمة الأحزاب بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرق بين قريش وبين يهود بني قريظة ونقض الله بذلك ما أبرموه ولله الحمد والمنة معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي– ص705 ¬

(¬1) [10786])) رواه البخاري (5146) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما, ومسلم (869) من حديث عمار رضي الله عنه. (¬2) [10787])) رواه البخاري (2680) , ومسلم (1713). (¬3) [10788])) رواه مسلم (2606).

المطلب الرابع: التنجيم وادعاء علم الغيب

أولاً: التنجيم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)). رواه أبو داود، وإسناده صحيح (¬1). قوله: (من). شرطية، وفعل الشرط: (اقتبس)، وجوابه: (فقد اقتبس). قوله: (اقتبس). أي تعلم، لأن التعلم وهو أخذ الطالب من العالم شيئاً من علمه بمنزلة الرجل يقتبس من صاحب النار شعلة. قوله: (شعبة). أي: طائفة، ومنه قوله تعالى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ [الحجرات: 13]، أي: طوائف وقبائل. قوله: (من النجوم). المراد: علم النجوم، وليس المراد النجوم أنفسها، لأن النجوم لا يمكن أن تقتبس وتتعلم، والمراد به هنا علم النجوم الذي يستدل به على الحوادث الأرضية، فيستدل مثلاً باقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني على أنه سيحدث كذا وكذا. ويستدل بولادة إنسان في هذا النجم على أنه سيكون سعيداً، وفي النجم الآخر على أنه سيكون شقياً، فيستدلون باختلاف أحوال النجوم على اختلاف الحوادث الأرضية، والحوادث الأرضية من عند الله، قد تكون أسبابها معلومة لنا، وقد تكون مجهولة، لكن ليس للنجوم بها علاقة، ولهذا جاء في حديث زيد بن خالد الجهني في غزوة الحديبية، قال: صلى بنا رسول الله ذات ليلة على إثر سماء من الليل، فقال: ((قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا ـ بنوء يعني: بنجم، والباء للسببية، يعني: هذا المطر من النجم ـ، فإنه كافر بي مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب)) (¬2). فالنجوم لا تأتي بالمطر ولا تأتي بالرياح أيضاً، ومنه نأخذ خطأ العوام الذين يقولون: إذا هبت الريح طلع النجم الفلاني، لأن النجوم لا تأثير لها بالرياح، صحيح أن بعض الأوقات والفصول يكون فيها ريح ومطر، فهي ظرف لهما، وليست سبباً للريح أو المطر. وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين: ¬

(¬1) [10789])) رواه أبو داود (3905) , وابن ماجه (3726) , وأحمد (1/ 227) (2000) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 138) , والطبراني (11/ 135) , كلهم رووه بلفظ: ((من اقتبس علماً من النجوم)) بدلاً من ((من اقتبس شعبةً من النجوم)) , والحديث سكت عنه ابو داود, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 193) , والنووي في ((رياض الصالحين)) (536) , والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/ 144) , وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 312): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (¬2) [10790])) رواه البخاري (846) , ومسلم (71).

الأول: علم التأثير، وهو أن يستدل بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، فهذا محرم باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر)) (¬1)، وقوله في حديث زيد بن خالد: ((من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (¬2)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الشمس والقمر: ((إنهما آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)) (¬3) , فالأحوال الفلكية لا علاقة بينها وبين الحوادث الأرضية. الثاني: علم التسيير، وهو ما يستدل به على الجهات والأوقات، فهذا جائز، وقد يكون واجباً أحياناً، كما قال الفقهاء: إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم والشمس والقمر، قال تعالى: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [النحل: 15]، فلما ذكر الله العلامات الأرضية انتقل إلى العلامات السماوية، فقال تعالى: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16]، فالاستدلال بهذه النجوم على الأزمات لا بأس به، مثل أن يقال: إذا طلع النجم الفلاني دخل وقت السيل ودخل وقت الربيع، وكذلك على الأماكن، كالقبلة، والشمال، والجنوب. قوله: (فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد). المراد بالسحر هنا: ما هو أعم من السحر المعروف، لأن هذا من الاستدلال بالأمور الخفية التي لا حقيقة لها، كما أن السحر لا حقيقة له، فالسحر لا يقلب الأشياء، لكنه يموه، وهكذا اختلاف النجوم لا تتغير بها الأحوال. قوله: (زاد ما زاد). أي: كلما زاد شعبة من تعلم النجوم ازداد شعبة من السحر. ووجه ذلك: أن الشيء إذا كان من الشيء، فإنه يزداد بزيادته. وجه مناسبة الحديث لترجمة المؤلف: أن من أنواع السحر: تعلم النجوم ليستدل بها على الحوادث الأرضية، وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند، لكن من حيث المعنى الصحيح تشهد له النصوص الأخرى ... التنجيم: مصدر نجم بتشديد الجيم، أي: تعلم علم النجوم، أو اعتقد تأثير النجوم. وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين: 1 - علم التأثير. 2 - علم التسيير. فالأول: علم التأثير. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث والشرور، فهذا شرك أكبر، لأن من ادعى أن مع الله خالقاً، فهو مشرك شركاً أكبر، فهذا جعل المخلوق المسخر خالقاً مسخراً. ¬

(¬1) [10791])) رواه أبو داود (3905) , وابن ماجه (3726) , وأحمد (1/ 227) (2000) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 138) , والطبراني (11/ 135) , كلهم رووه بلفظ: ((من اقتبس علماً من النجوم)) بدلاً من ((من اقتبس شعبةً من النجوم)) , والحديث سكت عنه ابو داود, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 193) , والنووي في ((رياض الصالحين)) (536) , والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/ 144) , وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 312): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (¬2) [10792])) رواه البخاري (846) , ومسلم (71). (¬3) [10793])) رواه البخاري (1060) , ومسلم (915) , من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

أن يجعلها سبباً يدعي به علم الغيب، فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا، لأن النجم الفلاني صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاء، لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة لأنه ولد في النجم الفلاني. فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة، لأن الله يقول: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65]، وهذا من أقوى أنواع الحصر، لأنه بالنفي والإثبات، فإذا ادعى أحد علم الغيب، فقد كذب القرآن. أن يعتقدها سبباً لحدوث الخير والشر، أي أنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئاً إلا بعد وقوعه، فهذا شرك أصغر. فإن قيل: ينتقض هذا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الكسوف: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده)) (¬1)، فمعنى ذلك أنهما علامة إنذار. والجواب من وجهين: الأول: أنه لا يسلم أن للكسوف تأثيراً في الحوادث والعقوبات من الجدب والقحط والحروب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)) (¬2)، لا في ما مضى ولا في المستقبل، وإنما يخوف الله بهما العباد لعلهم يرجعون، وهذا أقرب. الثاني: أنه لو سلمنا أن لهما تأثيراً، فإن النص قد دل على ذلك، وما دل عليه النص يجب القول به، لكن يكون خاصاً به. لكن الوجه الأول هو الأقرب: أننا لا نسلم أصلاً أن لهما تأثيراً في هذا، لأن الحديث لا يقتضيه، فالحديث ينص على التخويف، والمخوف هو الله تعالى، والمخوف عقوبته، ولا أثر للكسوف في ذلك، وإنما هو علامة فقط. الثاني: علم التيسير. وهذا ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية، فهذا مطلوب، وإذا كان يعين على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجباً، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة، فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة، فهذا فيه فائدة عظيمة. الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية، فهذا لا بأس به، وهو نوعان: النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات، كمعرفة أن القطب يقع شمالاً، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالاً، وهكذا، فهذا جائز، قال تعالى: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16]. النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر، فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون. والذين كرهوه قالوا: يخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني، فهو وقت الشتاء أو الصيف: أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو البحر أو بالرياح. والصحيح عدم الكراهة. قوله في أثر قتادة: (خلق الله هذه النجوم لثلاث). اللام للتعليل، أي: لبيان العلة والحكمة. قوله: (لثلاث). ويجوز لثلاثة، لكن الثلاث أحسن، أي: لثلاث حكم، لهذا حذف تاء التأنيث من العدد. والثلاث هي: الأولى: زينة للسماء، قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ [الملك: 5]، لأن الإنسان إذا رأى السماء صافية في ليلة غير مقمرة وليس فيها كهرباء يجد لهذه النجوم من الجمال العظيم ما لا يعلمه إلا الله، فتكون كأنها غابة محلاة بأنواع من الفضة اللامعة، هذه نجمة مضيئة كبيرة تميل إلى الحمرة، وهذه تميل إلى الزرقة، وهذه خفيفة، وهذه متوسطة، وهذا شيء مشاهد. ¬

(¬1) [10794])) رواه مسلم (911) , من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه. (¬2) [10795])) رواه البخاري (1060) , ومسلم (915) , من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

وهل نقول: إن ظاهر الآية الكريمة أن النجوم مرصعة في السماء، أو نقول: لا يلزم ذلك؟ الجواب: لا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصعة في السماء، قال تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33]، أي: يدورون، كل له فلك ... إذاً هي أفلاك متفاوتة في الارتفاع والنزول، ولا يلزم أن تكون مرصعة في السماء. فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا. قلنا: إنها لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقاً له، أرأيت لو أن رجلاً عمر قصراً وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة، وليست على جدرانه، فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له، وإن لم تكن ملاصقة له. الثانية: رجوماً للشياطين، أي: لشياطين الجن، وليسوا شياطين الإنس، لأن شياطين الإنس لم يصلوها، لكن شياطين الجن وصلوها، فهم أقدر من شياطين الإنس، ولهم قوة عظيمة نافذة، قال تعالى عن عملهم الدال على قدرتهم: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ [ص: 37]، أي: سخرنا لسليمان: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [ص: 38]، وقال تعالى: قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل: 39]، أي: من سبأ إلى الشام، وهو عرش عظيم لملكة سبأ، فهذا يدل على قوتهم وسرعتهم ونفوذهم. وقال تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: 9]. والرجم: الرمي. الثالثة: علامات يهتدى بها، تؤخذ من قوله تعالى: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16]، فذكر الله تعالى نوعين من العلامات التي يهتدى بها: الأول: أرضية، وتشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة، كالجبال، والأنهار، والطرق، والأودية، ونحوها. والثاني: أفقية في قوله تعالى: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ والنجم: اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به، ولا يختص بنجم معين، لأن لكل قوم طريقة في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات، سواء جهات القبلة أو المكان، براً أو بحراً. وهذا من نعمة الله أن جعل علامات علوية لا يحجب دونها شيء، وهي النجوم، لأنك في الليل لا تشاهد جبالاً ولا أودية، وهذا من تسخير الله، قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: 13]. وكره قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق. قوله: (وكره قتادة تعلم منازل القمر). أي: كراهة تحريم بناءً على أن الكراهة في كلام السلف يراد بها التحريم غالباً. وقوله: (تعلم منازل القمر) يحتمل أمرين: الأول: أن المراد به معرفة منزلة القمر، الليلة يكون في الشرطين، ويكون في الإكليل، فالمراد معرفة منازل القمر كل ليلة، لأن كل ليلة له منزلة حتى يتم ثمانياً وعشرين وفي تسع وعشرين وثلاثين لا يظهر في الغالب. الثاني: أن المراد به تعلم منازل النجوم، أي: يخرج النجم الفلاني، في اليوم الفلاني وهذه النجوم جعلها الله أوقاتاً للفصول، لأنها (28) نجماً، منها (14) يمانية، و (14) شمالية، فإذا حلت الشمس في المنازل الشمالية صار الحر، وإذا حلت في الجنوبية صار البرد، ولذلك كان من علامة دنو البرد خروج سهيل، وهو من النجوم اليمانية.

قوله: (ولم يرخص فيه ابن عيينة). هو سفيان بن عيينة المعروف، وهذا يوافق قول قتادة بالكراهة. قوله: (وذكره حرب). من أصحاب أحمد، روى عنه مسائل كثيرة. قوله: (إسحاق). هو إسحاق بن راهويه. والصحيح أنه لا بأس بتعلم منازل القمر، لأنه لا شرك فيها، إلا أن تعلمها ليضيف إليها نزول المطر وحصول البرد، وأنها هي الجالبة لذلك، فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل هو الربيع، أو الخريف، أو الشتاء، فهذا لا بأس به. وعن أبي موسى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر)) رواه أحمد وابن حبان في "صحيحه" (¬1). ... قوله: (ومصدق بالسحر). هذا هو شاهد الباب، ووجهه أن علم التنجيم نوع من السحر، فمن صدق به فقد صدق بنوع من السحر، ... : ((أن من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر)) (¬2) , والمصدق به هو المصدق بما يخبر به المنجمون، فإذا قال المنجم: سيحدث كذا وكذا، وصدق به، فإنه لا يدخل الجنة، لأنه صدق بعلم الغيب لغير الله، قال تعالى: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65]. فإن قيل: لماذا لا يجعل السحر هنا عاماً ليشمل التنجيم وغير التنجيم؟ أجيب: إن المصدق بما يخبره به السحر من علم الغيب يشمله الوعيد هنا، وأما المصدق بأن للسحر تأثيراً، فلا يلحقه هذا الوعيد، إذا لا شك أن للسحر تأثيراً، لكن تأثيره تخييل، مثل ما وقع من سحرة فرعون حيث سحروا أعين الناس حتى رأوا الحبال والعصي كأنها حيات تسعى، وإن كان لا حقيقة لذلك، وقد يسحر الساحر شخصاً فيجعله يُحِب فلاناً ويبغض فلاناً، فهو مؤثر، قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة: 102]، فالتصديق بأثر السحر على هذا الوجه لا يدخله الوعيد لأنه تصديق بأمر واقع. أما من صدق بأن السحر يؤثر في قلب الأعيان بحيث يجعل الخشب ذهباً أو نحو ذلك، فلا شك في دخوله في الوعيد، لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله عز وجل. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - بتصرف – 2/ 43 ¬

(¬1) [10796])) رواه أحمد (4/ 399) (19587) , وابن حبان (13/ 507) , وأبو يعلى (13/ 181) , قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 74): رجال أحمد وأبي يعلى ثقات, وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1463) , وقال شعيب الأرنؤوط في ((مسند أحمد)) (4/ 399) قوله منه: (ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر وقاطع رحم ومصدق بالسحر) حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي حريز. (¬2) [10797])) رواه أبو داود (3905) , وابن ماجه (3726) , وأحمد (1/ 227) (2000) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 138) , والطبراني (11/ 135) , كلهم رووه بلفظ: ((من اقتبس علماً من النجوم)) بدلاً من ((من اقتبس شعبةً من النجوم)) , والحديث سكت عنه ابو داود, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 193) , والنووي في ((رياض الصالحين)) (536) , والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/ 144) , وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 312) كلهم قالوا: إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)).

ثم إن التنجيم، هو أحد أقسام الكهانة، ولذا يسمي بعضهم المنجم كاهناً (¬1)، والكاهن (هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن) (¬2). يقول القاضي عياض – ذاكراً أنواع الكهانة – (كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب: - أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم باطل من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: - أنه يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده. الثالث: - المنجمون، وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم، وإتيانهم. والله أعلم) (¬3) ... وهذا التنجيم إنما كان سحراً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)) (¬4). يقول ابن تيمية: (فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر، وقد قال الله تعالى وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69] وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون، لا في الدنيا ولا في الآخرة) (¬5). والتنجيم الذي يعد سحراً له أنواع منها: - (أ) عبادة النجوم كما كان يفعل الصابئة، اعتقاداً منهم بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير تلك النجوم، ولذا بنوا هياكل لتلك النجوم، وعبدوها وعظموها، زاعمين أن روحانية تلك النجوم تتنزل عليهم فتخاطبهم وتقضي حوائجهم. (¬6) ولا شك أن هذا كفر بالإجماع. (¬7) ¬

(¬1) انظر ((شرح السنة)) للبغوي (12/ 177)، و ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/ 172، 193). (¬2) ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 225)، وانظر ((النهاية لابن الأثير)) (4/ 214)، و ((شرح السنة)) للبغوي (12/ 182)، وفتح الباري 10/ 216، و ((مفردات الراغب)) (ص 665)، و ((شرح الفقه الأكبر)) لملا علي قاري (ص 221)، و ((مفتاح السعادة)) لطاش كبري (1/ 340)، و ((بلوغ الأرب)) للآلوسي (3/ 269)، و ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/ 393). (¬3) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (14/ 223)، وانظر ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 225)، و ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/ 217)، و ((فتح الباري)) (10/ 217)، و ((فتاوى ابن باز)) (2/ 120)، و ((المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 138). (¬4) [10801])) رواه أبو داود (3905) , وابن ماجه (3726) , وأحمد (1/ 227) (2000) والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 138) , والطبراني (11/ 135) , كلهم رووه بلفظ: ((من اقتبس علماً من النجوم)) بدلاً من ((من اقتبس شعبةً من النجوم)) , والحديث سكت عنه ابو داود, وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/ 193) , والنووي في ((رياض الصالحين)) (536) , والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/ 144) , وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/ 312) قالوا: إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 193) (¬6) انظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (35/ 177)، و ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 775)، و ((شرح الفقه الأكبر)) لملا علي قاري (ص: 223)، و ((وتيسير العزيز الحميد)) (ص: 441). (¬7) انظر ((الفتاوى)) لابن تيمية (35/ 177)، و ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 775)، و ((شرح الفقه الأكبر)) لملا علي قاري (ص: 223)، و ((وتيسير العزيز الحميد)) (ص: 441).

(ب) أن يستدل بحركات النجوم وتنقلاتها على ما يحدث في المستقبل من الحوادث والوقائع، فيعتقد أنه لكل نجم منها تأثيرات في كل حركاته منفرداً أو مقترناً بغيره (¬1). وفي هذا النوع دعوى لعلم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة؛ لأنهم بهذا يزعمون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة وهي علم الغيب، ولأنه تكذيب لقوله تعالى قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ [النحل: 65] وهذا من أقوى أنواع الحصر؛ لأنه بالنفي والاستثناء. كما أنه تكذيب لقوله سبحانه: - وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59] (¬2). 3 - ومن أنواع هذا التنجيم: (ما يفعله من يكتب حروف أبي جاد، ويجعل لكل حرف منها قدراً من العدد معلوماً، ويجري على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والمكنة وغيرها، ويجمع جمعاً معروفاً عنده، ويطرح منه طرحاً خاصاً، ويثبت إثباتاً خاصاً، وينسبه إلى الأبراج الإثنى عشر المعروفة عند أهل الحساب، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس وغيرها مما يوحيه إليه الشيطان) (¬3). (قال بن عباس رضي الله عنهما في قوم يكتبون أباجاد، وينظرون في النجوم: (ما أدري من فعل ذلك له عند الله خلاق). (¬4)). وهذا النوع أيضاً يتضمن دعوى مشاركة الله في علم الغيب الذي انفرد به سبحانه (¬5). يقول السعدي في هذا المقام: (إن الله تعالى المنفرد بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركة الله في شيء من ذلك بكهانة أو عرافة أو غيرها، أو صدق من ادعى ذلك، فقد جعل لله شريكاً فيما هو من خصائصه، وقد كذب الله ورسوله ... ) (¬6). ويقول الشنقيطي: (لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله، كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين ... ) (¬7). إن هذه الأنواع من التنجيم وما شابهها كفر أكبر يناقض الإيمان .. فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى التنجيم سحراً .. وقد سبق بيان وجه كون السحر كفراً. إن هذا التنجيم يناقض الإيمان، لما فيه من اعتقاد أن تلك النجوم تنفع وتضر بغير إذن الله تعالى، ولما فيه من دعوى الغيب، ومنازعة الله تعالى فيما اختص به سبحانه من علم الغيب، كما قال سبحانه: - عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [الجن: 26]، كما أن هذا السحر يحوي شركاً في العبادة، ودعاء لتلك النجوم وتعظيماً وتقربا لها. ¬

(¬1) انظر ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 226)، و ((الفتاوى)) لابن تيمية (35/ 171)، و ((وتيسير العزيز الحميد)) (ص 442)، و ((معارج القبول)) (1/ 524)، و ((المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين)) (2/ 143). (¬2) انظر ((وتيسير العزيز الحميد)) (ص442)، و ((القول السديد)) للسعدي (ص 77، 78، 84)، و ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/ 197)، و ((فتاوى ابن باز)) (2/ 120)، و ((المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين)) (1/ 143). (¬3) ((معارج القبول)) (1/ 523)، وانظر تفصيل الحديث عن علم تلك الحروف في ((مقدمة ابن خلدون)) (3/ 1159 – 1196)، و ((أبجد العلوم)) لمحمد صديق حسن (2/ 236). (¬4) [10808])) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 139) , وعبد الرزاق في ((المصنف)) (11/ 26) , وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3092). (¬5) ومما يحسن ذكره ها هنا أن ما يسمى بحساب الجمل، والذي يستفاد منه في تيسير حفظ أزمان الأحداث والوقائع ... فهذا ليس ممنوعاً؛ لأنه لا يتضمن شيئاً مما نهى عنه الشارع (¬6) ((القول السديد)) (ص 77، 78) (¬7) ((أضواء البيان)) (2/ 197)، وانظر ((الموافقات)) للشاطبي (4/ 84).

إضافة إلى ذلك فإن التنجيم إذا كان نوعاً من الكهانة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - ((من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)). (¬1). وفي رواية: - ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول .... فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬2). فهذه الأحاديث دليل على كفر من سأل الكهان مصدقاً لهم، فإذا كان هذا حال السائل فكيف بالمسؤول؟ يقول ابن تيمية – ذاماً هؤلاء المنجمين -: (فإن هؤلاء الملاعين يقولون الإثم ويأكلون السحت بإجماع المسلمين، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق عنه أنه قال: - ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) (¬3) , وأي منكر أنكر من عمل هؤلاء الأخابث، سوس الملك، وأعداء الرسل، وأفراخ الصابئة عباد الكواكب؟!! فهل كانت بعثة الخليل صلاة الله وسلامه عليه إمام الحنفاء إلا إلى سلف هؤلاء – فإن نمرود بن كنعان كان ملك هؤلاء، وعلماء الصابئة هم المنجمون ونحوهم – وهل عبدت الأوثان في غالب الأمر إلا عن رأي هذا الصنف الخبيث، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله؟!!) (¬4) نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز محمد العبد اللطيف – ص519 ¬

(¬1) [10812])) رواه أبو داود (3904) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأتا حائضا أو أتى امرأتا في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (135) , وابن ماجه (639) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) (9017) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (1/ 49) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 227): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)). (¬2) [10813])) رواه أبو داود (3904) وأحمد (2/ 408) (9279) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال البخاري في ((التاريخ الكبير)) (3/ 17): لا يتابع عليه (حكيم الأثرم) ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (¬3) [10814])) رواه أبو داود (4338) , والترمذي (2168) , وابن ماجه (4005) , وأحمد (1/ 2) (1) , قال أبو داود ورواه كما قال خالد أبو أسامة وجماعة قال شعبة فيه ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر ممن يعمله)) , وقال الترمذي حسن صحيح, وصححه ابن العربي في ((الناسخ والمنسوخ)) (2/ 204) , وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 193) , وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (1/ 36): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 195)، وانظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 763).

ثانيا: ادعاء علم الغيب

ثانياً: ادعاء علم الغيب يقول الإمام ابن العربي المالكي في ذلك: (مقامات الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله لا إمارة عليها، ولا علامة عليها، إلا ما أخبر به الصادق المجتبى ... ، فكل من قال: إنه ينزل الغيث غداً فهو كافر، أخبر عنه بأمارات ادعاها، أو بقول مطلق (¬1)، ومن قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فأما الأمارة على هذا فتختلف، فمنها كفر، ومنها تجربة (¬2)، والتجربة منه أن يقول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسوداً الحلمة فهو ذكر، وإن كان ذلك في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فهو ذكر، وإن وجدت الجنب الأشأم أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجباً في الخلقة لم نكفره ولم نفسقه، وأما من ادعى علم الكسب في مستقبل العمر فهو كافر أو أخبر عن الكوائن الجميلة أو المفضلة فيما يكون قبل أن يكون فلا ريب في كفره أيضا ... ) (¬3). وقال صديق خان- رحمه الله-: (فمن اعتقد في نبي، أو ولي، أو جن، أو ملك، أو إمام، أو ولد إمام، أو شيخ، أو شهيد، أو منجم، أو رمال، أو جفار، أو فاتح فال، أو برهمن، أو راهب، أو جنية، أو خبيث أن له مثل هذا العلم، وهو يعلم الغيب بعلمه ذلك فهو مشرك بالله، وعقيدته هذه من أبطل الباطلات وأكذب المكذوبات، وهو منكر لهذه الآية القرآنية وجاحد لها) (¬4) أي: قوله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ... [الأنعام: 59] الآية. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: ( .. والمقصود من هذا: معرفة أن من يدعي معرفة علم الشيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة، ونحو هذا من علوم الجاهلية .. فمن أتاهم (أي الكهنة والعرافين) فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد، وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة، لا ريب أن من ادعى الولاية، استدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، ... إلى أن يقول-رحمه الله- بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك ولياً لله؟) (¬5). ومن مجموع هذه النقولات يتبين لنا تكفير العلماء لمن ادعى علم الغيب وذلك لمناقضته وتكذيبه للنصوص القطعية في اختصاصه سبحانه وتعالى بذلك. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي- 2/ 103 ¬

(¬1) لعل المقصود والله أعلم من يقول ذلك على سبيل الجزم واليقين. (¬2) مثل ذلك يقال في مسألة نزول الغيث إن كان عن تجربة وتأمل لسنن الله في الكون، ولم يجزم بوقوع ذلك بغلبة الظن فجائز والله أعلم (¬3) ((أحكام القرآن)) (2/ 738). (¬4) ((الدين الخالص)) (1/ 425، 426) , (¬5) ((فتح المجيد)) (ص: 304 –306).

المطلب الخامس: الكهانة

المطلب الخامس: الكهانة الكهان: جمع كاهن، والكهنة أيضاً جمع كاهن، وهم قوم يكونون في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، وتتصل بهم الشياطين، وتخبرهم عما كان في السماء، تسترق السمع من السماء، وتخبر الكاهن به، ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة، ويخبر الناس، فإذا وقع مما أخبر به شيء، اعتقده الناس عالماً بالغيب، فصاروا يتحاكمون إليهم، فهم مرجع للناس في الحكم، ولهذا يسمون الكهنة، إذ هم يخبرون عن الأمور في المستقبل، يقولون: سيقع كذا وسيقع كذا، وليس من الكهانة في شيء من يخبر عن أمور تدرك بالحساب، فإن الأمور التي تدرك بالحساب ليست من الكهانة في شيء، كما لو أخبر عن كسوف الشمس أو خسوف القمر، فهذا ليس من الكهانة، لأنه يدرك بالحساب، وكما لو أخبر أن الشمس تغرب في 20 من برج الميزان مثلاً في الساعة كذا وكذا، فهذا ليس من علم الغيب، وكما يقولون: إنه سيخرج في أول العام أو العام الذي بعده مذنب (هالي)، وهو نجم له ذنب طويل، فهذا ليس من الكهانة في شيء، لأنه من الأمور التي تدرك بالحساب، فكل شيء يدرك بالحساب، فإن الإخبار عنه ولو كان مستقبلاً لا يعتبر من علم الغيب، ولا من الكهانة. وهل من الكهانة ما يخبر به الآن من أحوال الطقس في خلال أربع وعشرين ساعة أو ما أشبه ذلك؟ الجواب: لا، لأنه أيضاً يستند إلى أمور حسية، وهي تكيف الجو، لأن الجو يتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم، فيكون صالحاً لأن يمطر، أو لا يمطر، ونظير ذلك في العلم البدائي إذا رأينا تجمع الغيوم والرعد والبرق وثقل السحاب، نقول يوشك أن ينزل المطر. فالمهم أن ما استند إلى شيء محسوس، فليس من علم الغيب، وإن كان بعض العامة يظنون أن هذه الأمور من علم الغيب، ويقولون: إن التصديق بها تصديق بالكهانة. والشيء الذي يدرك بالحس إنكاره قبيح، كما قال السفاريني: فكل معلوم بحس أو حجا ... فنكره جهل قبيح بالهجا فالذي يعلم بالحس لا يمكن إنكاره ولو أن أحداً أنكره مستنداً بذلك إلى الشرع، لكان ذلك طعناً بالشرع. روى مسلم في (صحيحه) عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أتى عرافاً، فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) (¬1). قوله: (من): شرطية، فهي للعموم. والعراف: صيغة مبالغة من العارف، أو نسبة، أي: من ينتسب إلى العرافة. والعراف قيل: هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المستقبل. وقيل: هو اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم، ويدل عليه الاشتقاق، إذ هو مشتق من المعرفة، فيشمل كل من تعاطى هذه الأمور وادعى بها المعرفة. قوله: (فسأله، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً). ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوماً، ولكنه ليس على إطلاقه، فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام: ¬

(¬1) [10821])) رواه مسلم (2230) , دون قوله ((فصدقه بما يقول)) , وهي عند أحمد (5/ 380) (23270) ,

القسم الأول: أن يسأله سؤالاً مجرداً، فهذا حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافاً ..... )) (¬1).، فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه، إذ لا عقوبة إلا على فعل محرم. القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قوله: فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن، حيث قال تعالى: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65]. القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب، لا لأجل أن يأخذ بقوله، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث. وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابن صياد، فقال: ((ماذا خبأت لك؟ قال: الدخ فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك)) (¬2) , فالنبي صلى الله عليه وسلم سأله عن شيء أضمره، لأجل أن يختبره، فأخبره به. القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه، وهذا مطلوب، وقد يكون واجباً. وإبطال قول الكهنة لا شك أنه أمر مطلوب، وقد يكون واجباً، فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى. وقد ذكر شيخ الإسلام أن الجن يخدمون الإنس في أمور، والكهان يستخدمون الجن ليأتوهم بخبر السماء، فيضيفون إليه من الكذب ما يضيفون، وخدمة الجن للإنس ليست محرمة على كل حال، بل هي على حسب الحال. فالجني يخدم الإنس في أمور لمصلحة الإنس، وقد يكون للجن فيها مصلحة، وقد لا يكون له فيها مصلحة، بل لأنه يحبه في الله ولله، ولا شك أن من الجن مؤمنين يحبون المؤمنين من الإنس، لأنه يجمعهم الإيمان بالله. وقد يخدمونهم لطاعة الإنس لهم فيما لا يرضي الله ـ عز وجل ـ، إما في الذبح لهم، أو في عبادتهم، أو ما أشبه ذلك. والأغرب من ذلك أنهم ربما يخدمون الإنس لأمر محرم من زنا أو لواط، لأن الجنية قد تستمتع بالإنسي بالعشق والتلذذ بالاتصال، أو بالعكس، وهذا أمر معلوم مشهود، حتى ربما كان الجني الذي في الإنسان ينطق بذلك، كما يعلم من الذين يقرؤون على المصابين بالجن. والنبي صلى الله عليه وسلم حضر إليه الجن وخاطبهم وأرشدهم، ووعدهم بعطاء لا نظير له، فقال لهم: ((كل عظم ذكر اسم لله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة، فهي علف لدوابكم)) (¬3) ... قوله: (فصدقه). ليس في (صحيح مسلم)، بل الذي في (مسلم): (فسأله، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)، وزيادتها في نقل المؤلف، إما لأن النسخة التي نقل منها بهذا اللفظ (فصدقه)، أو أن المؤلف عزاه إلى (مسلم) باعتبار أصله، فأخذ من (مسلم): (فسأله)، وأخذ من أحمد: (فصدقه). قوله: (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). نفي القبول هنا هل يلزم منه نفي الصحة أولا؟ ¬

(¬1) [10822])) رواه أبو داود (3904) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأتا حائضا أو أتى امرأتا في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (135) , وابن ماجه (639) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) (9017) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (1/ 49) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 227): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)). (¬2) [10823])) رواه البخاري (1354) , ومسلم (2930) , من حديث عبد الله بن عمر. (¬3) [10824])) رواه مسلم (450).

نقول: نفي القبول إما أن يكون لفوات شرط، أو لوجود مانع، ففي هاتين الحالين يكون نفي القبول نفياً للصحة، كما لو قلت: من صلى بغير وضوء لم يقبل الله صلاته، ومن صلى في مكان مغصوب لم يقبل الله صلاته عند من يرى ذلك. وإن كان نفي القبول لا يتعلق بفوات شرط ولا وجود مانع، فلا يلزم من نفي القبول نفي الصحة، وإنما يكون المراد بالقبول المنفي: إما نفي القبول التام، أي: لم تقبل على وجه التمام الذي يحصل به تمام الرضا وتمام المثوبة. وإما أن يراد به أن هذه السيئة التي فعلها تقابل تلك الحسنة في الميزان، فتسقطها، ويكون وزرها موازياً لأجر تلك الحسنة، وإذا لم يكن له أجر صارت كأنها غير مقبولة، وإن كانت مجزئة ومبرئة للذمة، لكن الثواب الذي حصل بها قوبل بالسيئة فأسقطته. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: ((من شرب الخمر، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) (¬1). وقوله: (أربعين يوماً). تخصيص هذا العدد لا يمكننا أن نعلله، لأن الشيء المقدر بعدد لا يستطيع الإنسان غالباً أن يعرف حكمته، فكون الصلاة خمس صلوات أو خمسين لا نعلم لماذا خصصت بذلك، فهذا من الأمور التي يقصد بها التعبد لله، والتعبد لله بما لا تعرف حكمته أبلغ من التعبد له بما تعرف حكمته، لأنه أبلغ في التذلل، صحيح أن الإنسان إذا عرف الحكمة اطمأنت نفسه أكثر، لكن كون الإنسان ينقاد لما لا يعرف حكمته دليل على كمال الانقياد والتعبد لله عز وجل، فهو من حيث العبودية أبلغ وأكمل، أما ذاك، فهو من حيث الطمأنينة إلى الحكم يكون أبلغ، لأن النفس إذا علمت بالحكمة في شيء اطمأنت إليه بلا شك، وازدادت أخذاً له وقبولاً، فهناك أشياء مما عينه الشرع بعدد أو كيفية لا نعلم ما الحكمة فيه، ولكن سبيلنا أن نكون كما قال الله تعالى عن المؤمنين: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36]. فعلينا التسليم والانقياد وتفويض الأمر إلى الله تعالى. ويؤخذ من الحديث: تحريم إتيان العراف وسؤاله، إلا ما استثني، كالقسم الثالث والرابع، لما في إتيانهم وسؤالهم من المفاسد العظيمة، التي ترتب على تشجيعهم وإغراء الناس بهم، وهم في الغالب يأتون بأشياء كلها باطلة. ¬

(¬1) [10825])) رواه ابن ماجه (3377) , وأحمد (2/ 189) (6773) , والحاكم (4/ 162) , وابن حبان (12/ 180) , من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, قال الحاكم حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 118): حسن, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (11/ 44): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح ابن ماجه)).

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أتى كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) رواه أبو داود (¬1). قوله: (من أتى كاهناً). تقدم معنى الكهان، وأنهم كانوا رجالاً في أحياء العرب تنزل عليهم الشياطين، وتخبرهم بما سمعت من أخبار السماء. قوله: (فصدقه). أي: نسبه إلى الصدق، وقال: إنه صادق، وتصديق الخبر يعني: تثبيته وتحقيقه، فقال: هذا حق وصحيح وثابت. قوله: (بما يقول). (ما) عامة في كل ما يقول: حتى ما يحتمل أنه صدق، فإنه لا يجوز أن يصدقه، لأن الأصل فيهم الكذب. قوله (فقد كفر بما أنزل على محمد)، أي: بالذي أنزل، والذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن أنزل إليه بواسطة جبريل، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 192 - 193]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: 102]، وبهذا نعرف أن القول الراجح في الحديث القدسي أنه من كلام الله تعالى معنى، وأما لفظه، فمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه حكاه عن الله، لأننا لو لم نقل بذلك لكان الحديث القدسي أرفع سنداً من القرآن ... ولأنه لو كان من كلام الله لفظاً، لوجب أن تثبت له أحكام القرآن، لأن الشرع لا يفرق بين المتماثلين، وقد علم أن أحكام القرآن لا تنطبق على الحديث القدسي ولا يتعبد بتلاوته ولا يقرأ في الصلاة، ولا يعجز لفظه، ولو كان من كلام الله، لكان معجزاً، لأن كلام الله لا يماثله كلام البشر، وأيضاً باتفاق أهل العلم فيما أعلم أنه لو جاء مشرك يستجير ليسمع كلام الله وأسمعناه الأحاديث القدسية، فلا يصح أن يقال: إنه سمع كلام الله فدل هذا على أنه ليس من كلام الله، وهذا هو الصحيح، وللعلماء في ذلك قولان: هذا أحدهما، والثاني: أنه من قول الله لفظاً. فإن قال قائل: كيف تصححون هذا والنبي صلى الله عليه وسلم ينسب القول إلى الله، ويقول: قال الله تعالى: ومقول القول هو هذا الحديث المسوق. قلنا: هذا كما قال الله تعالى عن موسى وفرعون وإبراهيم: قال موسى، قال فرعون، قال إبراهيم مع أننا نعلم أن هذا اللفظ ليس من كلامهم ولا قولهم، لأن لغتهم ليست اللغة العربية، وإنما نقل نقلاً عنهم، ويدل هذا أن القصص في القرآن تختلف بالطول والقصر والألفاظ، مما يدل على أن الله سبحانه ينقلها بالمعنى، ومع ذلك ينسبها إليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26،27]، وقال عن موسى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ [الأعراف: 128]، وقال عن فرعون: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: 34]. ¬

(¬1) [10826])) رواه أبو داود (3904) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأتا حائضا أو أتى امرأتا في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (135) , وابن ماجه (639) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) (9017) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (1/ 49) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 227): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)).

قوله: (بما أنزل على محمد). ذكر أهل السنة أن كل كلمة وصف فيها القرآن بأنه منزل أو أنزل من الله، فهي دالة على علو الله ـ سبحانه وتعالى ـ بذاته، وعلى أن القرآن كلام الله، لأن النزول يكون من أعلى، والكلام لا يكون إلا من متكلم به. قوله: (كفر بما أنزل على محمد). وجه ذلك: أن ما أنزل على محمد قال الله تعالى فيه: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65]، وهذا من أقوى طرق الحصر، لأن فيه النفي والإثبات، فالذي يصدق الكاهن في علم الغيب وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله، فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وإن كان جاهلاً ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب، فكفره كفر دون كفر. وللأربعة، والحاكم ـ وقال: (صحيح على شرطهما) عن أبي هريرة: ((من أتى عرافاً أو كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬1). قوله: (وللأربعة والحاكم). الأربعة هم: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم ليس من أهل (السنن)، لكن له كتاب سمي (صحيح الحاكم). قوله: (صحيح على شرطهما)، أي: شرط البخاري ومسلم، لكن قول (على شرطهما) هذا على ما يعتقد، وإلا، فقد يكون الأمر على خلاف ذلك. ومعنى قوله: (على شرطهما)، أي: أن رجاله رجال (الصحيحين)، وأن ما اشترطه البخاري ومسلم موجود فيه. ونحن لا ننكر أن هناك أحاديث صحيحة لم يذكرها البخاري ومسلم، لأنهما لم يستوعبا الصحيح كله، وهذا أمر واقع، ولكن ينظر في قول من قال: إن هذا الحديث على شرطهما، فقد تكون فيه علة خفية خفيت على هذا القائل، ويكون البخاري ومسلم علماها وتركا الحديث من أجلها. قوله: (صحيح). يقولون الحاكم ممن يتساهل بالتصحيح، ولهذا قالوا: لا عبرة بتصحيح الحاكم، ولا بتوثيق ابن حبان، ولا بوضع ابن الجوزي، ولا بإجماع ابن المنذر. وهذا القول فيه مجازفة في الحقيقة، لأن كلمة (لا عبرة)، أي: لا يلتفت إليه، والصواب أنه لا يؤخذ مقبولاً في كل حال، مع أني تدبرت كلام ابن المنذر رحمه الله، ووجدت أنه دائماً إذا نقل الإجماع يقول: إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، وهو بهذا قد احتفظ لنفسه، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها. ولكننا مع ذلك نقول: إذا كان الرجل ذا اطلاع واسع، فقد يكون هذا القول إجماعاً، أما إذا كان هذا الرجل لا يعرف إلى ما حوله، فإن قوله هذا لا يكون إجماعاً ولا يوثق به، ولا نحكم بأنه إجماع. مثاله: فلو قال رجل: لم يدرس إلا المذهب الحنبلي في مسألة، وقال هذا إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، فإن قوله هذا لا يعتبر، لأنه لم يحفظ إلا قولاً قليلاً من أقوال أهل العلم. قوله: (من أتى عرافاً أو كاهناً). (أو) يحتمل أن تكون للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع، فالحديث الأول بلف عراف، والثاني بلفظ كاهن، والثالث جمع بينهما، فتكون "أو" للتنويع. ... ¬

(¬1) [10827])) رواه أبو داود (3904) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأتا حائضا أو أتى امرأتا في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (135) , وابن ماجه (639) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) (9017) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (1/ 49) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 227): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)).

ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً (¬1). وعن عمران بن حصين مرفوعاً: ((ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)). رواه البزار بإسناد جيد (¬2). ... أن حديث أبي هريرة: (من أتى عرافاً أو كاهناً) أنه موقوف، لأنه قال عن أبي هريرة، لكنه لما قال في الذي بعده: (موقوفاً) ترجح عندنا أن الحديث الذي قبله مرفوع. قوله: (ليس منا). تقدم الكلام على هذه الكلمة، وأنها لا تدل على خروج الفاعل من الإسلام، بل على حسب الحال. قوله: (مرفوعاً) أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (تطير) التطير: هو التشاؤم بالمرئي أو المسموع أو المعلوم أو غير ذلك، وأصله من الطير، لأن العرب كانوا يتشاءمون أو يتفاءلون بها. ومنه ما يحصل لبعض الناس إذ شرع في عمل، ثم حصل له في أوله تعثر تركه وتشاءم، فهذا غير جائز، بل يعتمد على الله ويتوكل عليه، وما دمت أنك تعلم أن في هذا الأمر خيراً، فغامر فيه، ولا تشاءم، لأنك لم توفق فيه لأول مرة، فكم من إنسان لم يوفق في العمل أول مرة، ثم وفق في ثاني مرة أو ثالث مرة؟! ويقال: إن الكسائي - إمام النحو - طلب النحو عدة مرات، ولكنه لم يوفق، فرأى نملة تحمل نواة تمر، فتصعد بها إلى الجدار، فتسقط، حتى كررت ذلك عدة مرات، ثم صعدت بها إلى الجدار وتجاوزته، فقال: سبحان الله! هذه النملة تكابد هذه النواة حتى نجحت، إذاً أنا سأكابد علم النحو حتى أنجح. فكابد، فصار إمام أهل الكوفة في النحو. قوله: (أو تطير له). بالبناء للمفعول، أي: أمر من يتطير له، مثل أن يأتي شخص، ويقول: سأسافر إلى المكان الفلاني، وأنت صاحب طير، وأريد أن تزجر طيرك لأنظر: هل هذه الوجهة مباركة أم لا، فمن فعل ذلك، فقد تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: (من تطير) يشمل من تطير لنفسه، أو تطير لغيره. وقوله: (أو تكهن أو تكهن له). سبق أن الكهانة ادعاء علم الغيب في المستقبل، يقول سيكون كذا وكذا، وربما يقع، فهذا متكهن، ومن الغريب أنه شاع الآن في أسلوب الناس قولهم: تكهن بأن فلاناً سيأتي، ويطلقون هذا اللفظ الدال على عمل محرم على أمر مباح، وهذا لا ينبغي، لأن العامي الذي لا يفرق بين الأمور يظن أن الكهانة كلها مباحة، بدليل إطلاق هذا اللفظ على شيء مباح معلوم إباحته. قوله: (أو تكهن له)، أي: طلب من الكاهن أن يتكهن له، كأن يقول للكاهن: ماذا يصيبني غداً، أو في الشهر الفلاني، أو في السنة الفلانية، وهذا تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (أو سحر أو سحر له). تقدم تعريف السحر، وتقدم بيان أقسامه. ¬

(¬1) [10828])) (9/ 280) , ورواه الطبراني (10005) , قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 90): إسناده جيد, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 121): رجاله رجال الصحيح خلا هبيرة بن مريم وهو ثقة, وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3048): صحيح موقوف. (¬2) [10829])) رواه البزار في ((المسند)) (5/ 146) , والطبراني (18/ 162) , قال البزار روي بعضه من غير وجه (وفيه) أبو حمزة العطار لا بأس به, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 88): إسناده جيد, وقال ابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/ 288): في إسناده أبو حمزة العطار ضعفه الفلاس وابن عدي ومع ذلك فسماع الحسن من عمران فيه اختلاف, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 106): فيه إسحاق بن الربيع العطار وثقه أبو حاتم وضعفه عمرو بن علي وبقية رجاله ثقات, قال الألباني في ((غاية المرام)) (289): حسن لغيره.

قوله: (أو سحر له)، أي: طلب من الساحر أن يسحر له، ومنه النشرة عن طريق السحر، فهي داخلة فيه، وكانوا يستعملونها على وجوه متنوعة، منها أنهم يأتون بطست فيه ماء، ويصبون فيه رصاصاً، فيتكون هذا الرصاص بوجه الساحر، أي: تكون صورة الساحر في هذا الرصاص، ويسمونها العامة عندنا (صب الرصاص)، وهذا من أنواع السحر المحرم، وقد تبرأ رسول الله من فاعله. الشاهد من هذا الحديث: قوله: (ومن أتى كاهناً .... ) إلخ، وقوله: (ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد حسن من حديث ابن عباس ... ) إلخ، فيكون هذا مقوياً للأول. قال البغوي: (العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك) (¬1). وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. [قوله: (قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات ... ). العراف: صيغة مبالغة فإما أن يراد بها الصيغة، وإما أن يراد بها النسبة.] وهو الذي يدعي معرفة تتعلق بعلم الغيب، فيدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها. وظاهر كلام البغوي رحمه الله: أنه شامل لمن ادعى معرفة المستقبل والماضي، لأن مكان المسروق يعلم بعد السرقة، وكذلك الضالة قد حصل الضياع، ولكن المسألة ليست اتفاقية بين أهل العلم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وقيل: هو"، أي: العراف الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. قوله: (وقيل: هو الذي يخبر عما في الضمير)، أي: أن تضمر شيئاً فتقول: ما أضمرت؟ فيقول: أضمرت كذا وكذا. أو المغيبات في المستقبل، تقول: ماذا سيحدث في الشهر الفلاني في اليوم الفلاني؟ ماذا ستلد امرأتي؟ متى يقدم ولدي؟ وهو لا يدري. والخلاصة: أن العلماء اختلفوا في تعريف العراف، فقيل: هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها، فيكون شاملاً لمن يخبر عن أمور وقعت. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقال أبو العباس ابن تيمية: (العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق) (¬2). قوله: (وقال أبو العباس ابن تيمية). هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، يكنى بأبي العباس، ولم يتزوج، ولم يتركه من باب الرهبانية، ولكنه والله أعلم كان مشغولاً بالجهاد العلمي مع قلة الشهوة، وإلا لو كان قوي الشهوة لتزوج، وليس كما يدعي المزورون أن له ولداً مدفوناً إلى جانبه في دمشق، فإنه غير صحيح قطعاً. وظاهر كلام الشيخ: أن شيخ الإسلام جزم بهذا، ولكن شيخ الإسلام قال: وقيل العراف، وذكره بقيل، ومعلوم أن ما ذكر بقيل ليس مما يجزم بأن الناقل يقول به، صحيح أنه إذا نقله ولم ينقضه، فهذا دليل على أنه ارتضاه. وعلى كل حال، فشيخ الإسلام ساق هذا القول وارتضاه، ثم قال: ولو قيل: إنه اسم خاص لبعض هؤلاء الرمال والمنجم ونحوهم، فإنهم يدخلون فيه بالعموم المعنوي، لأن عندنا عموماً معنوياً، وهو ما ثبت عن طريق القياس، وعموماً لفظياً، وهو ما دل عليه اللفظ، بحيث يكون اللفظ شاملاً له. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات. ¬

(¬1) ((شرح السنة)) (12/ 182). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 137).

الحال الأولى: أن يستخدم في طاعة الله، كأن يكون له نائباً في تبليغ الشرع، فمثلاً: إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم، ويتلقى منه، وهذا شيء ثبت أن الجن قد يتعلمون من الإنس، فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعاً، فهذا لا بأس به، بل إنه قد يكون أمراً محموداً أو مطلوباً، وهو من الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ، والجن حضروا النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن، وولوا إلى قومهم منذرين، والجن فيهم الصلحاء والعباد والزهاد والعلماء، لأن المنذر لابد أن يكون عالماً بما ينذر، عابداً مطيعاً لله ـ سبحانه ـ في الإنذار. الحال الثانية: أن يستخدمهم في أمور مباحة، مثل أن يطلب منهم العون على أمر من الأمور المباحة، قال: فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة، صار حراماً، كما لو كان الجني لا يساعده في أموره إلا إذا ذبح له أو سجد له أو ما أشبه ذلك ... الحالة الثالثة: أن يستخدمهم في أمور محرمة، كنهب أموال الناس وترويعهم، وما أشبه ذلك، فهذا محرم، ثم إن كان الوسيلة شركاً صار شركاً، وإن كان وسيلته غير شرك صار معصية، كما لو كان هذا الجني الفاسق يألف هذا الإنسي الفاسق ويتعاون معه على الإثم والعدوان، فهذا يكون إثماً وعدواناً، ولا يصل إلى حد الشرك. ثم قال: إن من يسأل الجن، أو يسأل من الجن، ويصدقهم في كل ما يقولون، فهذا معصية وكفر، والطريق للحفظ من الجن هو قراءة آية الكرسي، فمن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم (¬1) , وهي: اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] فيه مسائل: الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. الثانية: التصريح بأنه كفر. الثالثة: ذكر من تكهن له. الرابعة: ذكر من تطير له. الخامسة: ذكر من سحر له. السادسة: ذكر من تعلم أباجاد. فيه مسائل: الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. يؤخذ من قوله: "من أتى كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد"، ووجهه: أنه كذب بالقرآن وهذا من أعظم الكفر. الثانية: التصريح بأنه كفر. تؤخذ من قوله: (فقد كفر بما أنزل على محمد). الثالثة: ذكر من تكهن له. تؤخذ من حديث عمران بن حصين، حيث قال: (ليس منا)، أي: إنه كالكاهن في براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه. السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف. وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم: القول الأول: أن العراف هو الكاهن، فهما مترادفان، فلا فرق بينهما. القول الثاني: أن العراف هو الذي يستدل على معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها، فهو أعم من الكاهن، لأنه يشمل الكاهن وغيره، فهما من باب العام والخاص. القول الثالث: أن العراف يخبر عن أمور بمقدمات يستدل عليها، والكاهن هو الذي يخبر عما في الضمير، أو عن المغيبات في المستقبل. ¬

(¬1) [10832])) رواه البخاري (2311).

فالعراف أعم، أو أن العراف يختص بالماضي، والكاهن بالمستقبل، فهما متباينان، والظاهر أنهما متباينان، فالكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل والعراف من يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين -بتصرف – 2/ 58 قال حافط الحكمي في شرحه لمنظومة سلم الوصول: وَمَنْ يُصَدِّقْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرْ ... بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ الْمُعْتَبَرْ (ومن يصدق كاهناً) يعتقد بقلبه صدقه في ما ادعاه من علم المغيبات التي استأثر الله تعالى بعلمها (فقد كفر) أي بلغ دركة الكفر بتصديقه الكاهن (بما أتى به الرسول) محمد صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل من الكتاب والسنة وبما أتى به غيره صلى الله عليه وسلم من الرسل عليهم السلام. ولنسق الكلام أولاً في تعريف الكاهن من هو ثم في بيان كذبه وكفره ثم في كفر من صدقه بما قال والله المستعان، فنقول:

الكاهن في الأصل هو من يأتيه الرئي من الشياطين المسترقة السمع تتنزل عليهم كما قال الله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221] وهذه الآيات متعلقة بما قبلها وهي قوله عز وجل لما قال المشركون في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إنه كاهن وقالوا في القرآن كهانة وأنه مما يلقيه الشيطان، فنفى الله تعالى ذلك وبرأ رسوله وكتابه مما أفكوه وافتروه: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: 192 - 195] إلى أن قال تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 210 - 212] فأثبت تعالى أن القرآن كلامه وتنزيله، وأن جبريل عليه السلام رسول منه مبلغ كلامه إلى الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مبلغ له إلى الناس، ثم نفى ما افتراه المشركون عليه فقال: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وقرر انتفاء ذلك بثلاثة أمور: الأول بعد الشياطين وأعمالهم عن القرآن، وبعده وبعد مقاصده منهم، فقال تعالى: وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ لأن الشياطين مقاصدها الفساد والكفر والمعاصي والبغي والعتو والتمرد وغير ذلك من القبائح، والقرآن آت بصلاح الدنيا والآخرة، آمر بأصول الإيمان وشرائعه مقرر لها مرغب فيها زاجر عن الكفر والمعاصي ذام لها متوعد عليها آمر بالمعروف ناه عن المنكر، ما من خير آجل ولا عاجل إلا وفيه الدلالة عليه والدعوة إليه والبيان له، وما من شر عاجل ولا آجل إلا وفيه النهي عنه والتحذير منه، فأين هذا من مقاصد الشياطين؟ الثاني عجزهم عنه فقال تعالى: وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، أي لو انبغى لهم ما استطاعوه، لأنه كلام رب العالمين ليس يشبه كلام شيء من المخلوقين، وليس في وسعهم الإتيان به ولا بسورة من مثله: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88].

الثالث عزلهم عن السمع وطردهم عن مقاعده التي كانوا يقعدون من السماء قبل نزول القرآن فقال تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فبين تعالى – مع كونه لا ينبغي لهم – أنه لو انبغى ما استطاعوا الإتيان به أو بمثله لا من عند أنفسهم ولا نقلاً عن غيرهم من الملائكة، نفى عنهم الأول بعدم الاستطاعة، والثاني بعزلهم عن السمع وطردهم منه، قال الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] إلى قوله: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ [الحجر: 16 - 18] وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 6 - 10] وقال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ [الملك: 5] وقال تعالى عن مؤمني الجن رضي الله عنهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 8 - 10] وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو صلى الله عليه وسلم بنخل عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن: 1 - 2] فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ [الجن: 1])) وهذا الحديث بطوله وطرقه في (الصحيحين) وغيرهما (¬1)، ثم قال تعالى في جواب الكفار مبيناً لهم أولياء الشياطين الذين تنزل عليهم فقال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء: 221] الآيات. وفي (صحيح البخاري) قالت عائشة رضي الله عنها: سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال: ((إنهم ليسوا بشيء)) قالوا يا رسول الله إنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة)) (¬2). ¬

(¬1) [10833])) رواه البخاري (773) , ومسلم (449). (¬2) [10834])) رواه البخاري (7561).

وله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق بعض – وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أو ليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)) (¬1) ولمسلم عن ابن عباس نحوه، وللبخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الملائكة تحدّث في العنان – والعنان الغمام – بالأمر في الأرض، فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة)) (¬2). وقد بين الله تعالى كذب الكاهن بقوله: أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء: 222] فسماه أفاكاً وذلك مبالغة في وصفه بالكذب. وسماه أثيماً وذلك مبالغة في وصفه بالفجور. وقوله: وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ أي أكثر ما يقولونه الكذب فلا يفهم منه أن فيهم صادقاً، يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فيكذب معها مائة كذبة)) فلا يكون صدقاً إلا الكلمة التي سمعت من السماء. ¬

(¬1) [10835])) رواه البخاري (4701). (¬2) [10836])) رواه البخاري (3288).

وأما كفر الكاهن فمن وجوه: منها كونه ولياً للشيطان فلم يوح إليه الشيطان إلا بعد أن تولاه، قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ [الأنعام: 121] والشيطان لا يتولى إلا الكفار ويتولونه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257] وهذا وجه ثان. والثالث قوله تعالى: يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ أي نور الإيمان والهدى إِلَى الظُّلُمَاتِ أي ظلمات الكفر والضلالة. وقال تعالى: وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا [النساء: 119] وهذا وجه رابع. والخامس تسميته طاغوتاً في قوله عز وجل: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 60] نزلت في المتحاكمين إلى كاهن جهينة. وقوله وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ أي الطاغوت. وهذا وجه سادس. والسابع أن من هداه الله للإيمان من الكهان كسواد بن قارب رضي الله عنه لم يأته رأيه بعد أن دخل في الإسلام، فدل أنه لم يتنزل عليه في الجاهلية إلا لكفره وتوليه إياه، حتى إنه رضي الله عنه كان يغضب إذا سئل عنه حتى قال له عمر رضي الله عنه: (ما كنا فيه من عبادة الأوثان أعظم) الثامن وهو أعظمها تشبهه بالله عز وجل في صفاته ومنازعته له تعالى في ربوبيته، فإن علم الغيب من صفات الربوبية التي استأثر الله تعالى بها دون من سواه فلا سميَّ له ولا مضاهي ولا مشارك وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام:59]- قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]- عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26 - 27]- أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الطور: 41]- أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى [النجم: 35] ولسان حال الكاهن وقاله يقول نعم. التاسع أن دعواه تلك تتضمن التكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله. العاشر النصوص في كفر من سأله عن شيء فصدقه بما يقول فكيف به هو نفسه فيما ادعاه، فقد روى الأربعة والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬1) وعن عمران بن حصين رضي الله عنه ((ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له. ¬

(¬1) [10837])) رواه أبو داود (3904) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأتا حائضا أو أتى امرأتا في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (135) , وابن ماجه (639) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) (9017) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (1/ 49) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 227): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)).

ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬1). ولمسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) (¬2). فهذا حكم من سأله مطلقاً، والأول حكم من سأله وصدقه بما قال. ثم اعلم أن الكاهن وإن كان أصله ما ذكرنا فهو عام في كل من ادعى معرفة المغيبات ولو بغيره كالرمّال الذي يخط بالأرض أو غيرها، والمنجم الذي قدمنا ذكره أو الطارق بالحصى وغيرهم ممن يتكلم في معرفة الأمور الغائبة كالدلالة على المسروق ومكان الضالة ونحوها أو المستقبلة كمجيء المطر أو رجوع الغائب أو هبوب الرياح ونحو ذلك مما استأثر الله عز وجل بعلمه فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا من طريق الوحي كما قال تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26] ملائكة يحفظونه من مسترقي السمع وغيرهم لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28] فمن ذا الذي يدَّعي علم ما استأثر الله بعلمه عن رسله من الملائكة والبشر كما قال تعالى عن نوح عليه السلام: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْب [الأنعام: 50] الآية، وقال تعالى عن هود عليه السلام: قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ [الأحقاف: 23]، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأحقاف: 23] الآية، وقال تعالى: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188] وقال تعالى: قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأحقاف: 9] الآية، وقال تعالى عن الملائكة: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 31 - 32] الآيات ولم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم مكان راحلته حتى أعلمه الله بذلك، وقال في سؤال الحبر إياه فأجابه صلى الله عليه وسلم وصدقه الحبر ثم انصرف فذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله عز وجل به)) وهي في مسلم (¬3). وفيه قول عائشة رضي الله عنها لمسروق رحمه الله تعالى: (ومن زعم أن رسول الله يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية)، والله تعالى يقول: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ (¬4). ولم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم شيئاً من الرسالة حتى أتاه الله عز وجل به كما قال تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى [الضحى: 6]، وقال تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى: 52] وقال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا [هود: 49]، وقال تعالى: قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [يونس: 26] وقال تعالى: وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]. نسأل الله العظيم من فضله العظيم. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي– ص 712 ¬

(¬1) [10838])) رواه البزار في ((المسند)) (5/ 146) , والطبراني (18/ 162) , قال البزار روي بعضه من غير وجه (وفيه) أبو حمزة العطار لا بأس به, وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 88): إسناده جيد, وقال ابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/ 288): في إسناده أبو حمزة العطار ضعفه الفلاس وابن عدي ومع ذلك فسماع الحسن من عمران فيه اختلاف, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 106): فيه إسحاق بن الربيع العطار وثقه أبو حاتم وضعفه عمرو بن علي وبقية رجاله ثقات, قال الألباني في ((غاية المرام)) (289): حسن لغيره. (¬2) [10839])) رواه مسلم (2230). (¬3) [10840])) رواه مسلم (315). (¬4) [10841])) رواه مسلم (177).

الباب السادس: ترك العمل بالكلية ناقض من نواقض الإيمان

تمهيد: لقد استدل أهل السنة على أن عمل الجوارح من الإيمان بعشرات الأدلة من الكتاب والسنة، ........ ولا أرى حاجة لذكرها هنا؛ إذ المخالف يسلّم بأن الإيمان قول وعمل، لكن ينازع في ركنية العمل الظاهر، وفي كفر تاركه بالكلية، ولهذا سيقتصر الحديث على ذكر الأدلة الخاصة بهذه الجزئية.

المبحث الأول: التلازم بين الظاهر والباطن

المطلب الأول: مفهوم التلازم المراد بالتلازم هنا: ارتباط الظاهر بالباطن وتأثير كل منهما في الآخر، بحيث يستحيل وجود إيمان صحيح في الباطن من غير أن يظهر موجَبه ومقتضاه على أعمال الجوارح قولا وعملا، بل حيث وُجد الإيمان في الباطن لزم أن ينفعل البدن بالممكن من أعمال الجوارح. فالعمل الظاهر لازم للإيمان الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم، فيُستدل بانتفاء العمل الظاهر بالكلية على فساد الباطن. قال شيخ الإسلام في بيان هذا التلازم: (وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجَب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة. فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجَب ما في القلب ولازمُه ودليلُه ومعلولُه، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه) (¬1). وقال: (ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة لزم وجود الأفعال الظاهرة؛ فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة، لزم وجود المراد قطعا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري) (¬2). وقال: (وقد بسطنا الكلام على هذه في مسألة الإيمان، وبيَّنا أن ما يقوم بالقلب من تصديق وحب لله ورسوله وتعظيم، لابد أن يظهر على الجوارح، وكذلك بالعكس، ولهذا يُستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (¬3) ومن هذا الباب قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، وقوله: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 81]، وقوله: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46] فإن الإرادة التي في القلب مع القدرة توجب فعل المراد، والسفر في غزوة بعيدة لا يكون إلا بعدة) (¬4). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 319 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 541). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 272). (¬3) رواه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير بلفظ: (( ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)). (¬4) ((الجواب الصحيح)) (6/ 487) وما بعدها.

المطلب الثاني: أدلة التلازم بين الظاهر والباطن

المطلب الثاني: أدلة التلازم بين الظاهر والباطن وقد دل على هذا التلازم أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والأثر، منها: 1 - قوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 81] فالإيمان في الباطن يستلزم عداوة الكافرين وترك موالاتهم في الظاهر. 2 - قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22] قال شيخ الإسلام: (ولما كانت الأقوال والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة، كان يستدل بها عليها، كما في قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22] فأخبر أن من كان مؤمنا بالله واليوم الآخر لا يوجدون موادين لأعداء الله ورسوله، بل نفس الإيمان ينافي مودتهم، فإذا حصلت الموادة دل ذلك على خلل الإيمان وكذلك قوله: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:80 - 81] (¬1). وقال: (والله سبحانه في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة، كقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِما رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2 - 4]، وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصادِقُونَ [الحجرات:15]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62]، وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِما قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. فإذا قال القائل: هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور، لا يدل على أنها من الإيمان. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 542).

قيل: هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة، فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة، لا قول ولا عمل وهو المطلوب. -وذلك تصديق- وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور. فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتا استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81] فهذا التلازم أمر ضروري. ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة مع القدرة التامة بدون الفعل، حتى تنازعوا: هل يعاقب على الإرادة بلا عمل؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليست إرادة جازمة، وأن الإرادة الجازمة لا بد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد. والعفو وقع عمن همّ بسيئة ولما يفعلها، لا عمن أراد وفعل المقدور عليه وعجز عن حصول مراده، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما؛ فإن هذا يعاقب؛ لأنه أراد وفعل المقدور من المراد. ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها) (¬1). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 645).

وقال أيضا: (وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة؛ لأنها لوازم ما في القلب، لأنه متى ثبت الإيمان في القلب والتصديق بما أخبر به الرسول، وجب حصول مقتضي ذلك ضرورة؛ فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه البتة. فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر. ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81]، وقوله: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] الآية ونحوها، فالظاهر والباطن متلازمان، لا يكون الظاهر مستقيما إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (¬1). وفي الحديث: ((لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ لِسَانُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ)) (¬2). ولهذا كان الظاهر لازما للباطن من وجه، وملزوما له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزوما لا من جهة كونه لازما؛ فإن الدليل ملزوم المدلول، يلزم من وجود الدليل وجود المدلول، ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه. والدليل يطرد ولا ينعكس، بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس. (¬3). 3 - قوله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]. فإذا وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة، لزم أن يوجد المراد، وتخلف المراد هنا، وهو إعداد العدة للسفر، يدل على انتفاء إرادة الخروج. قال القرطبي: قوله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46] أي لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر. فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف. (¬4). 4 - قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ [آل عمران:152]. فلما اختلفت نياتهم الباطنة، تباينت أعمالهم الظاهرة. قال ابن كثير: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152] وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير بلفظ: (( ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)). (¬2) رواه أحمد (3/ 198) (13071) من حديث أنس رضي الله عنه، بلفظ: (لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ) وكأنه انقلب على المؤلف. والحديث ضعفه العراقي في ((المغني)) (3/ 109)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيق (المسند)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 50): رواه أحمد وفي إسناده علي بن مسعدة وثقه جماعة وضعفه آخرون. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2841): رجاله ثقات رجال مسلم غير الباهلي وهو حسن الحديث. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (18/ 272) وما بعدها. (¬4) ((تفسير القرطبي)) (8/ 142). (¬5) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 545)

وقال البغوي: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا: [آل عمران:152] يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ [آل عمران:152]: يعني الذين ثبتوا مع عبدالله بن جبير حتى قتلوا. قال ابن مسعود: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد، ونزلت هذه الآية. (¬1). 5 - قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني [آل عمران:31]. فمتى قامت المحبة بالقلب مع التصديق، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، كما سبق تقريره نقلا عن شيخ الإسلام رحمه الله. وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛ إذ لو كان محبا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر: لو كان حبُّكَ صادقا لأطعته ... إنّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيع وقول ابن أبي ربيعة المخزومي: ومن لو نهاني من حبه عن ... الماء عطشان لم أشرب وقال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في (الصحيح) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) (¬2)، ولهذا قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني يُحببكم الله [آل عمران:31] (¬3). وقال ابن القيم: فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه. فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه. وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره، واجتناب نهيه. فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة. ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها، وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني يُحببكم الله [آل عمران:31] فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم. ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه، وتحققه بتحققه. فعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة. فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم. فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله. ودل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم: هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره. (¬4). فتأمل قوله: (فعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة ... ) الخ، وقارن هذا بما يتخيله دعاة الإرجاء من وجود التصديق والانقياد والخوف والرجاء والمحبة في قلبِ من يعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يؤدي لله طاعة، مع قدرته وتمكنه من ذلك، ثم يقولون: نحن مع أهل السنة في إثبات التلازم بين الظاهر والباطن!! ¬

(¬1) ((تفسير البغوي)) (2/ 118) (¬2) رواه مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 477). (¬4) ((مدارج السالكين)) (1/ 97).

ولجهل المرجئة بهذا التلازم صاروا يفرضون مسائل يمتنع وقوعها، مثل قولهم: رجل يشهد أن لا إله إلا الله وفي قلبه التصديق والانقياد والمحبة، لكنه لا يعمل خيرا قط من أعمال الجوارح، مع العلم والتمكن والقدرة، ثم اجترؤوا فقالوا: هذا مسلم عند جمهور أهل السنة، وزاد بعضهم: ولا يكفره إلا الخوارج!! فيبقى المؤمنون العارفون ينكرون ذلك غاية الإنكار. 6 - ومن الأدلة الصريحة في إثبات التلازم بين الظاهر والباطن: ما رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ الناسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) (¬1). قال شيخ الإسلام بعد ذكر الحديث: ( ... فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس) (¬2). وقال: فالظاهر والباطن متلازمان، لا يكون الظاهر مستقيما إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (¬3)، وقال عمر لمن رآه يعبث في صلاته: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. وفي الحديث: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه)) (¬4) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 9) وهذه القطعية في التلازم تحدث عنها ابن القيم في ((الصواعق المرسلة)) (4/ 1535). (¬3) رواه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير بلفظ: ( ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ). (¬4) رواه أحمد (3/ 198) (13071) من حديث أنس رضي الله عنه، بلفظ: (لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ) وكأنه انقلب على المؤلف. والحديث ضعفه العراقي في ((المغني)) (3/ 109)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيق (المسند)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 50): رواه أحمد وفي إسناده علي بن مسعدة وثقه جماعة وضعفه آخرون. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2841): رجاله ثقات رجال مسلم غير الباهلي وهو حسن الحديث. (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (18/ 272).

وقال أيضا: ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (¬1). وقال أبو هريرة: ((القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده)) (¬2). وقول أبي هريرة تقريب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بيانا؛ فإن الملك وإن كان صالحا فالجند لهم اختيار قد يعصون به ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد)) (¬3). فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر. والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي العابث: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) (¬4). وقال: (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) (¬5) فبين أن صلاح القلب مستلزِمٌ لصلاح الجسد، فإذا كان الجسد غير صالح دلّ على أن القلب غير صالح، والقلبُ المؤمن صالح، فعُلم أنّ من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمنا، حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، كما قال عثمان، وأما إذا لم يظهر أثر ذلك، لا بقوله ولا بفعله قط، فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب، فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجَبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه) (¬6). وقال ابن مفلح: قال الشيخ تقي الدين: فأخبر أن صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد، وفساده مستلزم لفساد سائر الجسد. فإذا رُأي ظاهر الجسد فاسدا غير صالح، عُلم أن القلب ليس بصالح بل فاسد. ويمتنع فساد الظاهر مع صلاح الباطن، كما يمتنع صلاح الظاهر مع فساد الباطن؛ إذ كان صلاح الظاهر وفساده ملازما لصلاح الباطن وفساده. قال عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. (¬7). وقال الشيخ حافظ الحكمي: (ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) (¬8). ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة، أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا وباطنا بلا شك، لم يعنوا مجرد التصديق) (¬9). 7 - وروى ابن أبي شيبة عن الحسن قال: إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. (¬10). وجملة القول: أن التلازم بين الظاهر والباطن فرقان بين أهل السنة والمرجئة في باب الإيمان، وأن من عرف هذا التلازم زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها (¬11) الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 326 ¬

(¬1) رواه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير بلفظ: « ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». (¬2) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (11/ 221)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/ 132). (¬3) رواه البخاري (52) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير بلفظ: ( ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 187). وما ذكره من استلزام الإيمان المطلق، يأتي بيانه في الجواب عن الشبهة السادسة من شبهات المخالف العقلية. (¬5) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 121). (¬7) ((الآداب الشرعية)) (1/ 161). (¬8) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). (¬9) ((معارج القبول)) (2/ 594). (¬10) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ص: 30351، 35211)، ورواه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 805)، وإسناده صحيح. انظر: ((أقوال التابعين في مسائل التوحيد والإيمان)) (3/ 1124) (1333). (¬11) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 645).

المطلب الثالث: المرجئة وإنكارهم للتلازم

المطلب الثالث: المرجئة وإنكارهم للتلازم المرجئة الذين أخرجوا العمل من الإيمان، لا ينازع كثير منهم في أن العمل ثمرة للإيمان الباطن، ولكنهم ينازعون في كونه لازما له، ومن سلّم منهم بالتلازم كان النزاع معه لفظيا، كما سبق. وفي بيان إنكار المرجئة للتلازم بين الظاهر والباطن، يقول شيخ الإسلام: (فإن المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة، ويقتضي ذلك، والطاعة من ثمراته ونتائجه، لكنها تنازع هل يستلزم الطاعة؟ (¬1). وقال: وقول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن، يراد به شيئان: يراد به أنها لوازم له، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت، وهذا مذهب السلف وأهل السنة. ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سببا، وقد يكون الإيمان الباطن تاماً كاملاً وهي لم توجد، وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم (¬2). فتأمل هذا الكلام الواضح البين، من هذا الإمام العلَم، لعل الله أن ينير بصيرتك، وتميز بين كلام أهل السنة والمرجئة. وقال: الثالث (أي من أغلاط المرجئة): ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه، بمنزلة السبب مع المسبب، ولا يجعلونها لازمة له. والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة. ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر، ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب، مثل أن يقولوا: رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر، وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ويزني بأمه وأخته، ويشرب الخمر نهار رمضان; يقولون: هذا مؤمن تام الإيمان. فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار. (¬3). وقال: وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر، كما في (المسند) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الْإِسْلامُ عَلانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬4). ومتى حصل له هذا الإيمان، وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد. وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام. وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع؛ إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجَبه بحسب القدرة، فان من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك (¬5). وقال: والمرجئة المتكلمون منهم والفقهاء منهم يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه، ولأنها دليل عليه. (¬6). فهذا حال المرجئة قديما، ينفون التلازم، ويتصورون وجود إيمان القلب التام، بل الكامل مع انتفاء العمل الظاهر. وأما من قال بالإرجاء من المعاصرين أو دخلت عليه شبهته، فقد اضطربوا في هذه المسألة، فمنهم من يثبت التلازم بين الظاهر والباطن لفظا، وينفيه حقيقة، فيحكم بإسلام تارك العمل الظاهر كله، ويتصور وجود الإيمان المنجي في القلب مع انتفاء العمل. ومنهم من يزعم أن التلازم إنما يقع مع الإيمان الكامل فحسب، فإذا كمل الإيمان في القلب استلزم العمل الظاهر، أما أصل الإيمان فيمكن أن يوجد في القلب (قولا وعملا) دون أن يظهر مقتضاه على أعمال الجوارح ... والمقصود هنا التأكيد على أن القول بنفي التلازم مأخوذ عن المرجئة من الجهمية وغيرهم، وأن المرجئة لا تنازع في كون العمل الظاهر ثمرة ودليلا على ما في الباطن، لكنها تنازع في كونه لازما. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 322 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 50). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 363). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 204). (¬4) رواه أحمد (3/ 134) (12404) من حديث أنس رضي الله عنه، وليس فيه: (والإيمان أن تؤمن بالله ... ). والحديث ضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع الصغير)) (2280)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيق ((المسند)). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 553). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 195).

المبحث الثاني: إجماع أهل السنة على أن العمل جزء لا يصح الإيمان إلا به

المبحث الثاني: إجماع أهل السنة على أن العمل جزء لا يصح الإيمان إلا به وقد حكى هذا الإجماع ونقله غير واحد من أهل السنة، بألفاظ متقاربة، يدل مجموعها على أن الإيمان لا يجزئ من دون عمل الجوارح. ومن هؤلاء: 1 - الإمام الشافعي، ت: 204هـ، حيث قال: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر) (¬1). ¬

(¬1) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) لللالكائي (5/ 956)، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 209). ويرد على كلام الشافعي إشكالان، الأول: أن يقال: إن الشافعي لا يكفر تارك الصلاة، فكيف ينقل هذا الإجماع؟ ويجاب عنه بجوابين، الأول: أن الجزم بأن الشافعي لا يكفر تارك الصلاة، غير صحيح، فإن الطحاوي وهو ابن أخت المزني لم يحك عنه غير القول بالتكفير، وحكى عنه ابن كثير القولين، التكفير وعدمه، انظر تفسيره لقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ *مريم: 59*. والثاني: أنه لا تلازم بين المسألتين، فتكفير تارك العمل بالكلية، غير تكفير تارك الصلاة، فالقائل بالمسألة الأولى لا يلزم أن يقول بالثانية، فأهل السنة مجمعون على أنه لا يصح الإيمان مع ترك العمل الظاهر بالكلية، وإن اختلفوا في ترك آحاد العمل كالصلاة. والإشكال الثاني: أن يقال: إن العمل الوارد في قول الشافعي: (قول وعمل ونية) يشمل مجموع العملين، عمل القلب وعمل الجوارح. وعنه جوابان أيضا، الأول: أن عمل القلب عبر عنه الشافعي هنا بالنية، فدل على أن المراد بالعمل عمل الجوارح. والثاني: سلمنا أنه يريد العملين معا، فلا يصح الإيمان ولا يجزئ إلا بوجودهما معا، وهذا ما نقول به، فلا بد من اجتماع هذه الأجزاء: القول الظاهر والباطن، والعمل الظاهر والباطن. ثم رأيت من يشكك في صحة النقل عن الشافعي، ويزعم أن اللالكائي ساقه بلا زمام أو خطام! وفاته أن اللالكائي وشيخ الإسلام كليهما ينقل هذا عن الشافعي من كتابه الأم، فأي إسناد يحتاجان إليه؟! قال اللالكائي: (قال الشافعي في كتاب الأم في باب النية في الصلاة: نحتج بأن لا تجزئ صلاة إلا بنية لحديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنية)) ثم قال: وكان الإجماع .... فأي توثيق بعد هذا؟! وأما شيخ الإسلام فقد ذكر هذا الإجماع واحتج به في مواضع، منها الموضع المشار إليه سابقا، وقال فيه: (وقال الشافعي في كتاب الأم في باب النية في الصلاة). وقال في (7/ 308): (وحكى غير واحد الإجماع على ذلك، وقد ذكرنا عن الشافعي ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في "الأم": وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ... ). وانظر (7/ 511). وهذا النص المهم المقرر لمذهب السلف لا يوجد في ((الأم)) المطبوع، لكن هذا لا يضر، بعد ثبوته بقول إمامين كبيرين، رحمهما الله.

2 - الإمام الحميدي، ت: 219هـ، حيث قال: (وأخبرت أن قوما يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، أو يصلي مسند ظهره مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا، إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه، إذا كان يقر الفروض واستقبال القبلة. فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل المسلمين، قال الله عز وجل: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] قال حنبل: قال أبو عبدالله أو سمعته يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به) (¬1). 3 - الإمام الآجري، ت: 360هـ، حيث قال: (بل نقول– والحمد لله– قولا يوافق الكتاب والسنة وعلماء المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم، وقد تقدم ذكرنا لهم: إن الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة، لا يجزئ بعضها عن بعض، والحمد لله على ذلك) (¬2). وقال أيضا: (اعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم: أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح. ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا. دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين) (¬3). وقال أيضا: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين واجب على جميع الخلق: وهو تصديق القلب، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح. ثم إنه لا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون معه عمل بالجوارح. فإذا اكتملت فيه هذه الخصال الثلاثة كان مؤمنا، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين. ولا ينفع القول إذا لم يكن القلب مصدقا بما ينطق به اللسان مع القلب. وإنما الإيمان بما فرض الله على الجوارح تصديقا لما أمر الله به القلب، ونطق به اللسان، لقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وفي غير موضع من القرآن، ومثله فرض الحج وفرض الجهاد على البدن بجميع الجوارح. والأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان. ¬

(¬1) رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 586)، ورواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 887)، وأورده شيخ الإسلام في ((الإيمان الكبير)) محتجاً به، كما في ((مجموع الفتاوى)) (7/ 209). وقول الحميدي وأحمد رحمهما الله هذا، صريح في تكفير تارك الفرائض (المقر بها). (¬2) ((الشريعة)) للآجري (2/ 686). (¬3) ((الشريعة)) (2/ 611)، وقد ادعى بعضهم أن الإجزاء هنا بمعنى الكمال، فلا يجزئ: أي لا يكمل. وهذه مكابرة وتحكم، وصغار طلبة العلم لا يخفى عليهم الفرق بين المجزئ والكامل؛ إذ ما برح الفقهاء يفرقون بين الغسل الكامل والمجزئ!! على أن في عبارة الآجري ما يهدم هذا التأويل، وذلك قوله: (لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا)، فلو أُوّل الإجزاء بمعنى الكمال، للزم القول بصحة الإيمان مع ترك قول اللسان، وهذا لا قائل به من أهل السنة. ثم قوله بعد ذلك: (لا تنفعه) صريح أيضا في إثبات المطلوب، وانظر الجواب عن الشبهة الثانية من شبهات المخالف العقلية.

فمن لم يصدق بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه هذه، ومن رضي لنفسه بالمعرفة دون القول والعمل لم يكن مؤمنا. ومن لم يعتقد المعرفة والقول (¬1) كان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه، فاعلم ذلك. هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، فاحذره على دينك. والدليل عليه قوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] (¬2). 4 - أبو طالب المكي، ت: 386هـ، حيث قال: وأيضا: فإن الأمة مجمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكرناه من عقود القلب في حديث جبريل عليه السلام من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكرناه من وصف الإسلام بأعمال الجوارح، لا يسمى مؤمنا، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان، أنه لا يكون مسلما. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة) (¬3). وقال كلاما نفيسا قبل هذا، يوضح مراده- وسيأتي نقل أكثره- ومن ذلك قوله: (ومن كان ظاهره أعمال الإسلام، (و) لا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقا ينقل عن الملة. ومن كان عقده الإيمان بالغيب، (و) لا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد) (¬4). 5 - الإمام ابن بطة العكبري، ت: 387هـ، حيث قال: (باب بيان الإيمان وفرضه وأنه: تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات، لا يكون العبد مؤمنا إلا بهذه الثلاث. قال الشيخ: اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به والتصديق له ولرسله ولكتبه وبكل ما جاءت به السنة، وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولا، وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به وفرضه من الأعمال، لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها. ولا يكون العبد مؤمنا إلا بأن يجمعها كلها حتى يكون مؤمنا بقلبه، مقرا بلسانه، عاملا مجتهدا بجوارحه. ثم لا يكون أيضا مع ذلك مؤمنا حتى يكون موافقا للسنة في كل ما يقوله ويعمله، متبعا للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله. ¬

(¬1) لعل الصواب: ومن اعتقد المعرفة والقول كان تركه العمل تكذيبا منه لإيمانه ... الخ، كما يدل عليه السياق. (¬2) ((الأربعين حديثا)) للآجري، مطبوع مع ((الشريعة)) (ص: 422). (¬3) ((قوت القلوب)) (2/ 253)، ونقله شيخ الإسلام في كتاب ((الإيمان))، ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 336). (¬4) ((قوت القلوب)) (2/ 250). ونقله شيخ الإسلام في كتاب ((الإيمان)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 333). وما بين المعكوفتين منه.

وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن ومضت به السنة، وأجمع عليه علماء الأمة) (¬1). وتأمل قوله: (لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها) فإنه موافق لما حكاه الشافعي: كما سبق. 6 - شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ، حيث قال في معرض الاستدلال على تكفير تارك الصلاة، والمناقشة لأدلة المخالفين: (وأيضا فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، كما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف، وعلى ما هو مقرر في موضعه، فالقول تصديق الرسول، والعمل تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا. والقول الذي يصير به مؤمنا قول مخصوص، وهو الشهادتان، فكذلك العمل هو الصلاة. وأيضا فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل، لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا، ومن لا دين له فهو كافر) (¬2). 7 - الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ت: 1206هـ، حيث قال: (لا خلاف بين الأمة أن التوحيد: لابد أن يكون بالقلب، الذي هو العلم؛ واللسان الذي هو القول، والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي، فإن أخل بشيء من هذا، لم يكن الرجل مسلما. فإن أقر بالتوحيد، ولم يعمل به، فهو كافر معاند، كفرعون وإبليس. وإن عمل بالتوحيد ظاهراً، وهو لا يعتقده باطناً، فهو منافق خالصاً، أشر من الكافر والله أعلم) (¬3). ¬

(¬1) ((الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية)) (2/ 760) وما بعدها. وزعم المخالف أن قوله: (ثم لا يكون أيضا مع ذلك مؤمنا حتى يكون موافقا للسنة في كل ما يقوله ويعمله) يبين معنى (الإجزاء) في كلامه، وقال: (فلينظر كلامه آخرا في موافقة العمل للسنة وعد (إجزائه إلا بها) فهل المتخلف عن ذلك يصير كافرا؟! أم أن المراد حتما اللزوم والوجوب والتوكيد عليهما؟! فالسياق واضح في ذلك أولا وأخيرا). قلت: أولا: لم يذكر ابن بطة لفظ (الإجزاء) عند الكلام على موافقة السنة، كما زعم المخالف. وثانيا: أن شيخ الإسلام بين وجه ذكر اتباع السنة هنا، فقال (7/ 505): (فقول السلف يتضمن القول والعمل، الباطن والظاهر، لكن لما كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية في ذلك، قال بعضهم: ونية. ثم بين آخرون أن مطلق القول والعمل والنية لا يكون مقبولا إلا بموافقة السنة. وهذا حق أيضا فإن أولئك قالوا: قول وعمل؛ ليبينوا اشتماله على الجنس ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال). فما ذكره ابن بطة: من القول والتصديق وعمل الجوارح، لا يقبل منه شيء إلا بموافقة السنة، والمراد بذلك عبادة الله على ما شرعه نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل دين الإسلام، وهذا القيد هنا يخرج عبادات المشركين وأهل الكتاب، ممن أصل دينه على غير السنة، قال شيخ الإسلام: (ثم قالوا: لا يقبل قول وعمل إلا بنية، وهذا ظاهر؛ فإن القول والعمل إذا لم يكن خالصا لله، لم يقبله الله تعالى. ثم قالوا: لا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، وهي الشريعة، وهي ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن القول والعمل والنية الذي لا يكون مسنونا مشروعا قد أمر الله به، يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة، وليس مما يحبه الله، فلا يقبله الله، ولا يصلح، مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب) انتهى من ((الاستقامة)) (2/ 310). فالمخالف لم يفقه المراد بموافقة السنة في هذا الباب، فقال ما قال، والله المستعان. (¬2) ((شرح العمدة)) (2/ 86). (¬3) ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (2/ 124)، و ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 37).

وقال أيضا: اعلم رحمك الله أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد وبالحب وبالبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث كفر وارتد (¬1). وقال في آخر (كشف الشبهات): (ولنختم الكلام إن شاء الله بمسألة عظيمة مهمة جدا تفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها، ولكثرة الغلط فيها، فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما. فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما. وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون: هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكننا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار، كما قال تعالى: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا [التوبة:9]، وغير ذلك من الآيات، كقوله: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً، وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه، فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النارِ [النساء:145]. وهذه المسألة مسألة طويلة تبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به، لخوف نقص دنياه أو جاهه أو مداراة، وترى من يعمل به ظاهراً لا باطناً، فإذا سألته عما يعتقده بقلبه فإذا هو لا يعرفه) (¬2). قلت: وقد نقل عنه المخالف غير مرة أنه لا يكفر بترك المباني الأربعة، واعتمد على قول الشيخ: وقد سئل عما يقاتل عليه، وعما يكفر الرجل به: (أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة؛ فالأربعة إذا أقر بها، وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفّره بتركها؛ والعلماء: اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود؛ ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان) (¬3). وجوابه من وجهين: الأول: أنه لم يتحرر لي مذهب الشيخ: في تكفير تارك الصلاة، فما ذكر هنا يعارضه قوله: (هل يشترط في الواجب (¬4)، النطق بالشهادتين؟ أو يصير مسلماً بالمعرفة؟ فذكر أنه لا يصير مسلماً إلا ّ بالنطق للقادر عليه، والمخالف في ذلك جهم، ومن تبعه؛ وقد أفتى الإمام أحمد، وغيره من السلف، بكفر من قال: إنه يصير مسلماً بالمعرفة، وتفرّع على هذه مسائل؛ منها: من دُعي إلى الصلاة فأبى، مع الإقرار بوجوبها، هل يقتل كفراً؟ أو حداً؟ ومن قال: يقتل حداً، من رأى أن هذا أصل المسألة) (¬5). ¬

(¬1) ((الدرر السنية)) (10/ 87)، وكلامه من أصرح الكلام وأبينه، وفيه رد على من زعم أن العمل يتحقق بترك النواقض فقط، فبين أنه لابد من هذا ومن فعل الأركان أيضا، فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته. ولأجل هذه المسألة العظيمة شنع عليه بعض مخالفيه بأنه يقول بقول الخوارج- كما سيأتي-، وهذا مشابه تماما لما يقوله من دخلت عليه شبهة الإرجاء اليوم، في من ينصر قول أهل السنة في هذه المسألة، والله المستعان. (¬2) ((كشف الشبهات)) ضمن مجموع مؤلفات الشيخ (6/ 131)، وضمن ((الجامع الفريد)) (ص277). (¬3) ((الدرر السنية)) (1/ 102). (¬4) أي في أول واجب على المكلف، والشيخ قال ذلك حين سئل عن معنى هذه الأبيات: أول واجب على الإنسان معرفة الإله باستيقان والنطق بالشهادتين اعتبرا لصحة الإيمان ممن قدرا إن صدق القلب وبالأعمال يكون ذا نقص وذا إكمال (¬5) ((الدرر السنية)) (1/ 110) وما بعدها.

وظاهر هذا أنه يرى كفر تارك الصلاة إذا دعي إليها وأبى، كما هو المعروف من مذهب الحنابلة. وما ذكره: من أن الخلاف هنا متفرع على الخلاف في مسألة الإيمان، هو ما قرره شيخ الإسلام بقوله: (وعُلم أن من قال من الفقهاء: إنه إذا أقر بالوجوب، وامتنع عن الفعل، لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان) (¬1). الوجه الثاني: أنه على فرض أن الشيخ: لا يكفر بترك الصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذا من أبلغ الرد على المخالف في زعمه أن مسألة ترك العمل راجعة إلى مسألة ترك الصلاة، خلافا ومأخذا، والحق أن الأُولى مجمع عليها بين أهل السنة، بخلاف الثانية، والشيخ هنا: مع عدم تكفيره لتارك المباني الأربعة، يجزم بكفر تارك عمل الجوارح بالكلية، ويحكي الإجماع على هذا، فلله الحمد والمنة. 8 - أحد أئمة الدعوة، حيث قال في (التوضيح عن توحيد الخلاق): (فأهل السنة مجمعون على أنه متى زال عمل القلب فقط، أو هو مع عمل الجوارح: زال الإيمان بكليته. وإن وُجد مجرد التصديق، فلا ينفع مجردا عن عمل القلب والجوارح معا، أو أحدهما (¬2)، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم سرا وجهرا) (¬3). 9 - الشيخ عبدالرحمن بن حسن، ت: 1285هـ، حيث قال: (قوله: ((مَنْ شَهِدَ أَن لا إِلَهَ إِلا الله)) أي تكلم بها عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا (¬4)، كما قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ [محمد:19]، وقوله: إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86] أما النطق بها من غير معرفة معناها، ولا يقين ولا عمل بمقتضاها، من نفي الشرك وإخلاص القول والعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فغير نافع بالإجماع) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 616). (¬2) فلا ينفع التصديق مع زوال العملين، أي عمل القلب وعمل الجوارح، ولا ينفع أيضا مع زوال أحدهما، بل لابد من اجتماع الثلاثة، فلا يجزئ أحدها عن الآخر. (¬3) ((التوضيح عن توحيد الخلاق)) (ص: 139) والكتاب طبع منسوبا للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب، وحقق الشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف نسبته إلى ثلاثة من أئمة الدعوة اشتركوا فيه، وهم: الشيخ محمد بن علي بن غريب (ت: 1209 هـ)، والشيخ حمد بن معمر (ت: 1225 هـ)، والشيخ عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب (ت: 1242 هـ). انظر: ((دعاوى المناوئين)) (ص: 59)، وانظر: ترجمة الشيخ عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب، في ((الدرر السنية)) (16/ 3766) وجاء فيها: (وله مشاركة في كتاب ((التوضيح)). (¬4) في إحدى النسخ بعد قوله: (وظاهراً): (فلابد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولهما). (¬5) ((فتح المجيد)) (1/ 119) ت: د. الوليد بن عبدالرحمن آل فريان.

وقال: وفي الآية (¬1) رد على المرجئة والكرامية، ووجهه أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله، مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل. فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان، وهذا قول أهل السنة والجماعة، سلفا وخلفا، والله سبحانه أعلم) (¬2). 10 - الشيخ عبد اللطيف بن عبدالرحمن بن حسن، ت: 1292هـ، حيث قال في رده على من شنع على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لأجل كلامه السابق، ونسبه إلى الخوارج: (قد تقدم مرارا أن المعترض له حظ وافر من صناعة التبديل والتحريف، كما وصف الله اليهود بذلك في غير آية (¬3) والذبح والنذر لغير الله، وإخلاص الدين في ذلك كله لله. هذا ما دل عليه كلام شيخنا في (كشف الشبهات) وهذا مجمع عليه بين أهل العلم. فإذا اختل أحد هذه الثلاثة اختل الإسلام وبطل، كما دل عليه حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فبدأ بتعريف الإسلام بالشهادتين، ولا شك أن العلم والقول والعمل مشترط في صحة الإتيان بهما، وهذا لا يخفى على أحد شم رائحة العلم، وإنما خالف الخوارج فيما دون ذلك من ظلم العبد لنفسه، وظلمه لغيره من الناس) (¬4). 11 - الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ت: 1377هـ، حيث قال: (بل إجماع بين أهل العلم (أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل)، فلا بد من الثلاثة، لابد أن يكون هو المعتقَد في قلبه، ولابد أن يكون هو الذي ينطق به لسانه، ولابد أن يكون هو الذي تعمل به جوارحه، (فإن اختل شيء من هذا): لو وحّد بلسانه دون قلبه ما نفعه توحيده، ولو وحد بقلبه وأركانه دون لسانه ما نفعه ذلك، ولو وحَّد بأركانه دون الباقي (لم يكن الرجل مسلماً)، هذا إجماع أن الإنسان لابد أن يكون موحداً باعتقاده ولسانه وعمله) (¬5). ... ومن عرف التوحيد الذي دعت إليه الرسل، زال عنه الإشكال في هذه المسألة، فإن التوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة، و (لا إله إلا الله) تعني أنه لا معبود بحق إلا الله، فالتوحيد يقوم على عبادة الله وحده بالقلب واللسان والجوارح، بل حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد، ..... ولا يتم هذا إلا بالعمل، فكيف يتصور بقاء التوحيد في قلب من عاش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يؤدي له فرضا ولا نفلا. وقد بان من خلال النقولات السابقة أن أهل السنة مجمعون على أن الإيمان قول وعمل، أو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وأن هذه الثلاثة لا يجزئ بعضها عن بعض، ولا ينفع بعضها دون بعض، وأن العمل تصديق للقول، فمن لم يصدق القول بعمله كان مكذبا. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير – بتصرف - 1/ 353 ¬

(¬1) أي قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ *العنكبوت:10* (¬2) ((فتح المجيد)) (2/ 579). (¬3) الظاهر أن هنا سقطا، كما يتضح من السياق. (¬4) ((مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام)) (ص387). (¬5) ((شرح كشف الشبهات)) جمع محمد بن عبدالرحمن بن قاسم (ص126).

المبحث الثالث: إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة

المبحث الثالث: إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة ووجه الاستدلال بهذا الإجماع في مسألتنا: أن تارك أعمال الجوارح بالكلية تارك للصلاة ضمنا، فإذا ثبت إجماعهم على كفر تارك الصلاة وحدها، كان كفر تارك العمل الظاهر كله أحق وأولى بالإجماع. وقد حكى هذا الإجماع جماعة من الصحابة والأئمة الذين لم يُعرفوا بالتساهل في نقل الإجماع، ومنهم: 1 - جابر بن عبدالله رضي الله عنه: وقد سأله مجاهد بن جبر: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الصلاة (¬1). 2 - أبو هريرة رضي الله عنه: عن عبدالله بن شقيق عن أبي هريرة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفرا غير الصلاة (¬2). 3 - الحسن البصري: قال: بلغني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر (¬3). 4 - عبدالله بن شقيق: قال: لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة (¬4). 5 - أيوب السختياني: قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه (¬5). 6 - إسحاق بن راهويه: قال الإمام محمد بن نصر: سمعت إسحاق يقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. (¬6). وقال ابن رجب: (وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعا منهم حتى إنه جعل قول من قال: لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها من أقوال المرجئة، وكذلك قال سفيان بن عيينة ... ) (¬7). ¬

(¬1) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 672)، ومحمد بن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 877)، واللالكائي (4/ 910)، وحسن الشيخ الألباني إسناده في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (1/ 227). (¬2) رواه الحاكم (1/ 48) وقال: إنه على شرط الشيخين، فإنه ذكر حديث بريدة: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ثم قال: ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا ثم ساقه. وكأن الذهبي لم ينتبه لكلام الحاكم المتقدم فقال: (لم يتكلم عليه، وإسناده صالح). (¬3) رواه ابن بطة (2/ 673)، واللالكائي (4/ 910). (¬4) رواه الترمذي (2622) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 172)، ومحمد بن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 904). قال النووي في ((المجموع)) (3/ 16)، والعراقي في ((طرح التثريب)) (2/ 146)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 819): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) رواه محمد بن نصر في ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 925). وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (1/ 230). (¬6) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 929). (¬7) ((فتح الباري)) لابن رجب (1/ 22).

7 - محمد بن نصر المروزي: قال: (قد ذكرنا في كتابنا هذا ما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تعظيم قدر الصلاة وإيجاب الوعد بالثواب لمن قام بها، والتغليظ بالوعيد على من ضيعها، والفرق بينها وبين سائر الأعمال في الفضل، وعظم القدر. ثم ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك) (¬1). 8 - ابن تيمية: قال في بيان أدلة تكفير تارك الصلاة، بعد ذكر أدلة من الكتاب والسنة، وبيان أنه القول المنقول عن جمهور السلف: (ولأنّ هذا إجماع الصحابة. قال عمر لما قيل له وقد خرج إلى الصلاة: نعم ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وقصته في الصحيح، وفي رواية عنه قال: لا إسلام لمن لم يصل رواه النجاد، وهذا قاله بمحضر من الصحابة) (¬2). ¬

(¬1) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 925). وزعم المخالف أن إجماع الصحابة إنما هو على الرواية، أي رواية الأحاديث في إكفار تارك الصلاة فقط، وأن كلام المروزي يدل على ذلك. وهذا خطأ بين من وجهين: الأول: أن المروزي / قال بعد كلامه السابق: (ثم اختلف أهل العلم بعد ذلك في تأويل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن الصحابة أي في إكفار تاركها) فالمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأحاديث المعروفة، والمروي عن الصحابة هو أقوالهم في كفر تارك الصلاة، وهي أقوال مشهورة صحت عن عدد منهم، وانظر هذه الآثار في كتاب: ((الخلاف في حكم تارك الصلاة)) لشيخنا الدكتور عبدالله بن إبراهيم الزاحم (ص61 - 66). والوجه الثاني: أنه لو دخل الاحتمال في عبارة المروزي، فإن عبارة غيره، كعبد الله بن شقيق وإسحاق وشيخ الإسلام، صريحة في أن الصحابة مجمعون على تكفير تارك الصلاة، لا على مجرد رواية أحاديث التكفير. (¬2) ((شرح العمدة)) لابن تيمية (2/ 75). وهذا هو الإجماع الذي يتصور نقله عن الصحابة رضي الله عنهم، إذ لا يمكن النقل عن جميعهم فرداً فرداً، ولهذا قال ابن قدامة في مسألة تحريم شراء الأرض الخراجية: (وهذا قول عمر في المهاجرين والأنصار بمحضر سادة الصحابة وأئمتهم فلم ينكر فكان إجماعا، ولا سبيل إلى وجود إجماع أقوى من هذا وشبهه؛ إذ لا سبيل إلى نقل قول جميع الصحابة في مسألة ولا إلى نقل قول العشرة ولا يوجد الإجماع إلا القول المنتشر) انتهى من ((المغني)) (2/ 310) مع أن تكفير تارك الصلاة منقول عن ستة عشر صحابيا، كما قال ابن حزم.

9 - ابن القيم: وقد ذكر أن من كفر تارك الصلاة استدل بالكتاب والسنة وبإجماع الصحابة، ثم قال: (وأما إجماع الصحابة، فقال ابن زنجويه: حدثنا عمر بن الربيع حدثنا يحيى بن أيوب عن يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبدالله بن عتبة أن عبدالله بن عباس أخبره أنه جاء عمر بن الخطاب حين طعن في المسجد، قال: فاحتملته أنا ورهط كانوا معي في المسجد حتى أدخلناه بيته. قال: فأمر عبدالرحمن بن عوف أن يصلي بالناس. قال: فلما دخلنا على عمر بيته غشي عليه من الموت، فلم يزل في غشيته حتى أسفر، ثم أفاق فقال: هل صلى الناس؟ قال: فقلنا: نعم، فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة، وفي سياق آخر: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى، وذكر القصة. فقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروه عليه. وقد تقدم مثل ذلك عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، ولا يعلم عن صحابي خلافهم) (¬1). ثم قال ابن القيم في خاتمة الفصل الذي جعله في الحكم بين الفريقين: (ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويُشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبدا. ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول: هذا مؤمن مسلم، يغسّل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين (¬2) وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان إيمانه كإيمانه جبريل وميكائيل! فلا يستحي من هذا قوله، من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة. والله الموفق) (¬3). 10 - الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، قال: (فهذه الأحاديث كما ترى، صريحة في كفر تارك الصلاة، مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق بن راهويه، وابن حزم، وعبد الله بن شقيق، وهو مذهب جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم) (¬4). 11 - الشيخ محمد بن إبراهيم، قال: (فقد وصلني كتابك الذي تستفتي به عن الرجل الذي وعظ في أَحد المساجد وقال: من ترك الصلاة تهاونًا وكسلا يقتل. وتسأَل عن كلام العلماء في ذلك؟ ¬

(¬1) ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص42) وما بعدها. وقول عمر رضي الله عنه: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة رواه مالك (51)، وابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (103)، ومحمد بن نصر المروزي (2/ 893) واللالكائي (4/ 906) وصححه الشيخ الألباني في تحقيق ((الإيمان)) لابن أبي شيبة (ص40)، وروى محمد بن نصر المروزي (930) عن أبي المليح قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: لا إسلام لمن لم يصل. قيل لشريك: على المنبر؟ قال: نعم. (¬2) وهذا مذهب المالكية والشافعية، ورغم شناعة هذا القول كما ترى، فلا يزال البعض يستكثر به، ويقول: هذا مذهب جمهور الفقهاء! (¬3) ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص53). (¬4) ((الدرر السنية)) (10/ 307).

فالجواب: الحمد لله. ذهب إِمامنا أَحمد بن حنبل والشافعي في أَحد قوليه وإِسحاق بن راهويه، وعبدالله بن المبارك والنخعي والحكم وأَيوب السختياني وأَبو داود الطيالسي وغيرهم من كبار الأَئمة والتابعين إِلى أَن تاركها كافر. وحكاه إِسحق بن راهويه إِجماعًا، ذكره عنه الشيخ أَحمد بن حجر الهيثمي في شرح الأَربعين، وذكره في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) عن جمهور الصحابة. وقال الإِمام أَبو محمد بن حزم: سائر الصحابة ومن بعدهم من التابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقًا، ويحكمون عليه بالارتداد منهم أَبو بكر وعمر وابنه عبدالله وعبدالله بن مسعود وابن عباس ومعاذ وجابر وعبد الرحمن بن عوف وأَبو الدرداء وأَبو هريرة وغيرهم من الصحابة ولا نعلم لهم مخالفًا من الصحابة، واحتجوا على كفر تاركها بما رواه مسلم في (صحيحه) عن جابر بن عبدالله، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَيْن الرَّجل وَبَيْن الشِّرْكِ وَالكُفر ترْكُ الصَّلاةِ)) (¬1)، وعن بريدة بن الحصيب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الْعَهدُ الَّذِيْ بَيْننا وَبَيْنهُمْ الصَّلاةُ فمَن ترَكها فقدْ كفرَ)) رواه الإِمام أَحمد وأَهل السنن. (¬2) ... وعن معاذ مرفوعًا ((مَن تَرَكَ صَلاَةً مَكتُوْبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرئَت مِنهُ ذِمَّةُ اللهِ)) (¬3)، وعن عبدالله بن شقيق العقيلي قال: كان أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأَعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي. فهذه الأَحاديث كما ترى صريحة في كفر تارك الصلاة مع ما تقدم من إِجماع الصحابة، كما حكاه إِسحق بن راهويه وابن حزم وعبدالله بن شقيق، وهو مذهب جمهور العلماء والتابعين ومن بعدهم) (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم (82). (¬2) رواه الترمذي (2621) والنسائي (463) وابن ماجه (1079) وأحمد (5/ 346) (22987). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 492) كما أشار لذلك في مقدمته. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) رواه أحمد (5/ 238) (22128) والطبراني في ((الأوسط))، وقال المنذري: لا بأس بإسناده في المتابعات، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (569): حسن لغيره. (¬4) ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (2/ 107 - 109).

12 - الشيخ عبدالعزيز بن باز، قال: ( ... ولهذا ذكر عبدالله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا لا يرون شيئا تركه كفر غير الصلاة، فهذا يدل على أن تركها كفر أكبر بإجماع الصحابة؛ لأن هناك أشياء يعرفون عنها أنها كفر، لكنه كفر دون كفر، مثل البراءة من النسب، ومثل القتال بين المؤمنين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سِبَابُ المُسْلِمُ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)) (¬1) فهذا كفر دون كفر إذا لم يستحله، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ كُفْراً بِكُمْ التَّبَرُّؤُ مِنْ آبَائِكُمْ)) (¬2)، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((اثْنَتَانِ فِي الناسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ النِّيَاحَةُ وَالطَّعْنُ فِي النَّسَبِ)) (¬3) فهذا كله كفر دون كفر عند أهل العلم؛ لأنه جاء منكرا غير معرف بـ (أل)، ودلت الأدلة الأخرى دالة على أن المراد به غير الكفر الأكبر، بخلاف الصلاة فإن أمرها عظيم، وهي أعظم شيء بعد الشهادتين، وعمود الإسلام) (¬4). وبعد: (فهذا الإجماع أقوى دليل في هذه المسألة، وأصرح دليل فيها؛ إذ لا يعتريه احتمال ولا تأويل. وهو ما يؤكد ما دلت عليه ظواهر النصوص بأن المراد بالكفر فيها الكفر المخرج من الملة. وهو يردُّ على كل من أراد صرف تلك النصوص عن ظواهرها، بأن المراد كفر دون كفر. بل هذا الإجماع يوجب على كل منصف الرجوع عن كل قول مخالف له، فإن الأئمة الأربعة وعامة العلماء على أن الإجماع حجة قطعية، لا يجوز العدول عنها. فمن قال من العلماء بخلاف ما دل عليه هذا الإجماع، لعل له عذره أو اجتهاده الذي يؤجر عليه، لكن هذا العذر قد زال عمن اطلع على هذا الإجماع ووقف عليه) (¬5). تنبيهان: الأول: ما ذهب إليه بعض أهل العلم من حمل أحاديث كفر تارك الصلاة على الكفر الأصغر، قد ردّه شيخ الإسلام من تسعة أوجه، قال في (شرح العمدة): وأما حمله على كفر دون كفر، فهذا حمل صحيح ومحمل مستقيم في الجملة في مثل هذا الكلام، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين في كثير من المواضع مفسراً، لكن الكفر الوارد في الصلاة هو الكفر الأعظم لوجوه: أحدها: أن الكفر المطلق هو الكفر الأعظم المخرج عن الملة فينصرف الإطلاق إليه، وإنما صرف في تلك المواضع إلى غير ذلك لقرائن انضمت إلى الكلام، ومن تأمل سياق كل حديث وجده معه، وليس هنا شيء يوجب صرفه عن ظاهره، بل هنا ما تقرره على الظاهر. الثاني: أن ذلك الكفر منكر مبهم مثل قوله: ((وقتاله كفر))، ((هما بهم كفر)) وقوله: ((كفر بالله)) وشبه ذلك، وهنا عرف باللام بقوله: ((ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك)) والكفر المعرف ينصرف إلى الكفر المعروف وهو المخرج عن الملة. الثالث: أن في بعض الأحاديث: ((فقد خرج من الملة)) وفي بعضها: ((بينه وبين الإيمان)) وفي بعضها: ((بينه وبين الكفر)) وهذا كله يقتضي أن الصلاة حدٌّ تُدخله إلى الإيمان إن فعله، وتخرجه عنه إن تركه. ¬

(¬1) رواه البخاري (48)، ومسلم (64). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6830) بلفظ: ((إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم))، وهي من القرآن الذي نسخ لفظه. (¬3) رواه أحمد (2/ 377) (8892). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي بكر فمن رجال البخاري. (¬4) ((مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز)) (10/ 240) وما بعدها. (¬5) ((الخلاف في حكم تارك الصلاة)) (ص58) لشيخنا الدكتور عبدالله بن إبراهيم الزاحم حفظه الله.

الرابع: أن قوله: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة)، وقوله: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة) لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الأعظم؛ لأن بينه وبين غير ذلك مما يسمى كفرا أشياء كثيرة، ولا يقال: فقد يخرج من الملة بأشياء غير الصلاة، لأنا نقول: هذا ذكر في سياق ما كان من الأعمال المفروضة، وعلى العموم يوجب تركه الكفر، وما سوى ذلك من الاعتقادات فإنه ليس من الأعمال الظاهرة. الخامس: أنه خرج هذا الكلام مخرج تخصيص الصلاة وبيان مرتبتها على غيرها في الجملة، ولو كان ذلك الكفر فسقاً لشاركها في ذلك عامة الفرائض. السادس: أنه بين أنها آخر الدين، فإذا ذهب آخره ذهب كله. السابع: أنه بين أن الصلاة هي العهد الذي بيننا وبين الكفار، وهم خارجون عن الملة ليسوا داخلين فيها، واقتضى ذلك أن من ترك هذا العهد فقد كفر، كما أن من أتى به فقد دخل في الدين، ولا يكون هذا إلا في الكفر المخرج من الملة. الثامن: أن قول عمر: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) أصرح شيء في خروجه عن الملة، وكذلك قول ابن مسعود وغيره، مع أنه بيّن أن إخراجها عن الوقت ليس هو الكفر وإنما هو الترك بالكلية، وهذا لا يكون إلا فيما يخرج من الملة. التاسع: ما تقدم من حديث معاذ (¬1)؛ فإن فسطاطا على غير عمود لا يقوم، كذلك الدين لا يقوم إلا بالصلاة. وفي هذه الوجوه يبطل قول من حملها على من تركها جاحدا. وأيضا قوله: (كانوا لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر" وقوله: ليس بين العبد وبين الكفر وغير ذلك مما يوجب اختصاص الصلاة بذلك، وترك الجحود لا فرق فيه بين الصلاة وغيرها؛ ولأن الجحود نفسه هو الكفر من غير ترك حتى لو فعلها مع ذلك لم ينفعه، فكيف يعلق الحكم على ما لم يذكر؟! ولأن المذكور هو الترك، وهو عام في من تركها جحودا أو تكاسلا، ولأن هذا عدول عن حقيقة الكلام من غير موجب فلا يلتفت إليه) (¬2). التنبيه الثاني: ما يردده بعض المخالفين من قولهم: كيف خفي هذا الإجماع على الأئمة الذين ذهبوا إلى عدم تكفير تارك الصلاة؟ جوابه أن يقال: إذا ثبت إجماع الصحابة، فهو حجة على من بعدهم، وأقوال العلماء يحتج لها، ولا يحتج بها، وباب العذر واسع، فالمخالف ربما لم يبلغه الإجماع، أو تأوله بنوع تأويل، والمسألة لها نظائر، فمن ذلك: 1 - أنه قد نقل غير واحد إجماع الصحابة على منع بيع أمهات الأولاد، وخالف في ذلك من خالف (¬3). قال ابن قدامة: (ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم بدليل قول علي كرم الله وجهه: كان رأيي ورأي عمر أن لا تباع أمهات الأولاد، وقوله: فقضى به عمر حياته وعثمان حياته، وقول عبيدة: رأي علي ... وعمر في الجماعة أحب إلينا من رأيه وحده. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنهم: ما من رجلٍ كان يقر بأنه يطأ جاريته ثم يموت إلا أعتقها ولدها إذا ولدت وإن كان سقطا. ¬

(¬1) وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد)). رواه الترمذي (2626)، وابن ماجه (3963)، وأحمد (5/ 231) (22069). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) ((شرح العمدة)) (2/ 81). (¬3) قال الصنعاني في ((سبل السلام)) (2/ 14): (وادعى الإجماع على المنع من بيعها جماعة من المتأخرين، وأفاد الحافظ ابن كثير الكلام على هذه المسألة في جزء مفرد، قال: وتلخص لي عن الشافعي فيها أربعة أقوال، وفي المسألة من حيث هي ثمانية أقوال. وقد ذهب الناصر والإمامية وداود إلى جواز بيعها).

فإن قيل: فكيف تصح دعوى الإجماع مع مخالفة علي وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم؟ قلنا: قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة، فقد روى عبيدة قال: بعث إليَّ علي ... وإلى شريح أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أبغض الاختلاف. وابن عباس قال: ولد أم ولد بمنزلتها، وهو الراوي لحديث عتقهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر، فيدل على موافقته لهم، ثم قد ثبت الإجماع باتفاقهم قبل المخالفة، واتفاقهم معصوم عن الخطأ؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يجوز أن يخلو زمن عن قائم لله بحجته، ولو جاز ذلك في بعض العصر لجاز في جميعه، ورأي الموافق في زمن الاتفاق خير من رأيه في الخلاف بعده، فيكون الاتفاق حجة على المخالف له منهم كما هو حجة على غيره. فإن قيل: فلو كان الاتفاق في بعض العصر إجماعا حرمت مخالفته، فكيف خالفه هؤلاء الأئمة الذين لا تجوز نسبتهم إلى ارتكاب الحرام؟ قلنا: الإجماع ينقسم إلى مقطوع به ومظنون، وهذا من المظنون، فيمكن وقوع المخالفة منهم له مع كونه حجة، كما وقع منهم مخالفة النصوص الظنية، ولا تخرج بمخالفتهم عن كونها حجة، كذا ههنا) (¬1). ويقال هنا أيضا: لا يجوز أن يخلو زمن عن قائم لله بحجته، فأين النقل عن صحابي واحد بما يخالف هذا الإجماع؟! 2 - ومن ذلك أيضا: إجماع الصحابة على انتقاض عهد الذمي بسب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مخالفة بعض الفقهاء في ذلك (¬2)، قال شيخ الإسلام: (والدلالة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله ووجوب قتله وقتل المسلم إذا أتى ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار) (¬3). إلى أن قال: (وأما إجماع الصحابة فلأن ذلك نُقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض، ولم ينكرها أحد منهم، فصارت إجماعا. واعلم أنه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسألة فرعية بأبلغ من هذا الطريق) (¬4). 3 - ومن ذلك: مسألة اشتراط المرأة على الرجل ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، ولا يخرجها من دارها أو بلدها، فقد حكى فيها ابن القيم إجماع الصحابة على أن الشرط لازم، مع مخالفة من خالف من الأئمة. قال رحمه الله: (إذا تزوجها على أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرى عليها فالنكاح صحيح، والشرط لازم. هذا إجماع الصحابة، فإنه صح عن عمر، وسعد، ومعاوية، ولا مخالف لهم من الصحابة، وإليه ذهب عامة التابعين، وقال به أحمد. وخالف في ذلك الثلاثة، فأبطلوا الشرط، ولم يوجبوا الوفاء به) (¬5). 4 - ومن ذلك: الإجماع القديم على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه، وقد خالف فيه أبو حنيفة والشافعي (¬6). قال شيخ الإسلام: (وكذلك مذهب مالك وأهل المدينة في أعيان النجاسات الظاهرة في العبادات أشبه شيء بالأحاديث الصحيحة، وسيرة الصحابة، ثم إنهم لا يقولون بنجاسة البول والروث مما يؤكل لحمه، وعلى ذلك بضع عشرة حجة، من النص، والإجماع القديم، والاعتبار، ذكرناها في غير هذا الموضع، وليس مع المنجّس إلا لفظ يظن عمومه، وليس بعام، أو قياس يظن مساواة الفرع فيه للأصل، وليس كذلك) (¬7). ¬

(¬1) ((المغني)) (10/ 414). (¬2) كالحنفية ووجه عند الشافعية، وينظر: ((تبيين الحقائق)) (3/ 281)، ((مغني المحتاج)) (6/ 83)، ((المغني)) (9/ 283)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (7/ 138). (¬3) ((الصارم المسلول)) (2/ 32). (¬4) ((الصارم المسلول)) (2/ 378). (¬5) ((إغاثة اللهفان)) (2/ 25)، وهذه الأمثلة الثلاث مستفادة من بحث مصوّر بعنوان: ((حكم تارك الصلاة عند شيخ الإسلام ابن تيمية))، لأحد الفضلاء، لم أقف على اسمه. (¬6) انظر: ((المبسوط)) (1/ 54)، ((المجموع)) (2/ 567). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 339).

وقال: (وبول ما أُكل لحمه وروثه طاهر، لم يذهب أحدٌ من الصحابة إلى تنجسه، بل القول بنجاسته قول محدثٌ لا سلف له من الصحابة) (¬1). 5، 6، 7 - ومن ذلك: الإجماع القديم على حل ذبائح أهل الكتاب، وحل نسائهم، وجواز أخذ الجزية منهم، سواء كانوا أو أحد آبائهم ممن دخلوا في الدين قبل نزول القرآن، أو بعده، وخالف في ذلك الشافعي (¬2). قال الإمام محمد بن الحسين التميمي الجوهري (ت: 350هـ): (وأجمعوا أن ذبيحة الكتابي حلال للمسلم، وسواء دان بدينه ذلك واحد من آبائه قبل نزول القرآن، أو بعده، إلا الشافعي، فإنه لم يجز من ذبائحهم إلا ذبائح من دان منهم أو أحد من آبائهم قبل نزول القرآن، وأما من دان منهم أو أحد من آبائهم بعد نزول القرآن، فإنه لا يبيح للمسلم ذبيحته) (¬3). وقال: (وأجمعوا أن الجزية على كل كتابي، وإن كان إنما دان بدينه بعد نزول الفرقان، إلا الشافعي فإنه قال: لا جزية إلا أن يكون قد دان، أو واحدة من آبائه بذلك الدين قبل نزول الفرقان) (¬4). وقال أبو بكر الجصاص: (وقد روي عن جماعة من السلف القول في أهل الكتاب من العرب، لم يفرق أحدٌ منهم فيه بين من دان بذلك قبل نزول القرآن أو بعده، ولا نعلم أحدا من السلف والخلف اعتبر فيهم ما اعتبره الشافعي في ذلك، فهو منفرد بهذه المقالة خارج بها عن أقاويل أهل العلم) (¬5). ¬

(¬1) ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 313). (¬2) قرر الشافعي هذه المسألة في مواضع من كتابه ((الأم))، فمن ذلك قوله: (وذكر الله عز وجل نعمته على بني إسرائيل في غير موضعٍ من كتابه وما آتاهم دون غيرهم من أهل دهرهم، كان من دان دين بني إسرائيل قبل الإسلام من غير بني إسرائيل في غير معنى من بني إسرائيل أن ينكح؛ لأنه لا يقع عليهم أهل الكتاب، بأن آباءهم كانوا غير أهل الكتاب، ومن غير نسب بني إسرائيل، فلم يكونوا أهل كتاب إلا بمعنى، لا أهل كتابٍ مطلق، فلم يجز والله تعالى أعلم أن ينكح نساء أحد من العرب والعجم غير بني إسرائيل دان دين اليهود والنصارى بحال ... فمن كان من بني إسرائيل يدين دين اليهود والنصارى نكح نساؤه وأكلت ذبيحته، ومن نكح نساؤه فسبي منهم أحد وطئ بالملك. ومن دان دين بني إسرائيل من غيرهم لم تنكح نساؤه، ولم تؤكل ذبيحته، ولم توطأ أمته) انتهى من ((الأم)) (4/ 193). وقال: (فكل من دان ودان آباؤه أو دان بنفسه وإن لم يدن آباؤه دينَ أهل الكتاب، أي كتابٍ كان قبل نزول الفرقان، وخالف دين أهل الأوثان قبل نزول الفرقان، فهو خارج من أهل الأوثان، وعلى الإمام إذا أعطاه الجزية وهو صاغر أن يقبلها منه عربيا كان أو عجميا. وكل من دخل عليه الإسلام، ولا يدين دين أهل الكتاب ممن كان عربيا أو عجميا فأراد أن تؤخذ منه الجزية ويقر على دينه، أو يحدث أن يدين دين أهل الكتاب، فليس للإمام أن يأخذ منه الجزية، وعليه أن يقاتله حتى يسلم كما يقاتل أهل الأوثان حتى يسلموا). ((الأم)) (4/ 184). وقال: (أصل ما أبني عليه أن الجزية لا تقبل من أحد دان دين كتابي إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان) نقله عنه المزني، انظر: ((الأم)) (8/ 387) وانظر: ((المجموع)) (9/ 84)، ((فتاوى الرملي)) (4/ 63). (¬3) ((نوادر الفقهاء)) (ص: 75). (¬4) ((نوادر الفقهاء)) (ص: 179). (¬5) ((أحكام القرآن)) (2/ 457).

وقال شيخ الإسلام: (وهذا مبني على أصل، وهو أن قوله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5] هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب؟ أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل؟ على قولين للعلماء. فالقول الأول هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد، بل هو المنصوص عنه صريحا. والثاني: قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد). إلى أن قال: (وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب، وهم الذين تنازع فيهم الصحابة. فأما سائر اليهود والنصارى من العرب مثل: تنوخ وبهراء وغيرهما من اليهود، فلا أعرف عن أحمد في حل ذبائحهم نزاعا، ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وغيرهم من السلف، وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة). ثم قال: (بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه، لا بنسبه. وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم، أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل، أو بعد ذلك. وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والمنصوص الصريح عن أحمد، وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف. وهذا القول هو الثابت عن الصحابة، ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعا، وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم) (¬1). 8 - ومن ذلك: إجماع الصحابة على أن سجود التلاوة غير واجب، مع مخالفة الحنفية فيه. قال ابن قدامة: (وجملة ذلك أن سجود التلاوة سنة مؤكدة وليس بواجب عند إمامنا ومالك والأوزاعي والليث والشافعي وهو مذهب عمر وابنه عبد الله، وأوجبه أبو حنيفة وأصحابه؛ لقول الله عز وجل: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:20 - 21]، ولا يذم إلا على ترك واجب، ولأنه سجود يفعل في الصلاة فكان واجبا كسجود الصلاة. ولنا ما روى زيد بن ثابت قال: ((قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد منا أحد)). متفق عليه (¬2). ولأنه إجماع الصحابة، وروى البخاري والأثرم عن عمر أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه. ولم يسجد عمر. وفي لفظ: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وفي رواية الأثرم: فقال: على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. فقرأها ولم يسجد ومنعهم أن يسجدوا، وهذا بحضرة الجمع الكثير، فلم ينكره أحد ولا نُقل خلافه. فأما الآية فإنه ذمهم لترك السجود غير معتقدين فضله ولا مشروعيته. وقياسهم ينتقض بسجود السهو فإنه عندهم غير واجب) (¬3). 9 - ومن ذلك: الإجماع على منع الرجوع في الوقف، مع مخالفة أبي حنيفة. قال ابن قدامة: (وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف لا يلزم بمجرده وللواقف الرجوع فيه إلا أن يوصي به بعد موته فيلزم أو يحكم بلزومه حاكم. وحكاه بعضهم عن علي وابن مسعود وابن عباس. وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم. وهذا القول يخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في وقفه: ((لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث)) (¬4) قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا) (¬5). ونظائر هذا كثيرة، تركت ذكرها خشية الإطالة. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 369 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 219 - 224) وقد ساق رحمه الله تسعة أوجه في تأييد مذهب الجمهور. (¬2) رواه البخاري (1073)، ومسلم (577). (¬3) ((المغني)) (1/ 361). (¬4) رواه البخاري (2737)، ومسلم (1633). (¬5) ((المغني)) (5/ 348).

الفصل الثاني: نقول عن أهل العلم في بيان منزلة عمل الجوارح وحكم تاركه

الفصل الثاني: نقول عن أهل العلم في بيان منزلة عمل الجوارح وحكم تاركه ليس الغرض هنا نقل كلام السلف والأئمة في أن العمل من الإيمان، فهذا أمر معلوم بيّن، لكن المراد حكاية أقوالهم في ارتباط القول بالعمل، وأنه لا يصح القول ولا ينفع ولا يستقيم ولا يقبل إلا بالعمل، وحكاية أقوالهم في ارتباط عمل القلب بعمل الجوارح، وأنه لا يتصور وجود الإيمان الباطن مع تخلف العمل الظاهر، وحكاية ما هو أصرح من ذلك، من تكفير تارك العمل بالكلية، والجزم بردته، وخلو قلبه من الإيمان الصحيح. والمراد أيضا: إظهار أن القول بعدم صحة الإيمان عند تخلف عمل الجوارح بالكلية، أمرٌ مستقر عند أهل السنة، بيّنه الأئمة سلفا وخلفا، لم يكن بينهم نزاع في ذلك، حتى جاء من دخلت عليه شبهة المرجئة، فزعم أن العمل كمالي في الإيمان، وأن تاركه بالكلية مسلم تحت المشيئة، وهذا ما تلقفوه عن أهل الكلام المذموم من الأشعرية وغيرهم، ثم نسبوه إلى السلف وأهل السنة جهلا وافتراء، وغلا بعضهم حتى زعم أن القول بكفر تارك العمل- كلِّه- هو قول الخوارج والمعتزلة، لا قول أهل السنة، ولهذا رأيت من اللازم نقل كلام الأئمة، من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، إلى زمننا هذا، نصحا للأمة، ودرءا للفتنة عن ناشئة أهل السنة، تبصيراً للجاهل، وتثبيتاً للعالم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. 1 - علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رضي الله عنه: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة (¬1). 2 - عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وقد قال بنفس ما قاله علي رضي الله عنه (¬2). 3 - سعيد بن جبير، ت: 95هـ قال: (لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل عمل إلا بقول، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بنية موافقة للسنة) (¬3). 4 - الحسن البصري، ت: 110هـ قال: (الإيمان قول، ولا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بسنة) (¬4). 5 - الأوزاعي، ت: 157هـ قال: (أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة، ولا يفرقون بين الإيمان والعمل، ولا يعدون الذنوب كفرا ولا شركا. وقال: الإيمان والعمل كهاتين، وقال بإصبعيه، لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان) (¬5). وقال: (لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة. وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها. ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه وكان في الآخرة من الخاسرين) (¬6). وقال الوليد بن مسلم: (سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان) (¬7). 6 - سفيان الثوري، ت: 161هـ ¬

(¬1) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 803). (¬2) ((الإبانة)) (2/ 803). (¬3) رواه اللالكائي (1/ 64). (¬4) رواه ابن بطة (2/ 803)، واللالكائي (1/ 64). (¬5) رواه حرب الكرماني في ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية)) (ص368). (¬6) رواه ابن بطة (2/ 807)، ونقله شيخ الإسلام في ((مجموع الفتاوى)) (7/ 296) وعلق عليه بقوله: (وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف أنهم يجعلون العمل مصدقا للقول). (¬7) رواه اللالكائي (4/ 931) رقم (1586)

قال رحمه الله: (أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل مخافة أن يزكوا أنفسهم، لا يجوز عمل إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بعمل، فإن قال من إمامك في هذا؟ فقل: سفيان الثوري) (¬1). وقال أيضا: (كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة) (¬2). وقال أيضا: (لا يصلح قول إلا بعمل) (¬3). 7 - الفضيل بن عياض، ت: 187هـ قال: (لا يصلح قول إلا بعمل) (¬4). 8 - سفيان بن عيينة، ت: 198هـ قال:: (الإيمان قول وعمل). (وأخذناه ممن قبلنا، وأنه لا يكون قول إلا بعمل. قيل له: يزيد وينقص؟ قال: فإيش إذا؟!) (¬5). وقال وقد سئل عن الإرجاء: (يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل. والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليسوا سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية. وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر. وبيان ذلك في أمر آدم صلوات الله عليه وإبليس وعلماء اليهود. أما آدم فنهاه الله عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين فسمي عاصيا من غير كفر. وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمدا فسمي كافرا. وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان، ولم يتبعوا شريعته، فسماهم الله عز وجل كفارا. فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء. وأما ترك الفرائض جحودا فهو كفر، مثل كفر إبليس لعنه الله. وتركها على معرفة من غير جحود فهو كفر، مثل كفر علماء اليهود. والله أعلم) (¬6). 9 - إسحاق بن راهويه، ت: 238هـ قال: (غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوما يقولون: من ترك المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود بها أنا لا نكفّره، يرجى أمره إلى الله بعد؛ إذ هو مقر. فهؤلاء المرجئة الذين لاشك فيهم) (¬7). وكلامه يؤخذ منه أمران: الأول: تكفير من ترك عامة الفرائض، وهذا مطابق لما سبق نقله عن سفيان بن عيينة، وهو عين ما يقرره شيخ الإسلام، كما سيأتي، لكنه يعبّر بلفظ: الواجبات، ولا فرق. الثاني: الحكم على المخالف في هذه المسألة بأنه من المرجئة. 10 - أبو ثور: إبراهيم بن خالد الكلبي الفقيه، ت: 240هـ قال: (فأما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان؛ فيقال لهم: ما أراد الله من العباد إذ قال لهم: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الراكِعِينَ [البقرة:43]، الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل؛ فقد كفرت عند أهل العلم، من قال إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة! فإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل! ¬

(¬1) رواه اللالكائي (5/ 980). (¬2) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (1/ 333)، وفي (2/ 807). (¬3) رواه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 337). (¬4) رواه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 337). (¬5) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 239)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 855)، وإسناد صحيح، كما في: ((أقوال التابعين في مسائل التوحيد والإيمان)) (3/ 1123)، وأشار المؤلف إلى أن قوله هذا يشعر بحكاية الإجماع عن التابعين أن الإيمان قول وعمل، وهو الحق الذي لا مرية فيه. (¬6) رواه عبدالله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 347)، وأورده ابن رجب في شرحه على البخاري (1/ 25)، وفي ((جامع العلوم والحكم)) (ص44). (¬7) ((مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه)) لحرب الكرماني، (ص377). ونقله ابن رجب، كما في ((فتح الباري)) (1/ 25).

قيل: فإذا أراد منهم الأمرين جميعا لم زعمتم أنه يكون مؤمنا بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعا؟! أرأيتم لو أن رجلا قال: أعمل جميع ما أمر الله ولا أقر به أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا: لا! قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئا أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا: نعم! قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعا فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمنا إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر إذا عمل ولم يقر مؤمنا، لا فرق بين ذلك! فإن احتج فقال: لو أن رجلا أسلم فأقر بجميع ما جاء به النبي أيكون مؤمنا بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل؟ قيل له: إنما نطلق له الاسم بتصديقه أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء، وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنا، ولو قال: أقر ولا أعمل؛ لم نطلق له اسم الإيمان. وفيما بينا من هذا ما يكتفى به ونسأل الله التوفيق) (¬1). 11 - أحمد بن حنبل، ت:241هـ قال في رواية محمد بن موسى البغدادي: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وإذا عملت الحسن زاد، وإذا ضيعت نقص، والإيمان لا يكون إلا بعمل) (¬2). 12 - أبو بكر الآجري المتوفى سنة 360هـ قال: (فالأعمال – رحمكم الله تعالى – بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب واللسان. فمن لم يصدق الإيمان بجوارحه: مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول: لم يكن مؤمنا، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه العمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه، وبالله تعالى التوفيق) (¬3). وقال: (هذا بيان لمن عقل، يعلم أنه لا يصحّ الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وما أشبه ذلك) (¬4). وقال: وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] فأخبر تعالى بأن الكلم الطيب حقيقته أن يُرفع إلى الله عز وجل بالعمل الصالح، فإن لم يكن عملٌ، بطل الكلام من قائله، ورد عليه. ولا كلام أطيب وأجل من التوحيد، ولا عمل من عمل الصالحات أجل من أداء الفرائض ... ثم جعل على كل قول دليلا، من عملٍ يصدقه، ومن عملٍ يكذبه، فإذا قال قولا حسنا، وعمل عملا حسنا، رفع الله قوله بعمله، وإذا قال قولا حسنا، وعمل عملا سيئا، رد الله القول على العمل، وذلك في كتاب الله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] (¬5). 13 - ابن بطة العكبري، ت: 387 هـ قال: (فقد تلوت عليكم من كتاب الله ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل، وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذبا وخارجا من الإيمان، وأن الله لا يقبل قولا إلا بعمل، ولا عملا إلا بقول) (¬6). ¬

(¬1) رواه اللالكائي (4/ 931 - 933)، ونقله شيخ الإسلام في كتاب ((الإيمان)) كما في ((مجموع الفتاوى)) (7/ 387). (¬2) ((الإيمان)) لأبي يعلى (ص: 153). (¬3) ((الشريعة)) (2/ 614). (¬4) ((الشريعة)) (2/ 563). (¬5) ((الشريعة)) (2/ 632) وما بعدها، وانظر كلاماً قريباً منه لابن بطة، في ((الإبانة)) (2/ 971). (¬6) ((الإبانة)) (2/ 795).

وقال: (فمن زعم أنّه يقر بالفرائض ولا يؤديها، ويعلمها، وبتحريم الفواحش والمنكرات ولا ينزجر عنها ولا يتركها، وأنه مع ذلك مؤمن، فقد كذّب بالكتاب وبما جاء به رسوله، ومثَله كمثل المنافقين الذين قالوا: قَالُواْ آمَنا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ [المائدة:41] فأكذبهم الله وردّ عليهم قولهم، وسماهم منافقين مأواهم الدرك الأسفل من النار، على أن المنافقين أحسن حالا من المرجئة؛ لأن المنافقين جحدوا العمل، وعملوه، والمرجئة أقروا بالعمل بقولهم، وجحدوه بترك العمل به. فمن جحد شيئا وأقر به بلسانه وعمله ببدنه، أحسن حالا ممن أقر بلسانه وأبى أن يعمله ببدنه. فالمرجئة جاحدون لما هم به مقرون، ومكذبون لما هم به مصدقون، فهم أسوأ حالا من المنافقين) (¬1). 14 - شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ وقد قرر هذه المسألة من وجوهٍ عدة: (1) تصريحه بأن من لم يأت بالعمل فهو كافر: قال: (وأيضا فان الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل كما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف، وعلى ما هو مقرر في موضعه، فالقول تصديق الرسول، والعمل تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا. والقول الذي يصير به مؤمنا قول مخصوص وهو الشهادتان، فكذلك العمل هو الصلاة. وأيضاً فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا، ومن لا دين له فهو كافر) (¬2). (2) تصريحه بأن انتفاء أعمال الجوارح مع القدرة والعلم بها لا يكون إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح: قال: (وهذه المسألة لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. والثاني: في إثبات الكفر الباطن. فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولا وعملا كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح) (¬3). (3) تصريحه بأن الرجل لا يكون مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي اختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) ((الإبانة)) (2/ 789) وما بعدها. وكلامه صريح في تكفير تارك العمل، وأنه أسوأ حالا من المنافقين، ولا يفهم منه تكفير المرجئة بإطلاق، بل كلامه عن المرجئة التاركين للعمل- مع الإقرار به-. وما ذكره من إطلاق الجحود على الترك، موافق لما نقله المروزي عن طائفة من أهل الحديث، قولهم: ( ... ولو أقر ثم لم يؤد، كان كمن جحده في المعنى، إذا استويا في الترك للأداء) انظر النص بتمامه في: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 517). (¬2) ((شرح العمدة)) (2/ 86). (¬3) ((الإيمان الأوسط)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 616). وزعم أحد المخالفين أن كلام شيخ الإسلام متعلق بإثبات الكفر في الباطن، وكلامنا متعلق بالحكم بالكفر في الظاهر، وأن تتمة كلام شيخ الإسلام متعلقة بالصلاة، فرجعنا إلى أصل مسألة الصلاة، وأن شيخ الإسلام قرر في ((مجموع الفتاوى)) (7/ 405) أن تقدير الأمور الممتنعة لا يكون إلا في الذهن. فهذه ثلاثة أمور زعم المخالف أنها نقاط مهمة لم يدركها من استشهد بهذا الكلام.

قال رحمه الله: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، لا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات، ولو قدّر أن يؤدي الواجبات لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة ويصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم. ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له أو جزءا منه- فهذا نزاع لفظي- كان مخطئا خطئا بينا، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف. والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها) (¬1). (4) تصريحه بأنه إذا انتفت أعمال الجوارح لم يبق في القلب إيمان: قال: (وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب (الموجز)، وهو أن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء كقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، ولم يقل: إن هذه الأعمال من الإيمان. قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمنا لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءا نزاع لفظي) (¬2). فتأمل قوله: (أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب) لتعلم أن هذا هو مقتضى التلازم عند شيخ الإسلام. (5) تصريحه بأن انتفاء اللازم الظاهر دليل على انتفاء الملزوم الباطن: قال: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين. ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن. فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان) (¬3). وقال: (وقيل لمن قال: دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي؛ فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن. فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة. قيل لك: فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له. بل قيل: حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له، ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذا عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك) (¬4). ¬

(¬1) ((الإيمان الأوسط)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 621)، وما بين المعكوفتين من تحقيق ((الإيمان الأوسط)) للدكتور علي بن بخيت الزهراني (ص577). (¬2) ((الإيمان)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 202). (¬3) ((الإيمان الأوسط)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 554). (¬4) ((الإيمان الأوسط)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 579).

وقال أيضا: (وقوله: ليس الإيمان بالتمني يعني: الكلام. وقوله: بالتحلي يعني: أن يصير حلية ظاهرة له، فيظهره من غير حقيقة من قلبه. ومعناه: ليس هو ما يظهر من القول، ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم) (¬1). وقال: (والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة. وإيمان القلب لابد فيه من تصديق القلب وانقياده، وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته لم يكن قد آمن قلبه) (¬2). (6) تصريحه بأن قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن ممتنع: قال: (وأيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا، وهذا باطل قطعا؛ فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه، فهو كافر قطعا بالضرورة. وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا؛ لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، بل من كان مؤمناً بالله ورسوله بقلبه هل يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره، هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول، فمن المعلوم أن هذا ممتنع) (¬3). (7) تصريحه بأن مذهب السلف وأهل السنة، أنه متى وجد الإيمان الباطن، وجدت الطاعات: قال: (وقول القائل: (الطاعات ثمرات التصديق الباطن) يراد به شيئان: يراد به أنها لوازم له، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت. وهذا مذهب السلف وأهل السنة) (¬4). (8) تصريحه بأن وجود إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع: قال: (فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل. ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان. وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزءاً من الإيمان،) (¬5). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 294). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 269)، ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص132). (¬3) ((الإيمان الأوسط)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 556). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 363). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 363).

تنبيه: قوله: (إيمان القلب التام) المراد به الصحيح المجزئ، لا الكامل، كما فهم البعض، ويدل على ذلك ما سبق من جزمه رحمه الله بأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وأنه لا يبق في القلب إيمان، وأن انتفاء الأعمال الظاهرة إنما يكون مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح، وغير ذلك مما هو صريح لا يحتمل التأويل، بل يدل على ذلك سياق كلامه في هذا الموضع، فإنه في معرض التقرير لكفر تارك الصلاة، والرد على من لا يكفره ولو أصرّ على الترك حتى يقتل. وذكر قبلها مثالين: الأول: من أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول: أشهدا أن ما فيه كلام الله. والثاني: من جعل يقتل نبيا من الأنبياء، ويقول: أشهد أنه رسول الله، (ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال، كان كاذبا فيما أظهره من القول. فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن ... ) الخ. فالكلام ليس في نقص الإيمان، بل في زواله، فتنبه. وقد استعمل شيخ الإسلام مصطلح (إيمان القلب التام) بمعنى (الإيمان الصحيح أو المجزئ الذي يقابله الكفر) في مواضع، منها: 1 - قوله: (وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر، كما في (المسند) عن النبي أنه قال: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬1). ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد. وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة. فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام. وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع؛ إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فان من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك) (¬2). فانظر قوله: (فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام) وتأمل هل يصح أن يحمل ذلك على الإيمان الكامل؟! إن ذلك يعني صحة إيمان من ترك الشهادتين مع القدرة! وقد مضى أن أهل السنة مجمعون على كفر من ترك الشهادتين مع القدرة. 2 - وقريب من هذا قوله: (ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة، لزم وجود الأفعال الظاهرة؛ فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري. فإذا أقر القلب إقرارا تاما بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبه محبة تامة، امتنع مع ذلك أن لا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزا لخرس ونحوه، أو الخوف ونحوه، لم يكن قادرا على النطق بهما) (¬3). ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 134) (12404) من حديث أنس رضي الله عنه، وليس فيه: (والإيمان أن تؤمن بالله ... ). والحديث ضعفه شعيب الأرناؤوط في تحقيق ((المسند))، والألباني في ((ضعيف الجامع الصغير)) (2280). (¬2) ((الإيمان الأوسط)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 553). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (10/ 272).

قلت: التام هنا بمعنى الصحيح قطعا، ولا يجوز حمله على (الكامل) وإلا للزم صحة إقرار القلب، وصحة المحبة، مع عدم التكلم بالشهادتين مع القدرة. 3 - وقال رحمه الله في بيان أوجه تفاضل الإيمان: (أحدها: الأعمال الظاهرة فإن الناس يتفاضلون فيها وتزيد وتنقص، وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان، فالنفاة يقولون هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأُدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال: قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازما أو جزءا منه فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان مفردا أو مقرونا بلفظ الإسلام والعمل) (¬1). و (الإيمان التام) هنا هو الصحيح ولا شك، ولو فسر بالكامل للزم أن يصح الإيمان مع تخلف القول، ولا قائل به من أهل السنة. 4 - وقال أيضا: (وأما إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، فما قام بأنفسهم من الكفر وإرادة العلو والحسد، منع من حب الله وعبادة القلب له الذي لا يتم الإيمان إلا به، وصار فى القلب من كراهية رضوان الله واتباع ما أسخطه ما كان كفرا لا ينفع معه العلم) (¬2). والتمام هنا بمعنى الصحة من غير شك. 5 - وقال: (وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصا يستحق صاحبه العقوبة ... ) فالتمام هنا بمعنى الصحة، دون شك، وقد أكثر المخالف من الاستشهاد بهذا النص دون أن ينتبه لهذا المعنى! وهذا-وغيره- يؤكد أن استعمال التام بمعنى الصحيح أو المجزئ أو أصل الإيمان، هو الغالب في كلام شيخ الإسلام، وقد قال: (فإنه يجب أن يُفسّر كلام المتكلم بعضُه ببعض، ويؤخذ كلامُه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته (وما) يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرْفه وعادتُه في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يُستعان به على معرفة مراده. وأما إذا استُعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وتُرك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحُمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ، بجعلِ كلامه متناقضا، وتركِ حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه، وتبديلا لمقاصده، وكذبا عليه) (¬3). (9) تصريحه بأنه لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح: قال: (وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب) (¬4). قلت: فإذا عدمت أعمال الجوارح بالكلية، لم يتصور وجود الإيمان الواجب في القلب. وعلى فرض أن شيخ الإسلام يريد بالإيمان الواجب هنا ما زاد على أصل الإيمان الصحيح المجزئ، فإنه يسقط الاستشهاد به، لكنه لا ينافي عباراته الماضية التي يصرح فيها بأنه لم يبق في القلب إيمان، بل الكفر والزندقة، لأنا نقول: ترك العمل الظاهر بالكلية دليل على عدم وجود الإيمان القلبي الصحيح، وعلى عدم وجود ما زاد على الصحيح من باب أولى. (10) تصريحه بأن ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب: ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 562). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 562). (¬3) ((الجواب الصحيح)) (4/ 44). (¬4) ((الإيمان)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) (7/ 198).

قال: (فالسلف يقولون: ترك الواجبات الظاهرة، دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب، الذي هو حب الله ورسوله، وخشية الله، ونحو ذلك، لا يستلزم ألا يكون في القلب من التصديق شيء. وعند هؤلاء (¬1) كل من نفى الشرع إيمانه دلّ على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطة عند جماهير العقلاء) (¬2). قلت: الإيمان الواجب هنا، هو الإيمان الصحيح المجزئ، بدليل قوله: (لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب ... لا يستلزم ألا يكون في القلب من التصديق شيء). وسياق الكلام يفيد بأن شيخ الإسلام يسلم للمخالف بأن إيمان القلب يذهب وينتفي، لكن ليس لذهاب التصديق فقط، بل قد يكون بذهاب عمل القلب، وهذا يدل على أن المراد بانتفاء الإيمان الواجب من القلب: انتفاء الإيمان الصحيح المجزئ، المترتب على (زوال عمل القلب). (11) تصريحه بأنه لابد في الإسلام من الإتيان بأصل الطاعة في الظاهر: قال: (فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا بمؤمنين: محمد رسول الله، كقول أولئك اليهود وغيرهم، فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الذي قال الله فيه: الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم، لا ينفعهم مجرد الخبر، بل لابد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنه لابد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد وأصل الطاعة) (¬3). وهذا كما ترى صريح في اشتراط أربعة أمور، هي أركان الحقيقة المركبة، قول القلب وعمله، وقول اللسان وأصل عمل الجوارح، وسماه هنا: أصل الطاعة، وبين أنه لا ينفع الكافر وجود التصديق مع قول اللسان، ما لم يقترن التصديق بالعمل الباطن، ويقترن قول اللسان بالعمل الظاهر، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن التلازم بين الظاهر والباطن إنما هو في الإيمان المطلق أو الكامل لا في أصل الإيمان. 15 - الإمام ابن القيم رحمه الله، ت:751هـ (1) تصريحه بأن تخلف العمل الظاهر دليل على فساد الباطن. قال: (الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية. ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان. ونقصه دليل نقصه. وقوته دليل قوته. فالإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوةً فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول) (¬4). وقال: (فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة، فليس بنافع، حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن. وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة، لا تنفع ولو كانت ما كانت، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف، ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع، لم ينجه ذلك من النار، كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار) (¬5). (2) تصريحه بأن من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية: ¬

(¬1) أي: الأشعري – قبل رجوعه لمذهب أهل السنة والجماعة- والباقلاني ومن قبلهم ممن نصر قول جهم في الإيمان. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 148). (¬3) ((التسعينية)) (2/ 673). (¬4) ((الفوائد)) (ص85). (¬5) ((الفوائد)) (ص142).

قال: (على أنا نقول: لا يصر على ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدّق بأن الله أمر بها أصلا، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها، هذا من المستحيل قطعا، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها. وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك، في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق، وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية ... ) (¬1). (3) تصريحه بأن التصديق لا يصح إلا بالعمل: قال: (فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما اعتقاد الصدق، والثاني محبة القلب وانقياده، ولهذا قال تعالى لإبراهيم: يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 104 - 105]، وإبراهيم كان معتقداً لصدق رؤياه من حين رآها، فإن رؤيا الأنبياء وحي، وإنما جعله مصدقاً لها بعد أن فعل ما أمر به، وكذلك قوله: ((وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ)) (¬2)، فجعل التصديق عمل الفرج ما يتمنى القلب، والتكذيب تركه لذلك، وهذا صريح في أن التصديق لا يصح إلا بالعمل. وقال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. وقد روي هذا مرفوعاً، والمقصود أنه يمتنع مع التصديق الجازم بوجوب الصلاة، (و) الوعد على فعلها والوعيد على تركها. وبالله التوفيق) (¬3). وقال رحمه الله: (وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده، الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم، كما تقدم تقريره؛ فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق ..... وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهُدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى، فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقاً فليس هو التصديق المستلزم للإيمان. فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته) (¬4). 16 - الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ت: 1206هـ قال: (اعلم رحمك الله أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب وبالبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث كفر وارتد) (¬5). 17 - الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ت: 1376هـ ¬

(¬1) ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص35). (¬2) رواه البخاري (6243)، ومسلم (2657). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص37)، وما بين المعكوفتين زيادة يقتضيها السياق. (¬4) ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص46). (¬5) ((الدرر السنية)) (10/ 87).

قال: فائدة (الإيمان يشمل عقائد الدين وأعمال القلوب والجوارح) توضيح أن الإيمان يشمل عقائد الدين، وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، كما دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه السلف الصالح، وبيان ارتباط بعضها ببعض: وذلك أن العبد إذا سمع النصوص من الكتاب والسنة، الدالة على صفات الله إثباتا ونفيا، وعلى تصديق رسوله، وعلى الإخبار بكل الغيوب، وعلى الأمر بالخير والنهي عن الشر، فإنه يفهمها أولا، فإذا فهمها وعرفها، اعترف القلب بها، وصدقها تصديقا لا ريب فيه، تصديقا لله ولرسوله، وذلك يقتضي محبتها، والتقرب إلى الله باعتقاد ما دلت عليه، والجزم بأنه الحق النافع، فإذا عرف الله ورسوله وأحبه، أحب كل ما يقرب إلى الله، وكره كل ما يبغضه ويمقته، وحينئذ ينقاد القلب انقيادا جازما لطاعة الله وطاعة رسوله، فيقصد ويريد فعل ما يقدر عليه من محبوبات الله، من واجب ومستحب قصدا جازما، يترتب عليه وجود ما قصده وأراده، ويقصد اجتناب ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله قصدا جازما، يقترن به الترك، وهذا هو معنى قوله: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنا [آل عمران:193]، وقول المؤمنين: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285]، ومنّة الله عليهم بقوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7] الآية، فتبين أن هذه الأمور: التصديق، والاعتراف، والحب، والانقياد، ووجود مُقتضَى هذا الانقياد، متلازمة، مرتبط بعضها ببعض، إذا تم واحد منها وكمل، عُلم أن جميعها قد كملت، وإذا انتفى واحد منها بالكلية: عُلم أن جميعها انتفت، وإذا نقص واحد منها فلنقصٍ في بقيتها، فافهم هذا الإيضاح في بيان الإيمان، ولهذا مثل الله الإيمان بالشجرة في وجودها، وكمالها، ونقصها، على هذا الوصف الذي ذكرنا، والله أعلم) (¬1). وهذا صريح في إثبات التلازم والارتباط بين أجزاء الإيمان، وأنه إذا انتفى عمل الجوارح بالكلية عُلم انتفاء بقية الأجزاء، وكذا لو انتفى التصديق، أو انتفى عمل القلب. وقال في تفسير قوله تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36] (أي جمعوا بين الإيمان الصحيح، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة، وبين التوكل، الذي هو الآلة لكل عمل، فكل عمل لا يصحبه التوكل، فغير تام) (¬2). وقال: (وقد يعطف الله على الإيمان الأعمال الصالحة، أو التقوى، أو الصبر، للحاجة إلى ذكر المعطوف؛ لئلا يظن الظان أن الإيمان يكتفى فيه بما في القلب. فكم في القرآن من قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ ثم يذكر خبرا عنهم. والأعمال الصالحات من الإيمان، ومن لوازم الإيمان، وهي التي يتحقق بها الإيمان. فمن ادعى أنه مؤمن، وهو لم يعمل بما أمر الله به ورسوله من الواجبات، ومن ترك المحرمات، فليس بصادق في إيمانه) (¬3). 18 - الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، ت:1377هـ ¬

(¬1) ((مجموع الفوائد واقتناص الأوابد)) (ص49) وما بعدها. (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص705). (¬3) ((التوضيح والبيان لشجرة الإيمان)) (ص93) وما بعدها.

قال: (ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) (¬1). ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة؛ أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهراً وباطناً، لم يعنوا مجرد التصديق) (¬2). 19 - الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ت:1389هـ قال: (فدل على أن مجرد قول لا إله إلا الله لا يمنع من التكفير، بل يقولها ناس كثير ويكونون كفارا: إما لعدم العلمِ بها، أو العملِ بها، أو وجود ما ينافيها، فلابد مع النطق بها من أشياء أخر، أكبرها معرفة معناها والعمل به) (¬3). 20 - الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، ت: 1420هـ وقد زعم البعض أنه يرى مسألة ترك عمل الجوارح بالكلية، مسألةً خلافية بين أهل السنة، وهذا زعم باطل، فالشيخ: يجزم بأن العمل ركن في الإيمان، وأن القول بأنه شرط كمال قول المرجئة، لا قول أهل السنة، ويرى أنه لا يتصور وجود الإيمان مع ترك جميع العمل، وتولى التحذير من القول المخالف الذي يحكم بإسلام تارك العمل بالكلية، وقرظ وأقرّ ما فيه التصريح بأن ترك جميع العمل كفر. وإليك البيان من ثمانية أوجه: الأول: أن الشيخ صرح في حوار أجرته معه مجلة المشكاة بأن مقولة: "العمل شرط كمال" هي مقولة المرجئة، وهذا نص الحوار: (المشكاة: ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح عندما تكلم على مسألة الإيمان والعمل، وهل هو داخل في المسمى، ذكر أنه شرط كمال، قال الحافظ (السلف قالوا .... ). الشيخ ابن باز: لا، هو جزء، ما هو بشرط، هو جزء من الإيمان، الإيمان قول وعلم وعقيدة أي تصديق، والإيمان يتكون من القول والعمل والتصديق عند أهل السنة والجماعة. المشكاة: هناك من يقول بأنه داخل في الإيمان لكنه شرط كمال؟ الشيخ: لا، لا، ما هو بشرط كمال، جزء، جزء من الإيمان. هذا قول المرجئة، المرجئة يرون الإيمان قول وتصديق فقط، والآخرون يقولون: المعرفة. وبعضهم يقول: التصديق. وكل هذا غلط. الصواب عند أهل السنة أن الإيمان قول وعمل وعقيدة، كما في الواسطية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. المشكاة: المقصود بالعمل جنس العمل؟ الشيخ: من صلاة وصوم وغيره. عمل القلب من خوف ورجاء. المشكاة: يذكرون أنكم لم تعلقوا على هذا في أول الفتح؟ الشيخ: ما أدري، تعليقنا قبل أربعين سنة، قبل أن نذهب إلى المدينة، ونحن ذهبنا للمدينة في سنة 1381 هـ، وسجلنا تصحيحات الفتح أظن في 1377هـ أو 87 (لعلها 78) أي تقريبا قبل أربعين سنة. ما أذكر يمكن مرّ ولم نفطن له) (¬4). الثاني: أن الشيخ حذر من كتاب (ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه)، واعتبر كتابه داعيا لمذهب الإرجاء المذموم وأنه لا يعتبر الأعمال الظاهرة في حقيقة الإيمان. والكتاب المحذَّر منه يرى أن عمل الجوارح شرط كمال في الإيمان، وأن تاركه بالكلية مسلم عاص معرض للوعيد. ولو كان الشيخ يراها مسألة خلافية لما حذر من كتابه ولما وصفه بالإرجاء. الثالث: أن الشيخ أقر ما تعقب به الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل كلام الحافظ ابن حجر، وذلك في كتابه: (التنبيه على المخالفات العقدية في الفتح) (ص28) ¬

(¬1) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). (¬2) ((معارج القبول)) (2/ 594). (¬3) ((شرح كشف الشبهات)) جمع محمد بن عبدالرحمن بن قاسم، ص (111). (¬4) ((مجلة المشكاة)) المجلد الثاني، الجزء الثاني (ص: 279، 280).

قال المؤلف: (الصواب أن الأعمال عند السلف الصالح قد تكون شرطا في صحة الإيمان، أي أنها من حقيقة الإيمان، قد ينتفي الإيمان بانتفائها كالصلاة. وقد تكون شرطا في كماله الواجب فينقص الإيمان بانتفائها كبقية الأعمال التي تركها فسق ومعصية وليس كفرا، فهذا التفصيل لابد منه لفهم قول السلف الصالح وعدم خلطه بقول الوعيدية. مع أن العمل عند أهل السنة والجماعة ركن من أركان الإيمان الثلاثة: قول وعمل واعتقاد، والإيمان عندهم يزيد وينقص خلافا للخوارج والمعتزلة، والله ولي التوفيق) (¬1). الرابع: أن الشيخ قد أقر ما هو أبلغ من ذلك وأظهر في نقد كلام ابن حجر وبيان معتقد أهل السنة، وذلك بإقراره ما كتبه الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف في كتابه: (التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد)، حيث علق المؤلف في الهامش بقوله: (وكلامه هذا عليه مآخذ أهمها نسبته القول بأن الأعمال شرط في كمال الإيمان للسلف، وهو على إطلاقه غير صحيح، بل في ذلك تفصيل: فالأعمال المكفرة سواء كانت تركا، كترك جنس العمل أو الشهادتين أو الصلاة، أو كانت فعلا كالسجود لصنم أو الذبح لغير الله، فهي شرط في صحة الإيمان، وما كان ذنبا دون الكفر فشرط كمال. وإنما أوردت كلامه هنا لحُكمه بالكفر على من فعل فعلا يدل على كفره كالسجود لصنم دون أن يقيده بالاعتقاد. على أن هذه العبارة فيها نظر أيضا، فالسجود لصنم كفر بمجرده وليس فعلا يدل على الكفر) (¬2). وقد أثنى الشيخ على الكتاب وقال: (فألفيتها رسالة قيمة مفيدة يحسن طبعها ونشرها ليستفيد منها المسلمون). الخامس: أن الشيخ قرظ كتاب (درء الفتنة عن أهل السنة) للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد حفظه الله، وقد جاء في الكتاب: (وإياك ثم إياك- أيها المسلم- أن تغتر بما فاه به بعض الناس من التهوين بواحد من هذه الأسس الخمسة لحقيقة الإيمان، لا سيما ما تلقفوه عن الجهمية وغلاة المرجئة من أن العمل كمالي في حقيقة الإيمان ليس ركنا فيه، وهذا إعراض عن المحكم من كتاب الله تعالى في نحو ستين موضعا، مثل قول الله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، ونحوها في السنة كثير، وخرق لإجماع الصحابة ومن تبعهم بإحسان) (¬3). والأسس الخمسة المشار إليها هي أن الإيمان: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. قال الشيخ ابن باز في تقريظه: (أما بعد: فقد اطلعت على هذه الرسالة الموسومة بـ (درء الفتنة عن أهل السنة) من مؤلفات أخينا العلامة الدكتور بكر بن عبدالله أبو زيد، فألفيتها رسالة قيمة مفيدة جديرة بالنشر والتوزيع. جزى الله مؤلفها خيرا وضاعف مثوبته ونصر به الحق، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه) (¬4). السادس: أن الشيخ يرى كفر من ترك عمل الجوارح بالكلية، وهذا يعلم من: تصريحه بكفر تارك الصلاة، فتارك الصلاة وما معها من أعمال الجوارح لا شك في كفره عند الشيخ، من باب أولى. وليست المسألة راجعة إلى قضية الصلاة، حتى يدعى الخلاف فيها، بناء على الخلاف المشهور في حكم تارك الصلاة، بل جميع أهل السنة يرون ركنية العمل وضرورة وجوده ليصح الإيمان، سواء قالوا بكفر تارك الصلاة أو نازعوا في ذلك. يوضحه الوجه: ¬

(¬1) ((التنبيهات على المخالفات العقدية في فتح الباري)) (ص28). (¬2) ((التوسط والاقتصاد)) (ص: 71). (¬3) ((درء الفتنة عن أهل السنة)) (ص: 34). (¬4) ((درء الفتنة عن أهل السنة)) (ص: 11).

السابع: أن الشيخ أجاب أحد طلابه بجوابٍ فصلٍ في هذه المسألة، مبيناً الفرق بين ترك آحاد الأعمال، وتركِ العمل جملة، وأن أهل السنة متفقون على أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان. قال الأخ عبد العزيز بن فيصل الراجحي حفظه الله: (وقد سألت شيخنا الإمام ابن باز عام (1415هـ) وكنا في أحد دروسه عن الأعمال: أهي شرط صحة للإيمان، أم شرط كمال؟ فقال: من الأعمال شرط صحة للإيمان لا يصح الإيمان إلا بها كالصلاة، فمن تركها فقد كفر. ومنها ما هو شرط كمال يصح الإيمان بدونها، مع عصيان تاركها وإثمه (¬1). فقلت له: من لم يكفر تارك الصلاة من السلف، أيكون العمل عنده شرط كمال؟ أم شرط صحة؟ فقال: لا، بل العمل عند الجميع شرط صحة، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه؛ فقالت جماعة: إنه الصلاة، وعليه إجماع الصحابة كما حكاه عبدالله بن شقيق. وقال آخرون بغيرها. إلا أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً. لهذا الإيمان عندهم: قول وعمل واعتقاد، لا يصح إلا بها مجتمعة) (¬2). الثامن: أن الشيخ ابن باز سئل ما نصه: من شهد أن لا إله إلا الله واعتقد بقلبه ولكن ترك جميع الأعمال، هل يكون مسلماً؟ فأجاب: (لا، ما يكون مسلماً حتى يوحد الله بعمله، يوحد الله بخوفه ورجاءه، ومحبته، والصلاة، ويؤمن أن الله أوجب كذا وحرم كذا. ولا يتصور، ما يتصوّر أن الإنسان المسلم يؤمن بالله يترك جميع الأعمال، هذا التقدير لا أساس له. لا يمكن يتصور أن يقع من أحد. نعم؛ لأن الإيمان يحفزه إلى العمل. الإيمان الصادق) (¬3). تعليق: مع وضوح كلام الشيخ وكثرته في بيان هذه المسألة، إلا أن المخالف أعرض عنه، وتمسك بكلامه في حكاية خلاف أهل السنة في حكم تارك الصلاة، أو تارك المباني الأربعة، وهذا خارج عن محل النزاع، فكلامنا في ترك العمل الظاهر بالكلية، لا في ترك بعض الأعمال. ومن ذلك استشهادهم بحوار أجرته مجلة الفرقان مع الشيخ، جاء فيه: (س: العلماء الذين قالوا بعدم كفر من ترك أعمال الجوارح مع تلفظه بالشهادتين ووجود أصل الإيمان القلبي هل هم من المرجئة؟ فقال الشيخ: هذا من أهل السنة والجماعة، فمن ترك الصيام أو الزكاة أو الحج لا شك أن ذلك كبيرة عند العلماء، ولكن على الصواب لا يكفر كفراً أكبر، أما تارك الصلاة، فالأرجح أنه كافر كفراً أكبر إذا تعمد تركها، وأما تارك الزكاة والصيام والحج فإنه كفر دون كفر. السائل: أعمال الجوارح هل هي شرط كمال أم شرط صحة الإيمان؟ الشيخ: إن أعمال الجوارح كالصوم هي من كمال الإيمان والصدقة والزكاة من كمال الإيمان وتركها ضعف في الإيمان، أما الصلاة فالصواب أن تركها كفر، فالإنسان عندما يأتي بالأعمال الصالحة فإن ذلك من كمال الإيمان) انتهى. قلت: هذا أعلى ما استشهدوا به من كلام الشيخ رحمه الله في هذه المسألة، ولا معارضة بينه وبين ما نقلته عنه، فكلامه هنا عن ترك آحاد العمل، كالصيام أو الزكاة أو الحج، أو الصلاة، والخلاف فيها معتبر بين أهل السنة، ولم يتحدث الشيخ عن ترك جميع العمل، وإن كان السائل أراد هذا، لكن لا يخفى أن عبارة: (ترك أعمال الجوارح) تحتمل الترك الكلي، وتحتمل ترك البعض، والشيخ على كل تقدير، أجاب عن ترك البعض. ¬

(¬1) علق الشيخ صالح الفوزان حفظه الله على هذا الموضع قائلاً: (لكن جنس العمل هو من حقيقة الإيمان، وليس شرطاً فقط) انظر هامش: ((أقوال ذوي العرفان)) (ص146). (¬2) نقلاً عن جريدة الرياض، عدد (12506) بتاريخ 13/ 7/1423هـ، وسيأتي الجواب عن الشبهة وهي قولهم: إن المسألة راجعة إلى الخلاف في تكفير تارك الصلاة. (¬3) أشرطة ((فتح المجيد شرح كتاب التوحيد))، إصدار تسجيلات البردين الشريط رقم (2) الوجه الثاني.

وأما ما نقلته عنه فهو صريح في الترك الكلي، وفي الحكم على القول المخالف بأنه قول المرجئة، فلا يَترك هذا، ويتمسك بما هو خارج عن محل النزاع، من يريد الحق وينشده، والموفق من وفقه الله. 21 - الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ت: 1420هـ قال: (إن الإيمان بدون عمل لا يفيد؛ فالله حينما يذكر الإيمان يذكره مقرونًا بالعمل الصالح؛ لأننا لا نتصور إيمانًا بدون عمل صالح، إلا أن نتخيله خيالا؛ آمن من هنا، قال: أشهد ألا إله إلا الله ومحمد رسول الله، ومات من هنا. هذا نستطيع أن نتصوره، لكن إنسان يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ ويعيش دهره مما شاء الله ولا يعمل صالحًا؛ فعدم عمله الصالح هو دليل أنه يقولها بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه؛ فذكر الأعمال الصالحة بعد الإيمان ليدل على أن الإيمان النافع هو الذي يكون مقرونًا بالعمل الصالح) (¬1). 22 - الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، ت: 1421هـ وكلامه في هذه المسألة مستفيض، ومذهبه واضح بيّن، لا يشتبه على من قرأ كلامه، وقد سقت منه اثني عشر موضعا: (1) قال في شرح (كشف الشبهات): (ختم المؤلف هذه الشبهات بمسألة عظيمة هي: أنها لابد أن يكون الإنسان موحدا بقلبه، وقوله، وعمله، فإن كان موحدا بقلبه، ولكنه لم يوحد بقوله أو بعمله (¬2) فإنه غير صادق في دعواه؛ لأن توحيد القلب يتبعه توحيد القول والعمل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) (¬3)، فإذا وحد الله كما زعم بقلبه ولكنه لم يوحده بقوله أو فعله؛ فإنه من جنس فرعون الذي كان مستيقناً بالحق عالماً، لكنه أصر وعاند وبقي على ما كان عليه من دعوى الربوبية) (¬4). وسئل: عفا الله عنك يا شيخ، ورد عن بعض السلف في حديث أنه من شهد بالتوحيد دخل الجنة أنه منسوخ بأحاديث الفرائض، فهل هذا قول صحيح؟ فأجاب: (الصحيح أنه لا نسخ بهذا، ولكن ليكن معلوما أن من شهد بالتوحيد مخلصا، فلا يمكن أن يدع الفرائض؛ لأن إخلاصه يحمله على أن يفعل. كيف تشهد ألا إله إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله، وكيف تقول: أنا أريد بذلك وجه الله، ثم لا تعمل العمل الذي يوصلك إلى الله؟! فهذا لا يمكن، ولهذا كان من حافظ على ترك الصلاة ولم يصل أبدا كافر، فلو قال: أشهد ألا إله إلا الله وأومن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولكن لا أصلي، نقول: أنت كافر، لا فرق بينك وبين الذي يسجد للصنم؛ ولهذا جاء في رواية مسلم من حديث جابر: ((بَيْن الرَّجل وَبَيْن الكُفر وَالشِّرْكِ ترْكُ الصَّلاةِ))) (¬5). ¬

(¬1) من ((شرح الأدب المفرد)) الشريط السادس، الوجه الأول. وما ورد عن الشيخ من أن العمل شرط كمال، يمكن حمله على آحاد الأعمال، كما هو أحد الأوجه في الجواب على ما نسبه الحافظ ابن حجر إلى السلف. (¬2) انظر كيف سوّى الشيخ رحمه الله بين القول والعمل، فجعل من وحد بقلبه ولم يوحد بعمله، كمن وحد بقلبه ولم يوحد بقوله، ثم جعل القول والعمل تابعين لتوحيد القلب، مصدّقين له. (¬3) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). (¬4) ((شرح كشف الشبهات))، ضمن ((مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين)) (7/ 100). (¬5) لقاءات الباب المفتوح (2/ 470)، سؤال رقم (1124).

(3) وقال في شرح حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه: ((فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ)) (¬1): (قوله: ((مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ)) أي بشرط الإخلاص، بدليل قوله: ((يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ)) أي: يطلب وجه الله، ومن طلب وجها، فلابد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه فلا نحتاج إلى قول الزهري بعد أن ساق الحديث، كما في (صحيح مسلم) حيث قال: ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحرمت أمور؛ فلا يغتر مغتر بهذا. فالحديث واضح الدلالة على شرطية العمل لمن قال لا إله إلا الله، حيث قال: ((يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ))، ولهذا قال بعض السلف عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) (¬2): لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له) (¬3). (4) وقال: (وترك الصلاة كفر مخرج عن الملة إذا تركها الإنسان ولم يصل، لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وقد حكى بعض أهل العلم إجماع الصحابة على ذلك، ولا شك أن الذي لا يصلي ليس في قلبه إيمان؛ لأن الإيمان مقتضٍ لفعل الطاعة، وأعظم الطاعات البدنية الصلاة، فإذا تركها فهو دليل أنه ليس في قلبه إيمان، وإن ادعى أنه مؤمن، فإن من كان مؤمناً فإنه بمقتضى هذا الإيمان يكون قائماً بهذه الصلاة العظيمة) (¬4). (5) وسئل رحمه الله: عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: شَفَعَتْ الْمَلائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَرْحَمُ الراحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)) رواه مسلم (¬5)، ما معنى قوله: ((لم يعملوا خيرا قط))؟ فأجاب: (معنى قوله: ((لم يعملوا خيرا قط)) أنهم ما عملوا أعمالا صالحة، لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل، آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل، وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيرا قط. وإما أن يكون هذا الحديث مقيداً بمثل الأحاديث الدالة على أن بعض الأعمال الصالحة تركها كفر كالصلاة مثلا، فإن من لم يصل فهو كافر ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة وهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين والعياذ بالله. فالمهم أن هذا الحديث إما أن يكون في قوم آمنوا ولم يتمكنوا من العمل فماتوا فور إيمانهم، فما عملوا خيرا قط. ¬

(¬1) رواه البخاري (425)، ومسلم (33). (¬2) عزاه الحافظ في ((الفتح)) (3/ 109) إلى ابن اسحاق في ((السيرة)) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل العلاء بن الحضرمي قال له: ((إذا سئلت عن مفتاح الجنة فقل مفتاحها لا إله إلا الله". قال الحافظ: وروي عن معاذ بن جبل مرفوعا نحوه، رواه البيهقي في ((الشعب))، وزاد: "ولكن مفتاح بلا أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك)). وقال البخاري في (صحيحه): (باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك). قال الحافظ: وأما أثر وهب فوصله المصنف في ((التاريخ)) وأبو نعيم في ((الحلية)). (¬3) ((القول المفيد شرح كتاب التوحيد)) (1/ 74). (¬4) ((مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين)) (12/ 39). (¬5) رواه مسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وإما أن يكون هذا عاما ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية على أنه لا بد أن يعمل كالصلاة، فمن لم يصل فهو كافر لا تنفعه الشفاعة ولا يخرج من النار) (¬1). (6) وسئل: كيف التوفيق بين قوله صلى الله عليه وسلم في أقوام يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة، والأحاديث التي جاءت بكفر تارك الصلاة؟ فأجاب: (يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: إنهم يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة على أناس يجهلون وجوب الصلاة، كما لو كانوا في بلاد بعيدة عن الإسلام، أو في بادية لا تسمع عن الصلاة شيئا. ويحمل أيضا على من ماتوا فور إسلامهم دون أن يسجدوا لله سجدة. وإنما قلنا ذلك لأن هذا الحديث الذي ذكرت من الأحاديث المتشابهة، وأحاديث كفر تارك الصلاة من الأحاديث المحكمة البينة، والواجب على المؤمن في الاستدلال بالقرآن أو السنة أن يحمل المتشابه على المحكم. واتباع المتشابه واطّراح المحكم طريقة من في قلوبهم زيغ والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَما الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7]) (¬2). (7) وسئل: استدل بعض العلماء على عدم كفر تارك الصلاة بحديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري ومسلم ... فما قولكم حفظكم الله تعالى؟ فأجاب بقوله: (حديث الشفاعة الذي استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة عام مخصوص بلا ريب، فإنه مخصوص بمن قال لا إله إلا الله وأتى مكفراً، مثل أن يقول: لا إله إلا الله وهو ينكر تحريم الربا، أو فرضية الصلاة ونحو ذلك، لم يخرج من النار بشفاعة ولا غيرها، فكذلك من قال: لا إله إلا الله، وترك الصلاة، فإنه لا يخرج من النار بشفاعة ولا غيرها، لأنه كافر، فأي فرق بين من كفر بجحد فرضية الصلاة مع نطقه بالشهادة، ومن كفر بترك الصلاة مع نطقه بالشهادة؟!! فكما أن الأول لا يدخل في الحديث فكذلك الثاني. وأيضاً فإن قوله: ((لم يعمل خيراً قط)) عام يدخل فيه من لم يصل؛ لأن الصلاة من الخير، ولكن هذا العموم خُصَّ بالأدلة الدالة على كفر تارك الصلاة، فيخرج تارك الصلاة من عمومه، كما هو الشأن في العمومات المخصوصة) (¬3). (8) وسئل رحمه الله: يوجد قِبَلنا من يقول: الإيمان اعتقاد بالقلب، وتلفظ باللسان، وأصل عمل القلوب (¬4) فقال - وهو غاضب-: (أعوذ بالله، هذا قول المرجئة، وهو مذهب قديم معروف) (¬5). (9) وسئل: نرجو توضيح كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فالعمل يصدِّق أن في القلب إيمانا، وإذا لم يكن عمل كذّب أن في القلب إيمانا؛ لان ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. ¬

(¬1) ((مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين)) (2/ 2). (¬2) لقاءات الباب المفتوح (3/ 169) سؤال رقم (1258) (¬3) ((مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين)) (12/ 71) وما بعدها. (¬4) مما يؤسف له أن هذه المقالة الفاسدة راجت على بعض طلبة العلم، حتى ظنوا أن قول السلف: الإيمان قول وعمل، يعنون به الإيمان الكامل، وأما أصل الإيمان المخرج من الكفر فلا يشترط فيه شيء من عمل الجوارح، وهذا لا شك في بطلانه من وجوه، منها: أنه مخالف لإجماع السلف الذين قرروا أنه لا يجزئ التصديق والقول من دون عمل الجوراح. ومنها: أن هذا نفي للتلازم بين الظاهر والباطن، وتصورٌ لوجود عمل القلب مع تصديقه، دون أن يظهر موجب ذلك ولازمه على الجوارح. (¬5) ((تنبيه الإخوان إلى حقيقة الإيمان)) للأخ علي بن عبد العزيز موسى (ص69).

فأجاب: (كلام الشيخ ظاهر، وهو مروي عن الحسن البصري (أن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال)، وهذا معلوم من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْب)) (¬1)، فمعلوم أن القلب إذا كان فيه إيمان، فلا بد أن تظهر مقتضياته على الجوارح) (¬2). (10) وسئل: شخص قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه مصدقاً بقلبه مستسلماً منقاداً لكنه لم يعمل بجوارحه خيراً قط مع إمكان العمل هل هو داخل في المشيئة أم كافر؟ فأجاب: أقول والحمد لله رب العالمين: (إذا كان لا يصلي فهو كافر، ولو قال لا إله إلا الله. لو كان صادقاً بقول لا إله إلا الله مخلصاً بها والله لن يترك الصلاة، لأن الصلاة صلة بين الإنسان وبين الله فقد جاء في الأدلة من القرآن والسنة والنظر الصحيح وإجماع الصحابة كما حكاه غير واحد على أن تارك الصلاة كافر مخلد في نار جهنم وليس داخلاً تحت المشيئة. ونحن إذا قلنا بذلك لم نقله عن فراغ ونحن إذا قلنا بذلك فإنما قلناه لأنه من مدلولات كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأقوال الصحابة التي حُكي إجماعهم عليها. قال عبدالله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. ونقل إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة الحافظ ابن راهويه وهو إمام مشهور. أما سائر الأعمال إذا تركها الإنسان كان تحت المشيئة يعني لو لم يزك مثلاً فهذا تحت المشيئة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر عقوبة مانع الزكاة قال: ((ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِما إِلَى الْجَنَّةِ وَإِما إِلَى النارِ)) (¬3) ومعلوم أنه لو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة. والصيام والحج كذلك من تركها لم يكفر، وهو تحت المشيئة ولكنه يكون أفسق عباد الله) (¬4). قلت: تأمل قوله: (لو كان صادقاً بقول لا إله إلا الله مخلصاً بها والله لن يترك الصلاة) ففيه تقرير للتلازم بين الظاهر والباطن، ورد على من توهم حصول الإيمان في القلب مع تخلف العمل الظاهر جملة. ولهذا لما استقر هذا الوهم صاروا يفترضون مسائل لا يمكن وقوعها، كقولهم هنا: شخص قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه مصدقاً بقلبه مستسلماً منقاداً لكنه لم يعمل بجوارحه خيراً قط مع إمكان العمل! ومعلوم أن القلب لو استسلم وانقاد، لانقادت الجوارح ولابد، فمن جهة عدم إدراك التلازم بين الظاهر والباطن، غلط غالطون، كما قال شيخ الإسلام. (11) وسئل: كيف نفهم حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم وفيه: ((فَيُخْرِجُ اللَّهُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)) (¬5)؟ فأجاب: (نفهم هذا أنه عام وأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة، ومعلوم عند العلماء أن العام لا يخصص (¬6) بخاص، لأن هذا الحديث لم يقل: لم يصل، حتى نقول: إنه معارض للنصوص الدالة على كفر تارك الصلاة، بل قال: ((لم يعمل خيرا قط)) فلم ينص على الصلاة بل عمم، ونصوص كفر تارك الصلاة خاصة فتخص بما خصصت به) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). (¬2) الأسئلة القطرية، لقاء هاتفي، نظمته إدارة الدعوة بوزارة الأوقاف القطرية. (¬3) رواه مسلم (987). (¬4) الأسئلة القطرية. (¬5) رواه مسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬6) لعله: لا يعارَض، أو أن (لا) زائدة. (¬7) الأسئلة القطرية.

(12) وسئل: يقول البعض: إذا ترك عمل الجوارح بالكلية خرج من الإيمان ولكن لا يقتضي عدم انتفاعه بأصل الإيمان والشهادتين، بل ينتفع بهما، كمن أراد الحج ولم يشهد عرفة وهو ركن فإنه ينتفع بالأركان الأخرى، (¬1) فما قول فضيلتكم في ذلك؟ فأجاب: (نقول هذا ليس بصواب، إنه لن ينتفع بإيمانه مع ترك الصلاة التي دلت النصوص على كفر تاركها، وكذلك لو ترك الوقوف بعرفة، ما صح حجه كما دل على ذلك سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما من أدرك عرفة قبل الفجر يوم النحر فقد أدرك، ومن لا فلا، حتى لو جاء بعد ذلك بالرمي والمبيت في منى والطواف والسعي لم يكن حج) (¬2). تعليق: المتأمل في كلام الشيخ يرى أنه يسير على منوال واحد، هو تقرير أن عمل الجوارح من الإيمان، وأن تاركه بالكلية كافر، وأنه لو وجد إيمان القلب فلابد أن يظهر مقتضاه على الجوارح، وأن حديث: ((لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)) - وهو أقوى دليل للقائلين بإسلام تارك العمل الظاهر- حديث عام، مخصص بأدلة تكفير تارك الصلاة، أو محمول على حالة من لم يتمكن من العمل. وبهذا يتضح جليا أنه لا خلاف بين الشيخ وبين أهل العلم الذين حذروا من الكتب الداعية للإرجاء في هذا العصر. غاية الأمر أن الشيخ أعرض عن تعبير: (جنس العمل) وقال حين سئل: (تارك جنس العمل كافر. تارك آحاد العمل ليس بكافر، ما رأيكم في ذلك؟) قال: (من قال هذه القاعدة؟! من قائلها؟! هل قالها محمد رسول الله؟! كلام لا معنى له. نقول: من كفره الله ورسوله فهو كافر، ومن لم يكفره الله ورسوله فليس بكافر هذا الصواب. أما جنس العمل أو نوع العمل أو آحاد العمل فهذا كله طنطنة لا فائدة منها) (¬3). وهذا إعراض عن المصطلح، مع الموافقة على المضمون كما سبق، وهو اجتهاد من الشيخ لفض النزاع وتقليل الخلاف، فإنه قد دعي في هذا اللقاء ليحسم هذه المسألة، وأُخبر أن الخلاف دائر حولها، فرأى المصلحة في صرف المتنازعين عن الألفاظ المجملة، والاعتماد على المناطات الواضحة التي يمكن الركون إليها، فتارك العمل بالكلية، يحكم بكفره لأنه تارك للصلاة، وهذا مجمع عليه بين الصحابة كما أكد الشيخ، فلا مجال للخروج عن إجماعهم، مع تقرير أنه لا يمكن أن يوجد الإيمان في القلب مع ترك عمل الجوارح. وأيضا: فإن السؤال الذي عُرض على الشيخ، ينم عن جهل، وفتنة بالمصطلح، فقول السائل: (تارك جنس العمل كافر)، يقال فيه: عمل ماذا؟! عمل القلب أم عمل الجوارح أم كلاهما؟! وقوله: (تارك آحاد العمل ليس بكافر)، يقال فيه: أي عمل تريد؟ الصلاة؟ أم الزكاة؟ أم بر الوالدين؟ أم عمل القلب كالخوف والمحبة؟ فلا شك أن هذا السؤال طنطنة، بل عيّ وجهل. ولله دره، فقد حدث بعده أن اختلف المختلفون في المراد بجنس العمل، فمنهم من قال: المراد به ترك العمل الظاهر كله، ومنهم من قال: بل المراد ترك جنس كل عمل، أي ترك جنس الصلاة، وجنس الزكاة، وجنس بر الوالدين! ولا أحسب سنيا يقول هذا، لكنه من تشنيع المخالف على المخالف. على أنه قد ورد التعبير بـ (جنس العمل) و (جنس التصديق) في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، لكنه محفوف بسياق وسباق يزيل عنه اللبس، وقد قدمت في أول هذه المسألة أني أعرضت عن استعمال هذا المصطلح، وآثرت التعبير بما لا لبس فيه، من نحو قولنا: تارك عمل الجوارح كلِّه، أو بالكلية. 23 - الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد، رحمه الله: قال في كتابه: (درء الفتنة عن أهل السنة): (وإياك ثم إياك- أيها المسلم- أن تغتر بما فاه به بعض الناس من التهوين بواحد من هذه الأسس الخمسة لحقيقة الإيمان، لا سيما ما تلقفوه عن الجهمية وغلاة المرجئة من أن العمل كمالي في حقيقة الإيمان ليس ركنا فيه، وهذا إعراض عن المحكم من كتاب الله تعالى في نحو ستين موضعا، مثل قول الله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43]، ونحوها في السنة كثير، وخرق لإجماع الصحابة ومن تبعهم بإحسان) (¬4). والأسس الخمسة المشار إليها هي أن الإيمان: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. وشارك الشيخ حفظه الله مع اللجنة الدائمة في التحذير من الكتب الداعية إلى الإرجاء، والزاعمة بأن العمل شرط كمال، وأن تاركه بالكلية مسلم. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - بتصرف - 2/ 1 ¬

(¬1) هذه الشبهة أو التأصيل الباطل، مما أورده صاحب كتاب: ((حقيقة الإيمان بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة))، وقد حذرت منه اللجنة الدائمة، انظر نص بيان اللجنة في الملحق رقم (3). (¬2) الأسئلة القطرية. (¬3) الأسئلة القطرية. (¬4) ((درء الفتنة عن أهل السنة)) (ص34).

الكتاب العاشر: متفرقات في العقيدة

المطلب الأول: التعريف اللغوي الصاد والحاء والباء أصل واحد يدل على مقارنة شيء ومقاربته، ومن ذلك الصاحب، والجمع: الصحب؛ ومن الباب: أصحب فلان: إذا انقاد، وكل شيء لائم شيئاً فقد استصحبه (¬1). ويقال صحبه يصحبه صحبة بالضم، وصحابة بالفتح، وصاحبه: عاشره، والصاحب: المعاشر، والجمع: أصحاب، والصحابة بالفتح: الأصحاب (¬2)؛ ويقال: استصحبه: أي دعاه إلى الصحبة ولازمه (¬3)؛ وأصحب البعير والدابة: أي: انقادا، وأصحبت الناقة: أي: انقادت واسترسلت وتبعت صاحبها (¬4). (ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القول (صحابي) مشتق من الصحبة، وأنه ليس مشتقاً من قدر منها مخصوص، بل هو جار على من صحب غيره قليلاً أو كثيراً، كما أن القول: مكلم، ومخاطب، وضارب مشتق من المكالمة، والمخاطبة، والضرب، وجار على كل من وقع منه ذلك قليلاً أو كثيراً؛ وكذلك جميع الأسماء المشتقة من الأفعال، وكذلك يقال: صحبت فلاناً حولاً ودهراً وسنةً وشهراً ويوماً وساعةً، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيره، وذلك يوجب في حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من نهار، هذا هو الأصل في اشتقاق الاسم) (¬5). وهذا يعني أن الصحبة في اللغة لا يشترط في إطلاقها أن تكون الملازمة بين الشيئين طويلة، بل يصح إطلاقها على كل من صحب غيره مهما كان مقدار الصحبة، لذلك قال السخاوي: (الصحابي لغة: يقع على من صحب أقل ما يطلق عليه اسم صحبة فضلاً عمن طالت صحبته وكثرت مجالسته) (¬6). عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين لمحمد محمود لطيف الفهداوي – ص: 23 ¬

(¬1) ينظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس، (مادة صحب) (3/ 335)، ((مختار الصحاح)) للرازي (مادة صحب) (ص: 356). (¬2) ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (مادة صحب) (1/ 519). (¬3) ترتيب ((القاموس المحيط)) للطاهر الزاوي (2/ 798). (¬4) ينظر: ((لسان العرب)) (مادة صحب) (1/ 521)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 11). (¬5) ((الكفاية)) للخطيب (ص: 100)، وينظر: ((فتح المغيث)) للسخاوي (3/ 79 - 80). (¬6) ((فتح المغيث)) للسخاوي (3/ 79).

المطلب الثاني: التعريف الاصطلاحي

المطلب الثاني: التعريف الاصطلاحي قال ابن حجر: وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام؛ فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى. ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى. وقولنا: (به) يخرج من لقيه مؤمناً بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة. وهل يدخل من لقيه منهم وآمن بأنه سيبعث أو لا يدخل؟ محل احتمال. ومن هؤلاء بحيرا الراهب ونظراؤه. ويدخل في قولنا: (مؤمناً به) كل مكلف من الجن والإنس؛ فحينئذ يتعين ذكر من حفظ ذكره من الجن الذين آمنوا به بالشرط المذكور، وأما إنكار ابن الأثير على أبي موسى تخريجه لبعض الجن الذين عرفوا في كتاب الصحابة (¬1) فليس بمنكر لما ذكرته. وقد قال ابن حزم في كتاب الأقضية من (المحلى): من ادعى الإجماع فقد كذب على الأمة؛ فإن الله تعالى قد أعلمنا أن نفرا من الجن آمنوا وسمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهم صحابة فضلاء؛ فمن أين للمدعي إجماع أولئك؟ (¬2) وهذا الذي ذكره في مسألة الإجماع لا نوافقه عليه؛ وإنما أردت نقل كلامه في كونهم صحابة. وهل تدخل الملائكة؟ محل نظر؛ قد قال بعضهم: إن ذلك ينبني على أنه هل كان مبعوثا إليهم أو لا؟ وقد نقل الإمام فخر الدين في (أسرار التنزيل) الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مرسلا إلى الملائكة. ونوزع في هذا النقل؛ بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان مرسلاً إليهم. واحتج بأشياء يطول شرحها. وفي صحة بناء هذه المسألة على هذا الأصل نظر لا يخفى. ¬

(¬1) [11042])) انظر: ((أسد الغابة)) (2/ 317 - 318). (¬2) [11043])) انظر: ((المحلى)) (9/ 365).

وخرج بقولنا: (ومات على الإسلام) من لقيه مؤمنا به ثم ارتد، ومات على ردته والعياذ بالله. وقد وجد من ذلك عدد يسير؛ كعبيد الله بن جحش الذي كان زوج أم حبيبة؛ فإنه أسلم معها، وهاجر إلى الحبشة، فتنصر هو ومات على نصرانيته (¬1). وكعبد الله بن خطل الذي قتل وهو متعلق بأستار الكعبة (¬2)، وكربيعة بن أمية بن خلف (¬3) على ما سأشرح خبره في ترجمته في القسم الرابع من حرف الراء. ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت، سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرة أخرى أم لا؛ وهذا هو الصحيح المعتمد. والشق الأول لا خلاف في دخوله وأبدى بعضهم في الشق الثاني احتمالا؛ وهو مردود لإطباق أهل الحديث على عد الأشعث بن قيس في الصحابة، وعلى تخريج أحاديثه في الصحاح والمسانيد؛ وهو ممن ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر (¬4). وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين؛ كالبخاري، وشيخه أحمد بن حنبل، ومن تبعهما؛ ووراء ذلك أقوال أخرى شاذة: كقول من قال: لا يعد صحابيا إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة: من طالت مجالسته، أو حفظت روايته، أو ضبط أنه غزا معه، أو استشهد بين يديه؛ وكذا من اشترط في صحة الصحبة بلوغ الحلم، أو المجالسة ولو قصرت. وأطلق جماعة أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي. وهو محمول على من بلغ سن التمييز؛ إذ من لم يميز لا تصح نسبة الرؤية إليه. نعم يصدق إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه فيكون صحابيا من هذه الحيثية، ومن حيث الرواية يكون تابعيا؛ وهل يدخل من رآه ميتا قبل أن يدفن كما وقع ذلك لأبي ذؤيب الهذلي الشاعر؟ (¬5) إن صح محل نظر. والراجح عدم الدخول. الإصابة في معرفة الصحابة 1/ 7 ¬

(¬1) [11044])) الحديث رواه أبو داود (2107)، وأحمد (6/ 427) (27448)، والحاكم (2/ 198). بلفظ: (عن عروة عن أم حبيبة أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشى النبى -صلى الله عليه وسلم- وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع شرحبيل ابن حسنة). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، واحتج به ابن حزم في ((المحلى)) (8/ 244)، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (616) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬2) [11045])) الحديث رواه البخاري (1846)، ومسلم (1357). بلفظ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) [11046])) انظر: ((تعجيل المنفعة)) (ص: 309)، ((أسد الغابة)) (20/ 209)، ((تجريد أسماء الصحابة)) (1/ 178)، ((طبقات ابن سعد)) (3/ 282)، (8/ 266)، (9/ 67)، ((البداية والنهاية)) (5/ 171). (¬4) [11047])) رواه ابن زنجويه في ((الأموال)) (ص: 363)، وابن سلام الهروي في ((ص: الأموال)) (273). بلفظ: ارتد الأشعث بن قيس في أناس من كندة، فحوصر، فأخذ الأمان لسبعين منهم، ولم يأخذ لنفسه، فأتى به أبو بكر، فقال (إنا قاتلوك، لا أمان لك، فقال: تمن علي وأسلم؟ قال: ففعل، فزوجه أخته). من حديث إبراهيم النخعي. (¬5) [11048])) انظر: ((أسد الغابة)) (6/ 109)، و ((الاستيعاب)) (4/ 1648).

المبحث الثاني: طرق إثبات الصحبة

المبحث الثاني: طرق إثبات الصحبة • النوع الأول: القرآن الكريم. • النوع الثاني: الخبر المتواتر. • النوع الثالث: الخبر المشهور. • النوع الرابع: الخبر الآحاد: ويدخل تحته أربع طرق.

النوع الأول: القرآن الكريم

النوع الأول: القرآن الكريم وذلك مثل قوله تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ... [التوبة: 40] الآية. فهذا النص يثبت صحبة سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حيث استقر الإجماع على أن المعني بالصاحب في هذه الآية هو أبو بكر، كما ذكر ذلك الإمام الرازي في تفسيره (¬1)، ولذلك قال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر، لإنكاره كلام الله تعالى، وليس ذلك لسائر الصحابة، ذكر ذلك أبو حيان في (البحر المحيط) (¬2)، والطوفي في (الإكسير) (¬3). ¬

(¬1) ((التفسير الكبير)) (ص: 1274). (¬2) ((البحر المحيط)) (5/ 34). (¬3) ((الإكسير في علم التفسير)) (ل 99 أ).

النوع الثاني: الخبر المتواتر

النوع الثاني: الخبر المتواتر وذلك كما في صحبة العشرة المبشرين بالجنة، فقد تواترت الأخبار بثبوت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم الذين ورد ذكرهم في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص، في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)) (¬1). ومثلهم في ثبوت صحبتهم، كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمثال عبادة بن الصامت، الذي حضر بيعة العقبة الأولى والثانية رضي الله عنه. ¬

(¬1) رواه الترمذي (3747)، وأحمد (1/ 193) (1675)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 56) (8194)، وابن حبان (15/ 463) (7002). والحديث حسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 436) كما أشار لذلك في المقدمة، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 136)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

النوع الثالث: الخبر المشهور

النوع الثالث: الخبر المشهور كما في صحبة عكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري، فهؤلاء ومن على شاكلتهم، لا يكاد يرتاب مسلم في ثبوت صحبتهم للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتمتعهم بالإيمان به، والأخذ عنه، والاستضاءة بنوره (¬1). ¬

(¬1) انظر: ((دراسات تاريخية)) (ص: 39).

النوع الرابع: الخبر الآحاد: ويدخل تحته أربع طرق

النوع الرابع: الخبر الآحاد: ويدخل تحته أربع طرق أ- رواية أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الرؤية أو السماع، مع معاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم، كأن يقول أحد التابعين: أخبرني فلان أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، أو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كذا، كقول الزهري فيما رواه البخاري في فتح مكة من صحيحه: أخبرني سنين أبو جميلة، ونحن مع ابن المسيب قال: (وزعم أبو جميلة أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخرج معه عام الفتح) (¬1). فإن ذلك طريق من طرق إثبات صحبة ذلك الراوي، كما يدل على ذلك كلام ابن كثير في كتابه (الباعث الحثيث) حيث قال وهو يبين طرق إثبات الصحبة: وتارة بروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم سماعاً، أو مشاهدة مع المعاصرة (¬2)، وكلام السخاوي كما في (فتح المغيث) (¬3). ب- إخبار الصحابي عن نفسه أنه صحابي: وقد افترق العلماء إزاء هذا الطريق إلى أربعة مذاهب: المذهب الأول: أنه يقبل قوله: إني صحابي مطلقاً من غير شرط، وجرى على ذلك ابن عبد البر فيما نقله عنه السخاوي في (فتح المغيث) حيث قال: (إن ابن عبد البر قد جزم بالقبول من غير شرط، بناء على أن الظاهر سلامته من الجرح، وقوي ذلك بتصرف أئمة الحديث في تخريجهم أحاديث هذا الضرب في مسانيدهم) (¬4). المذهب الثاني: أنه يقبل قوله بشرطين: الأول: أن يكون ذلك بعد ثبوت عدالته. الثاني: أن يكون بعد ثبوت معاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم. وممن ذهب إلى ذلك وجزم بقبول قوله: جمهور علماء الأصول والحديث. ومنهم: ابن النجار حيث قال في (شرح الكوكب المنير): (فلو قال معاصر عدل: أنا صحابي، قبل عند أصحابنا والجمهور) (¬5). وابن اللحام حيث قال في (المختصر): (فلو قال معاصر عدل: أنا صحابي، قبل عند الأكثر) (¬6). وأبو الحسين البصري المعتزلي، كما في كتابه (المعتمد) (¬7). والإمام السبكي كما في (جمع الجوامع) (¬8). والإمام العراقي كما في (ألفيته) (¬9)، والحافظ ابن حجر كما في (الإصابة) (¬10)، والإمام السخاوي كما في (فتح المغيث) (¬11)، والإمام ابن الصلاح كما في (مقدمته) (¬12)، والنووي كما في (تقريبه) (¬13)، وزكريا الأنصاري كما في (فتح الباقي) (¬14)، وممن ذهب إلى ذلك الإمام الباقلاني كما نقل ذلك عنه السبكي والشوكاني (¬15)، غير أنه اشترط صحة ثبوت صحبته بقوله إني صحابي أن لا يروى عن غيره ما يعارض صحبته – كما نقل ذلك عنه الشوكاني في (إرشاد الفحول) (¬16). والعلة في صحة قبول إخباره عن نفسه أنه صحابي، لأنه لو أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبلنا روايته عنه، فلأن نقبل خبره عن نفسه بأنه صحابي من باب أولى. وقد أشار إلى هذا التعليل ابن النجار حيث قال: (إنه قول ثقة مقبول القول، فقبل في ذلك كروايته) (¬17). والمعاصرة التي اشترطوها في إثبات الصحبة هي: ¬

(¬1) رواه البخاري (4301). (¬2) ((الباعث الحثيث)) (ص: 190). (¬3) انظر: ((فتح المغيث)) (3/ 106). (¬4) انظر: ((فتح المغيث)) (3/ 107). (¬5) ((شرح الكوكب المنير)) (2/ 479). (¬6) ((المختصر)) (ص: 89). (¬7) انظر: ((المعتمد)) (2/ 667). (¬8) انظر: ((جمع الجوامع)) (2/ 167). (¬9) انظر: ((شرح الألفية)) للعراقي (3/ 11). (¬10) انظر: ((الإصابة)) (1/ 8). (¬11) انظر: ((فتح المغيث)) (3/ 105). (¬12) انظر: ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 146). (¬13) انظر: ((التقريب)) (2/ 213). (¬14) انظر: ((فتح الباقي)) (3/ 12). (¬15) انظر: ((جمع الجوامع)) (2/ 167)، ((إرشاد الفحول)) (ص: 71). (¬16) انظر: ((إرشاد الفحول)) (ص: 71). (¬17) ((شرح الكوكب المنير)) (2/ 479).

المعاصرة الممكنة شرعاً، وإنما تكون المعاصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ممكنة شرعاً، إذا ادعى الصحبة في حدود مائة وعشر سنين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة - كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه (الإصابة) (¬1) -، وذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر حياته لأصحابه: ((أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)) (¬2). وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم: أن ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر. ولفظه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول -قبل أن يموت بشهر-: ((تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة)) (¬3). زاد في رواية: ((وهي حية يومئذ)) (¬4). ومن هنا يتبين: أن من ادعى الصحبة، وكانت المعاصرة غير ممكنة، فإنه لا يقبل قوله، ويعتبر في ذلك من الكاذبين. وذلك مثل: جعفر بن نسطور الرومي، الذي ادعى الصحبة بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة، وسرباتك الهندي، الذي ادعى الصحبة بعد خمسمائة وتسع، ورتن الهندي الذي ادعى الصحبة بعد ستمائة واثنتين وثلاثين سنة من الهجرة، وجبير بن الحارث، الذي ادعى الصحبة بعد سبعمائة وثلاث وخمسين سنة من الهجرة، وغيرهم من الدجالين أمثالهم (¬5). المذهب الثالث: عدم قبول قوله إني صحابي، وجرى على هذا القول ابن القطان فقد نقل الشوكاني أنه يروى عنه ما يدل على الجزم بعدم القبول فقال: (ومن يدع الصحبة لا يقبل منه حتى نعلم صحبته، وإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره) (¬6). وبه قال أبو عبد الله الصيمري من الحنفية – كما ذكره ابن النجار في (شرح الكوكب المنير) (¬7). والإمام البلقيني حيث قال في (محاسن الاصطلاح): (ولو جاء إنسان إلى تابعي وقال له: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا، لم يسغ لذلك التابعي أن يروي ذلك الحديث على أنه صحابي بمجرد قوله، ولا أن يقول: حدثني بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يظهر أمره في الدين، ومن ادعى تسويغ ذلك فليس بصحيح، ولكن يسوغ أن يقول: قال فلان: رأيت .. إلخ، ولم يظهر لي صحبته) (¬8). وإلى هذا المذهب مال الطوفي، كما في (البلبل) (¬9) و (شرح مختصر الروضة) (¬10). وعللوا ذلك: أنه متهم بأنه يدعي رتبة عالية يثبتها لنفسه، وهي: منصب الصحابة، والإنسان مجبول على طلبها قصداً للشرف، وإلى هذا التعليل ذهب الطوفي وابن عبد الشكور وابن نظام الدين وابن الهمام وأمير بادشاه البخاري وابن الحاجب والآمدي (¬11). وما قاله أصحاب المذهب الثاني من أن قبول قوله في إثبات الصحبة لنفسه يتوقف على ثبوت عدالته، قد رده المانعون بأنه يلزم عليه الدور (¬12). وبيان ذلك: ¬

(¬1) انظر: ((الإصابة)) (1/ 550). (¬2) رواه البخاري (601)، ومسلم (2537). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه مسلم (2538). من حديث جابر رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (2538). من حديث جابر رضي الله عنه. (¬5) انظر: ((الإصابة)) (1/ 551)، (3/ 279)، ((محاضرات في علوم الحديث)) (1/ 138 - 139)، ((دراسات تاريخية)) (ص: 46). (¬6) ((إرشاد الفحول)) (ص: 71)، وانظر: ((فتح المغيث)) (3/ 98). (¬7) انظر: ((شرح الكوكب المنير)) (2/ 479). (¬8) ((محاسن الاصطلاح)) (ص: 427). (¬9) انظر: ((البلبل)) (ص: 62). (¬10) انظر: ((شرح مختصر الروضة)) (2/ 13 - 14). (¬11) انظر: ((البلبل)) (ص: 62)، ((شرح مختصر الروضة)) (2/ 13)، ((مسلم الثبوت ومعه فواتح الرحموت)) (2/ 161)، ((تيسير التحرير)) (3/ 67)، ((مختصر ابن الحاجب)) (2/ 67 - 68)، ((الإحكام)) (1/ 276). (¬12) انظر: ((محاضرات في علوم الحديث)) (1/ 138).

أن دعوى الصحبة يتوقف ثبوتها على ثبوت عدالة مدعيها، حيث لا تقبل دعوى الصحبة إلا من عدل، وثبوت عدالة مدعيها تتوقف على ثبوت صحبته، وذلك: أن دعوى الصحبة تشتمل ضمناً على دعوى العدالة، لما هو معلوم من أن الصحابة كلهم عدول، ولا شك أن توقف ثبوت الصحبة على ثبوت العدالة، وتوقف ثبوت العدالة على ثبوت الصحبة يلزمه الدور (¬1). وعن مسألة الدور هذه، لأصحاب المذهب الثاني أن يجيبوا: بأن دعوى الصحبة وإن توقفت على ثبوت عدالة مدعيها، فإن عدالة مدعيها لا تتوقف على ثبوت الصحبة، فقد تثبت عدالة الرجل وإن لم تثبت صحبته، فانفك الدور. كما يجاب – أيضاً – عن قولهم: إنه متهم بدعواه رتبة يثبتها لنفسه ... إلخ. بما قاله الفراء في (العدة) من أنه لما قبل خبر غيره عنه بأنه صحابي، كذلك يجوز قبول خبره عن نفسه بذلك. يبين صحة هذا وتساويهما: أن العدالة معتبرة فيما يخبر غيره عنه، وفيما يخبر هو عن نفسه. فإن قيل: لا يمتنع أن يقبل قول غيره له، ولا يقبل قوله لنفسه، كما تقبل شهادة غيره له، ولا يقبل إقراره لنفسه، لأنه يجر إلى نفسه منفعة، وهذا موجود ها هنا. قيل: هذا لا يمنع خبره لنفسه، ألا ترى أن من روى خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل منه وإن كان نفعه يعود بالمخبر. كذلك قوله: أنا صحابي لا يمنع وإن عاد نفعه إليه، ويفارق هذا الشهادة والدعوة، لأن حصول النفع يمنع قبول ذلك. وأيضاً: فإن العقل لا يمنع من قبول خبره بذلك، والسمع لم يرد بالمنع فجاز قوله (¬2). المذهب الرابع: التفصيل في ذلك: فمن ادعى الصحبة القصيرة قبل منه، لأنها مما يتعذر إثباتها بالنقل، إذ ربما لا يحضره حالة اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو رؤيته له أحد. ومن ادعى الصحبة الطويلة، وكثرة التردد في السفر والحضر فلا يقبل منه ذلك، لأن مثل ذلك يشاهد وينقل ويشتهر، فلا تثبت صحبته بقوله كما ذكر ذلك السخاوي في (فتح المغيث) (¬3). ج- قول أحد الصحابة بصحبة آخر: وهو إما أن يكون بطريق التصريح، كأن يقول الصحابي: إن فلاناً صحابي، أو من الأصحاب، أو ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم. وإما أن يكون بطريق اللزوم، كأن يقول: كنت أنا وفلان عند النبي، أو سمع معي هذا الحديث فلان من النبي، أو دخلت أنا وفلان على النبي صلى الله عليه وسلم. غير أن هذا الطريق الأخير، إنما تثبت فيه الصحبة، إذا عرف إسلام المذكور في تلك الحالة، كما ذكر ذلك السخاوي في (فتح المغيث) (¬4). وقد مثلوا لثبوت صحبة الصحابي بقول صحابي آخر، بحممة بن أبي حممة الدوسي، الذي مات بأصبهان مبطوناً، فشهد له أبو موسى الأشعري - وهو من الصحابة المشهورين – أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم حكم له بالشهادة ذكر ذلك أبو نعيم في (تاريخ أصبهان) (¬5). وقد استدرك العراقي على ما ذكره أبو نعيم بقوله: (على أنه يجوز أن يكون أبو موسى إنما أراد بذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لمن قتله بطنه، وفي عمومهم حممة، لا أنه سماه باسمه والله أعلم) (¬6). وبناء على ما استدركه العراقي لا يصح التمثيل بحممة، إذ ليس في ذكر أبي موسى ما يفيد التصريح بإثبات صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم فالحديث ليس نصاً، وإنما هو محتمل، وما تطرقه الاحتمال يسقط به الاستدلال. ¬

(¬1) انظر: ((محاضرات في علوم الحديث)) (1/ 138). (¬2) ((العدة)) (3/ 991). (¬3) انظر: ((فتح المغيث)) (3/ 98 - 99). (¬4) انظر: ((فتح المغيث)) (3/ 98 - 99). (¬5) ((ذكر أخبار أصبهان)) (1/ 71)، وانظر ((الإصابة)) (1/ 355)، ((أسد الغابة)) (2/ 58 - 59). (¬6) ((شرح ألفية العراقي)) (3/ 12).

إلا أن ما استدركه العراقي من الاحتمال المذكور – كما يقول الدكتور التازي – رحمه الله – بعيد، لأن الضمير في له إنما هو لحممة، وليس في لفظ الحديث ما يمكن أن يعود عليه الضمير غيره، وإخبار أبي موسى بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم له يستلزم معرفته به، وصحبته له. ويعلل لقبول قول الصحابي في آخر صحابي: بأن الصحابي عدل، فإذ صح لنا أن نقبل قوله حين يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن نقبل قوله حين يخبر أن فلاناً صحابي من باب أولى. د- أخبار أحد التابعين الموثقين عند أهل الحديث بأن فلاناً صحابي: فهل يقبل قوله وتثبت به صحبة من أخبر عنه، أو لا يقبل قوله، ولا تثبت به صحبة من أخبر عنه؟ اختلف العلماء من المحدثين والأصوليين في ذلك. فذهب جماعة منهم إلى قبول قوله، ومنهم الإمام السخاوي حيث قال في (فتح المغيث) وهو يبين طرق إثبات الصحبة: (وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين على الراجح) (¬1). والحافظ ابن حجر فقد قال في (الإصابة): (وكذا عن آحاد التابعين). أي: بأن يروي عن آحاد التابعين أن فلاناً صحابي. والإمام زكريا الأنصاري حيث قال في (فتح الباقي): (وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين) (¬2). والشيخ محمد نجيب المطيعي حيث قال في (حاشيته على الإسنوي): (أو بإخبار آحاد التابعين بأنه صحابي) (¬3). وغيرهم من العلماء (¬4). وذهب جماعة آخرون إلى أنه لا يقبل قوله، ولا تثبت به صحبة من أخبر عنه. وممن ذهب إلى ذلك: بعض شراح (اللمع) على ما ذكره الإمام السخاوي في (فتح المغيث) (¬5). وقد سكت بعض العلماء عن ذكر هذا الطريق كالإمام ابن كثير وابن الصلاح والنووي والعراقي وغيرهم، حيث لم يذكروا وهم يبينون طرق إثبات الصحبة قول التابعي: إن فلاناً صحابي كطريق لمعرفة الصحابة رضي الله عنهم (¬6). والاختلاف بين القائلين بثبوت الصحبة بإخبار أحد ثقات التابعين وبين النافين لذلك مبني في الحقيقة على خلاف آخر وهو: هل تقبل التزكية إذا صدرت من مزكٍّ واحد، أو لابد فيها من التعدد؟ فمن ذهب إلى عدم إثبات الصحبة بقول التابعي: إن فلاناً صحابي، جرى على أن التزكية غير مقبولة إذا صدرت من مزك واحد، بل لابد فيها من اثنين. ووجهتهم فيما ذهبوا إليه من اشتراط التعدد. 1 - أن التزكية تتنزل منزلة الحكم، فلا يشترط فيها العدد، بخلاف الشهادة فإنها تكون عند الحاكم فلابد فيها من العدد، فلا يصح إلحاق التزكية بالشهادة (¬7). 2 - إن التزكية إن كانت صادرة عن اجتهاد المزكي فهي بمنزلة الحكم، وحينئذ لا يشترط التعدد في المزكي، لأنه بمنزلة الحاكم. وإن لم تكن صادرة عن نفسه واجتهاده، بل منقولة عن غيره، فأيضاً لا يشترط التعدد حينئذ، لأن أصل النقل لا يشترط فيه العدد، فكذا ما يتفرع عنه، فلا يقال: إن التزكية تأخذ حكم الشهادة (¬8). وما ذكر من أن الاستقراء أن لا يزيد شرط على مشروطه، ولا ينقص شرط عن مشروطه منتف – كما في (التحرير) وشرحه – بشاهد هلال رمضان إذا كان بالسماء علة، فإنه يكتفى فيه بواحد، ويفتقر تعديله إلى اثنين، فقد زاد الشرط في هذا على مشروطه. ¬

(¬1) ((الإصابة)) (1/ 8)، وانظر: ((نزهة النظر)) (ص: 101). (¬2) ((فتح الباري)) (3/ 12). (¬3) ((سلم الوصول)) (3/ 79). (¬4) انظر: ((المختصر في علم رجال الأثر)) (ص: 26)، ((محاضرات في علوم الحديث)) (1/ 36)، ((دراسات تاريخية)) (ص: 40)، ((توضيح الأفكار تعليق محيي الدين عبد الحميد)) (2/ 428). (¬5) انظر: ((فتح المغيث)) (3/ 99). (¬6) انظر: ((الباعث الحثيث)) (ص: 190)، ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 146)، ((تقريب النووي)) (2/ 213). (¬7) انظر: ((نزهة النظر)) (ص: 134). (¬8) انظر: ((نزهة النظر)) (ص: 134).

وكون الشرط لا ينقص عن مشروطه مردود بشهادة الزنا، فإنه يلزم كونهم أربعة ويكفي في تعديلهم اثنان (¬1). قال في (التحرير) وشرحه: وما قيل: لا نقض بهذين بل زيادة في الأصل في شهادة الزنا ونقصانه في الهلال، إنما يثبت بالنص للاحتياط في الدرء للعقوبات، والإيجاب للعبادة كما هو مذكور في (حاشية التفتازاني)، لا يخرجه أي: هذا الجواب لا يخرج ما ذكر من مادتي النقض عنهما أي ثبوت الزيادة وثبوت النقص المنافيين لما ادعى الضابطين بالاستقراء (¬2). 3 - أن المزكي يكتفي فيه بواحد، لأنه بمثابة الخبر، وكما يصح قبول خبر الواحد – كما هو القول الراجح – فكذلك يقبل قول المزكي، لأنه بمنزلته (¬3). 4 - أن اعتبار الواحد في الجرح والتعديل أصل متفق عليه، واعتبار ضم قول غيره إليه يستدعي دليلاً، والأصل عدمه، ولا يخفى أن ما يلزم منه موافقة النفي الأصلي أولى مما يلزم منه مخالفته (¬4). 5 - ينبغي القول بعدم اشتراط التعدد في المزكي، لأن اشتراط التعدد قد يؤدي إلى تضييع بعض الأحكام، فكان عدم التعدد أولى وأحوط (¬5). صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة لعيادة أيوب الكبيسي – ص79 ¬

(¬1) انظر: ((تيسير التحرير)) (3/ 58). (¬2) انظر: ((تيسير التحرير)) (3/ 58). (¬3) انظر: ((شرح ألفية العراقي)) (1/ 295). (¬4) ((الإحكام)) للآمدي (1/ 271) (¬5) انظر: ((تيسير التحرير)) (3/ 58).

المطلب الثاني: إثبات الصحبة عن طريق أحد العلامات

المطلب الثاني: إثبات الصحبة عن طريق أحد العلامات ونذكر منها ما يأتي: العلامة الأولى: أن يكون من يدَّعى صحبته قد تولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم غزوة من غزواته، ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر على غزوة من غزواته إلا من كان من أصحابه (¬1). وذلك مثل: عبيدة بن الحارث، الذي عقد له النبي صلى الله عليه وسلم اللواء إلى رابغ. وعبد الله بن جحش، الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية إلى نخلة (¬2). العلامة الثانية: أن يكون المدعى صحبته ممن أمره أحد الخلفاء الراشدين على أحد المغازي في حروب الردة والفتوح (¬3). وذلك مثل: شرحبيل بن حسنة وأبي عبيدة بن مسعود. العلامة الثالثة: أن يكون المدعى صحبته قد ثبت أن له ابناً حنكه النبي صلى الله عليه وسلم، أو مسح على رأسه، أو دعا له، فإنه ((كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له)) كما أخرجه الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف (¬4) على ما ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة (¬5). وذلك مثل: ثابت بن قيس بن شماس، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما. العلامة الرابعة: أن يكون من يدعى صحبته ممن كان بمكة أو الطائف سنة عشر من الهجرة، إذ من المعلوم عند المحدثين أن كل من كان بمكة أو الطائف سنة عشر قد أسلم وحج مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فيكون من الصحابة (¬6). وذلك مثل: عامر بن أبي أمية رضي الله عنه. العلامة الخامسة: أن يكون من يدعى صحبته من الأوس أو الخزرج الذين كانوا بالمدينة المنورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أنهم دخلوا في الإسلام جميعاً، ولم يثبت عن أحد منهم أنه ارتد عن الإسلام (¬7). صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة – عيادة أيوب الكبيسي – ص: 79 ¬

(¬1) انظر: ((محاضرات في علوم الحديث)) (1/ 140)، ((المختصر في علم رجال الأثر)) (ص: 27). (¬2) انظر: ((المغازي)) (1/ 10، 13). (¬3) انظر: ((الإصابة)) (1/ 9). (¬4) رواه الحاكم (4/ 526). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬5) انظر: ((الإصابة)) (1/ 9). (¬6) انظر: ((محاضرات في علوم الحديث)) (1/ 139)، ((المختصر في علم رجال الأثر)) (ص: 27). (¬7) انظر: ((محاضرات في علوم الحديث)) (1/ 139)، ((المختصر في علم رجال الأثر)) (ص: 27).

المبحث الثالث: فضل الصحابة وتفاوتهم في الفضل والمنزلة

أولا: الأدلة على فضل الصحابة من القرآن قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في شرحه لمنظومة سلم الوصول: فكلهم في محكم القرآن ... أثنى عليهم خالق الأكوان في مواضع من كتابه (كالفتح) أي سورة (الفتح) من أولها إلى آخرها (و) سورة (الحديد) كقوله تعالى فيها: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ – إلى قوله – وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] الآيات. (و) سورة (القتال) كقوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:3] الآيات. (و) سورة (الحشر) إلى آخرها، وقد رتب تعالى فيها الصحابة على منازلهم وتفاضلهم ثم أَرْدَفهم بذكر التابعين فقال تعالى لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:8 – 10] أخرج الله بهذه الآية وغيرها شاتم الصحابة من جميع الفرق الذين في قلوبهم غل لهم إلى يوم القيامة، ولهذا منعهم كثير من الأئمة الفيء وحرموه عليهم. (و) في سورة (التوبة) وسورة (الأنفال) بكمالها تارة في الثناء عليهم وتارة في تحذيرهم من عدوهم ووصف المشركين والمنافقين بأنواعهم وسماهم ليحذروهم، وتارة في حثهم على الطاعة والجماعة والجهاد في سبيل الله والإثخان في الكفار والثبات لهم عند لقائهم إياهم وعدم فرارهم منهم، ووعْدِه تعالى إياهم بالنَّصر على عدوِّهم، وتارة بتذكيرهم بنعم الله عليهم وامتنانه عليهم أَنْ هداهم للإسلام وجنَّبهم السُّبُل المضلة. وأَلَّف بين قلوبهم وآواهم وأيدهم بنصره بعد إذ كانوا مستضعفين أذلة. وتارة يخبرهم ويهيجهم ويشوقهم بما أعد لهم في الدار الآخرة على قيامهم بطاعته تعالى وطاعة رسوله، وجهادهم بأموالهم في سبيله وله الحمد والمنة، وغير ذلك من سور القرآن وآياته (كذلك في التوراة) الكتاب المنزل على موسى عليه السلام (و) في (الإنجيل) الكتاب المنزل على عيسى عليه السلام (صفاتهم) التي جعلهم الله عليها (معلومة التفصيل) كما أخبر الله تعالى بقوله عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29] هنا تم الكلام ثم قال تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29]. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 3/ 1394

ثانيا: الأدلة على فضل الصحابة من السنة

ثانيا: الأدلة على فضل الصحابة من السنة - عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: صَلّيْتُ المغرب مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا لو جلسنا حتى نصلّي معه العشاء قال فجلسنا فخرج علينا فقال: ((ما زلتم ههنا، قلنا: يا رسولَ الله صلَّينا معك المغرب ثم قلنا نجلسُ حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم أو أصبتم، قال: فرفع رأسهُ إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال: النجوم أَمَنَةُ السماءِ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأُمَّتي فإذا ذهب أصحابي أتى أُمَّتي ما يوعدون)) (¬1). - وفيه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ((يأتي على الناس زمانٌ يغزو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم مَنْ رأى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئامٌ مِنَ الناس فيقال لهم: فيكم مَنْ رأى مَنْ صحِب رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم مَنْ رأى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم فيفتح لهم)) (¬2). - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أي النَّاسِ خير؟ قال ((أقراني ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيءُ قومٌ تبدر شهادةَ أحدهم يمينه وتبدر يمينه شهادته)) (¬3). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((خَيْر أُمَّتي القرن الذي بُعثتُ فيه، ثم الذين يلونهم))، والله أعلم أذكر الثالث أم لا ((ثم يخلُفُ قومٌ يحبُّون السمانة، يشهدون قبل أَنْ يُستشهدوا)) (¬4). - وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أَنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال ((إِنَّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) قال عمران فلا أدري أَقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرَّتين أو ثلاثاً ((ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ويَنذرون ولا يُوفون ويظهر فيهم السِّمن)) (¬5). زاد في رواية ((ويحلفون ولا يُستحلفون)) (¬6). - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأَل رجلٌ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أي الناس خيرٌ قال ((القرنُ الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث)) (¬7). - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((لا تَسُبُّوا أَصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أَنَّ أَحدكم أَنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)) (¬8). - وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيءٌ فسبَّه خالدٌ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((لا تسُبُّوا أَحداً من أصحابي، فإنَّ أحدكم لو أَنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)) (¬9). ¬

(¬1) [11109])) رواه مسلم (2531). (¬2) [11110])) رواه مسلم (2532). (¬3) [11111])) رواه مسلم (2533) (211). (¬4) [11112])) رواه مسلم (2534). (¬5) [11113])) رواه مسلم (2534). (¬6) [11114])) رواه مسلم (2535). (¬7) [11115])) رواه مسلم (2536). (¬8) [11116])) رواه مسلم (2540). (¬9) [11117])) رواه مسلم (2541).

وفي (الصحيحين) من حديث علي رضي الله عنه في قصة كتاب حاطب مع الظعينة – وفيه – فقال عمر: إِنَّه قد خانَ اللهَ ورسوله فدعني فلأَضْرِبْ عنقه، فقال ((أَلَيْس مِنْ أهل بدر)) فقال صلى الله عليه وسلم ((لعلَّ الله اطَّلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة)) أو ((فقد غفرت لكم)) فدمعتْ عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسولُهُ أعلم (¬1). - وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: حدَّثني أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ممَّن شهد بدراً أَنَّهم كانوا عدَّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر: بضعة عشر وثلاثمائة، قال البراء: لا والله ما جاوز معه النهر إلاّ مؤمن. (¬2). - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1] قال الحديبية، قال أصحابه هنيئاً مريئاً فما لنا. فأنزل الله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [الفتح:5] (655) وكل هذا في (الصحيح) (¬3). وروى الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يدخل النار أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة)). وقال الترمذي حسن صحيح (¬4). وقد وردت أحاديث في فضائل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم منها عام ومنها خاص بالمهاجرين ومنها خاص بالأنصار ومنها خاص بالآحاد فرداً فرداً، ومنها القطع لأحدهم بالجنَّة مطلقاً، ومنها القطعُ لبعضهم بمجاورة رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الجنة ليس هذا موضع بسطها. معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي- 3/ 1396 ¬

(¬1) [11118])) رواه البخاري (3983). (¬2) [11119])) رواه البخاري (3957). (¬3) [11120])) رواه البخاري (4172). (¬4) [11121])) رواه أبو داود (4653) , والترمذي (3860) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 464) , وابن حبان (11/ 127) , وأحمد (3/ 350) (14820) , والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي حسن صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)).

ثالثا: أقوال العلماء في فضل الصحابة

ثالثا: أقوال العلماء في فضل الصحابة أولاً: ما ورد من أقوال الصحابة بعضهم في بعض: فمن ذلك: 1 - قول .. عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ) (¬1). 2 - وقول ... عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم، والله رب الكعبة) (¬2). 3 - وما رواه البخاري عن المسور بن مخرمة قال: ((لما طعن عمر جعل يألم فقال ابن عباس – وكأنه يجزعه -: يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحابته فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منّ من الله تعالى منّ به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منّ من الله جل ذكره منّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه)) (¬3). 4 - وما رواه البخاري عن مروان بن الحكم قال: ((أصاب عثمان بن عفان رضي الله عنه رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى، فدخل عليه رجل من قريش قال: استخلف، قال: وقالوه؟ قال: نعم، قال: ومن؟ فسكت، فدخل عليه رجل آخر –أحسبه الحارث- فقال: استخلف، فقال عثمان: وقالوا؟ قال: نعم، قال: ومن هو؟ فسكت، قال: فلعلهم قالوا: إنه الزبير، قال: نعم. قال: أما والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت، وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬4). 5 - وما رواه الحاكم عن أبي البختري عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: ((قيل: أخبرنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عن أيهم؟ قال: أخبرنا عن عبد الله بن مسعود قال: علم الكتاب والسنة ثم انتهى وكفى به)) (¬5). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. 6 - وما رواه الحاكم عن شقيق قال: سمعت حذيفة رضي الله عنه يقول: ((إن أشبه الناس هدياً وسمتاً ودلاً بمحمد صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود من حين يخرج إلى حين يرجع فما أدري ما في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم وسيلة عند الله يوم القيامة)) (¬6). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 379) (3600)، والبزار في ((البحر الزخار)) (5/ 212)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 375). قال ابن القيم في ((الفروسية)) (299): ثابت عن ابن مسعود، وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (65)، ومحمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (2/ 500)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 245). (¬2) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 305 - 306). (¬3) رواه البخاري (3692). (¬4) رواه البخاري (3717). (¬5) رواه الحاكم (3/ 360). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقها الذهبي. (¬6) رواه الحاكم (3/ 356). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

7 - وما رواه الطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (ثلاثة من قريش أصبح قريش وجوهاً، وأحسنها أخلاقاً، وأثبتها جناناً، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك، أبو بكر الصديق، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان) (¬1). 8 - وما رواه الطبراني عن ربعي بن خراش قال: (استأذن عبد الله بن عباس على معاوية وقد علقت عنده بطون قريش وسعيد بن العاص جالس عن يمينه، فلما رآه معاوية مقبلاً قال: يا سعيد والله لألقين على ابن عباس مسائل يعيا بجوابها، فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس يعيا بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية: ما تقول في أبي بكر؟ قال: رحم الله أبا بكر كان والله للقرآن تالياً، وعن الميل نائياً، وعن الفحشاء ساهياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً ومن الله خائفاً، وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، ومن دنياه سالماً، وعلى عدل البرية عازماً، وبالمعروف آمراً، وإليه صائراً، وفي الأحوال شاكراً، ولله في الغدو والرواح ذاكراً، ولنفسه بالمصالح قاهراً، فاق أصحابه ورعاً وكفافاً، وزهداً وعفافاً، وبراً وحياطة، وزهادة وكفاءة، فأعقب الله من ثلبه اللعائن إلى يوم القيامة. قال معاوية: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: رحم الله أبا حفص، كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحل الإيمان، وملاذ الضعفاء، ومعقل الحنفاء، للخلق حصناً، وللبأس عوناً، قام بحق الله صابراً محتسباً، حتى أظهر الله الدين، وفتح الديار، وذكر الله في الأقطار والمناهل، وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع، وعند الخنا وقوراً، وفي الشدة والرضاء شكوراً، ولله في كل وقت وأوان ذكوراً، فأعقب الله من يبغضه اللعنة إلى يوم الحسرة. قال معاوية: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة، وأوصل البررة، وأصبر الغزاة، هجاداً بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر الله، دائم الفكر فيما يعنيه الليل والنهار، ناهضاً إلى كل مكرمة، يسعى إلى كل منجية فراراً من كل موبقة، وصاحب الجيش والبئر، وختن المصطفى على ابنتيه، فأعقب الله من سبه الندامة إلى يوم القيامة. قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: رحم الله أبا الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجا، وطود البها، ونور السرى في ظلم الدجى، داعياً إلى المحجة العظمى، عالماً بما في الصحف الأولى، وقائماً بالتأويل والذكرى، متعلقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للفجور والأذى، وحائداً عن طرقات الردى، وخير من آمن واتقى، وسيد من تقمص وارتدى، وأفضل من حج وسعى، وأسمح من عدل وسوى، وأخطب أهل الدنيا إلا الأنبياء والنبي المصطفى، وصاحب القبلتين، فهل يوازيه موحد؟ وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تر عيني مثله، ولا ترى إلى يوم القيامة واللقاء، من لعنه فعليه لعنة الله والعباد إلى يوم القيامة. قال: فما تقول في طلحة والزبير؟ قال: رحمة الله عليهما، كانا والله عفيفين، برين، مسلمين، طاهرين، متطهرين، شهيدين، عالمين، زلازلة والله غافر لهما – إن شاء الله – بالنصرة القديمة، والصحبة القديمة، والأفعال الجميلة. قال معاوية: فما تقول في العباس؟ قال: رحم الله أبا الفضل، كان والله صنو أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرة عين صفي الله، كهف الأقوام، وسيد الأعمام، قد علا بصراً بالأمور، ونظراً بالعواقب، قد زانه علم، قد تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأنساب عند فخر عشيرته، ولم لا يكون كذلك؟ وقد ساسه أكرم من دب وهب عبد المطلب. أفخر من مشى من قريش وركب ... الحديث. ¬

(¬1) رواه الطبراني (1/ 56) (16). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 160): رواه الطبراني وإسناده حسن.

وقال معاوية في آخره: صدقت يا ابن عباس، أشهد أنك لسان أهل بيتك، فلما خرج ابن عباس من عنده قال: ما كلمته إلا وجدته مستعداً) (¬1). 9 - وما رواه الحاكم عن أبي سعيد المقبري قال: (لما طعن أبو عبيدة رضي الله عنه قال: يا معاذ صل بالناس، فصلى معاذ بالناس، ثم مات أبو عبيدة بن الجراح، قام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً، فإن عبد الله لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له، ثم قال: إنكم أيها الناس قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبداً قط أقل عمراً، ولا أبر صدراً، ولا أبعد غائلة، ولا أشد حباً للعاقبة، ولا أنصح للعامة منه، فرتحموا عليه وأصحروا للصلاة عليه. فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً. فاجتمع الناس، وأخرج أبو عبيدة رضي الله عنه فتقدم معاذ رضي الله عنه فصلى عليه، حتى إذا أتى به قبره، دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس، فلما وضعوه في لحده وخرجوا، فشنوا عليه التراب فقال معاذ بن جبل: يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلاً أخاف أن يلحقني بها من الله مقت: كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيراً، ومن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوماً، وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين) (¬2). ثانياً: ما ورد من أقوال التابعين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن ذلك: 1 - ما أخرجه أبو نعيم في (الحلية) عن الحسن البصري رحمه الله (أن بعض القوم قال له: أخبرنا صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكى وقال: ظهرت منهم علامات الخير في السيما والسمت والهدى والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين رضى الخالق، لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا في جور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دمائهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم) (¬3). 2 - وما رواه الإمام أحمد عن قتادة بن دعامة رحمه الله أنه قال: (أحق من صدقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه) (¬4). 3 - وما رواه ابن سعد في (الطبقات) عن مسروق قال: (لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ. فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ) (¬5). ¬

(¬1) رواه الطبراني كما ذكر الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 161) وقال: فيه من لا أعرفهم. (¬2) رواه الحاكم (3/ 295). (¬3) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/ 150). (¬4) رواه أحمد (3/ 134) (12398). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬5) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2/ 342 - 343)، وأبي خيثمة في ((العلم)) (59) وقال الألباني: إسناده صحيح.

5 - وما رواه الطبراني عن مسروق قال: (شاممت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا الدرداء وزيد بن ثابت، ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله بن مسعود) (¬1). 5 - وما رواه ابن سعد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: (كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، وسيب ونائل، وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أعلم بما مضى ولا أثقف رأياً فيما احتيج إليه منه. ولقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، وما رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً) (¬2). 6 - وما رواه ابن عبد البر في (الاستيعاب) قال: (وسئل الحسن بن أبي الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كان علي والله سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة، وذا فضلها، وذا سابقتها، وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالنومة عن أمر الله ولا باللومة في دين الله ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة، ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا لكع) (¬3). 7 - وما رواه أبو نعيم في (الحلية) عن أبي صالح قال: (دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له: صف لي علياً فقال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذا لابد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب. كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أخرى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا – يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: إلي تغرتت؟ إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، غري غيري، قد بتتك ثلاثاً، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كبير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق. فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها، لا ترقأ دمعتها، ولا يسكن حزنها، ثم قام فخرج) (¬4). ¬

(¬1) رواه الطبراني (7/ 490) (8434). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 163): رجاله رجال الصحيح غير القاسم بن معين وهو ثقة. (¬2) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2/ 368). (¬3) رواه ابن عبد البر في ((الاستيعاب)) (3/ 1110). (¬4) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 84 - 85).

8 - وروي عن حميد بن زياد أنه قال: (قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم؟ وأردت الفتن. فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة: 100] إلى آخر الآية! فأوجب أن لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً شرطه عليهم، قلت: وما ذاك الشرط؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لا يقولوا فيهم سوءاً، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه، قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط) (¬1). ثالثاً: ما ورد من أقوال أتباع التابعين فمن بعدهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن ذلك: 1 - ما رواه البيهقي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: (وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهناهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، هم أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا لأنفسنا –والله أعلم) (¬2). 2 - وما قاله الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في مقدمة كتابه (الجرح والتعديل): (فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة، فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلغهم عن الله عز وجل وما سن وشرع، وحكم وقضى، وندب وأمر، ونهى وحظر وأدب، ووعوه فأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده، بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرفهم الله عز وجل بما منّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز، وسماهم عدول الأمة، فقال عز ذكره في محكم كتابه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143]، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز ذكره قوله: وسطاً، قال: عدلاً، فكانوا عدول الأمة، وأئمة الهدى، ونقلة الكتاب والسنة. وندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم، والجري على مناهجهم، والسلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم، فقال: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء: 115]. ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد حض على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: ((نضر الله إمرءاً سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره)). ¬

(¬1) انظر: ((مفاتيح الغيب)) (16/ 136). (¬2) ((مناقب الشافعي)) (1/ 442).

وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: ((فليبلغ الشاهد منكم الغائب)) (¬1) وقال: ((بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني ولا حرج)) (¬2). ثم تفرقت الصحابة رضي الله عنهم في النواحي والأمصار والثغور، وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام، فبث كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكموا بحكم الله عز وجل، وأمضوا الأمور على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظائرها من المسائل، وجردوا أنفسهم مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقدس اسمه، لتعليم الناس الفرائض والأحكام، والسنن والحلال والحرام، حتى قبضهم الله عز وجل – رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين -) (¬3). 3 - وما قاله الأستاذ الشيخ عبد الحميد بخيت في كتابه (دراسات تاريخية في رجال الحديث): (إن الصحابة – كما يتضح من سلوكهم في أنفسهم وفي المجتمع – يعتبرون من ذلك الضرب الرفيع، الذي لا يكاد يوجد إلا في فترات قليلة جداً من تاريخ البشرية الطويل المديد، لا لأنهم مجرد أصحاب النبي، أو حملة مبادئ عليا، أو عاشوا في عصر معين من الزمان، ولكن لأن مقومات شخصياتهم، ومواهبهم، وفدائيتهم الفريدة للإيمان والعمل وشعائر الحق والعدل والحرية كانت من أبرز مميزاتهم ومظاهر سلوكهم) (¬4). – رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين -. صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة لعيادة أيوب الكبيسي – ص: 176 ¬

(¬1) رواه البخاري (105). من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (3461). بلفظ: ((وحدثوا عن بني إسرائيل)) بدلاً من ((وحدثوا عني)). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬3) ((مقدمة الجرح والتعديل)) (1/ 7 - 8). (¬4) ((دراسات تاريخية في رجال الحديث)) (ص: 32).

الفرع الثاني: تفضيل الصحابة على سائر الأمة

الفرع الثاني: تفضيل الصحابة على سائر الأمة الصحابة رضوان الله عليهم هم أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكر من الأدلة ... دليل على ذلك فليس أفضل ممن زكاهم الله وعدلهم وأثنى عليهم ورضي عنهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم أمان لأمته ما بقي منهم فيها أحد فإن هم ذهبوا أتى الأمة ما توعد، وأقسم صلى الله عليه وسلم أن أحداً من الأمة إن أنفق مثل أحد ذهباً لا يبلغ بذلك مد أحدهم ولا نصيفه (¬1)، ولقد صرح صلى الله عليه وسلم بأنهم رضوان الله عليهم خير أمته فقال: ((خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم)) (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم)) (¬3). قال الإمام أحمد رحمه الله: (فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه صلى الله عليه وسلم ولو لقوا الله بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه, وسمعوا منه, ومن رآه بعينه وآمن به ولو ساعة أفضل بصحبته من التابعين ولو عملوا كل أعمال الخير) (¬4). وقال ذلك علي بن المديني أيضاً (¬5). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد الشظيفي – ص 229 ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2534). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه أبو داود (4657)، الترمذي (2222)، وأحمد (4/ 426) (19836)، والبزار (9/ 74)، والطبراني (18/ 213) (15239). من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال البزار: روي من وجوه بألفاظ مختلفة، وهذا الإسناد أحسن إسناد يروى لهذا الكلام. (¬4) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/ 160) و ((طبقات الحنابلة)) (1/ 243) (¬5) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/ 167).

الفرع الثالث: تفضيل الصحابة على سائر البشر بعد الأنبياء

الفرع الثالث: تفضيل الصحابة على سائر البشر بعد الأنبياء الصحابة أفضل أتباع الأنبياء على الإطلاق دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]. وقال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]. وفسر لفظ الأمة في الآيتين بأن المراد به الصحابة فهو عام مخصوص وقيل: بل هو وارد في الصحابة دون غيرهم (¬1). أي أنه لا عموم في اللفظ، وعليه فاللفظ ظاهر الدلالة على أن الصحابة أفضل الناس بعد الأنبياء. وفسر اللفظ بأن المراد به أمة محمد صلى الله عليه وسلم عامة (¬2). وهو دال على ما ذكر أيضاً لأن أصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان عاماً في أمته فهم المخاطبون أصلاً به, وهم يدخلون في عموم اللفظ دخولاً أولياً، وقد ثبت كونهم أفضل الأمة فهم أفضل الأمة التي هي خير الأمم، فهم أفضل الأمم على الإطلاق. وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني)) (¬3). وسأله رجل: أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((القرن الذي أنا فيه)) (¬4) ففي الحديثين تعميم تفضيل قرنه صلى الله عليه وسلم على الناس، أي جميع الناس، جميع بني آدم، ويؤكد هذا المعنى. قوله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى كنت من القرن الذي كنت منه)) (¬5). فهذا دال على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أصحاب الأنبياء، أفضل بني آدم بعد الأنبياء، رضي الله عنهم وأرضاهم. وقال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ: ((إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) (¬6). وهذا ظاهر الدلالة على ما ذكرنا. قال ابن تيمية رحمه الله: (ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله) (¬7). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد الشظيفي – ص 230 ¬

(¬1) ((الكفاية)) (93) و ((زاد المسير)) (1/ 438). (¬2) ((زاد المسير)) (1/ 438). (¬3) رواه البخاري (3650) بلفظ: ((خير أمتي قرني .. ))، ومسلم (2535) بلفظ: ((إن خيركم قرني .. )). (¬4) [11152])) رواه مسلم (2536). (¬5) رواه البخاري (3557). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه الترمذي (3001)، وابن ماجه (3480)، وأحمد (4/ 447) (20029)، والحاكم (4/ 94). من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 112). (¬7) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (3/ 156).

المطلب الثاني: تفاوت الصحابة في الفضل والمنزلة

الفرع الأول: الأدلة على وقوع التفاضل بين الصحابة لقد دلت أدلة الشرع من نصوص الكتاب والسنة على وقوع التفاضل بين الصحابة رضوان الله عليهم. فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10]. ففي الآية تفضيل طائفة من الصحابة وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على طائفة من الصحابة وهم الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا مع إثبات الفضل للجميع والتنبيه على أن تفضيل بعضهم على بعض لا يفضي إلى تنقيص المفضول إذ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى. وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة: 100]. ففي الآية الثناء على الصحابة أجمعين مع تخصيص السابقين الأولين بالذكر، وهذا التخصيص ثم التعميم دليل على تفضيل المخصصين بالذكر على العموم. وقال سبحانه وتعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب: 32]. قال ابن عباس: (يريد: ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم) (¬1). ففي الآية دلالة على تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابيات على سائرهن. ومن السنة: ما اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬2). وجاء في رواية لمسلم بيان سبب ورود الحديث: أنه كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وفيه دليل على تفضيل بعض الصحابة على بعض إذ فيه تفضيل عبد الرحمن وطبقته ممن أسلم قبل الفتح وقاتل على خالد وطبقته ممن أسلم بعد الحديبية وقاتل ... وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان) (¬3). وفي رواية: (كنا نقول ورسول الله حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان) (¬4). زاد في رواية: (فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره) (¬5). ¬

(¬1) ((زاد المسير)) (6/ 378) و ((تفسير البغوي)) (3/ 527). (¬2) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). (¬3) رواه البخاري (3655). (¬4) رواه أبو داود (4628)، والترمذي (3707). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه يستغرب من حديث عبيد الله بن عمر وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن ابن عمر. (¬5) رواه الطبراني (12/ 285) (13165). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 49): رجاله وثقوا وفيهم خلاف.

فهذا إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم التفاضل بين الصحابة، وفيه تفضيل آحاد بأعيانهم على من سواهم, وتفضيل واحد بعينه على صاحبه وهو تفضيل أبي بكر على عمر وعمر على عثمان، وقد قال ابن عبد البر: (فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بفضائل خص كل واحد منهم بفضيلة وسمه بها وذكره فيها) قال: (ولم يأت عنه عليه الصلاة والسلام أنه فضل منهم واحداً على صاحبه بعينه من وجه يصح) قلت: لعله يريد أنه لم يصح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لا من إقراره وإلا فحديث ابن عمر صحيح، ثم قال ابن عبد البر: (ولكنه ذكر من فضائلهم ما يستدل به على مواضعهم ومنازلهم من الفضل والدين والعلم, وكان صلى الله عليه وسلم أحلم وأكرم معاشرة, وأعلم بمحاسن الأخلاق من أن يواجه فاضلاً منهم بأن غيره أفضل منه فيجد من ذلك في نفسه، بل فضل السابقين منهم وأهل الاختصاص به على من لم ينل منازلهم فقال لهم: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))، وهو من معنى قول الله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، ومحال أن يستوي من قاتله صلى الله عليه وسلم مع من قاتل عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من لم يشهد بدر وقد رآه يمشي بين يدي أبي بكر: ((تمشي بين يدي من هو خير منك)) (¬1). وهذا لأنه كان أعلمنا ذلك في الجملة لمن شهد بدراً والحديبية، ولكل طبقة منهم منزلة معروفة وحال موصوفة) (¬2). قلت: ثبوت تفضيل طائفة موصوفة من الصحابة على طائفة بالكتاب والسنة دليل قوي للقطع بتفضيل واحد بعينه من الطائفة الفاضلة على واحد بعينه من الطائفة المفضولة، وحديث أبي سعيد دليل لصحة هذا المأخذ, فإن سبب وروده نزاع بين واحد بعينه من طائفة فاضلة وهو عبد الرحمن بن عوف ممن أسلم قبل الفتح وقاتل، وآخر بعينه من طائفة مفضولة وهو خالد بن الوليد ممن أسلم متأخراً وقاتل، فقال صلى الله عليه وسلم ما قال مما يدل على تفضيله عبد الرحمن على خالد، والله أعلم. وهذا الحديث وإن لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابيين باسميهما إلا أنه كالتنصيص منه صلى الله عليه وسلم بتفضيل واحد بعينه على صاحبه، لدلالة سبب الورود على ذلك ولكنه صلى الله عليه وسلم – كما قال ابن عبد البر – أكرم وأحلم وأتم خلقاً وأحسن معاشرة من أن يسمي الفاضل والمفضول تسمية صريحة في مثل هذه الحال، والله أعلم. وهنا مسألة: وهي: التفاضل ثابت بين الصحابة رضوان الله عليهم فهل نفاضل بينهم؟ روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)) (¬3). ففي هذا اللفظ حصر المفاضلة في الثلاثة دون غيرهم، ولكن قد ثبت بالكتاب والسنة تفضيل بعض الصحابة على بعض ... ولابد من تفضيل من فضله الله واعتقاد ذلك، ولذا قال ابن حجر: (قد اتفق العلماء على تأويل كلام ابن عمر هذا لما تقرر عند أهل السنة قاطبة من تقديم علي بعد عثمان, ومن تقديم بقية العشرة المبشرة على غيرهم, ومن تقديم أهل بدر على من لم يشهدها وغير ذلك فالظاهر أن ابن عمر إنما أراد بهذا النفي أنهم كانوا يجتهدون في التفضيل فيظهر لهم فضائل الثلاثة ظهوراً بيناً فيجزمون به ولم يكونوا حينئذ اطلعوا على التنصيص) (¬4). فمذهب أهل السنة والجماعة تفضيل الصحابة بعضهم على بعض بمقتضى دلالات النصوص، إجمالاً فيما أجملته، وتفصيلاً فيما فصلته. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد الشظيفي- بتصرف – ص239 ¬

(¬1) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1/ 152)، وابن أبي عاصم (2/ 576) (1224)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 325)، والخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (12/ 438)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/ 208). (¬2) ((الاستيعاب – بهامش الإصابة -)) (1/ 9). (¬3) ((البخاري مع الفتح)) (7/ 54). (¬4) ((فتح الباري)) (7/ 58).

الفرع الثاني: أوجه التفاضل بين الصحابة

الفرع الثاني: أوجه التفاضل بين الصحابة لقد دل الكتاب والسنة على أوجه حكما بها في المفاضلة بين الصحابة، وجماع هذه الأوجه هو ما سلف من كل واحد منهم من أعمال البر والطاعات التي تتفاضل منزلتها عند الله. فمن أوجه التفاضل بينهم: السبق إلى الإسلام فالسابق إلى الإسلام أفضل من المسبوق، أفاده قوله سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة: 100]. ومن أوجه التفاضل بينهم: الإنفاق والجهاد قبل الفتح فمن أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، أفادته آية (سورة الحديد). ومن أوجه التفاضل بينهم: شهود بدر كما أفاده قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعل الله أن يكون اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) (¬1). ومن أوجه التفاضل بينهم: شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فمن شهد له بها أفضل. ومن أوجه التفاضل شهود بيعة الرضوان فمن شهدها أفضل. ومن أوجه التفاضل بينهم تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم أحدهم بمنقبة. وغير ذلك من وجوه التفاضل بينهم رضوان الله عليهم، و ... كون المفضول قد يختص بفضيلة لا توجد في الفاضل إلا أن ذلك لا يقتضي تفضيله بها مطلقاً، فعثمان بن عفان رضي الله عنه لم يحضر بدرا (¬2). ولكنه أفضل بعد أبي بكر وعمر من جميع الصحابة من حضر بدراً ومن لم يحضر .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد الشظيفي -239 ¬

(¬1) رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) ((المغازي)) (1/ 154) و ((السيرة النبوية)) (2/ 720).

الفرع الثالث: التفاضل بين أفراد الصحابة رضي الله عنهم

أولا: المفاضلة بين الخلفاء الراشدين قد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب شتى: المذهب الأول: يرى أن أفضل أفراد الصحابة، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنه. وهو مذهب أهل السنة، كما ذكر ذلك الإمام النووي حيث قال: (واتفق أهل السنة على أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر، وقال جمهورهم: ثم عثمان، ثم علي) (¬1). والإمام القسطلاني، حيث قال في (المواهب): (إن أفضلهم على الإطلاق عند أهل السنة إجماعاً أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، إلى أن قال: ثم اختلفوا فيمن بعدهما، فالجمهور على تقديم عثمان) (¬2). وابن كثير، حيث قال في (الباعث الحثيث): (وأفضل الصحابة، بل أفضل الخلق بعد الأنبياء – عليهم السلام -: أبو بكر الصديق ثم من بعده عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب) (¬3). وابن الصلاح حيث قال في (مقدمته): (أفضلهم على الإطلاق: أبو بكر ثم عمر، ثم إن جمهور السلف على تقديم عثمان على علي – رضي الله عنهم أجمعين) (¬4). وغيرهم من العلماء (¬5). وهو مذهب الإمام الشافعي – رضي الله عنه -، فقد ذكر البيهقي عن الربيع عن الشافعي أنه قال: (أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم) (¬6). ومذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه حيث قال: (كنا نقول أبو بكر وعمر وعثمان ونسكت، حتى صح لنا حديث ابن عمر بالتفضيل) (¬7). قال ابن بدران الدمشقي في (المدخل): (وأما الحديث الذي أشار إليه الإمام، فإني كشفت عليه في المسند فلم أجده، ولست أدري هل هو فيه فزاغ عنه البصر، أم هو مفقود منه؟ وكذلك فتشت عليه في الكتب الستة فلم أجده، لكنني وجدت أن الحافظ أبا القاسم ابن عساكر الدمشقي رواه في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من تاريخه الكبير عن ابن عمر قال: كنا نقول ورسول الله حي: أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينكره، وفي لفظ: ثم ندع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -فلا نفاضل بينهم-). قال ابن بدران: (وحيث إن الإمام أشار إلى صحة هذا الحديث تركنا الكلام عليه، اكتفاء بتوثيق إمام المحدثين) (¬8). وقال الإمام ابن تيمية – رحمه الله – في (منهاج السنة): (وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان، وعليه استقر أمر أهل السنة، وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوف وأئمة الفقهاء كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وإحدى الروايتين عن مالك وأصحابه، وذكر أن هذا هو مذهب جماهير أهل الكلام، ونقل عن أبي أيوب السختياني قوله: من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار قال: وهكذا قال أحمد والدارقطني وغيرهما) (¬9). وهو مذهب المتقدمين من المعتزلة: كأبي عثمان عمرو بن عبيد، وأبي إسحاق النظام: إبراهيم بن يسار، وأبي عثمان الجاحظ، وغيرهم، كما ذكر ذلك القاضي عبد الجبار في (شرح الأصول الخمسة) حيث قال: ¬

(¬1) ((النووي على مسلم)) (15/ 148). (¬2) ((المواهب اللدنية)) (7/ 36، 39). (¬3) ((الباعث الحثيث)) (ص: 183). (¬4) ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 149). (¬5) انظر: ((المنتقى)) (ص: 531)، ((المختصر في علم رجال الأثر)) (ص: 32)، ((مختصر لوامع الأنوار)) (ص: 521)، ((تقريب النواوي ومعه تدريب الراوي)) (2/ 222 - 223). (¬6) ((مناقب الشافعي)) (1/ 433). (¬7) ((المدخل)) (ص: 17). (¬8) ((المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل)) (ص: 18). (¬9) انظر: ((منهاج السنة)) (4/ 202).

(إن المتقدمين من المعتزلة ذهبوا إلى أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي) (¬1). وأيدوا ما ذهبوا إليه: بأن إجماع الصحابة من المهاجرين والأنصار على الترتيب بينهم في الإمامة، دليل على الترتيب بينهم في الفضل، ومن خرج على ذلك يعتبر - كما يقول أبو أيوب السختياني – ممن أزرى بالمهاجرين والأنصار، قال القسطلاني في (المواهب): (إن هؤلاء الأربعة اختارهم الله لخلافة نبيه، وإقامة دينه، فمنزلتهم عنده بحسب ترتيبهم في الخلافة) (¬2). وقال ابن كثير: (هذا – أي الترتيب بين الأربعة في الفضل كالترتيب بينهم في الخلافة – رأي المهاجرين والأنصار، حين جعل عمر الأمر من بعده شورى بين ستة، فانحصر في عثمان، وعلي، واجتهد فيهما عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها حتى سأل النساء في خدورهن على علي، وولاه الأمر قبله، قال: ولهذا قال الدارقطني: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وصدق رضي الله عنه وأكرم مثواه، وجعل جنة الفردوس مأواه) (¬3). ويشير إلى هذا قول الشافعي: (أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي – كما ذكر ذلك ابن حجر في (فتح الباري) (¬4). ثم إن أهل السنة لم يتعرضوا بعد ذلك إلى بيان التفاضل بين بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عندهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. قال الشيخ عبد السلام اللقاني في (إتحاف المريد) بعد أن ذكر الستة من العشرة المبشرة: (ولم يرد نص بتفاوت بعضهم على بعض في الأفضلية، فلا قائل به لعدم التوقيف) (¬5). صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة – عيادة أيوب الكبيسي – ص: 176 وقد اتفق أهل السنة والجماعة على تفضيل أبي بكر وعمر على عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، والليث بن سعد وأهل مصر، والأوزاعي وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهم من أهل العراق، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد وغير هؤلاء من الأئمة) (¬6) (¬7). وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال: (ما أدركت أحدًا ممن يقتدى به يشك في تقديم أبي بكر وعمر) (¬8). ونقل البيهقي في (الاعتقاد) بسنده إلى أبي ثور عن الشافعي أنه قال: (أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي) (¬9). والأدلة على ما ذهبوا إليه مستفيضة منها على سبيل المثال: ¬

(¬1) ((شرح الأحول الخمسة)) (ص: 766 - 767)، وانظر ((المختصر في علم رجال الأثر)) (ص: 32). (¬2) ((المواهب اللدنية)) (7/ 39). (¬3) ((الباعث الحثيث)) (ص: 183)، وانظر ((محاسن الاصطلاح)) (ص: 433). (¬4) ((فتح الباري)) (7/ 17)، ((الزرقاني على المواهب)) (7/ 39). (¬5) ((إتحاف المريد)) (ص: 200). (¬6) [11181])) انظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 369)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (8/ 1369)، ((الفرق بين الفرق)) (ص: 238)، ((الصواعق المحرقة)) (1/ 172)، ((لوامع الأنوار)) للسفاريني (2/ 356). (¬7) [11182])) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 421). (¬8) [11183])) انظر: ((الاستذكار)) (14/ 244)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 421). (¬9) [11184])) ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 369).

- ما رواه البخاري وغيره عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم) (¬1). - وفي رواية قال سالم بن عبد الله: إن عبد الله بن عمر قال: (كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم) (¬2). وكلا الحديثين نص في المسألة. - وقد روي آثار مستفيضة عن علي رضي الله تعالى عنه نفسه ففي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال: (قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين) (¬3). قال ابن تيمية: (وروي هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهًا، وأنه كان يقول على منبر الكوفة، بل قال: ((لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري)) (¬4)، فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه - ثمانين سوطًا) (¬5). قلت: وفي هذا أكبر حجة على بطلان قول الرافضة بأنه لم يبايع إلا تقية وكان مكرهًا وإلا فهو أفضل منهما، ولو كان الأمر كذلك لما أعلنه على رؤوس الأشهاد على المنبر، ولما جلد من يقول ذلك حد الافتراء. ومنها ما رواه البخاري أيضًا وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (إني لواقف في قوم ندعو الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنتُ لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيرًا ما كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما، فالتفتُّ فإذا هو علي بن أبي طالب) (¬6). - وروي عن سفيان الثوري أنه قال: (من زعم أن عليًا كان أحق بالولاية منهما فقد خطَّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار رضي الله عن جميعهم وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء) (¬7) وفي رواية ( ... فقد أزرى على اثني عشر ألفًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أراه ... إلخ الحديث) (¬8) هذا بالإضافة إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل منهم من الفضائل. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص 311 ¬

(¬1) [11185])) رواه البخاري (3655). (¬2) [11186])) رواه أبو داود (4628). وسكت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬3) [11187])) رواه البخاري (3671). (¬4) [11188])) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (2/ 355) بلفظ: (لا يفضلني عن أبي بكر وعمر أو لا أجد أحدا يفضلني على أبي بكر وعمر إلا وجلدته جلد حد المفتري) قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (28/ 474): [روي] بأسانيد جيدة. (¬5) [11189])) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 422). (¬6) [11190])) رواه البخاري (3677). (¬7) [11191])) رواه أبو داود (4630). وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح الإسناد مقطوع. (¬8) [11192])) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 254) (832). من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه بلفظ: (من فضل على أبي بكر وعمر أحدا من أصحاب رسول الله فقد أزرى على المهاجرين والأنصار واثني عشر ألفاً من أصحاب محمد). قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي سنان إلا حازم بن جبلة ولا يروى عن عمار إلا بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 56): رواه الطبراني في ((الأوسط)) وفيه حازم بن جبلة ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.

ثانيا: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما

ثانيا: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما أما المفاضلة بين عثمان وعلي فهذه دون تلك، وقد حصل فيها نزاع بين السلف قال ابن تيمية: (فإن سفيان الثوري وطائفة من أهل الكوفة رجحوا عليًا على عثمان، ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره، وبعض أهل المدينة توقَّف في عثمان وعلي وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على علي كما هو مذهب سائر الأئمة كالشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام) (¬1). أما أبو حنيفة رحمه الله فقد روي عنه (تقديم علي على عثمان) (¬2) وجاء في (السير الكبير) لمحمد بن الحسن الشيباني: (روى نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: سألته عن مذهب أهل السنة فقال: أن تفضل أبا بكر وعمر، وتحب عليًّا وعثمان، وترى المسح على الخفين (¬3)، ولا تكفر أحدًا من أهل القبلة، وتؤمن بالقدر، ولا تنطق في الله بشيء ... ) ثم قال الشارح: (ومن الناس من يقول: قبل الخلافة كان عليًّا مُقَدَّمًا على عثمان، وبعد الخلافة عثمان أفضل من علي) (¬4) ثم اعتذر الشارح عن كلام الإمام السابق بقوله: (ولم يُرِدْ أبو حنيفة رضي الله عنه بما ذكر تقديم علي على عثمان، ولكن مراده أن محبتهما من مذهب أهل السنة فالواو عنده لا توجب الترتيب) (¬5). قلت: بل قد صرَّح في الفقه الأكبر بتقديم عثمان على علي فقال: (وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام أبو بكر، ثم عمر بن الخطاب الفاروق، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضي الله تعالى عنهم أجمعين) (¬6). وهو ظاهر المذهب قال السرخسي: (فأما المذهب عندنا أن عثمان أفضل من علي رضوان الله عليهما قبل الخلافة وبعدها) (¬7). أدلة تفضيل عثمان على علي رضي الله عنه: ... أن الغالبية العظمى من أهل السنة والجماعة على تقديم عثمان على علي، ولم يخالف إلا القليل، ويدل على صحة ما ذهبوا إليه ما يلي: - ما تقدّم من قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيّ: (أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم) (¬8). ¬

(¬1) [11193])) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 426). (¬2) [11194])) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 486). (¬3) [11195])) مخالفة للرافضة، لأنهم لا يرون المسح على الخفين ولا الصلاة فيها، ولذلك درج علماء السلف على ذكر هذه المسألة الفرعية في عقائدهم للدلالة على مخالفتهم للرافضة. (¬4) [11196])) ((شرح السير الكبير)) (1/ 111). (¬5) [11197])) ((شرح السير الكبير)) (1/ 111). (¬6) [11198])) انظر: ((الفقه الأكبر)) لأبي حنيفة (ص: 41). (¬7) [11199])) ((شرح السير الكبير)) (1/ 111)، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص: 486). (¬8) [11200])) رواه أبو داود (4628). وسكت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

- وكذلك في قصة بيعة عثمان الثابتة في الصحيح (¬1) - كما مر - أنه لما لم يبق في الشورى إلا عثمان، وعلي، والحكم عبد الرحمن بن عوف، وبقي عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمهات المؤمنين، ويشاور أمراء الأمصار - فإنهم كانوا بالمدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته - حتى قال عبد الرحمن: (إن لي ثلاثًا ما اغتمضت بنوم) بعد هذا كله وبعد أخذ المواثيق منهما على أن يبايع من بايعه، أعلن النتيجة بعد هذا الاستفتاء وهي قوله: (إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان) فبايعه علي وعبد الرحمن وسائر المسلمين بيعة رضى واختيار فدلّ ذلك على تقديمه في الأفضلية عليه، قال ابن تيمية: (وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي) (¬2) ولما سأل رجل عبد الله بن المبارك أيهما أفضل علي أو عثمان قال: (قد كفانا ذاك عبد الرحمن بن عوف) (¬3)، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما ولي عثمان الخلافة (أمَّرنا خير من بقي ولم نَأْل) (¬4). ولهذا قال أيوب وأحمد بن حنبل والدارقطني: (من قَدَّم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) (¬5) ويفسِّر ابن تيمية ذلك بأنه: (لو لم يكن عثمان أحق بالتقديم وقد قدموه كانوا إما جاهلين بفضله، وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني، ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم) (¬6). والسلف وإن كان بعضهم يرى التوقف بعد ذكر عثمان، لا يقدِّمون على علي أحدًا بعد الثلاثة، كما قال الإمام أحمد: (من لم يربِّع بعلي فهو أضل من حمار أهله) (¬7) وإنما من قال بالتوقف في التفضيل عند عثمان يريد الاقتداء بحديث ابن عمر السابق، فيذكرون الثلاثة ثم يجملون بقية أصحاب الشورى كما هي رواية عن الإمام أحمد نفسه فقد ذكر عنه اللالكائي قوله: (وخير الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان. نقدِّم هؤلاء الثلاثة كما قدَّمهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا في ذلك، ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد كلهم يصلح للخلافة وكلهم إمام، ونذهب إلى حديث ابن عمر (كنا نعدّ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيّ وأصحابه متوافرون أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان) (¬8). وبنحوه تمامًا عن علي بن المديني (¬9). وإن كان ورد عنه نفسه رحمه الله روايات ينص فيها على التربيع بعلي منها الرواية السابقة: (من لم يربِّع بعلي فهو أضل من حمار أهله). ومنها رواية الإصطخري حيث قال فيها: (وخير الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان، ووقف قوم على عثمان) (¬10). ¬

(¬1) [11201])) الحديث مطولاً رواه البخاري (3700). من حديث عمرو بن ميمون رضي الله عنه. (¬2) [11202])) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 428). (¬3) [11203])) ((السنة)) للخلال (2/ 389). (¬4) [11204])) رواه الطبراني (9/ 170) (8861). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 91): رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (ص: 120): [ورد] بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح. (¬5) [11205])) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 428). وانظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص 486). (¬6) [11206])) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 428). (¬7) [11207])) ((منهاج السنة)) (2/ 208). (¬8) [11208])) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 159). (¬9) [11209])) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 167). (¬10) [11210])) ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 30).

ولذلك كانت خلاصة رأي الإمام أحمد رحمه الله في التفضيل - على ما يراه الخلال - هي من قوله: (من قال: أبو بكر وعمر وعثمان فقد أصاب. وهو الذي العمل عليه، ومن قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فصحيح أيضًا جيد لا بأس به وبالله التوفيق) (¬1). قلت: لكنه ورد عنه رحمه الله تكذيبه لمن نسبه إلى التوقف عند عثمان فقال في رواية محمد بن عوف الحمصي: (وخير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فقلت له يا أبا عبد الله، فإنهم يقولون: إنك وقفت على عثمان؟ فقال: كذبوا والله علي، إنما حدثتهم بحديث ابن عمر - وذكر الحديث - ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تخايروا بعد هؤلاء بين أحد، ليس لأحد في ذلك حجة، فمن وقف على عثمان ولم يربع بعلي فهو على غير السنة يا أبا جعفر) (¬2). فالحاصل أن من نص على التربيع على علي، ومن توقف عن التنصيص عند عثمان، كلهم لا يقدمون على علي بعد الثلاثة أحدًا، ولا يلزم من عدم التنصيص عليه بعد عثمان أنهم يقدمون عليه أحدًا، قال ابن تيمية: (فليس في أهل السنة من يقدم عليه - أي علي - أحدًا غير الثلاثة، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وما في أهل السنة من يقول: إن طلحة والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه، بل غاية ما يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى) (¬3) وقد حكى الحافظ ابن حجر الإجماع على أن ترتيب الخلفاء في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة (¬4). لكن من قدم عليًا على عثمان هل هو مبتدع أم لا؟ وعلى هذا السؤال يجيب الخلال، فقد قال بعد ذكره لعدة روايات مسنده عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل فيمن قدم عليًا على عثمان قال: (فاستقر القول من أبي عبد الله أنه يكره هذا القول ولم يجزم في تبديعه، وإن قال قائل: هو مبتدع لم ينكر عليه وبالله التوفيق) (¬5). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 317 هذا وبعض أهل السنة قد خمَّس بالخلفاء الراشدين، ولكن اختلفوا في الخامس، فمنهم من جعله عمر بن عبد العزيز، وُروي ذلك عن سفيان الثوري (¬6) وروي عن الشافعي (¬7) أيضًا. ومنهم من جعله الحسن بن علي لخلافته التي مدتها ستة أشهر قبل الصلح، واستدلوا على ذلك بحديث سفينة السابق ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة ... )) (¬8) الحديث. وقد عدّوا هذه الأشهر الستة تمام الثلاثين سنة (¬9). ¬

(¬1) [11211])) ((السنة)) للخلال (2/ 410). (¬2) [11212])) ((طبقات الحنابلة)) (1/ 313). (¬3) [11213])) ((منهاج السنة)) (2/ 206). (¬4) [11214])) ((فتح الباري)) (7/ 34). (¬5) [11215])) ((السنة)) للخلال (2/ 382). (¬6) [11216])) رواه أبو داود (4631)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 32). قال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): ضعيف الإسناد مقطوع. (¬7) [11217])) رواه ابن أبي حاتم في ((آداب الشافعي ومناقبه) (1/ 145)، والبيهقي في ((مناقب الشافعي)) (1/ 448). (¬8) رواه أبو داود (4646)، والحاكم (3/ 156)، والطبراني (7/ 84) (6459) بلفظ: ((خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء)). ورواه الترمذي (2226)، وأحمد (5/ 221) (21978)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 47) (8155). بلفظ: ((الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك)). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 141): حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) و ((صحيح سنن الترمذي)). (¬9) [11219])) انظر: ((تاريخ الخلفاء)) للسيوطي (ص: 9).

وهذا القول أقوى من سابقه، لأن معاوية رضي الله عنه أفضل من عمر بن عبد العزيز ولم يُعَّد منهم، ويكفيه فضلاً صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتابته الوحي بين يديه وغيرهما (¬1) وإنما اشتهر فضل عمر بن عبد العزيز لأنه أتى بعد سنوات من الظلم والعَسْفِ، فرفع المظالم ورد الأمانات إلى أهلها. أما معاوية رضي الله عنه فقد جاء بعد أفضل الأمة بعد الأنبياء، وهم الخلفاء الأربعة الراشدون رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومع ذلك فقد كان له من الفضل والأمانة وحسن سياسة الرعية ومحبتهم له الشيء الكثير، روى الأثرم بسنده إلى أبي هريرة المكتَّب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش: (فكيف لو أدركتم معاوية؟) قالوا في حلمه؟ قال: (لا والله بل في عدله) (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة) (¬3). وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في فضله رضي الله عنه، هذا من ناحية الخلفاء، أما أفضل الصحابة عمومًا بعد الأربعة فهم بقية أهل الشورى. من السنة المفاضلة بين الخلفاء الراشدين قد يعترض معترض فيقول: الأولى أن نحبّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعاً ولا نفاضل بينهم، ولهذا المعترض نقول: السنة المفاضلة بينهم على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وسار عليه السلف الصالح من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين على سائر الصحابة، وقد سئل الإمام أحمد عن رجل يحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يفضل بعضهم على بعض وهو يحبهم قال: (السنة أن يفضل أبا بكر وعمر وعثمان وعلي من الخلفاء) (¬4). وإنما الذي ذموا التحدث فيه والتعرض له هو ما شجر بين الصحابة من قتال وفتن بعد مقتل الشهيد عثمان رضي الله عنه، ثم النزاع الذي حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ومن معهما من الصحابة. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي - ص: 327 ¬

(¬1) [11220])) انظر: ((العواصم من القواصم وحاشيته)) (ص: 151). (¬2) [11221])) رواه الخلال في ((السنة)) (2/ 437). (¬3) [11222])) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 478). (¬4) [11223])) رواه الخلال في ((السنة)) (2/ 372).

الفرع الرابع: المفاضلة بين جماعات الصحابة

الفرع الرابع: المفاضلة بين جماعات الصحابة لقد دل كتاب الله على تفاضل جماعات الصحابة، فالله عز وجل فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، والمقصود بالفتح صلح الحديبية (¬1). قال سبحانه: لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10]. وفضل الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على من دونهم، فقال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة: 100]. وهذا نص على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كما يقول القرطبي (¬2). وقد اختلف في تعيين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على أقوال (¬3): أحدها: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين. الثاني: أنهم أهل بيعة الرضوان. الثالث: أنهم أهل بدر. الرابع: أنهم جميع الصحابة بلا استثناء وأن الذين اتبعوهم بإحسان هم تابعوهم من غير الصحابة. هذه الأقوال المنقولة عن السلف من الصحابة والتابعين، وزاد المتأخرون قولين: أحدهما: أنهم السابقون بالموت والشهادة، قال ابن الجوزي: (ذكره الماوردي) (¬4). الثاني: أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة، قال ابن الجوزي: (ذكره القاضي أبو يعلى) (¬5). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (23/ 175)، و ((تفسير ابن كثير)) (8/ 12). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (8/ 236). (¬3) ((تفسير الطبري)) (11/ 6) و ((الاستيعاب – بهامش الإصابة -)) (1/ 2) و ((زاد المسير)) (3/ 490) و ((تفسير القرطبي)) (8/ 236) و ((الدر المنثور)) (3/ 269). (¬4) ((زاد المسير)) (3/ 490). (¬5) ((زاد المسير)) (3/ 491).

قال القرطبي: (واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم) (¬1). والذي أرى في اللفظ دلالة عليه أن المراد بالسابقين الأولين الذين سبقوا إلى الإسلام والهجرة والنصرة, وابتدروا ذلك قبل تمكن الإسلام وتتابع الناس عليه، ولا شك أن أول من يدخل في هؤلاء أوائل من أسلم من المهاجرين كالخلفاء الأربعة ومن الأنصار الذين أسلموا ليلتي العقبة. ولعل جميع من أسلم حتى غزوة الحديبية من السابقين الأولين (¬2). ذلك أن صلح الحديبية كان فتحاً للمسلمين، فقد نزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا [الفتح: 1]. في منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية (¬3). ولم يكن الصحابة يعدون الفتح إلا الحديبية كما قال البراء رضي الله عنه: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية) (¬4). وفي (مغازي الواقدي) عن أبي بكر وعمر أن كلاً منهما قال: (ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية) (¬5). فكان يوم الحديبية فتحاً للإسلام والمسلمين تتابع الناس بعده على الإسلام لما ترتب على الصلح من وقوع الأمن ورفع الحرب وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد وعمرو وغيرهما، ولعله مما يقوي هذا الرأي تفسير جمع من أهل العلم الفتح بالحديبية في قوله: لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا فيستأنس بهذا التفضيل في الآية على أنه للسابقين الأولين، وتفسير العلماء للفتح بالحديبية على أن السابقين هم من أسلم قبل الحديبية. والله أعلم. ودل كتاب الله على تفضيل المهاجرين على الأنصار فقد قدم الله ذكرهم على ذكر الأنصار في كتابه، قال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 74]. فقدم ذكر الذين هاجروا على الذين آووا ونصروا. ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (8/ 236). (¬2) ((سير أعلام النبلاء)) (1/ 144). (¬3) ((أسباب النزول)) للواحدي (ص: 256). (¬4) رواه البخاري (4150). (¬5) ((المغازي)) (2/ 609).

وقال سبحانه: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة: 117]. فبدأ بذكر المهاجرين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم بذكر الأنصار، وقال سبحانه: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 8 - 9]. فبدأ بذكر المهاجرين ثم الأنصار، وأفرد سبحانه ذكر المهاجرين في مواضع من كتابه كقوله: فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [آل عمران: 195]. وقال سبحانه: الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [التوبة: 20]. وقال سبحانه: وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 41 - 42]. قال ابن تيمية رحمه الله في بيان أصول أهل السنة: (ويفضلون من أنفق من قبل الفتح – وهو صلح الحديبية – وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار) (¬1). وفي عقيدة الإمام أحمد أنه كان يقول: (أفضل الصحابة أهل بيعة الرضوان وخيرهم وأفضلهم أهل بدر، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وأعيانهم الأربعون أهل الدار، وخيرهم عشرة شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو عنهم راض, وأعيانهم أهل الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمسلمين, وأفضلهم الخلفاء الأربعة) (¬2). وقد صنف العلماء الصحابة في طبقات اختلفوا في عددها، قال السيوطي في (شرح التقريب) (واختلف في عدد طبقاتهم – (يعني الصحابة) – باعتبار السبق إلى الإسلام, أو الهجرة, أو شهود المشاهد الفاضلة، فجعلهم ابن سعد خمس طبقات, وجعلهم الحاكم اثنتي عشرة طبقة) (¬3). قال أحمد شاكر رحمه الله: (وزاد بعضهم أكثر من ذلك، والمشهور ما ذهب إليه الحاكم) (¬4). والمراتب التي جعلها الحاكم للصحابة هي: قوم أسلموا بمكة. أصحاب دار الندوة. المهاجرة إلى الحبشة. أصحاب بيعة العقبة الأولى. أصحاب بيعة العقبة الثانية. أول المهاجرين الذين وصلوا والنبي في قباء قبل أن يدخلوا المدينة ويبنى المسجد. أهل بدر. المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية. أهل بيعة الرضوان. المهاجرة بين الحديبية والفتح. الذين أسلموا يوم الفتح. صبيان وأطفال رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرها وعدادهم في الصحابة (¬5). ولعل المراتب السبع الأولى هي مراتب السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والله أعلم. ¬

(¬1) ((العقيدة الواسطية – ضمن المجموعة العلمية)) (ص: 85). (¬2) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 272). (¬3) ((تدريب الراوي)) (2/ 221). (¬4) ((الباعث الحثيث)) (ص: 156). (¬5) ((معرفة علوم الحديث)) (ص: 23).

أما الطبقات الخمس التي جعلها ابن سعد في كتابه للصحابة فالأمر فيها ما قاله أحمد شاكر: (لو كان المطبوع كاملا لاستخرجناها منه وذكرناها) (¬1). وأظن أن الطبقات التي جعلها ابن سعد هي الطبقات التي صنف عليها ابن الجوزي في كتابه (صفة الصفوة) من ترجم له من الصحابة، فإنه قال: (بدأت بذكر العشرة ثم ذكرت من بعدهم على ترتيب طبقاتهم) (¬2) والطبقات التي ذكرها خمس هي: الطبقة الأولى على السابقة في الإسلام ممن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار، وحلفائهم ومواليهم (¬3). من لم يشهد بدراً من المهاجرين والأنصار وله إسلام قديم (¬4). من شهد الخندق وما بعده (¬5). من أسلم عند الفتح وفيما بعد ذلك (¬6). الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أحداث الأسنان (¬7). وفي المطبوع من (طبقات ابن سعد) ذكر الطبقتين الأوليين على نفس الوصف الذي ذكره ابن الجوزي تماماً (¬8). والعلماء وإن أرادوا بهذا التقسيم معرفة الصحابة لا ذكر التفاضل إلا أنهم قد اعتبروا وجوه الفضل والتفاضل في التقسيم، والله أعلم. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد الشظيفي –ص: 267 القسم الثاني: في ترتيب التفاضل بين جماعات الصحابة – رضي الله عنهم: وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: مذهب أهل السنة: ويرى أن أفضل جماعات الصحابة رضي الله عنهم: الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون بعدهم إلى تمام العشرة المبشرين بالجنة. ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. وممن ذكر ذلك أبو منصور البغدادي حيث قال في (أصول الدين): (أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم: الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون بعدهم إلى تمام العشرة وهم: طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم. ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية) (¬9). كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره (¬10). صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة – عيادة أيوب الكبيسي – ص: 251 جاء في عقيدة الإمام أحمد وعلي بن المديني اللتين رواهما اللالكائي بسنده عنهما أنه يلي الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان في الفضل بقية أصحاب الشورى الخمسة: علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص (¬11) وهما لا يقدمان على علي أحداً بعد الثلاثة بل قالا هذا موافقة لحديث ابن عمر كما تقدم بيانه. ¬

(¬1) ((الباعث الحثيث)) (ص: 156). (¬2) ((صفة الصفوة)) (1/ 234). (¬3) ((صفة الصفوة)) (1/ 370). (¬4) ((صفة الصفوة)) (1/ 506). (¬5) ((صفة الصفوة)) (1/ 650). (¬6) ((صفة الصفوة)) (1/ 725). (¬7) ((صفة الصفوة)) (1/ 746). (¬8) ((طبقات ابن سعد)) (3/ 6 و 4/ 5). (¬9) ((أصول الدين)) (ص: 304). (¬10) انظر: ((الباعث الحثيث)) (ص: 183)، ((المختصر في علم رجال الأثر)) (ص: 32 - 33) (¬11) ((شرح أصول الاعتقاد)) (1/ 159 و 167) و ((طبقات الحنابلة)) (1/ 243).

قال ابن تيمية رحمه الله: (ما في أهل السنة من يقول: إن طلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه (يعني من علي) – بل غاية ما يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى وهؤلاء أهل الشورى عندهم أفضل السابقين الأولين والسابقون الأولون أفضل من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا) (¬1) والحاصل أن بقية أصحاب الشورى الذين جعل عمر رضي الله عنه فيهم الأمر من بعده يختارون أحدهم أفضل الصحابة بعد علي رضي الله عنه عند أهل السنة والجماعة، وقال الإمام أحمد: (ثم من بعد أصحاب الشورى: أهل بدر من المهاجرين ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدر الهجرة والسابقة أولاً فأول) (¬2). وقد نقل جماعة من أهل العلم أن أفضل الصحابة بعد الأربعة بقية العشرة المبشرين بالجنة وهم أصحاب الشورى المذكورون, وسعيد بن زيد, بن عمرو بن نفيل, وأبو عبيدة بن الجراح (¬3). ثم من بعد العشرة أهل بدر الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) (¬4). وفي لفظ: ((فقد وجبت لكم الجنة)) (¬5). وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين – أو كلمة نحوها – قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة)) (¬6). ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان الذين قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10]. وقال فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]. وقال فيهم صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل النار، إن شاء الله، من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها)) (¬7). وقد كانوا أكثر من ألف وأربعمائة صحابي كما في الصحيح (¬8). ذكر هذا الترتيب في الفضل بعد العشرة النووي (¬9). وابن الصلاح (¬10)، وابن كثير (¬11). وذكر السفاريني تقديم أهل بيعة الرضوان على أهل أحد بعد أهل بدر وقال: (هو الأصح)، وقال: (لأن الله تعالى قال في أهل بيعة الرضوان: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]. وقال في أهل غزوة أحد: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران: 155]. وفي الآية الأخرى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ [آل عمران: 152]. فوصفهم في الموضعين بالعفو, ووصف أهل البيعة بالرضى, وهو أعلى وأسنى وأفضل من العفو) قال: (وهذا ظاهر والله تعالى أعلم) (¬12). مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد الشظيفي – ص 265 قال بعض العلماء: أن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان، ومن المعلوم أن من الصحابة من كان من أهل بدر ومن العشرة ومن أهل بيعة الرضوان ومن أهل أحد يعني بعض الصحابة اجتمعت لهم الأوصاف الأربعة وبعضهم لا، إذا قلنا: إن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان، أيهم أكثر؟ أهل بيعة الرضوان لأن أهل بيعة الرضوان ألف وأربعمائة وأهل أحد نحو سبعمائة نفر لكن أصابهم من البلاء والتمحيص والقتل ما لم يكن في بيعة الرضوان، لهذا رجَّح بعض العلماء أهل أحد على أهل بيعة الرضوان، ولكن الذي يظهر القول الأول: أن أهل بيعة الرضوان أفضل شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين - ص:621 ¬

(¬1) ((منهاج السنة)) (4/ 397). (¬2) ((شرح أصول الاعتقاد)) (1/ 159). (¬3) ((عقيدة الحافظ المقدسي، ضمن المجموعة العلمية السعودية)) (ص: 52) و ((الجامع من المقدمات)) (175) و ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 149) و ((الباعث الحثيث)) (ص: 156) و ((تقريب النواوي وشرحه التدريب)) (2/ 223) و ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 357) و ((معارج القبول)) (2/ 584). (¬4) رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (3983). (¬6) رواه البخاري (3992). من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه. (¬7) رواه مسلم (2496). من حديث أم مبشر رضي الله عنها. (¬8) ((صحيح البخاري مع الفتح)) (7/ 441). (¬9) ((التقريب مع التدريب)) (2/ 223). (¬10) ((المقدمة)) (ص: 149). (¬11) ((اختصار علوم الحديث- مع الباعث الحثيث -)) (ص: 156). (¬12) ((اللوامع)) (2/ 372).

الفرع الخامس: المفاضلة بين الصحابيات

الفرع الخامس: المفاضلة بين الصحابيات لا ريب أن التفاضل كما أنه واقع بين الصحابة واقع بين الصحابيات أيضاً، ولقد ثبت في الكتاب والسنة تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم عامة, وخديجة وعائشة خاصة وابنته فاطمة رضي الله عنهن على جميع الصحابيات. قال تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب: 32]. فهذا في تفضيل نساء النبي صلى الله عليه وسلم عامة, وأنه لا يلحقهن في فضلهن إن اتقين الله أحد من النساء فهن أكرم على الله من غيرهن. وقال صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة)) (¬1). فهذا في تفضيل خديجة رضي الله عنها. وقال صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام)) (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) (¬3). وفي لفظ: ((أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة)) (¬4). وقد اشتهر الخلاف في خديجة وعائشة وفاطمة أيهن أفضل (¬5) رضي الله عنهن، قال ابن تيمية: (أفضل نساء هذه الأمة خديجة وعائشة وفاطمة، وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع وتفصيل) (¬6). وإذا نظرنا في النصوص الواردة في تفضيل كل واحدة منهم – رضي الله عنهن – وجدنا أن اللفظ الوارد في تفضيل خديجة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها خديجة)) إنما يتضح تمام معناه بمعرفة الضمير على أي شيء يعود، وقد ورد ما يفسر ذلك صريحاً فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لقد فضلت خديجة على نساء أمتي)) (¬7). وقال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل نساء أهل الجنة خديجة, وفاطمة, ومريم, وآسية)) (¬8). قال ابن حجر: (وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل) (¬9). وقال صلى الله عليه وسلم: ((حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران, وخديجة بنت خويلد, وفاطمة بنت محمد, وآسية امرأة فرعون)) (¬10). فهذا النص في خديجة رضي الله عنها أنها أفضل نساء الأمة. ¬

(¬1) رواه البخاري (3432). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (3411)، ومسلم (2431). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (6285)، ومسلم (2450). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) ((البخاري مع الفتح)) (6/ 628). (¬5) ((أصول الدين)) (306) و ((الروض الأنف)) (2/ 268) و ((الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة)) (56) و ((فتح الباري)) (7/ 139) و ((بدائع الفوائد)) (3/ 163) و ((جلاء الأفهام)) (122). (¬6) ((الفتاوى)) (4/ 394). (¬7) رواه الطبراني كما في مجمع الزوائد (9/ 226)، والبزار (4/ 255). من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما. قال الهيثمي: رواه الطبراني، والبزار، وفيه أبو يزيد الحميري، ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا. (¬8) رواه أحمد (1/ 293) (2668)، وابن حبان (15/ 470) (7010)، وأبو يعلى (5/ 110) (2722)، والطبراني (11/ 336) (11955)، والحاكم (2/ 539). هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وحسن إسناده النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/ 341)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد) (9/ 226): رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم رجال الصحيح. (¬9) ((فتح الباري)) (7/ 135). (¬10) رواه الترمذي (3878)، وأحمد (3/ 135) (12414)، وابن حبان (15/ 464) (7003)، والطبراني (22/ 402) (18855)، والحاكم (3/ 172). قال الترمذي: صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 543).

ثم إن اللفظ الوارد في تفضيل فاطمة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) وفي لفظ: ((سيدة نساء أهل الجنة)) فهو صريح لا لبس فيه ولا يحتمل التأويل، وهو نص في أنها أفضل نساء الأمة, وسيدة نساء أهل الجنة، وقد شاركت أمها في هذا التفضيل, فهي وأمها أفضل نساء أهل الجنة، وهي وأمها أفضل نساء الأمة، بهذا وردت النصوص. وأما اللفظ الوارد في تفضيل عائشة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام)) فهو لفظ لا يستلزم الأفضلية المطلقة كما يقول ابن حجر (¬1) وقال رحمه الله: (وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها، لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤنة وسهولة الإساغة، وكان أجل أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى) (¬2) ومحصل القول في الحديث أنه دال على أفضلية عائشة إلا أنه لا يستلزم الأفضلية المطلقة, إذ هو مقيد بما ورد في خديجة وفاطمة رضي الله عنهما, فهو دال على تفضيل عائشة على النساء إلا خديجة وفاطمة. وأما حديث عمرو بن العاص لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((عائشة)) (¬3) فإن ابن حبان رحمه الله دلل على تقييده في نسائه صلى الله عليه وسلم فقد عقد عنواناً في (صحيحه) فقال: (ذكر خبر وهم في تأويله من لم يحكم صناعة الحديث) وأخرج تحته حديث عمرو بلفظ: ((قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، فقال: أبو بكر أو قال أبوها)) ثم قال ابن حبان: (ذكر الخبر الدال على أن مخرج هذا السؤال معا كان عن أهله دون سائر النساء في فاطمة وغيرها) وأخرج بسنده عن أنس قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة, قيل له: ليس عن أهلك نسأل، قال: فأبوها)) (¬4). ثم هو محمول على إرادة الأحياء من زوجاته الموجودات حين السؤال، ثم هو وإن دل على عموم تفضيلها رضي الله عنها إلا أنه مقيد بالنص في خديجة وفاطمة والله أعلم. فالنصوص دالة دلالة بينة لا تحتاج إلى تأويل على أن عائشة تلي خديجة وفاطمة في الفضل رضي الله عنهن، وعلى المخالف أن يأتي بالدليل على استثناء عائشة رضي الله عنها، من قوله صلى الله عليه وسلم في كل من خديجة وفاطمة أنها أفضل أهل الجنة وأنها سيدة نساء هذه الأمة. على أن لعائشة رضي الله عنها من الفضائل كالعلم مثلاً ما تختص به خديجة وفاطمة رضي الله عنهن، وفضائلها رضي الله عنها لا تحصر، إلا أن هذا على نحو ما تقرر من أنه لا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق. هذا، والنص لم يرد بتفضيل خديجة أو فاطمة على عائشة لفظاً كما ورد بتفضيل أبي بكر على عمر مثلاً, ولولا ما حدث من الكلام في هذا الأمر واشتهار الخلاف فيه حتى أنه قد أُلف (¬5) فيه لكان الواجب الأخذ بالأصل وهو أن يسعنا ما ورد في الشرع من إقرار ما جاء من الفضل لخديجة، وما جاء منه لفاطمة، وما جاء منه لعائشة على نحو ما ورد في النصوص من غير تعرض للمفاضلة بينهن، فإن دعت حاجة شرعية لذكر المفاضلة بينهن ذكرت، والله أعلم. ¬

(¬1) ((الفتح)) (7/ 107). (¬2) ((الفتح)) (6/ 447). (¬3) رواه البخاري (3662)، ومسلم (2384). (¬4) ((الإحسان)) (9/ 119). (¬5) ((أصول الدين للبغدادي)) (306).

وقد قامت بعض الأدلة غير التي ذكرت على تفضيل خديجة على عائشة منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام وطعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني, وبشرها ببيت في الجنة من قصب, لا صخب فيه ولا نصب)) (¬1) وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: ((يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته, ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬2). فالسلام لخديجة رضي الله عنها كان من الرب سبحانه ومن جبريل، ولعائشة رضي الله عنها من جبريل فقط (¬3). وفي المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت في خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين, هلكت في الدهر, فقد أبدلك الله خيراً منها)) (¬4). وورد في هذه القصة في غير الصحيحين بأسانيد حسان زيادة أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حتى أقسمت عائشة ألا تذكر خديجة بعد ذلك إلا بخير (¬5) , وفي رواية زيادة قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبدلني الله خيراً منها)) وذكره صلى الله عليه وسلم جملة من فضائلها (¬6). ولقد قالت عائشة رضي الله عنه: ((ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة, وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صداق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت, وكان لي منها ولد)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (3820)، ومسلم (2432). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (3768). (¬3) ((فتح الباري)) (7/ 107، 139) و ((جلاء الأفهام)) (123). (¬4) ((البخاري مع الفتح)) (7/ 134) و ((مسلم)) (4/ 1889). (¬5) الحديث رواه الطبراني (23/ 14) (18978). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/ 426): إسناد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين لكنه منقطع. (¬6) رواه أحمد (6/ 117) (24908). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (3/ 126)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 227)، والشوكاني في ((در السحابة)) (249): إسناده حسن. (¬7) رواه البخاري (3818).

وقد قال ابن العربي في خديجة رضي الله عنها: (وهي أفضل نساء الأمة من غير خلاف) (¬1). قال ابن حجر: (رد بأن الخلاف ثابت قديماً وإن كان الراجح أفضلية خديجة) (¬2). وعائشة رضي الله عنها أفضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، لأنه لم يقيد من عموم تفضيلها على النساء إلا خديجة وفاطمة بالنص, ولقد ورد فيما لا يحصى من النصوص ما يدل على تفضيلها رضي الله عنها على بقية زوجاته صلى الله عليه وسلم، منها حديث: ((كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس: أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها)) (¬3) وفي رواية: ((أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله)) (¬4). وحديث: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة، قالت عائشة: فلما كان يومي سكن)) (¬5). وروى أن زياداً بعث إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمال وفضل عائشة فجعل مبعوثه يعتذر إلى أم سلمة فقالت: ((يعتذر إلينا زياد فقد كان يفضلها من كان أعظم علينا تفضيلاً من زياد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬6). ثم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل نساء الأمة لقوله تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ وإنما خصت فاطمة رضي الله عنها من عموم الآية بقوله صلى الله عليه وسلم فيها أنها سيدة نساء الأمة (¬7). وقد قيل إن الإجماع انعقد على أفضلية فاطمة (¬8). والحاصل أن فاطمة سيدة نساء هذه الأمة، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المؤمنات على الإطلاق وأفضلهن خديجة وقد شاركتها ابنتها فاطمة في كونهما أفضل نساء الأمة، ثم بعد خديجة عائشة ثم بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم بعد عائشة، هذا وفي حديث عائشة رضي الله عنها الطويل الذي فيه ما وقع لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيذاء والمتاعب لما خرجت من مكة بعد قدوم أبيها صلى الله عليه وسلم المدينة قال صلى الله عليه وسلم في زينب: ((هي أفضل بناتي، أصيبت في)) (¬9). وهذا يشكل ما ورد في فاطمة رضي الله عنها من التفضيل لأنه يدل على أن زينب أفضل من فاطمة رضي الله عنهما. وقد أجاب الطحاوي عن هذا الإشكال بأن ذلك كان متقدماً ثم وهب الله فاطمة من الفضائل والأحوال الشريفة ما لم يشاركها فيه أحد من نساء الأمة، قال: (وكانت – (يعني فاطمة) – قبل ذلك الوقت الذي استحقت زينب ما استحقت من الفضيلة صغيرة غير بالغة مما لا يجري لها ثواب بطاعتها, ولا عقاب بخلافها) (¬10). وذكر ابن حجر وجها آخر من الجواب وهو احتمال تقدير (من) فيكون المراد من أفضل بناتي (¬11) .. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد الشظيفي –ص: 274 ¬

(¬1) ((عارضة الأحوذي)) (13/ 253). (¬2) ((فتح الباري)) (7/ 139). (¬3) رواه البخاري (3775). من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (2574)، ومسلم (2441). من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (3774). من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه. (¬6) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 114) (2651). من حديث عمرو بن الحارث بن المصطلق رضي الله عنه. وحسن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 245). (¬7) الحديث رواه البخاري (6285)، ومسلم (2450). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬8) ((فتح الباري)) (7/ 109). (¬9) رواه الحاكم (2/ 219). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وجود إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 136). (¬10) ((مشكل الآثار)) (1/ 46). (¬11) ((الفتح)) (7/ 109).

المطلب الثالث: فضائل الخلفاء الأربعة

الفرع الأول: فضل أبي بكر الصديق هو أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة التيمي، أول الرجال إسلاماً، وأفضل الأمة على الإطلاق رضي الله عنه ....... وأما فضله فقال تبارك وتعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40]، وقال الله تبارك وتعالى وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33]، وقال وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17 – 21] حكى جماعة من المفسرين على أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه (¬1). وفي (الصحيحين) من حديث الهجرة الطويل: ((فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب، قد لحقنا يا رسول الله، فقال: لا تحزن إن الله معنا)) (¬2). وفيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: ((قلت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) (¬3). وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كنّا نخير بين الناس في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم)) (¬4). وفي لفظ قال: ((كنّا في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)) (¬5). وفيهما واللفظ لمسلم عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنّهما سمعا أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجلٌ يسوق بقرةً له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت: إنّي لم أخلق لهذا ولكنّي إنّما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله تعجباً وفزعاً أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنّي أؤمن به وأبو بكر وعمر)) وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما راعٍ في غنمه عدا عليها الذئب فأخذ منه شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري. فقال الناس: سبحان الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنّي أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)) (¬6).، وفي رواية لهما: ((ومن ثم أبو بكر وعمر)) (¬7). ولمسلم ((وما هما ثم)) (¬8). وفي (صحيح البخاري) عن همام قال: سمعت عماراً يقول: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلاّ خمسة أعبُدٍ وامرأتان وأبو بكر)) (¬9). ¬

(¬1) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1/ 64) , والآجري في ((الشريعة)) (3/ 417). (¬2) رواه البخاري (3652) , ومسلم (2009) , من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (3653) , ومسلم (2381). (¬4) رواه البخاري (3655). (¬5) رواه البخاري (3697). (¬6) رواه البخاري (3663) , ومسلم (2388). (¬7) رواه البخاري (3690). (¬8) رواه مسلم (2388) (م2). (¬9) رواه البخاري (3660).

وفيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ((كنت جالساً عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أمّا صاحبكم فقد غامر، فسلّم وقال: يا رسول الله إنّه كان بيني وبين ابن الخطاب شيءٌ فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر (ثلاثاً)، ثم إنّ عمر رضي الله عنه ندم فأتى منزل أبا بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسلّم عليه فجعل وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتمعّر حتى أشفق أبو بكر رضي الله عنه فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم. مرتين. فقال صلى الله عليه وسلم: إنّ الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين. فما أوذي بعدها – وفي رواية – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم تاركو لي صاحبي، هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إنّي قلت يا أيّها الناس إنّي رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت)) (¬1). قال أبو عبد الله - هو البخاري -: سبق بالخير. ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أنفق زوجين من شيءٍ من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنّة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصّدقة دعي من باب الصّدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان. فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة. وقال: هل يدعى منها كلها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)) (¬2). وفيه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: ((أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعدّ رجالاً)) (¬3). وفيه عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أيّ الناس خيرٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلاّ رجلٌ من المسلمين (¬4). وفيه عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (3661). (¬2) رواه البخاري (3666) , ومسلم (1027). (¬3) رواه البخاري (3662) , ومسلم (2384). (¬4) رواه البخاري (3671). (¬5) رواه البخاري (4815).

وفيهما عن سعيد بن المسيب قال: أخبرني أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنّه توضّأ في بيته ثم خرج فقلت: لألزمنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكوننّ معه يومي هذا، قال فجاء المسجد فسأل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: خرج ووجّه ههنا، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس فجلست عند الباب وبابها من جريد – حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فتوضّأ، فقمت إليه فإذا هو جالسٌ على بئر أريس وتوسّط قفّها وكشف عن ساقيه ودلاّهما في البئر فسلّمت عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت لأكوننّ بوّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رسلك، ثم ذهبت فقلت يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشّره بالجنة، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشّرك بالجنة، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلّى رجليه في البئر كما صنع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكفّ عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلانٍ خيراً – يريد أخاه – يأت به، فإذا إنسانٌ يحرّك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّمت عليه فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: ائذن له وبشّره بالجنّة، فجئت فقلت له: ادخل وبشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القفّ عن يساره ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلانٍ خيراً يأت به، فجاء إنسانٌ يحرّك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ائذن له وبشّره بالجنّة على بلوى تصيبه، فقلت له: ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة على بلوى تصيبك، فدخل فوجد القفّ قد ملئ فجلس وجاهه من الشّقّ الآخر. قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم (¬1). وفيهما عن أنس رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: ((اثبت، فإنما عليك نبيٌّ وصدّيقٌ وشهيدان)) (¬2). وله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً. قال فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكلّ ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسبقه إلى شيءٍ أبداً)) هذا حديث حسن صحيح (¬3). ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئٍ إلاّ دخل الجنّة)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (3674) , ومسلم (2403). (¬2) رواه البخاري (3675). (¬3) رواه أبو داود (1678) , والترمذي (3675)، والحاكم (1/ 574). والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وصححه النووي في ((المجموع)) (6/ 236) , وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (3/ 347): تفرد به هشام بن سعد [وهو] صدوق فيه مقال من جهة حفظه, وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه مسلم (1028).

والأحاديث في الصديق كثيرة جداً، قد أفردت بالتصنيف، وفيما ذكر كفاية في التنبيه على ما وراءه، وما أحسن ما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: إذا تذكّرت شجواً من أخٍ ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البريّة أوفاها وأعدلها ... بعد النّبيّ وأولاها بما حملا والتالي الثاني المحمود مشهده ... وأوّل النّاس منهم صدّق الرّسلا عاش حميداً لأمر الله متّبعاً ... بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا مواقفه العظيمة وأما ما منحه الله تعالى من المواقف العظيمة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حين بعثته إلى أن توفاه الله عز وجل من نصرته والذب عنه والشفقة عليه والدعوة إلى ما دعا إليه وملازمته إياه ومواساته بنفسه وماله، وتقدمه معه في كل خير، فأمرٌ لا تدرك غايته، ثم لما توفى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم كان من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن ولاه أمرهم بعد نبيه، وجمعهم عليه بلطفه، فجمع الله به شمل العرب بعد شتاته، وقمع به كل عدوّ للدين ودمّر عليه وألف له الأمة وردّهم إليه، بعد أن ارتدّ أكثرهم عن دينه وانقلب الغالب منهم على أعقابهم كافرين. حتى قيل: لم يبق يصلى إلاّ في ثلاثة مساجد الحرمين الشريفين, ومسجد العلاء الحضرمي بالبحرين، فردّهم الله تعالى إلى الحق طوعاً وكرهاً وأطفأ به كل فتنة في أقل من ستة أشهر ولله الحمد والمنة. قال الله تبارك وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [المائدة:54] الآيات. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري وقتادة: هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة (¬1). وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب، إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس، ومنع بعضهم الزكاة. وهمّ أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم فكره ذلك أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال عمر رضي الله عنه: ((كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم منّي ماله ونفسه إلا بحقه وحسابهم على الله عز وجل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله لأقتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها)) (¬2). قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كرهت الصحابة رضي الله عنهم قتال مانعي الزكاة وقالوا أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بداً من الخروج في أثره (¬3). قال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا حصين يقول: ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردّة (¬4). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (10/ 411، 412، 419). (¬2) رواه البخاري (1399، 1400) , ومسلم (20). (¬3) أورده البغوي في ((تفسيره)) (3/ 69). (¬4) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 83) , وأورده البغوي في ((تفسيره)) (3/ 70).

وكان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق: منهم بنو مذحجٍ ورئيسهم الخمار عبهلة بن كعب العنسي ويلقب بالأسود، وكان كاهناً مشعبذاً فتنبأ باليمن واستولى على بلاده، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم وعلى النّهوض لحرب الأسود فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال رضي الله عنه: ((فأتى الخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من السّماء في الليلة التي قتل فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: قتل الأسود البارحة قتله رجلٌ مبارك، قيل: ومن هو؟ قال: فيروز، فاز فيروز)) (¬1). فبشّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود وقبض النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعد ما خرج أسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه (¬2). والفرقة الثانية بنو حنيفة ورئيسهم مسيلمة الكذاب، وكان قد تنبّأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر وزعم أنّه اشترك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله: أما بعد فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك وبعث إليه رجلين من أصحابه فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)). ثم أجاب: ((من محمّدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى مسيلمة الكذاب: أمّا بعد فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين)) (¬3) ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذّاب في جيشٍ كثير حتى أهلكه الله على يد وحشي غلام مطعم بن عديّ الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديدة، وكان وحشي يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشرّ الناس في الإسلام (¬4). والفرقة الثالثة بنو أسد ورأسهم طليحة بن خويلد، وكان طليحة آخر من ارتدّ وادعى النبوّة في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأوّل من قوتل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الردّة، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد فهزمهم خالد بعد قتال شديد، وأفلت طليحة فمرّ على وجهه هارباً نحو الشام، ثم إنّه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه. ¬

(¬1) رواه الطبري في (تاريخه) (2/ 470)، وابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 342). (¬2) انظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 70)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (6/ 342). (¬3) رواه أبو داود (2761) , وأحمد (3/ 487) (16032) , والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (5/ 318) واللفظ له، والحاكم (2/ 155). والحديث سكت عنه أبو داود, وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (576) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (4/ 248): [فيه] ابن اسحاق مختلف فيه, قال الهيثمي: رواه أبو داود باختصار، رواه الطبرانى من طريق ابن اسحاق قال حدثنى شيخ من أشجع ولم يسمه، وسماه أبو داود [في السنن] سعد بن طارق، وبقية رجاله ثقات. وحسنه ابن حجر كما في ((هداية الرواة)) (4/ 72) - كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (8/ 182): صالح للاحتجاج, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)). (¬4) رواه الطبراني (3/ 146) , والبيهقي (9/ 98) , والطيالسي (1/ 186). والقصة بطولها رواها البخاري (4072). من حديث وحشي بن حرب رضي الله عنه.

وارتدّ بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير حتى كفى الله المسلمين أمرهم، ونصر دينه على يدي أبي بكر رضي الله عنه، قالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله وارتدت العرب واشرأبّ النفاق ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال لهاضها (¬1) ... وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] قال الحسن: هو والله أبو بكر وأصحابه (¬2). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في (سننه) وابن عساكر عن قتادة: قال الله تعالى هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ [المائدة:54] وقد علم أنّه سيرتد مرتدّون من الناس، فلما قبض الله نبيّه صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل الجواثي من عبد القيس. وقال الذين ارتدوا: نصلي الصلاة ولا نزكي، والله لا تغصب أموالنا. فكلم أبو بكر في ذلك ليتجاوز عنهم، وقيل له: إنّهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة. فقال: والله لا أفرّق بين شيء جمعه الله عز وجل، ولو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصائب مع أبي بكر فقاتلوا حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة (¬3). قال قتادة: فكنّا نتحدّث أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] إلى آخر الآية (¬4). ولا ينافي هذا ما ورد من أنّها نزلت في أهل اليمن كما أخرج ابن جرير عن شريح بن عبيد قال: لما أنزل الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ [المائدة:54]. الآية، قال عمر رضي الله عنه: أنا وقومي يا رسول الله؟ قال: ((لا بل هذا وقومه)) يعني أبا موسى الأشعري (¬5). ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (7/ 434)، والطبراني في ((الأوسط)) (5/ 148)، وفي ((الصغير)) (2/ 214)، والبيهقي (8/ 200). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 53): رواه الطبراني في ((الصغير)) و ((الأوسط)) من طرق ورجال أحدها ثقات. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (5/ 12). (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (21/ 430)، والبيهقي (8/ 178). وقال الذهبي في ((المهذب)) (6/ 3290): من مراسيل قتادة. والقصة رواها البخاري (1399)، ومسلم (20). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه الطبري في ((تفسيره)) (10/ 412). (¬5) رواه الطبري في ((تفسيره)) (10/ 416). قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 1106): أخرجه ابن جرير وإسناده مرسل صحيح، رجاله كلهم ثقات؛ فهو شاهد قوي في الجملة.

وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة في (مسنده) وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه، والبيهقي في (الدلائل) عن عياض الأشعري قال: ((لما نزلت فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] قال رسول الله: هم قوم هذا وأشار إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه)) (¬1). وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في (جمعه لحديث شعبة) والبيهقي وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((تليت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] الآية فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: قومك يا أبا موسى الأشعري، أهل اليمن)) (¬2). وأخرج ابن أبي حاتم في (الكنى) والطبراني في (الأوسط) وأبو الشيخ وابن مردويه بسندٍ حسن عن جابر بن عبد الله قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] الآية فقال: هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم كندة ثم السكون ثم تجيب)) (¬3). وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: هم أهل القادسية (¬4). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (10/ 415)، الطبراني (17/ 371) , وابن أبي شيبة في ((مسنده)) (665) , وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (5/ 12) , والحاكم (2/ 342)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (5/ 446)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 107). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي. وقال الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (2/ 38): [فيه] محمد بن إسماعيل الصايغ قال عبد الرحمن بن أبي حاتم صدوق, وقال البوصيري في ((إتحاف المهرة)) (6/ 66): هذا إسناد رواته ثقات. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 19): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (5/ 446) , والطبري في ((تفسيره)) (10/ 415). والحديث صححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 699). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3368): وقد جاء موصولاً فقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى ... سمعت عياضاً يحدث عن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ... الحديث. وهذا إسناد صحيح متصل, ثم قال: وأخرجه البيهقي في ((دلائل النبوة)) من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: ثنا أبو معمر حدثنا عبد الله بن إدريس به. وهذا إسنادٌ صحيح على شرط مسلم غير عبد الله بن أحمد وهو ثقة، وكذلك من دونه. (¬3) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (2/ 103) , وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (5/ 12). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن قيس الأسدي إلا أبو زياد ولا عن أبي زياد إلا معاوية تفرد به أبو حميد. وقال ابن أبي حاتم في ((علل الحديث)) (1779): سمعت أبي يقول هذا حديث باطل. وقال ابن كثير في ((تفسيره)) (3/ 135 - 136): وهذا حديث غريب جدا. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 19) , والشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 77): إسناده حسن. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 1104 - 1105): إسناده جيد؛ رجاله كلهم ثقات. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 554).

قلت: وكان غالب أهل القادسية من أهل اليمن، بل كانت بجيلة ربع الناس فضلاً عن غيره، وكان بأس الناس الذي هم فيه، كما رواه ابن إسحاق عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: وكان يمر عمرو بن معد يكرب الزبيدي فيقول: يا معشر المهاجرين كونوا أسوداً، فإنما الفارسي تيس (¬1). وقد قتل رضي الله عنه أسواراً فارس الفرس وأبلى بلاء حسناً، وكانت له اليد البيضاء يومئذ. وأخرج البخاري رحمه الله تعالى في (تاريخه) عن القاسم بن ينخسرة قال: أتيت ابن عمير فرحب بي ثم تلا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] الآية ثم ضرب على منكبي وقال: أحلف بالله أنّه لمنكم أهل اليمن – ثلاثاً (¬2). وكلّ هذا لا ينافي ما قدمناه من نزولها في أبي بكر أولاً، فإن أهل اليمن لم يرتد جميع قبائلهم يومئذٍ، وإنّما ارتدّ كثيرٌ منهم مع الأسود وثبت كثيرٌ منهم على الإيمان مع معاذ بن جبل وأبي موسى وفيروز الديلمي وغيرهم من عمّال النبي صلى الله عليه وسلم ونشب بين مؤمنيهم وكافريهم قتال عظيم حتى قتل الله الأسود على يد فيروز وأيد الله الذين آمنوا منهم على عدوهم فأصبحوا ظاهرين، ولكن لم يرجع أمرهم على ما كانوا عليه قبل العنسي إلاّ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فإنّه لم يزل يتابع الكتائب مدداً لمؤمنهم على كافرهم حتى راجعوا الإسلام وكانوا من أعظم أنصاره حتى صار رؤساء ردتهم كعمرو بن معد يكرب وقيس بن مكشوح وغيرهم من أعظم الناس وأشدهم بلاءً في أيام الردة والفتوح، فحينئذٍ عاد المعنى إلى أبي بكر وأصحابه وهم من أصحابه، وكل هذا في شأن السبب لنزول الآية، وإلا فهي عامة لكل مؤمن يحبّ الله ويحبه ويوالي فيه ويعادي فيه ولا يخاف في الله لومة لائم. وكان أبو بكر وأصحابه أسعد النّاس بذلك وأقدمهم فيه وأسبقهم إليه وأول من تناولته الآية، رضي الله عنه وأرضاه وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين. وفي (الصحيحين) وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لمّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منّي ماله ونفسه إلا بحقّه وحسابه على الله عز وجل فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنّه الحق)) (¬3). وتفاصيل مواقفه العظام رضي الله عنه مشهورة مبسوطة في كتب السيرة وغيرها وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وكانت وفاته رضي الله عنه في يوم الإثنين عشية، وقيل: بعد المغرب ودفن من ليلته وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بعد مرض خمسة عشر يوماً، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بالمسلمين، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان وقرئ على المسلمين فأقرّوا به وسمعوا له وأطاعوا. وكان عُمْر الصديق رضي الله عنه يوم توفي ثلاثاً وستين سنة السن الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع الله بينهما في التربة كما جمع بينهما في الحياة، فرضي الله عنه وأرضاه، ومن جميع أبواب الجنة دعاه، وقد فعل ولله الحمد والمنة. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي - بتصرف – 3/ 1313 - 1339 ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 410) , والطبري في ((تاريخه)) (3/ 78) , والطبراني (17/ 45). قال ابن حجر في ((الإصابة)) (3/ 19): إسناده صحيح. (¬2) رواه البخاري في ((التاريخ الكبير)) (7/ 161). (¬3) رواه البخاري (7285)، ومسلم (20).

الفرع الثاني فضل: عمر بن الخطاب

الفرع الثاني فضل: عمر بن الخطاب عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب العدوي ثاني الخلفاء وإمام الحنفاء بعد أبي بكر رضي الله عنهما وأوّل من تسمى أمير المؤمنين .... تقدمت إشارات النصوص النبوية وكثير من فضائله ... التي شارك فيها أبا بكر. وفي (الصحيحين) عن جابر رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشخشة فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار؟)) (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأةٌ تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر، فذكرت غيرته فولّيت مدبراً. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟)) (¬2). وعن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إنّي لأرى الريّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم)) (¬3). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائمٌ رأيت الناس عرضوا عليّ وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثّدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك. وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميصٌ يجتره. قالوا: فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: الدين)) (¬4). وعن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: ((استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوةٌ من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهنّ على صوته صلى الله عليه وسلم، فلمّا استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنّك يا رسول الله، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي، فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. فقال عمر: فأنت أحقّ أن يهبن يا رسول الله. فقال عمر: يا عدوّات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيهاً يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجّا قط إلا سلك فجّاً غير فجك)) (¬5). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمّتي منهم أحدٌ فعمر)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (3679)، وروى مسلم شطره الأول (2457). (¬2) رواه البخاري (3242)، ومسلم (2395). (¬3) رواه البخاري (7006)، ومسلم (2391). (¬4) رواه البخاري (3691) , ومسلم (2390). (¬5) رواه البخاري (3683)، ومسلم (2396). (¬6) رواه البخاري (3689 م).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: لما توفي عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه وأمره أن يكفنه فيه، ثم قام يصلّي عليه، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه فقال: تصلّي عليه وهو منافق وقد نهاك الله أن تستغفر لهم؟ قال: إنّما خيرني الله – أو أخبرني الله – فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّةً فلن يغفر الله لهم [التوبة:80] فقال: سأزيده على سبعين. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه ثم أنزل الله عليه وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84] (¬1). وفي (البخاري) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: ((لما مات عبد الله بن أبيّ ابن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلّ عليه، فلمّا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبيّ وقد قال يوم كذا كذا وكذا، قال: اعدد عليه قوله. فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخّر عنّي يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إنّي خيّرت فاخترت، لو أعلم أنّي إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يلبث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]. قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم)) (¬2). وفي (صحيح مسلم) من حديث ابن عباس رضي الله عنه في قصة أسارى بدر بطوله قال ابن عباس: ((فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: هم يا نبيّ الله بنو العمّ والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنّي أرى أن تضرب أعناقهم فتمكّن عليّاً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان – نسيباً لعمر – فأضرب عنقه، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلمّا كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أيّ شيءٍ تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض عليّ في أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة – شجرة قريبة من نبيّ الله صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ – إلى قوله – فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا [الأنفال:67 – 69] فأحل الله الغنيمة لهم)) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (4672) , ومسلم (2400). (¬2) رواه البخاري (1366). (¬3) رواه مسلم (1763).

وفي (صحيح البخاري) عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: ((وافقت الله في ثلاث - أو وافقني الله في ثلاث - قلت: يا رسول الله لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلّى فأنزل الله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهم قلت: إن انتهيتنّ أو ليبدلن الله رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه قالت: يا عمر ما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله تعالى عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ [التحريم:5])) (¬1). وعنه رضي الله عنه: ((أنّ رجلاً سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء، إلاّ أنّي أحبّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرحنا بشيءٍ كما فرحنا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبّي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم)) (¬2). وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: ((ما رأيت أحداً قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض كان أجدّ وأجود حتى انتهى من عمر بن الخطاب رضي الله عنه)) (¬3). وعن المسور بن مخرمة قال: لمّا طعن عمر رضي الله عنه جعل يألم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما وكأنه يجزعه: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ. ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ. ثم صحبت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون. قال: أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنّما ذاك من الله تعالى منّ به تعالى عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذلك من الله عز وجل ذكره منّ به عليّ. وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أنّ لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه (¬4). وفيهما عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: وضع عمر على سريره فتكنّفه الناس يدعون ويصلّون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يرعني إلاّ رجل آخذ منكبي فإذا عليٌّ رضي الله عنه فترحّم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إلى أن ألقى الله بمثل عمله منك. وأيم الله إن كنت لأظنّ أن يجعلك الله تعالى مع صاحبيك، وحسبك إنّي كنت أسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول كثيراً: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر. زاد مسلم في آخره أيضاً. فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله تعالى معهما (¬5). والأحاديث في فضله كثيرة جداً قد أفردت بالتصنيف، وفيما ذكرنا كفاية. قصة استشهاد الفاروق رضي الله عنه: ¬

(¬1) رواه البخاري (4483). (¬2) رواه البخاري (3688) , ومسلم (2639). (¬3) رواه البخاري (3687). (¬4) رواه البخاري (3692). (¬5) رواه البخاري (3685) , ومسلم (2389).

وكان قصة استشهاده ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل حدّثنا أبو عوانة عن حصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف وقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حمّلتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق. قالا: لا. فقال عمر: لئن سلّمني الله تعالى لأدعنّ أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً. قال فما أتت عليه رابعة حتى أصيب رضي الله عنه. قال إني لقائم ما بيني وبينه إلاّ عبد الله بن عباس غداة أصيب وكان إذا مرّ بين الصّفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع النّاس، فما هو إلا أن كبّر حتى سمعته يقول: قتلني – أو أكلني – الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكّين ذات طرفين لا يمر على أحدٍ يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، فلمّا رأى ذلك رجلٌ من المسلمين طرح عليه برنساً فلما ظنّ العلج أنّه مأخوذٌ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأما نواحي المسجد فلا يدرون غير أنّهم فقدوا صوت عمر رضي الله عنه وهم يقولون سبحان الله سبحان الله، فصلّى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاةً خفيفة، فلمّا انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني. فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، فقال: الصّنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجلٌ يدّعي الإسلام، فقد كنت أنت وأبوك تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة. وكان العباس أكثرهم رقيقاً. فقال: إن شئت فعلت، أي إن شئت قتلنا. قال: كذبت، بعدما تكلّموا بلسانكم، وصلّوا إلى قبلتكم، وحجّوا حجّكم؟ فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأنّ الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذٍ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنّه ميّتٌ، فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجلٌ شابٌّ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال: وددت أنّ ذلك كفاف، لا عليّ ولا لي. فلمّا أدبر إذا إزاره يمسّ الأرض، قال: ردوا عليّ الغلام، قال: ابن أخي ارفع ثوبك، إنّه أبقى لثوبك، وأتقى لربّك. يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر فأدّه من أموالهم، وإلا فسل بني عديّ بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عنّي هذا المال، وانطلق إلى عائشة فقل: يقرأ عليك عمر السلام – ولا تقل أمير المؤمنين فإنّي لست اليوم للمؤمنين أميراً – وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلّم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدةٌ تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنّ به اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحبّ يا أمير المؤمنين، أذنت. قال: الحمد لله. ما كان من شيءٍ أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلّم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردّتني ردّوني إلى مقابر المسلمين.

وجاءت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلاً لهم فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف. قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر – أو الرهط – الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمّى عليّاً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن، وقال: ليشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيءٌ – كهيئة التعزية له – فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك، وإلاّ فليستعن به أيّكم ما أمّر، فإنّي لم أعزله عن عجزٍ ولا خيانة. وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأوّلين أن يعرف لهم حقّهم، ويحفظ لهم حرمتهم؛ وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم. وأوصيه بأهل الأمصار خيراً فإنّهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم. وأوصيه بالأعراب خيراً فإنّهم أصل العرب ومادّة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم وتردّ على فقرائهم. وأوصيه بذمّة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي. فسلّم عبد الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب. قال: أدخلوه. فأدخل: فوضع هنالك مع صاحبيه. فلمّا فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثةٍ منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى عليٍّ، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعدٌ: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيكما تبرّأ من هذا الأمر فلنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ والله على أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم. فأخذ بيد أحدهما فقال: لك من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمّرتك لتعدلنّ، ولئن أمّرت عثمان لتسمعنّ ولتطيعنّ؟ ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك. فلمّا أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه وبايع له عليٌّ رضي الله عنه، وولج أهل الدار فبايعوه، رضي الله عنهم أجمعين (¬1). وكانت مدة خلافة الفاروق رضي الله عنه عشر سنين وستة أشهر، وكانت وفاته على المشهور لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وله من العمر ثلاث وستون سنة على الأشهر، وهي السن التي توفي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وبويع لعثمان في ثلاث من المحرم دخول سنة أربع وعشرين، وأوّل من بايعه عبد الرحمن بن عوف ثم علي بن أبي طالب ثم بقية أصحاب الشّورى ثم بقيّة أهل الدار ثم بقيّة المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي - بتصرف – 3/ 11340 - 1348 ¬

(¬1) رواه البخاري (3700).

الفرع الثالث: فضل عثمان بن عفان

الفرع الثالث: فضل عثمان بن عفان عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، من السّابقين الأوّلين إلى الإسلام بدعوة الصّدّيق إياه، وزوّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية ابنته رضي الله عنها، وهاجر الهجرتين وهي معه، وتخلّف عن بدر لمرضها، وضرب له النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وبعد وفاتها زوّجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل صحبتها وبذلك تسمى (ذو النورين) لأنّه تزوج ابنتي نبيٍّ واحدة بعد واحدة ولم يتفق ذلك لغيره رضي الله عنه. (ذو الحلم) التام الذي لم يدركه غيره (والحياء) الإيماني الذي يقول فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((الحياء شعبةٌ من الإيمان)) (¬1). وقال: ((وأصدقهم حياء عثمان)) (¬2) , (بحر العلوم) الفهم التام في كتاب الله تعالى حتى إن كان ليقوم به في ركعة واحدة فلا يركع إلاّ في خاتمتها إلاّ ما كان من سجود القرآن. (جامع القرآن) لما خشي الاختلاف في القرآن والخصام فيه في أثناء خلافته رضي الله عنه فجمع الناس على قراءةٍ واحدةٍ وكتب المصحف على القراءة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر سني حياته. وكان سبب ذلك أنّ حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بجواز القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره وربما خطّأه الآخر أو كفّره، فأدّى ذلك إلى خلاف شديد وانتشار الكلام السيّئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمّة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم، وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة فعند ذلك جمع الصحابة وشاورهم في ذلك ورأى أن يكتب المصحف على حرفٍ واحدٍ وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به دون ما سواه لما رأى في ذلك من مصلحة كفّ المنازعة ودفع الاختلاف فاستدعى بالصحف التي كان أمر زيد بن ثابت بجمعها فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر، فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين. فاستدعى بها عثمان وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيءٍ أن يكتبوه بلغة قريش، فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، وبعث إلى البصرة مصحفاً، وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكّة مصحفاً، وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفاً، ويقال لهذه المصاحف (الأئمة)، ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه لئلا يقع بسببه اختلاف. ¬

(¬1) رواه البخاري (9) , ومسلم (35) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه الترمذي (3790) , وابن ماجه (154) , وأحمد (3/ 184) (12927) , والحاكم (3/ 477). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث قتادة إلا من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة وإنما اتفقا بإسناده هذا على ذكر أبي عبيدة فقط. ووافقه الذهبي. وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (6/ 210): موصول. وقال ابن العربي في ((العواصم من القواصم)) (252): ثابت. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 93): إسناده صحيح إلا أن الحفاظ قالوا: إن الصواب في أوله الإرسال والموصول منه ما اقتصر عليه البخاري. وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

وروى أبو داود الطيالسي وأبو بكر بن أبي داود السجستاني عن سويد بن غفلة قال: قال لي عليٌّ رضي الله عنه حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته (¬1). وروى البيهقي عنه رضي الله عنه قال: قال عليّ رضي الله عنه: أيّها النّاس إيّاكم والغلو في عثمان تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل (¬2). (منه استحت ملائك الرّحمن) كما في (الصحيح) عن عطاءٍ وسليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدّث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدّث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوّى ثيابه. قال محمد - يعني ابن أبي حرملة الراوي عنهم -: ولا أقول ذلك في يومٍ واحدٍ فدخل فتحدّث، فلمّا خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشّ له ودخل عمر ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسوّيت ثيابك. فقال: ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة)) (¬3). وعن سعيد بن العاص أنّ عائشة رضي الله عنها وعثمان رضي الله عنه حدثاه: ((أنّ أبا بكر رضي الله عنه استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى حاجته ثم انصرف، قال عثمان ثم استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت. فقالت عائشة: يا رسول الله مالي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ عثمان رجلٌ حيي وإنّي خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليّ في حاجته)) (¬4). ¬

(¬1) رواه ابن أبي داود في ((المصاحف)) (1/ 44) , قال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (39/ 244): [فيه] علقمة لم يسمعه من سويد بينهما رجل. (¬2) لم أجده في المطبوع من كتب البيهقي. والأثر رواه ابن أبي داود في ((المصاحف)) (1/ 77)، وأورده القرطبي في ((تفسيره)) (1/ 54) وقال: وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب ((الرد)) عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكره. (¬3) رواه مسلم (2401). (¬4) رواه مسلم (2402).

(بايع عنه) حين ذهب لمكة في حاجة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين (سيد الأكوان) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (بكفه) ضرب بها على الأخرى وقال: هذه لعثمان (في بيعة الرضوان) لما غاب عنها فيما ذكرنا، وكان انحباسه بمكة هو سبب البيعة كما قال محمد بن إسحاق بن يسار في (السيرة)، ((ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكّة ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله إنّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكّة من بني عدي بن كعب من يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها وغلظي عليها، ولكني أدلّك على رجلٍ أعزّ بها مني، عثمان بن عفان رضي الله عنه، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وأنّه إنّما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته. فخرج عثمان رضي الله عنه إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به فقال لعثمان رضي الله عنه حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أنّ عثمان رضي الله عنه قد قتل، قال ابن إسحاق: فحدّثني عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أنّ عثمان رضي الله عنه قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم (¬1). ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: إنّ رسول الله لم يبايعهم على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر (¬2). فبايع النّاس ولم يتخلّف أحدٌ من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة فكان جابر رضي الله عنه يقول: والله لكأنّي أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته قد مال إليها يستتر بها من الناس، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الذي كان من أمر عثمان باطل)) (¬3). وفي (الصحيح) عن عثمان بن موهب قال: ((جاء رجلٌ من أهل مصر حجّ البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا ابن عمر، إنّي سائلك عن شيءٍ فحدّثني عنه، هل تعلم أنّ عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم. قال: هل تعلم أنّه تغيّب عن بدر ولم يشهدها؟ قال: نعم. قال: هل تعلم أنّه تغيّب عن بيعة الرضوان، فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: الله أكبر. قال ابن عمر: تعال أبيّن لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أنّ الله عفا عنه وغفر له. وأمّا تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ لك أجر رجلٍ ممن شهد بدراً وسهمه. وأمّا تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحدٌ أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان. فقال له ابن عمر رضي الله عنه: اذهب بها الآن معك)) (¬4). ¬

(¬1) رواه الطبري في ((تفسيره)) (22/ 225) , وضعَّفه الألباني في ((فقه السيرة)) (329). (¬2) رواه مسلم (1856). (¬3) رواه الطبري في ((تفسيره)) (22/ 225). (¬4) رواه البخاري (3698).

وفي (الصحيح) عن عروة أنّ عبد الله بن عدي بن الخيار أخبره أنّ المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا: ((ما منعك أن تكلم عثمان لأخيك الوليد فقد أكثر الناس فيه، فقصدت لعثمان حتى خرج إلى الصلاة، قلت: إنّ لي إليك حاجة وهي نصيحةٌ لك. قال: يا أيّها المرء أعوذ بالله منك، فانصرفت فرجعت إليهم إذ جاء رسول عثمان، فأتيته فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: إنّ الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممّن استجاب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت هديه. وقد أكثر الناس في شأن الوليد. قال: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا، ولكن خلص إليّ من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها. قال: أمّا بعد فإنّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحقّ فكنت ممّن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وآمنت بما بعث به وهاجرت الهجرتين – كما قلت – وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته، ولا غششته، حتى توفّاه الله عز وجل ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفت، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ قلت: بلى. قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسآخذ فيه بالحقّ إن شاء الله. ثم دعا عليّاً فأمره أن يجلده، فجلده ثمانين)) (¬1). وفي (المسند) و (السنن) عن عمرو بن جاوان قال: قال الأحنف: ((انطلقنا حجاجاً فمررنا بالمدينة، فبينا نحن في منزلنا إذ جاءنا آتٍ فقال: الناس في المسجد. فانطلقت أنا وصاحبي، فإذا الناس مجتمعون على نفرٍ في المسجد، قال فتخللتهم حتى قمت عليهم، فإذا عليٌّ بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص، قال فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي. فقال: ههنا علي؟ قالوا: نعم، قال: ههنا الزبير؟ قالوا: نعم. قال: ههنا طلحة؟ قالوا: نعم. قال: ههنا سعد بن أبي وقاص؟ قالوا: نعم. قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له)) فابتعته، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني قد ابتعته، فقال: ((اجعله في مسجدنا وأجره لك))؟ قالوا: نعم. قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يبتاع بئر رومة)) فابتعتها بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنّي قد ابتعتها – يعني بئر رومة – قال: ((اجعلها سقايةً للمسلمين، ولك أجرها))؟ قالوا: نعم. قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم يوم جيش العسرة فقال: ((من يجهّز هؤلاء غفر الله له)) فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاماً ولا عقالاً؟ قالوا: اللهم نعم. فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم انصرف رضي الله عنه)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (3696). (¬2) رواه النسائي (6/ 46) , وأحمد (1/ 70) (511). قال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (1/ 248): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)).

وروى أحمد والترمذي والنسائي عن ثمامة بن حزن القشيري قال: ((شهدت الدار يوم أصيب عثمان، فاطلع عليه اطلاعة، فقال: ادعوا لي صاحبيكم اللذين ألّباكم عليّ، فدعيا له، فقال: أنشدكما الله، تعلمان أّنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله فقال: من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون كالمسلمين وله خيرٌ منها في الجنة فاشتريتها من خالص مالي فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلّي فيها ركعتين. ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن فيها غير بئر يستعذب منه إلا بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنّة فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها. ثم قال: هل تعلمون أنّي صاحب جيش العسرة؟ قالوا: اللهم نعم)). وقال الترمذي حسن (¬1). وله عن عبد الرحمن بن سمرة قال: ((جاء عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كمّه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره، فقال عبد الرحمن: فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم – مرّتين-)) حسّنه الترمذي (¬2). وروى الإمام أحمد وأصحاب (السنن) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قصة توعدهم إيّاه بالقتل، قال: ((ولم يقتلونني؟ فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجلٌ كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس. فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت بدلاً بديني منذ هداني الله له، ولا قتلت نفساً. فبم يقتلونني)) (¬3). وروى الإمام أحمد وغيره عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان أقبلت إحدانا على الأخرى، فكان من آخر كلمةٍ أن ضرب على منكبه وقال: يا عثمان، إنّ الله تعالى عسى أن يلبسك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني - ثلاثاً-)) (¬4). ¬

(¬1) رواه الترمذي (3703) , والنسائي (6/ 235) , وأحمد (1/ 74) (555). قال الترمذي: هذا حديث حسن وقد روي من غير وجه عن عثمان. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((مسند أحمد)): إسناده حسن. (¬2) رواه الترمذي (3701) , والحاكم (3/ 110). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه أبو داود (4502) , والنسائي (7/ 91) , وأحمد (1/ 61) (437). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الذهبي في ((المهذب)) (6/ 3103): تابعه حماد بن سلمة وخالفهما يحيى القطان وغيره فروياه موقوفاً. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (1/ 231): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) رواه أحمد (6/ 86) (24610). والحديث رواه الترمذي (3705)، وابن ماجه (112). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع الصغير)) (7947). وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1647): صحيح على شرط مسلم.

وروى أحمد والتّرمذي وقال: حسن غريب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنةً فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذٍ مظلوماً فنظرنا فإذا هو عثمان بن عفان)) (¬1). وروى أحمد بإسنادٍ جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّكم تلقون بعدي فتنةً واختلافاً أو قال اختلافاً وفتنة - فقال قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالأمين وأصحابه، وهو يشير إلى عثمان بذلك)) (¬2). وله عن مرة البهزي قال: ((بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة قال: كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنّها صياصي البقر قالوا: نصنع ماذا يا رسول الله؟ قال: عليكم هذا وأصحابه، أو اتبعوا هذا وأصحابه قال: فأسرعت حتى عييت، فأدركت الرجل فقلت: هذا يا رسول الله؟ قال: هذا، فإذا هو عثمان بن عفان، فقال هذا وأصحابه يذكره)) (¬3). وروى الترمذي في (جامعه) عنه رضي الله عنه قال لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلّمت ((وذكر الفتن فقربها، فمرّ رجلٌ متقنع في ثوب فقال: هذا يومئذٍ على الهدى فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان. فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم)) ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬4) ... وروى أحمد وابن ماجه وغيرهما عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: ((ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنةً فقرّبها وعظّمها، قال: ثم مرّ رجلٌ مقنع في ملحفة فقال: هذا يومئذ على الحقّ. قال فانطلقت مسرعاً – أو محضراً – وأخذت بضبعيه فقلت: هذا يا رسول الله؟ قال: هذا)) (¬5). وروى أبو داود الطيالسي بإسنادٍ رجاله ثقات عن عبد الله بن حوالة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تهجمون على رجلٍ معتجر ببردة من أهل الجنّة يبايع الناس، قال: فهجمنا على عثمان بن عفان معتجراً يبايع الناس)) (¬6). وقد تقدم من الأحاديث التي تشير إلى خلافته وأشياء من فضائله مع ذكر صاحبيه رضي الله عنهما، وفي فضائله منفرداً ومع غيره من السابقين أحاديث كثيرة، وفيما أشرنا إليه كفاية. وكان الاعتداء على حياته رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على الصحيح المشهور، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، لأنه بويع له في مستهل المحرم سنة أربع وعشرين. وأما عمره رضي الله عنه فإنه قد جاوز ثنتين وثمانين سنة. والله أعلم. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي - 3/ 1348 - 1360 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3708) , وأحمد (2/ 115) (5953) , قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (8/ 171): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن الإسناد. (¬2) رواه أحمد (2/ 344) (8522)، والحاكم (4/ 480). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 220): تفرد به أحمد وإسناده جيد حسن ولم يخرجوه من هذا الوجه. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (16/ 224): إسناده صحيح, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3188): رجاله ثقات رجال الصحيح؛ غير أبي حبيبة [التابعي] ... فهو ثقة إن شاء الله تعالى. (¬3) رواه أحمد (5/ 35) (20388). قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/ 279): [فيه] عبد الله بن شقيق ما بأحاديثه إن شاء الله بأس. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/ 315): إسناده جيد. (¬4) رواه الترمذي (3704) , والحاكم (2/ 109) , قال الترمذي: حديث حسن صحيح, وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) رواه ابن ماجه (111) , وأحمد (4/ 242) (18143). وقال الشافعي في ((حلية الأولياء)) (9/ 114): ما صح في الفتنة حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا حديث عثمان بن عفان أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((هذا يومئذٍ على الحق)). وقال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (1/ 18): هذا إسناد منقطع؛ قال أبو حاتم محمد بن سيرين لم يسمع من كعب بن عجرة، ورجال الإسناد ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬6) رواه الطيالسي (1/ 176) , والحاكم (3/ 105). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/ 445): [فيه] سعيد الجريري مستقيم الحديث وحديثه حجة من سمع منه قبل الاختلاط. قال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (8/ 2): رواه أبوداود الطيالسي بسند صحيح. وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (2/ 127): [فيه] سعيد بن إياس تغير قليلاً, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3118): صحيح الإسناد.

الفرع الرابع: فضل علي بن أبي طالب

الفرع الرابع: فضل علي بن أبي طالب (والرابع) في الخلافة والفضل (ابن عم) محمد صلى الله عليه وسلم (خير الرسل) أكرمهم على الله عز وجل (أعني) بذلك (الإمام الحق) بالإجماع بلا مدافعة ولا ممانعة ... وهو أمير المؤمنين وأبو السبطين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم رضي الله عنه وأرضاه. ((كان أبو طالب عم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخاً شقيقاً لأبيه عبد الله وأمه فاطمة بنت عمرو، كفل أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت جده عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين، ولما بعث آواه الله تعالى به وحماه، وهو مع ذلك على دين قومه، ولله في ذلك حكمة، وقد حرص النّبيّ صلى الله عليه وسلم على هداية عمّه كل الحرص، ولم يكن ذلك حتى خرجت روحه وهو يقول: على ملّة عبد المطلب، وأنزل الله تعالى في ذلك تعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [القصص:56] وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)) فنهاه الله تعالى عن الاستغفار له بقوله عز وجل مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113])) (¬1). الآيات. وفي (صحيح مسلم): ((عن العباس بن عبد المطلب أنّه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيءٍ فإنّه كان يحوطك ويغضب لك، قال: نعم، هو في ضحضاح من نارٍ، ولولا أنا لكان في الدّرك الأسفل من النّار)) (¬2)، وفي لفظ: ((وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاحٍ)) (¬3). وفيه عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: ((لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاحٍ من نارٍ يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)) (¬4). وفيه عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعلٌ بنعلين يغلي منهما دماغه)) (¬5). وكفل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه وهو صغير، فلما بعث آمن به وهو ابن ثمان سنين، وهو أول من آمن من الصبيان، كما أنّ أبا بكر أول من آمن به من الرجال، وخديجة رضي الله عنها أول من آمن به من النساء، وورقة بن نوفل رضي الله عنه أول من آمن به من الشيوخ، وزيدٌ بن حارثة رضي الله عنه أول من آمن به من الموالي، وبلال رضي الله عنه أوّل من آمن به من الأرقاء صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين. وكان عليٌّ صاحب دعوة قريش حين نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] فأمر عليّاً أن يدعوهم له فيجتمعون للنذارة. وهو الذي فاداه بنفسه فنام على فراشه ليلة مكر المشركين ... وهو الذي أدى الأمانات عنه بعدها. وهو الذي برز مع حمزة وعبيدة لخصمائهم يوم بدر وكان يقول: أنا أوّل من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة (¬6). وشهد مع الرّسول صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها إلا تبوك ... وهو صاحب عمرو بن ود وخيله يوم الخندق، وفتح الله على يديه يوم خيبر بعد قتله فارسهم مرحب. وكان مع حماة النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. ¬

(¬1) رواه البخاري (1360) , ومسلم (24) , من حديث المسيب رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6208) , ومسلم (209) (357). (¬3) رواه مسلم (209) (358). (¬4) رواه البخاري (3885) , ومسلم (210). (¬5) رواه مسلم (212). (¬6) رواه البخاري (3965). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وكان صاحب النداء بسورة براءة تبليغاً عن الرّسول صلى الله عليه وسلم في الموسم، وشريكه في هديه في حجة الوداع، وخليفته في أهله في غزوة تبوك، وصاحب تجهيزه حين توفي مع جماعة من أهل البيت رضي الله عنهم. وقد ثبت له في الأحاديث الصحاح والحسان من الفضائل الجمة ما فيه كفاية وغنية عن تلفيق الرافضة وخرطهم وكذبهم عليه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولهم عليه ما لم يقل قبّحهم الله. (مبيد) أي مدمر (كل خارجي) نسبة إلى الخروج من الطاعة، ولكن صار هذا الاسم علماً على الحرورية الذين كفروا أهل القبلة والمعاصي وحكموا بتخليدهم في النار بذلك، واستحلّوا دماءهم وأموالهم، حتى الصحابة من السابقين الأولين من أهل بدر وغيرهم، حتى علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وخباب وأقرانهم رضي الله عنهم، ثم صار هذا الاسم عاماً لكل من اتبع مذهبهم الفاسد وسلك طريقتهم الخائبة. وكل ذنب يكفرون به المؤمنين فهو تكفير لأنفسهم من وجوه عديدة وهم لا يشعرون: فمنها: أن تكفير المؤمن إن لم يكن كذلك كفر فاعله كما في الحديث: ((أيّما امرئٍ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه)) (¬1). ومنها: أنّ من أكبر الكبائر التي يكفرون بها المؤمنين قتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وهم أسرع الناس في ذلك يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان. ومنها: أنّ المؤمن وإن عمل المعاصي فهو لا يستحلها وإنّما يقع فيها لغلبة نفسه إياه وتسويل شيطانه له وهو مقر بتحريمها وبما يترتب عليه من الحدود الشرعية فيما ارتكبه، وهم يقتلون النفس التي حرّم الله قتلها إلاّ بالحق، ويأخذون الأموال التي حرّم الله أخذها إلا بالحق، ويفعلون الأفاعيل القبيحة مستحلّين لها، والذي يعمل الكبيرة مستحلاًّ لها أولى بالكفر ممن يعملها مقراً بتحريمها بل لا مخالف في ذلك إذ هو تكذيب بالكتاب وبما أرسل الله تعالى به رسله عليهم السلام، وإنّما توقّف الصحابة عن تكفير أهل النهروان لأنّهم كانوا يتأوّلون فحكموا أنّهم بغاة ... في (الصحيح) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفة من حنين، وفي ثوب بلال فضّة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل، قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي، إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (6104) , ومسلم (60) واللفظ له. (¬2) رواه مسلم (1063).

وفيه: عن أبي سعيد في قصة الذُّهَيْبَة: ((فجاء رجلٌ كثّ اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرّأس فقال: اتّق الله يا محمد، قال فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن يطع الله إن عصيته؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ قال ثم أدبر الرجل فاستأذن رجلٌ من القوم في قتله - يرون أنّه خالد بن الوليد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرميّة، لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد)) (¬1). وفي لفظٍ ((ثمود)) (¬2). وفي لفظ ((فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإنّ له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيءٌ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيّه فلا يوجد فيه شيء وهو القدح، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيءٌ، سبق الفرث والدم، آيتهم رجلٌ أسودٌ إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقةٍ من الناس. قال أبو سعيد: فأشهد أنّي سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد، فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت)) (¬3). وفيه: عنه رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمّته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق قال: ((هم شرّ الخلق، أو من أشر الخلق، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق قال فضرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم مثلاً – أو قال قولاً – الرجل يرمي الرمية أو قال الفوق فينظر في النصل فلا يرى بصيرة، وينظر في النضيّ فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة. قال قال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق)) (¬4). وفيه عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تمرق مارقةٌ عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطّائفتين بالحق)) (¬5). وفي رواية: ((يكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحقّ)) (¬6). وفي لفظٍ قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((تمرق مارقةٌ في فرقة من الناس، فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق)) (¬7). وفي رواية: ((يخرجون على فرقة مختلفة، يقتلهم أقرب الطّائفتين من الحق)) (¬8). وفيه: عن سويد بن غفلة قال: قال عليٌّ رضي الله عنه: ((إذا حدّثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أقول عليه ما لم يقل، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإنّ الحرب خدعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرميّة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة)) (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (7432) , ومسلم (1064). (¬2) رواه البخاري (4351) , ومسلم (1064) (144). (¬3) رواه البخاري (3610) , ومسلم (1064) (148). (¬4) رواه مسلم (1064) (149). (¬5) رواه مسلم (1064) (150). (¬6) رواه مسلم (1064) (151). (¬7) رواه مسلم (1064) (152). (¬8) رواه مسلم (1064) (153). (¬9) رواه البخاري (3611) , ومسلم (1066).

وفيه: عن عبيدة عنه رضي الله عنه قال: ((ذكر الخوارج فقال: فيهم رجلٌ مخدّج اليد - أو مودن اليد، أو مودون اليد - لولا أن تطروا لحدّثتكم بما وعد الله تعالى الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. قال قلت: أنت سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي وربّ الكعبة، إي وربّ الكعبة، إي وربّ الكعبة)) (¬1). وفيه: عن زيد بن وهب الجهني أنّه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، فقال عليٌّ رضي الله عنه: أيّها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج قومٌ من أمّتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيءٍ، ولا صلاتكم إلا صلاتهم بشيءٍ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيءٍ، يقرأون القرآن يحسبونه أنّه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيّهم صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل، وآية ذلك أنّ فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض، فتذهبون إلى معاوية وأهلّ الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟ والله إنّي لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنّهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله، قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيدٌ بن وهب منزلاً حتى مررنا على قنطرة فلمّا التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم: ألقوا الرّماح وسلّوا سيوفكم من جفونها فإنّي أخاف أن يناشدونكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا فوحّشوا برماحهم وسلّوا السّيوف وشجرهم النّاس برماحهم، قال وقتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذٍ إلا رجلان. قال عليٌّ رضي الله عنه: التمسوا فيهم المخدج فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي رضي الله عنه نفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض قال أخّروهم، فوجدوه مما يلي الأرض فكبّر ثم قال: صدق الله وبلّغ رسوله، قال فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين، الله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو. حتى استحلفه ثلاثاً وهو يحلف له)) (¬2). وفيه: عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنّ الحرورية لما خرجت وهو مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حقٍّ أريد بها باطلٌ. إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا وإنّي لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون بألسنتهم ولا يجوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله إليه، منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي. فلما قتلهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذّبت – مرتين أو ثلاثاً – ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه، قال عبد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي رضي الله عنه فيهم)) (¬3). وفيه: عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ بعدي من أمّتي قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدّين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه، هم شرّ الخلق والخليقة)) (¬4). ومثله عن رافع بن عمر الغفاري رضي الله عنه. ¬

(¬1) رواه مسلم (1066) (155). (¬2) رواه مسلم (1066) (156). (¬3) رواه مسلم (1066) (157). (¬4) رواه مسلم (1066) (158).

وفي (سنن أبي داود) عن أبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيكون في أمّتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدّين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد على فوقه، هم شرّ الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيءٍ، من قاتلهم كان أولى بالله منهم، قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: التحليق)) (¬1). وله عن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيماهم التحليق والتسبيد، فإذا رأيتموهم فأنيموهم)) (¬2). قال أبو داود: التسبيد استئصال الشعر. والأحاديث في ذم الخوارج والأمر بقتالهم والثناء على مقاتليهم كثيرة جداً وفيما ذكرنا كفاية. (و) مبيد (كل خبٍّ رافضي فاسق) الخب الخدّاع الخائن، والرافضيّ نسبة إلى الرّفض وهو التّرك بازدراءٍ واستهانة، سمّوا بذلك لرفضهم الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وزعموا أنّهما ظلموا عليّاً واغتصبوه الخلافة ومنعوا فاطمة رضي الله عنها فدك، وبذلك يحطون عليهما ثم على عائشة ثم على غيرها من الصحابة. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4765) , وأحمد (3/ 224) (13362) , والحاكم (2/ 161). والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم: لم يسمع هذا الحديث قتادة من أبي سعيد الخدري إنما سمعه من أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (3/ 406) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) رواه أبو داود (4766)، وابن ماجه (175)، وأحمد (3/ 197) (13059). وسكت عنه, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود))، وقال الوادعي في ((الصحيح من دلائل النبوة)) (ص: 604)، وشعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): سنده صحيح.

وهم أقسام كثيرة لا كثّرهم الله تعالى، أعظمهم غلوّاً وأسوأهم قولاً وأخبثهم اعتقاداً بل وأخبث من اليهود والنصارى هم السّبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي قبّحه الله، كانوا يعتقدون في عليٍّ رضي الله عنه الإلهية كما يعتقد النّصارى في عيسى عليه السلام، وهم الذين أحرقهم علي رضي الله عنه بالنّار، وأنكر ذلك عليه ابن عباس كما في (صحيح البخاري) و (المسند) و (أبي داود) و (الترمذي) و (النّسائي) عن عكرمة رضي الله عنه قال: أتي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعذّبوا بعذاب الله)) ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدّل دينه فاقتلوه)) (¬1). حكي عن أبي المظفر الإسفراييني في (الملل والنحل): أنّ الذين أحرقهم علي رضي الله عنه طائفةً من الروافض ادّعوا فيه الإلهية وهم السبئية وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديّاً ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة. وتفصيل ذلك ما ذكره في (الفتح) من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعليٍّ رضي الله عنه إنّ هنا قوماً على باب المسجد يزعمون أنّك ربّهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربّنا وخالقنا ورازقنا، قال: ويلكم إنّما أنا عبدٌ مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتّقوا الله وارجعوا، فأبوا. فلمّا كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم فقالوا كذلك، فلمّا كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنّكم بأخبث قتلة فأبوا إلا ذلك، فأمر عليٌّ رضي الله عنه أن يخدّ لهم أخدود بين المسجد والقصر، وأمر بالحطب أن يطرح في الأخدود ويضرم بالنّار ثم قال لهم: إنّي طارحكم فيها أو ترجعوا. فأبو أن يرجعوا، فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال: إنّي إذا رأيت أمراً منكراً ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح (¬2) ....... من صار (للرسول) صلى الله عليه وسلم في منزلة (هارون من موسى) عليهما السلام في الاستخلاف، فموسى استخلف هارون في مدة الميعاد، ومحمد صلى الله عليه وسلم استخلف عليّاً في غزوة تبوك، ففي (الصّحيحين) عن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ((أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى)) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (3017)، وأبو داود (4351)، والترمذي (1458)، والنسائي (7/ 104)، وأحمد (1/ 217) (1871). (¬2) رواه الآجري في ((الشريعة)) (5/ 227) , وأبو الشيخ في ((طبقات المحدثين بأصبهان)) (2/ 217). وذكره ابن حجر في ((فتح الباري)) (12/ 270) , وقال: هذا سند حسن. وأشار الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (1/ 626): إلى أن [فيه خارجة بن مصعب ذكر من جرحه]. (¬3) رواه البخاري (3706) , ومسلم (2404) (32).

وفيها من رواية مصعب بن سعد عن أبيه ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليّاً رضي الله عنه، فقال: أتخلفني في الصّبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي)) (¬1). هذا الاستثناء يزيل الإشكال من الرواية الأولى ويخصص عموم المنزلة بخصوص الأخوّة والاستخلاف في أهله فقط لا في النبوة كمشاركة هارون لموسى فيها إذ يقول الله تعالى لموسى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:31 - 32]، وقال لهما: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:16] ..... وفي (الصّحيحين) في تفسير قول الله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19] عن قيس بن عدي عن أبي ذر رضي الله عنه إنّه كان يقسم فيها أنّ هذه الآية نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه، برزوا في يوم بدر (¬2). وفيهما عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرّحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس: وفيهم نزلت: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19] قال: هم الذين بارزوا يوم بدرٍ علي وحمزة وعبيدة، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة (¬3). وفيهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطينّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. قال فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّهم يرجو أن يعطاها فقال: أين عليّ بن أبي طالب؟ فقيل هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه. فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأنّ لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الرّاية فقال عليٌّ: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال عليه الصلاة والسلام: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن تكون لك حمر النّعم)) (¬4). وعن سلمة بن الأكوع نحوه مختصراً، ونحوه عند مسلم أيضاً. وفيهما عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: ((أنّ رجلاً جاء إلى سهل بن سعد فقال: هذا فلان لأمير المدينة يدعو علياً عند المنبر. قال: ماذا يقول له؟ قال: يقول أبو تراب؟ فضحك وقال: والله ما سمّاه إلاّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وما كان له اسم أحب إليه منه، فاستطعمت الحديث سهلاً وقلت: يا أبا العباس كيف؟ قال: دخل عليٌّ رضي الله عنه على فاطمة، ثم خرج فاضطجع في المسجد، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد فخرج فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، وخلص إلى ظهره، فجعل يمسح التّراب عن ظهره، فيقول: اجلس يا أبا تراب مرتين)) (¬5). وفي رواية مسلم عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال استعمل على المدينة رجلٌ من آل مروان، قال فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليّاً فأبى سهل فقال له أمّا إذا أبيت فقل لعن الله أبا تراب، فقال سهل: ما كان لعليٍّ اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح إذا دعي به. فقال له أخبرنا عن قصّته أسمى أبا تراب فذكره (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (2404) (31). (¬2) رواه البخاري (4743) , ومسلم (3033). (¬3) رواه البخاري (3965). (¬4) رواه البخاري (4210) , ومسلم (2406). (¬5) رواه البخاري (3703). (¬6) رواه مسلم (2409).

وفي (صحيح البخاري) عن سعيد بن عبيدة قال جاء رجلٌ إلى ابن عمر رضي الله عنهما فسأله عن عثمان، فذكر من محاسن عمله وقال لعل ذلك يسوؤك؟ قال: نعم. قال فأرغم الله بأنفك. ثم سأله عن عليٍّ فذكر محاسن عمله وقال هو ذاك بيته أوسط بيوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لعل ذاك يسوؤك؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك. انطلق وأجهد على جهدك (¬1). وفيهما عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا عليّ رضي الله عنه: ((أنّ فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها، فلمّا جاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم، فقال: على مكانكما. فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري وقال: ألا أعلّمكما خيراً مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما؟ تكبّران أربعاً وثلاثين وتسبّحان ثلاثاً وثلاثين وتحمدان ثلاثاً وثلاثين فهو خيرٌ لكما من خادم)) (¬2). وفي (البخاري) عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإنّي أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي. فكان ابن سيرين يرى أنّ عامة ما يروى عن عليٍّ رضي الله عنه الكذب (¬3). قلت: وأكثر ما يكذب على عليّ رضي الله عنه الرّافضة الذين يدعون مشايعته ونشر فضائله ومثالب غيره من الصحابة، فيسندون ذلك إليه رضي الله عنه وهو بريء منهم، وهم أعدى عدوٍّ له. وفي (الصحيحين) من طرق عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكذبوا عليّ فإنه من كذب عليّ فليلج النار)) (¬4). وفي فضائله رضي الله عنه من الأحاديث الصحاح والحسان ما يغني عن أكاذيب الرافضة، وهم يجهلون غالب ما له من الفضائل فيها. وفي (صحيح مسلم) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: ((أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت فثلاث قالهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن تكون لي واحدة منهمّ أحب إليّ من حمر النّعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له وقد خلّفه في مغازيه فقال له عليٌّ رضي الله عنه: يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبوة بعدي؟ وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، قال فتطاولنا لها قال ادعوا لي عليّاً، فأتي به أرمد فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ليلة فتح الله عليه ولما نزلت هذه الآية فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ [آل عمران:61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهمّ هؤلاء أهلي)) (¬5). وفي (صحيح مسلم) عن زر قال: قال عليٌّ رضي الله عنه: ((والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنّه لعهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلاّ مؤمنٌ ولا يبغضني إلا منافق)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (3704). (¬2) رواه البخاري (3705) , ومسلم (2727). (¬3) رواه البخاري (3707). (¬4) رواه البخاري (106) , ومسلم (1) , من حديث علي رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (2404). (¬6) رواه مسلم (78).

والأحاديث في فضله كثيرة جداً ... والحديث في الإشارة إلى خلافته رضي الله عنه في رؤيا الرجل الصالح الدلو التي شرب منها أبو بكر وعمر وعثمان. ثم جاء علي وأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء (¬1)، وكان تأويل ذلك ما أصابه رضي الله عنه من اختلاف الناس عليه والفتن الهائلة والدماء المهرقة والأمور الصعاب والأسلحة المسلولة بين المسلمين بسبب السّبئية ومن وافقهم من أهل الأمصار على قتل عثمان، وكان غالبهم منافقين، وقليلٌ منهم من أبناء الصحابة مغرورون، فحصل من ذلك في يوم الجمل وصفين وغيرهما وقائع يطول ذكرها. ... وكان رضي الله عنه أيام خلافته على طريق الحق والاستقامة والتمسك بكتاب الله وهدي محمد صلى الله عليه وسلم مجتهداً في جمع شمل الأمّة وإطفاء الفتن والتذفيف على أهل البدع حتى اعتدى على حياته رضي الله عنه الشَّقي ابن ملجم الخارجيّ قبّحه الله وقد فعل، وذلك يوم الجمعة في وقت الفجر وهو يقول: الصّلاة الصّلاة، فمكث يوم الجمعة ليلة السبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين سنة 597هـ، فكانت مدة خلافته أربع سنين وتسعة أشهر إلا ليال، وهو يومئذ أفضل من على وجه الأرض بالإجماع. وذلك مصداق ما روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن سفينة أبي عبد الرحمن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الخلافة ثلاثون سنةً، ثم تكون بعد ذلك ملكاً)) قال سفينة: فخذ سنتي أبي بكر وعشر عمر واثنتي عشرة عثمان وست علي رضي الله عنهم أجمعين (¬2). قلت: سفينة رضي الله عنه حذف الزائد والناقص على السنين من الأشهر على ما جرت به عادات العرب في حذف الكسور في الحساب، وعلى ما قدّمنا ضبطه فأيام كلٍّ منهم لا تكمل ثلاثين إّلا بخلافة الحسن بن علي رضي الله عنه، وهي ستّة أشهر، ثم أصلح الله به الفئتين من المسلمين كما أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وولّي معاوية بذلك واجتمع الناس عليه وكان ذلك العام يسمى (عام الجماعة) وكان معاوية رضي الله عنه أوّل ملوك الإسلام وخيرهم، وروى الإمام أحمد عن عليّ رضي الله عنه قال: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلّى أبو بكر، وثلّث عمر، ثم خبطتنا بعده فتنة فهو ما شاء الله (¬3). وفي رواية: يقضي الله فيها ما شاء (¬4). وله عنه رضي الله عنه قال: ليحبني قوم حتّى يدخلوا النار في حبّي، وليبغضني قومٌ حتى يدخلوا النّار في بغضي (¬5) ... وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: لا أعلم أحداً يحفظ من الفضائل في الأحاديث الصحاح ما يُحفظ لعليٍّ رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي- بتصرف– 3/ 1361 - 1381 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4637)، وأحمد (5/ 21) (20255). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 183): رواه أحمد ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)): ضعيف. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده حسن من أجل الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي. (¬2) رواه أبو داود (4646) , والترمذي (2226) , وأحمد (5/ 220) (21969). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: وهذا حديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد بن جهمان ولا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جهمان. وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 141). وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (3/ 406): ثابت. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬3) رواه أحمد (1/ 132) (1107) , والحاكم (3/ 71). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 57): رجال أحمد ثقات. وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (2/ 251): إسناده صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط في ((مسند أحمد)): إسناده حسن. (¬4) رواه أحمد (1/ 125) (1032) , وأبو نعيم في ((أخبار أصبهان)) (5/ 46) , قال الحكمي في ((معارج القبول)) (3/ 1181): مشهور عنه من طرق لا تحصى, وقال أحمد شاكر وشعيب الأرناؤوط محققا ((مسند أحمد)): إسناده صحيح. (¬5) رواه عبد الله بن أحمد في ((السنة)) (2/ 571) , وابن أبي عاصم في ((السنة)) (2/ 476) , وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (6/ 374). قال الألباني في ((ظلال الجنة)) (983): إسناده صحيح على شرط الشيخين.

الفرع الخامس: فضائل باقي العشرة المبشرين بالجنة

الفرع الخامس: فضائل باقي العشرة المبشرين بالجنة • أولا: فضل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. • ثانيا: فضل الزبير بن العوام رضي الله عنه. • ثالثا: فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. • رابعا: فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. • خامسا: فضل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. • سادسا: فضل سعيد بن زيد رضي الله عنه.

أولا: فضل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

أولا: فضل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي (¬1) (يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب ومع أبي بكر الصديق في تيم بن مرة وعدد ما بينهم من الآباء سواء) (¬2) وأمه -رضي الله عنه- الصعبة بنت الحضرمي امرأة من أهل اليمن وهي أخت العلاء بن الحضرمي (¬3) أسلمت ولها صحبة وظفرت بشرف الهجرة (¬4) وطلحة -رضي الله عنه- أحد العشرة الذين بشروا بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان -رضي الله عنه- عند وقعة بدر قد وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعيد بن زيد يتجسسان خبر العير قبل خروجه عليه الصلاة والسلام إلى بدر فلم يرجعا إلا وقد فرغ من موقعة بدر وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمهما وأجرهما (¬5). وقال الواقدي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتحسسان الأخبار ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر (¬6) فخروجهما لجس الأخبار يعتبر في صالح المعركة وهو نوع من المشاركة فيها. وشهد طلحة -رضي الله عنه- أحداً وما بعدها من المشاهد وقد أبلى في غزوة أحد بلاء حسناً فقد وقى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصبعه (¬7). وفضائله -رضي الله عنه- كثيرة مشهورة ومنها: - ما رواه البخاري بإسناده إلى قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد (¬8). هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة خص بها طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- وهي أنه وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد لما أراد بعض المشركين أن يضربه فاتقى طلحة الضربة بيده حتى أصابها شلل والشلل بطلان في اليد أو في الرجل من آفة تعتريها فالحديث فيه بيان فضيلة عظيمة لطلحة -رضي الله عنه- وأرضاه. - وروى أيضاً بإسناده إلى أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد عن حديثهما (¬9). وهذا الحديث أيضاً تضمن منقبة ظاهرة لأبي محمد طلحة بن عبيد الله من حيث إنه بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفرق الناس عنه يوم أحد والمراد بقوله في الحديث: ((في بعض تلك الأيام)) يوم أحد. ¬

(¬1) ((الإصابة)) (2/ 220)، وانظر: ((الاستيعاب)) لابن عبد البر على ((حاشية الإصابة)) (2/ 210). (¬2) ((فتح الباري)) (7/ 82). (¬3) ((الإصابة)) (2/ 220). (¬4) ((الإصابة)) (4/ 337)، وانظر: ((فتح الباري)) (7/ 82). (¬5) انظر: ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 216 - 217، 382 - 382)، ((المستدرك)) للحاكم (3/ 416)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (21/ 69 - 70)، وانظر: ((الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري)) (4/ 256). (¬6) ((مغازي الواقدي)) (1/ 19)، ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 216 - 217، 382 - 382)، ((المستدرك)) للحاكم (3/ 416). (¬7) انظر: ((الاستيعاب على حاشية الإصابة)) (2/ 210 - 216)، ((تاريخ دمشق)) (25/ 60)، ((الإصابة في تمييز الصحابة)) لابن حجر (2/ 220)، وانظر: ((الرياض النضرة في مناقب العشرة)) (4/ 245) وما بعدها، وانظر: ((المستدرك للحاكم)) (3/ 416). (¬8) رواه البخاري (4063). (¬9) رواه البخاري (3722). والحديث رواه مسلم (2414).

- وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى الزبير -رضي الله عنه- قال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان فنهض إلى الصخرة فلم يستطع فأقعد تحته طلحة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة قال: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أوجب طلحة)) (¬1). ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ((أوجب طلحة)) أي: وجبت له الجنة بسبب عمله هذا أو بما فعل في ذلك اليوم فإنه خاطر بنفسه يوم أحد وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها وقاية له حتى طعن ببدنه وجرح جميع جسده حتى شلت يده (¬2). - وروى أبو نعيم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك كله يوم طلحة (¬3). وهذا مدح وثناء عظيم من صديق هذه الأمة وشهادة صادقة لأبي محمد طلحة بن عبيد الله بثباته مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد التي أبلى فيها بلاء حسناً وكان موقفه عظيماً في غزوة أحد يذكر به في الآخرين -رضي الله عنه- وأرضاه. - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن طلحة ممن قضى نحبه ووفى لله بما نذره على نفسه من القتال في سبيله ونصرة دينه. فقد روى الترمذي بإسناده إلى موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشرك؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طلحة ممن قضى نحبه)) (¬4). وروى أيضاً: بإسناده إلى موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما طلحة (أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يتجرؤون هم على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أين السائل عمن قضى نحبه)) قال الأعرابي: أنا يا رسول الله قال: ((هذا ممن قضى نحبه)) (¬5). هذان الحديثان فيهما بيان فضل طلحة بن عبيد الله حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة ممن قضى نحبه وكان طلحة ضمن جماعة كعثمان بن عفان ومصعب وسعيد وغيرهم نذروا إذا لقوا حرباً ثبتوا حتى يستشهدوا وقد ثبت طلحة يوم أحد وبذل جهده حتى شلت يده ووقى بها النبي صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنه- وأرضاه. قال أبو بكر بن العربي أثناء ذكره لمسائل اشتمل عليها الحديث قال رحمه الله تعالى: الرابعة: إلا أن قوماً تحققت عاقبتهم وأخبر الله تعالى عن حسن مآلهم وإن كانوا لم يوافوا بعد، فلهم شرف الحالة بذلك وعلو المنزلة وطلحة منهم. الخامسة: وكان ذلك له -والله أعلم- بوقايته بنفسه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى شلت يمينه فقدمته يداه إلى الجنة وتقدمه إليها وتعلق بسبب عظيم لا ينقطع منها) (¬6) ... ¬

(¬1) رواه الترمذي (1692). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 152): صحيح، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (ص: 508) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال ابن حجر في ((الإمتاع)) (1/ 92): صحيح. (¬2) انظر: ((تحفة الأحوذي)) (5/ 341). (¬3) ((حلية الأولياء)) (1/ 87). (¬4) رواه الترمذي (3202). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 288): حسن صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) رواه الترمذي (3203). وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): حسن صحيح. (¬6) ((عارضة الأحوذي بشرح الترمذي)) (12/ 82 - 83).

- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يموت شهيداً. فقد روى مسلم في (صحيحه) بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم (¬1). قال النووي رحمه الله تعالى: (وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها إخباره أن هؤلاء شهداء وماتوا كلهم غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر شهداء؛ فإن عمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير رضي الله عنهم قتلوا ظلماً شهداء، فقتل الثلاثة مشهور وقتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة منصرفاً تاركاً للقتال وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركاً للقتال فأصابه سهم فقتله وقد ثبت أن من قتل ظلماً فهو شهيد والمراد شهداء في أحكام الآخرة وعظم ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم وفيه بيان فضيلة هؤلاء) (¬2). - ومن مناقبه الرفيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنه راض. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: (باب ذكر مناقب طلحة بن عبيد الله، وقال عمر: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض) (¬3). - ومما يدل على عظم مكانته وعلو منزلته أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة ضمن جماعة من فضلاء الصحابة. فقد روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة وسعيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)) (¬4) ثم قال: وقد روي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا (¬5). ففي هذا الحديث منقبة واضحة لطلحة -رضي الله عنه- حيث شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة وأكرم بها من شهادة فإنها تضمنت الإخبار بسعادته في الدنيا والآخرة، ذلك هو الصحابي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وتلك طائفة من الأحاديث التي دلت على عظيم قدره وعلو منزلته -رضي الله عنه- وأرضاه. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم لناصر بن علي عائض -بتصرف- 287/ 1 ¬

(¬1) رواه مسلم (2417). (¬2) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 190). (¬3) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث رقم (3722)، ورواه موصولاً (1392) بلفظ: ((توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ ... )). من حديث عمرو بن ميمون رضي الله عنه. (¬4) رواه الترمذي (3747)، وأحمد (1/ 193) (1675). وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 436) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 136): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) ((سنن الترمذي)) (5/ 647).

ثانيا: فضل الزبير بن العوام رضي الله عنه

ثانيا: فضل الزبير بن العوام رضي الله عنه هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي (¬1) يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وعدد ما بينهما من الآباء سواء (¬2) وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى (¬3). قال عروة بن الزبير: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين هاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير: لا أكفر أبداً. وقال أيضاً: (أسلم الزبير وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين معاً ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬4). فهو -رضي الله عنه- من السابقين الأولين إلى الإسلام، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم وفضائله -رضي الله عنه- كثيرة مشهورة ومنها: 1 - ما رواه البخاري بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن لكل نبي حوارياً، وإن حواري الزبير بن العوام)) (¬5). وعند مسلم بلفظ: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لكل نبي حواري وحواري الزبير)) (¬6). ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((وحواري الزبير)) أي: خاصتي من أصحابي وناصري ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام أي: خلصائه وأنصاره، وأصله من التحوير: التبييض قيل: إنهم كانوا قصّارين يحورون الثياب أي: يبيضونها ... قال الأزهري: الحواريون خلصان الأنبياء وتأويله الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب (¬7). فالحواري: هو الناصر المخلص، فالحديث اشتمل على هذه المنقبة العظيمة التي تميز بها الزبير -رضي الله عنه- ولذلك سمع عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- رجلا يقول: أنا ابن الحواري فقال: إن كنت من ولد الزبير وإلا فلا (¬8). وقال عبد الله بن عباس: هو حواري النبي صلى الله عليه وسلم وسمي الحواريون لبياض ثيابهم (¬9). وجاء في ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني: (فإن قلت: الصحابة كلهم أنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام خلصاء فما وجه التخصيص به، قلنا: هذا قاله حين قال يوم الأحزاب: من يأتيني بخبر القوم قال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتيني بخبر القوم فقال: أنا وهكذا مرة ثالثة، ولا شك أنه في ذلك الوقت نصر نصرة زائدة على غيره) (¬10). ¬

(¬1) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 100)، ((الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة)) (1/ 560)، ((الإصابة)) (1/ 526). (¬2) ((فتح الباري)) (7/ 80). (¬3) انظر: ((الاستيعاب على حاشية الإصابة)) (1/ 560 - 565)، ((الإصابة)) (1/ 526 - 528). (¬4) ((المستدرك للحاكم)) (3/ 360)، وانظر ((طبقات ابن سعد)) (3/ 102). (¬5) رواه البخاري (2847). (¬6) رواه مسلم (2415). والحديث رواه بلفظه البخاري (7261). (¬7) ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 457 - 458). (¬8) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 106)، وذكره الحافظ في ((الإصابة)) (1/ 527). (¬9) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث رقم (3512). ووصله ابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 659) (3568)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (68/ 59)، بلفظ: إنما سمي الحواريون قال: كانوا صيادين لبياض ثيابهم. وانظر: ((تغليق التعليق)) (4/ 70). (¬10) ((عمدة القاري)) (16/ 223)، وانظر ((تحفة الأحوذي بشرح الترمذي)) (10/ 547).

2 - من مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه. روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال: ((كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف قال: وهل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: فداك أبي وأمي)) (¬1). وهذا الحديث فيه منقبة ظاهرة للزبير -رضي الله عنه- حيث فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبويه (وفي هذه التفدية تعظيم لقدره واعتداد بعمله واعتبار بأمره وذلك لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيبذل نفسه أو أعز أهله له) (¬2). 3 - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه كان ممن استجاب لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح يوم أحد. فقد روى الشيخان في (صحيحيهما) عن عائشة رضي الله عنها الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 172] قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم: الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: ((من يذهب في إثرهم؟)) فانتدب منهم سبعون رجلا قال: كان فيهم أبو بكر والزبير (¬3). فلقد أثنى الله على الذين استجابوا لله والرسول وأخبر أن جزاء المحسنين المتقين منهم أجر عظيم، وكان الزبير بن العوام واحداً من هؤلاء رضي الله عنهم. 4 - وروى ابن سعد بإسناد صحيح عن هشام عن أبيه قال كانت على الزبير عمامة صفراء معتجراً بها يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة نزلت على سيماء الزبير)) (¬4). وفي هذا الحديث منقبة ظاهرة للزبير -رضي الله عنه- دلت على عظيم قدره وعلو منزلته فكون الملائكة الذين أنزلهم الله لنصر المسلمين في موقعة بدر كانوا على صورته فإن ذلك دليل على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه. 5 - وروى البخاري بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: (أصاب عثمان بن عفان رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى فدخل عليه رجل من قريش قال: استخلف قال: وقالوه؟ قال: نعم قال: ومن؟ فسكت فدخل عليه رجل آخر أحسبه الحارث فقال: استخلف فقال عثمان: وقالوا؟ فقال: نعم قال: ومن هو؟ فسكت فلعلهم قالوا: إنه الزبير؟ قال: نعم قال: والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت، وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬5) وفي رواية أخرى قال: (أما والله إنكم لتعلمون أنه خيركم ثلاثا) (¬6). ففي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شهد له ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بالخيرية وأنه كان من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (3720). (¬2) من ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) لملا علي القاري (5/ 578)، ((تحفة الأحوذي)) (10/ 246). (¬3) رواه البخاري (4077) واللفظ له، ومسلم (2418). (¬4) ((الطبقات الكبرى)) (3/ 103). قال ابن حجر في ((الإصابة)) (1/ 545): إسناده صحيح، وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (6477): هذا إسناد صحيح - كما قال الحافظ في ((الإصابة)) - ولكنه مرسل؛ لأن عروة -وهو: ابن الزبير- لم يدرك القصة. (¬5) رواه البخاري (3717). (¬6) رواها البخاري (3718).

قال الداودي: يحتمل أن يكون المراد من الخيرية في شيء مخصوص كحسن الخلق وإن حمل على ظاهره ففيه ما يبين أن قول ابن عمر: (ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم) (¬1) لم يرد به جميع الصحابة فإن بعضهم قد وقع منه تفضيل بعضهم على بعض وهو عثمان في حق الزبير وقد تعقب الحافظ رحمه الله هذا الاحتمال الذي قاله الداودي بقوله: (قلت: قول ابن عمر قيده بحياة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعارض ما وقع منهم بعد ذلك) (¬2). 6 - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه كان شجاعاً مقداماً في ساحة القتال. فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم وقعة اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ فحمل عليهم فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير) (¬3). وفي هذا بيان فضيلة للزبير -رضي الله عنه- تضمنها قول الصحابة له يوم اليرموك (ألا تشد فنشد معك ... إلخ) فإنه كان شجاعاً مقداماً موفقاً في تسديد الضربات لجيوش الشرك. ولقد أبلى -رضي الله عنه- في يوم اليرموك وفي جميع الغزوات التي غزاها بلاء حسناً. فقد روى الترمذي بإسناده إلى هشام بن عروة قال: (أوصى الزبير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل فقال: ما مني عضو إلا وقد جرح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى ذَاكَ إلى فرجه) (¬4). 7 - ومن أعظم مناقبه وأعلاها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة ... )) الحديث (¬5). 8 - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه يموت شهيداً فقد روى الإمام مسلم في (صحيحه) بإسناده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) (¬6). فلقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهادة وحصلت له كما أخبر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإنه لما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعاً إلى المدينة فمر بقوم الأحنف بن قيس وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين فقال قائل يقال له الأحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كر راجعاً إلى بيته من رجل يكشف لنا خبره؟ فاتبعه عمرو بن جرموز في طائفة من غواة بني تميم ... فأدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع – قريب من البصرة – وهو نائم في القائلة فهجم عليه فقتله ... ولما قتله اجتز رأسه وذهب بها إلى علي ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار وفي رواية: أن علياً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بشر قاتل ابن صفية بالنار)) ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير فقال علي: إن هذا السيف طال من فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال: إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه وقيل: بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا وهو مختف فهل لك فيه؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن والله ما كنت لأقيد للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلا للزبير (¬7) (وكان قتله -رضي الله عنه- يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين) (¬8) ذلك هو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على عظيم قدره وعلو شأنه -رضي الله عنه- وأرضاه. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم لناصر بن علي عائض – 300/ 1 ¬

(¬1) رواه البخاري (3697). (¬2) ((فتح الباري)) (7/ 81). (¬3) رواه البخاري (3721). (¬4) رواه الترمذي (3746). وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث حماد بن زيد، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): إسناده صحيح. (¬5) رواه الترمذي (3747)، وأحمد (1/ 193) (1675). وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 436) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 136): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬6) رواه مسلم (2417). (¬7) ((البداية والنهاية)) (7/ 272 - 273). (¬8) انظر ((الطبقات)) لابن سعد (3/ 110 - 113)، ((الاستيعاب لابن عبد البر على الإصابة)) (1/ 564)، ((البداية والنهاية)) (7/ 273)، ((الإصابة)) (1/ 527).

ثالثا: فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه

ثالثا: فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هو أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزهري كان اسمه في الجاهلية –عبد عمرو- وقيل عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أمه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة (¬1). (شهد -رضي الله عنه- بدراً والمشاهد كلها وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا بالإسلام) (¬2) (وأحد الستة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توفي وهو عنهم راض وأسند رفقته أمرهم إليه حتى بايع عثمان) (¬3) (أسلم قديماً قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها) (¬4). (وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى بني كلب، وأرخى له عذبة بين كتفيه لتكون أمارة عليه للإمارة) (¬5) ومناقبه -رضي الله عنه- كثيرة وقد وردت طائفة من الأحاديث الصحيحة بذكر مناقبه -رضي الله عنه- ومنها: - روى الإمام مسلم بإسناده إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره أن المغيرة بن شعبة أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال المغيرة: ((فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أخذت أهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم توضأ على خفيه، ثم أقبل. قال المغيرة: فأقبلت معه حتى وجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: أحسنتم أو قال: أصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها)) (¬6). فصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية من صلاة الفجر دلت على منقبة عظيمة له لا تبارى، رضي الله عنه وأرضاه. - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬7). فقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تسبوا أحداً من أصحابي)) يعني عبد الرحمن ونحوه الذين هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا وهم أهل بيعة الرضوان فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ومنهم خالد بن الوليد (¬8) فالحديث تضمن منقبة رفيعة لعبد الرحمن بن عوف حيث كان ممن شرف بالسبق إلى الإسلام. ¬

(¬1) انظر: ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 124)، ((المستدرك)) (3/ 306)، ((الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة)) (2/ 385)، ((البداية والنهاية)) (7/ 178)، ((الإصابة)) (2/ 408). (¬2) ((الرياض النضرة في مناقب العشرة)) (4/ 305 - 306)، وانظر: ((البداية والنهاية)) (7/ 178). (¬3) ((الإصابة)) (2/ 408). (¬4) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 124)، ((المستدرك)) للحاكم (3/ 309). (¬5) ((البداية والنهاية)) (7/ 178). (¬6) رواه مسلم (274). (¬7) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬8) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 529).

- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم غيّر اسمه من عبد عمرو إلى عبد الرحمن. روى الحاكم بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: (كان اسمي في الجاهلية عبد عمرو فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن) (¬1) - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله له أن يسقيه من سلسبيل الجنة. فقد روى الحاكم أيضاً بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه: ((إن الذي يحنو عليكم بعدي هو الصادق البار اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة)) (¬2). وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن حدثه قال: دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فقالت لي: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: أمركن مما يهمني بعدي ولن يصبر عليكن إلا الصابرون، ثم قالت: فسقى الله أباك من سلسبيل الجنة، وكان عبد الرحمن بن عوف قد وصلهن بمال فبيع بأربعين ألفاً)) (¬3). ففي هذين الحديثين فضيلة لعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-. - ومن أجلّ مناقبه وأعلاها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الترمذي رحمه الله بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ... )) الحديث (¬4). فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الرحمن أحد أهل الجنة، جعلنا الله منهم بفضله ومنه آمين. - ومن مناقبه العظيمة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد. روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: أشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم قيل: وكيف ذاك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء فقال: ((اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) قيل: ومن هم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف قيل فمن العاشر قال أنا (¬5). فالحديث تضمن منقبة عالية لعبد الرحمن وهي أنه سيموت شهيداً ولا يعارض هذا وفاته -رضي الله عنه- على فراشه فلابد من التسليم والإيمان بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولابد هناك من سبب ثبتت له به الشهادة ليكون تصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم لم نعلمه نحن. ذلك هو عبد الرحمن بن عوف الذي قضى حياته كلها في طاعة ربه حتى في اللحظة الأخيرة التي كان فيها في مرض موته فقد قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار وكانوا مائة فأخذوها حتى عثمان وعلي وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها وسبقت زيفها (¬6). وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول: سقاه الله من السلسبيل وأعتق خلقاً من مماليكه، ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص ودفن بالبقيع (¬7) سنة إحدى وثلاثين وقيل سنة اثنتين وهو الأشهر) (¬8). عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم لناصر بن علي عائض – 300/ 1 ¬

(¬1) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 346)، (4/ 308). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬2) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 351). وقال: صحّ الحديث عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، ووافقه الذهبي، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (ص: 190): إسناده رجاله ثقات. وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) للألباني (1594). (¬3) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 352). والحديث رواه الترمذي (3749). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه الترمذي (3747)، وأحمد (1/ 193) (1675). وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 436) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 136): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) رواه أبو داود (4648)، والترمذي (3757)، وابن ماجه (134)، وأحمد (1/ 189) (1644). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (904) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وأحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (1/ 208)، وقال ابن حجر في ((الإمتاع)) (1/ 104)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬6) انظر: ((المستدرك)) للحاكم (3/ 308). (¬7) ((البداية والنهاية)) (7/ 180). (¬8) ((الاستيعاب على حاشية الإصابة)) (2/ 390)، ((الإصابة)) (2/ 409 - 410).

رابعا: فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

رابعا: فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هو أبو إسحاق سعد بن مالك بن أهيب ويقال له: ابن وهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب القرشي الزهري (¬1) (يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة وعدد ما بينهما من الآباء متقارب وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس لم تسلم) (¬2) وهو -رضي الله عنه- أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أسلم قديماً وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً، وما بعدها من المشاهد وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارساً شجاعاً من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في أيام الصديق معظماً جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر وقد استنابه على الكوفة وهو الذي بناها، وهو الذي فتح المدائن (¬3)، وكانت بين يديه وقعة جلولاء (¬4) وكان سيداً مطاعاً، وعزله عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك، ثم ولاه عثمان بعده، ثم عزله عنها وكان -رضي الله عنه- مجاب الدعوة مشهوراً بذلك (¬5)، ومناقبه -رضي الله عنه- كثيرة مشهورة وردت بها الأحاديث الصحيحة ومنها: - روى البخاري بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعداً يقول: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد (¬6). - وروى مسلم بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم أحد قال: ((كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارم فداك أبي وأمي قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه)) (¬7). - وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن شداد قال: سمعت علياً يقول: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك فإنه جعل يقول له يوم أحد: ((ارم فداك أبي وأمي)) (¬8). هذه الأحاديث تضمنت منقبة عظيمة لسعد -رضي الله عنه- وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه وهذه التفدية فيها دلالة على أنه عظيم المنزلة جليل القدر عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيضحي بنفسه أو أعز أهله له. وقول علي -رضي الله عنه-: (ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك) يفيد الحصر ولكن هذا الحصر فيه نظر لأنه تقدم معنا قريباً أن عليه الصلاة والسلام جمع أبويه يوم الخندق للزبير بن العوام -رضي الله عنه- ويجمع بين الحديثين (بأن علياً -رضي الله عنه- لم يطلع على ذلك أو مراده بذلك تقييده بيوم أحد والله أعلم) (¬9). ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (8/ 78)، ((الإصابة)) (2/ 30). (¬2) ((فتح الباري)) (7/ 84). (¬3) انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 8 - 16)، ((الكامل)) لابن الأثير (2/ 511)، ((البداية والنهاية)) (7/ 71 - 76). (¬4) انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 24 - 35)، ((الكامل)) لابن الأثير (2/ 519)، ((البداية والنهاية)) (7/ 77 - 79). (¬5) انظر ترجمته في ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 137 - 149)، ((الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة)) (2/ 18 - 25)، ((البداية والنهاية)) (8/ 78 - 84)، ((الإصابة)) (2/ 30 - 32). (¬6) رواه البخاري (3725)، ومسلم (2412). (¬7) رواه مسلم (2412). (¬8) رواه مسلم (2411). (¬9) ((فتح الباري)) (7/ 84)، ((عمدة القاري)) (16/ 228).

- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: من هذا قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام)) (¬1). هذا الحديث تضمن منقبة لسعد -رضي الله عنه- وأنه من الصالحين وأكرم بها من منقبة إذ الصالحون يتولاهم رب العالمين كما قال تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196] ولقد حظي -رضي الله عنه- بمفخرة عظيمة وهي حراسته للنبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه له عليه الصلاة والسلام وكان هذا الحديث قبل نزول قوله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الاحتراس حين نزلت هذه الآية وأمر أصحابه بالانصراف عن حراسته وهذا الحديث مصرح بأن هذه الحراسة كانت أول قدومه المدينة ومعلوم أن الآية نزلت بعد ذلك بأزمان (¬2). - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن الله تعالى أنزل فيه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى سعد -رضي الله عنه- أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: ((حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله – عز وجل – في القرآن هذه الآية وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وفيها وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] قال وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من قد علمت حاله، فقال: رده من حيث أخذته؛ فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت: أعطنيه، قال فشد لي صوته: رده من حيث أخذته، قال: فأنزل الله – عز وجل - يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ [الأنفال: 1] قال: ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت قال: فأبى قلت: فالنصف قال: فأبى قلت: فالثلث قال: فسكت فكان بعد الثلث جائزاً قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً وذلك قبل أن تحرم الخمر قال: فأتيتهم في حش والحش البستان فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر قال: فأكلت وشربت معهم قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله – عز وجل – في يعني نفسه شأن الخمر يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة: 90])) (¬3). فهذا الحديث تضمن بيان فضيلة سعد حيث نزلت في شأنه تلك الآيات القرآنية المشار إليها في هذا الحديث. ¬

(¬1) رواه مسلم (2410). (¬2) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 183). (¬3) رواه مسلم (1748).

- ومن مناقبه رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أثنى عليه وأخبر أنه من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. فقد جاء في (صحيح مسلم) عنه -رضي الله عنه- قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله – عز وجل - وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52])) (¬1). - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه أسلم قديماً. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد قال: (لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام) (¬2). وروى أيضاً بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: (ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام) (¬3). فقوله -رضي الله عنه- لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام فيه منقبة عظيمة له وأراد بذلك أنه ثالث من أسلم أولا وأراد بالاثنين أبا بكر وخديجة أو النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر والظاهر أنه أراد الرجال الأحرار (فقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في (الاستيعاب) (¬4) أنه سابع سبعة في الإسلام) (¬5) وقد قدمنا في فضل الصديق من حديث عمار بن ياسر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وأبو بكر فهؤلاء ستة ويكون هو السابع بهذا الاعتبار أو قال ذلك بحسب اطلاعه والسبب فيه أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه فبهذا الاعتبار قال: وأنا ثلث الإسلام ... وقوله -رضي الله عنه-: (ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه) ظاهره أنه لم يسلم أحد قبله وهذا فيه إشكال لأنه قد أسلم قبله جماعة ولكن يحمل هذا على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ، وقد روى ابن منده في (المعرفة) من طريق أبي بدر عن هاشم بلفظ: (ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه) وهذا لا إشكال فيه لأنه لا مانع أن يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم ولا ينافي هذا إسلام جماعة قبل يوم إسلامه وقوله: (ولقد مكثت ... إلخ) هذا أيضاً على مقتضى اطلاعه) (¬6). - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه أول من رمى بسهمه في سبيل الله لمجاهدة أعداء الله وإعلاء كلمة الله. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد -رضي الله عنه- قال: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط ... ) الحديث (¬7). في هذا بيان فضيلة سعد -رضي الله عنه- حيث إنه كان أول رام بسهمه في سبيل الله (وكان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة بعث ناساً من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيراً لقريش فتراموا بالسهام ولم يكن بينهم مسايفة فكان سعد أول من رمى) (¬8). ¬

(¬1) رواه مسلم (2413). (¬2) رواه البخاري (3726). (¬3) رواه البخاري (3727). (¬4) ((الاستيعاب على حاشية الإصابة)) (2/ 18). (¬5) رواه البخاري (3727). (¬6) انظر: ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 184 - 185)، ((فتح الباري)) (7/ 84)، ((المرقاة شرح المشكاة)) (5/ 579). (¬7) رواه البخاري (3728) (¬8) انظر: ((السيرة النبوية)) لابن هشام (1/ 591)، ((الإصابة)) (2/ 30)، ((فتح الباري)) (7/ 84).

- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه كان مجاب الدعوة مشهوراً بذلك وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله له بأن يكون مجاب الدعوة فحقق الله دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام فكانت دعوته مستجابة -رضي الله عنه- جاء في (مجمع الزوائد) عن عامر – يعني الشعبي – قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: متى أجبت الدعوة؟ قال: يوم بدر كنت أرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأضع السهم في كبد القوس ثم أقول: اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وافعل بهم وافعل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم استجب لسعد)) رواه الطبراني وإسناده حسن (¬1). وفيه أيضاً: عن سعد قال: سمعني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو فقال: ((اللهم استجب له إذا دعاك)). رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (¬2). - ومن مناقبه العالية شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة فقد روى الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ... )) الحديث (¬3). - ومن مناقبه -رضي الله عنه- شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من الشهداء فقد روى مسلم بإسناده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم (¬4). فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد مع أنه لم يمت في معركة وإنما توفي بقصره بالعقيق سنة إحدى وخمسين وقيل ست وقيل ثمان والثاني أشهر (¬5). قال النووي: وأما ذكر سعد بن أبي وقاص في الشهداء فقال القاضي: إنما سمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة (¬6) قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة، وقال غيره: كان آخر المهاجرين وفاة، رضي الله عنه وعنهم أجمعين ذلك هو سعد بن أبي وقاص وتلك طائفة من فضائله العظيمة رضي الله عنه. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم لناصر بن علي عائض – 304/ 1 ¬

(¬1) رواه الطبراني (1/ 143) (318). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 156): إسناده حسن. (¬2) رواه البزار (1/ 215) (1218). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 156): رجاله رجال الصحيح. (¬3) رواه الترمذي (3747)، وأحمد (1/ 193) (1675). وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 436) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 136): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه مسلم (2417). (¬5) ((الإصابة)) (2/ 31). (¬6) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 190).

خامسا: فضل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه

خامسا: فضل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب ويقال: وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي الفهري أبو عبيدة بن الجراح مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده، وأمه أميمة بنت غنم بن جابر بن عبد العزى بن عامر بن عميرة (¬1). وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام (وكان إسلامه هو وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد في ساعة واحدة قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم) (¬2). وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهاجر الهجرتين وشهد بدراً وما بعدها وهو الذي انتزع حلقتي المغفر من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيتاه بسبب ذلك وثبت يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم الناس (¬3) ومناقبه -رضي الله عنه- تضمنتها أحاديث صحيحة مشهورة منها: - ما رواه الشيخان من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لكل أمة أميناً وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) (¬4). هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة لأبي عبيدة -رضي الله عنه- (والأمين هو الثقة المرضي وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيداً في ذلك لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها فأشعر بقدر زائد فيها على غيره كالحياء لعثمان والقضاء لعلي ونحو ذلك) (¬5). وروى البخاري بإسناده إلى حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: ((لأبعثن عليكم – يعني – أمينا حق أمين)) فأشرف أصحابه فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه (¬6). وروى مسلم بإسناده إلى أنس ((أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: هذا أمين هذه الأمة)) (¬7). وروى أيضاً: بإسناده إلى حذيفة قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أميناً فقال: ((لأبعثن إليكم رجلا أميناً حق أمين)) قال: فاستشرف لها الناس (¬8). إنها لمنقبة عظيمة خص بها أبو عبيدة -رضي الله عنه- حق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتطلعوا لها (وكان تطلعهم رضي الله عنهم إلى الولاية ورغبتهم فيها حرصاً منهم على أن يكون أحدهم هو الأمين الموعود في الحديث لا حرصاً على الولاية من حيث هي) (¬9). ¬

(¬1) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 409)، ((المستدرك)) للحاكم (3/ 262)، ((الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة)) (3/ 2)، ((الرياض النضرة في مناقب العشرة)) (4/ 301)، ((الإصابة)) (2/ 243). (¬2) ((المستدرك)) (3/ 266)، ((الإصابة)) (2/ 243). (¬3) ((المستدرك)) (3/ 266)، ((الإصابة)) (2/ 243). (¬4) رواه البخاري (3744)، ومسلم (2419). (¬5) انظر: ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 191 - 192)، ((فتح الباري)) (7/ 93)، ((عمدة القاري)) (16/ 238)، ((تحفة الأحوذي)) (10/ 260). (¬6) رواه البخاري (3745). (¬7) رواه مسلم (2419). (¬8) رواه مسلم (2420). (¬9) انظر ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 192)، ((فتح الباري)) (7/ 94)، ((عمدة القاري)) (16/ 239).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله لأهل نجران هم أهل بلد قريب من اليمن وهم العاقب واسمه عبد المسيح والسيد ومن معهما، ذكر ابن سعد أنهم وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع وسماهم (¬1) ... ووقع في حديث أنس عند مسلم: (أن أهل اليمن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام فأخذ بيد أبي عبيدة وقال: ((هذا أمين هذه الأمة)) (¬2) فإن كان الراوي تجوز عن أهل نجران بقوله: (أهل اليمن) لقرب نجران من اليمن وإلا فهما واقعتان والأول أرجح) ا. هـ (¬3). - ومن مناقبه العالية -رضي الله عنه- أنه كان أحد من يصلح للخلافة، وأحد الناس الذين كانوا أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم روى الإمام مسلم بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا (¬4). وهذا الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تضمن منقبة عظيمة لأبي عبيدة وهي اعتقادها رضي الله عنها أنه صالح للخلافة وأنه أهل لها رضي الله عنه وأرضاه. وروى الترمذي وابن ماجة بإسناديهما إلى عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت ثم أبو عبيدة بن الجراح قلت: ثم من؟ فسكتت (¬5). وفي هذا بيان فضيلة لأبي عبيدة وهي أنه كان أحد الذين هم أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن الفاروق -رضي الله عنه- كان يكره مخالفته فيما يراه وأنه كان جليل القدر عنده. فقد روى الشيخان في (صحيحيهما) عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن عمر لما خرج إلى الشام وأخبر أن الوباء قد وقع به فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم فاختلفوا فرأى عمر رأي من رأى الرجوع فرجع فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافه، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله .. إلخ) الحديث (¬6). قال الحافظ رحمه الله تعالى: (وذلك دال على جلالة أبي عبيدة عند عمر) (¬7). - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أنه عليه الصلاة والسلام قرنه في المدح بالشيخين. روى الترمذي بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح)) (¬8) ثم قال: هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث سهيل. ¬

(¬1) انظر: ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 412). (¬2) رواه مسلم (2419). (¬3) ((فتح الباري)) (7/ 93 - 94). (¬4) رواه مسلم (2385). (¬5) رواه الترمذي (3657)، وابن ماجه (102). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1643): صحيح على شرط مسلم. (¬6) رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219). (¬7) ((الإصابة)) (2/ 244). (¬8) رواه الترمذي (3795). وقال: هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث سهيل، وقال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (25/ 469): محفوظ، وقال النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/ 99): إسناده صحيح، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (5/ 296): إسناده على شرط مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 482) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 340): رجاله رجال الصحيحين إلا سهيل بن أبي صالح فإن البخاري روى له مقروناً.

في هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأبي عبيدة حيث قرنه عليه الصلاة والسلام في المدح والثناء عليه مع أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهم جميعاً. - ومن مناقبه العالية الرفيعة شهادة المصطفى عليه الصلاة والسلام له بالجنة ضمن جماعة من الصحابة كما تقدم في حديث العشرة المبشرين بالجنة، وهو ما رواه الترمذي وغيره بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)) (¬1). - ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن وفاته كانت شهادة في سبيل الله فقد مات في الطاعون الذي حصل بأرض الشام زمن الفاروق -رضي الله عنه- وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من كانت وفاته بسبب هذا الداء فإنه شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد وقد جمع الله لأبي عبيدة بين هذين الوصفين. فقد روى الإمام مسلم في (صحيحه) بإسناده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد)) قال ابن مقسم: (أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: والغريق شهيد) (¬2) (وهذه الموتات إنما كانت شهادة بتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها) (¬3). قال النووي رحمه الله تعالى: (قال العلماء: المراد بشهادة هؤلاء كلهم غير المقتول في سبيل الله أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم ... والشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة وهو المقتول في حرب الكفار وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا وهم هؤلاء المذكورون هنا وشهيد في الدنيا دون الآخرة وهو من غل في الغنيمة أو قتل مدبراً) (¬4). (وقد اتفق العلماء على أن أبا عبيدة مات في طاعون عمواس بالشام سنة ثماني عشرة) (¬5). ولما دفن -رضي الله عنه- خطب الناس معاذ بن جبل خطبة بين فيها الكثير من فضائل أبي عبيدة. وقد ذكر أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد المقبري قال: لما طعن أبو عبيدة قال: يا معاذ صل فصلى معاذ بالناس ثم مات أبو عبيدة بن الجراح فقام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً فإن عبداً لله يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له ثم قال: إنكم أيها الناس قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبداً قط أقل غمزاً ولا أبر صدراً ولا أبعد غائلة ولا أشد حباً للعاقبة ولا أنصح للعامة منه فترحموا عليه رحمه الله ثم أصحروا للصلاة عليه فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً فاجتمع الناس وأخرج أبو عبيدة وتقدم معاذ فصلى عليه حتى إذا أتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس فلما وضعوه في لحده وخرجوا فشنوا عليه التراب فقال معاذ بن جبل: يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلا أخاف أن يلحقني بها من الله مقت كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيراً ومن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين (¬6). فهذا الثناء من معاذ -رضي الله عنه- كله تضمن بيان فضائل لأبي عبيدة بن الجراح ذلك هو أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم لناصر بن علي عائض – 1/ 311 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3747)، وأحمد (1/ 193) (1675). وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 436) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 136): إسناده صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه مسلم (1915). (¬3) انظر: ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (13/ 63). (¬4) انظر: ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (13/ 63). (¬5) ((الاستيعاب على حاشية الإصابة)) (3/ 3)، ((الإصابة)) (2/ 245). (¬6) ((المستدرك)) (3/ 295).

سادسا: فضل سعيد بن زيد رضي الله عنه

سادسا: فضل سعيد بن زيد رضي الله عنه هو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح ابن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي كان أبوه زيد بن عمرو بن نفيل أحد الحنفاء الذين طلبوا دين الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وكان لا يذبح للأصنام ولا يأكل الميتة والدم وكان يقول لقومه: يا معشر قريش والله لا آكل ما ذبح لغير الله، والله ما أحد على دين إبراهيم غيري (¬1). وأم سعيد بن زيد فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية كانت من السابقين إلى الإسلام وهو ابن عم عمر بن الخطاب وصهره كانت تحته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب وكانت أخته عاتكة بنت زيد بن عمرو تحت عمر بن الخطاب وكان سعيد بن زيد من السابقين الأولين إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم قبل عمر بن الخطاب هو وزوجته فاطمة، وهاجرا، وكان من سادات الصحابة. قال عروة والزهري وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق والواقدي وغير واحد: لم يشهد بدراً لأنه قد كان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وطلحة بن عبيد الله بين يديه يتجسسان أخبار قريش، فلم يرجعا حتى فرغ من بدر فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهميهما وأجرهما، ولم يذكره عمر في أهل الشورى لئلا يحابى بسبب قرابته من عمر فيولى فتركه لذلك ولم يتول بعده ولاية وما زال كذلك حتى مات (¬2). وقد وردت بعض الأحاديث المتعددة المصرحة بفضله -رضي الله عنه- ومنها: - ما رواه البخاري بإسناده إلى قيس بن أبي حازم قال: سمعت سعيد بن زيد يقول للقوم في مسجد الكوفة يقول: (والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر ولو أن أحداً أرفض للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقاً أن يرفض) (¬3). ففي هذا بيان فضيلة ظاهرة لسعيد -رضي الله عنه- وهي أنه كان ممن حظي بشرف السبق إلى الإسلام وأن إسلامه كان قبل إسلام الفاروق -رضي الله عنه- إذ أنه بين أن صنع عمر هذا به كان قبل أن يسلم. قال أبو عبد الله الحاكم: (أسلم سعيد بن زيد بن عمرو قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها الناس إلى الإسلام) (¬4). - ومن مناقبه العالية شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة مع جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن حميد أن سعيد بن زيد حدثه في نفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عشرة في الجنة أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعلي وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص)) قال: فعد هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر قال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله أبو الأعور في الجنة (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في ((الاستيعاب))، وانظر: ((الإصابة)) (2/ 4) حاشية. (¬2) انظر ترجمته في ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 379)، ((الاستيعاب على حاشية الإصابة)) (2/ 2 - 8)، ((البداية والنهاية)) (8/ 62)، ((الرياض النضرة في مناقب العشرة)) (4/ 337)، ((الإصابة)) (2/ 44). (¬3) رواه البخاري (3862). (¬4) ((المستدرك)) (3/ 496). (¬5) رواه الترمذي (3748). قال المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (9/ 255): له طرق، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

- ومن مناقبه -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من الشهداء. فقد روى الترمذي بإسناده إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: ((أشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قال: اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد، قيل: ومن هم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف قيل: فمن العاشر قال: أنا)) (¬1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) ففي هذا فضيلة عظيمة لسعيد بن زيد -رضي الله عنه- حيث شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة وإن مات على فراشه فهو شهيد لخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بذلك. وكانت وفاته -رضي الله عنه- سنة (إحدى وخمسين وقيل سنة اثنتين وخمسين وقد غسله سعد وحمل من العقيق على رقاب الرجال إلى المدينة) (¬3). قال الشوكاني رحمه الله تعالى مبيناً فضل سعيد بن زيد -رضي الله عنه- (ويكفي سعيد بن زيد أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة وأنه شهد أحداً وما بعده من المشاهد كلها وصار من جملة أهل بدر بما ضربه له رسول الله صلى الله عليه وسلم من السهم والأجر) اهـ (¬4). ذلك هو سعيد بن زيد وتلك طائفة من مناقبه وبه -رضي الله عنه- نختم فضل العشرة المبشرين بالجنة الذين قدمنا فضائلهم التي دلت على مكانتهم وعلو منزلتهم، فيجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنهم من أهل الجنة بأعيانهم كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4] وكلهم رضي الله عنهم من قريش الذين سبقوا إلى الإسلام وهاجروا إلى الله ورسوله وتركوا ديارهم وأموالهم بغية نصرة دين الإسلام ورفع رايته. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم لناصر بن علي عائض – 1/ 317 ¬

(¬1) رواه الترمذي (3757). وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (ص: 904) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬2) ((سنن الترمذي)) (5/ 651). (¬3) ((البداية والنهاية)) (8/ 62) وانظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 384 - 385). (¬4) ((در السحابة في مناقب القرابة والصحابة)) (ص: 257).

المبحث الرابع: عقيدة أهل السنة في الصحابة

المطلب الأول: وجوب محبتهم من عقائد أهل السنة والجماعة وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وتوقيرهم وتكريمهم والاحتجاج بإجماعهم والاقتداء بهم، والأخذ بآثارهم، وحرمة بغض أحد منهم لما شرفهم الله به من صحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه لنصرة دين الإسلام، وصبرهم على أذى المشركين والمنافقين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم وتقديم حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك كله، وقد دلت النصوص الكثيرة على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، وقد فهم أهل السنة والجماعة ما دلت عليه النصوص في هذا واعتقدوا ما تضمنته مما يجب لهم من المحبة على وجه العموم رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن تلك النصوص: (1) قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]. (هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً أنه لا حق له في الفيء، روي ذلك عن مالك وغيره، قال مالك: (من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية) (¬1). (2) روى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه)) (¬2). هذا الحديث تضمن الحث لكل إنسان يأتي بعد الصحابة في أن يحفظ حقهم، والمعنى: لا تنقصوا من حقهم ولا تسبوهم، بل عظموهم ووقروهم، ولا تتخذوهم هدفاً ترمونهم بقبيح الكلام، كما يرمى الهدف بالسهم، وبين عليه الصلاة والسلام أن حبهم ما استقر في قلب إنسان إلا بسبب حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو بسبب حب النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وما وجد بغضهم في قلب إنسان إلا بسبب ما فيه من البغض للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يأخذه))، أي: يعاقبه في الدنيا أو في الآخرة (¬3). فالحديث دل على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم وخطورة بغضهم. ¬

(¬1) انظر قول مالك في ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/ 1778)، ((زاد المسير في علم التفسير)) (8/ 216)، ((تفسير البغوي)) (7/ 54)، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (18/ 32)، وانظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 609). (¬2) رواه الترمذي (3862). وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)). (¬3) انظر: ((تحفة الأحوذي)) (10/ 365)، ((الفتح الرباني للساعاتي)) (22/ 169).

قال المناوي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الله الله في أصحابي)) (أي: اتقوا الله فيهم ولا تلمزوهم بسوء أو اذكروا الله فيهم، وفي تعظيمهم وتوقيرهم، وكرره إيذاناً بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص ((فمن أحبهم فبحبي أحبهم)) أي: فبسبب حبهم إياي، أو حبي إياهم، أي: إنما أحبهم لحبهم إياي، أو لحبي إياهم. ((ومن أبغضهم فببغضي)). أي: فبسبب بغضه إياي، ((أبغضهم)) يعني: إنما أبغضهم لبغضه إياي ... وخص الوعيد بها لما اطلع عليه مما سيكون بعده من ظهور البدع وإيذاء بعضهم زعماً منهم الحب لبعض آخر، وهذا من باهر معجزاته، وقد كان في حياته حريصاً على حفظهم والشفقة عليهم. أخرج البيهقي عن ابن مسعود: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) (¬1)، وإن تعرض إليهم ملحد وكفر نعمة قد أنعم الله بها عليهم، فجهل منه وحرمان، وسوء فهم، وقلة إيمان، إذ لو لحقهم نقص لم يبق في الدين ساق قائمة لأنهم النقلة إلينا، فإذا جرح النقلة دخل من الآيات والأحاديث التي بها ذهاب الأنام، وخراب الإسلام إذ لا وحي بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم وعدالة المبلغ شرط لصحة التبليغ) (¬2). (3) وروى الإمام البخاري في (صحيحه) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) (¬3). ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم هذا: (أن علامات كمال إيمان الإنسان، أو نفس إيمانه حب مؤمني الأوس والخزرج لحسن وفائهم بما عاهدوا الله عليه من إيواء نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره على أعدائه زمن الضعف والعسرة وحسن جواره ورسوخ صداقتهم وخلوص مودتهم ولا يلزم منه ترجيحهم على المهاجرين الذين فارقوا أوطانهم وأهليهم وحرموا أموالهم حباً له وروماً لرضاه ... (وآية النفاق) بالمعنى الخاص (بغض الأنصار)، صرح به مع فهمه مما قبله لاقتضاء المقام التأكيد، ولم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، لأن الكلام فيمن ظاهره الإيمان، وباطنه الكفر فميزه عن ذوي الإيمان الحقيقي، فلم يقل آية الكفر لكونه غير كافر ظاهراً، وخص الأنصار بهذه المنقبة العظمى، لما امتازوا به من الفضائل، فكان اختصاصهم بها مظنة الحسد الموجب للبغض، فوجب التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم، وأبرز ذلك في هذين التركيبين المفيدين للحصر لأن المبتدأ والخبر فيهما معرفتان، فجعل ذلك آية الإيمان والنفاق على منهج القصر الادعائي، حتى كأنه: لا علامة للإيمان إلا حبهم، وليس حبهم إلا علامته، ولا علامة للنفاق إلا بغضهم، وليس بغضهم إلا علامته، تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في المعنى مشاركاً لهم في الفضل كل بقسطه) (¬4). (4) وروى مسلم بإسناده إلى عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: ((لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)). قال شعبة: (قلت لعدي: سمعته من البراء؟ قال: إياي حدث) (¬5). (5) وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البيهقي (8/ 166) (16452). وقال الذهبي في ((المهذب)) (6/ 3273): انفرد الكديمي بقوله فأتاه مال إلى آخر الحديث، والكديمي لا شيء. (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 98). (¬3) رواه البخاري (17). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬4) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 62). (¬5) رواه مسلم (75). (¬6) رواه مسلم (76).

(6) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله)) (¬1). (7) وروى الحافظ الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم)) (¬2). (8) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)) (¬3). (9) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الحي من الأنصار محنة حبهم إيمان وبغضهم نفاق)) (¬4). (10) وروى أيضاً: بإسناده إلى الحارث بن زياد الساعدي ((أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يبايع الناس على الهجرة فقال: يا رسول الله بايع هذا، قال: ومن هذا، قال: ابن عمي حوط بن يزيد أو يزيد بن حوط، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أبايعك إن الناس يهاجرون إليكم ولا تهاجرون إليهم، والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لا يحب رجل الأنصار حتى يلقى الله تبارك وتعالى إلا لقي الله – تبارك وتعالى – وهو يحبه، ولا يبغض رجل الأنصار حتى يلقى الله – تبارك وتعالى – إلا لقي الله – تبارك وتعالى – وهو يبغضه)) (¬5). (11) وروى الإمام مسلم بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: ((والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)) (¬6). فهذه الأحاديث كلها دلت على وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً مهاجرين وأنصار، ولا يقال إن ظاهر لفظها في الأنصار فلا يدخل فيها المهاجرون، بل الصحيح أنه يدخل فيها كل فرد من أفراد الصحابة لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء في الدين رضي الله عنهم أجمعين. كما اشتملت على ذكر الجزاء الذي ينتظر من يكن لهم المحبة في قلبه ومن يكن لهم البغض، فمن أحبهم فاز بحب الله له، ومن أبغضهم أبغضه الله، وشتان بين الجزائين، كما دلت على أن القلب الذي امتلأ ببغضهم إنما هو قلب ينضح بالنفاق، خذل صاحبه بعدم الإيمان والعياذ بالله. ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 501) (10515). قال العراقي في ((محجة القرب)) (254): حسن صحيح, وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (991): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) رواه الطبراني (19/ 341) (16459). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 42): رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن حاتم وهو ثقة. (¬3) رواه أحمد (4/ 283) (18523). قال الألباني في ((صحيح الجامع)) (7629): صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬4) رواه أحمد (5/ 285) (22515). قال العراقي في ((محجة القرب)) (ص: 246): رجاله ثقات، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 31): في رجال أحمد راو لم يسم ورجال الطبراني والبزار وبقية رجال أحمد ثقات، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (ص: 40): إسناده رجاله رجال الصحيح. (¬5) رواه أحمد (3/ 429) (15579). قال العراقي في ((محجة القرب)) (ص: 251): صحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 41): رواه أحمد والطبراني بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح غير محمد بن عمرو وهو حسن الحديث. (¬6) رواه مسلم (78).

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى مبيناً المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار)) (¬1)، وفي الرواية الأخرى: ((لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، ومن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)) (¬2)، وفي الأخرى: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) (¬3)، وفي حديث علي رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق) (¬4). (الآية: هي العلامة، ومعنى هذه الأحاديث أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام، وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه إياهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه، وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثاراً للإسلام، وعرف من علي بن أبي طالب رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب النبي صلى الله عليه وسلم له، وما كان منه في نصرة الإسلام، وسوابقه فيه، ثم أحب الأنصار وعلياً لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه، وصدقه في إسلامه لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله – سبحانه وتعالى – ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم كان بضد ذلك، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته والله أعلم) (¬5). وقال الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً العلة من جعله صلى الله عليه وسلم حب الأنصار علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق حيث قال: (وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حب علي رضي الله عنه من الإيمان وبغضه من النفاق، وإنما يعرف فضائل الصحابة رضي الله عنهم من تدبر أحوالهم وسيرهم وآثارهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان، والمجاهدة للكفار ونشر الدين وإظهار شعائر الإسلام وإعلاء كلمة الله ورسوله وتعليم فرائضه وسننه ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة ولا فرضاً، ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئاً) (¬6). وقال العيني رحمه الله تعالى شارحاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) (¬7): (المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم، لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك، قالوا: وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة والمهاجرين بل في كل الصحابة إذ كل واحد منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق ويدل عليه ما روي مرفوعاً في فضل أصحابه كلهم: ((من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (17)، ومسلم (74). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (75). من حديث البراء رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (76). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (78). (¬5) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (2/ 63 - 64). (¬6) كتاب ((الكبائر))، (ص: 234 - 235). (¬7) رواه البخاري (17). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬8) رواه الترمذي (3862)، وأحمد (4/ 87) (16849)، وابن حبان (16/ 244) (7256). قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)).

وقال القرطبي: (وأما من أبغض والعياذ بالله أحداً منهم من غير تلك الجهة لأمر طارئ من حدث وقع لمخالفة غرض أو لضرر ونحوه لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام، فإما أن يقال كلهم مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور، مع أنه مخاطب بما يراه ويظنه، فمن وقع له في أحد منهم والعياذ بالله لشيء من ذلك، فهو عاص يجب عليه التوبة، ومجاهدة نفسه بذكر سوابقهم، وفضائلهم، وما لهم على كل من بعدهم من الحقوق إذا لم يصل أحد من بعدهم لشيء من الدين والدنيا إلا بهم وبسببهم قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية اهـ) (¬1). وقد وفق الله الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة لاعتقاد ما دلت عليه النصوص المتقدم ذكرها من أن حب الصحابة واجب على كل مسلم، (فقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما سنة؟ قال: لا، فريضة) (¬2). وقال الطحاوي رحمه الله تعالى مبيناً ما يجب على المسلم اعتقاده في محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) (¬3). وقال أبو عبد الله بن بطة في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة: (ونحب جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراتبهم ومنازلهم أولاً فأولاً: من أهل بدر والحديبية وبيعة الرضوان وأحد فهؤلاء أهل الفضائل الشريفة والمنازل المنيفة الذين سبقت لهم السوابق رحمهم الله أجمعين) (¬4). فعلى المسلم أن يسلك في حب الصحابة مسلك أهل الحق من أهل السنة والجماعة بحيث يحبهم جميعاً، ولا يفرط في حب أحد منهم وأن يتبرأ من طريقة الشيعة الرافضة الذين يتدينون ببغضهم وسبهم، ومن طريقة النواصب والخوارج الذين ابتلوا بإيذاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم كل مسلم أن أهل السنة والجماعة يتبرؤون من طريقة هذه الفرق فيهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ويتبرؤون من طريقة الروافض والشيعة الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب والخوارج الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل) (¬5). (فمن أراد السلامة لدينه وأن يسلم له إيمانه فليحبهم جميعاً، وأن يحتم ذلك على نفسه، وعلى كل أبناء جنسه لأن ذلك واجب على جميع الأمة واتفق على ذلك الأئمة، فلا يزوغ عن حبهم إلا هالك، ولا يزوغ عن وجوب ذلك إلا آفك) (¬6). عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 757 ¬

(¬1) انظر: ((عمدة القاري)) (1/ 406). (¬2) رواه خيثمة بن سليمان في كتاب ((الرقائق والحكايات)) (ص: 171). (¬3) ((شرح الطحاوية)) (ص: 467). (¬4) ((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) (ص: 271). (¬5) ((العقيدة الواسطية مع شرحها))، لمحمد خليل هراس، (ص: 173)، وانظر: ((قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر)) (ص: 103). (¬6) انظر: ((لوامع الأنوار البهية))، للسفاريني (2/ 354).

المطلب الثاني: إثبات عدالتهم

أولاً: معنى العدالة في اللغة جاء في (الصحاح) للجوهري: (العدل خلاف الجور، يقال: عدل عليه في القضية فهو عادل، وبسط الوالي عدله ومعدِلته ومعدَلَتَه، وفلان من أهل المعدلة، أي: من أهل العدل، ورجل عدل، أي: رضا ومقنع في الشهادة، وهو في الأصل مصدر، وقوم عدل وعدول أيضاً: وهو جمع عدل وقد عدل الرجل بالضم عدالة ... إلى أن قال: وتعديل الشيء: تقويمه، يقال: عدلته فاعتدل، أي: قومته فاستقام) (¬1). وجاء في (لسان العرب): (رجل عدل بين العدل والعدالة: وصف بالمصدر معناه ذو عدل، قال في موضعين: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ [الطلاق: 2]، ويقال: رجل عدل ورجلان عدل، ورجال عدل، وامرأة عدل، ونسوة عدل، كل ذلك على معنى رجال ذوو عدل، ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، فإن رأيته مجموعاً، أو مثنى أو مؤنثاً، فعلى أنه قد أجري مجرى الوصف الذي ليس بمصدر) (¬2) اهـ. وجاء في (المصباح المنير): (وعدلت الشاهد نسبته إلى العدالة ووصفته بها و (عدل) هو بالضم، (عدالة) و (عدولة) فهو (عدل) أي: مرضي يقنع به ويطلق (العدل) على الواحد وغيره بلفظ واحد، وجاز أن يطابق في التثنية والجمع فيجمع على عدول، قال ابن الأنباري: وأنشدنا أبو العباس: وتعاقد العقد الوثيق وأشهدا ... من كل قوم مسلمين عدولاً وربما طابق في التأنيث، وقيل: امرأة عدلة) (¬3). وجاء في (القاموس): (العدل ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعَدُولة والمعدِلة والمعدَلة) (¬4) اهـ. فمن هذه التعاريف اللغوية تبين أن معنى العدالة في اللغة: الاستقامة، وأن العدل هو الذي لم تظهر منه ريبة (¬5)، وهو الذي يرضى الناس عنه، ويقبلون شهادته ويقنعون بها (¬6). ¬

(¬1) (5/ 1760 - 1761)، ((مختار الصحاح)) (ص: 415 - 416). (¬2) ((لسان العرب)) (11/ 430). (¬3) ((المصباح المنير)) (2/ 397). (¬4) ((القاموس المحيط)) (4/ 13). (¬5) انظر: ((لسان العرب)) (11/ 431)، ((الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف)) (11/ 282). (¬6) انظر: ((المصباح)) (2/ 397).

ثانيا: تعريف العدالة في الاصطلاح

ثانياً: تعريف العدالة في الاصطلاح أما تعريف العدالة في الاصطلاح فقد تنوعت فيها عبارات العلماء من محدثين وأصوليين وفقهاء: (1) روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى القاضي أبي بكر محمد بن الطيب أنه قال: (العدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه، وسلامة مذهبه، وسلامته من الفسق، وما يجري مجراه مما اتفق على أنه مبطل العدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها) (¬1). (2) وعرفها الخطيب البغدادي بقوله: (العدل هو من عرف بأداء فرائضه ولزوم ما أمر به وتوقي ما نهي عنه، وتجنب الفواحش المسقطة وتحري الحق والواجب في أفعاله ومعاملته والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة فمن كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه وليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يسمى فاعلها فاسقاً حتى يكون مع ذلك متوقياً لما يقول كثير من الناس أنه لا يعلم أنه كبير) (¬2). (3) وعرفها الغزالي بقوله: (والعدالة: عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن الكذب، ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضاً: اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصداً، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرئ على الكذب بالأغراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح وضابط ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جرأته على الكذب رد الشهادة به وما لا، فلا) (¬3). (4) وعرفها ابن الحاجب: بقوله: (العدالة: هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة، وتتحقق باجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر وبعض المباح كاللعب بالحمام والاجتماع مع الأراذل والحرف الدنية مما لا يليق به ولا ضرورة) (¬4). (5) وعرفها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بقوله: (المراد بالعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة) (¬5). (6) وعرفها أيضاً بتعريف آخر فقال: (والعدل والرضا عند الجمهور من يكون مسلماً مكلفاً حراً غير مرتكب كبيرة ولا مصر على صغيرة. زاد الشافعي: وأن يكون ذا مروءة) (¬6). واشتراط الحرية فيه نظر. (7) وذكر علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي عدة تعريفات للعدالة في كتابه (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف) حيث قال: (العدالة: هي استواء أحواله في دينه واعتدال أقواله وأفعاله، وقيل: العدل من لم تظهر منه ريبة) (¬7). وذكر أبو محمد الجوزي في العدالة: (اجتناب الريبة وانتفاء التهمة). زاد في (الرعاية): (وفعل ما يستحب وترك ما يكره) (¬8) اهـ. ¬

(¬1) ((الكفاية)) (ص: 102). (¬2) ((الكفاية)) (ص: 103). (¬3) ((المستصفي)) للغزال (1/ 157). (¬4) ((مختصر منتهى الأصول مع شرح القاضي عضد الملة والدين)) (2/ 63). (¬5) ((نزهة النظر شرح نخبة الفكر)) (ص: 29)، وانظر: ((شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول)) للقرافي (ص: 361). (¬6) ((فتح الباري)) (5/ 251 - 252)، وانظر: ((تيسير التحرير)) (3/ 44). (¬7) ((الإنصاف)) (12/ 43). (¬8) انظر: ((الفروع)) (11/ 354)، ((الإنصاف)) (12/ 23).

(8) وقال السيوطي في تعريف العدالة: (حدها الأصحاب: بأنها ملكة أي: هيئة راسخة في النفس تمنع من اقتراف كبيرة أو صغيرة دالة على الخسة أو مباح يخل بالمروءة وهذه أحسن عبارة في حدها وأضعفها قول من قال: اجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر لأن مجرد الاجتناب من غير أن تكون عنده ملكة وقوة تردعه عن الوقوع فيما يهواه غير كاف في صدق العدالة، ولأن التعبير بالكبائر بلفظ الجمع يوهم أن ارتكاب الكبيرة الواحدة لا يضر وليس كذلك، ولأن الإصرار على الصغائر من جملة الكبائر فذكره في الحد تكرار) (¬1). هذه تعريفات أهل العلم للعدالة في الاصطلاح، وهي وإن تنوعت عباراتها إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أن العدالة ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ولا تتحقق للإنسان إلا بفعل المأمور وترك المنهي وأن يبعد عما يخل بالمروءة، وأيضاً: لا تتحقق إلا بالإسلام، والبلوغ، والعقل، والسلامة من الفسق. والمراد بالفسق: ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب والإصرار على صغيرة من الصغائر لأن الإصرار على فعل الصغائر يصيرها من الكبائر. والمروءة التي يعبر عنها أهل العلم: هي الآداب النفسية التي تحمل صاحبها على الوقوف عند مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات وما يخل بالمروءة يعود إلى سببين: الأول: ارتكاب الصغائر من الذنوب التي تدل على الخسة كسرقة شيء حقير كبصلة أو تطفيف في حبة قصداً. الثاني: فعل بعض الأشياء المباحة التي ينتج عنها ذهاب كرامة الإنسان أو هيبته وتورث الاحتقار، وذلك مثل كثرة المزاح المذموم. ولم تتحقق العدالة في أحد تحققها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجميعهم رضي الله عنهم عدول تحققت فيهم صفة العدالة ومن صدر منه ما يدل على خلاف ذلك كالوقوع في معصية فسرعان ما يحصل منه التوجه إلى الله تعالى بالتوبة النصوح الماحية التي تحقق رجوعه وتغسل حوبته فرضي الله عنهم أجمعين. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 795 ¬

(¬1) ((الأشباه والنظائر)) (ص: 384 - 385).

الفرع الثاني: مذهب أهل السنة في عدالة الصحابة

تمهيد يعتقد أهل السنة والجماعة أن للصحبة شرفاً عظيماً، يمنح صاحبها ميزة خاصة، بل يرون أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لمن رآه، أما من اتفق له الذب عنه، والسبق إليه بالهجرة، أو النصرة، أو ضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة إلا والذي سبق بها له مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر بذلك فضلهم (¬1). قال ابن عمر رضي الله عنه وهو يتحدث عن فضائل الصحابة: (فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم أربعين سنة) (¬2). وعن الإمام أحمد أنه قال: (فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال) (¬3). وقال الإمام النووي: (وفضيلة الصحبة، ولو لحظة، لا يوازيها عمل، ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بالقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (¬4). فمذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى حين: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف: 9] اختار لصحبته وتلقي الشريعة عنه قوماً هم أفضل هذه الأمة التي هي خير الأمم، فشرفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وخصهم في الحياة الدنيا بشرف رؤيته والنظر إليه، وسماع حديثه، وقد بلغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعثه الله به من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها، فكان لهم الأجر العظيم لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهاد معه في سبيل الله، وأعمالهم الجليلة في نشر الإسلام، ولهم مثل أجور من بعدهم لأنهم الواسطة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومعتقدهم في الصحابة (وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وسط بين المفرطين الغالين الذين يرفعون من يعظمون منهم إلى ما لا يليق إلا بالله أو برسله، وبين المفرطين الجافين الذين ينتقصونهم ويسبونهم، فهم وسط بين الغلاة والجفاة، يحبونهم جميعاً وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف، فلا يرفعونهم إلى ما لا يستحقون ولا يقصرون بهم عما يليق بهم، فألسنتهم رطبة بذكرهم الجميل اللائق بهم وقلوبهم عامرة بحبهم، وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون، إما مصيبون ولهم أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، وليسوا بمعصومين، بل هم بشر يصيبون ويخطئون، ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم، إذا نسب إلى خطأ غيرهم، ولهم من الله المغفرة والرضوان) (¬5). ولأهمية هذه المسألة فإن أهل السنة والجماعة يذكرون معتقدهم في الصحابة في كتب العقيدة، وكأنهم يجعلون منها علامة فارقة بينهم وبين غيرهم. ¬

(¬1) ينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/ 7). (¬2) رواه ابن ماجه (133)، وأحمد بن حنبل في ((فضائل الصحابة)) (1/ 57)، وابن أبي شيبة (12/ 178)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (3/ 23) (839) كلهم بلفظ: ((خير من عمل أحدكم عمره)). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 24): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. والحديث حسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 160). (¬4) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (16/ 93). (¬5) ((عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة)) – محاضرة للشيخ عبد المحسن العباد نشرت في مجلة الجامعة الإسلامية (ص: 32 - 33)، شوال 1391هـ العدد الثاني.

أما كتب مصطلح الحديث والأصول، فقد تكفلت بذكر عدالتهم وأدلة العلماء عليها، في حين ذكرت كتب السنة جملة كبيرة من الأحاديث التي ثبتت في فضلهم والثناء عليهم، ونوهت كتب التفسير بفضلهم عند تفسير الآيات التي تخص الصحابة. لذلك فإن أهل السنة والجماعة يرون أن شرف الصحبة يضيف على صاحبه إطلاق مفهوم العدالة عليه، وهذا قول كل من يعتد به منهم، فإنهم يقولون بتعديل جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم منهم قبل الفتح، ومن أسلم بعده، ومن لابس الفتن أو لم يلابس. قال ابن الصلاح: (الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ولا يعتد بخلاف من خالفهم) (¬1). وقال الشيخ تقي الدين: (الذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عدول بتعديل الله تعالى لهم) (¬2). وحكى ابن عبد البر في (الاستيعاب) إجماع أهل السنة والجماعة على تعديل الصحابة (¬3)، وحكاه إمام الحرمين أيضا على ما ذكره الشوكاني في (إرشاد الفحول) (¬4). وقال شارح مسلم الثبوت: (إن عدالة الصحابة مقطوعة ولا سيما أصحاب بدر، وبيعة الرضوان، كيف لا وقد أثنى عليهم الله تعالى في مواضع عديد من كتابه، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فضائلهم غير مرة) (¬5). وقال الحافظ الذهبي: (فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى – إلى أن قال – إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل وبه ندين الله تعالى) (¬6). وذكر ابن كثير أن (الصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة) (¬7). وبناء على ذلك، يرى أهل السنة والجماعة أن جهالة الصحابي لا تضر، فإذا قال التابعي عن رجل ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤثر ذلك في المروي، لأن الجهالة في الصحابة لا تضر. قال الخطيب: (كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم، سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن الكريم) (¬8). ويعتقد أهل السنة والجماعة أن الصحابة رضي الله عنهم اكتسبوا هذا التعديل بتعديل الله تعالى لهم وثنائه عليهم، وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الحال التي كانوا عليها شاهدة على ذلك. عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين لمحمد محمود لطيف الفهداوي – ص: 54 ¬

(¬1) ((المقدمة)) (ص: 146 - 147). (¬2) ((المسودة)) آل تيمية (ص: 292). (¬3) ((الإستيعاب)) لابن عبد البر (1/ 9). (¬4) ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (ص: 69). (¬5) ((شرح مسلم الثبوت)) (2/ 401). (¬6) ((الرواة الثقاة المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم)) للذهبي (ص: 4). (¬7) ((إختصار علوم الحديث)) لابن كثير (ص: 220). (¬8) ((الكفاية)) للخطيب (ص: 93)، وينظر: ((قواعد التحديث)) للقاسمي (ص: 199)، ((تيسير مصطلح الحديث)) للدكتور الطحان (ص: 74).

أولا: أدلة أهل السنة والجماعة على عدالة الصحابة من القرآن الكريم

أولا: أدلة أهل السنة والجماعة على عدالة الصحابة من القرآن الكريم من المسلم به لدى المسلمين أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم الأنبياء، ومن ثم فقد أنزل عليه القرآن الكريم الذي يعد أساساً لدينه، ومصدراً لتعاليمه ودعوته، ووسيلة دائمة لربط الخلق بخالقهم وتوثيق علاقته بهم، وسبباً قوياً لتحقيق الربانية الصادقة في أتباعه. وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا الكتاب: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وصانه من كل تحريف أو تغيير؛ بل تولى الله تبارك وتعالى نشره وإذاعته في العالم، وجعله ميسراً جديراً بالفهم: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر: 17]، وهيأ الله سبحانه وتعالى الجو المناسب والفرص المواتية لقراءته وكثرة تلاوته وحفظه واستظهاره واستحضاره وبذلك كان بعيداً كل البعد عن كل تصرف بشري من حذف، أو زيادة، أو تحريف، أو تبديل. وإذا كانت هذه المسألة من المسلمات عندنا فإنه ثمة مسلمة أخرى لا تقبل الجدل وهي: أن القرآن الكريم الذي أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إنما نزل ليخاطب بداءة تلك الأمة التي عاصرت الرسول الكريم في أمره ونهيه ومدحه وقدحه وغير ذلك. وإن كانت هذه الخطابات تتعدى إلى الناس أجمعين، حيث إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الأصوليون. إلا أن المخاطب الأول هم القوم الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل الوحي بين ظهرانيهم مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم، وهذا ما فهمه الصحابة الكرام رضي الله عنهم حينما كانوا يقرؤون القرآن ويتدبرون آياته ويتفهمون معانيه. ومن خلال هاتين المسلمتين: حفظ القرآن، وصيانته، وأن خطابه موجه ابتداء إلى الأمة المعاصرة للرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نستطيع أن نحمل بل نجزم أن كل مدح وثناء، وعد لصفات الخير، وذكر لمحاسن الرجال، إنما عني به ربنا تبارك وتعالى أولئك الرجال الذين آمنوا برسوله وعزروه ونصروه وهم الصحب الكرام الذين يمثلون الجيل الأول الذي تربى في كنف القرآن وهدي السنة المطهرة. ومقابل ذلك فإن كل قدح وذم وعد للمساوئ وذكر لصفات السوء إنما أراد به تبارك وتعالى أولئك القوم الذين وقفوا بوجه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاربوه وآذوه، أو أولئك المنافقين الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان ففضح الله سرائرهم وكشف نواياهم. وعليه إن عدالة الصحابة في الكتاب لا تمثلها آيات محددة مخصوصة، إنما القرآن كله شاهد على عدالتهم واستقامتهم من حيث إنهم الأمة التي حملته ورفعت لواءه وجاهدت من أجله؛ فكل الآيات التي أثنت بالخير أو بينت طبيعة المجتمع المسلم وسبل بنائه وتكوينه أو أظهرت صفات المجاهدين وما أعد الله لهم أو بينت سمات المتقين ومآلهم، أو أبرزت محاسن المفلحين الفائزين، يمكننا أن نعدها بجملته أدلة قرآنية على تعديل الصحابة الكرام رضي الله عنهم. ومع ذلك فإنني سأورد بعض هذه الآيات التي صرحت تصريحاً يفهمه الجميع دون شك أو ريب؛ أثنى الله فيها وعدل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم مع بيان المعنى المراد منها ليتسنى من خلاله فهم وجه الدلالة وبيانه. فإن قيل هذه الآيات دلت على فضلهم دون التصريح بعدالتهم؟ فالجواب أن يقال: أن من أثنى الله سبحانه وتعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلاً؟ فإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس، فكيف لا تثبت العدالة بهذا الثناء العظيم من الله سبحانه وتعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم (¬1)؟ ¬

(¬1) ينظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (2/ 475).

1 - قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]. في الآية بيان أفضلية هذه الأمة، وأن الله جعلها أمة وسطاً، والوسط هو العدل (¬1)؛ وفي التنزيل قَالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: 28] أي أعدلهم وخيرهم (¬2). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا قال: (عدلاً) (¬3). وقال زهير (¬4): هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم ووجه الاستدلال بالآية: أنه أخبر أنه جعلهم أمة خياراً عدولاً فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم، وأعمالهم، وإرادتهم، ونياتهم؛ وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهو شهداؤه، ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم، لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء فإنه أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستنداً إلى علمه به. 2 - قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218]. تفيد هذه الآية: إن الذين صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم فاستجابوا لنداء الهجرة وتحولوا عنهم وعن جوارهم فارين بدينهم وإيمانهم كراهة منهم النزول بين أظهر المشركين وفي سلطانهم ومن ثم حاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله، وقد بذلوا الغالي والنفيس، والأرواح والمهج؛ من أجل ذلك، أولئك يرجون رحمة الله ويطمعون في فضله. وهذا الوصف بلا شك (ينطبق انطباقاً كاملاً على المهاجرين المجاهدين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم آمنوا بالله ورسوله إيماناً راسخاً، وتحملوا الأذى العظيم في سبيل ذلك الإيمان من مشركي مكة ثم أنهم استجابوا لنداء نبيهم بالهجرة من مكة إلى يثرب وتركوا أهليهم وأموالهم ومصالح دنياهم، مع كل ذلك فإخلاصهم العميق لربهم ونبيهم ودينهم لم يدفعهم إلى الاتكال على ما صنعوا، وإنما كانوا يرجون رحمة ربهم أذلاء خاشعين، يحاولون بكل الطرق نصرة دينهم، وتقديم أموالهم ودمائهم في سبيل الله، علهم ينالوا الفوز بالجنة التي وعدهم الله تعالى إياها) (¬5). قال قتادة: (أثنى الله على أصحاب نبيه أحسن الثناء فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218] هؤلاء خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب، ومن خاف هرب) (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير الزمخشري)) (1/ 317)، ((تفسير البيضاوي)) (1/ 91). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (2/ 104)، ((تفسير ابن كثير)) (4/ 407). (¬3) رواه البخاري (7349). (¬4) ((تفسير الطبري)) (2/ 6)، ((تفسير الرازي)) (4/ 107). (¬5) ((صحابة رسول الله في القرآن))، الدكتور حسن عبد الحميد (7). وينظر: في تفسير الآية، ((تفسير الطبري)) (2/ 356)، ((تفسير الرازي)) (6/ 41)، ((تفسير القرطبي)) (3/ 34)، ((تفسير البيضاوي)) (1/ 118)، ((تفسير الألوسي)) (2/ 110). (¬6) ((تفسير الطبري)) (2/ 356).

والناظر في سبب نزول هذه الآية الكريمة لا يمكن له البتة أن يصرف المراد منها إلا إلى المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عند المفسرين وأهل السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل سرية عدتها ثمانية رجال كلهم من المهاجرين يرأسها عبد الله بن جحش وأعطاها كتاباً مختوماً لا يفضه إلا بعد أن يسير يومين ثم ينظر فيه، فسار عبد الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه: (إذا نظرت كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم)، فسار القوم حتى وصلوا إلى نخلة فمرت بهم عير قرشية تريد مكة فيها عمرو بن الحضرمي وآخرون فأجمع المسلمون أمرهم على أن يحملوا عليهم ويأخذوا ما معهم، فحملوا عليهم في آخر يوم من رجب فقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا رجلين واستاقوا العير ورجعوا به إلى المدينة، فلما قدموها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)) فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش: قد استعمل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217]. فلما نزل القرآن بهذا وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف وتجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه طمعوا في الأجر – وقد كان المسلمون يقولون لهم إن لم يكن عليكم في ذلك وزر، فليس لكم فيه أجر – فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله جل جلاله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ الآية (¬1). مما تقدم يتبين لنا وجه الدلالة من الآية: وهو أن الله عز وجل شهد للمهاجرين والمجاهدين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق نياتهم، وطهارة بواطنهم، وأنهم كانوا يرجون رحمة الله لأفعالهم وهذا دليل إخلاصهم، ومن شهد له الله سبحانه وتعالى بذلك، وأثنى عليه قلنا بعدالته. 3 - قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ [آل عمران: 110]. تثبت الآية الكريمة صفة الأفضلية والخيرية للأمة المحمدية على العموم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص، وإنما قلنا بشمول الآية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -بل أنهم أول من عني بها- لما يأتي: 1 - إن الصحابة هم الذين شهدوا نزول الوحي، لذلك فإن الخطاب يقع لهم مشافهة (¬2). 2 - أن الآية تتحدث عن خير الأمم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: ((خير القرون قرني)) (¬3)؛ وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هم أصحابه. ¬

(¬1) ينظر: في سبب الآية إضافة إلى مصادر التفسير السابقة: ((سيرة ابن هشام)) (2/ 290 - 292)، ((الفتح الرباني ترتيب مسند أحمد)) (21/ 25 - 26)، ((المصنف)) لابن أبي شيبة (14/ 351 - 352)، ((السنن الكبرى)) للبيهقي (9/ 11 - 12). (¬2) ((اليمانيات المسلولة)) لزين العابدين الكردي (ص: 61). (¬3) رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. بلفظ: ((خير الناس قرني ... )).

3 - إذا عنت الآية أمة محمد صلى الله عليه وسلم على العموم، فإن الصحابة داخلون في ذلك العموم حيث إنهم جزء من كل. 4 - أنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم، فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح. لذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدراً والحديبية (¬1). وقال الضحاك: هي في أصحاب رسول الله خاصة (¬2). وقال الزجاج: هذا الخطاب أصله أنه خوطب به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم سائر أمة محمد صلى الله عليه وسلم (¬3). من ذلك يتبين وجه الدلالة من الآية: وهو أن الله سبحانه وتعالى أثبت الخيرية للصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن كان خير الناس وأفضلهم لابد أن يكون أعدلهم وأوثقهم. 4 - قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 172 - 174]. تأتي هذه الآيات لتصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة صبرهم وجلدهم حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم من اليوم التالي لأحد لمواجهة أبي سفيان وأصحابه الذين هموا بالعودة لقتال المسلمين. وقد كان نداء الرسول صلى الله عليه وسلم مخصصاً لمن كان قد اشترك معه في القتال قبل يوم إشعاراً لقريش بأنها لم تنل من المسلمين منالاً، وأنه بقي له منهم من يتعقبها ويكر عليها. ولم يتخلف من المسلمين أحد وما منهم إلا من أصابه القرح أو نزل به الضر أو أثخنته الجراح (¬4). قال الزمخشري: (ومن في قوله تعالى – للذين أحسنوا منهم - للتبيين مثلها في قوله تعالى -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً [الفتح: 29]- لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم) (¬5). ووجه الدلالة من الآية: هو أن الله سبحانه وتعالى منح المستجيبين للرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد أجراً عظيماً ووصفهم بأنهم يتبعون رضوان الله، وهذا دليل صدقهم وإخلاصهم، ومن كان هذا حاله وجب تعديله. 5 - قال تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]. المعنى: أي الذين صدقوا بالنبي الأمي، وأقروا بنبوته وعزروه وعظموه وحموه، وأعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم واتبعوا النور الذي أنزل معه وهو القرآن والوحي أولئك هم المفلحون في الدنيا والآخرة، المدركون ما طلبوا (¬6). ووجه الاستدلال: إن الله تعالى أثنى على الصحابة الكرام بنصرتهم لنبيه وتوقيرهم له ولاتباعهم القرآن والوحي فكانوا بذلك من المفلحين. ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (4/ 109). (¬2) ((تفسير الألوسي)) (4/ 27). (¬3) ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/ 456). (¬4) ينظر: من كتب السير والتاريخ، ((سيرة ابن هشام)) (3/ 148)، ((تاريخ الطبري)) (2/ 527)، ((مغازي الواقدي)) (1/ 339)؛ وينظر: أيضاً: ((تفسير الطبري)) (3/ 176)، ((تفسير الرازي)) (9/ 100). (¬5) ((تفسير الزمخشري)) (1/ 480). (¬6) ((تفسير الطبري)) (9/ 85)، ((تفسير القرطبي)) (7/ 192).

6 - قال تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62 - 63]. المعنى: فإن حسبك الله، أي: كافيك الله الذي يتولى رعايتك وحياطتك، فهو المتكفل بإظهار دينك على الأديان، ومتضمن أن يجعل كلمته العليا، وكلمة أعدائه السفلى (¬1). والتأييد من الله سبحانه وتعالى على قسمين: أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة. والثاني: ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة. فالأول: هو المراد من قوله: أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ؛ والثاني: هو المراد من قوله: وَبِالْمُؤْمِنِينَ (¬2)؛ فالله تبارك وتعالى هو الذي أيدك بنصره أول مرة، وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجعل منهم قوة موحدة، بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهزة وبأسهم بينهم شديد، سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج – وهم الأنصار – فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً عن هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً .. أم كان المقصود المهاجرين، وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية .. أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً. يقول محمد جواد مغنية: (ليس من شك أن الله سبحانه هو الذي ألف بين قلوب الصحابة بعد أن كانت عصية على التأليف بخاصة بين الأوس والخزرج الذين امتدت الحروب بينهم 120 سنة .. وأيضاً ليس من شك أن الله سبحانه يجري الأمور على سننها، والمسببات على أسبابها؛ وسبب التأليف بين قلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام وإيمانهم به نظرياً وعملياً، والإسلام من عند الله، فصحت النسبة إليه تعالى) (¬3). ووجه الاستدلال من الآية: إن الله تعالى جعل أحد أسباب تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام وقد ألف بين قلوبهم وجمع كلمتهم ووحد صفهم ومن كانت هذه صفته فلابد أن يكون عدلاً خياراً. 7 - قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 74 - 75]. المعنى: قسم الله تعالى المؤمنين في هاتين الآيتين إلى قسمين: القسم الأول: المهاجرون الأولون، وقد أثبت لهم تعالى أربع صفات تدل على علو شأنهم ورفعة مكانتهم (¬4). أولها: أنهم آمنوا بالله وملائكة وكتبه ورسله واليوم الآخر وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. وثانيها: أنهم فارقوا الأوطان، وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (10/ 35)، ((تفسير القرطبي)) (8/ 28). (¬2) ((تفسير الرازي)) (15/ 195). (¬3) ((التفسير الكاشف)) لمحمد جواد مغنية (3/ 503). (¬4) ((تفسير الرازي)) (15/ 215).

وثالثها: أنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فأما جهادهم بالمال فلأنهم لما فارقوا الأوطان ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم، كما أنهم احتاجوا إلى الإنفاق على تلك الغزوات، وأما المجاهدة بالنفس، فلما أقدموا عليه من مباشرة القتال واقتحام المعارك، والخوض في المهالك، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله. ورابع هذه الصفات: أنهم كانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال؛ ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين. وإنما كان السبق موجباً للفضيلة، لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم، فيصير ذلك سبباً للقوة أو الكمال. القسم الثاني: الأنصار، ونعتهم سبحانه بأنهم آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر معه في مساكنهم، وآثروهم على أنفسهم وأولادهم، وبأنهم سالموا من سالمهم، وعادوا من عاداهم، ولهذا شرفهم الله بهذا الوصف، حتى أصبح اسم الأنصار علماً عليهم مدى الدهر (¬1). ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن هذين القسمين (هم المؤمنون حقاً) وقال هم (وهو ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، يفيد قصر المبتدأ على الخبر، أي كأنهم هم وحدهم المؤمنون لا غيرهم، وهذا هو من باب المدح العظيم، أولئك جميعاً لهم مغفرة من الله ورزق كريم في الدنيا والآخرة؛ وقدم الجار والمجرور لمزيد اختصاصهم بهذه المنزلة العظيمة، أي كأن المغفرة والرحمة وجدت لهم، فهم يستحقونها على الوجه الأكمل) (¬2). ثم ألحق تبارك وتعالى بهذين القسمين قسماً ثالثاً وهم المؤمنون المهاجرون المجاهدون الذين جاؤوا من بعدهم وساروا على نهجهم، وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ [الأنفال: 75]. مما تقدم يتبين لنا وجه الاستدلال من الآية: وهو أن الله سبحانه وتعالى أثنى على المهاجرين والأنصار، وصدق عليهم وصف الإيمان، ثم مدح بقية الصحابة ممن هاجر وجاهد، فيكون هذا الثناء العاطر والمدح الجزيل والشهادة الإلهية شاملة لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينال هذا الثناء والمدح إلا من كان عدلاً. 8 - قال تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة: 88 - 89 [.] ووجه الاستدلال: هو أن الله سبحانه وتعالى يثني على الصحابة بمعاونتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرتهم لدينه ببذل الأموال والأنفس، وأخبر عن نيلهم الخيرات وحسن العاقبة والفوز الجليل الأبدي (¬3). وهذا يستلزم عدالتهم رضي الله عنهم. 9 - قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]. ¬

(¬1) ((التفسير الكاشف)) لمحمد جواد مغنية (3/ 512). (¬2) ((صحابة رسول الله في القرآن)) للدكتور محسن عبد الحميد (ص: 9). (¬3) ينظر: ((تفسير النسفي)) (2/ 140)، ((تفسير تنوير الأذهان)) (2/ 94).

في الآية ثناء عظيم ومدح كامل للمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ واختلف المفسرون في الهجرة والنصرة وعلى هذا فالمدح لا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأن كلمة (من) تفيد التبعيض، ومنهم من قال: بل يتناول جميع الصحابة، لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة (من) في قوله: (المهاجرين والأنصار) ليست للتبعيض بل للتبيين، أي: والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصار كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30]. روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله فيما كان بينهم –وأردت الفتن– فقال لي: إن الله قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم؛ قلت له: وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ إلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع الصحابة الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً. قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لا يقولوا فيهم سوء، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه. قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط (¬1). ووجه الاستدلال: هو أن الله عز وجل بين أنه رضي عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان وكان جزاء ذلك الرضى الجنة والفوز العظيم في الآخرة وهذا مستلزم لعدالتهم رضي الله عنهم. 10 - قال تعالى: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 117]. وفي هذه الآية الكريمة مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه غزوة تبوك واتبعوه بلا تردد في ساعة العسرة، وكان عددهم يزيد على الثلاثين ألفاً (¬2). ولهذه الغزوة خصائص تميزها عن سائر الغزوات، منها ذلك الجهد المبذول والعسرة العظيمة التي مر بها أفراد الجيش الإسلامي والتي تكمن في ما يأتي: أولاً: بعد المسافة بين المدينة وتبوك وهي تقدر بـ (778) كم حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر (¬3). ثانياً: شدة الحر: قال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد. وقال قتادة: خرجوا في لهبان الحر (¬4). ثالثاً: عسرة الظهر: فكان العشرة من جيش المسلمين يتعقبون بعيراً واحداً، يركب الرجل ساعة ثم ينزل، فيركب صاحبه (¬5). رابعاً: عسرة الماء: فقد أصابهم العطش الشديد فكانوا ينحرون البعير على قلة الراحلة، ويعتصرون الفرث الذي في كرشه ويبلون به ألسنتهم (¬6). خامساً: عسرة الزاد: فكان زادهم الشعير المسوس، والتمر المدود، وكان الواحد منهم يلوك التمر، حتى إذا وجد طعمها أعطاها صاحبه (¬7). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (11/ 8 - 9)، ((تفسير الرازي)) (16/ 175). (¬2) ((مغازي الواقدي)) (3/ 996)، ((السيرة النبوية الصحيحة)) للعمري (2/ 531). (¬3) ((السيرة النبوية الصحيحة)) للعمري (2/ 524). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 378)، ((تفسير الطبري)) (11/ 55). (¬5) ((تفسير الرازي)) (16/ 220)، ((التفسير الكاشف)) لمحمد جواد مغنية (4/ 113). (¬6) ((تفسير القرطبي)) (8/ 177)، ((التفسير الكاشف)) لمحمد جواد مغنية (4/ 113). (¬7) ((تفسير الرازي)) (19/ 220)، ((تفسير الكاشف)) لمحمد جواد مغنية (4/ 113).

سادساً: أنهم أمروا بالنفير حين جني التمر وطيب الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم فشق عليهم المخرج (¬1). ووجه دلالة الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم وبيان فضلهم فيما يأتي: أولاً: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة (لقد تاب) وبعد أن بين حالة الصحابة أردف مرة أخرى ذكر التوبة والمقصود من ذلك تعظيم شأنهم والمبالغة في تأكيد ذلك (¬2). ثانياً: أن الآية فيها إخبار بصحة بواطنهم وطهارتهم، لأنه تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم، ورضي أفعالهم؛ وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين بهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر (¬3). ثالثاً: قد يراد من توبة الله على الإنسان رحمته تعالى ورضوانه مع القرينة الدالة على ذلك، وهذا المعنى هو المراد بتوبته تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم فهي طبيعة الحال، ونعني بها عصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الذنوب، وطاعة من تابعه في ساعة العسرة (¬4). 11 - قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]. والمؤمنون المقصودون هنا، الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة في الحديبية من المهاجرين والأنصار؛ فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه مبعوثاً من عنده إلى قريش ليتفاوض معهم بشأن عمرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، فاحتبس عثمان في مكة وطال حبسه حتى شاع بين المسلمين أن عثمان قتل (¬5)؛ فقال عليه الصلاة والسلام: لا نبرح حتى نناجز القوم ثم دعا أصحابه إلى البيعة تحت شجرة سمرة فبايعوه جميعاً سوى الجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعيره (¬6)؛ وكان عددهم بين الألف وأربعمائة والألف وخمسمائة. قال جابر: (كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده الشجرة) (¬7). وفي رواية (كنا ألفاً وخمسمائة) (¬8) وكانت البيعة على مناجزة قريش الحرب وأن لا يفروا (¬9) أو يموتوا دون ذلك. والآية قد دلت على عدالة الصحابة من وجوه. الأول: قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ومن المعلوم بداهة أن من رضي الله عنه لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة في حصول الرضى إنما هو بالموت على الإسلام، ولا يمكن أن يقع الرضى منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام؛ وأما من علم موته على الكفر والردة فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه قد رضي عنه، فبرئوا بذلك عن وصمة الردة (¬10). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (14/ 284)، ((في ظلال القرآن)) لسيد قطب (3/ 1723) بتصرف. (¬2) ((تفسير الرازي)) (16/ 221). (¬3) ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 371). (¬4) ((التفسير الكاشف)) لمحمد جواد مغنية (4/ 113 - 114). (¬5) ينظر: ((مسند أحمد)) (4/ 324)، ((سيرة ابن هشام)) (7/ 437). (¬6) رواه مسلم (1856) من حديث أبي الزبير محمد بن مسلم المكي. (¬7) رواه مسلم (1856). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (¬8) رواه مسلم (1856). من حديث سالم بن أبي الجعد. (¬9) ينظر: ((تفسير الطبري)) (22/ 223). (¬10) ينظر: ((الصواعق المحرقة)) لابن حجر الهيتمي (ص: 209)، و ((النكت الشنيعة)) لإبراهيم الحيدري (ص: 30).

ولأن قوله تعالى: رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ يتناول جميع الأحوال والأوقات ولا يمكن أن يقال أنه خاص بوقت دون آخر أو بحال دون غيره؛ وقد تبين أن الله تعالى وصفهم بكونهم سابقين في الهجرة والنصرة ثم لما وصفهم بهذا الوصف أتى لهم بما يوجب التعظيم وهو قوله: رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ معلل بكونهم سابقين في الهجرة والنصرة، والعلة ما دامت موجودة، وجب ترتيب المعلول عليها، وكونهم سابقين في الهجرة والنصرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم، فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلاً في جميع مدة وجودهم. ولأنه تعالى قال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ، وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات، وليس لأحد أن يقول: المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان، لأنا نقول: هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر، وأيضاً فعلى ذلك التقدير: لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح، وبين سائر الفرق فرق، لأنه تعالى قال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ولفرعون وهامان وأبي جهل لو صاروا مؤمنين، ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء، فسقط هذا السؤال وظهر أن هذه الآية دالة على فضل الصحابة الكرام (¬1). الثاني: أنه تعالى قد أخبر عن صدق بواطن الصحابة وسلامة ضمائرهم بقوله: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، أي من الصدق والوفاء والإخلاص والسمع والطاعة فبرئوا بذلك من وصمة النفاق. الثالث: أنه تعالى كافأهم على صدقهم جائزة هي إنزال السكينة عليهم ومن ثم أثابهم فتحاً قريباً جزاء من عنده عطاء حساباً. 12 - قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29]. وفي هذه الآية يأتي الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات رسالته؛ وقد رسم لهم القرآن الكريم بأسلوبه المعجز صورة رائعة (مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة، حالاتها الظاهرة والمضمرة، فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم: أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ، ولقطة تصور هيأتهم في عبادتهم: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا، ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلهم ويجيش بها: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسماتهم: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ... ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وهذه صفتهم فيها، ولقطات متتابعة تصور كمالهم في الإنجيل: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (¬2). ¬

(¬1) ((تفسير الرازي)) (16/ 174 - 175). (¬2) ((في ظلال القرآن)) لسيد قطب (6/ 3331).

هكذا يصف القرآن الصحابة ذلك الجيل المثالي الذي حقق مستوى سامياً في الارتقاء الروحي والخلقي، فصقلته العبادة وكساه الركوع والسجود نوراً وبهاء، وحددت العقيدة مفاهيمه وقيمه وولاءه وبراءه، يوالون بعضهم ويحادون من سواهم، فكان أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار رحيماً براً بالأخيار، شديداً في وجه الأعداء، ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن. ومن تصفح سير الصحابة وتراحمهم وجد على ذلك الوصف دليلاً صادقاً فلم يثبت عنهم مفارقة الأهل والأوطان فحسب، بل ثبت أن بعضهم قتل ابنه أو أباه من أجل دينه وعقيدته على ما كان عليه من الألفة والمودة والمحبة لإخوانه المسلمين؛ ذلك الجيل الذي خلدته كتب السماء فوصفته التوراة والإنجيل والقرآن بهذا الوصف الرائع، ممثلة امتداد قيمه وانتشار عقيدته وكثرة أنصاره وقوة وجوده واستمساك أمره بالزرع الذي أخرج شطأه وتفرعت أغصانه فقوى الزرع ذلك الشطأ وشده فصار غليظاً بعد ما كان دقيقاً واستوى على ساقه وشب وطال حتى أعجب الزراع وسرهم بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره وطول قامته، فسر أهله الذين غرسوه أغاظ الأعداء. ومن أهم ما يجب أن يلتفت إليه في هذه الآية هو أنه تعالى أخبر بصدق الصحابة وصحة أعمالهم وإخلاص قلوبهم ونقائها وطهارة بواطنهم وصفائها وهم إنما يعملون الطاعات ويؤدون العبادات رجاء نيل رضاه وفضله فقال: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وذلك لتميز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم، وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك. ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله تعالى في رواية عنه تكفير من أبغض الصحابة واغتاظ منهم، فقد ذكر في مجلسه أن رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ الآية حتى بلغ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، فقال: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية (¬1). ومن الجدير بالذكر أن (من) في قوله تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ليست مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم (ولكنها عامة مجنسة، مثل قوله تعالى: الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30]. لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس، أي فاجتنبوا الرجس من الأوثان، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب فادخل (من) يفيد بها الجنس وكذلك منهم، أي من هذا الجنس، يعني جنس الصحابة؛ ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم، أي اجعل نفقتك هذا الجنس) (¬2). قال النحاس في (إعراب القرآن): (تكون – منهم – لبيان الجنس أولى لأنها إذا جعلت للتبعيض كان معنى آمنوا: ثبتوا، وذلك مجاز ولا يحمل الشيء على المجاز ومعناه صحيح على الحقيقة) (¬3)؛ وقال العكبري: (منهم – لبيان الجنس تفضيلاً لهم بتخصيصهم بالذكر) (¬4). ومن بيان معنى الآية الكريمة يظهر لنا وجه الاستدلال بها على عدالة الصحابة رضي الله عنهم وهو أن الله جل جلاله مدح الصحابة بأنهم رحماء بينهم، أشداء على أعدائهم، وقد أخبر عن صدق بواطنهم وإخلاصهم، وهذا كله يستلزم عدالتهم رضي الله عنهم. ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (16/ 195). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (16/ 195)، وينظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/ 480)، ((تفسير الرازي)) (28/ 109) (¬3) ((إعراب القرآن)) للنحاس (3/ 197). (¬4) ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/ 239).

13 - قال تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10]. في هذه الآية بيان لتفاوت درجات المنفقين والمجاهدين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق والقتال والسبق بعد بيان أن لهم أجراً كبيراً على الإطلاق حثاً لهم على تحري الأفضل، فمن قاتل من الصحابة أو أنفق قبل فتح مكة أعلى درجة وأعظم شأناً من الذي قاتل وأنفق بعد الفتح ومع هذا فإن كلا من الفريقين قد وعدهم الله الحسنى والدرجات العليا في الجنة. وقد قال تعالى في القرآن في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] أي عن النار، فوجب أن يقال إن الله كتب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين قاتلوا معه ونصروه والذين أيدوه وعزروه وأعانوه بالمال والأنفس الجنة إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9]. ووجه الاستدلال: هو أنه من كتب الله له الجنة وأبعده عن النار لابد أن يكون عدلاً مستقيماً. 14 - قال تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 8 - 9]. إن أهم ما شهد الله سبحانه وتعالى به لأولئك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء فضل الله ورضوانه، ونصر الله ورسوله، الصدق؛ فقال: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي مستمرون على الصدق وهذا دليل قاطع أن المهاجرين جميعاً كانوا صادقين، وماتوا صادقين بشهادة ربهم، وأنهم عدول في كل ما ينقلونه عن نبيهم عليه الصلاة والسلام قرآناً وسنة؛ وأما الأنصار فقد مدحهم مدحاً عظيماً، ووصفهم بأنهم يحبون من هاجر إليهم، لأنهم ساكنوهم وأشركوهم في أموالهم، وأسبغوا عليهم من حبهم، ولم يجدوا في أنفسهم من الحسد على ما خصهم النبي صلى الله عليه وسلم من فيء وكانوا يقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل ما يتعلق بالدنيا من الحظوظ، مع فقرهم وحاجتهم، ولكونهم كذلك كانوا من الفائزين الناجحين، واستحقوا رضوان الله سبحانه وتعالى (¬1). ثم يبين الله تبارك وتعالى واجب من يأتي بعد الصحابة تجاههم فيقول: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]. فواجب من جاء من بعدهم هو الدعاء لهم وتصفية القلوب من بغض أحد منهم؛ وقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية (¬2). ¬

(¬1) ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 337 - 338)، ((أضواء البيان)) (8/ 69 - 74). (¬2) ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/ 113).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين، فقرأ عليه لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرين فمنهم أنت؟ قال: لا؛ ثم قرأ عليه: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم. قال: لا. ثم قرأ عليه: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو. قال: لا ليس من هؤلاء، من يسب هؤلاء. وفي رواية: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم وكان في قلبه الغل عليهم (¬1). وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الناس على ثلاث مراتب قد مضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه التي بقيت، ثم قرأ: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر: 8]؛ ثم قال: هؤلاء المهاجرين وهذه منزلة وقد مضت؛ ثم قرأ: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ، ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة وقد مضت؛ ثم قرأ: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ فقد مضت هاتان المنزلتان وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة (¬2) (¬3). ووجه الاستدلال من الآية الكريمة: هو أن الله عز وجل وصف المهاجرين بالصدق والأنصار بالفلاح، وأمر من يأتي بعدهم باتباعهم بإحسان، والدعاء لهم، وهذا دليل على عدالتهم رضي الله عنهم. أعتقد أن في ذكر هذا القدر من الآيات كفاية للتدليل على تعديل الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم. عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين لمحمد محمود لطيف الفهداوي – ص: 58 ¬

(¬1) ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/ 113). (¬2) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (2/ 526). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬3) ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/ 113).

ثانيا: أدلة أهل السنة على عدالة الصحابة من السنة النبوية

ثانيا: أدلة أهل السنة على عدالة الصحابة من السنة النبوية اشتملت السنة النبوية على أحاديث كثيرة تنوه بفضل الصحابة رضوان الله عليهم، وتنص على توقيرهم واحترامهم، وتشييد بمكانتهم ومنزلتهم. هذه الأحاديث بمجموعها يمكن أن تكون دليلاً عظيماً على عدالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزاهتهم. وما قلناه في المبحث السابق حول آيات القرآن الكريم، يمكن أن يقال هنا أيضاً، فمن أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتدحه وأوجب على الأمة محبته واحترامه وتوقيره، فإنه لا ريب أن يكون ذلك المديح والثناء تعديلاً له. وإذا كانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قسمين: القسم الأول: ما تناول ذكر آحاد الصحابة بالتخصيص. والقسم الثاني: ما ذكر مجموعهم بالفضل والثناء دون تخصيص واحد منهم. فإني في هذا المبحث سأسوق الأحاديث التي دلت على فضل مجموع الصحابة، والثناء عليهم وتعديلهم: 1 - عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه: قرنين أو ثلاثة؟ ... )) (¬1). أثبت حديث عمران هذا الخيرية للصحابة رضي الله عنهم حيث إنهم يمثلون قرن النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم أفضل من بقية القرون التي ستأتي بعدهم وقد فصلت القول في الخيرية في المبحث الثالث من هذا الفصل في أدلة أهل السنة من القرآن عند قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]. ومن ثبتت له الخيرية ثبتت عدالته. 2 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحداً أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ أحدهم ولا نصيفه)) (¬2). في هذا الحديث نهي صريح عن سب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وفي هذا الفضل والثناء لهم والتكريم والتبجيل تنويه لمكانتهم وتشريف لمنزلتهم ثم إن السب تجريح ومن نهي عن تجريحه قلنا بتعديله. 3 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يأتي على الناس زمان، يغزو فيه فئام من الناس، فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان، فيغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)) (¬3). وفي رواية: ((هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬4) وفي الثانية: من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ في هذا الحديث: (إثبات الفضيلة للصحابة رضي الله عنهم، حيث إن البلاد تفتح أمام الجماعة الغازية التي فيها بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرامة لهم، وبياناً لفضلهم، وذلك لما لهم من حسن قصد، وسلامة نية، وصدق في نشر الدعوة الإسلامية) (¬5)، مما يدل على عدالتهم رضي الله عنهم وإنما نالوا ذلك الفضل لصحبتهم رسول الله ورؤيته ثم نال من بعدهم الفضل أيضاً لرؤيتهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (3650) بلفظ: ((خير أمتي قرني .. ))، ومسلم (2535) بلفظ: ((إن خيركم قرني .. )). (¬2) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). (¬3) رواه البخاري (3649). (¬4) رواه مسلم (2532). (¬5) ((صحابة رسول الله في الكتاب والسنة)) لعيادة أيوب الكبيسي (ص: 162).

4 - عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء. قال: فجلسنا فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما زلتم هاهنا؟ قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء قال: أحسنتم أو أصبتم. قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال: ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) (¬1). قال الإمام النووي: (ومعنى الحديث أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء، فانفطرت وانشقت، وذهبت. وقوله صلى الله عليه وسلم وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، أي من الفتن والحروب وارتداد من الأعراب واختلاف القلوب نحو ذلك مما أنذر به صريحاً وقوله صلى الله عليه وسلم وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون. معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم وانتهاك مكة والمدينة وغير ذلك) (¬2). فإذا كان وجود الصحابة أماناً لهذه الأمة كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان لهم، كان هذا دليلاً على عدالتهم رضي الله عنهم. 5 - عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع ((ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ... )) (¬3). وجه الاستدلال: من هذا الحديث على عدالة الصحابة رضي الله عنهم (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حجة الوداع وقد اجتمع فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أو جلهم: وفي قوله عليه الصلاة والسلام هذا لهم أعظم دليل – كما يقول ابن حبان في صحيحه (¬4) – على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم مجروح أو ضعيف أو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله صلى الله عليه وسلم وقال: ألا ليبلغ فلان وفلان منكم الغائب، فلما جمعهم في الذكر بالأمر بتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً) (¬5). 6 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)) (¬6). في الحديث بيان فضل أهل بيعة الرضوان وأنه لا يدخل النار منهم أحد قطعاً (¬7). ومن لا يدخل النار يقع عليه حتماً وصف العدالة وقد فصلت القول في ذلك عند قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 18] الآية في المبحث السابق. ¬

(¬1) رواه مسلم (2531). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) (16/ 83). (¬3) رواه البخاري (105). (¬4) ((صحيح ابن حبان)) (1/ 90). (¬5) ((صحابة رسول الله في الكتاب والسنة)) لعيادة الكبيسي (ص: 281). (¬6) رواه أبو داود (4653)، والترمذي (3860)، وأحمد (3/ 350) (14820). والحديث سكت عنه أبي داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حجر في ((الرحمة الغيثية)) (117)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). والحديث رواه مسلم (2496) من حديث جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبى -صلى الله عليه وسلم- يقول عند حفصة: ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها)). (¬7) ينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 58).

7 - ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بشأن حاطب بن أبي بلتعة وإرساله كتاباً إلى المشركين في مكة وقول عمر رضي الله عنه: ((يا رسول الله: قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه. فقال عليه الصلاة والسلام: أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة – أو قد غفرت لكم – فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم)) (¬1). حديث حاطب هذا يدل على فضل أصحاب بدر وأن الله سبحانه وتعالى غفر لهم ذنوبهم. قال صاحب بذل المجهود: (كأنه تعالى علم منهم أنه لا يجيء منهم ما ينافي المغفرة، فقال لهم: اعملوا ما شئتم، إظهاراً لكمال الرضا عنهم وأنه لا يتوقع منهم من الأعمال بحسب الأعم الأغلب إلا الخير، فهذا كناية عن كمال الرضا وصلاح الحال وتوفيقهم غالباً للخير) (¬2)، وهذا كله مستلزم لعدالتهم رضي الله عنهم. 8 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً لسلكت في وادي الأنصار ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار)) فقال أبو هريرة: ما ظلم – بأبي وأمي – آووه ونصروه أو كلمة أخرى (¬3). في الحديث بيان فضل الأنصار بل وعدالتهم إذ كيف يسلك الرسول صلى الله عليه وسلم مسلك الأنصار لو لم يكونوا عدولاً ولذلك عد الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر حبهم إيماناً وبغضهم نفاقاً فقال: ((الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)) (¬4). وإن في حديث أبي هريرة بيان فضل الهجرة والمهاجرين إذ جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم مانعاً عن دخوله في شعب الأنصار وما ذلك إلا لما فيها من الفضل وما لها من المكانة. هذه الأحاديث تدل على عدالة الصحابة دون شك أو ريب إذ فيها الثناء الجميل على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والفضل الكبير لهم الدال على عدالتهم، ونزاهتهم ولذلك قال ابن عبد البر: (ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل، وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منه) (¬5). عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين لمحمد محمود لطيف الفهداوي – ص: 81 ¬

(¬1) رواه البخاري (3983). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) ((بذل المجهود)) للسهارنفوري (18/ 178). (¬3) رواه البخاري (3779). (¬4) رواه البخاري (3783)، ومسلم (75). من حديث البراء رضي الله عنهم. (¬5) ((الاستيعاب في معرفة الأصحاب)) (1/ 2).

ثالثا: الأدلة العقلية على عدالة الصحابة

ثالثا: الأدلة العقلية على عدالة الصحابة بعد أن ذكرت أدلة عدالة الصحابة من الكتاب والسنة، أذكر هنا الدليل العقلي على عدالة الصحابة، وهذا ما سأوضحه فيما يأتي: أولاً: يتفق المسلمون على حقيقة قاطعة، هي أن الله تبارك وتعالى، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وكان هذا الدين خاتم الأديان، وكان رسوله خاتم الأنبياء. وأنه عليه الصلاة والسلام أدى الأمانة على أحسن وجه وأتمه، وبلغ الرسالة فما قصر، ونصح الأمة دون أن يبخل بنصح أو إرشاد، فبين لها الشريعة وأوضح لها الحجة، فنال بذلك رضي الله تبارك وتعالى. ومما لا شك فيه، ولا ريب أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغ الرسالة، ونشر الدين وتعاليمه، وتعبيد الناس لربهم، وتحكيم القرآن الكريم، وإرشادهم إلى العمل بالإسلام كله دون تجزئته، أو تغليب جانب على آخر، بل لابد من الإحاطة به من جميع جوانبه. وأن من مهام الرسول صلى الله عليه وسلم التي بعث من أجلها هي ما حكاه الله عز وجل في القرآن الكريم في قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الجمعة: 2]، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164]. فقوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ حدد جزءاً من مهام النبي العظيم وهو التزكية وأحد مدلولات هذه اللفظة هو التربية والتطهير، أعني تربية من بعث فيهم على الفضيلة ومحاسن الأخلاق وتوجيههم إلى سلوك أحسن السبل وأقومها، وإرشادهم إلى الصالحات وتطهيرهم من الذنوب والرذائل وتنقيتهم من الأرجاس والأدناس ومما يشين عند الناس. وقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ جعل من الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً لقومه كتاب الله تعالى وسنته عليه الصلاة والسلام وإرساء دعائمهما، وتوضيح سبيلهما، وبيان منهجهما، وشرح عقيدتهما. ومن البديهي أنه لا فائدة أن يسمع الرجل الآية من القرآن الكريم فيهتز طرباً لبلاغتها، وتعجبه فصاحتها، فيأخذ سحر كلماتها، وينتهي الأمر عند هذا الحد، بل المراد هو أن يجني السماع ثمرة القرآن فيعمل بأحكامه ويقيم حدوده، ويأخذ تعاليمه. فإذا وجد مثل هؤلاء القوم المدعوين فهذا يعني أن الداعي قد نجح في مهمته، وفاز في سعيه، وهذا ما يقول به القائلون بعدالة الصحابة رضي الله عنهم فأنهم بقولهم بالعدالة يصرحون بنجاح دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تربيته أثمرت فقد ظهرت معجزة التأثير والهداية في حياته عليه الصلاة والسلام من خلال بروز نماذج إنسانية عملية تتحلى بالأخلاق وتتزين بالفضائل، وتبتعد ما أمكنها عن الرذائل وتتخلى عن المفاسد وتتصف بالمحاسن، على استقامة في دينهم، وإخلاص في عقيدتهم، يبلغون رسالات ربهم ولا يخافون لومة لائم، باذلين ما بوسعهم من أجل الإسلام. أما الطاعنون بعدالة الصحابة القائلون بارتدادهم بعد وفاته إلا قليلاً، أو أنهم في حياته كانوا يظهرون ما لا يضمرون، فهذا يعني بلا شك فشل تلك الجهود العظيمة التي بذلها الرسول صلى الله عليه وسلم في وظائفه التربوية والتعليمية والتبليغية والدعوية.

وهذا ما يدعونا إلى التساؤل: (هل يعقل في حكم المنطق النظري القديم والحديث، والعقل الفطري المحسوس المركوز في بني الإنسان، ألا يستطيع الرسول -صلى الله عليه وسلم – وهو بهذا المقام الكريم، من العبودية الخالصة لخالقه الحكيم، وخلقه العظيم المتمثل لأوامر الله تعالى، ونواهيه في عالم الإمكان، أن يربي أقرب أصحابه الذين آمنوا به ونصروه، وأعزوا دينه، على الإخلاص لدين الله، ويركز فيهم خوف الله سبحانه وتعالى وحبه، لكي يبلغوا دينه إلى الأجيال الآتية من بعدهم، بأمانة وعدالة وصدق وإخلاص؟) (¬1). فالعقل والمنطق، والبصيرة كل ذلك يقضي أن يتحقق هذا النجاح في التربية والدعوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أثر وفاته، (حيث إن الدين الذي لا يستطيع أن يقدم أمام العالم عدداً وجيهاً من نماذج عملية ناجحة بناءة، ومجتمعاً مثالياً في أيام الداعي وحامل رسالته الأول، لا يعتبر ناجحاً، كما أن الشجرة التي لم تؤت ثمارها اليانعة الحلوة، ولم تفتح أزهارها العطرة الجميلة، أيام شبابها وفي موسم ربيعها (وهو عهد النبوة) لا تعتبر شجرة مثمرة سليمة، وكيف يسوغ لدعاة هذه الدعوة والدين وممثليها الذين ظهروا بعد أن مضى على عهد النبوة زمن طويل، أن يوجهوا إلى الجيل المعاصر والعامل الحاضر، دعوة إلى الإيمان والعمل والدخول في السلم كافة والتغيير الكامل في الحياة، وهم عاجزون عن تقديم نتائج حية باهرة للألباب، مسلمة عند المؤرخين، للمجهودات التي بذلت في العهد الأول وفي فجر تاريخه، في سبيل إبراز أمة جديدة، وإنشاء جيل مثالي، يمثل التعاليم النبوية أصدق تمثيل ويبرهن على تأثيرها ونجاحها) (¬2). ثانياً: من المسلمات عندنا أن اليهود حرفوا توراتهم من بعد موسى عليه السلام فكانت بعثة الرسل بعد موسى تصحيحاً لمسيرة اليهود الدينية والدنيوية، ولما بعث عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وأنزل عليه الإنجيل سرعان ما حرفه الأحبار والرهبان وغيروه وبدلوه أيضاً فحتم هذا بعثة نبي جديد لأن المنهج الرباني حرف وبدل ولابد للبشرية من منهج رباني تسير على ضوئه وتعمل بشريعته وتهتدي بهديه فكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكان القرآن الكريم هو الكتاب المنزل عليه وقد اقتضت حكمة الله أن يكون النبي هو الخاتم وكتابه هو آخر الكتب وهذا يعني أن المنهج الرباني والدستور الإلهي سيبقى من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى نهاية البشرية متمثلاً بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ لا نبي بعده. فاقتضى هذا أن يبقى الكتاب من غير تحريف ولا تشويه ولا تبديل كي يتسنى لآخر هذه الأمة الإطلاع عليه والإيمان به والعمل بأحكامه كما أطلع عليه أول هذه الأمة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا من الذي سيحفظ القرآن من الضياع والتحريف. ومن الذي سيقوم بنقله؟ الجواب على التساؤل الأول: إن الله هو الذي حفظ القرآن فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وهذا أمر مقطوع به. أما التساؤل الثاني فجوابه أن الأمة التي أحاطت بالرسول صلى الله عليه وسلم هي التي قامت بهذه المهمة العظيمة وهي نقل الكتاب إلى من بعدهم بكل أمانة ونزاهة كما أنزله الله تعالى وهذا ما يقتضيه العقل والمنطق إذ ليس من الحكمة أن يرسل الله تعالى آخر الأنبياء، وينزل معه آخر الكتب، ويتعهد له بأنه سيتولى بنفسه حفظ كتابه، بقطعية حاسمة، وتأكيدات متتابعة ثم لا يهيء أمة مؤمنة صادقة عادلة حريصة ذات مروءة شاملة، كي تحافظ على كتابه الكريم، ودستوره الخالد العظيم. ¬

(¬1) ((صحابة رسول الله في القرآن)) للدكتور محسن عبد الحميد (ص: 3 - 4). (¬2) ((صورتان متضادتان)) للندوي (ص: 13).

إذ لا يعقل أن يكون حفظ الله للكتاب الكريم بأن ينزل ملائكة من السماء واجبها حراسة الكتاب العزيز من التحريف، أو أن يودع سبحانه في القرآن قوة بين أسطره تنبعث من كلماته تفتك بمن يريد تغييره وتحريفه. إن مثل هذا الكلام يعد في منطق العقل تخريفاً مقبول فلم يبلق لدينا إلا القول بأن الله هيأ أمة كريمة أحاطت بنبيه هم الصحابة الأنجاب كانوا سبب حفظ الكتاب وهذا ما يستلزم القول بعدالتهم رضي الله عنهم أجمعين. ثالثاً: إن القول بعدم عدالة الصحابة يدعو عقلاً إلى الشك بكون الإسلام ديناً واقعياً صالحاً لكل زمان ومكان. فإذا كان الدين قد فشل في أن يطبق في عصره الأول، ولم يزل غضاً طرياً، فما أن سمع الصحابة نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم -على زعم القائلين بردة الصحابة- حتى خلعوا ثوب الإسلام، وتهافتوا على الدنيا، وتغالبوا على السلطة وتسابقوا إلى الرئاسة، وتقاتلوا عليها وخالفوا الكتاب، فتحول زهدهم إلى طمع، وسخاؤهم إلى جشع، وعزوفهم عن الدنيا إلى صراع على ملذاتها، وتفانيهم من أجل الدين إلى تفان من أجل السلطة. فكيف يمكن تطبيقه فيما بعد ذلك. أليس هذا يستدعي عقلاً تصديق الفرية القائلة أن الإسلام دين مثالي لا يتلاءم مع الواقع فهو خيالي في أفكاره ومبادئه؟ بل ألا يؤدي ذلك إلى التنفير عن النبي صلى الله عليه وسلم ذاته لأنه إذا كان ذلك حال من يختص به الاختصاص الشديد ويلازمه الملازمة الطويلة، كان ذلك حتماً منفراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1). رابعاً: العقل يصدق بالتواتر ويحكم بوجوده فلا يجوز للعقلاء تكذيب ما تواتر نقله، أو تواتر إثباته وإلا لما كانوا عقلاء. فلا يمكن تكذيب التواتر التاريخي القاطع والحاصل بأن أمة الإسلام الأولى من الصحابة الكرام كانوا خير العباد لله تعالى، وخير الأصحاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وخير المبلغين الصادقين الحريصين على حفظ كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن كانت هذه صفته فلابد أن يحكم العقل بعدالته. قال الخطيب البغدادي: (على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء، والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين) (¬2). (فإن من تتبع تاريخ الصحابة، وسوابقهم في الإسلام بعد اعتناقهم له، وعرف سيرهم من حين إسلامهم إلى وقت وفاتهم، وأنهم لا يرتكبون من الإثم والفواحش والكبائر، ولا يصرون على اللمم والصغائر، ولا يفعلون ما يخرم مروءتهم، أو يسيء إلى سمعتهم، وأن من وقع في ذلك منهم، سارع إلى التوبة، وبادر إلى الأوبة، لا يسعه إلا الجزم بعدالتهم، ذلك أن المقدمات ترشد دائماً إلى النتائج، فإذا كانت المقدمات واقعية محققة، وصحيحة مسلمة، لا تحوم حولها الشكوك، ولا تنزل بساحتها الريب، فإنها لابد أن تسوقك إلى النتائج المسلمة عقلاً، والصحيحة منطقاً وفكراً، الواقعية تعتريه الظنون والشبه، وإنما تؤخذ مسلمة عند كل عاقل، بمقتضى ما تقوله قواعد المنطق، وما تقره قوانين الفكر والنظر) (¬3). بعد كل هذا لا يسع المنصف العاقل إلا أن يقول: إن القرآن الكريم والسنة النبوية المروية، قولاً وعملاً، ومنطق الأمور، وحقائق الأشياء، والتاريخ المتواتر وقرائن الأحوال كل ذلك يتضافر على إثبات عدالة الصحب الكرام وإنكار ذلك الإسفاف القائل بعدمها. عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين لمحمد محمود لطيف الفهداوي – ص: 88 ¬

(¬1) ينظر: ((المغني)) للقاضي عبد الجبار (20/ق2/ 423). (¬2) ((الكفاية)) (ص: 96). (¬3) ((محاضرات في علوم الحديث)) للدكتور مصطفى التازي (1/ 144 - 147).

المطلب الثالث: سلامة ألسنتهم وقلوبهم للصحابة

تمهيد فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم. فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بهم. فهم يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويفضلونهم على جميع الخلق، لأن محبتهم من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من محبة الله، وألسنتهم أيضاً سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع، فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك. شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – ص 2/ 247

فرع: تحريم سب الصحابة

أولا: الأدلة على تحريم سبهم من القرآن إن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بنص الكتاب العزيز وهو ما تعتقده وتدين به الفرقة الناجية من هذه الأمة، وقد جاءت الإشارة إلى تحريم سبهم في غير ما آية من كتاب الله – جل وعلا – من ذلك: (1) قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة: 100] الآية. ووجه دلالة الآية على تحريم سبهم أن الله تعالى رضي عنهم رضى مطلقاً، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً، وقد بين تعالى في آخر هذه الآية أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك حيث قال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] ولذا لما كان هؤلاء الأخيار بهذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة أمر الله من جاء بعدهم أن يستغفروا لهم ويدعوا الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، ومن هنا علم أن الاستغفار وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه، ويثني على فاعله كما أنه قد أمر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19]. وقال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران: 159]، ومحبة الشيء كراهية لضده، فيكون الله يكره السب لهم، الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة، وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: (أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم) (¬1) (¬2). (2) قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [الأحزاب: 57]. هذه الآية تضمنت التهديد والوعيد بالطرد والإبعاد من رحمة الله والعذاب المهين لمن آذاه – جل وعلا – بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك (¬3) وإيذاء رسوله (يشمل كل أذيّة قولية أو فعلية من سب وشتم أو تنقص له أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى) (¬4). ومما يؤذيه صلى الله عليه وسلم سب أصحابه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن إيذاءهم إيذاء له، ومن آذاه فقد آذى الله (¬5) وأي أذية للصحابة أبلغ من سبهم فالآية فيها إشارة قوية ظاهرة إلى أنه يحرم سبهم رضي الله عنهم. (3) قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]. وهذه الآية فيها التحذير من إيذاء المؤمنين والمؤمنات بما ينسب إليهم مما هم منه براء لم يعملوه، ولم يفعلوه، والبهتان الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم (¬6). ¬

(¬1) رواه مسلم (3022). (¬2) انظر: ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) (ص: 572 - 575). (¬3) ((تفسير ابن كثير)) (5/ 514). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (6/ 121). (¬5) الحديث رواه الترمذي (3862). وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)). (¬6) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 514 - 515).

ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنهم في صدارة المؤمنين فإنهم المواجهون بالخطاب في كل آية مفتتحة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ [البقرة: 104]، ومثل قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الكهف: 107] في جميع القرآن فالآية دلت على تحريم سب الصحابة لأن لفظ المؤمنين أول ما ينطلق عليهم لأن الصدارة في المؤمنين لهم رضي الله عنهم وسبهم والنيل منهم من أعظم الأذى، وأن من نال منهم بذلك فقد آذى خيار المؤمنين بما لم يكتسبوا وأن من اتخذ شتمهم والنيل منهم ديناً له فإن الوعيد المذكور في الآية يصيبه. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله – عز وجل – قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً فهم في الحقيقة منكسوا القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين) (¬1) اهـ. وكما هو معلوم (أن سب آحاد المؤمنين موجب للتعزير بحسب حالته وعلو مرتبته، فتعزير من سب الصحابة أبلغ وتعزير من سب العلماء وأهل الدين أعظم من غيرهم) (¬2). (4) قوله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح: 29] الآية. ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يسبهم شخص إلا لما وجد في قلبه من الغيظ عليهم، وقد بين تعالى في هذه الآية إنما يغاظ بهم الكفار، فدلت على تحريم سبهم، والتعرض لهم بما وقع بينهم على وجه العيب لهم. قال أبو عبد الله القرطبي: (روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ حتى بلغ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية) – ثم قال -: (لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين، ثم ذكر طائفة من الآيات القرآنية التي تضمنت الثناء عليهم والشهادة لهم بالصدق والفلاح، ثم قال عقبها: "وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم) (¬3) اهـ. فهذه الآية اشتملت على تحريم سب الصحابة، لأن سبهم إنما يصدر ممن امتلأ قلبه غيظاً عليهم، لا محل فيه للإيمان (¬4) نعوذ بالله من الخذلان. ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (5/ 515). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (6/ 121). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) (16/ 296 - 297)، وانظر قول مالك في ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 229). (¬4) انظر ما قاله الإمام مالك فيمن يسب الصحابة في ((تفسير ابن كثير)) (5/ 365).

(5) قوله تعالى: وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات: 12]. وهذه الآية الكريمة تضمنت النهي لجميع العباد عن أن يقول بعضهم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه، ذلك أن يقال له في وجهه والغيبة قد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) (¬1). وبتفسير الشارع للغيبة في هذا الحديث يتبين وجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة وذلك أن سبهم وازدراءهم والتنقص من مكانتهم الرفيعة التي أنزلهم الله فيها إنما هو من البهت لهم بما ليس فيهم، فكل من عابهم وطعن فيهم أو في أحد منهم كل ذلك من البهتان المبين ومن الوقوع في أعراضهم الذي يعد من أربى الربا عند الله – جل وعلا -، فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم قرأ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58])) (¬2). فإذا كان الكلام في عرض أي مسلم كان من أربى الربا عند الله عز وجل فما الشأن بالاستطالة والسب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم في مقدمة عباد الله المتقين وعباده الصالحين، ولا يشك مسلم في أن النيل منهم بقول الشيء من سب وغيره أنه انتهاك لحرمة أمر الله عز وجل باحترام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. (6) قوله تعالى: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ [الهمزة: 1]. ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة يتضح بما قاله السلف في تفسير هذه الآية، فقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه بعد أن سئل عن قوله: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ، قال: (طعان، لمزة، قال: مغتاب) (¬3). وقال مجاهد: (الهمزة الطعان في الناس، واللمزة الذي يأكل لحوم الناس) (¬4). وقال قتادة: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ قال: تهمزه في وجهه وتلمزه من خلفه ... ) (¬5)، فهذه التفاسير لهذه الآية عن هؤلاء الأئمة ن السلف تدل على تحريم اغتياب عموم المؤمنين وهي تنطبق على من أطلقوا ألسنتهم بالوقوع في الصحابة من الرافضة وغيرهم فهم الهمازون لهم بالقول بحيث يزدرونهم وينتقصونهم بالسب والشتم وينسبون إليهم ما لم يقولوه وما لم يفعلوه، ولا شك أن العذاب الذي توعد الله به في هذه الآية سيصيب كل من اتخذ الطعن فيهم ديدنه إن لم يتب ويقلع عن ذلك ويجعل لسانه رطباً بذكرهم بالجميل والترضي عنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم كما جاء الأمر به لكل من جاء بعدهم من أهل الإيمان، والحاصل مما تقدم ذكره أن تحريم سب الصحابة جاءت الإشارة إليه في القرآن الكريم وأن الواجب على كل مسلم أن يعتقد أن الله تعالى حرم سبهم وازدراءهم وعيبهم بما جرى بينهم وأن يحذر طريقة الروافض الذين لم يراعوا لهم حرمة ولم يقدروهم حق قدرهم وأن من سلك طريقهم ألقى نفسه في المهالك التي لا نجاة منها إلا بالرجوع إلى طريقة أهل الحق من أهل السنة والجماعة والتوبة مما أسلفه من جناية في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 831 ¬

(¬1) رواه مسلم (2589)، وأبو داود (4874)، والترمذي (1934)، وأحمد (2/ 230) (7146). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3153)، ورواه أبو يعلى (8/ 145) (4689). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 95): رجاله رجال الصحيح، وقال الشوكاني في ((الفتح الرباني)) (11/ 5430): رجال إسناده رجال الصحيح. (¬3) ((الدر المنثور)) (8/ 624). (¬4) ((الدر المنثور)) (8/ 624). (¬5) ((الدر المنثور)) (8/ 624).

ثانيا: الأدلة من السنة على تحريم سب الصحابة

ثانيا: الأدلة من السنة على تحريم سب الصحابة لقد دلت السنة النبوية المطهرة على تحريم سب الصحابة والتعرض لهم بما فيه نقص وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك لأن الله – تعالى – اختارهم لصحبة نبيه ونشر دينه وإعلاء كلمته، وبلغوا الذروة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا له وزراء وأنصاراً يذبون عنه وسعوا جاهدين منافحين لتمكين الدين في أرض الله حتى بلغ الأقطار المختلفة ووصل إلى الأجيال المتتابعة كاملاً غير منقوص، ولمقامهم الشريف ولما لهم من القيام التام بأنواع العبادات، وصنوف الطاعات والقربات جاءت النصوص النبوية القطعية بتحريم سبهم وتجريحهم أو الطعن فيهم والحط من قدرهم ومن تلك النصوص: (1) ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬1). وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أيضاً بلفظ: ((كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬2). (2) وعند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: ((كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن بن عوف تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهباً أو مثل الجبال ذهباً لما بلغتم أعمالهم)) (¬3). هذان الحديثان اشتملا على النهي والتحذير من سب الصحابة رضي الله عنهم، وفيهما التصريح بتحريم سبهم، وقد عد بعض أهل العلم سبهم (من المعاصي الكبائر) (¬4). قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون) (¬5). والنهي في هذين الحديثين المتقدمين كان موجهاً من النبي صلى الله عليه وسلم لمن كانت له صحبة متأخرة، أن يسب من كانت له صحبة متقدمة (لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة، فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم) (¬6). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإن قيل: فلم نهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذ كان من أصحابه أيضاً؟ وقال: ((لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). (¬2) رواه مسلم (2541). (¬3) رواه أحمد (3/ 266) (13839). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 19): رجاله رجال الصحيح، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (38): إسناده رجاله رجال الصحيح. وصحح الألباني إسناده على شرط البخاري في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1923). (¬4) انظر: ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (16/ 93). (¬5) انظر: ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (16/ 93). (¬6) ((شرح الطحاوية)) (ص: 529 - 530). (¬7) رواه مسلم (2541).

قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى، فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل، فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله، ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد. وقوله: ((لا تسبوا أصحابي)) خطاب لكل أحد أن لا يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة والسلام، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ((أيها الناس إني أتيتكم، فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت. فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟)) (¬1) .. أو كما قال بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، قال ذلك لما عاير بعض الصحابة أبا بكر، وذلك الرجل من فضلاء أصحابه ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبته وانفرد بها عنه) (¬2) اهـ. فالنهي عن سبهم عام لكل من وجد على ظهر الأرض أيا كان عن أن يسب أي واحد من الصحابة. قال المناوي بعد قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((دعوا لي أصحابي)): (الإضافة للتشريف تؤذن باحترامهم وزجر سابهم ... ((أنفقتم مثل أحد ذهباً ما بلغتم أعمالهم)) أي: ما بلغتم من إنفاقكم بعض أعمالهم لما قارنها من مزيد إخلاص وصدق نية وكمال يقين، وقوله: ((أصحابي)) مفرد مضاف فيعم كل صاحب له لكنه عموم مراد به الخصوص ... يدل على أن الخطاب لخالد وأمثاله ممن تأخر إسلامه وأن المراد هنا متقدموا الإسلام منهم الذي كانت له الآثار الجميلة والمناقب الجليلة في نصرة الدين من الإنفاق في سبيل الله واحتمال الأذى في سبيل الله ومجاهدة أعدائه، ويصح أن يكون من بعد الصحابة مخاطباً بذلك حكماً إما بالقياس أو بالتبعية) (¬3). (4) روى الحافظ الطبراني بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، لعن الله من سب أصحابي)) (¬4). (5) وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) (¬5). (6) وروى أيضاً: بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله من سب أصحابي)) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (3661). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. (¬2) ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) (ص: 576 - 577). (¬3) ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 531). (¬4) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5/ 94) (4771). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 24): رجاله رجال الصحيح غير علي بن سهل وهو ثقة، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (ص: 30): رجاله رجال الصحيح غير علي بن سهل وهو ثقة. (¬5) رواه الطبراني (12/ 142) (12740). وحسنه محمد جار الله الصعدي في ((النوافح العطرة)) (383)، والألباني بمجموع طرقه في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2340). (¬6) رواه الطبراني (12/ 434) (13622). وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5111).

هذه الأحاديث الثلاثة مشتملة على لعن من سب الصحابة ودلت على أن سبهم من الكبائر، وقد جمع الإمام الذهبي الذنوب التي هي كبائر وعد سب الصحابة منها (¬1)، فعلى المسلم أن يحذر من بهم أو يتعرض لهم بما يشينهم رضي الله عنهم (وسبهم معناه: شتمهم ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ((فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) الطرد والإبعاد عن مواطن الأبرار، ومنازل الأخيار، والسب والدعاء من الخلق وتحريم سبهم يشمل من لابس الفتن ومن لم يلابسها، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون فسبهم كبيرة ونسبتهم إلى الضلال أو الكفر كفر) (¬2). (7) روى الإمام أحمد وغيره من حديث سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن من أربى الربا الاستطالة على عرض المسلم بغير حق)) (¬3). فكل من أطلق لسانه بالسب لهم فهو مستطيل عليهم بغير حق وهو أفاك أثيم إذ لفظ المسلم في الحديث أول ما ينطلق عليهم إذ هم مقدمة المسلمين الذين انقادوا لله تعالى بالطاعة وأخلصوا العبادة له وحده لا شريك له (وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً) (¬4). (8) روى الشيخان من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (¬5). فإذا كان هذا الوعيد يلحق من سب أي مسلم كان فما الشأن بمن يسب خيار المسلمين والأبرار من عباده المتقين وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم. قال النووي رحمه الله تعالى: (السب في اللغة الشتم والتكلم في عرض الإنسان بما يعيبه والفسق في اللغة الخروج والمراد به في الشرع الخروج عن الطاعة، وأما معنى الحديث فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم (¬6)، وعلى هذا فالرافضة والخوارج ومن سلك طريقهم من أهل البدع الذين يشتمون الصحابة ويتكلمون فيهم بما يعيبهم بغير حق فهم أكثر من يدخل في وصف الفسق كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قال المناوي مبيناً معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((سباب المسلم فسوق)) (أي: مسقط للعدالة والمرتبة، وفيه تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بالفسق وأن الإيمان ينقص ويزيد لأن الساب إذا فسق نقص إيمانه وخرج عن الطاعة فضره ذنبه لا كما زعم المرجئة، أنه لا يضر مع التوحيد ذنب) (¬7). فكل من سب الصحابة رضي الله عنهم أو واحداً منهم أسقط نفسه من العدالة وفسق بذلك وأدى إلى نقصان إيمانه بخروجه عن الطاعة. (9) روى أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ساب الموتى كالمشرف على الهلكة)) (¬8). (أراد: الموتى المؤمنين وإيذاء المؤمن الميت أغلظ من الحي لأن الحي ممكن استحلاله، والميت لا يمكن استحلاله، فلذا توعد عليه بالوقوع في الهلاك) (¬9). ¬

(¬1) انظر كتاب ((الكبائر للذهبي)) (ص: 233 - 237). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (6/ 146 - 147). (¬3) رواه أبو داود (4876)، وأحمد (1/ 190) (1651). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 308): رواة أحمد ثقات، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 153): رجال أحمد رجال الصحيح غير نوفل بن مساحق وهو ثقة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 451) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬4) ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) (ص: 571). (¬5) رواه البخاري (48)، ومسلم (64). (¬6) ((شرح النووي)) (2/ 53 - 54). (¬7) ((فيض القدير)) (4/ 84). (¬8) رواه الطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (8/ 79) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. (¬9) ((فيض القدير)) (4/ 79).

(10) وروى أبو القاسم الطبراني أيضاً: عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ساب المؤمن كالمشرف على الهلكة)) (¬1). ومعنى الحديث: (أي: يكاد أن يقع في الهلاك الأخروي، وأراد في ذلك المؤمن المعصوم والقصد به التحذير من السب) (¬2). وهذا الحديث والذي قبله تضمنا العقوبة الشديدة التي تلحق ساب أي ميت من المسلمين وأي مؤمن كان فما الشأن بمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خيار موتى المؤمنين وأفضل المؤمنين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكل من سبهم يعد من أهلك الهالكين وأخسر الخاسرين بنص هذين الحديثين، فلا يجوز سب أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي وجه، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن أي كلام يصدر من بعض الصحابة لآخرين منهم يتضمن الأذى وكان يحذر من ذلك أشد التحذير. (11) فقد روى أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: ((شكا عبد الرحمن بن عوف خالداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا خالد لا تؤذ رجلاً من أهل بدر فلو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله، قال: يقعون في فأرد عليهم، فقال: لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار)) (¬3). فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل أي كلام يتضمن الأذى من بعض الصحابة لآخرين منهم، فما الشأن بحال من ليس من الصحابة ويطلق لسانه عليهم بالسب القبيح الذي يستحي المؤمن من حكايته عنهم، لا شك أن من كان هذا شأنه فإنه أنزل نفسه أقبح المنازل وتجرأ على خيار المؤمنين، وعصى سيد المرسلين في أمره بوجوب الإمساك عن الكلام في شأنهم إذا ذكروا. (12) فقد روى الحافظ الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا)) (¬4). فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ذكر أصحابي)) بما شجر بينهم من الحروب والمنازعات (فأمسكوا) وجوباً عن الطعن فيهم والخوض في ذكرهم بما لا يليق فإنهم خير الأمة وخير القرون، ولما جرى بينهم محامل (¬5)، فالذي يشغل نفسه بما حصل بينهم من الوقائع ويتخذ ذلك ذريعة لسبهم والطعن فيهم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم في أمره بالإمساك عن الكلام فيهم إذا ذكر ما شجر بينهم وعصاه أيضاً في أمره بالإحسان إليهم وأمره بحفظه فيهم. ¬

(¬1) رواه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (8/ 76) وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3586). ولم أقف على رواية الطبراني للحديث. (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (4/ 79). (¬3) رواه الطبراني في ((المعجم الصغير)) (1/ 348) (580). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 352): رجاله ثقات، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (190): إسناده رجاله ثقات. (¬4) رواه الطبراني (10/ 198) (10470). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 50): إسناده حسن، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 205): رواه الطبراني وفيه مسهر بن عبد الملك وثقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف وبقية رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (545). (¬5) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 347).

(13) فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى جابر بن سمرة، قال: ((خطب عمر الناس بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (¬1). فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالإحسان إلى جميع الصحابة والإحسان يكون بالقول كما يكون بالفعل، فيجب على جميع الناس بعدهم أن يحسنوا إليهم بكف ألسنتهم (عن غمطهم أو الوقيعة فيهم بلوم أو تعنيف لبذلهم نفوسهم وإطراحها بين يدي الله تعالى في الحروب وقتالهم القريب والبعيد في ذات الله، وبذلهم أموالهم وخروجهم من ديارهم وصبرهم على البلاء والجهد الذي لا يطيقه غيرهم، وليس ذلك إلا عن أمر عظيم ملك البواطن وصرفها على حكم محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم فاستوجبوا بذلك الرعاية وكمال العناية) (¬2). فالذي يسبهم ويطعن فيهم لم يحسن إليهم ولم يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما أتى بعكس ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه فعل ضد ما أمر به وهو الإساءة إليهم بالقول السيئ نعوذ بالله من ذلك. والأحاديث التي اشتملت على تحريم سب الصحابة والنهي عنه كثيرة فالواجب على كل مسلم أن يحذر من الوقوع في ذلك ويعتقد حرمة ذلك وأنه من أعظم الذنوب التي لا يقع فيها إلا رافضي غال جعل للشيطان على نفسه سبيلاً يتبعه في كل شيء يأمره به مما فيه معصية لله – عز وجل -. والحاصل مما تقدم أن السنة دلت على أن سب الصحابة من أكبر الكبائر، وأفجر الفجور، وأن من ابتلي بذلك فهو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد وفق الله الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة لاحترامهم ومعرفة حقهم وذكرهم بالجميل اللائق بهم، وحفظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حيث اعتقدوا ما دل عليه الكتاب والسنة من حرمة سبهم فهم العاملون بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما يجب لهم من الحق على الخلق بعدهم حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم ... عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 837 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 26) (177). قال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 98): إسناده صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، والحديث صححه الألباني بمجموع طرقه في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1116). (¬2) ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 197).

ثالثا: الأدلة من كلام السلف على تحريم سب الصحابة

ثالثا: الأدلة من كلام السلف على تحريم سب الصحابة إن النصوص الواردة عن سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان التي تقضي بتحريم سب الصحابة والدفاع عنهم كثيرة جداً ومتنوعة في ذم وعقوبة من أطلق لسانه على أولئك البررة الأخيار وأقوال السلف التي كانوا يواجهون بها الذين ابتلوا بالنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت في غاية الإنكار على من وقع في ذلك وبيان الخسارة الكبيرة التي يكسبها من أراد الله فتنته بالوقوع والنيل من خير القرون. (1) فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى يوسف بن سعد عن محمد بن حاطب قال: (ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة، فقال لي يوماً: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه، فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه، فقال علي رضي الله عنه كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى فيهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف: 16]، قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم قالها ثلاثاً: قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب الله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه، قال: آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه) (¬1). (2) وكان رضي الله عنه يعاقب بالجلد الموجع على الكلام الذي فيه إيماء أو إشارة إلى النيل من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد ذكر ابن الأثير (أن رجلين وقفا على باب الدار الذي نزلت فيه أم المؤمنين بالبصرة، فقال أحدهما: جزيت عنا أمنا عقوقاً. وقال الآخر: يا أمي توبي فقد أخطأت – فبلغ ذلك علياً – فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة وهما: عجلان، وسعد ابنا عبد الله فضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما) (¬2). (3) روى أبو داود بإسناده إلى رباح بن الحارث قال: ((كنت قاعداً عند فلان في مسجد الكوفة، وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة يقال له قيس بن علقمة، فاستقبله فسب وسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟ قال: يسب علياً، فقال: ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير؟ أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – وإني لغني أن أقول عنه ما لم يقل فيسألني عنه غداً إذا لقيته –: أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة، وسكت عن العاشر، قالوا: من هو العاشر؟ فقال: سعيد بن زيد –يعني نفسه-، ثم قال: والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمر عمر نوح)) (¬3). زاد رزين: ثم قال: ((لا جرم لما انقطعت أعمارهم، أراد الله أن لا يقطع الأجر عنهم إلى يوم القيامة، والشقي من أبغضهم، والسعيد من أحبهم)) (¬4). ¬

(¬1) رواه ابن أبي حاتم (10/ 3295). (¬2) ((الكامل في التاريخ)) (3/ 257). (¬3) رواه أبو داود (4650) وسكت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) انظر: ((جامع الأصول)) (9/ 411).

(4) وذكر ابن الأثير عن رزين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قيل لعائشة: إن ناساً يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر) (¬1). (5) روى ابن بطة بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه قال: ((لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة – يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم – خير من عمل أحدكم أربعين سنة)) (¬2). وفي رواية وكيع: ((خير من عبادة أحدكم عمره)) (¬3). (6) وروى أبو نعيم بإسناده (أن مزيد بن هزاري أنه لقي سعيد بن جبير بأصبهان، فقال له: إن رأيت أن تفيدني مما عندك؟ فحبس دابته وقال: قال لي ابن عباس: احفظ عني ثلاثاً: إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة، وإياك والنظر في القدر، فإنه يدعو إلى الزندقة، وإياك وشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكبك الله في النار على وجهك يوم القيامة) (¬4). (7) وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي إلى عريب بن حميد قال: (قام رجل فنال من عائشة رضي الله عنها، فقام عمار رضي الله عنه يتخطى الناس فقال: اجلس مقبوحاً منبوحاً أنت تقع في حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله إنها لزوجته في الدنيا والآخرة) (¬5). (8) وروى أبو يعلى والطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت لأبي عبد الله الجدلي: (يا أبا عبد الله أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم، قلت: أنى يسب رسول صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أليس يسب علي ومن يحبه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه) (¬6). (9) وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله بإسناده إلى سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، قال: (قلت لأبي: ما تقول في رجل سب أبا بكر؟ قال: يقتل، قلت: سب عمر؟ قال: يقتل) (¬7). ¬

(¬1) ((جامع الأصول)) (9/ 408 - 409)، ((مسند عائشة)) للسيوطي (ص: 164). (¬2) ذكره ((شارح الطحاوية)) (ص: 530)، وانظر ((الشرح والإبانة)) لابن بطة (ص: 119). (¬3) ذكره أيضاً: ((شارح الطحاوية)) (ص: 531). (¬4) ((أخبار أصبهان)) (1/ 324). (¬5) كتاب ((النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب)) (ص: 21 - 22)، وأورده ابن الأثير في (النهاية)) (4/ 3). (¬6) رواه أبو يعلى (12/ 444) (7013)، والطبراني (23/ 322) (19689). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 133): رجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عبد الله وهو ثقة، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 996): إسناد جيد. (¬7) كتاب ((النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب)) (ص: 23).

هذه تسعة نماذج عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها توضيح للطريقة التي كانوا يواجهون بها من أزاغ الله قلبه عن معرفة ما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتن بسبهم والنيل منهم، فقد كان إنكارهم عظيماً على من صدر منه ذلك، فلم يسكتوا عن المتقولين فيهم بل كانوا يردون عليهم إما بذكر فضائلهم وما لهم عند الله من المنزلة العظيمة التي لا يلحقهم فيها غيرهم مهما قدم من العمل، وإما أن يعاقبوا بجلدهم بالسياط، وقد حصل الأمران في موقف علي رضي الله عنه ممن قلل من عثمان وعائشة رضي الله عنهما، وبعض الصحابة كان يعتبر سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سباً للرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم ذلك عن أم سلمة، وبعضهم كان يفتي بقتل من سب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وكل ذلك يدل على عظم الجرم الذي يقع فيه من امتلأ قلبه ببغضهم وخبث لسانه بالقول القبيح فيهم الذي لا يليق إلا بمن صدر منه وقد سلك التابعون بإحسان من أهل السنة والجماعة في مواجهة السابين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقة الغلظة والشدة عليهم ولم يسكتوا عن أي تعريض بهم، بل اعتبروا الطعن في الصحابة والسب لهم مروقاً من الدين أعاذنا الله من ذلك. (10) فقد روى أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى محمد بن علي بن الحسين بن علي أنه قال لجابر الجعفي: (يا جابر بلغني أن قوماً بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر، ويزعمون أني آمرهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم بريء والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما، فأبلغهم أني بريء منهم وممن تبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما) (¬1). (11) وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن الحسن بن علي أنه قال: (ما أرى رجلاً يسب أبا بكر وعمر تيسر له توبة أبداً) (¬2). (12) وقال عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي: (من شتم أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقد ارتد عن دينه وأباح دمه) (¬3). (13) وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: (الذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سهم أو قال نصيب في الإسلام) (¬4). (14) روى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى الحسن بن الربيع قال: (سمعت أبا الأحوص يقول: لو أن الروم أقبلت من موضعها يعني تقتل ما بين يديها وتقبل حتى تبلغ النخيلة ثم خرج رجل بسيفه فاستنقذ ما في أيديها وردها إلى موضعها ولقي الله وفي قلبه شيء على بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأينا أن ذلك ينفعه) (¬5). ¬

(¬1) كتاب ((النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب)) (ص: 12)، وأورده الحافظ ابن كثير في كتابه ((البداية والنهاية)) (9/ 349)، والسياق له. (¬2) ((النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب)) (ص: 17). (¬3) ((الشرح والإبانة))، لابن بطة، (ص: 162). (¬4) ((الشرح والإبانة))، لابن بطة، (ص: 162). (¬5) كتاب ((النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب)) (ص: 12).

(15) وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الله بن مصعب قال: (قال لي أمير المؤمنين – المهدي – ما تقول في الذين يشتمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: زنادقة يا أمير المؤمنين، قال: ما علمت أحداً قال هذا غيرك فكيف ذلك؟ قلت: إنما قوم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك فيه فشتموا أصحابه رضي الله عنهم يا أمير المؤمنين ما أقبح بالرجل أن يصحب صحابة السوء فكأنهم قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم صحب صحابة السوء، فقال لي: ما أرى إلا كما قلت) (¬1). (16) روى أبو عبيد الله بن بطة إلى أبي بكر بن عياش أنه قال: (لا أصلي على رافضي ولا حروري لأن الرافضي يجعل عمر كافراً، والحروري يجعل علياً كافراً) (¬2). (17) روى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى يعقوب بن حميد قال: (سمعت سفيان بن عيينة يقول: حج هارون الرشيد أمير المؤمنين فدعاني فقال: يا سفيان إن أبا معاوية الضرير حدثني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: سيكون بعدي قوم لهم نبز يسمون الرافضة وآية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر، فإذا وجدتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون، فقلت: يا أمير المؤمنين اقتلهم بكتاب الله، فقال: يا سفيان وأين موضع ذلك من كتاب الله؟ فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ إلى قوله لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح: 29]، يا أمير المؤمنين، فمن غاظه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر) (¬3). (18) وقال أيضاً: (من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى) (¬4). (19) ذكر القرطبي عن عمر بن حبيب قال: (حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع بعضهم الحديث وزادت المرافعة والخصام، حتى قال قائلون منهم: لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فنظر إليّ الرشيد نظر مغضب وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي .. حاسر عن ذراعيه بيده السيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله) (¬5). ¬

(¬1) كتاب ((النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب)) (ص: 22 - 23)، وأخرجه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (ص: 10/ 175). (¬2) ((الشرح والإبانة)) لابن بطة، (ص: 160). (¬3) كتاب ((النهي عن سب الأصحاب)) (ص: 24 - 25). (¬4) ذكره عبد القادر الجيلاني في كتابه ((الغنية لطالبي طريق الحق)) (1/ 79). (¬5) ((الجامع لأحكام القرآن)) (16/ 298 - 299).

(20) روى أبو عبيد الله بن بطة بإسناده إلى هارون بن زياد، قال: (سمعت الفريابي ورجل يسأله عمن شتم أبا بكر، فقال: كافر، قال: فنصلي؟ قال: لا، فسألته: كيف نصنع به وهو يقول: لا إله إلا الله، قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته) (¬1). (21) وقال بشر بن الحارث: (من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين) (¬2). (22) وقال أبو بكر المروزي: (سألت أبا عبد الله عمن شتم أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم، فقال: ما أراه على الإسلام) (¬3). (23) وقال محمد بن بشار: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: أحضر جنازة من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (لو كان من عصبتي ما ورثته) (¬4). (24) وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى إسماعيل بن القاسم، قال: (قال لي عبد الله بن سليمان: يا إسماعيل ما تقول فيمن يسب أبا بكر وعمر، قلت: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، قال لي القتال؟ قلت: نعم، قال: وأني لك هذا؟ قلت: بآية من كتاب الله تعالى، فقال: وآية من كتاب الله؟ قلت: نعم، قال: وأي هي من كتاب الله تعالى، قلت له: قال الله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ [المائدة: 3]، ولا فساد في الأرض أعظم من سب أبي بكر وعمر عليهما السلام، قال لي: أحسنت يا إسماعيل) (¬5). وهذه الآثار عن هؤلاء الأئمة كلها دلت على تحريم سب الصحابة عموماً وفيها بيان الخسارة الواضحة التي تلحق من أقحم نفسه في هذا الجرم الكبير وأن من ابتلي بداء المبغضين لخيار الأمة وحمله ذلك على سبهم وتجريحهم إنما رام الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال الشريعة الإسلامية من أساسها لأن الصحابة إذا كانوا كذابين فجميع أحكام دين الإسلام باطلة، إذ الدين لم يصل إلينا إلا عن طريقهم فهم الذين تلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم لم يأخذه إلا عنهم، ومن طعن فيهم، أو جرحهم ماذا يبقى له من الدين وكما دلت تلك الآثار عن أولئك الأسلاف على تحريم سب الصحابة دلت كذلك على أن من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فإنه لا يضرهم وإنما يضر نفسه، فهم رضي الله عنهم قدموا على ما قدموا، وقد قدموا الخير الكثير من الأعمال الجليلة والمآثر الحميدة في نصرة دين الإسلام والكلام فيهم بغير حق إن كانت له حسنات فإنهم يأخذون من حسناته ويضاف ذلك إلى حسناتهم ويزدادون بذلك رفعة عند الله تعالى، وإن لم يكن للمتكلم فيهم حسنات فلا تأثير لكلامه فيهم ولا مضرة عليهم، إذ الذي مدحه الله وأثنى عليه لا يضيره ذم الخلق وتنقصهم. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 846 ¬

(¬1) ((الشرح والإبانة)) (ص: 160). (¬2) ((الشرح والإبانة)) لابن بطة (ص: 162). (¬3) ((الشرح والإبانة)) لابن بطة (ص: 161). (¬4) ((الشرح والإبانة)) (ص: 160). (¬5) كتاب ((النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب)) (ص: 25).

رابعا: حكم سب الصحابة

رابعا: حكم سب الصحابة • 1 - من سب الصحابة بالكفر والردة أو الفسق جميعهم أو معظمهم. • 2 - من سب بعضهم سبا يطعن في دينهم. • 3 - من سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سبا يطعن في الدين. • 4 - من سب بعضهم سبا لا يطعن في دينهم وعدالتهم.

1 - من سب الصحابة بالكفر والردة أو الفسق جميعهم أو معظمهم

1 - من سب الصحابة بالكفر والردة أو الفسق جميعهم أو معظمهم فلا شك في كفر من قال بذلك لأمور من أهمها: - إن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وبذلك يقع الشك في القرآن والأحاديث؛ لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول. - إن في هذا تكذيباً لما نص عليه القرآن من الرضا عنهم والثناء عليهم (فالعلم الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضلهم قطعي) (¬1) ومن أنكر ما هو قطعي فقد كفر. - إن في ذلك إيذاء له صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أصحابه وخاصته، فسب المرء وخاصته، والطعن فيهم، يؤذيه ولا شك. وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم كفر كما هو مقرر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، مبيناً حكم هذا القسم: (وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضاً في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع؛ من الرضا عنهم، والثناء عليهم. بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين .. - إلى أن قال- وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام) (¬2). وقال الهيثمي رحمه الله: (ثم الكلام - أي الخلاف - إنما هو في سب بعضهم - أما سب جميعهم، فلا شك في أنه كفر) (¬3). ومع وضوح الأدلة الكلية السابقة، ذكر بعض العلماء أدلة أخرى تفصيلية، منها: أولاً: ما مر معنا من تفسير العلماء للآية الأخيرة من سورة الفتح: من قوله مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ إلى قوله: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح: 29] استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية كفر من يبغضون الصحابة؛ لأن الصحابة يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه الشافعي وغيره (¬4). ثانياً: ما سبق من حديث أنس عند الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) (¬5). وفي رواية: ((لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق)) (¬6). ولمسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله واليوم الآخر)) (¬7). فمن سبهم فقد زاد على بغضهم، فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر (¬8). ثالثاً: ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه ضرب بالدرة من فضله على أبي بكر. ثم قال: (أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا). ثم قال عمر: (من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري) (¬9). وكذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: (لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري) (¬10). فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضل علياً على أبي بكر وعمر، أو من يفضل عمراً على أبي بكر، مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب، علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير (¬11). ¬

(¬1) ((الرد على الرافضة)) (ص: 19) ضمن جزء ملحق المصنفات للإمام المجدد طبعة الجامعة. (¬2) ((الصارم المسلول)) (ص: 586 - 587). (¬3) ((الصواعق المحرقة)) (ص: 379). (¬4) ((الصواعق المحرقة)) (ص: 317)، وانظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 204). (¬5) رواه البخاري (17)، ومسلم (74). (¬6) رواه البخاري (3783)، ومسلم (75). من حديث البراء رضي الله عنه. (¬7) رواه مسلم (76). (¬8) ((الصارم المسلول)) (ص: 581). (¬9) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1/ 300). وصحح إسناده ابن تيمية في ((الصارم المسلول)) (3/ 1106). (¬10) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1/ 84)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (2/ 575)، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (ص: 358)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/ 383). قال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (474): [روي] بأسانيد جيدة. (¬11) ((الصارم المسلول)) (ص: 586).

2 - من سب بعضهم سبا يطعن في دينهم

2 - من سب بعضهم سبا يطعن في دينهم كأن يتهمهم بالكفر أو الفسق، وكان ممن تواترت النصوص بفضله كالخلفاء: فذلك كفر – على الصحيح – لأن في هذا تكذيباً لأمر متواتر. روى أبو محمد بن أبي زيد عن سحنون، قال: (من قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي: إنهم كانوا على ضلال وكفر. قتل. ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد) (¬1). وقال هشام بن عمار: (سمعت مالكاً يقول: من سب أبا بكر وعمر قتل. ومن سب عائشة رضي الله عنها قتل؛ لأن الله تعالى يقول فيها: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النور: 17]. فمن رماها فقد خالف القرآن. ومن خالف القرآن قتل) (¬2). أما قول مالك رحمه الله في الرواية الأخرى: (من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل. قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن) (¬3). فالظاهر والله أعلم أن مقصود مالك رحمه الله هنا في سب أبي بكر رضي الله عنه فيما دون الكفر، يوضحه بقية كلامه عن عائشة رضي الله عنها، حيث قال: (من رماها فقد خالف القرآن). فهذا سب مخصوص يكفر صاحبه – ولا يشمل كل سب – وذلك لأنه ورد عن مالك القول بالقتل فيمن كفر من هو دون أبي بكر (¬4). قال الهيثمي، مشيراً إلى ما يقارب ذلك عند كلامه عن حكم سب أبي بكر: (فيتلخص أن سب أبي بكر كفر عند الحنفية، وعلى أحد الوجهين عند الشافعية، ومشهور مذهب مالك أنه يجب به الجلد، فليس بكفر. نعم: قد يخرج عنه ما مر عنه في الخوارج أنه كفر. فتكون المسألة عنده على حالين: إن اقتصر على السب من غير تكفير لم يكفره وإلا كفر) (¬5). وقال أيضاً: (وأما تكفير أبي بكر ونظرائه ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فلم يتكلم فيها أصحاب الشافعي. والذي أراه الكفر فيها قطعاً) (¬6). وقال الخرشي: (من رمى عائشة بما برأها الله منه ... ، أو أنكر صحبة أبي بكر، أو إسلام العشرة، أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة، أو واحداً منهم، كفر) (¬7). وقال البغدادي: (وقالوا بتكفير كل من كفر واحدا من العشرة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقالوا بموالاة جميع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفروا من كفرهن، أو كفر بعضهن) (¬8). والمسألة فيها خلاف مشهور، ولعل الراجح ما تقدم، وأما القائلون بعدم كفر من هذه حاله، فقد أجمعوا على أنه فاسق، لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب، يستحق التعزير والتأديب، على حسب منزلة الصحابي، ونوعية السب. وإليك بيان ذلك: قال الهيثمي: (أجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة على أنهم فساق) (¬9). وقال ابن تيمية: (قال إبراهيم النخعي: كان يقال: شتم أبي بكر وعمر من الكبائر). وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي: شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال الله تعالى فيها: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31]. وإذا كان شتمهم بهذه المثابة، فأقل ما فيه التعزير؛ لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة. ¬

(¬1) ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 1109). (¬2) ((الصواعق المحرقة)) (ص: 384). (¬3) ((الشفا)) للقاضي عياض (2/ 1109)، ((الصارم المسلول)) (ص: 571). (¬4) ((الشفا)) (2/ 1109). (¬5) ((الصواعق)) (ص: 386). (¬6) ((الصواعق)) (ص: 385). (¬7) ((الخرشي على مختصر خليل)) (8/ 74). (¬8) ((الفرق بين الفرق)) (ص: 360). (¬9) ((الصواعق المحرقة)) (ص: 383).

وهذا مما لا نعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة؛ فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم .. وعقوبة من أساء فيهم القول) (¬1). وقال القاضي عياض: (وسب أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه يعزر ولا يقتل) (¬2). وقال عبد الملك بن حبيب: (من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً. وإن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر، فالعقوبة عليه أشد، ويكرر ضربه، ويطال سجنه حتى يموت) (¬3). فلا يقتصر في سب أبي بكر رضي الله عنه على الجلد الذي يقتصر عليه في جلد غيره؛ لأن ذلك الجلد لمجرد حق الصحبة، فإذا انضاف إلى الصحبة غيرها مما يقتضي الاحترام؛ لنصرة الدين وجماعة المسلمين، وما حصل على يده من الفتوح وخلافة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، كان كل واحد من هذه الأمور يقتضي مزيد حق موجب لزيادة العقوبة عند الاجتراء عليه (¬4). وعقوبة التعزير المشار إليها لا خيار للإمام فيها، بل يجب عليه فعل ذلك. قال الإمام أحمد رحمه الله: (لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص. فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه فإن تاب قبل منه، وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع) (¬5). فانظر أخي المسلم إلى قول إمام أهل السنة فيمن يعيب أو يطعن بواحد منهم، ووجوب عقوبته وتأديبه. ولما كان سبهم المذكور من كبائر الذنوب – عند بعض العلماء – فحكم فاعله حكم أهل الكبائر من جهة كفر مستحلها. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ مبيناً حكم استحلال سب الصحابة: (ومن خص بعضهم بالسب، فإن كان ممن تواتر النقل في فضله وكماله؛ كالخلفاء، فإن اعتقد حقية سبه أو إباحته فقد كفر؛ لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكذبه كافر، وإن سبه من غير اعتقاد حقية سبه أو إباحته، فقد تفسق؛ لأن سباب المسلم فسوق. وقد حكم البعض فيمن سب الشيخين بالكفر مطلقاً والله أعلم) (¬6). وقال القاضي أبو يعلي – تعليقاً على قول الإمام أحمد رحمه الله حين سئل عمن شتم الصحابة، فقال: ما أراه على الإسلام – قال أبو يعلى: (فيحتمل أن يحمل قوله: ما أراه على الإسلام. إذا استحل سبهم، فإنه يكفر بلا خلاف. ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك مع اعتقاده لتحريمه، كمن يأتي بالمعاصي. ثم ذكر بقية الاحتمالات) (¬7). يتلخص مما سبق فيمن سب بعضهم سباً يطعن في دينه وعدالته، وكان ممن تواترت النصوص بفضله، أنه يكفر – على الراجح – لتكذيبه أمراً متواتراً. أما من لم يكفره العلماء، فأجمعوا على أنه من أهل الكبائر، ويستحق التعزير والتأديب، ولا يجوز للإمام أن يعفو عنه، ويزاد في العقوبة على حسب منزلة الصحابي. ولا يكفر – عندهم – إلا إذا استحل السب. أما من زاد على الاستحلال؛ كأن يتعبد الله عز وجل بالسب والشتم، فكفر مثل هذا مما لا خلاف فيه. ونصوص العلماء السابقة واضحة في مثل ذلك ... ¬

(¬1) ((اللالكائي)) (8/ 1262 - 1266)، ((الصارم المسلول)) (1/ 577). (¬2) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (16/ 93). (¬3) ((الشفا)) (2/ 1108)، وعنه ((الصارم المسلول)) (ص: 569). (¬4) ((الصواعق المحرقة)) (ص: 387). (¬5) ((طبقات الحنابلة)) (1/ 24)، و ((الصارم المسلول)) (ص: 568). (¬6) ((فصل الخطاب في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب)) لأحمد بن عبدالكريم نجيب (ص: 28)، و ((الرد على الرافضة)) (ص: 19). (¬7) ((الصارم المسلول)) (ص: 571) وما قبلها.

3 - من سب صحابيا لم يتواتر النقل بفضله سبا يطعن في الدين

3 - من سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سبا يطعن في الدين فالراجح تكفير من سب صحابياً تواترت النصوص بفضله من جهة دينه. أما من لم تتواتر النصوص بفضله، فقول جمهور العلماء بعدم كفر من سبه؛ وذلك لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة، إلا أن يسبه من حيث الصحبة. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: (وإن كان ممن لم يتواتر النقل في فضله وكماله، فالظاهر أن سابه فاسق، إلا أن يسبه من حيث صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر) (¬1). ¬

(¬1) ((فصل الخطاب في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب)) لأحمد بن عبدالكريم نجيب (ص: 28)، ((الرد على الرافضة)) (ص: 19).

4 - من سب بعضهم سبا لا يطعن في دينهم وعدالتهم

4 - من سب بعضهم سبا لا يطعن في دينهم وعدالتهم فلا شك أن فاعل ذلك يستحق التعزير والتأديب قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما إن سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم؛ مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك، فهو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء) (¬1). وذكر أبو يعلى من الأمثلة على ذلك اتهامهم بقلة المعرفة بالسياسة (¬2). ومما يشبه ذلك اتهامهم بضعف الرأي، وضعف الشخصية، والغفلة، وحب الدنيا، ونحو ذلك. وهذا النوع من الطعن تطفح به كتب التاريخ، وكذلك الدراسات المعاصرة لبعض المنسوبين لأهل السنة، باسم الموضوعية والمنهج العلمي. وللمستشرقين أثر في غالب الدراسات التي في هذا النوع. اعتقاد أهل السنة في الصحابة لمحمد بن عبد الله الوهيبي- بتصرف – ص: 37 ¬

(¬1) ((الصارم المسلول)) (ص: 586). (¬2) ((الصارم المسلول)) (ص: 571).

خامسا: لوازم السب

خامسا: لوازم السب تيقظ السلف الصالح رضوان الله عليهم لخطورة الطعن في الصحابة وسبهم، وحذروا من الطاعنين ومقاصدهم؛ وذلك لعلمهم بما قد يؤدي إليه ذلك السب من لوازم باطلة تناقض أصول الدين، فقال بعضهم كلمات قليلة، لكنها جامعة ... قال الإمام مالك رحمه الله عن هؤلاء – الذين يسبون الصحابة: (إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه؛ حتى يقال رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين) (¬1). وقال الإمام أحمد رحمه الله: (إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام) (¬2). وقال أبو زرعة الرازي رحمه الله: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) (¬3). وقال الإمام أبو نعيم رحمه الله: (فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزللهم ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه) (¬4). ويقول أيضاً: (لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والإسلام والمسلمين) (¬5). وتحذير العلماء هنا عام يشمل جميع الصحابة، وتأمل قول إمام أهل السنة: (يذكر أحداً من الصحابة بسوء). وقول أبي زرعة: (ينتقص أحداً) فحذروا ممن ينتقص مجرد انتقاص أو ذكر بسوء. وذلك دون الشتم أو التكفير. ثم في واحد منهم وليس جميعهم، فماذا يقال فيمن سب أغلبهم؟! وإليك أخي القارئ إيضاح لبعض لوازم السب: أولاً: يترتب على القول بكفر وارتداد معظم الصحابة أو فسقهم إلا نفراً يسيرا الشك في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وذلك لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، إذ كيف نثق بكتاب نقله إلينا الفسقة والمرتدون – والعياذ بالله – ولذلك صرح بعض أهل الضلال والبدع ممن يسب الصحابة بتحريف الصحابة للقرآن، والبعض أخفى ذلك. وكذلك الأمر بالنسبة للأحاديث النبوية. فإذا اتهم الصحابة رضوان الله عليهم في عدالتهم، صارت الأسانيد مرسلة مقطوعة لا حجة فيها، ومع ذلك يزعم بعض هؤلاء الإيمان بالقرآن. فنقول لهم: يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم، وأن الله لا يخزيهم، وأنه رضي عنهم. إلخ، فمن لم يصدق ذلك فيهم، فهو مكذب لما في القرآن ناقض لدعواه. ثانياً: هذا القول يقتضي أن هذه الأمة – والعياذ بالله – شر أمة أخرجت للناس، وسابقي هذه الأمة شرارها، وخيرها القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً وإنهم شر القرون. كبرت كلمة تخرج من أفواههم. ¬

(¬1) ((رسالة في سب الصحابة)) (ص: 46) عن ((الصارم المسلول)) (ص: 580). (¬2) ((البداية والنهاية)) (8/ 142)، وانظر: ((المسائل والرسائل المروية عن أحمد في العقيدة)) للأحمدي (2/ 363، 364). (¬3) ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص: 97). (¬4) ((تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة)) لأبي نعيم (ص: 344). (¬5) ((تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة)) لأبي نعيم (ص: 376).

ثالثاً: يلزم من هذا القول أحد أمرين: إما نسبة الجهل إلى الله تعالى عما يصفون، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى فيها على الصحابة، فإن كان الله عز وجل – تعالى عن قولهم – غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم الحسنى فهو جهل، والجهل عليه تعالى محال. وإن كان الله عز وجل عالماً بأنهم سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبث. والعبث في حقه تعالى محال (¬1). ويتبع ذلك الطعن في حكمته عز وجل، حيث اختارهم واصطفاهم لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، فجاهدوا معه وآزروه ونصروه واتخذهم أصهاراً له، حيث زوج ابنته ذا النورين عثمان رضي الله عنه، وتزوج ابنتي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فكيف يختار لنبيه أنصاراً وأصهاراً مع علمه بأنهم سيكفرون؟! رابعاً: لقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم جهوداً خارقة في تربية الصحابة على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، حتى تكون بفضل الله عز وجل المجتمع المثالي في خلقه وتضحياته وزهده وورعه، فكان صلى الله عليه وسلم أعظم مرب في التاريخ. ولكن على العكس من ذلك، فإن جماعة تدعي الانتماء إلى الإسلام ونبي الإسلام، تقدم لهذا المجتمع صورة معاكسة، تهدم المجهودات التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم في مجال التربية والتوجيه، وتثبت له إخفاقاً لم يواجهه أي مصلح أو مرب، خبير مخلص لم يكن مأموراً من الله، كما كان الشأن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الإمامية ترى أن المجهودات الجبارة التي بذلها محمد صلى الله عليه وسلم -لم تنتج إلا ثلاثة أو أربعة- وفقاً لبعض الروايات – ظلوا متمسكين بالإسلام إلى ما بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم أما غيرهم فقد قطعوا صلتهم بالإسلام – والعياذ بالله – فور وفاته صلى الله عليه وسلم وأثبتوا أن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته أخفقت ولم يعد لها أي تأثير. وهذا الزعم يؤدي إلى اليأس من إصلاح البشرية، وعدم الثقة في المنهج الإسلامي وقدرته على التربية وتهذيب الأخلاق، وإلى الشك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الدين الذي لم يستطع أن يقدم للعالم عدداً وجيهاً من نماذج عملية ناجحة بناءة، ومجتمعاً مثالياً في أيام الداعي وحامل رسالته الأول، فكيف يستطيع أتباعه ذلك بعد مضي وقت طويل على عهد النبوة؟! وإذا كان المؤمنون بهذه الدعوة لم يستطيعوا البقاء على الجادة القومية، ولم يعودوا أوفياء لنبيهم صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلم يبق على الصراط المستقيم الذي ترك عليه النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه إلا أربعة فقط، فكيف نسلم أن هذا الدين يصلح لتزكية النفوس وبناء الأخلاق؟ وأنه يستطيع أن ينقذ الإنسان من الهمجية والشقاء، ويرفعه إلى قمة الإنسانية؟ بل ربما يقال لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صادقاً في نبوته لكانت تعاليمه ذات تأثير، ووجد هناك من آمن به من صميم القلب، ووجد من بين العدد الهائل ممن آمنوا به بعض المئات الذين ثبتوا على الإيمان، فإن كان أصحابه – سوى بضعة رجال منهم منافقين ومرتدين – فيما زعموا – فمن دام بالإسلام؟ ومن انتفع بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يكون رحمة للعالمين؟! (¬2). اعتقاد أهل السنة في الصحابة لمحمد بن عبد الله الوهيبي- بتصرف – ص: 66 ¬

(¬1) انظر: ((إتحاف ذوي الجنابة)) لمحمد بن العربي التباني (ص: 75). (¬2) ((صورتان متضادتان)) للشيخ أبي الحسن الندوي (ص: 13، 53، 54، 58، 99) بتصرف.

المطلب الرابع: أهل السنة يمسكون عما شجر بين الصحابة

تمهيد أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتدّ بإجماعهم على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه والاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة والاستغفار للقتلى من الطّرفين والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر مناقبهم، عملاً بقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] الآية، واعتقاد أنّ الكلّ منهم مجتهدٌ إن أصاب فله أجران، أجرٌ على اجتهاده وأجرٌ على إصابته، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد والخطأ مغفور، ولا تقول إنّهم معصومون بل مجتهدون إمّا مصيبون وإمّا مخطئون لم يتعمّدوا الخطأ في ذلك. وما روي من الأحاديث في مساويهم الكثير منه مكذوب، ومنه ما قد زيد فيه أو نقص منه وغيّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي – 3/ 1398 فالصحابة رضي الله عنهم وقعت بينهم بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزاعات، واشتد الأمر بعد مقتل عثمان، فوقع بينهم ما وقع، مما أدى إلى القتال. وهذه القضايا مشهورة، وقد وقعت بلا شك عن تأويل واجتهاد كل منهم يظن أنه على حق، ولا يمكن أن نقول: إن عائشة والزبير بن العوام قاتلا علياً رضي الله عنهم أجمعين وهم يعتقدون أنهم على باطل، وأن علياً على حق. واعتقادهم أنهم على حق لا يستلزم أن يكونوا قد أصابوا الحق. ولكن إذا كانوا مخطئين، ونحن نعلم أنهم لن يقدموا على هذا الأمر إلا عن اجتهاد، فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر)) (¬1)، فنقول: هم مخطئون مجتهدون، فلهم أجر واحد. فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولى: الحكم على الفاعل. والجهة الثانية: موقفنا من الفاعل. - أما الحكم على الفاعل، فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم، فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ، فصاحبه معذور مغفور له. وأما موقفنا من الفاعل، فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالاً للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا، ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون ولسنا غانمين أبدا. فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جرى بين الصحابة وأن لا نطالع الأخبار أو التاريخ في هذه الأمور، إلا المراجعة للضرورة. ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم؛ منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص عن وجهه الصريح، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيراً فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت. القسم الثاني: شيء له أصل، لكن زيد فيه ونقص وغير عن وجهه. وهذان القسمان كلاهما يجب رده. القسم الثالث: ما هو صحيح، فماذا نقول فيه؟ بينه المؤلف بقوله: والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. والمجتهد إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر واحد، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (7352) , ومسلم (1716) , من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (7352) , ومسلم (1716). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

فما جرى بين معاوية وعلى رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل. لكن لا شك أن عليا أقرب إلى الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه، إلا أنّ معاوية كان مجتهداً. ويدل على أن عليا أقرب إلى الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ويح عماراً تقتله الفئة الباغية)) (¬1)، فكان الذي قتله أصحاب معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأوّلون، والصواب مع علي إما قطعاً وإما ظناً. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره. وهناك قسم رابع: وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله: وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره. لا يعتقدون ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) (¬2). ولكن العصمة في إجماعهم؛ فلا يمكن أن يجمعوا على شيء من كبائر الذنوب وصغائرها فيستحلوها أو يفعلوها. ولكن الواحد منهم قد يفعل شيئاً من الكبائر، كما حصل من مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم. بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر يعني: كغيرهم من البشر، لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله: ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر. هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد، فهم نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر. ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة: ((حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، حتى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنق حاطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدراً، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)) (¬3). حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم خير القرون وإنّ المدّ من أحدهم إذا تصدّق به كان أفضل من جبل أحدٍ ذهباً من بعدهم، ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتي بحسنات تمحوه. أو غفر له بفضل سابقته. وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني)) (¬4)، وفي قوله: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (447). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه الترمذي (2499) , وابن ماجه (4251) , والحاكم (4/ 272). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (439): إسناده قوي. وحسّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه البخاري (3007) , ومسلم (2494). من حديث علي رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (2652) , ومسلم (2533). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬5) رواه مسلم (2540). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

يعني: وإذا تاب منه، ارتفع عنه وباله ومعرته، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، - إلى قوله: - إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان: 68 - 70]، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يؤثر عليه. لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]. لقوله تعالى: في الحديث القدسي في أهل بدر: ((اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)) (¬1). أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاءٍ في الدنيا كفر به عنه فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا، فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم. فإن البلاء في الدنيا يكفر الله به السيئات، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)) (¬2). والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة. فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصحابة، وهي قسمان: الأول: خاص بهم، وهو مالهم من السوابق والفضائل. والثاني: عام، وهي التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والبلاء. القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جداً نزر أقل القليل، ولهذا قال: مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم. ولا شك أنه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزنى بإحصان وزنى بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة. ومن نظر في سيرة القوم بعلمٍ وبصيرةٍ، وما مَنَّ الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء. فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة، فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأوّلين. هذا بالإضافة إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (¬3). وعلي هذا تثبت خيرتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أحوالهم. فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل، علمت يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، فهم خير من الحواريين أصحاب عيسي، خير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا من نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم، لقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وخيرنا الصحابة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الخلق، فأصحابه خير الأصحاب بلا شك. هذا عند أهل السنة والجماعة، أما عند الرافضة، فهم شر الخلق، إلا من استثنوا منهم. لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى. وأما كون الصحابة صفوة قرون الأمة، فلقوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني)) (¬4). وفي لفظ: ((خير أمتي قرني)) (¬5)، والمراد بقرنه: الصحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعوا التابعين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك وجمهور تابعي التابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية. اهـ. وكان آخر الصحابة موتاً أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مائة من الهجرة، وقيل: مائة وعشر. قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين. شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين - 2/ 284 ¬

(¬1) رواه البخاري (3007) , ومسلم (2494). من حديث علي رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (5667) , ومسلم (2571) , من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (2652) , ومسلم (2533). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وليس من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (2652) , ومسلم (2533). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (3650) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

الفرع الأول: متى بدأ التشاجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفرع الأول: متى بدأ التشاجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلماً وعدواناً من قبل الخارجين عليه من أهل مصر، وأهل الكوفة، وأهل البصرة سنة خمس وثلاثين للهجرة (¬1) كان مصدر بدء التشاجر بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم والقارئ لكتب التواريخ والسير يخرج منها بأن بداية التشاجر بين خير القرون كان بعد قتل ثالث الخلفاء الراشدين وبداية خلافة أبي الحسن رضي الله عنهما. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 700 ¬

(¬1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 365) وما بعدها، ((الكامل لابن الأثير)) (3/ 178)، ((البداية والنهاية)) (7/ 186).

الفرع الثاني دوافع التشاجر بين الصحابة

الفرع الثاني دوافع التشاجر بين الصحابة إن أعظم دافع لهم إلى ذلك ليس إلا مطالبة الخليفة الرابع بوجوب الإسراع بأخذ القود من أولئك الأشرار قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه ذلك أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين كانوا يرون أنه لابد من المطالبة بدم عثمان ووجوب الإسراع بإقامة حد الله عليهم كما أمر الله (¬1). بينما كان يرى علي رضي الله عنه إرجاء الأمر حتى يبايعه أهل الشام ويستتب له الأمر ليتسنى له بعد ذلك التمكن من القبض عليهم لأنهم كانوا كثيرين في جيش علي ومن قبائل مختلفة وكانوا لهم بعض التمكن حينذاك. قال الحافظ ابن كثير: (ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة – رضي الله عنهم – وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا) (¬2) اهـ. ومما يؤكد أن سبب البداية للتشاجر بين الصحابة هو قتل عثمان رضي الله عنه (أن علياً رضي الله عنه بعد أن بويع له بالخلافة شرع في إرسال عماله إلى الأمصار فكان من أرسله إلى الشام بدل معاوية سهل بن حنيف فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية فقالوا: من أنت؟ فقال: أمير قالوا: على أي شي؟ قال: على الشام فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحيهلا بك وإن كان غيره فارجع فقال: أو ما سمعتم بالذي كان؟ قالوا بلى فرجع إلى علي، وأما قيس بن سعد بن عبادة – فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميراً على الكوفة فصده طليحة بن خويلد – الأسدي – غضباً لعثمان فرجع إلى علي فأخبره) (¬3) (وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه، يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة وغيرهم من الصحابة والتابعين: شريك بن حباشة وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم ... وغيرهم من التابعين) (¬4). (ولما كان رأي كل واحد من الفريقين مضاداً لرأي الآخر من هنا اختلفت الكلمة وتفاقم الأمر، وانتشرت الفتنة فما كان من علي رضي الله عنه وهو الخليفة الحق الذي تجب طاعته إلا أن قام بإرسال الكتب المتتابعة إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه فيها إلى البيعة غير أن معاوية رضي الله عنه لم يرد شيئا فكرر عليه علي رضي الله عنه ذلك مراراً إلى أن دخل الشهر الثالث من مقتل ذي النورين رضي الله عنه، ثم بعث بعد ذلك طوماراً من رجل فدخل به على علي فقال: ما وراءك؟ قال جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور ... فقال علي: أمني يطلبون دم عثمان؟ ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 462 - 464، 5/ 6)، ((الكامل في التاريخ)) (3/ 212 - 213)، (ص: 286)، ((البداية والنهاية)) (7/ 251 - 253)، (ص: 281 - 282). (¬2) ((البداية والنهاية)) (7/ 248 - 249)، وانظر ((تاريخ الأمم والملوك)) للطبري (4/ 437)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 195 - 196). (¬3) ((تاريخ ابن جرير الطبري)) (4/ 442)، كتاب ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 201)، ((البداية والنهاية)) (7/ 249 - 250). (¬4) ((البداية والنهاية)) (7/ 248). (¬5) ((تاريخ الطبري)) (4/ 444).

وقد وجه علي رضي الله عنه جماعة إلى معاوية رضي الله عنه وهو بصفين منهم بشير بن عمرو الأنصاري وقال لهم: (ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم فلما دخلوا على معاوية "قال له بشير بن عمرو: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك ومجازيك بما قدمت يداك إني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها – إلى أن قال له: - وإنه – أي علي – يدعوك إلى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في آخرتك فقال معاوية: ويبطل دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً) (¬1). (وقد دخل أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما أيام صفين على معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق بهذا الأمر منك – فكان جوابه عليهم – أقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من يبايعه من أهل الشام) (¬2) فهذه الرواية وما قبله تبين لنا أن معاوية رضي الله عنه كان باذلاً للبيعة بالخلافة لعلي رضي الله عنه لكن بشرط تعجيل القود من قتلة عثمان وكان رأي علي رضي الله عنه أن يدخل معاوية في البيعة أولاً ثم بعد ذلك يتتبع القتلة ويقام عليهم الحد الشرعي بعد إقامة الدعوى والإجابة ثم صدور الحكم فيهم كما أمر الله به. ولكن لما رأى علي ومعاوية رضي الله عنهما رأيين متضادين لا يلتقيان أدى ذلك إلى المنازعة واختلاف الكلمة، ولما رأى علي رضي الله عنه أن الكتب التي وجهها إلى معاوية لم تجد شيئاً بل إن الفتنة بدأت تشتد ولم تزدد الأمور إلا تعقيداً حيث استأثر معاوية رضي الله عنه ببلاد الشام ولم يسمح لأمر علي أن يمتد إليها وهو الخليفة الحق بعد ذي النورين، وأن من حقه على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا، وأخذ في إعداد الجيش لقتال أهل الشام، وحاول الحسن ابنه أن يثنيه عن ذلك وقال له: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين (¬3). فلم يسمع لقوله بل هيأ الجيش ودفع اللواء إلى ولده محمد بن علي – المعروف بابن الحنفية – غير أنه لم يتمكن مما قصده من تسيير الجيش إلى بلاد الشام فإنه جاءه ما شغله عن ذلك وهو توجه أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة وعندما بلغ هذا الخبر علياً – رضي الله عنه – عدل عن وجهته إلى الشام وغير رأيه وتوجه إلى البصرة بدلاً من الشام وهكذا بدأ النزاع يتدرج بين الصحابة رضي الله عنهم من طور الكتابة والمحاورة إلى طور التعبئة وتجهيز الجيوش استعداداً للقتال والمواجهة للضرب بالسيوف وقد تمثل ذلك في موقعتين: الأولى: موقعة الجمل. الثانية: موقعة صفين. ¬

(¬1) ((تاريخ الطبري)) (4/ 573)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 285 - 286)، ((البداية والنهاية)) (7/ 280). (¬2) ذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 283). (¬3) انظر: ((البداية والنهاية)) (7/ 257).

أما موقعة الجمل فقد دارت رحا الحرب فيها بين علي رضي الله عنه ومن معه وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن معهم رضي الله عنهم وذلك أنه: (لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق سنة خمس وثلاثين للهجرة – كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم – أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فراراً من الفتنة فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل أقمن بمكة (¬1) وقد تجمع بمكة خلق كثير وجم غفير من سادات الصحابة منهم طلحة والزبير حيث استأذنا علياً في الاعتمار فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهما كثير من الناس وكذا قدم إلى مكة ابن عمر ومن اليمن يعلى بن أمية عامل عثمان عليها وعبد الله بن عامر عامله على البصرة ولم يزل الناس حينذاك يفدون على مكة ولما كثروا فيها قامت فيهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فحثتهم على القيام بطلب دم عثمان وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام ولم يراقبوا جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال، فاستجاب الناس لها وطاوعوها على ما تراه من الأمر بالمصلحة وقالوا لها: حيثما سرت سرنا معك وبعد أن تعددت آراؤهم في تحديد الجهة التي يسيرون إليها أجمعوا على الذهاب إلى البصرة فلما أتوا البصرة منعهم من دخولها عثمان بن حنيف عامل علي عليها حينذاك وجرت بينه وبينهم مراسلة ومحاورة حتى وصل الأمر بهم إلى المشاجرة ثم ما لبثوا أن اصطلحوا بعد ذلك إلى أن يقدم علي رضي الله عنه لأنه بلغهم أنه متوجه إليهم – وكما تقدم قريباً أنه عدل عن المسير إلى الشام بعد أن بلغه مسير أم المؤمنين عائشة إلى البصرة فأخذ في الاتجاه بعدهم في جمع كبير وهو يرجو أن يدركهم قبل وصولهم إلى البصرة فلما علم أنهم قد فاتوه، استمر في طريقه إليهم قاصداً البصرة من أرض العراق) (¬2). ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (7/ 250). (¬2) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 455)، ((الكامل)) (3/ 221 - 222)، ((لبداية والنهاية)) (7/ 255).

لما انتهى إلى البصرة كاتب أبا موسى الأشعري رضي الله عنه – عامله على الكوفة وطلب منه أنه يستنفر الناس ليلحقوا به غير أن أبا موسى رضي الله عنه كان يرى عكس رأي علي فكان يدعو إلى القعود ويقول: (وإنما هي فتنة وجعل كلما جاء رسول من عند علي رده بمثل ذلك حتى أرسل علي ابنه الحسن وعمار بن ياسر فقال الحسن لأبي موسى: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف علي شيء فقال: صدقت بأبي وأمي ولكن المستشار مؤتمن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب)) (¬1) وقد جعلنا الله إخواناً وحرم علينا دماءنا وأموالنا فكان كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر – ولكن مع ذلك استجاب للنفير كثير من الناس فخرج مع الحسن جمع كبير من أهل الكوفة وقدموا على علي رضي الله عنه فتلقاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعة منهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم لقيتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بالظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى) (¬2) وفي هذا توضيح لمقصد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأن مقصده الأول والأخير هو طلب الإصلاح وأن القتال كان غير محبب إلى نفسه لاسيما مع إخوانه البررة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كان مقصد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير من خروجهم من مكة إلى البصرة من أرض العراق هو التماس الإصلاح بين المسلمين بأمر يرتضيه طرفا النزاع ويحسم به الاختلاف وتجتمع به كلمة المسلمين ولم يخرجوا مقاتلين ولا داعين لأحد منهم ليولوه الخلافة هذا ما قرره العلماء من أهل السنة، قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى: (وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا حددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لاشك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقصاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا مما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً، وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدئ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرامها فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (3601)، ومسلم (2886). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 477 - 478)، ((الكامل)) (3/ 227 - 232)، ((البداية والنهاية)) (7/ 257 - 258). (¬3) ((الفصل في الممل والأهواء والنحل)) (4/ 158).

وقال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره للغرض الذي خرجت له عائشة ومن معها من مكة إلى البصرة: (ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين وضم نشرهم وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا وهذا هو الصحيح لا شيء سواه) (¬1). وقال أبو الوليد بن رشد المالكي: بعد ذكره قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] الآية (فأرادت عائشة رضي الله عنها بقولها والله أعلم: ما رأيت ما ترك الناس في هذه الآية نسبة التقصير إلى من أمسك من الصحابة عن الدخول في الحرب التي وقعت بينهم واعتزالهم وكف عنهم ولم يكن مع بعضهم على بعض ورأت أن الأحظ لهم والواجب عليهم إنما كان أن يرموا الإصلاح بينهم) (¬2)، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في صدد ذكره لبعض الأدلة التي تدل على أن عائشة رضي الله عنها ما خرجت إلا للإصلاح: (ويدل لذلك أن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة) (¬3). فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما قصدت بخروجها إلى البصرة إلا الإصلاح بين بنيها رضي الله عنها وبهذا وردت أخبار منها: (1) روى ابن جرير الطبري: (أن عثمان بن حنيف لما بلغه مجيء عائشة رضي الله عنها إلى البصرة أرسل إليها عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي فقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها، وعلم من معها فخرجا فانتهيا إليها وإلى الناس وهم بالحفير فاستأذنا فأذنت لهما فسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطي لبنيه الخبر إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام، فسفكوه وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام ومزقوا الأعراض والجلود وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا وقرأت لاَّ خَيْرَ في كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114]) (¬4). ¬

(¬1) ((العواصم من القواصم)) (ص: 151). (¬2) ((البيان والتحصيل)) (16/ 360). (¬3) ((فتح الباري)) (13/ 56). (¬4) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 461 - 462)، ((الكامل في التاريخ)) (3/ 211)، ((البداية والنهاية)) (7/ 252).

(2) وروى أيضاً: (أن علياً رضي الله عنه لما نزل بذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذين الرجلين يا ابن الحنظلية فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم الفرقة .. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة رضي الله عنها فسلم عليها وقال: أي أمه ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت أي بني إصلاح بين الناس قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما فبعثت إليهما فجاءا فقال: إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا نصلح قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن) (¬1). (3) لما رجع القعقاع بن عمرو إلى علي رضي الله عنه وأخبره أن أصحاب الجمل استجابوا إلى ما بعثه به إليهم أذعن علي لذلك وبعث إلى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر فأرسلا إليه: (إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس) (¬2) ففي هذه الأخبار دليل واضح على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن تقصد بخروجها هي ومن معها تفريق الجماعة ولا شفاء حقد بينها وبين علي كما يزعمه ذلك مبغضوا الصحابة من الرافضة، وإنما الغرض الذي كانت تريده الإصلاح بين الناس ابتغاء مرضات الله راجية الثواب على ذلك من الله، كما أن الذين طلبوا منها الخروج وهم طلحة والزبير ومن معهما كانوا كذلك، وكانوا يعلقون آمالاً على خروجها في حسم الاختلاف وجمع الكلمة ولم يكن يخطر على بالهم قتل أحد لأنهم ما أرادوا إلا الإصلاح ما استطاعوا. قال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره لبيان الغرض الذي خرجت من أجله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها قائلاً: (فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم فيراعوا حرمة نبيهم واحتجوا عليها عندما حاولت الامتناع بقول الله تعالى: لاَّ خَيْرَ في كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114] ثم قالوا لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج في الصلح وأرسل فيه فرجت المثوبة واغتنمت الفرصة وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها) (¬3). وقال أيضاً: في معرض الرد على من قال: إن أهل البصرة لما عرفوا بمجيء عائشة وطلحة والزبير خرجوا ليقاتلوهم وعلى رأسهم حكيم بن جبلة قال في شأن حكيم هذا: (وعن أي شيء كان يدافع؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة، وإنما جاءوا ساعين في الصلح راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد) (¬4). ¬

(¬1) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 448)، ((الكامل لابن الأثير)) (3/ 233)، ((البداية والنهاية)) (7/ 259). (¬2) ذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 261). (¬3) ((العواصم من القواصم)) (ص: 152). (¬4) ((العواصم من القواصم)) (ص: 154).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن بين بطلان الحديث الذي نصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((تقاتلين علياً وأنت ظالمة)) (¬1)، بيّن أن هذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناده معروف وبين أنه إلى الموضوعات أشبه ثم قال بعد ذلك: (فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين ... لا قاتلت ولا أمرت بقتال هكذا ذكر غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار) (¬2). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مبيناً القصد الذي خرجت من أجله عائشة رضي الله عنها هي ومن معها: (والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين وكان رأي علي الاجتماع على الطاعة وطلب أولياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه) (¬3). فلا مقصد إذن من خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها من الصحابة من مكة إلى البصرة إلا بغية الإصلاح بين المسلمين ولم تخرج لقتال ولا أمرت به ثم أيضاً: إن فكرة الصلح لم تكن عند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها فحسب بل كانت أيضاً: تجول في فكر علي رضي الله عنه ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم معنا قريباً أن علياً رضي الله عنه بعث إلى طلحة والزبير يقول: (إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر فأرسلا إليه: إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس) (¬4) ولما كان جوابهم على علي رضي الله عنه بهذا (اطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم وبعثوا إليه محمد بن طلحة السجاد وعولوا جميعاً على الصلح وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية) (¬5). فهكذا كانت فكرة الصلح مسيطرة على عقول الجميع من الطرفين كما كانت هدفهم الذي يهدفون إليه حتى في وقت استعدادهم للقتال وفي أثناء تنظيم الجيوش. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: (ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح ... ونزل علي بحيالهم، فنزلت مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح وكان أصحاب علي عشرون ألفاً، وخرج علي وطلحة والزبير فتوافقوا فلم يروا أمراً أمثل من الصلح ووضع الحرب فافترقوا على ذلك) (¬6). ¬

(¬1) لا أصل له. (¬2) ((منهاج السنة)) (2/ 185). (¬3) ((فتح الباري)) (7/ 108). (¬4) ((البداية والنهاية)) (7/ 261). (¬5) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 506)، ((الكامل لابن الأثير)) (3/ 242)، ((البداية والنهاية)) (7/ 261). (¬6) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 505)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 241 - 242).

ولما أرسلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى علي رضي الله عنه تعلمه أنها إنما جاءت للصلح فرح هؤلاء وهؤلاء لاتفاقهم على رأي واحد وهو الصلح ولما رجع القعقاع بن عمرو من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم (جمع علي الناس ثم قام خطيباً فيهم – فحمد الله – عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يليه ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة وأرادوا رد الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس) (¬1). ففكرة الصلح كانت هي المقصد الذي يطلبه الفريقان واتفقوا عليه وكان المسلمون حينئذ مجمعين على وجوب إقامة الحد وتنفيذ القصاص في قتلة عثمان ولم يخطر القتال على بال أحد منهم، ولكن المفسدين في الأرض الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه أصابهم الغم وأدركهم الحزن من اتفاق الكلمة وجمع الشمل، وأيقنوا أن الصلح الذي حصل الاتفاق عليه بين علي وأم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم سيكشف أمرهم وسيسلم رؤوسهم إلى سيف الحق وقصاص الخليفة فباتوا يدبرون أمرهم بليل شديد الظلمة فلم يجدوا سبيلاً لنجاتهم إلا بأن يعملوا على إبطال الصلح وتفريق صفوف المسلمين وذلك بأن يقوموا بعمل يحير العقلاء ويجعل كل فريق يسيء الظن بالآخر. فقد أجمعوا على إنشاب الحرب في السر واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر وخاصة بعد أن تيقنوا أن رأي علي فيهم موافق لرأي طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وقض مضجعهم قوله رضي الله عنه في خطبته التي ذكرناها آنفاً: (ألا وإني راحل غداً فارتحلوا ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس) (¬2) (فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى وعبدالله بن سبأ – المعروف بابن السوداء- وسالم بن ثعلبة وعلياء بن الهيثم وغيرهم في ألفين وخمسمائة وليس فيهم صحابي ولله الحمد فقالوا: ما هذا الرأي؟ وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك وقد قال ما سمعتم غداً يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟ فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم فإن كان اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا علياً بعثمان فرضي القوم منا بالسكوت فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت لو قتلناه فإنا يا معشر قتلة عثمان – في ألفين وخمسمائة – وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف لا طاقة لكم بهم وهم إنما يريدونكم. ¬

(¬1) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 493)، وانظر ((البداية والنهاية)) (7/ 260). (¬2) ((البداية والنهاية)) (7/ 260).

فقال علياء بن الهيثم: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذاً والله كان يتخطفكم الناس، ثم قال ابن السوداء: قبحه الله يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فإذا التقى الناس فأنشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون ويأتيهم ما يكرهون فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه) (¬1) فاجتمعوا على هذا الرأي الذي تفوه به الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي (فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربيعهم إلى ربيعهم ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا فيهم السلاح بغتة فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم، وبلغ طلحة والزبير ما وقع من الاعتداء على أهل البصرة فقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً وفي نفس الوقت حسب خطة أولئك المفسدين ذهبت منهم فرقة أخرى في ظلمة الليل ففاجأت معسكر علي بوضع السيف فيهم وقد وضعت السبئيه رجلاً قريباً من علي يخبره بما يريدون فلما سمع علي الصوت عندما هجموا على معسكره قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلا وقوم من أهل البصرة قد بيتونا) (¬2). ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (7/ 260). (¬2) ((تاريخ الأمم والملوك)) للطبري (4/ 506 - 507)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 242) ((البداية والنهاية)) (7/ 261 - 262)، ((فتح الباري)) (13/ 56).

(فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر وكان أمر الله قدراً مقدوراً وقامت الحرب على قدم وساق وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان فنشبت الحرب وتوافق الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً، والتف على عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون والسبئية أصحاب ابن السوداء – قبحه الله – لا يفترون عن القتل ومنادي علي ينادي ألا كفوا، ألا كفوا فلا يسمع أحد) (¬1) فاشتدت المعركة وحمي الوطيس وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبر وقد قتل من هذا خلق كثير جداً حتى حزن علي رضي الله عنه أشد الحزن وجعل يقول لابنه الحسن: (يا بني ليت أباك مات منذ عشرين سنة فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا) (¬2) ثم نزل بنفسه إلى ميدان المعركة لإنهاء القتال (وطلب طلحة والزبير ليكلمهما فاجتمعوا حتى التقت أعناق خيولهم فذكرهما بما ذكرهما به فانتهى الأمر برجوع الزبير يوم الجمل وفي أثناء رجوعه رضي الله عنه نزل وادياً يقال له: وادي السباع فاتبعه رجل يقال له عمرو بن جرموز فجاءه وهو نائم فقتله غيلة) (¬3) وأما طلحة رضي الله عنه فإنه بعد (أن اجتمع به علي فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته وقيل في رقبته والأول أشهر، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كان يلقيه وجعل يقول: إلي عباد الله فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله البصرة فمات بدار فيها ويقال: إنه مات بالمعركة) (¬4) ولم تنته موقعة الجمل برجوع الزبير واستشهاد طلحة رضي الله عنهما بل اشتدت الحرب بين الفريقين (حتى أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقدمت وهي في هودجها وناولت كعب بن سور قاضي البصرة مصحفاً وقالت ادعهم إليه وذلك حين اشتد الحرب وحمي القتال فلما تقدم كعب بن سور بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين وكان عبد الله بن سبأ – وهو ابن السوداء – وأتباعه بين يدي الجيش يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سور رافعاً المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فجعلت تنادي الله الله يا بني اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان، فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى علي فقال: ما هذا؟ فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم فقال: اللهم العن قتلة عثمان) (¬5). ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (7/ 262). (¬2) ذكره ابن كثير في ((البداية)) (7/ 262). (¬3) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 535)، ((البداية والنهاية)) (7/ 264)، ((الرياض النضرة)) (4/ 288). (¬4) ((البداية والنهاية)) (7/ 264، 270)، ((الرياض النضرة في مناقب العشرة)) (4/ 266). (¬5) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) للطبري (4/ 513)، ((البداية والنهاية)) (7/ 264).

(ولما رأى علي رضي الله عنه أن المعركة حميت حول الجمل أمر بعقره على ما يقال كي لا تصاب أم المؤمنين لأنها بقيت غرضاً للرماة ولينفصل هذا الموقف الذي تفانى فيه الناس ولما سقط البعير إلى الأرض انهزم من حوله من الناس وانتهت المعركة وحملت أم المؤمنين بأمر من علي وهي مكرمة معززة ودخلت البصرة ومعها أخوها محمد بن أبي بكر) (¬1). وأما علي رضي الله عنه، فإنه (أقام بظاهر البصرة ثلاثاً ثم صلى على القتلى من الفريقين ... ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر، وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة فمن عرف شيئاً هو لأهلهم فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين – عشرة آلاف خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم وقد سأل بعض أصحاب علي علياً أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير فأبى عليهم) (¬2). (ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها – أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه، جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال علي: صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وسار علي معها مودعاً ومشيعاً أميالاً، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين، وقصدت في سيرها ذلك إلى مكة، فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها) (¬3). ومما تقدم ذكره بشأن موقعة الجمل تبين أن القتال وقع بين الصحابة فيما بينهم كان بدون قصد منهم ولا اختيار وأن حقيقة المؤامرة التي قام بها قتلة عثمان خفيت على كلا الفريقين حتى ظن كل منهما أن الفريق الآخر قصده بالقتال. وقد وضح حقيقة هذه المؤامرة العلامة ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله قال أبو محمد بن حزم: (وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه وإقامة حق الله تعالى فيهم، فتسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعداداً عظيمة يقربون من الألوف – فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم إذ رأوا السيف قد خالطهم) (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 533 – 534)، ((البداية والنهاية)) (7/ 266 - 267). (¬2) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 538 - 539)، ((البداية والنهاية)) (7/ 267). (¬3) ((البداية والنهاية)) (7/ 268 - 269). (¬4) ((الإحكام في أصول الأحكام)) (2/ 85).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معيناً عليه كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله (¬1) وهو الصادق البار في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة فحملوا دفعاً عن أنفسهم فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم) (¬2). فهكذا أنشب الحرب بين علي وأخويه الزبير وطلحة قتلة عثمان الأشرار دون أن يفطن لذلك أولئك الأخيار من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. وأما موقعة صفين: فقد دارت رحا الحرب فيها بين أهل العراق من أصحاب علي رضي الله عنه وبين أهل الشام من أصحاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ذلك أن علياً رضي الله عنه لما فرغ من موقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما أرادت الرجوع إلى مكة ثم سار من البصرة إلى الكوفة فدخلها وكان في نيته أن يمضي ليرغم أهل الشام على الدخول في طاعته كما كان في نية معاوية ألا يبايع حتى يقام الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه، أو يسلموا إليه ليقتلهم ولما دخل علي رضي الله عنه الكوفة شرع في مراسلة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فقد بعث إليه جرير بن عبد الله البجلي ومعه كتاب أعلمه فيه (باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ودعاه فيه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان وإن لم يفعل لم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان رضي الله عنه فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا: وحينئذ خرج من الكوفة عازماً على دخول الشام فعسكر بالنخيلة وبلغ معاوية أن علياً قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: اخرج أنت أيضاً بنفسك فتهيأ أهل الشام وتأهبوا، وخرجوا أيضاً: إلى نحو الفرات من ناحية صفين حيث يكون مقدم علي بن أبي طالب رضي الله وسار علي رضي الله عنه بمن معه من الجنود من النخيلة قاصداً أرض الشام فالتقى الجمعان في صفين – أوائل ذي الحجة سنة ست وثلاثين) (¬3). ¬

(¬1) انظر: ((المصنف)) لابن أبي شيبة (15/ 208 - 209)، ((المصنف)) لعبد الرزاق (11/ 450)، ((المستدرك)) (3/ 95). (¬2) ((منهاج السنة)) (2/ 185). (¬3) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 563 - 565)، ((الكامل)) (3/ 276 - 279)، ((البداية والنهاية)) (7/ 276 - 277).

ومكث علي يومين لا يكاتب معاوية، ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير بن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم: (ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم: فلما دخلوا على معاوية جرى بينه وبينهم حوار لم يوصلهم إلى نتيجة فما كان من معاوية إلا أن أخبرهم أنه مصمم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوماً) (¬1). ولما رجع أولئك النفر إلى علي رضي الله عنه وأخبروه بجواب معاوية رضي الله عنه لهم وأنه لن يبايع حتى يقتل القتلة أو يسلمهم (عند ذلك نشبت الحرب بين الفريقين واقتتلوا مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين ولما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن تقوم بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح والمراسلة بين الناس وحقن دمائهم) (¬2) ثم في خلال هذا الشهر بدأت مساعي الصلح والمراسلة تتكرر بين الطرفين ولكن انسلخ شهر المحرم ولم يحصل لهم أي اتفاق، ولم يقع بينهم صلح. (ثم نشبت الحرب بين الطائفتين أياماً ثمانية وكان أشدها وأعنفها ليلة التاسع من صفر سنة سبع وثلاثين حيث سميت هذه الليلة (ليلة الهرير) تشبيهاً لها بليلة القادسية اشتد القتال فيها حتى توجه النصر فيها لأهل العراق على أهل الشام) (¬3) وتفرقت صفوفهم وكادوا ينهزمون فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: (هذا بيننا وبينكم قد فني الناس فمن لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق، فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت قالوا: نجيب إلى كتاب الله – عز وجل – وننيب إليه) (¬4) (ولما رفعت المصاحف بالرماح توقفت الحرب ولما رفع أهل الشام المصاحف اختلف أصحاب علي رضي الله عنه وانقسموا عليه فمنهم من رأى الموافقة على التحكيم، ومنهم من كان يرى الاستمرار في القتال حتى يحسم الأمر، وهذا كان رأي علي رضي الله عنه في بادئ الأمر، ثم وافق أخيراً على التحكيم) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 573)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 285 - 286)، ((البداية والنهاية)) (7/ 280). (¬2) انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 574 - 575، 5/ 5) ((الكامل)) (3/ 286 - 287، ص: 289)، ((البداية والنهاية)) (7/ 280 - 281). (¬3) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 12 - 48)، ((الكامل)) (3/ 294 - 315)، ((البداية والنهاية)) (7/ 284 - 297). (¬4) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 12 - 48)، ((الكامل)) (3/ 294 - 315)، ((البداية والنهاية)) (7/ 284 - 297). (¬5) انظر: ((تاريخ الخلفاء)) (ص: 182)، و ((شذرات الذهب)) (1/ 46).

فتم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين وهو أن يحكم كل واحد منهما رجلاً من جهته، ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين فوكل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعاً، ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين - كليهما - عهد الله وميثاقه أنهما على ما في ذلك الكتاب وأجلا القضاء إلى رمضان (¬1) وإن أحبا أن يؤخرا ذلك فعلى تراض منهما وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح ولما كان شهر رمضان جعل الاجتماع كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين وذلك أن علياً رضي الله عنه لما كان مجيء رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانئ ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس، وإليه الصلاة، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة فارس من أهل الشام ومعهم عبد الله بن عمر، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل – وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس كعبد الله بن هشام المخزومي وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبو جهم بن حذيفة فلما اجتمع الحكمان وتراوضا على المصلحة للمسلمين ونظرا في تقدير الأمور (¬2) ثم اتفقا على أن يكون الفصل في موضوع النزاع بين علي ومعاوية يكون لأعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم هذا ما اتفق عليه الحكمان فيما بينهما لا شيء سواه. أما ما يذكره المؤرخون من أن الحكمين لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا واتفقا على أن يخلعا الرجلين فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر وينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عنقي أو من عاتقي وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر: كما أثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده، فأنكر أبو موسى فقال عمرو: كذلك اتفقنا وتفرق الجمع على ذلك الاختلاف (¬3). فهذه الحكاية وما يشبهها من اختلاف أهل الأهواء والبدع الذين لا يعرفون قدر أبي موسى وعمرو بن العاص ومنزلتهما الرفيعة في الإسلام. قال أبو بكر بن العربي مبيناً كذب ذلك: (هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع) (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 48 - 49)، ((الكامل)) (3/ 316 - 318)، ((البداية والنهاية)) (7/ 298 - 299). (¬2) ((البداية والنهاية)) (7/ 302 - 303، 308 - 309)، وانظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (5/ 67)، ((الكامل في التاريخ)) (3/ 329). (¬3) ذكره ابن العربي في ((العواصم من القواصم)) (ص: 174 - 176)، وانظر ((تاريخ الأمم والملوك)) (5/ 71) ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 332 - 333)، ((البداية والنهاية)) (7/ 309 - 310)، و ((مروج الذهب)) (2/ 684 - 685). (¬4) ((العواصم من القواصم)) (ص: 177).

ولم يكتف الواضعون من أهل التاريخ بهذا بل وسموا الحكمين بصفات يتخذون منها وسيلة للتفكه والتندر، وليتخذ منه أعداء الإسلام صوراً هزيلة لأعلام الإسلام في المواقف الحرجة، فقد وصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب غدر وخداع (¬1) ووصفوا أبا موسى بأنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوع في القول كما وصفوه بأنه كان على جنب كبير من الغفلة (¬2) ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضية التحكيم حيث اتفقا على خلع الرجلين فخلعهما أبو موسى واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية كل هذه الصفات الذميمة يحاول المغرضون إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين اللذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدى إلى قتل الآلاف من المسلمين وكل ذي لب يعلم أن المسلمين لا يسندون الفصل في هذا الأمر إلى أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما إلا لعلمهم بما هما عليه من الفضل، وأنهما من خيار الأمة المحمدية، ومن أكثرهم ثقة وورعاً وأمانة فكيف يصف الغافلون هذين الرجلين بما وصفوهما به من المكيدة والخداع وضعف الرأي والغفلة، ولكن تلك الأوصاف هي أليق بمن تفوه بها من أهل الأهواء، وقد تجاهل أولئك الواصفون لأبي موسى وعمرو بما تقدم ذكره أموراً لو دققوا النظر فيها لاستحيوا من ذكر تلك الأوصاف وتلك الأمور هي: الأمر الأول: أنهم تجاهلوا أن معاوية لم يكن خليفة ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه أو تثبيتها له. الأمر الثاني: أن سبب النزاع هو أخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه من قتلته فلما طلب علي البيعة من معاوية (اعتل بأن عثمان قتل مظلوماً وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد ذلك) (¬3) ومعنى هذا أن معاوية كان مسلماً لعلي بالخلافة لأنه طلب منه بوصفه الخليفة تسليم القتلة، أو إقامة الحد عليهم باعتباره أمير المؤمنين، وكان رأي علي أن يدخل معاوية ومن معه من أهل الشام فيما دخل فيه الناس من البيعة له، ثم يتقدم أولياء عثمان بالمحاكمة إليه (فإن ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه فاختلفوا بحسب ذلك) (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 70 - 71)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 332 - 333)، ((مروج الذهب)) (2/ 684 - 685). (¬2) انظر: ((تاريخ الطبري)) (5/ 70)، ((الكامل)) (3/ 332 - 333)، ((مروج الذهب)) (2/ 684 - 685). (¬3) ((فتح الباري)) (12/ 284). (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 56).

قال أبو محمد بن حزم مبيناً أن القتال الذي دار بين علي ومعاوية كان مغايراً لقتال علي الخوارج حيث قال: (وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلي المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له: كبر كبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابنا مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم في الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجراً واحداً وللمصيب أجران – إلى أن قال – وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس بمؤثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقاً بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وأن له أجرين أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً) (¬1). فابن حزم رحمة الله عليه يقرر في هذا النص أن النزاع الذي كان بين علي ومعاوية إنما هو في شأن قتلة عثمان وليس اختلافاً على الخلافة إذ أن معاوية رضي الله عنه لم ينكر فضل علي واستحقاقه للخلافة وإنما امتنع عن البيعة حتى يسلمه القتلة أو يقتلهم وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك فتحكيمهما إذن إنما هو في محل النزاع، وليس من أجل الخلافة. الأمر الثالث: أن موقف أبي موسى الأشعري في التحكيم لم يكن أقل من موقف عمرو بن العاص في شيء ولذلك عد المؤرخون المنصفون هذا الموقف من مفاخر أبي موسى بعد موته بأجيال وصار مصدر فخر لأحفاده من بعده حتى قال ذو الرمة الشاعر مخاطبا بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري بأبيات منها: أبوك تلافى الدين والناس بعدما ... تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر فشد أصار الدين أيام أذرح ... ورد حروباً قد لقحن إلى عقر (¬2) فلم يول رضي الله عنه في الفصل في قضية التحكيم إلا لما علم فيه من الفطنة والعلم وقدرته على حل المعضلات فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم هو ومعاذ بن جبل قبل حجة الوداع على بلاد اليمن حيث بعث كل واحد منهما على مخلاف وأوصاهما عليه الصلاة والسلام بأن ييسرا ولا يعسرا وأن يبشرا ولا ينفرا (¬3) وما توليته عليه الصلاة والسلام لأبي موسى إلا لعلمه بصلاحه للإمارة. ¬

(¬1) ((الفصل في الممل والنحل)) (4/ 159 - 161)، وانظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/ 306). (¬2) ((ديوان ذي الرمة)) (ص: 361 - 362)، ((معجم البلدان)) (1/ 130). (¬3) الحديث رواه البخاري (3038)، ومسلم (1733). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

قال العلامة ابن حجر رحمه الله عند شرحه لحديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن: (واستدل به على أن أبا موسى كان عالماً فطناً حاذقاً، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان، ثم علي وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه ونسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين) (¬1) فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة، وأن عمراً لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره أبو موسى ولم يخرج عما اتفقا عليه من تفويض الحسم في موضع النزاع إلى النفر الذين بقوا على قيد الحياة ممن توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم. قال ابن كثير: (والحكمان كانا من خيار الصحابة وهما: عمرو بن العاص السهمي – من جهة أهل الشام- والثاني: أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري – من جهة أهل العراق، وإنما نصبا ليصلحا بين الناس ويتفقا على أمر فيه رفق بالمسلمين وحقن لدمائهم وكذلك وقع) (¬2). وإذا كان قرارهما الذي اتفقا عليه لم يتم فما في ذلك تقصير منهما فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معاً بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها ولا أبديا رأيا فيها، وكل ما تقدم ذكره في هذا المبحث عن موقعتي الجمل وصفين وقضية التحكيم هو اللائق بمقام الصحابة فهو خال مما دسه الشيعة الرافضة وغيرهم على الصحابة في تلك المواطن من الحكايات المختلقة والأحاديث الموضوعة ومما يعجب له الإنسان أن أعداء الصحابة إذا دعوا إلى الحق أعرضوا وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم ونحن حينئذ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. موقف أهل السنة من تلك الحرب: إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وذلك من أعظم الذنوب وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم. وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال وبما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي: (1) قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9]. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (8/ 62). (¬2) ((البداية والنهاية)) (6/ 245).

ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله – عز وجل – مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم وإذا كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك من الإيمان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الإيمان الذي ذكر في هذه الآية فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيماناً ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد (¬1). (2) روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان وتكون بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة)) (¬2). فالمراد بالفئتين جماعة علي وجماعة معاوية، والمراد بالدعوة الإسلام على الراجح وقيل المراد اعتقاد كل منهما الحق (¬3). (3) وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق)) (¬4) والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معاً بأنهما مسلمتان وأنهما متعلقتان بالحق. والحديث علم من أعلام النبوة (إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) (¬5) (¬6). (4) وروى البخاري بإسناده إلى أبي بكرة قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)) (¬7). ففي هذا الحديث شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام ولذا كان يقول سفيان بن عيينة: (قوله: فئتين من المسلمين يعجبنا جداً) (¬8) قال البيهقي: (وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهما جميعاً مسلمين وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان) (¬9). ¬

(¬1) انظر: ((العواصم من القواصم)). (¬2) رواه أحمد (2/ 313) (8121)، والبخاري (7121)، ومسلم (157). (¬3) ((فتح الباري)) (12/ 303). (¬4) رواه أحمد (3/ 32) (11293)، مسلم (1064). (¬5) رواه البخاري (7352). (¬6) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 305). (¬7) رواه البخاري (3629). (¬8) ((السنن الكبرى)) للبيهقي (8/ 173)، و ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (13/ 233). (¬9) ((الاعتقاد للبيهقي)) (ص: 198)، وانظر: ((فتح الباري)) (13/ 66).

فهذه الثلاثة الأحاديث المتقدم ذكرها كلها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أمته (¬1). كما وصفهم بأنهم جميعاً متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم رضي الله عنهم أجمعين فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأولون وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي رضي الله عنه فقد شهد للفريقين بالحسنى فقد روى ابن جرير الطبري (أن علياً لما وصل البصرة خطب الناس فقام إليه أبو سلامة الدالاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله – عز وجل – بذلك قال: نعم قال: فترى لك حجة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم إن الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمه نفعاً قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو ألا يقتل أحد نقى قلبه الله إلا أدخله الله الجنة) (¬2). وروى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن علي – المعروف بابن الحنفية – قال: قال علي: (إني لأرجو أن أكون وطلحة والزبير من الذين قال الله – عز وجل -: وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر:47]) (¬3). كما شهد رضي الله عنه بالحسنى للقتلى من الفريقين في موقعة صفين: فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده إلى يزيد بن الأصم قال: (سئل علي عن قتلى يوم صفين فقال: قتلانا وقتلاهم في الجنة) (¬4). وشهادة علي رضي الله عنه للقتلى من الفريقين بالجنة شهادة حق وصدق لأن الباري – جل وعلا – أخبر بأنه وعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ووعده – سبحانه – حق وصدق لا خلف فيه. ¬

(¬1) روى مسلم في صحيحه (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((يكون في أمتي فرقتان؛ فيخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم أولاهم بالحق)). (¬2) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 496)، ((الكامل لابن الأثير)) (3/ 337 - 338)، ((البداية والنهاية)) (7/ 261). (¬3) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 113)، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (ص: 195). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (15/ 303)، وأورده الذهبي في كتابه ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 144).

قال تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوعد فيها بالجنة لجميعهم رضي الله عنهم فكل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية صادقة ولو ساعة واستمر على الإيمان حتى مات فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أن الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا لا يلحقون من أسلم وقاتل قبل الفتح في المرتبة وعلو الدرجة وكلاً وعد الله الجنة ورضي عنهم ومن كمال ورع علي رضي الله عنه أنه لم ينسب أحداً إلى الشرك أو إلى النفاق ممن قاتله من أهل القبلة بل كان يقول رضي الله عنه (هم إخواننا بغوا علينا) (¬1) ذلك هو معتقد علي رضي الله عنه في قتلى الصحابة رضي الله عنهم في موقعتي الجمل وصفين فقد شهد للقاتل والمقتول منهم بالجنة لأنهم لم يقصدوا بقتالهم إلا الحق والاجتهاد ولم يكونوا مقاتلين لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لدافع الحقد حاشاهم من كل ذلك وقد ثبت كذلك أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ترحمت على من قاتلها يوم الجمل أو قتل معها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد ذكر ابن الأثير: (أنها رضي الله عنها لما كانت بالبصرة بعد وقعة الجمل سألت يومئذ عمن قتل من الناس معها ومنهم عليها والناس عندها فكلما نعي واحد من الجميع قالت: يرحمه الله فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلان في الجنة، وفلان في الجنة)) (¬2).) (¬3). وقولها رضي الله عنها: فلان في الجنة، وفلان في الجنة تعني بذلك من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وسماه مثل طلحة والزبير رضي الله عنهما. ولقد تقدم معنا أن علياً رضي الله عنه تصرف فيما خلفه القتلى في يوم الجمل تصرفاً يدل على أن تلك الحرب لم تكن بين مسلمين وغير مسلمين وإنما هي حرب بين فريقين من المسلمين يرى كل فريق منهما أن الحق في جانبه حيث جمع كل مخلفات موقعة الجمل وبعث بها إلى مسجد البصرة وقال: (من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان) (¬4). ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (15/ 332). (¬2) ذكره سيف بن عمر الضبي في ((الفتنة ووقعة الجمل)) (ص: 177)، والطبري في ((تاريخ الأمم والملوك)) (3/ 57)، وابن الأثير في ((الكامل)) (3/ 258)، والنويري في ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) (20/ 50). ولم أقف على لفظه مسنداً. (¬3) ((الكامل في التاريخ)) (3/ 257 - 258). (¬4) انظر: ((تاريخ ابن جرير الطبري)) (4/ 538)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 55)، ((البداية والنهاية)) (7/ 267).

وصلى على جميع القتلى من الفريقين ودفن كثيراً منهم في قبر كبير (¬1) كل عمله هذا دل على إيمانه أنهم جميعاً كانوا يقاتلون اجتهاداً لا عناداً ولا شهوة، ولا شفاء خصومة كانت بينهم رضي الله عنهم أجمعين ومما ينبغي أن يعلم أن شهادة علي رضي الله عنه بالجنة للقتلى من الفريقين كما تقدم لا يدخل فيها من مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان كما لا يعد من إحدى الطائفتين اللتين وصفتا بأنهما متعلقتان بالحق وإن قاتل معها والتحق بها لأن الذين تلوثت أيديهم ونياتهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان – كائناً من كانوا – استحقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع ولي الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع وفي حالة عدم استطاعته، فإن مواصلتهم تسعير نار الحرب بين صالحي المسلمين كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها يعد إصراراً منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على ذلك، فإذا قال أهل السنة والجماعة: إن الطائفتين كانتا على الحق فإنما يريدون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في الطائفتين ومن سار معهم على سنته صلى الله عليه وسلم من التابعين. فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهو الإمساك عما حصل بينهم رضي الله عنهم ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم. وكتب أهل السنة مملؤة ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك الصفوة المختارة وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها. (1) سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي بين الصحابة فقال: (تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر منها لساني مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها) (¬2). قال البيهقي معلقاً على قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: (هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب) (¬3). والمسلم مطلوب منه أن يتحرز من الوقوع في الخطأ، والحكم على بعض الصحابة بما لا يكون مصيباً فيه. (2) قال عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله تعالى في المقتتلين من الصحابة: (هم أهل الجنة لقي بعضهم بعضاً فلم يفر أحد من أحد) (¬4). (3) سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال: (قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا) (¬5). ومعنى قول الحسن هذا: (أن الصحابة كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا وما علينا إلا أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه، ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله – عز وجل – إذ كانوا غير متهمين في الدين) (¬6). (4) سئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقوله: (أقول ما قال الله: عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي في كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [طه: 52]) (¬7). ¬

(¬1) انظر: ((تاريخ الطبري)) (4/ 538). (¬2) ((مناقب الشافعي)) للرازي (ص: 136)، و ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 69) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (16/ 122)، ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (5/ 394). (¬3) ذكره عنه الرازي في ((مناقب الشافعي)) (ص: 136). (¬4) ذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 303). (¬5) ذكره القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (16/ 332). (¬6) ذكره القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (16/ 332). (¬7) ذكره الباقلاني في كتابه ((الإنصاف)) (ص: 69).

(5) قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية قال: (ما أقول فيهم إلا الحسنى) (¬1). (6) وقال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله وذكر له أصحاب رسول الله فقال: (رحمهم الله أجمعين ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري والمغيرة كلهم وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29]) (¬2). (7) قال إبراهيم بن آزر الفقيه: (حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال: اقرأ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [البقرة: 141]) (¬3). (8) وقال أبو الحسن الأشعري: (فأما ما جرى بين علي والزبير وعائشة رضي الله عنهم فإنما كان على تأويل واجتهاد، وعلي الإمام وكلهم من أهل الاجتهاد وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة والشهادة فدل على أنهم كلهم على حق في اجتهادهم وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان على تأويل واجتهاد، وكل الصحابة أئمة مأمونون غير متهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم وتعبدنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم والتبري ممن ينقص أحداً منهم رضي الله عن جميعهم) (¬4). (9) وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يذكروا به فقال: (وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس – لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب) (¬5). (10) وقال أبو نعيم الأصبهاني مبيناً حق الصحابة على المسلمين بعدهم وما يجب عليهم نحوهم: (فالواجب على المسلمين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار ما مدحهم الله تعالى به وشكرهم عليه من جميل أفعالهم وجميل سوابقهم وأن يغضوا عما كان منهم في حال الغضب والإغفال وفرط منهم عند استزلال الشيطان إياهم ونأخذ في ذكرهم بما أخبر الله تعالى به فقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر: 10] الآية فإن الهفوة والزلل والغضب والحدة والإفراط لا يخلو منه أحد وهو لهم مغفور ولا يوجب ذلك البراءة منهم ولا العداوة لهم ولكن يحب على السابقة الحميدة ويتولى للمنقبة الشريفة) (¬6). (11) وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: (ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم) (¬7) اهـ. ¬

(¬1) ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 164)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (18/ 89). (¬2) ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 126). (¬3) رواه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (6/ 44)، وابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 94)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (59/ 141)، وابن الجوزي في ((مناقب الإمام أحمد)) (ص: 126). (¬4) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 78). (¬5) ((الرسالة)) (ص: 9). (¬6) ((الإمامة والرد على الرافضة)) (ص: 343). (¬7) ((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) (ص: 268).

(12) قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: (ويجب أن يعلم: أن ما جرى بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ونترحم على الجميع ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان ونعتقد أن علياً عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران، وأن الصحابة رضي الله عنهم إن ما صدر منهم كان باجتهاد فلهم الأجر ولا يفسقون ولا يبدعون والدليل عليه قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) (¬1) فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويدل على صحة هذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم للحسن عليه السلام: ((إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (¬2) فأثبت العظم لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهم بصحة الإسلام وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]) إلى أن قال: (ويجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم والسكوت عنه) اهـ) (¬3). (13) وقال أبو عثمان الصابوني في صدد ذكره لعرض عقيدة السلف وأصحاب الحديث: (ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم) (¬4). (14) وقال أبو الوليد بن رشد المالكي: (كلهم محمود على ما فعله، القاتل منهم والمقتول في الجنة فهذا الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما شجر بينهم لأن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله فقال عز من قائل: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143] أي: خياراً عدولاً ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عشرة من قريش في الجنة)) (¬5) فسمى فيهم علياً وطلحة والزبير والذي يقول أئمة أهل السنة والحق: إن علياً رضي الله عنه ومن اتبعه كانوا على الصواب والحق، وإن طلحة والزبير كانا على الخطأ إلا أنهما رأيا ذلك باجتهادهما فكان فرضهما ما فعلاه إذ هما من أهل الاجتهاد ... ) إلى أن قال: (والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي وأخطأ طلحة والزبير هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده ولطلحة والزبير أجر لاجتهادهما وبالله التوفيق) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (7352). (¬2) رواه البخاري (2704). (¬3) ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 67 - 69). (¬4) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 129). (¬5) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 351)، والخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (4/ 97)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (7/ 118). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 224): رواه الطبراني في الثلاثة رجاله رجال الصحيح غير حامد بن يحيى البلخي وهو ثقة، ولهذا الحديث طرق في مناقب جماعة من الصحابة. (¬6) ((البيان والتحصيل)) (16/ 360 - 361).

(15) وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى: (لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله – عز وجل – وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم (¬1) وأن الله غفر لهم وأخبر بالرضا عنهم هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض)) (¬2) فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيراً في الواجب عليه لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة فوجب حمل أمرهم على ما بيناه ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار (¬3)، وقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بشر قاتل ابن صفية بالنار)) (¬4) وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا آثمين بالقتال لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة (شهيد) ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل بل صواب أراهم الله الاجتهاد وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم وإبطال فضائلهم وجهادهم وعظيم عنائهم في الدين رضي الله عنهم) اهـ (¬5). ¬

(¬1) حديث النهي رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه الترمذي (3739)، والحاكم (3/ 424). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الصلت وقد تكلم بعض أهل العلم في الصلت بن دينار وفي صالح بن موسى من قبل حفظهما، وقال الحاكم: تفرد به الصلت بن دينار وليس من شرط هذا الكتاب، وقال الذهبي في ((التلخيص)): الصلت واه، والحديث صححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه أحمد (1/ 89) (681)، والحاكم (3/ 414)، والطيالسي (ص: 24)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1388)، والطبراني (1/ 123) (243)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 206). وقال: صحيح ثابت، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 264): رواه أحمد وغيره من طريق زر بن حبيش عن علي بإسناد صحيح. (¬4) لم أقف عليه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. رواه أحمد (1/ 89) (681)، والحاكم (3/ 414)، والطيالسي (ص: 24)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1388)، والطبراني (1/ 123) (243)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 206). وقال: صحيح ثابت، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 264): رواه أحمد وغيره من طريق زر بن حبيش عن علي بإسناد صحيح. (¬5) ((الجامع لأحكام القرآن)) (16/ 321 - 322).

(16) وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) (¬1) (واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه لاجتهاد والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه وكان علي رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب هذا مذهب أهل السنة وكانت القضايا مشتبهة حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا ولم يتيقنوا الصواب، ثم تأخروا عن مساعدته منهم) اهـ (¬2). وقال في موضع آخر مبيناً سبب الحروب التي وقعت بين الصحابة: (واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده. وقسم: عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه. وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك) (¬3) وهذا هو التفسير الصحيح لمواقف الصحابة رضي الله عنهم في تلك الحروب وهو اللائق بحالهم رضي الله عنهم. (17) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: (ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون) (¬4) اهـ. (18) وقال الإمام الذهبي: ( ... تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفوا القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى حيث يقول: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر: 10] فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم وجهاد محاء وعبادة ممحصة) (¬5). (19) وقال الحافظ ابن كثير: (أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع عن غير قصد كيوم الجمل ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين والاجتهاد يخطئ ويصيب ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً: وأما المصيب فله أجران اثنان) (¬6). ¬

(¬1) رواه البخاري (31)، ومسلم (2888). من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (¬2) ((شرح النووي)) (18/ 11). (¬3) ((شرح النووي)) (18/ 11). (¬4) ((العقيدة الواسطية مع شرحها)) لمحمد خليل هراس (ص: 173). (¬5) ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 92). (¬6) ((الباعث الحثيث)) (ص: 182).

(20) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حاكياً على وجوب المنع من الطعن على واحد من الصحابة بسبب ما حصل بينهم ولو عرف المحق منهم حيث قال: (واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين) (¬1). فهذه طائفة من كلام أكابر علماء أهل السنة والجماعة تبين منها الموقف الواجب على المسلم أن يقف من الآثار المشتملة على نيل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بسبب ما وقع بينهم من شجار وخلاف ومقاتلة خاصة في حرب الجمل بين الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن معهم. وأيضاً في حرب صفين بين علي ومعاوية وهو صيانة القلم واللسان عن ذكر ما لا يليق بهم وإحسان الظن بهم والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم واعتقاد أنهم مجتهدون والمجتهد مغفور له خطؤه إن أخطأ، وأن الأخبار المروية في ذلك منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه حتى تحرف عن أصله وتشوه، كما تبين من هذه النقول المتقدم ذكرها أن عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فيما شجر بينهم هو الإمساك، ومعنى الإمساك عما شجر بينهم وهو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ونشر ذلك بين العامة أو التعرض لهم بالتنقص لفئة والانتصار لأخرى وقد تقدم معنىً قريباً من قول الذهبي رحمه الله تعالى بأن كثيراً مما حدث بين الصحابة من شجار وخلاف ينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه وأن كتمان ذلك متعين على العامة بل آحاد العلماء لأنه لا مصلحة شرعية ولا علمية من وراء نشر ذلك، أما من ناحية النظر العلمي المستقيم المهتدي بنصوص الشريعة فإن البحث في هذا الموضوع لا يمتنع إذا قصد به تبين أحكام الشريعة وما كان ذكر العلماء المعتبرين للحروب والخلافات التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم إلا على هذا السبيل، أو لبيان المواقف الصحيحة، وتصحيح الأغاليط التاريخية التي أثيرت حول مواقفهم في تلك الحروب رضي الله عنهم فعلى المسلم أن يعتقد فيما صح مما جرى بين الصحابة من خلاف أنهم فيه مجتهدون، إما مصيبون فلهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون فلهم أجر الاجتهاد، وخطؤهم مغفور وهم ليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم، وقد وعدوا من الله بالمغفرة والرضوان، كما أنه يجب على كل مسلم أن يكون لسانه رطباً بالذكر الحسن والثناء الجميل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاول جهده في ذكر محاسنهم العظيمة وسيرتهم الحميدة ويتجنب ذكر ما شجر بينهم، هذه طريقة الصدر الأول من هذه الأمة والتي اتخذها أهل السنة والجماعة منهاجاً في موقفهم نحو الصحابة رضي الله عنهم جميعاً. قال العوام بن حوشب: (أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة بعضهم يقول لبعض: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأتلف عليها القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرشوا الناس عليهم) (¬2). وبعبارة أخرى أنه قال: (أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم) (¬3). فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر محاسنهم رضي الله عنهم وأرضاهم. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 700 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (13/ 34). (¬2) ((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) لابن بطة (ص: 165). (¬3) ذكره القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (18/ 33).

المطلب الخامس: الدعاء والاستغفار لهم

المطلب الخامس: الدعاء والاستغفار لهم من حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم على كل من جاء بعدهم من عباد الله المؤمنين أن يدعو لهم ويستغفر لهم، ويترحم عليهم، لما لهم من القدر العظيم، ولما حازوه من المناقب الحميدة، والسوابق القديمة، والمحاسن المشهورة، ولما لهم من الفضل الكبير على كل من أتى بعدهم، فهم الذين نقلوا إلى من بعدهم الدين الحنيف الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ففضلهم مستمر على كل مسلم جاء بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد ندب الله – جل وعلا – كل من جاء بعدهم من أهل الإيمان إلى أن يدعو لهم، ويترحم عليهم، وأثنى على من استجاب منهم لذلك بقوله – جل وعلا -: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10] فالآية مشتملة على بيان موقف أهل الإيمان ممن تقدمهم من الصحابة، فقد بين –تعالى- أن موقفهم من أولئك الصفوة أنهم يثنون عليهم، ويدعون لهم ابتهاجاً بما آتاهم الله من الفضل وغبطة لهم فيما وفقوا له من الأعمال المصحوبة بالإخلاص واليقين، وهذا الموقف المبارك ينطبق على أهل السنة والجماعة، فقد وفقهم الله للثناء الجميل والقول الحسن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين يترضون عنهم جميعاً ويستغفرون لهم، وحرم هذا الموقف العظيم الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم سبهم وبغضهم والحقد عليهم، وهذا خذلان أيما خذلان، أعاذنا الله منه. وقد فهم متقدموا أهل السنة والجماعة ومتأخروهم أن المراد من الآية السابقة الأمر بالدعاء والاستغفار من اللاحق للسابق، ومن الخلف للسلف، الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك طائفة من أقوالهم التي دلت على عمق معرفتهم بما دل عليه كتاب ربهم جل وعلا: (1) روى الإمام مسلم بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت لي عائشة: (يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم) (¬1). (2) وعند ابن أبي شيبة بلفظ: (أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم) (¬2). (3) وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم) (¬3)، (قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا: وأهل الشام في علي ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا: وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر: 10] وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله عنهم لأن الله –تعالى- إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر الله لهم والله أعلم) (¬4). (4) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون) (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم (3022). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (12/ 179)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1033)، قال الألباني في تخريجه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) رواه ابن أبي حاتم (10/ 3347) (18857). وانظر: ((الدر المنثور)) (8/ 113). (¬4) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (18/ 158 - 159). (¬5) ((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) لابن بطة (ص: 119)، وأورده القرطبي في تفسيره (18/ 33).

(5) ذكر الإمام البغوي رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية. عن مالك بن مغول قال: قال عامر بن شراحيل الشعبي: (يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم، فقالت: أصحاب موسى عليه السلام، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم، فقالوا: حواري عيسى عليه السلام، وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم، فقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم، أعاذنا الله وإياكم من الفتن المضلة) (¬1). (6) وروى أبو نعيم بإسناده إلى عمر بن ذر، قال: (أقبلت أنا وأبي دار عامر، فقال له أبي: يا أبا عمر، قال: لبيك، قال: ما تقول فيما قال فيه الناس من هذين الرجلين، قال عامر: أي هذين الرجلين؟ قال: علي وعثمان، قال: إني والله لغني أن أجيء يوم القيامة خصيماً لعلي وعثمان رضي الله تعالى عنهما وغفر لنا ولهما) (¬2). (7) أخرج عبد بن حميد عن الضحاك بن مزاحم رحمه الله تعالى، أنه قال في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية: (أمروا بالاستغفار لهم وقد علم ما أحدثوا) (¬3). (8) وأخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي أنه قال بعد قراءته لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية: (إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمروا بسبهم) (¬4). فهذه جملة صالحة من أقوال السلف الصالح كلها دلت على أن كل من جاء بعد الرعيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم مأمور بالدعاء والاستغفار لهم، والترحم عليهم، وأنه يجب على كل مسلم أن يطهر قلبه من الغل والحقد عليهم، وقد استنبط أهل العلم من الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء أهل السنة والجماعة أن من لم يستغفر لهم وكان في قلبه غل عليهم أنه بعيد من أهل الإسلام، ولا حظ له في الفيء وما يغنمه المسلمون. (9) أخرج ابن مردويه عن ابن عمر (أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الآية .. ثم قال: هؤلاء المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: لا ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء) (¬5). (10) وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عمر (أنه بلغه أن رجلاً نال من عثمان، فدعاه، فأقعده بين يديه، فقرأ عليه لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الآية، قال: من هؤلاء أنت؟ قال: لا، ثم قرأ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ الآية، قال: من هؤلاء أنت؟ قال: أرجو أن أكون منهم، قال: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم وكان في قلبه الغل عليهم) (¬6). ولم يذكر الآية الواردة في الأنصار لكون الرجل تناول عثمان رضي الله عنه وهو من المهاجرين. ¬

(¬1) ((تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن)) (7/ 54)، وذكره القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) (18/ 33)، وانظر: ((منهاج السنة)) (1/ 6 - 7)، ((شرح الطحاوية)) (ص: 531 - 532). (¬2) ((حلية الأولياء)) (4/ 321)، ورواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (12/ 179). (¬3) ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور)) (8/ 113). (¬4) ((جامع البيان)) للطبري (28/ 44 - 45). (¬5) ((الدر المنثور في التفسير المنثور)) (8/ 113 - 114). (¬6) ((الدر المنثور في التفسير المنثور)) (8/ 113 - 114).

(11) روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر، قال: حدثنا عبد الله بن زيد عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: (الناس على ثلاث منازل، فمضت منزلتان، وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذا المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت، ثم قرأ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9]، ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت، ثم قرأ: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]، فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا لهم) (¬1). ولا يتردد من له أدنى علم في أن الشيعة الرافضة خارجون من هذه المنزلة لأنهم لم يترحموا على الصحابة ولم يستغفروا لهم بل سبوهم وحملوا لهم الغل في قلوبهم، فحرموا من تلك المنزلة التي يجب على المسلم أن يكون فيها ولا يحيد عنها بحال حتى يلقى ربه -جل وعلا-. (12) وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [الحشر: 7] حتى أتى على هذه الآية لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ [الحشر: 8] وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ [الحشر: 9] وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ إلى قوله رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]) (¬2). (13) وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: (قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يعني: التابعين إلى يوم القيامة. قال الزجاج: والمعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] أي: الذين جاءوا في حال قولهم رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا [الحشر: 10] فمن ترحم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ من فيء المسلمين بنص الكتاب) (¬3) اهـ. ¬

(¬1) لم أقف على هذا الأثر في ((الإبانة الصغرى))، ولعله ذكره في ((الإبانة الكبرى)). (¬2) انظر قول مالك في ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/ 1778)، ((زاد المسير في علم التفسير)) (8/ 216)، ((تفسير البغوي)) (7/ 54)، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (18/ 32)، وانظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 609). (¬3) ((زاد المسير في علم التفسير)) (8/ 216).

(14) وقال البغوي رحمه الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة ... ) –إلى أن قال-: (فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية، لأن الله –تعالى- رتب المؤمنين على ثلاثة منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً من أقسام المؤمنين. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجاً من هذه المنازل) (¬1). (15) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر آيات الحشر الثلاث من قوله تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ [الحشر: 8] إلى قوله: رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]. قال رحمه الله: (وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء، ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة، فإنهم لم يستغفروا للسابقين وفي قلوبهم غل عليهم، ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتلونهم وإخراج الرافضة من ذلك، وهذا ينقض مذهب الرافضة) (¬2). (16) وقال الحافظ ابن كثير: (قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر: 10] الآية .. هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان، كما قال في آية براءة: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة: 100]. فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ [الحشر: 10] أي: قائلين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا أي: بغضاً وحسداً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10] وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قوله رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]) (¬3) اهـ. ¬

(¬1) ((تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن)) (7/ 54). (¬2) ((منهاج السنة)) (1/ 153)، وانظر: ((شرح الطحاوية)) (ص: 529). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 609).

(17) وقال الشوكاني رحمه الله تعالى بعد أن ذكر قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] الآية: (أمرهم الله –سبحانه- بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله –سبحانه- أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله – سبحانه – والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلقة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور فاشتروا الضلالة بالهدى واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر والله من ورائهم محيط) (¬1) اهـ. فهذه النصوص التي سقناها في هذا المبحث عن المتقدمين والمتأخرين من أهل السنة والجماعة كلها تبين أنهم هم الفائزون بسلامة الصدور من الغل والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يعتقدون أن من حق الصحابة الكرام على من بعدهم الترحم عليهم والاستغفار لهم فأهل السنة والجماعة يترحمون على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم أولهم وآخرهم، ويذكرون محاسنهم وينشرون فضائلهم ويقتدون بهديهم ويقتفون آثارهم، ويعتقدون أن الحق في كل ما قالوه والصواب فيما فعلوه (¬2). فمن لم يترحم على الصحابة ويستغفر لهم فهو ليس من أهل السنة والجماعة وليس له حظ في شيء من فيء المسلمين. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 766 ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (5/ 202). (¬2) انظر: ((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) لابن بطة (ص: 264 - 265).

المطلب السادس: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم

المطلب السادس: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم من عقائد أهل السنة والجماعة أنهم يشهدون لمن شهد له المصطفى صلى الله عليه وسلم بالجنة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم فهناك أشخاص أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة، وهناك آخرون أخبر ببعض النعيم المعد لهم في الجنة، وكل ذلك شهادة منه صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة، وسواء ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم الشخص من أهل الجنة أو أخبر أن له كذا أو مكانته في الجنة كذا أو أخبر أنه رآه في الجنة الكل يشهد له أهل السنة والجماعة بالجنة تصديقاً منهم لخبر الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن عشرة من المهاجرين بأنهم في الجنة وسماهم بأعيانهم وبشرهم بها أولئك العشرة هم: (1) أبو بكر: عبد الله بن عثمان الصديق الأكبر. (2) أبو حفص: عمر بن الخطاب. (3) أبو عبد الله: عثمان بن عفان. (4) أبو الحسن: علي بن أبي طالب. (5) أبو محمد: طلحة بن عبيد الله. (6) أبو عبد الله: الزبير بن العوام. (7) أبو إسحاق: سعد بن أبي وقاص. (8) أبو محمد: عبد الرحمن بن عوف. (9) أبو عبيدة: عامر بن عبد الله بن الجراح. (10) أبو الأعور: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. وهؤلاء العشرة رضي الله عنهم انتظم تبشيرهم بالجنة حديث واحد. روى الإمام الترمذي وغيره عن سعيد بن زيد ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص – قال: فعد هؤلاء التسعة، وسكت عن العاشر، فقال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله أبو الأعور في الجنة)) (¬1). هؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة رضي الله عنهم وكلهم من المهاجرين وتبشير العشرة هؤلاء بالجنة لا ينافي تبشير غيرهم، فقد جاء تبشير غيرهم في غير ما خبر، ولأن العدد في الحديث لا ينفي الزائد وممن بشر بالجنة سوى هؤلاء العشرة كثير منهم:- (11) بلال بن رباح: بلال بن رباح الحبشي المؤذن واسم أمه حمامة اشتراه أبو بكر الصديق من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم النبي صلى الله عليه وسلم، وأذن له، شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخى بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، خرج رضي الله عنه مجاهداً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مات بالشام زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد بشر رضي الله عنه بالجنة في غير ما حديث، فقد روى البخاري رحمه الله من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال)) (¬2). وعند مسلم بلفظ: (( .... ثم سمعت خشخشة أمامي فإذا بلال)) (¬3). وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الغداة: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة، فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة، قال بلال: ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي)) (¬4). (12) زيد بن حارثة: ¬

(¬1) رواه الترمذي (3748). قال المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (9/ 255): [له طرق]، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه البخاري (3679). (¬3) رواه البخاري (2457). (¬4) رواه مسلم (2458).

هو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي بن عبد العزى بن زيد بن امرئ القيس وزيد هذا هو والد أسامة بن زيد الحب ابن الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدعى زيد بن محمد حتى نزلت ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب: 5]، استشهد في مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة رضي الله عنه. ومما جاء في بشارته بالجنة ما أخرجه ابن عساكر عن زيد بن الحباب: حدثني حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت الجنة فاستقبلتني جارية شابة، فقلت: لمن أنت؟ قالت: أنا لزيد بن حارثة)) (¬1). فهذا الحديث اشتمل على منقبة ظاهرة لزيد بن حارثة حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحد الذين رأى لهم بعض النعيم المعد لهم في الجنة. (13) حاطب بن أبي بلتعة: هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي من ولد لخم بن عدي، يكنى أبا عبد الله، وقيل يكنى أبا محمد واسم أبي بلتعة عمرو بن راشد بن معاذ اللخمي، حليف قريش، ويقال: إنه من مذجح، وقيل: هو حليف للزبير بن العوام، وهو من أهل اليمن، والأكثر أنه حليف لبنى أسد بن عبد العزى، شهد بدراً والحديبية، ومات سنة ثلاثين بالمدينة، وهو ابن خمس وستين سنة وصلى عليه ذو النورين عثمان. وقد جاء النص عليه في أنه من أصحاب الجنة، وممن يقطع له بدخولها فيما رواه مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه ((أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية)) (¬2). فهذا الحديث تضمن فضيلة لأهل بدر والحديبية على وجه العموم ولحاطب على وجه الخصوص، حيث نص عليه باسمه أنه من أهل الجنة وأن النار لا تمسه رضي الله عنه وأرضاه. (14) عكاشة بن محصن: هو عكاشة بن محصن بن حرثان بن مرة بن بكير بن غنم بن دودان بن أسيد بن خزيمة الأسدي حليف بني عبد شمس من السابقين الأولين البدريين أهل الجنة، قتل شهيداً في قتال أهل الردة زمن أبي بكر الصديق قتله طليحة بن خويلد الأسدي الذي ادعى النبوة وقد هداه الله – عز وجل – فرجع إلى الإسلام. شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة. فقد روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر. فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا هكذا، فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فتفرق الناس، ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن، فقال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم، فقام آخر، فقال: أمنهم أنا؟ فقال: سبقك بها عكاشة)) (¬3). ¬

(¬1) رواه ابن أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (1/ 198) (256)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (19/ 371). قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (1/ 230): إسناده حسن، وصحح إسناده على شرط مسلم الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1859). (¬2) رواه مسلم (2495). (¬3) رواه البخاري (5705).

وعند الإمام مسلم من حديث عمران بن حصين، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم)) (¬1). فهذان الحديثان فيهما منقبة ظاهرة لعكاشة بن محصن رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من المقطوع لهم بدخول الجنة. (15) سعد بن معاذ: هو أبو عمرو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن النبيت بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهلي سيد الأوس، وأمه كبشة بنت رافع، لها صحبة، أسلم رضي الله عنه بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية على يدي مصعب بن عمير، ثم كان سبباً في إسلام قومه كلهم، شهد بدراً، وأحداً، والخندق، ورمي يوم الخندق بسهم فعاش بعد ذلك شهراً حتى حكم في بني قريظة حكمه المشهور الذي وافق فيه حكم الله من فوق سبع سماوات، وبعد ذلك مات بسبب انتقاض جرحه وذلك سنة خمس. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم ببعض ما أعد الله له في الجنة من النعيم، قد روى الشيخان من حديث البراء رضي الله عنه، قال: ((أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال: تعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين)) (¬2). ورويا أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه، قال: ((أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال: والذي نفس محمد بيده إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا)) (¬3). ففي هذين الحديثين: إشارة إلى عظيم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها التي هي المناديل خير من تلك الجبة التي أثارت العجب في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المنديل أدنى الثياب، فغيره أفضل، وفيهما إثبات الجنة لسعد بن معاذ رضي الله عنه (¬4). (16) ثابت بن قيس بن شماس: هو: ثابت بن قيس بن شماس بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، وأمه امرأة من طيئ، يكنى أبا محمد بابنه محمد، وقيل: أبا عبد الرحمن، كان رضي الله عنه خطيب الأنصار، ويقال له: خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وقتل يوم اليمامة شهيداً في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقد وردت بشارته بالجنة فيما رواه البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة)) (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم (218). (¬2) رواه البخاري (3802)، ومسلم (2468). (¬3) رواه البخاري (2615)، ومسلم (2469). (¬4) انظر ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (16/ 23). (¬5) رواه البخاري (4846).

وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك، أنه قال: ((لما نزلت هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] إلى آخر الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمر، وما شأن ثابت؟ أشتكى؟ قال سعد: إنه لجاري وما علمت له بشكوى، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو من أهل الجنة)) (¬1). وفي رواية أخرى له عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية. واقتص الحديث (¬2) ولم يذكر سعد بن معاذ، وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة (¬3). هذه الأحاديث تضمنت منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من أهل الجنة رضي الله عنه وأرضاه. (17) حارثة بن سراقة: هو حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري، أمه الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك، شهد بدراً، وقتل يومئذ شهيداً، قتله حبان بن العرقة بسهم وهو يشرب من الحوض، وكان خرج نظاراً يوم بدر ورماه فأصاب حنجرته فقتله، وهو أول قتيل قتل ببدر من الأنصار (¬4). وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى أنس رضي الله عنه، قال: ((أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي؟ إنها جنات كثيرة، وإنه في جنة الفردوس)) (¬5). وروى أيضاً: بإسناده إلى أنس بن مالك ((أن أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة – وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب – فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)) (¬6). في هذين الحديثين منقبة ظاهرة لحارثة بن سراقة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أمه بأنه في الجنة وأنه أصاب من الجنان أعلاها، وهي الفردوس. (18) حارثة بن النعمان: هو: حارثة بن النعمان بن نقع بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري، يكنى أبا عبد الله، شهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من فضلاء الصحابة، توفي رضي الله عنه في خلافة معاوية بن أبي سفيان. ¬

(¬1) رواه مسلم (119). (¬2) رواه مسلم (119). (¬3) رواه مسلم (119). (¬4) انظر: ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (2/ 17)، وابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (3/ 254)، و ((الاستيعاب)) لابن عبدالبر (ص: 91)، ((تاريخ دمشق)) (38/ 255). (¬5) رواه البخاري (6550). (¬6) رواه البخاري (2809).

وحارثة هذا وردت بشارته بالجنة فيما صح من الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نمت فرأيتني في الجنة فسمعت صوت قارئ يقرأ فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذاك البر كذاك البر، وكان أبر الناس بأمه)) (¬1). ورواه أبو عبد الله الحاكم بلفظ: ((دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلكم البر كذلكم البر)) (¬2). قال الطيبي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((كذلكم البر كذلكم البر)): (المشار إليه ما سبق والمخاطبون الصحابة، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم رأى هذه الرؤيا وقصها على أصحابه، فلما بلغ إلى قوله النعمان نبههم على سبب نيل تلك الدرجة بقوله ((كذلكم البر))، أي: حارثة، نال تلك الدرجة بسبب البر وموقع هذه الجملة التذييل كقوله تعالى: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34]، وفيه من المبالغة أنه جعل جزاء البر براً، وعرف الخبر بلام الجنس تنبيهاً على أن هذه الدرجة القصوى لا تنال إلا ببر الوالدين والتكرار للاستيعاب) (¬3). اهـ. (19) عبد الله بن سلام: هو: عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف من ذرية يوسف بن يعقوب صلى الله عليه وسلم، كان حليفاً للأنصار، وهو أحد أحبار اليهود أسلم رضي الله عنه حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان اسمه في الجاهلية الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، توفي بالمدينة في خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين. أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة. روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ((ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأحقاف: 10] الآية)) (¬4). ورويا أيضاً – عن قيس بن عباد، قال: ((كنت جالساً في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج، وتبعته، فقلت إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لم ذاك رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة ذكر من سعتها وخضرتها وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة فقيل له: ارقه، قلت: لا أستطيع فأتاني منصف فرفع ثيابي من خلفي فرقيت حتى كنت في أعلاها فأخذت العروة فقيل له: استمسك فاستيقظت وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت. وذاك الرجل عبد الله بن سلام)) (¬5). ¬

(¬1) رواه أحمد (6/ 151) (25223). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، وصححه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1555). (¬2) رواه الحاكم (3/ 229). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (1/ 298): إسناده صحيح، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (913): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) ذكره عنه المناوي في ((فيض القدير)) (3/ 519). (¬4) رواه البخاري (3812)، ومسلم (2483). (¬5) رواه البخاري (3813)، ومسلم (2484).

وفي (سنن الترمذي) من حديث طويل عن معاذ بن جبل، قال: ((إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – أي في ابن سلام – إنه عاشر عشرة في الجنة)) (¬1). هذه الأحاديث تضمنت الشهادة بالجنة لعبد الله بن سلام وأنه من المقطوع لهم بها. قال ابن كثير في ترجمة عبد الله بن سلام: (وهو ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو ممن يقطع له بدخولها) (¬2). (20) أم سليم بنت ملحان: هي: أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. اختلف في اسمها، فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: رميثة، وقيل: مليكة، ويقال: الغميصاء، أو الرميصاء كانت تحت مالك بن النضر، أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت أنساً في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام، فمات، فتزوجت بعده أبا طلحة الأنصاري. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآها وسمع صوت حركة مشيها في الجنة. فقد روى البخاري بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة)) (¬3). وعند مسلم بلفظ: ((أريت الجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة)) (¬4). وروى مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك)) (¬5). فهذه الأحاديث تضمنت شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة لأم سليم رضي الله عنها. ¬

(¬1) رواه الترمذي (3804). وقال: حسن صحيح غريب، وقال ابن عبدالبر في ((الاستيعاب)) (3/ 54): حسن الإسناد صحيح، وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (2/ 321): إسناده جيد، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) ((البداية والنهاية)) (8/ 30). (¬3) رواه البخاري (3679). (¬4) رواه مسلم (2457). (¬5) رواه مسلم (2456).

وهناك جماعة من أهل بيت النبوة غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه وردت نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها دلالة واضحة في أنهم ممن يقطع لهم بدخول الجنة، منهم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد، فقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب (¬1)، وابنته فاطمة رضي الله عنها أخبر بأنها سيدة نساء أهل الجنة (¬2) وولداها الحسن والحسين فقد بين عليه الصلاة والسلام بأنهما سيدا شباب أهل الجنة (¬3)، وحمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنه دخل الجنة فنظر فيها فإذا جعفر يطير مع الملائكة (¬4) وإذا حمزة متكئ على سرير (¬5). فكل من تقدم ذكره شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة على سبيل التنصيص عليه باسمه منفرداً، كما شهد صلى الله عليه وسلم بالجنة لخلق كثير من الصحابة على سبيل الجمع كأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، فأهل بدر كان عددهم رضي الله عنهم بضعة عشر وثلاثمائة، فهؤلاء أخبر عنهم صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة فقد روى البخاري من حديث طويل عن علي رضي الله عنه، وفيه أنه قال: ((لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم)) (¬6). وأما أهل بيعة الرضوان فقد كان عددهم ألفاً وأربعمائة (¬7) وكلهم شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأنهم ممن يقطع لهم بدخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر عند مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها)) (¬8). فقد قال أهل العلم: (معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً ... وإنما قال إن شاء الله للتبرك لا للشك) (¬9). فأهل السنة والجماعة يشهدون بالجنة لكل من قدمنا ذكره في هذا المبحث (¬10)، بل يشهدون بالجنة لجميع الصحابة من مهاجرين وأنصار حيث إن الله تعالى وعدهم جميعاً بالحسنى كما قال: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10]. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 775 ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (3820)، ومسلم (2432). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) الحديث رواه البخاري (3623)، ومسلم (2450). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه الترمذي (3768)، وأحمد (3/ 3) (11012)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 50) (8169)، وابن حبان (15/ 411) (6959). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الدارقطني في ((سؤالات السهمي)) (216): صحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 204): رجاله رجال الصحيح، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (215): [روي بإسنادين] رجالهما رجال الصحيح. (¬4) رواه الترمذي (3763)، وابن حبان (15/ 521) (7047)، والحاكم (3/ 231). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: غريب [فيه] عبد الله بن جعفر ضعفه ابن معين وغيره، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: المديني واهٍ، والحديث صححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) رواه الطبراني (2/ 107) (1466)، وابن عدي (3/ 230)، والحاكم (3/ 217). من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3363). (¬6) رواه البخاري (3983). (¬7) انظر: ((الروض الأنف)) (4/ 64)، و ((أسد الغابة)) (ص: 583). (¬8) رواه مسلم (2496). (¬9) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (16/ 58). (¬10) انظر كتاب ((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) لابن بطة، (ص: 261 - 264)، ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) لأبي عثمان الصابوني ضمن ((مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 128)، ((لمعة الاعتقاد)) لابن قدامة (ص: 28)، ((العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية مع شرحها)) لمحمد خليل هراس (ص: 169)، ((قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر)) لصديق حسن خان (ص: 98).

المطلب السابع: إثبات الخلافة للخلفاء الراشدين حسب ترتيبهم في الفضل

تمهيد عقيدة أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلفاء الأربعة في الإمامة كترتيبهم في الفضل فالإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين ثم أبو السبطين علي رضي الله عنهم أجمعين فأهل الحق يعتقدون اعتقاداً جازماً لا مرية فيه ولا شك أن أولى الناس بالإمامة والأحق بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، روى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى عباد السماك قال: (سمعت سفيان الثوري يقول: الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وما سوى ذلك فهم منتزون) (¬1). قال أبو عمر: (قد روي عن مالك وطائفة نحو قول سفيان هذا وتأبى جماعة من أهل العلم أن تفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية لمكان صحبته) (¬2). وروى بإسناده إلى أبي نوبة قال: (سمعت أبا إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك وعيسى بن يونس ومخلد بن الحسين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي) (¬3) وروى أيضاً بإسناده إلى الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي محمد بن إدريس يقول: (أقول في الخلافة والتفضيل بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) (¬4)، وروى البيهقي بإسناده إلى الربيع بن سليمان أنه قال: قال الشافعي في مسألة (الحجة في تثبيت خبر الواحد): (ولم تزل كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ أمره – إلى أن قال -: وهكذا كانت كتب خلفائه من بعده وعمالهم وما أجمع المسلمون من كون الخليفة واحداً والقاضي واحداً والأمير واحداً والإمام واحداً فاستخلفوا أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر، ثم أمر عمر أهل الشورى ليختاروا واحداً، فاختار عبد الرحمن عثمان بن عفان) (¬5) وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى أبي علي الحسن بن أحمد بن الليث الرازي قال: (سألت أحمد بن حنبل – فقلت -: يا أبا عبد الله من تفضل؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء – فقلت -: يا أبا عبد الله إنما أسألك عن التفضيل من تفضل قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء المهديون الراشدون ورد الباب في وجهي قال أبو علي: ثم قدمت الري فقلت لأبي زرعة وسألت أحمد وذكرت له القصة فقال: لا نبالي من خالفنا، نقول: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة والتفضيل جميعاً هذا ديني الذي أدين الله به وأرجو أن يقبضني الله عليه) (¬6). وروى أيضاً: بإسناده إلى سلمة بن شبيب قال: قلت لأحمد بن حنبل: من تقدم؟ قال: (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة) (¬7). وروى أبو الفرج بن الجوزي إلى أبي بكر المروذي قال: (قال أحمد بن حنبل: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر ليصلي بالناس وقد كان في القوم من هو أقرأ منه وإنما أراد الخلافة) (¬8). ¬

(¬1) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 354). (¬2) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 354). (¬3) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 355). (¬4) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 355). (¬5) ((مناقب الشافعي للبيهقي)) (1/ 435) وانظر: ((الرسالة)) (ص: 419 - 420). (¬6) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 353). (¬7) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 353 - 354). (¬8) ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 160).

وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: (كنت بين يدي أبي جالساً ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخية فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وذكروا خلافة علي بن أبي طالب فزادوا وأطالوا فرفع أبي رأسه إليهم فقال: يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في علي والخلافة إن الخلافة لم تزين علياً بل علي زينها قال السياري – أحد رجال السند -: فحدثت بهذا بعض الشيعة فقال لي: قد أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض) (¬1) فهذه طائفة من أقوال بعض كبار أئمة أهل السنة وكلها تبين أنهم يثبتون إمامة الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الفضل وأن أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق وعلى هذا الاعتقاد مشى من جاء بعدهم من أهل السنة ودونوا هذا الاعتقاد في كتبهم ودعوا الناس إلى اعتقاده فقد قال الإمام الطحاوي: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلا له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي رضي الله عنه) (¬2) وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله تعالى في ذكر سياقه لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة: (ثم الإيمان والمعرفة بأن خير الخلق وأفضلهم .. وأحقهم بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ... ثم من بعده على هذا الترتيب والصفة أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الفاروق. ثم من بعدهما علي هذا الترتيب والنعت عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو أبو عبد الله وأبو عمرو ذو النورين رضي الله عنه ثم على هذا النعت والصفة من بعدهم أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فبحبهم وبمعرفة فضلهم قام الدين وتمت السنة وعدلت الحجة) (¬3). وقال أبو الحسن الأشعري في صدد ذكره للأدلة على أن الصديق هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم: (فوجب أن يكون إماماً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين) (¬4). وقال ابن أبي زيد القيرواني: (وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين) (¬5). ¬

(¬1) ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 162 - 163). (¬2) ((العقيدة الطحاوية مع شرحها)) لابن أبي العز الحنفي (ص: 533 - 545). (¬3) ((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) (ص: 257 – 261). (¬4) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 67). (¬5) ((الرسالة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني)) (ص: 23).

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: (ويجب أن يعلم: أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومقدم خلق الله أجمعين من الأنصار والمهاجرين بعد الأنبياء والمرسلين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه ... ، ثم من بعده على هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لاستخلافه إياه ... وبعده أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وبعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه) (¬1). وقال أبو عثمان الصابوني مبيناً عقيدة أهل الأثر في ترتيب الخلافة: (ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه ... ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله –سبحانه- بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه وعده ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه، ثم خلافة علي رضي الله عنه ببيعة الصحابة إياه عرفه ورآه كل منهم رضي الله عنه أحق الخلق وأولاهم في ذلك الوقت بالخلافة ولم يستجيزوا عصيانه وخلافه فكان هؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدون الذين نصر الله بهم الدين وقهر وقسر بمكانهم الملحدين وقوى بمكانهم الإسلام ورفع في أيامهم للحق الأعلام ونور بضيائهم ونورهم وبهائهم الظلام) (¬2). وقال أبو عمر بن عبد البر: (الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، وعمر، وعثمان وعلي وهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬3). ¬

(¬1) ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 64 - 66). (¬2) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموع الرسائل المنيرية)) (1/ 128). (¬3) ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 351).

وقال الإمام موفق الدين بن قدامة رحمه الله تعالى مبيناً أن الصديق رضي الله عنه أحق الناس بخلافة النبي صلى الله عليه وسلم: (وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة، ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عه لتقديم أهل الشورى له ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه. وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)) (¬1) (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الخلاف في مسألة تقديم عثمان على علي في الأفضلية، ثم بين أن أمر أهل السنة استقر في هذه المسألة على تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما فقال: (وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، ثم عثمان، ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله) (¬3). وقال في موضع آخر: (اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي) (¬4). وقال صديق حسن خان: (وأحقهم بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلوات على جميع أصحابه وإجماع الصحابة على تقديمه ومتابعته ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة) (¬5). وقال عمر بن علي بن سمرة الجعدي في صدد ذكره لترجمة الصديق رضي الله عنه: (ثم استخلف أفضل الصحابة وأولاهم بالخلافة معدن الوقار وشيخ الافتخار صاحب المصطفى بالغار سيد المهاجرين والأنصار الصديق أبو بكر التيمي ... قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يصلي بالناس أيام مرضه وبذلك احتج عمر رضي الله عنه على الأنصار يوم السقيفة فقال: (رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا) (¬6)، (وأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقادوا له وبايعوه) (¬7).) (¬8). فهذه طائفة من أقوال أئمة أعلام من أهل السنة والجماعة سقناها في هذا المبحث كلها توضح وتبين أن أهل السنة والجماعة يؤمنون ويعتقدون بأن أحق الناس بالخلافة بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وهذا ما يجب على المسلم أن يعتقده ويؤمن به ويموت عليه. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 514 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (40)، وأحمد (4/ 126) (17184)، والدارمي (1/ 57) (95)، والحاكم (1/ 174). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (4/ 119) وقال: إسناده لا بأس به، وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 582)، والعراقي في ((الباعث على الخلاص)) (1)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 136) وقال: رجاله ثقات، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 35). (¬3) ((العقيدة الواسطية مع شرحها)) لمحمد خليل هراس (ص: 146). (¬4) ((الوصية الكبرى)) (ص: 33). (¬5) ((قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر)) (ص: 99). (¬6) انظر: ((مسند الشافعي بترتيب السندي)) (ص: 362)، و ((الإحكام)) لابن حزم (7/ 423). (¬7) ((التمهيد)) لابن عبدالبر (22/ 127). (¬8) ((طبقات فقهاء اليمن)) (ص: 34 - 35).

الفرع الأول: خلافة أبي بكر الصديق

أولا: طريقة مبايعة أبي بكر وأما الكيفية أو الطريقة التي تمت بها مبايعة الصديق رضي الله عنه فإنه لما قبض الرب – جلا وعلا – نبيه صلى الله عليه وسلم ونقله إلى جنته ودار كرامته اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا عقد الإمامة لسعد بن عبادة وبلغ ذلك أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقصدوا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين ولما انتهوا إليهم حصل بينهم حوار في أمر الخلافة حيث اضطرب أمر الأنصار فجعلوا يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الأئمة من قريش)) (¬1) فأذعنوا لذلك منقادين ورجعوا إلى الحق طائعين، وبايعوا أبا بكر رضوان الله عليه واجتمعوا على إمامته واتفقوا على خلافته وانقادوا لطاعته وانقطع الحوار في مسألة الخلافة باجتماعهم على أبي بكر رضي الله عنه وقد بين عمر رضي الله عنه كيفية بيعة أبي بكر رضي الله عنه في حديث طويل رواه البخاري وفيه أنه قال: ((قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرين إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا: هذا سعد بن عبادة فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم –معشر المهاجرين- رهط وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم – وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر – وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم –فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا- فلم أكره مما قال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكم وعذيقها المرجب. ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 129) (12329)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3/ 467) (5942)، والطيالسي (ص: 284) (2133)، وأبو يعلى (7/ 94) (4032)، والطبراني (1/ 252) (725)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 8)، والبيهقي (8/ 144) (16985). من حديث أنس رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 186): إسناده جيد، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (483) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 197): رواه الطبراني في ((الأوسط)) و ((الكبير))، وفيه عبد الله بن فروخ وثقه ابن حبان، وقال: ربما خالف وفيه كلام، وبقية رجال الكبير ثقات، وقال العراقي في ((محجة القرب)) (189): صحيح، وقال الهيتمي المكي في ((الزواجر)) (2/ 114)، والشوكاني في ((الفتح الرباني)) (11/ 5423): إسناده جيد، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2758).

منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل الله سعد بن عبادة قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر قوي من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساداً فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه ثغرة أن يقتلا)) (¬1). ولقد اعترف سعد بن عبادة رضي الله عنه بصحة ما قاله الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من أن قريشاً هم ولاة هذا الأمر وسلم طائعاً منقاداً لما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد تذكير الصديق إياه بذلك. فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن قال: ((توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في طائفة من المدينة قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً مات محمد ورب الكعبة – وفيه – فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتوهم فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو سلك الناس وادياً، وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال – وأنت قاعد-: قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم، فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنت الأمراء)) (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد إيراده لهذا الحديث: (فهذا مرسل حسن ولعل حميداً أخذه عن بعض الصحابة الذي شهدوا ذلك وفيه فائدة جليلة جداً وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالإمارة فرضي الله عنهم أجمعين) (¬3). والبيعة التي حصلت للصديق رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة تعتبر بيعة أولى من كبار وفضلاء الصحابة من مهاجرين وأنصار وقد بويع رضي الله عنه بيعة عامة من الغد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة صبيحة يوم الثلاثاء وهو اليوم الثاني من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل تجهيزه عليه الصلاة والسلام (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (6830). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬2) رواه أحمد (1/ 5) (18). قال ابن تيمية في ((منهاج السنة)) (1/ 536): مرسل حسن، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 194)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3/ 146): رجاله ثقات إلا أن حميد بن عبد الرحمن لم يدرك أبا بكر، وزاد الألباني: وللحديث شاهد. (¬3) ((منهاج السنة)) (1/ 143). (¬4) ((البداية والنهاية)) (5/ 268).

روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم قال: (كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم – فإن يك محمد قد مات فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين فإنه أولى بأموركم، فقوموا فبايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر قال الزهري عن أنس بن مالك: سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة) (¬1). وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم أما لو قلتم غير هذا لم نبايعكم وأخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه فبايعه عمر وبايعه المهاجرون والأنصار قال: فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير قال: فدعا بالزبير فجاء فقال: قلت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فبايعه ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعا بعلي بن أبي طالب فجاء فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعاه)) (¬2). قال ابن كثير: (فيه فائدة جليلة وهي: مبايعة علي بن أبي طالب إما في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة وهذا حق فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه ... وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (7219). (¬2) رواه البيهقي (8/ 143) (16315). قال الذهبي في ((المهذب)) (6/ 3239): مع جودة سنده فيه أشياء تنكر فتدبره، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (5/ 218): هذا حديث يسوى بدنة بل يسوى بدرة و [روي من طريق آخر] بإسناد صحيح. (¬3) ((البداية والنهاية)) (5/ 281).

وأما ما جاء في (الصحيحين) من حديث عائشة رضي الله عنها ((من أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد .. فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي إني والله لآتينهم فدخل عليهم أبو بكر فتشهد علي بن أبي طالب ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نحن نرى لنا حقاً لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتي وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب فعظم حق أبي بكر وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون وقالوا أصبت فكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر المعروف)) (¬1). فتأخر علي رضي الله عنه المدة المذكورة في الحديث عن بيعة الصديق رضي الله عنه أجاب عنه بعض أهل العلم بما يقنع الذين يسمعون، ويشفي من سلمت قلوبهم من الأحقاد والأضغان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (4240)، ومسلم (1759).

فقد قال الإمام النووي: (أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة فقد ذكره علي في هذا الحديث واعتذر إلى أبي بكر رضي الله عنه، ومع هذا فتأخره ليس بقادح في البيعة ولا فيه أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس، وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له وأن لا يظهر خلافاً ولا يشق العصا وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته فإنه لم يظهر على أبي بكر خلافاً ولا شق العصا ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره فلم يجب عليه الحضور لذلك ولا لغيره فلما لم يجب لم يحضر وما نقل عنه قدح في البيعة ولا مخالفة ولكن بقي في نفسه عتب فتأخر حضوره إلى أن زال العتب وكان سبب العتب أنه مع وجاهته وفضيلته في نفسه في كل شيء وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك رأى أنه لا يستبد بأمر إلا بمشورته وحضوره وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهم الأمور كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصلاة عليه أو غير ذلك وليس لهم من يفصل الأمور فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء والله أعلم) (¬1). وقال الحافظ ابن كثير معللا عدم استجابة الصديق رضي الله عنه لما طلبته فاطمة رضي الله عنها من الميراث حيث ظنت أن ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين الورثة قال: (فلم يجبها إلى ذلك لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق البار الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها – وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة – عتب وتغضب ولم تكلم الصديق حتى ماتت واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر رضي الله عنه مع ما تقدم من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم: حدثني أبي (أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة ولا سألتها في سر ولا علانية فقبل المهاجرون مقالته وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار وإنا لنعرف شرفه وخيره ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي) (¬2) إسناده جيد، ولله الحمد والمنة ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع الصحابة – المهاجرين منهم والأنصار – على تقديم أبي بكر وظهر له برهان قوله عليه الصلاة والسلام: ((ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) (¬3).) (¬4). ¬

(¬1) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (12/ 77 - 78). (¬2) رواه الحاكم (3/ 70)، والبيهقي (8/ 152) (16364). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (5/ 281): إسناده جيد. (¬3) رواه مسلم (2387). من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬4) ((البداية والنهاية)) (5/ 281).

فبيعة علي رضي الله عنه للصديق بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ومنعه إياهم ذلك بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا نورث ما تركناه فهو صدقة)) (¬1) كما تقدم، ومن هذا يعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا حصل لهم بعض العتب على بعضهم فإنهم كانوا سريعي الرجوع عند مراجعة الحق وظهوره ولم يجعلوا للغل في قلوبهم سكناً بل كانت قلوبهم على قلب رجل واحد وحتى أم الحسنين رضي الله عنها رجعت عن عتبها على الصديق وعدلت عن مطالبته فيما أفاء الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال فدك بعد أن أبان لها الحكم فيه كما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: (أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬2) وهذا هو الصواب والمظنون بها واللائق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها رضي الله عنها (¬3) ولم تطب نفس الإمام الأكبر والصديق الأعظم أبو بكر رضي الله عنه أن تبقى سيدة نساء العالمين عاتبة عليه بل ترضاها وتلاينها قبل موتها فرضيت – رضي الله عنها – على رغم أنف كل رافضي على وجه الأرض. فقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: (لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم! فأذنت له فدخل عليها يترضاها فقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضات الله ومرضات رسوله ومرضاتكم أهل البيت ثم ترضاها حتى رضيت) (¬4). ففي هذا الأثر صفعة قوية للرافضة الذين فتحوا على أنفسهم شراً عريضاً وجهلا طويلا وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم بسبب ما ذكر من هجران فاطمة رضي الله عنها لأبي بكر ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة وفرقة مرذولة يتمسكون بالمتشابه ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين (¬5). ¬

(¬1) جزء من حديث رواه البخاري (4240)، ومسلم (1759). (¬2) رواه أبو داود (2973)، وأحمد (1/ 4) (14) واللفظ له، وأبو يعلى (1/ 40) (37)، والبيهقي (6/ 303) (12526). من حديث أبي الطفيل رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (497) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 28)، وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (5/ 76): إسناده حسن رجاله ثقات. (¬3) ((البداية والنهاية)) (5/ 325). (¬4) رواه البيهقي (6/ 301) (12515). وقال: هذا مرسل حسن بإسناد صحيح، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (5/ 252): إسناده جيد قوي، والظاهر أن الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 202): وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح. (¬5) انظر: ((البداية والنهاية)) (5/ 322).

ثم إن الصديق رضي الله عنه لم يقبل الإمامة حرصاً عليها ولا رغبة فيها وإنما قبلها تخوفاً من وقوع فتنة أكبر من تركه قبولها رضي الله عنه وأرضاه (¬1)، ولما بويع رضي الله عنه البيعة الثانية التي هي بيعة عامة الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس خطبة عامة حيث قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله: (أما بعد: أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله) (¬2). وقوله رضي الله عنه: (قد وليت عليكم ولست بخيركم) من باب الهضم والتواضع إذ أنهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنهم (¬3). ففي هذه الروايات المتقدمة بيان كيفية مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد انعقدت له الخلافة بعقد خيار هذه الأمة المحمدية وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب. فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة ففي كل بيعة لابد من سابق (¬4). عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 521 ¬

(¬1) انظر: ((البداية والنهاية)) (5/ 322). (¬2) رواه معمر في ((الجامع)) (1311)، وابن إسحق في ((السيرة لابن هشام)) (2/ 661)، والطبري في ((تاريخ الرسل والملوك)) (2/ 238). من حديث أنس رضي الله عنه. قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (5/ 218): وهذا إسناد صحيح. (¬3) انظر: ((البداية والنهاية)) (5/ 280). (¬4) ((منهاج السنة)) (1/ 142).

ثانيا: النصوص المشيرة إلى خلافته

ثانيا: النصوص المشيرة إلى خلافته 1 - الآيات القرآنية: لقد وردت آيات في الكتاب العزيز فيها الإشارة إلى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحق الناس من هذه الأمة بخلافة سيد الأولين والآخرين وتلك الآيات هي: (1) قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6 - 7] ووجه الدلالة أن أبا بكر رضي الله عنه داخل فيمن أمر الله – جل وعلا – عباده أن يسألوه أن يهديهم طريقهم وأن يسلك بهم سبيلهم وهم الذين أنعم الله عليهم وذكر منهم الصديقين في قوله: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين (¬1) فدل ذلك على أنه واحد منهم بل هو المقدم فيهم ولما كان أبو بكر رضي الله عنه ممن طريقهم هو الصراط المستقيم فلا يبقى أي شك لدى العاقل في أنه أحق خلق الله من هذه الأمة بخلافة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن عمر الرازي: (قوله: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [الفاتحة: 6 - 7] يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم؟ فقال: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء: 69] الآية ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه) (¬2). وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم – أعني الفاتحة – بأن نسأله أن يهدينا صراطهم فدل على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [الفاتحة: 6 - 7] وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم وأن إمامته حق) (¬3). (2) وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54]. ¬

(¬1) انظر: ((صحيح البخاري)) (2/ 293). (¬2) ((التفسير الكبير)) (1/ 260). (¬3) ((أضواء البيان)) (1/ 36).

هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات وأعلى المبرات ووجه دلالة الآية على خلافة الصديق أنه (كان في علم الله سبحانه وتعالى ما يكون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارتداد قوم فوعد سبحانه – ووعده صدق – أنه يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فلما وجد ما كان في علمه في ارتداد من ارتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد تصديق وعده بقيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقتالهم فجاهد بمن أطاعه من الصحابة من عصاه من الأعراب ولم يخف في الله لومة لائم حتى ظهر الحق وزهق الباطل وصار تصديق وعده بعد وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم آية للعالمين ودلالة على صحة خلافة الصديق رضي الله عنه) (¬1) روى ابن جرير الطبري بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال في قوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] قال: (فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم بقوم يحبهم ويحبونه بأبي بكر وأصحابه) (¬2) وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى الحسن البصري رحمه الله أنه قال في قوله: مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] قال: (هم الذين قاتلوا مع أبي بكر أهل الردة من العرب حتى رجعوا إلى الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم قال: وكذلك قال عكرمة وقتادة والضحاك، وروينا عن عبد الله بن الأهتم أنه قال لعمر بن عبد العزيز: (إن أبا بكر الصديق قام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا إلى سنته ومضى على سبيله فارتدت العرب، أو من ارتد منهم فعرضوا أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة فأبى أن يقبل منهم إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قابلاً في حياته فانتزع السيوف من أغمادها وأوقد النيران في شعلها وركب بأهل حق الله أكتاف أهل الباطل حتى قررهم بالذي نفروا منه وأدخلهم من الباب الذي خرجوا منه حتى قبضه الله) (¬3). فدلت الآية السابقة على خلافة الصديق حيث حصل في خلافته ما نطقت به الآية من ارتداد الكثير من العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وجاهدهم أبو بكر رضي الله عنه هو والصحابة الكرام رضي الله عنهم حتى رجعوا إلى الإسلام كما أخبر الله تعالى في الآية وهذا من الكائنات التي أخبر بها الرب – جل وعلا – قبل وقوعها. ¬

(¬1) ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 344). (¬2) ((تفسير الطبري)) (6/ 285). (¬3) ((الاعتقاد)) (ص: 174).

(3) قال تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة: 40] ففي هذه الآية الكريمة جعل الله أبا بكر في مقابلة الصحابة أجمع حيث خاطبهم بأنهم إن لم يعينوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالنفير معه للمقاتلة في سبيل الله فقد نصره بصاحبه أبي بكر رضي الله عنه وأيده بجنود من الملائكة ثم بين –تعالى- أنه ثاني اثنين – ثالثهما رب العالمين وهذه الميزة الشريفة والمنزلة العظيمة اعتبرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفاته العالية التي جعلته أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا أفضل في الأمة المحمدية من أبي بكر الذي هو ثاني اثنين قال عليه الصلاة والسلام في شأنهما: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) (¬1). قال أبو عبد الله القرطبي: (قال بعض العلماء في قوله تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الخليفة لا يكون أبداً إلا ثانياً وسمعت شيخنا أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة وجواثا فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين) (¬2). (4) قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [التوبة: 100] الآية (ووجه دلالة الآية على أحقية الصديق بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم وإذا ثبت هذا فإن أسبق الناس إلى الهجرة أبو بكر الصديق فإنه كان في خدمة المصطفى عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وإذا ثبت هذا صار محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما) (¬3). (5) قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55]. ¬

(¬1) رواه البخاري (4663)، ومسلم (2381). من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) (8/ 147 - 148). (¬3) انظر: ((التفسير الكبير)) للفخر الرازي (16/ 168 - 169).

(هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق رضي الله عنه وعلى خلافة الثلاثة بعده فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف والتمكين في أمر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي دل ذلك على أن خلافتهم حق) (¬1). قال الحافظ ابن كثير: (وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية) (¬2). (6) قال تعالى: قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16]. قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: (وقد دل الله على إمامة أبي بكر في (سورة براءة) فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: 83] وقال في سورة أخرى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [الفتح: 15] يعني قوله: لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا ثم قال: كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الفتح: 15]-يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم إلى قتالهم- كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16] والداعي لهم إلى ذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله –عز وجل- له فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا وقال في سورة الفتح: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلا لكلامه فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم) (¬3). (وقد قال مجاهد في قوله: أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ: هم فارس والروم وبه قال الحسن البصري. وقال عطاء: هم فارس، وهو أحد قولي ابن عباس رضي الله عنه، وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو حنيفة يوم اليمامة فإن كانوا أهل اليمامة فقد قوتلوا في أيام أبي بكر، وهو الداعي إلى قتال مسيلمة وبني حنيفة من أهل اليمامة، وإن كانوا أهل فارس والروم) (¬4) فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العاقد له الإمامة فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب أنه أفضل المسلمين رضي الله عنه) (¬5). (7) قال تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8]. ¬

(¬1) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 121). (¬2) انظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (5/ 121). (¬3) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 67)، وانظر: ((مقالات الإسلاميين)) (2/ 144)، ((الاعتقاد للبيهقي)) (ص: 172 - 173). (¬4) انظر تلك الروايات في ((تفسير الطبري)) (26/ 82 - 84)، ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 173)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 340). (¬5) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 67).

وجه دلالة هذه الآية على خلافته رضي الله عنه أن الله –جل وعلا- سماهم (صادقين) ومن شهد له الرب –جل وعلا- بالصدق فإنه لا يقع في الكذب ولا يتخذه خلقاً بحال وقد أطبق هؤلاء الموصوفون بالصدق على تسمية الصديق رضي الله عنه (خليفة رسول الله) (¬1) صلى الله عليه وسلم ومن هنا كانت الآية دالة على ثبوت خلافته رضي الله عنه. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 532 2 - الأحاديث النبوية وأما الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة إما على وجه التصريح، أو الإشارة ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لا يسع أهل البدعة إنكارها ومن تلك الأحاديث:- (1) ما رواه الشيخان في (صحيحيهما) عن جبير بن مطعم قال: ((أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك –كأنها تقول الموت- قال صلى الله عليه وسلم: إن لم تجديني فأتي أبا بكر)) (¬2). اشتمل هذا الحديث على إشارة واضحة في أن الذي يخلفه على الأمة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو محمد بن حزم: (وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر) (¬3). وقال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث أن مواعيد النبي صلى الله عليه وسلم كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس) (¬4). (2) وروى مسلم رحمه الله بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: (سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا) (¬5). قال النووي: (هذا دليل لأهل السنة في تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة مع إجماع الصحابة وفيه دلالة لأهل السنة أن خلافة أبي بكر ليست بنص من النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحاً بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته ولو كان هناك نص عليه أو على غيره لم تقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أولا ولذكر حافظ النص ما معه ولرجعوا إليه لكن تنازعوا أولا ولم يكن هناك نص ثم اتفقوا على أبي بكر واستقر الأمر وأما ما تدعيه الشيعة من النص على علي والوصية إليه فباطل لا أصل له باتفاق المسلمين والاتفاق على بطلان دعواهم من زمن علي وأول من كذبهم علي رضي الله عنه بقوله: (ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة) (¬6) الحديث، ولو كان عنده نص لذكره ولم ينقل أنه ذكره في يوم من الأيام ولا أن أحداً ذكره له والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم .. ((للمرأة حين قالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك قال: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر)) (¬7) فليس فيه نص على خلافته وأمر بها بل هو إخبار بالغيب الذي أعلمه الله تعالى به والله أعلم) (¬8). ¬

(¬1) انظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 107)، ((منهاج السنة)) (1/ 135). (¬2) رواه البخاري (3659)، ومسلم (2386). (¬3) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 108). (¬4) ((فتح الباري)) (7/ 24). (¬5) رواه مسلم (2385). (¬6) رواه البخاري (3172)، ومسلم (1370). من حديث علي رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (3659)، ومسلم (2386). من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. (¬8) ((شرح النووي على مسلم)) (15/ 154 - 155).

(3) وروى الإمام أحمد وغيره عن حذيفة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: ((إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه)) (¬1). فقوله صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللذين من بعدي)) أي: (بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبو بكر وعمر. وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة) (¬2). (4) وروى الشيخان في (صحيحيهما) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني فنزع دلوين وفي نزعه ضعف والله يغفر له فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر)) (¬3). هذا الحديث فيه إشارة ظاهرة إلى خلافة أبي بكر وعمر وصحة ولايتهما وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها. قال الشافعي رحمه الله تعالى: (رؤيا الأنبياء وحي وقوله: ((وفي نزعه ضعف)) قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته) (¬4). (5) وروى الشيخان في (صحيحيهما) من حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ((ادعي لي أبا بكر، وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) (¬5). (6) وعند الإمام أحمد عنها رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: ((ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر)) (¬6). دل هذا الحديث دلالة ظاهرة على فضل الصديق رضي الله عنه حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره رضي الله عنه وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع ووقع كل ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ثم اجتمعوا على أبي بكر رضي الله عنه قال أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر هذا الحديث: (فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده) (¬7). (7) وروى البخاري من حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)) (¬8). ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 385) (23324)، ورواه الترمذي (3799)، وابن ماجه (97)، وابن حبان (15/ 327) (6902). قال الترمذي، وابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1165)، وابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 578): حسن، وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 143): مثله حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) انظر: ((تحفة الأحوذي)) (10/ 102). (¬3) رواه البخاري (7022)، ومسلم (2392). (¬4) ((الأم)) (1/ 163). (¬5) رواه البخاري (5666)، ومسلم (2387). (¬6) رواه أحمد (6/ 47) (24245). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (690): [فيه] ابن أبي مليكة ضعيف لكنه لم يتفرد به وله شواهد، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده ضعيف. (¬7) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 108). (¬8) رواه البخاري (3654).

وفي لفظ آخر للشيخين: ((لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر)) (¬1) فأمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب جميعها إلا باب أبي بكر فيه إشارة قوية إلى أنه أول من يلي أمر الأمة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. قال الحافظ ابن حجر: (قوله إلا باب أبي بكر) هو استثناء مفرغ والمعنى لا تبقوا باباً غير مسدود إلا باب أبي بكر فاتركوه بغير سد قال الخطابي وابن بطال وغيرهما: (في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة ولاسيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي أمرهم فيه لا يؤمهم إلا أبو بكر وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة والأمر بالسد كناية عن طلبها كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها وإلى هذا جنح ابن حبان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: في هذا الحديث دليل على أنه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حسم بقوله سدوا عنى كل خوخة في المسجد أطماع الناس كلهم على أن يكونوا خلفاء بعده) (¬2). (8) وروى الشيخان في (صحيحيهما) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة: إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس فعادت فقال: مري أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم)) (¬3). (9) وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: مروا أبا بكر يصلي بالناس قالت عائشة: قلت: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل للناس فقالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً)) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (3904)، ومسلم (2382). (¬2) ((فتح الباري)) (7/ 14). (¬3) رواه البخاري (678)، ومسلم (420). (¬4) رواه البخاري (679)، ومسلم (418).

(10) وروى مسلم في (صحيحه) بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله قال: ((دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: بلى ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى الناس قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله فقال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس فقلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر، وكان رجلا رقيقاً: يا عمر صل بالناس قال: فقال: عمر أنت أحق بذلك قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هات فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئاً غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت: لا قال: هو علي)) (¬1). هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة منها: (فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم، ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يعدل إلى غيره) (¬2). (11) وروى الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه ((أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من الفرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر قال: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك)) (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم (418). والحديث رواه البخاري (687). (¬2) ((شرح النووي على مسلم)) (4/ 137). (¬3) رواه مسلم (419).

(12) وروى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: ((لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات)) (¬1) فهذه الأحاديث التي فيها تقديم الصديق رضي الله عنه في الصلاة على اختلاف رواياتها واضحة الدلالة على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الصحابة على الإطلاق وأحقهم بالخلافة وأولاهم بالإمامة وقد فهم هذه الدلالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (13) فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير قال: فأتاهم عمر رضي الله عنه فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر رضي الله عنه فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر)) (¬2). (14) وروى ابن سعد بإسناده إلى الحسن قال: قال علي: ((لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر)) (¬3). وكما فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقديم الصديق في الصلاة أن ذلك إشارة إلى أنه أحق بالإمامة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كذلك فهم هذا الفهم من جاء بعدهم من أهل العلم، فقد قال أبو بكر المروذي: (قيل لأبي عبدالله – أحمد بن حنبل – قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم فلما مرض قال: قدموا أبا بكر يصلي بالناس)) (¬4)، وقد كان في القوم من هو أقرؤ من أبي بكر فقال أبو عبدالله: إنما أراد الخلافة) (¬5). وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: (وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاماً)) (¬6) – قال ابن كثير – وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه) (¬7). وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بعد أن ساق الأحاديث التي فيها تقديم أبي بكر الصديق في الصلاة: (فهذه الأخبار وما في معناها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يكون الخليفة من بعده أبو بكر الصديق فنبه أمته بما ذكر من فضيلته وسابقته وحسن أثره، ثم بما أمرهم به من الصلاة خلفه، ثم الاقتداء به وبعمر بن الخطاب رضي الله عنهما على ذلك وإنما لم ينص عليه نصاً لا يحتمل غيره والله أعلم لأنه علم بإعلام الله إياه أن المسلمين يجتمعون عليه وأن خلافته تنعقد بإجماعهم على بيعته) اهـ (¬8). عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 539 ¬

(¬1) رواه البخاري (681)، ومسلم (419). (¬2) رواه الحاكم (3/ 70). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 151)، والألباني في ((تخريج السنة)) (1159). (¬3) رواه ابن سعد في ((الطبقات)) (3/ 183). (¬4) رواه البخاري (679)، ومسلم (418). (¬5) ((المسند من مسائل الإمام أحمد)) للخلال ورقة (43) وهو مخطوط يوجد في مكتبة مخطوطات الجامعة الإسلامية. وانظر: ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 160). (¬6) رواه مسلم (673). من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه. (¬7) ((البداية والنهاية)) (5/ 265). (¬8) ((الاعتقاد)) (ص: 172).

ثالثا: هل خلافة أبي بكر ثبتت بالنص أم بالإشارة

ثالثا: هل خلافة أبي بكر ثبتت بالنص أم بالإشارة إن أهل السنة لهم قولان في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من حيث الإشارة بالنص الخفي أو الجلي. القول الأول: منهم من قال: إن إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثابتة بالنص الخفي والإشارة وهذا القول ينسب إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى وجماعة من أهل الحديث (¬1) وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل (¬2) رحمة الله عليه واستدل أصحاب هذا القول بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة وبأمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب إلا باب أبي بكر وقد تقدمت هذه الأحاديث قريباً. القول الثاني: ومنهم من قال: إن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثابتة بالنص الجلي وهذا قول طائفة من أهل الحديث (¬3) وبه قال أبو محمد بن حزم الظاهري (¬4) واستدل هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: ((إن لم تجديني فأتي أبا بكر)) (¬5) وبقوله لعائشة رضي الله عنها: ((ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) (¬6) وحديث رؤياه صلى الله عليه وسلم أنه على حوض يسقي الناس فجاء أبو بكر فنزع الدلو من يده ليروحه (¬7) ... والقول الذي يطمئن إليه القلب وترتاح له النفس في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أن يقال: إن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبا بكر رضي الله عنه وإنما دلهم عليها لإعلام الله – سبحانه – له بأن المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية التي ورد بها القرآن والسنة وفاق بها غيره من جميع الأمة المحمدية رضي الله عنه وأرضاه. ¬

(¬1) انظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (4/ 107)، ((منهاج السنة)) لابن تيمية (1/ 134 - 135)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 125)، ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (ص: 533). (¬2) انظر: ((المعتمد في أصول الدين)) لأبي يعلى الفراء (ص: 226)، ((منهاج السنة)) (1/ 134). (¬3) انظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 107)، ((منهاج السنة)) (1/ 134 - 135)، ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 125)، ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 533). (¬4) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 107). (¬5) رواه البخاري (3659)، ومسلم (2386). (¬6) رواه البخاري (5666)، ومسلم (2387). (¬7) حديث الرؤيا رواه البخاري (7022)، ومسلم (2392).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ذكره للخلاف الوارد في خلافة الصديق هل ثبتت بالنص الجلي، أو الخفي: (والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك ... فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً قاطعاً للعذر ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: (وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر) رواه البخاري ومسلم (¬1) ... ) إلى أن قال – (فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلا على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص) (¬2). فهذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة لأن النصوص متفقة على إثبات فضله الذي لا يلحقه فيه أحد، وإرشاد الأمة إلى أنه أحق الناس بنيابة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين سيجتمعون على خلافة أبي بكر لسابقته إلى الإسلام وفضله العظيم الذي لا يشاركه فيه أحد فخلافته رضي الله عنه ورد في القرآن والسنة التنبيه والإشارة إليها والله أعلم. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 547 ¬

(¬1) رواه البخاري (6830)، ومسلم (1691). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) ((منهاج السنة)) (1/ 139 - 141)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/ 47 - 49).

والقول بأنها قد ثبتت بالنص قد يصعب الاستدلال عليه، لأن أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله التي يستدل بها على أن خلافة أبي بكر ثابتة بالنص لا تفيد هذا إفادة صريحة، فتقديم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر للصلاة بالناس (¬1) ليس نصًا على خلافته لا جليًا ولا خفيًا وإنما هو إرشاد للأمة إلى أن أبا بكر أولى بأن ينوب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أحاديث سد الأبواب (¬2) والخوخ (¬3) إلا باب أبي بكر ففيه إشارة إلى فضله وتميزه عن غيره لا أكثر. أما الأحاديث الدالة على أنه أراد أن يكتب عهدًا ثم تركه (¬4) فقد ترك ذلك لعلمه بأن المؤمنين سيختارونه من دون عهد منه - صلى الله عليه وسلم - فدل على أنه ليس هناك عهد. وكذلك حديث المرأة السائلة، ومبعوث بني المصطلق. ففيه: إخبار بأن الذي سيكون واليًا هو أبو بكر، فلتأته المرأة وتسأله، وليدفع بنوا المصطلق إليه زكاتهم. وكذلك حديث الأمر بالإقتداء ليس نصًا في الخلافة. فهذه الأحاديث التي يظن بعض الناس أنها تفيد النص على إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه إنما تدل على علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي بأن المسلمين سيجتمعون على خلافة أبي بكر لمزاياه التي لا يضارعه فيها أحد كما تدل إلى رضا الله ورسوله بذلك دون غيره، وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم منها، يدل على ذلك ما يلي: 1 - اجتماع السقيفة: حيث لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة للمسلمين (¬5) فلو كان هناك نص ما اجتمعوا لذلك ولبايعوا المعهود إليه مباشرة وهم أحرص الناس على اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم. 2 - كما يدل على ذلك أيضًا أخذ أبي بكر رضي الله تعالى عنه بيدي عمر وأبي عبيدة بن الجراح وقوله: (قد اخترت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم) (¬6) فلو كان هناك عهد له لم يجز له أن يختار، ولا يعقل أن لا يعلم هو بذلك وهو المعهود له. ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (664) , ومسلم (418). بلفظ: ((مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، مروا أبا بكر فليصل بالناس)) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري (466) , ومسلم (2382). (( ... إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر رضي الله عنه، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتّخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكن أخوّة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد بابٌ إلا سدّ إلا باب أبا بكر رضي الله عنه)). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) [12053])) الحديث رواه البخاري (3904)، ومسلم (2382). بلفظ: (( ... إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لتخذت أبا بكر، إلا خلة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر)). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) الحديث رواه مسلم (2387). بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) الحديث رواه البخاري (3669). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬6) [12056])) رواه البخاري (6830). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

3 - ومنها قول عمر رضي الله تعالى عنه حينما طلب منه أن يختار خليفة للمسلمين بعده فقال: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني أبا بكر - وأن أترك فقد ترك من هو خير مني - يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). وهذا نص في المسألة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف أحدًا بعده. 4 - ومما يدل على ذلك أيضًا قول عائشة رضي الله تعالى عنها حينما سئلت من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفًا لو استخلف؟ فقالت: أبو بكر، قيل ثم من؟ قالت: عمر، قيل ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح (¬2). فقول السائل: (لو استخلف) دال على أنه لم يستخلف، والسؤال عما لو كان مستخلفًا فمن سيستخلف؟ 5 - ومنها ما رواه الإمام أحمد بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يوص) (¬3). فهذا دليل صريح في المسألة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص بالخلافة لا لأبي بكر، ولا لعلي رضي الله عنها، ولا لغيرهما. 6 - ومنها ما رواه الإمام أحمد بسنده إلى علي رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله من تؤمر بعدك؟ قال: ((إن تؤمروا أبا بكر تجده أمينًا زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه قويًا أميًنا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليًا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديًا مهديًا يأخذ بكم الطريق المستقيم)) (¬4). فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن تؤمروا)) دليل على أنه لم يؤمر أحدًا، وإنما وكل ذلك إلى المسلمين ثم استعرض - صلى الله عليه وسلم - بعض أفاضل الصحابة مبتدئًا بأبي بكر وبين ما في كل واحد منهم من الخصال الحميدة المميزة له. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن عمر الدميجي ص: 133 ¬

(¬1) [12057])) رواه البخاري (7218)، ومسلم (1823). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2385). (¬3) [12059])) رواه أحمد (1/ 343) (3189). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (5/ 426)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/ 144): إسناده قوي، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((المسند)) (5/ 69). (¬4) [12060])) رواه أحمد (1/ 108) (859)، والحاكم (3/ 73)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 64). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 179): رواه أحمد والبزار والطبراني في ((الأوسط)) ورجال البزار ثقات.

رابعا: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

رابعاً: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه لقد أجمع أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لفضله وسابقته ولتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد ولم يكن – الرب جلا وعلا – ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكانوا لأوامره ممتثلين ولم يعارض منهم أحد في تقديمه وما يزعمه الشيعة من أن علياً تخلف عن بيعته هو والزبير قد قدمنا قريباً ما يدل على بطلان هذا الزعم من ثبوت بيعتهما في البيعة العامة التي كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من بيعة السقيفة ومن زعم أن علياً والزبير رضي الله عنهما بايعا ظاهراً وخالفا باطناً فقد قال فيهما أقبح القول فهما رضي الله عنهما أجل قدراً وأكبر محلا من هذا، وقد نقل إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أولى بخلافة من كل أحد جماعة من أهل العلم المعتبرين. فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى أبي محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ أنه قال: (أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر قالوا له: يا خليفة رسول الله ولم يسم أحد بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثين ألف مسلم كل قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله ورضوا به من بعده رضي الله عنهم) (¬1). وقال أبو الحسن الأشعري: (أثنى الله – عز وجل – على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الآية [الفتح: 18] قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك) (¬2). ¬

(¬1) ((تاريخ بغداد)) (10/ 130). (¬2) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 66).

وقال أيضاً: (بعد أن ذكر آيات القرآن الكريم استدل بها على خلافة أبي بكر: "ومما يدل على إمامة الصديق رضي الله عنه أن المسلمين جميعاً تابعوه وانقادوا لإمامته ... ثم رأينا علياً والعباس قد بايعاه وأجمعا على إمامته فوجب أن يكون إماماً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين، ولا يجوز لقائل أن يقول كان باطن علي والعباس خلاف ظاهرهما، ولو جاز هذا لمدعيه لم يصح إجماع وجاز لقائل أن يقول ذلك في كل إجماع المسلمين وهذا يسقط حجية الإجماع لأن الله – عز وجل – لم يتعبدنا في الإجماع بباطن الناس وإنما تعبدنا بظاهرها وإذا كان ذلك كذلك فقد حصل الإجماع والاتفاق على إمامة أبي بكر الصديق) (¬1). وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق رضي الله عنه: (وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام مجيباً لقوله رضي الله عنه لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ألا نرضاك لدنيانا يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره واستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا وكان رضي الله عنه أفضل الأمة وأرجحهم إيماناً وأكملهم فهماً وأوفرهم علماً) (¬2). وقال أبو عثمان الصابوني: (ويثبت أهل الحديث خلافة أبو بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم قاطبة: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا، وقولهم: قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يؤخرك وأرادوا أنه صلى الله عليه وسلم قدمك في الصلاة بنا أيام مرضه فصلينا وراءك بأمره فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته بما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا فانتفعوا بمكانه والله وارتفعوا به وارتقوا) (¬3). ¬

(¬1) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 66). (¬2) ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 65). (¬3) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 128).

وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بعد ذكره روايات عدة في مبايعة الصحابة جميعاً بالخلافة لأبي بكر رضي الله عنه (وقد صح بما ذكرنا اجتماعهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب فلا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي أو غيره بخلاف ظاهره فكان علي أكبر محلا وأجل قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حق أو يظهر للناس خلاف ما في ضميره ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لم يصح إجماع قط والإجماع أحد حجج الشريعة ولا يجوز تعطيله بالتوهم والذي روى أن علياً لم يبايع أبا بكر ستة أشهر ليس من قول عائشة إنما هو من قول الزهري فأدرجه بعض الرواة في الحديث عن عائشة في قصة فاطمة رضي الله عنهم وحفظه معمر بن راشد فرواه مفصلا وجعله من قول الزهري منقطعاً من الحديث وقد روينا في الحديث الموصول عن أبي سعيد الخدري ومن تابعه من المغازي أن علياً بايعه في بيعة العامة بعد البيعة التي جرت في السقيفة ويحتمل أن علياً بايعه بيعة العامة كما روينا في حديث أبي سعيد الخدري وغيره، ثم شجر بين فاطمة وأبي بكر كلام بسبب الميراث إذ لم تسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الميراث ما سمعه أبو بكر وغيره فكانت معذورة فيما طلبته وكان أبو بكر معذوراً فيما منع فتخلف علي عن حضور أبي بكر حتى توفيت، ثم كان منه تجديد البيعة والقيام بواجباتها كما قال الزهري ولا يجوز أن يكون قعود علي في بيته على وجه الكراهية لإمارته ففي رواية الزهري أنه بايعه بعد وعظم حقه ولو كان الأمر على غير ما قلنا لكانت بيعته آخراً خطأ، ومن زعم أن علياً بايعه ظاهراً وخالفه باطناً فقد أساء الثناء على علي، وقال فيه أقبح القول وقد قال علي في إمارته وهو على المنبر: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم قالوا: بلى قال: أبو بكر ثم عمر ونحن نزعم أن علياً كان لا يفعل إلا ما هو حق ولا يقول إلا ما هو صدق وقد فعل في مبايعة أبي بكر ومؤازرة عمر ما يليق بفضله وعلمه وسابقته وحسن عقيدته وجميل نيته في أداء النصح للراعي والرعية ... فلا معنى لقول من قال بخلاف ما قال وفعل وقد دخل أبو بكر الصديق على فاطمة في مرض موتها وترضاها حتى رضيت عنه فلا طائل لسخط غيرهما ممن يدعي موالاة أهل البيت ثم يطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجن من يواليه ويرميه بالعجز والضعف واختلاف السر والعلانية في القول والفعل وبالله العصمة والتوفيق) (¬1). وقال عبد الملك الجويني: (أما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فقد ثبتت بإجماع الصحابة فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والانقياد لحكمه ... وما تخرص به الروافض من إبداء علي شراساً وشماساً في عقد البيعة له كذب صريح، نعم لم يكن –رضي الله عنه- في السقيفة وكان مستخلياً بنفسه قد استفزه الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل فيما دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد) (¬2). وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وهو –أي أبو بكر- أحق خلق الله تعالى بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضوان الله عليهم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديمه ومتابعته ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة) (¬3). ¬

(¬1) ((الاعتقاد)) (ص: 179 - 180). (¬2) ((كتاب الإرشاد)) (ص: 361). (¬3) ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 27).

وقال أبو عبد الله القرطبي: (وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش) (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في سياق رده على الرافضي: (فلما اتفقوا على بيعته ولم يقل قط أحد: إني أحق بهذا الأمر منه لا قرشي ولا أنصاري فإن من نازع أولاً من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير وهذه منازعة عامة لقريش، فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق: (رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح قال عمر: فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر) (¬2)، وقال له بمحضر الباقين: (أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬3) وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه، ولا رغبة بذلت لهم ولا رهبة، فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم، ولم يقل أحد قط: إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في أحد بعينه أن فلاناً أحق بهذا الأمر من أبي بكر وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول أحق بالولاية لأن العرب – في جاهليتها – كانت تقدم أهل الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي، فأما الذين لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا هؤلاء وفي أنه ليس في القوم أعظم إيماناً وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهم) (¬4). وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (قد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة الصديق حتى علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما) (¬5). وقال يحيى بن أبي بكر العامري رحمه الله تعالى: (وقد كانت بيعته إجماعاً حجة قطعية من غيرهم فما ظنك بهم) (¬6) فهذه النقول للإجماع عمن تقدم ذكره من الأئمة كلها وضحت أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الأحق بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لإجماع الصحابة على إمامته وانقيادهم له جميعاً وإطباقهم على مخاطبتهم له بالخلافة فقالوا بأجمعهم: يا خليفة رسول الله، وما حصل عليه الإجماع لا يكون إلا حقاً فهذا سبيل المؤمنين أهل السنة والجماعة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتبع سبيلا غيره. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 550 ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 264). (¬2) رواه البخاري (6830) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (3667) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) ((منهاج السنة)) (3/ 269 - 270). (¬5) ((البداية والنهاية)) (6/ 340). (¬6) ((الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة)) (ص: 142 - 143).

الفرع الثاني: خلافة عمر بن الخطاب

أولا: طريقة تولي عمر الخلافة إن طريقة تولية الفاروق رضي الله عنه الخلافة بعد الصديق الأعظم رضي الله عنه كانت باستخلاف أبي بكر إياه، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه مرض قبل وفاته خمسة عشر يوماً ولما أحس بدنو أجله رضي الله عنه عهد في أثناء هذا المرض بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وقرئ على المسلمين فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا، ولم يعهد الصديق رضي الله عنه بالخلافة لعمر رضي الله عنه إلا بعد أن استشار نفراً من فضلاء الصحابة فيه مع أن عمر رضي الله عنه هو المعروف بصلابته في الدين، وأمانته وشدته على المنافقين إلى غير ذلك من الصفات الحميدة التي اتصف بها في ذات الله – ولكن الصديق رضي الله عنه فعل هذا مبالغة في النصح للأمة المحمدية وقد ذكر أهل السير والتواريخ صيغة عهد الصديق بالخلافة للفاروق رضي الله عنه فقد روى ابن سعد وغيره: (أن أبا بكر الصديق لما استعز به دعا عبدالرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال عبدالرحمن: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال: عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدوتك وشاور معهما سعيد بن زيد أبا الأعور وأسيد بن الحضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضى ويسخط للسخط الذي يسر خير من الذي يعلن، ولم يل هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذ سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني فقال: أبالله تخوفوني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك من وراءك، ثم اضطجع ودعا عثمان بن عفان فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم والخير أردت ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والسلام عليكم ورحمة الله، ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم قال بعضهم لما أملى أبو بكر صدر هذا الكتاب: بقي ذكر عمر فذهب به قبل أن يسمي أحداً فكتب عثمان: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت إن أقبلت نفسي في غشيتي تلك يختلف الناس فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، والله إن كنت لها لأهلاً، ثم أمره فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن سعيد القرظي فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد علمنا به، قال ابن سعد: علي القائل وهو عمر، فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا، ثم دعا أبو بكر عمر خالياً فأوصاه بما أوصاه به ثم خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مداً فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأيي فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم وقد حضرني من أمرك ما حضر

فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم بيدك أصلح لهم وإليهم واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدي نبي الرحمة، وهدي الصالحين بعده وأصلح له رعيته) (¬1) وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن الحسن بن أبي الحسن قال: (لما ثقل أبو بكر واستبان له من نفسه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي فقاموا في ذلك وخلوا عليه فلم تستقم لهم، فرجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيك قال: فلعلكم تختلفون قالوا: لا قال: فعليكم عهد الله على الرضى قالوا: نعم. قال فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده أرسل أبو بكر إلى عثمان بن عفان فقال: اكتب فكتب حتى انتهى إلى الاسم فغشي عليه ثم أفاق: فقال: اكتب عمر) (¬2) ومن هذا السياق تبين واتضح أن تولية الفاروق رضي الله عنه الخلافة كانت بعهد من الصديق رضي الله عنه ولقد صدقت فراسة أبي بكر في عمر حين اجتهد في العهد بالخلافة من بعده له رضي الله عنه فلقد قام بالخلافة أتم القيام حيث كان إماماً ناصحاً لله ولرسوله ولدين الإسلام حيث كثرت في خلافته الفتوح واتسعت رقعة الدولة الإسلامية ونعمت الأمة الإسلامية بعدله رضي الله عنه ولحسن اختيار الصديق رضي الله عنه في أن يكون الفاروق هو الخليفة من بعده اعتبر من أشد الناس فراسة بسبب ذلك فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه، والمرأة التي رأت موسى عليه السلام فقالت لأبيها: يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما) (¬3) قال الحاكم: فرضي الله عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم (بهذا الإسناد صحيح). عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 629 ¬

(¬1) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 199 - 200)، والطبري في ((تاريخ الأمم والملوك)) (3/ 428 - 429)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/ 411 - 413). (¬2) ((تاريخ عمر)) لابن الجوزي (ص: 66 - 67). (¬3) رواه الحاكم (3/ 96). وقال: فرضي الله عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم، بهذا الإسناد صحيح.

ثانيا أحقية عمر بالخلافه

ثانيا أحقية عمر بالخلافه إن حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه مما لا يشك فيها مسلم لما هو معلوم عند كل ذي عقل وفهم أنه يلزم من حقية خلافة أبي بكر حقية خلافة عمر وقد قدمنا في الفصل الثاني من هذا الباب أن نصوص الكتاب والسنة والإجماع كلها دلت على حقية خلافة أبي بكر، وما دل على حقية خلافة الصديق رضي الله عنه دل على حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه لأن الفرع يثبت له من حيث كونه فرعاً ما ثبت للأصل فحينئذ لا مطمع لأحد من الشيعة الرافضة في النزاع في حقية خلافة عمر لما قدمناه من الأدلة الواضحة القطعية على حقية خلافة مستخلفه، ولما سنذكره هنا من بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإذا ثبت حقية خلافة الصديق رضي الله عنه قطعاً صار النزاع في حقية خلافة الفاروق عناداً وجهلاً وغباوة وإنكاراً لما هو معلوم في الدين بالضرورة ومن اعتقد عدم حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه كالشيعة الرافضة إنما يعد من الجهلة الحمقى حقيق أن يعرض عنه وعن أكاذيبه وأباطيله، ولا يلتفت إليه ولا يعول في شيء من الأمور عليه، فخلافة الفاروق رضي الله عنه حق بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهذا معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وقد وردت الإشارة إلى حقية خلافته في طائفة من النصوص القطعية الصحيحة منها:- (1) في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله –تعالى- قال مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم في الأعراب فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: 83] وكان نزول براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك (¬1) التي تخلف فيها الثلاثة المعذرون الذين تاب الله عليهم في (سورة براءة) ولم يغز- عليه الصلاة والسلام – بعد غزوة تبوك إلى أن مات صلى الله عليه وسلم وقال تعالى أيضاً: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ [الفتح: 15] فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تبوك لهذا، ثم عطف – سبحانه وتعالى – عليهم أثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16] فأخبر –تعالى- أنهم سيدعوهم غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم. ¬

(¬1) انظر: ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور)) (4/ 119، 122).

قال أبو محمد بن حزم: (وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك (¬1) فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم) (¬2). (2) ما رواه الشيخان في (صحيحيهما) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة علي قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غربلاً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن)) (¬3). هذا الحديث تضمن الإشارة إلى خلافة الشيخين رضي الله عنهما، كما تضمن الإشارة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإلى كثرة الفتوح وظهور الإسلام في زمنه فهذا المنام النبوي مثال واضح لما حصل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما وكل ذلك مأخوذ عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وآثار صحبته فقد كان عليه الصلاة والسلام هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام حيث قرر قواعد الدين ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأنزل الله تعالى عليه قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]. ولما التحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى خلفه أبو بكر رضي الله عنه على الأمة سنتين وأشهراً وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ذنوباً أو ذنوبين)) - وهذا شك من الراوي والمراد ذنوبان كما جاء التصريح بذلك في رواية أخرى (¬4) وقد حصل في خلافته رضي الله عنه قتال المرتدين وقطع دابرهم واتساع رقعة الإسلام ولما توفي الصديق رضي الله عنه خلفه عمر رضي الله عنه فانتشر الإسلام في زمنه أكثر وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله لطول ولايته واتساع بلاد الإسلام وكثرة الأموال من الغنائم وغيرها فالحديث اشتمل على حقية خلافة عمر رضي الله عنه وصحتها وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها. (3) روى الإمام أحمد وغيره بإسناده إلى حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: ((إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه)) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((الاعتقاد للبيهقي)) (ص: 173). (¬2) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 109 - 110). (¬3) رواه البخاري (3682)، ومسلم (2393). (¬4) انظر: ((صحيح مسلم)) (4/ 1861). (¬5) رواه أحمد (5/ 385) (23324)، ورواه الترمذي (3799)، وابن ماجه (97)، وابن حبان (15/ 327) (6902). قال الترمذي، وابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1165)، وابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 578): حسن، وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 143): مثله حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

دل هذا الحديث دلالة صريحة على حقية خلافة عمر رضي الله عنه فقوله صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللذين)) بفتح الذال – أي الخليفتين اللذين يقومان من بعدي أبو بكر وعمر، فأمره صلى الله عليه وسلم بطاعتهما يتضمن الثناء عليهما لكونهما أهلاً لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه المؤذن بحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وإيماء لكونهما الخليفتين بعده وسبب الحث على الاقتداء بالسابقين الأولين ما فطروا عليه من الأخلاق المرضية والطبيعة القابلة للخير ولذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء وصار أفضل الخلق بعدهم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين (¬1). (4) روى الشيخان في (صحيحيهما) بإسناديهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: العلم)) (¬2). ففي هذا الحديث إشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه (والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر – وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها – مع طول مدته – الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله – واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافاً، والفتن إلا انتشاراً) (¬3) فالحديث فيه إشارة واضحة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه. (4) روى أبو داود وغيره من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: ((من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬4). في هذا الحديث إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الفضل فأفضلهم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم جميعاً كما أن الحديث تضمن الإشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي الخلافة بعد الصديق رضي الله عنه وقوله له في الحديث: ((فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وذلك لما علم صلى الله عليه وسلم من أن تأويل رفع الميزان انحطاط رتبة الأمور وظهور الفتن بعد خلافة عمر (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 56). (¬2) رواه البخاري (82)، ومسلم (2391). من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. (¬3) ((فتح الباري)) (7/ 46). (¬4) رواه أبو داود (4634)، والترمذي (2287)، وأحمد (5/ 44) (20463)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 43) (8136)، والحاكم (3/ 74). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 115): ثابت، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 306) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) انظر: ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) (13/ 387).

(6) وروى الشيخان في (صحيحيهما) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث ((أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها: فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل. فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعبرها قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به رجل فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله – بأبي أنت – أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت. قال: لا تقسم)) (¬1). تضمن هذا الحديث الإشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه. ووجه ذلك أن قوله في الحديث: ((ثم أخذ به رجل آخر فعلا به)) هو أبو بكر رضي الله عنه وقوله ثانياً: ((ثم أخذ به رجل آخر فانقطع)) إشارة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه. (7) روى أبو داود بإسناد إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يحدث أن – رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم)) (¬2). دل هذا الحديث بالإشارة الواضحة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة وإلى حقية خلافتهم رضي الله عنهم وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الرؤيا ولذلك عبروا تنوط بعضهم ببعض بولاية الأمر بعده عليه الصلاة والسلام. (8) روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من ندفع صدقاتنا بعدك قال: فأتيته فسألته فقال: إلى أبي بكر فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بأبي بكر حدث فإلى من؟ فأتيته فسألته فقال: إلى عمر فأتيتهم فأخبرتهم ... )) (¬3) الحديث. اشتمل هذا الحديث على الإشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي أمر المسلمين بعد وفاة الصديق رضي الله عنه. ¬

(¬1) رواه البخاري (7046)، ومسلم (2269). (¬2) رواه أبو داود (4636)، وأحمد (3/ 355) (14863)، وابن حبان (15/ 343) (6913)، والحاكم (3/ 75). وقال: ولعاقبة هذا الحديث إسناد صحيح عن أبي هريرة ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)). (¬3) رواه الحاكم (3/ 82). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (13/ 416): ورجاله ثقات، غير نصر بن منصور المروزي ... فهو مقبول الحديث إن شاء الله تعالى.

(9) روى البزار والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان يعني في الخلافة) (¬1) وهذا أيضا: من الآثار التي إشارتها واضحة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه. (10) وروى مسلم في (صحيحه) بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: وسمعت عائشة وسئلت: ((من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا)) (¬2) يعني وقفت على أبي عبيدة وهذا الحديث من أدلة أهل السنة والجماعة على تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة مع إجماع الصحابة (¬3). (11) وروى الشيخان في (صحيحيهما) عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقول: ((وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم قال: فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما)) (¬4). (12) ومما دل على حقية خلافته رضي الله عنه اجتماع الصحابة على أنهم لا يقدمون إلا أفضلهم وأخيرهم مع قول أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فيه. فأما قول أبي بكر رضي الله عنه فيه فهو قوله: (اللهم أمرت عليهم خير أهلك) (¬5) وأما قول علي رضي الله عنه فيه فهو ما رواه البخاري عن محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب قال: (قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر وخشيت أن يقول: عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين) (¬6). فهذه الأحاديث التي أوردناها في هذا المبحث كلها فيها الدلالة الواضحة على حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه. قال السفاريني رحمه الله تعالى: (اعلم أن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه مرتبة ولازمة لحقية خلافة الصديق الأعظم أبي بكر رضي الله عنه وقد قام الإجماع وإشارات الكتاب والسنة على حقية خلافته فما ثبت للأصل الذي هو الصديق من حقية الخلافة يثبت لفرعه الذي هو عمر بن الخطاب فيها فلا مطمع لأحد من فروق الضلال في الطعن والنزاع في حقية الخلافة وقد علم أهل العلم علماً باتاً ضرورياً أن الصحابة الكرام أجمعوا على تولية الصديق الخلافة ومن شذ لا يقدح في ذلك من غير مرية) (¬7). عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 633 ¬

(¬1) رواه البزار في ((المسند)) (2/ 260) (6083)، والطبراني (12/ 302) (13215). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 216): إسناده صحيح على شرط الشيخين، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 323): رواه البزار والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح. وقال الألباني في ((تخريج كتاب السنة)) (1140): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) رواه مسلم (2385). (¬3) انظر: ((شرح النووي على مسلم)) (15/ 154). (¬4) رواه البخاري (3685)، ومسلم (2389). (¬5) رواه ابن أبي شيبة (12/ 35)، وهناد في ((الزهد)) (1/ 284) (496)، وأبي نعيم في ((الإمامة والرد على الرافضة)) (ص: 276). من حديث زبيد اليامي. ورواه عبدالرزاق (5/ 449) (9764). من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. قال ابن حجر في ((المطالب العالية)) (4/ 229): رجاله ثقات. (¬6) رواه البخاري (3671). (¬7) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 326).

ثالثا: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

ثالثا: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه إن خلافة الفاروق رضي الله عنه لم يختلف فيها اثنان فإنه لما عهد الصديق رضي الله عنه بالخلافة من بعده لعمر رضي الله عنه أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبول ذلك العهد ولم يعارض في ذلك منهم أحد بل أقروا بذلك وسمعوا له وأطاعوا وكذلك التابعون لهم بإحسان من أهل السنة والجماعة أجمعوا على صحة خلافة الفاروق رضي الله عنه واعتقدوا اعتقاداً جازماً أنه رضي الله عنه أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه. وقد نقل إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم على خلافة عمر طائفة من أهل العلم الذين يعتمد عليهم في النقل. فقد تقدم معنا قريباً ما رواه ابن سعد وغيره في صيغة عهد الصديق بالخلافة لعمر رضي الله عنه وفيه: (أن الصديق رضي الله عنه أمر عثمان أن يخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن سعيد القرظي فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد علمنا قال ابن سعد: علي القائل: وهو عمر فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا) (¬1). وروى ابن الأثير بإسناده إلى يسار المدني قال: (لما ثقل أبو بكر أشرف على الناس من كوة فقال: يا أيها الناس إني قد عهدت عهداً أفترضون به؟ فقال الناس: قد رضينا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: لا نرضى إلا أن يكون عمر بن الخطاب) (¬2). فكان ما توقعوه لأنهم كانوا رضي الله عنهم يعلمون أنه لا أحد أفضل من عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر ولذلك أقروا جميعاً بعهد الصديق ورضوا به، ثم بايعوه. وروى ابن جرير بإسناده إلى أبي السفر سعيد بن محمد قال: (أشرف أبو بكر على الناس من كنيفة وأسماء بنت عميس ممسكته وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا فقالوا: سمعنا وأطعنا) (¬3). وروى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (دخلت على عمر حين طعن. فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقتلت شهيداً فقال: أعد علي فأعدت عليه فقال: والله الذي لا إله غيره لو أن لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع) (¬4). ¬

(¬1) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 199 - 200)، والطبري في ((تاريخ الأمم والملوك)) (3/ 428 - 429)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/ 411 - 413). (¬2) رواه ابن الأثير في ((أسد الغابة)) (4/ 169)، وانظر ((تاريخ الأمم والملوك)) (3/ 428). (¬3) رواه الطبري في ((تاريخ الأمم والملوك)) (3/ 428). (¬4) رواه البيهقي في ((الاعتقاد)) (ص: 188). والحديث رواه ابن أبي شيبة (13/ 280)، والحاكم (3/ 98)، وابن حبان (15/ 314) (6891). قال الألباني في ((صحيح الموارد)) (1837): صحيح لغيره دون قوله: (المغرور من غررتموه).

وقال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى مبيناً الإجماع على خلافة الفاروق رضي الله عنه: (لما علم الصديق رضي الله عنه من فضل عمر رضي الله عنه ونصيحته وقوته على ما يقلده وما كان يعينه عليه في أيامه من المعونة التامة لم يكن يسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله –تعالى- أن يعدل هذا الأمر عنه إلى غيره، ولما كان يعلم من أمر شأن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يعرفون منه ما عرفه ولا يشكل عليهم شيء من أمره فوض إليه ذلك فرضي المسلمون له ذلك وسلموه، ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه ولم يتابعوه كاتباعهم أبا بكر رضي الله عنه فيما فرض الله عليه الإجماع وأن إمامته وخلافته ثبتت على الوجه الذي ثبت للصديق، وإنما كان كالدليل لهم على الأفضل والأكمل فتبعوه على ذلك مستسلمين له راضين به) (¬1). وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى بعد ذكره خلافة الصديق باختيار الصحابة وإجماعهم عليه قال: (ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله –سبحانه- بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه بعده) (¬2). وقال النووي في معرض ذكره لإجماع الصحابة على تنفيذ عهد الصديق بالخلافة لعمر حيث قال: (أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر) (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماماً لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم) (¬4). وقال شارح الطحاوية: (ونثبت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه) (¬5). وقال أبو حامد محمد المقدسي بعد ذكره لطائفة من الأدلة على ثبوت خلافة أبي بكر: (وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلاف عمر رضي الله عنه بما ذكرناه، وبإجماع المسلمين عليها) (¬6). وقال الملا على القاري ذاكراً للإجماع على فضل عمر وحقية خلافته فقال: (وقد أجمعوا على فضيلته وحقية خلافته) (¬7) اهـ. ومن هذه النقول التي تقدم ذكرها تبين أن خلافة عمر رضي الله عنه تمت بإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تلقوا عهد أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة لعمر بالقبول والتسليم ولم يعارض في ذلك أحد وكذا أجمعت الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة على ما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفهم إلا من لا يعتد بخلافه ممن ابتلي ببغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالشيعة الرافضة ومن جرى في ركابهم ممن فتن بهم فإن اعترض معترض على إجماع الصحابة المتقدم ذكره بما رواه ابن سعد وغيره (من أن بعض الصحابة سمعوا بدخول عبد الرحمن بن عوف وعثمان على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلاف عمر علينا؟ وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك من وراءك) (¬8) والجواب عن هذا أن هذا الإنكار الصادر إن صح من هذا القائل ليس عن جهالة لتفضيل عمر بعد أبي بكر واستحقاقه للخلافة، وإنما كان خوفاً من خشونته وغلظته لا اتهاماً له في قوته وأمانته (¬9). فالذي يجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً لا مرية فيه أن أحق خلق الله تعالى بالخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه وإجماع المسلمين كافة على صحة خلافته وحقيتها. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 642 ¬

(¬1) ((الإمامة والرد على الرافضة)) (ص: 274). (¬2) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 129). (¬3) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (12/ 206). (¬4) ((منهاج السنة)) (1/ 142). (¬5) ((شرح الطحاوية)) (ص: 539). (¬6) ((الرد على الرافضة)) (ص: 283 - 284). (¬7) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 98). (¬8) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 199 - 200)، والطبري في ((تاريخ الأمم والملوك)) (3/ 428 - 429)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/ 411 - 413). (¬9) انظر ((الإمامة والرد على الرافضة)) لأبي نعيم (ص: 276).

الفرع الثالث: خلافة عثمان رضي الله عنه

أولا: كيفية توليه الخلافة رضي الله عنه لما طعن عمر رضي الله عنه لم يستخلف أحداً بعينه ليكون الخليفة على المسلمين من بعده بل أوصى أن يكون الأمر شورى بعده في ستة ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين وقال: (لا أتحمل أمرهم حياً وميتاً) (¬1)، وإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم. ومن تمام ورعه لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه، خشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه فلذلك تركه وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ولما مات الفاروق رضي الله عنه ودفنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه اجتمع النفر الذين جعل عمر الأمر فيهم شورى للتشاور فيمن يلي الخلافة بعد عمر رضي الله عنه ففوض ثلاثة منهم ما لهم في ذلك إلى ثلاثة حيث فوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه؟ والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين فسكت علي وعثمان رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك، والله علي والإسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق فقالا: نعم ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن فقال كل منهما: نعم ثم تفرقوا (¬2). ¬

(¬1) روى مسلم في صحيحه (1823) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن الصحابة قالوا له: استخلف فقال: أتحمل أمركم حياً وميتاً لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي فإن أستخلف فقد أستخلف من هو خير مني (يعني أبا بكر) وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال عبد الله: (فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف). (¬2) انظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 158 - 159).

وقد روى البخاري في (صحيحه) من حديث طويل عن عمرو بن ميمون فيه تفاصيل حادثة استشهاد عمر رضي الله عنه وعدد الذين طعنوا معه، ووصية عمر لابنه عبدالله أن يحسب ما عليه من الدين وكيف يقضيه، وطلبه رضي الله عنه الاستئذان من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه فأذنت في ذلك رضي الله عنها بطيب نفس كما اشتمل هذا الحديث على الكيفية التي بويع بها لعثمان والاتفاق عليه ومما جاء فيه بشأن خلافة عثمان رضي الله عنه أنهم ((قالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذلك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة –إلى أن قال- لما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. فقال الزبير قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف فقال عبد الرحمن بن عوف: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم قالا: نعم. فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه)) (¬1). وروى أيضاً: بإسناده إلى الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن المسور بن مخرمة أخبره ((أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا قال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال: أراك نائماً فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم انطلق فادع الزبير وسعداً فدعوتهما له فشاورهما ثم دعاني فقال: ادع لي علياً فدعوته فناجاه حتى ابهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون)) (¬2). ففي هذين الحديثين بيان أن عمر رضي الله عنه لم يعهد بالخلافة من بعده إلى واحد بعينه وإنما جعلها شورى في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وقد التمس بعض أهل العلم وجه الحكمة من جعل عمر الأمر شورى بين الستة دون أن يعين واحداً. ¬

(¬1) رواه البخاري (3700). (¬2) رواه البخاري (7207).

فقد قال ابن بطال: (إن عمر سلك في هذا الأمر مسلكاً متوسطاً خشية الفتنة فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين فجعل الأمر معقوداً على الستة لئلا يترك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فأخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم طرفاً وهو ترك التعيين، ومن فعل أبي بكر طرفاً وهو العقد لأحد الستة وإن لم ينص عليه) اهـ (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقارباً فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر ورأى أنه إن عين واحداً فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوباً إليه فترك التعيين خوفاً من الله –تعالى- وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم لما تخوفه من التقصير، والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة، وإذا كان من الأمور أمور لا يمكن دفعها فتلك لا تدخل في التكليف وكان كما رآه فعلم أنه إن ولي واحداً من الستة فلابد أن يحصل نوع من التأخر عن سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأن يحصل بسبب ذلك مشاجرة كما جبل الله ذلك طباع بني آدم، وإن كانوا من أولياء الله المتقين، وذكر في كل واحد من الستة الأمر الذي منعه من تعيينه وتقديمه على غيره ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة، وأقلهما مفسدة، وعمر رضي الله عنه خاف أن يتقلد أمراً يكون فيه ما ذكر، ورأى أنهم إذا بايعوا واحداً منهم باختيارهم حصلت المصلحة بحسب الإمكان وكان الفرق بين حال المحيا وحال الممات أنه في الحياة يتولى أمر المسلمين فيجب عليه أن يولي عليهم أصلح من يمكنه، وأما بعد الموت فلا يجب عليه أن يستخلف معيناً إذا كانوا يجتمعون على أمثلهم، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم علم أنهم يجتمعون على أبي بكر استغنى بذلك عن كتابة العهد الذي كان قد عزم على أن يكتبه لأبي بكر أيضاً: فلا دليل على أنه يجب على الخليفة أن يستخلف بعده فلم يترك عمر واجباً ولهذا روجع في استخلاف المعين وقيل له أرأيت لو أنك استرعيت فقال: إن الله تعالى لم يكن يضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض) (¬2) اهـ. ومما تقدم تبين لنا الكيفية التي تولى بها ذو النورين عثمان رضي الله عنه الخلافة وأنها تمت باختيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له قاطبة فهو أحق الناس على الإطلاق بالخلافة بعد عمر رضي الله عنه. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 651 ¬

(¬1) ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 283)، وانظر: ((فتح الباري)) (13/ 207). (¬2) ((منهاج السنة)) (3/ 164).

ثانيا: أحقية عثمان بالخلافه

ثانيا: أحقية عثمان بالخلافه لا يشك مؤمن في حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وصحتها وأنه لا مطعن فيها لأحد إلا ممن أصيب في قلبه بزيغ فنقم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما حل في قلبه من الغيظ منهم وهذا لم يحصل إلا من الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم في هذه الحياة الدنيا هو سب الصحابة رضي الله عنهم وبغضهم ولا قيمة لما يوجهونه من المطاعن على خلافة الثلاثة رضي الله عنهم لظهور بطلانه وأنها افتراءات لا تصح، وقد جاء في جملة من النصوص القطعية الصحيحة والآثار الشهيرة التنبيه والإيماء إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه ومن ذلك:- (1) قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور: 55] الآية وجه الاستدلال بهذه الآية على حقية خلافة عثمان رضي الله عنه أنه من الذين استخلفهم الله في الأرض ومكن لهم فيها وسار في الناس أيام خلافته سيرة حسنة حيث حكم فيهم بالعدل وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهذه الآية تضمنت الإشارة إلى حقية خلافته رضي الله عنه. (2) قوله تعالى: قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16]. ووجه الاستدلال بهذه الآية على حقية خلافة عثمان رضي الله عنه هو أن الداعي لهؤلاء الأعراب داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فأبو بكر دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود، وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجبت طاعة هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم بنص القرآن، وإذا وجبت طاعتهم صحت خلافتهم (¬1) رضي الله عنهم وأرضاهم. (3) روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا عمر ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فإذا هو عثمان بن عفان)) (¬2) هذا الحديث فيه إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة وإخبار عن بلوى تصيب عثمان وهذه البلوى حصلت له رضي الله عنه وهي حصاره يوم الدار حتى قتل آنذاك مظلوماً فالحديث علم من أعلام النبوة وفيه الإشارة إلى كونه شهيداً رضي الله عنه وأرضاه. (4) وروى أبو داود بإسناده إلى أبي بكرة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬3). ¬

(¬1) انظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 109 - 110). (¬2) رواه البخاري (3674)، ومسلم (2403). (¬3) رواه أبو داود (4634)، والترمذي (2287)، وأحمد (5/ 44) (20463)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 43) (8136)، والحاكم (3/ 74). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 115): ثابت.

تضمن هذا الحديث الإشارة إلى ترتيب الخلفاء الثلاثة في الفضل كما تضمن الإشارة إلى أن ترتيبهم في الخلافة يكون على حسب ترتيبهم في الفضل وإلى حقية خلافتهم جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم. (5) وروى أبو داود رحمه الله بإسناده إلى جابر بن عبد الله أنه كان يحدث ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم)) (¬1). هذا الحديث علم من أعلام النبوة الدالة على صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث حصل في شأن ترتيب الخلافة الراشدة طبقاً لهذه الرؤيا كما اشتمل على التنبيه على حقية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم (وفيه إشارة واضحة إلى ترتيب الخلافة الراشدة بعده صلى الله عليه وسلم وقد فهم هذا راوي الحديث وكان كما قال) (¬2). (6) وروى الشيخان في (صحيحيهما) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث ((أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها: فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: اعبرها قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله – بأبي أنت – أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت قال: لا تقسم)) (¬3) تضمن هذا الحديث الإشارة إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه، فقوله في الحديث: ((ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع ثم يوصل له فيعلو به)) هو عثمان رضي الله عنه لكن قوله: ((ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع ثم يوصل له فيعلو به)) فيه إشكال من حيث كونه يوصل له بعد انقطاعه مع العلم أن خلافة عثمان رضي الله عنه لم يحصل فيها انقطاع ولم تنقطع إلا بموته رضي الله عنه وأرضاه. وقد ذكر العلامة ابن القيم وجه الإشكال في شرحه الحديث على سنن أبي داود مع بيان إزالته حيث قال رحمه الله تعالى: (وهذا يشكل عليه شيئان: أحدهما: أن في نفس الرؤيا ((ثم وصل له، فعلا به)) فتفسير الصديق لذلك مطابق لنفس الرؤيا. والثاني: أن قتل عثمان رضي الله عنه لا يمنع أن يوصل له، بدليل أن عمر قد قتل ومع هذا فأخذ به وعلا به، ولم يكن قتله مانعاً من علوه به. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4636)، وأحمد (3/ 355) (14863)، وابن حبان (15/ 343) (6913)، والحاكم (3/ 75). وقال: ولعاقبة هذا الحديث إسناد صحيح عن أبي هريرة ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)). (¬2) ((الدين الخالص)) (3/ 445). (¬3) رواه البخاري (7046)، ومسلم (2269).

أما الأول: فلفظه: ((ثم وصل له)) لم يذكر هذا البخاري، ولفظ حديثه ((ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل)) فقط وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به وقال الصديق في تفسيره في نفس حديث البخاري: ((فينقطع به ثم يوصل له)) فهذا موضع الغلط، وهذا مما يبين فضل صدق معرفة البخاري، وغور علمه في إعراضه عن لفظة ((له)) وإنما انفرد بها مسلم، وأما الثاني: فيجاب عنه: بأن عمر رضي الله عنه لم ينقطع به السبب من حيث علا به، وإنما انقطع به بالأجل المحتوم، كما ينقطع الأجل بالسم وغيره، وأما عثمان فانقطع به من حيث وصل له من الجهة التي علا بها وهي الخلافة، فإنه إنما أريد منه أن يخلع نفسه، وإنما قتلوه لعدم إجابتهم إلى خلع نفسه، فخلعوه هم بالقتل ظلماً وعدواناً، فانقطع به من الجهة التي أخذ به منها ثم وصل لغيره رضي الله عنه وهذا سر سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن تعيين موضع خطأ الصديق فإن قيل: لم تكلفتم أنتم بيانه، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الصديق من تعرفه، والسؤال عنه؟ قيل: منعه من هذا: ما ذكرناه من تعلق ذلك بأمر الخلافة، وما يحصل للرابع من المحنة، وانقطاع السبب به فأما وقد حدث ذلك ووقع فالكلام فيه الكلام في غيره من الوقائع التي يحذر الكلام فيها قبل وقوعها سداً للذريعة، ودرءاً للمفسدة فإذا وقعت زال المعنى الذي سكت عنها لأجله) (¬1) اهـ. فالحديث فيه إشارة إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه. (7) وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنها ستكون فتنة واختلاف أو اختلاف وفتنه قال قلنا يا رسول الله: فما تأمرنا قال: عليكم بالأمير وأصحابه وأشار إلى عثمان)) (¬2). وهذا الحديث أيضاً: فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدق نبوته حيث أخبر بالفتنة التي حصلت أيام خلافة عثمان وكانت كما أخبر كما تضمن الحديث التنبيه على حقية خلافة عثمان إذ أنه صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى أن يلزموه وأخبر بأنه حين وقوع الفتنة والاختلاف أمير المؤمنين ومقدمهم وأمرهم بالالتفاف حوله وملازمته لكونه على الحق، والخارجون عليه على الباطل أهل زيغ والهوى، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون مستمراً على الهدى لا ينفك عنه. (8) فقد روى الترمذي بإسناده إلى أبي الأشعث الصنعاني أن خطباء قامت بالشام وفيهم رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقام آخرهم رجل يقال له: مرة بن كعب فقال: (لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت وذكر الفتن فقربها فمر رجل مقنع في ثوب فقال: هذا يومئذ على الهدى فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم) (¬3). ¬

(¬1) ((شرح ابن القيم على سنن أبي داود على حاشية عون المعبود)) (13/ 383 - 386). (¬2) رواه الحاكم (3/ 99) ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬3) رواه الترمذي (3704)، والحاكم (3/ 109). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

(9) وروى الإمام أحمد بإسناده إلى جبير بن نفير قال: ((كنا معسكرين مع معاوية بعد قتل عثمان رضي الله تعالى عنه فقام كعب بن مرة البهزي فقال: لولا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت هذا المقام فلما سمع بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس الناس فقال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر عثمان عليه مرجلاً قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتخرجن فتنة من تحت قدمي أو من بين رجلي هذا، هذا يومئذ ومن اتبعه على الهدى قال: فقام ابن حوالة الأزدي من عند المنبر فقال: إنك لصاحب هذا قال: نعم قال: والله إني لحاضر ذلك المجلس ولو علمت أن لي في الجيش مصدقاً كنت أول من تكلم به)) (¬1). (10) وروى أيضاً بإسناده إلى كعب بن عجرة قال: ((كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر فتنة فقربها فمر رجل متقنع فقال هذا يومئذ على الهدى قال فاتبعته حتى أخذت بضبعيه فحولت وجهه إليه وكشفت عن رأسه وقلت: هذا يا رسول الله قال: نعم فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه)) (¬2). فهذه الثلاثة الأحاديث كلها تضمنت الإشارة إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأنه سيبتلى بالفتنة المذكورة في الحديث والتي كان من آثارها قتله رضي الله عنه ظلماً وعدواناً بغير حق لما علم الله تعالى له أن سيكون في عداد الشهداء كما وضحت هذه الأحاديث أنه هو ومن اتبعه على الهدى عند وقوع تلك الفتن من قبيل قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ [البقرة: 5] فعثمان رضي الله عنه كان على الحق، والفتنة التي وقعت في زمنه أهلها على الباطل ففي ذلك فضيلة عظيمة لعثمان رضي الله عنه. ولقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه سيكون أحد الخلفاء الراشدين من بعده، الذين يتولون أمر الأمة، فقد أوصاه في غير ما حديث أنه إن خرج عليه الخارجون وأرادوا منه أن يخلع نفسه فلا يستجيب لهم ولا كرامة وأنه يتمسك بحقه فيه ولا يطع أحداً في تركه. (11) فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم)) (¬3). ففي هذا الحديث (الإشارة إلى الخلافة واستعارة القميص لها وذكر الخلع ترشيح أي: سيجعلك الله خليفة، فإن قصد الناس عزلك، فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم لكونك على الحق، وكونهم على الباطل) (¬4). (12) وروى الترمذي بإسناده إلى أبي سهلة قال: ((قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى عهداً فأنا صابر عليه)) (¬5). فقوله: ((قد عهد إلى عهداً)) أي: أوصاني أن لا أخلع بقوله: ((وإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم)) ((فأنا صابر عليه)) (أي: على ذلك العهد) (¬6). ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 236) (18092). قال ابن حجر في ((إتحاف المهرة)) (13/ 56): له طريق آخر، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3119): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) رواه أحمد (4/ 243) (18154). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): صحيح لغيره. (¬3) رواه الترمذي (3705). وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) ((الدين الخالص)) (3/ 446). (¬5) رواه الترمذي (3711). وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن أبي خالد. وقال المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (9/ 223): في سنده سفيان بن وكيع وهو متكلم فيه [ولكن له متابعة]، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬6) ((تحفة الأحوذي)) (10/ 209).

(13) وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ادعوا لي أو ليت عندي رجلاً من أصحابي قالت: ليت أبو بكر؟ قال: لا قلت: عمر قال: لا قلت: فعثمان قال: نعم قالت: فجاء عثمان فقال: قومي قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير قال: فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمراً فأنا صابر نفسي عليه)) (¬1). فهذا الحديث والذي قبله فيهما دلالة على صحة خلافته، فمن أنكر خلافته ولم يره من أهل الجنة والشهداء وأساء الأدب فيه باللسان، أو الجنان فهو خارج عن دائرة الإيمان وحيز الإسلام (¬2). ولقد عمل رضي الله عنه وأرضاه بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم طبقاً لما أوصاه به ولذلك ما عزل نفسه حين حاصروه يوم الدار. (14) وروى ابن سعد بإسناده إلى عبد الله بن عمر قال: ((قال لي عثمان وهو محصور في الدار: ما ترى فيما أشار به علي المغيرة بن الأخنس؟ قال قلت: ما أشار به عليك؟ قال: إن هؤلاء القوم يريدون خلعي فإن خلعت تركوني وإن لم أخلع قتلوني قال قلت: أرأيت إن خلعت تترك مخلداً في الدنيا؟ قال: لا، قال: فهل يملكون الجنة والنار؟ قال: لا قال: فقلت: أرأيت إن لم تخلع هل يزيدون على قتلك؟ قال: لا قلت: فلا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه، لا تخلع قميصاً قَمَّصَكَهُ الله)) (¬3). (15) ومما دل على صحة خلافته وإمامته ما رواه البخاري بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم تترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)) (¬4). وفي هذا إشارة إلى أن الله –تعالى- ألهمهم وألقى في روعهم ما كان صانعه بعد نبيه صلى الله عليه وسلم من أمر ترتيب الخلافة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان وقد روي أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتاً بالنص وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير، وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم) (¬5). وكل ما تقدم ذكره من النصوص في هذا المبحث أدلة قوية كلها فيها الإشارة والتنبيه إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه وأنه لا مرية في ذلك ولا نزاع عند المتمسكين بالكتاب والسنة والذين هم أسعد الناس بالعمل بهما وهم أهل السنة والجماعة فيجب على كل مسلم أن يعتقد حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأن يسلم تسليماً كاملاً للنصوص المشيرة إلى ذلك. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 656 ¬

(¬1) رواه الحاكم (3/ 106). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والحديث رواه ابن ماجه (91)، وأحمد (6/ 51) (24258). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 19): هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) ((الدين الخالص)) (3/ 446). (¬3) رواه ابن سعد في ((الطبقات)) (3/ 66). ورواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1/ 473)، وابن أبي شيبة (15/ 202)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (39/ 356 - 357). (¬4) رواه البخاري (3697). (¬5) ((منهاج السنة)) (3/ 165).

ثالثا: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

ثالثا: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه لقد أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يخالف أو يعارض في هذا أحد بل الجميع سلم له ذلك لكونه أفضل خلق الله على الإطلاق بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد نقل الإجماع على أحقية عثمان رضي الله عنه بالخلافة بعد عمر رضي الله عنه طائفة من أهل العلم بالحديث وغيرهم ومن تلك النقول: ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: (حججت في إمارة عمر فلم يكونوا يشكون أن الخلافة من بعده لعثمان) (¬1). وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حذيفة –رضي الله عنه قال: (إني لواقف مع عمر تمس ركبتي ركبته فقال: من ترى قومك يؤمرون قال: إن الناس قد أسندوا أمرهم إلى ابن عفان) (¬2). ونقل الحافظ الذهبي عن شريك بن عبد الله القاضي أنه قال: (قبض النبي صلى الله عليه وسلم فاستخلف المسلمون أبا بكر فلو علموا أن فيهم أحداً أفضل منه كانوا قد غشوا، ثم استخلف أبو بكر عمر فقام بما قام به من الحق والعدل، فلما احتضر جعل الأمر شورى بين ستة، فاجتمعوا على عثمان، فلو علموا أن فيهم أفضل منه كانوا قد غشونا) (¬3). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأخرج يعقوب بن شيبة في (مسنده) من طريق صحيح إلى حذيفة قال: (قال لي عمر من ترى قومك يؤمرون بعدي؟ قال: قلت: قد نظر الناس إلى عثمان وأشهروه لها) (¬4). وقال أيضاً: وأخرج البغوي في (معجمه) وخيثمة في (فضائل الصحابة) بسند صحيح عن حارثة بن مضرب قال: (حججت مع عمر فكان الحادي يحدو أن الأمير بعده عثمان بن عفان) (¬5). وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: (حججت مع عمر أول خلافة عمر فلم يشك أن الخليفة بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه) (¬6). فهذه النقول فيها بيان واضح في أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتهر بينهم أولوية عثمان بالخلافة وما زال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حياً لما سبق من علمهم ببعض النصوص المشيرة إلى أن ترتيبه سيكون في خلافة النبوة بعد الفاروق رضي الله عنه ولعلمهم أنه أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً. فقد روى ابن سعد بإسناده إلى النزال بن سبرة رضي الله عنه قال: (قال عبد الله بن مسعود حين استخلف عثمان: استخلفنا خير من بقي ولم نأله) وفي رواية أخرى قال: (أمرنا خير من بقي ولم نأل) (¬7) ولما استشهد الفاروق رضي الله عنه بايع المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون عثمان رضي الله عنه ليكون الخليفة للمسلمين بعد عمر رض الله عنه ولم يتأخر منهم أحد عن بيعته. ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (14/ 588). (¬2) رواه أبو نعيم في ((الإمامة والرد على الرافضة)) (ص: 306). (¬3) ((ميزان الاعتدال)) (2/ 273). (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 198). (¬5) ((فتح الباري)) (13/ 198). (¬6) رواه أبو نعيم في ((الإمامة والرد على الرافضة)) (ص: 306). (¬7) ((الطبقات الكبرى)) (3/ 63). رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) ()، والطبراني (9/ 170) (8861)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 244). وقال: مشهور من حديث مسعر، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 91): [روي] بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح.

فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى المسور بن مخرمة في قصة بيعة عثمان رضي الله عنه من حديث طويل وفيه: ((أن عبد الرحمن أرسل على من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد – وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر – فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً فقال: أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده: فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون)) (¬1) وقال الحسن بن محمد الزعفراني سمعت الشافعي يقول: (أجمع الناس على خلافة أبي بكر واستخلف أبو بكر عمر، ثم جعل عمر الشورى إلى ستة على أن يولوها واحداً فولوها عثمان رضي الله عنهم أجمعين) (¬2). وقد نقل أبو حامد محمد المقدسي كلاماً عزاه للإمام الشافعي أنه قال: (واعملوا أن الإمام الحق بعد عمر رضي الله عنه عثمان رضي الله تعالى عنه بجعل أهل الشورى اختيار الإمامة إلى عبد الرحمن بن عوف واختياره لعثمان رضي الله عنه وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وصوبوا رأيه فيما فعله وأقام الناس على محجة الحق وبسط العدل إلى أن استشهد رضي الله عنه) (¬3). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: (لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان) (¬4). وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: (وثبتت إمامة عثمان رضي الله عنه بعد عمر بعقد من عقد له الإمامة من أصحاب الشورى الذين نص عليهم عمر فاختاروه ورضوا بإمامته وأجمعوا على فضله وعدله) (¬5). وقال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى في صدد ذكره للإجماع على خلافة عثمان: (فاجتمع أهل الشورى ونظروا فيما أمرهم الله به من التوفيق وأبدوا أحسن النظر والحياطة والنصيحة للمسلمين وهم البقية من العشرة المشهود لهم بالجنة واختاروا بعد التشاور والاجتهاد في نصيحة الأمة والحياطة لهم عثمان بن عفان رضي الله عنه لما خصه الله به من كمال الخصال الحميدة والسوابق الكريمة وما عرفوا من علمه الغزير وحلمه لم يختلف على ما اختاروه وتشاوروا فيه أحد، ولا طعن فيما اتفقوا عليه طاعن فأسرعوا إلى بيعته، ولم يتخلف عن بيعته من تخلف عن أبي بكر ولا تسخطها متسخط بل اجتمعوا عليه راضين به مجيبين له) (¬6). وقال أبو عثمان الصابوني مبيناً عقيدة السلف وأصحاب الحديث في ترتيب الخلافة بعد أن ذكر أنهم يقولون أولاً بخلافة الصديق ثم عمر قال: (ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (7207). (¬2) ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (1/ 434 - 435). (¬3) ((الرد على الرافضة)) (ص: 319 - 320). (¬4) ((منهاج السنة)) (3/ 166). (¬5) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 68). (¬6) ((الإمامة والرد على الرافضة)) (ص: 299 - 300). (¬7) ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 129).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد ... فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماماً وإلا لو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماماً ولكن عمر لما جعله شورى في ستة عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف واتفق الثلاثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولي أحد الرجلين وأقام عبد الرحمن ثلاثاً حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان يشاور أمراء الأجناد، وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وهذا من الأدلة الدالة على أن عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم) (¬1). ¬

(¬1) ((منهاج السنة)) (1/ 143).

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى حاكياً لإجماع الصحابة على خلافة عثمان رضي الله عنه: (ويروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى، وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان، وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به؟ قال: بعلي بن أبي طالب والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى، ومجتمعين سراً وجهراً حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاء واستخارة وسؤالاً من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحداً يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب، جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة وأمره أن ينادي له علياً وعثمان رضي الله عنهما فناداهما فحضرا إلى عبد الرحمن فأخبرهما أنه سأل الناس فلم يجدا أحداً يعدل بهما أحداً ثم أخذ العهد على كل منهما أيضاً لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقلد سيفاً، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة فامتلأ المسجد بالناس حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس فيه إلا في أخريات الناس – وكان رجلاً حيياً رضي الله عنه – ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف وقوفاً طويلاً ودعا دعاء طويلاً لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس إني سألتكم سراً وجهراً عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي، وإما عثمان فقم إلي يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا. ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي قال: فأرسل يده وقال: قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده وقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولاً، ويقال ثانياً) (¬1). ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (7/ 159 - 161).

فهذه النقول المتقدم ذكرها للإجماع عن هؤلاء الأئمة كلها تفيد إفادة قطعية أن البيعة بالخلافة تمت لعثمان رضي الله عنه بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولم يخالف أو يعارض في ذلك أحد، وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون (¬1) (أن علياً تلكأ فقال: عبد الرحمن: فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10] فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة وأيما خدعة) (¬2). فهذا باطل من وجوه: الوجه الأول: أن هذه القصة مخالفة لما ثبت في الحديث الصحيح وذلك أنه ثبت في (صحيح البخاري) في قصة البيعة والاتفاق على عثمان (أن علياً رضي الله عنه بايع عثمان بعد عبدالرحمن بن عوف مباشرة ثم بايع الناس بعده) (¬3) وما جاء مخالفاً لهذا فهو مردود على قائله وناقليه. الوجه الثاني: أخرج ابن سعد بإسناده إلى مولى عمر بن الخطاب عن أبيه عن جده قال: (أنا رأيت علياً بايع عثمان أول الناس، ثم تتابع الناس فبايعوا) (¬4). الوجه الثالث: أن المظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها وسقيمها وميادها وقويمها (¬5). فكل ما يذكر من أن علياً رضي الله عنه تلكأ عن بيعة عثمان أو تأخر عنها فهو مبني على خبر غير صحيح رجاله لا يعرفون قد يكون في الغالب من وضع الرافضة الذين أوبقوا أنفسهم ببغض الصحابة رضي الله عنهم. فبيعة عثمان تمت بإجماع المسلمين كافة ولا مطعن فيها لأحد من أهل الزيغ. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 665 ¬

(¬1) انظر: ((البداية والنهاية)) (7/ 161). (¬2) ((تاريخ الأمم والملوك)) (2/ 586). (¬3) الحديث رواه البخاري (3700). (¬4) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 62). (¬5) ((البداية والنهاية)) (7/ 161).

الفرع الرابع: خلافة علي رضي الله عنه

أولا: طريقة توليه الخلافة لقد تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق ومن أمصار مختلفة، وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وعدواناً (يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين) (¬1). قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق بعد عثمان رضي الله عنه، ولذلك لم يدع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان رضي الله عنه ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ومع ذلك لم يسلم من معرة تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم. فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال: (كنت مع علي رحمه الله وعثمان محصور قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقام علي رحمه الله: قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال: فأتى علي الدار وقد قتل الرجل رحمه الله فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل، ولابد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحق بها منك قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فبايعه الناس) (¬2). وفي رواية أخرى عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن الحنفية: (فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام ولا نجد أحداً أحق بهذا منك أقدم مشاهد، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: لا تفعلوا فإني وزير خير مني أمير، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك قال: ففي المسجد فإنه لا ينبغي بيعتي أن تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا من المسلمين قال: فقال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه وأبى هو إلا المسجد فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس) (¬3). ¬

(¬1) ((الطبقات)) لابن سعد (3/ 31). (¬2) رواه الخلال في ((السنة)) (2/ 415). (¬3) رواه الخلال في ((السنة)) (2/ 416).

وقال ابن جرير: وكتب إلي السري عن شعيب عن سيف بن أبي حارثة وأبي عثمان – يزيد بن أسيد الغساني – قال: (لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعداً والزبير خارجين ووجدوا طلحة في حائط له ... فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة وأمركم عابر على الأمة فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون). وفي رواية أخرى: أن جمهور الصحابة لما عرضوا على علي رضي الله عنه الخلافة قال لهم: (دعوني والتمسوا غيري ... فقالوا: ننشدك الله ألا ترى الفتنة ألا تخاف الله؟ فقال: إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ثم على ذلك واتّعدوا الغد ... فلما أصبحوا يوم الجمعة حضر الناس المسجد وجاء علي حتى صعد المنبر فقال: يا أيها الناس – عن ملأ وإذن – إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد فقالوا نحن على ما فارقناك بالأمس) (¬1). ومما تقدم تبين أن خلافة علي رضي الله عنه تمت بطريق الاختيار من جميع من كان موجوداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد استشهاد ذي النورين رضي الله عنه، وهذه الطريقة التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه كالطريق التي ثبت بها خلافة الصديق أبي بكر رضي الله عنه حيث إن عثمان رضي الله عنه لم يعين أحداً يقوم بالخلافة بعده فقد روى الإمام أحمد والبخاري والحاكم عن مروان بن الحكم: (أن عثمان رضي الله عنه أصابه رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى وطلب منه أن يستخلف فلم يستخلف رضي الله عنه وأرضاه) (¬2) كما تبين أيضاً: مما تقدم (أن بيعة علي رضي الله عنه كانت كبيعة إخوانه من قبل جاءت على قدر وفي إبانها وأنها مستمدة من رضا الأمة في حينها لا من وصية سابقة مزعومة، أو رموز خيالية موهومة) (¬3). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (وأما ما يغتر به كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء من أنه أوصى إلى علي بالخلافة فكذب وبهت وافتراء عظيم يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة، وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه، وصرفهم إياها إلى غيره لا لمعنى ولا لسبب وكل مؤمن بالله ورسوله يتحقق أن دين الإسلام هو الحق يعلم بطلان هذا الافتراء لأن الصحابة كانوا خير الخلق بعد الأنبياء وهم خير قرون هذه الأمة التي هي أشرف الأمم بنص القرآن، وإجماع السلف والخلف في الدنيا والآخرة ولله الحمد) (¬4). عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 677 ¬

(¬1) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 433 - 435)، ((الكامل)) (3/ 192 - 193). (¬2) رواه البخاري (3717)، وأحمد (1/ 64) (455)، والحاكم (3/ 409). (¬3) من كلام محب الدين الخطيب في تعليقه على ((العواصم من القواصم)) (ص: 143). (¬4) ((البداية والنهاية)) (7/ 245).

ثانيا: أحقية علي بالخلافه

ثانيا: أحقية علي بالخلافه إن أحق الناس بالخلافة بعد الثلاثة المتقدمين أعني أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بل ومعتقد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطبة وهذا هو ما يجب على المسلم اعتقاده والديانة لله به في شأن ترتيب الخلافة الراشدة، وقد ورد الإيماء إلى حقية خلافة علي رضي الله عنه في كثير من النصوص الشرعية منها: (1) قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور: 55] الآية ووجه الاستدلال بها على حقية خلافة علي رضي الله عنه أنه أحد المستخلفين في الأرض الذين مكن الله لهم دينهم (¬1). (2) قوله عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)) (¬2). ووجه الدلالة في هذا الحديث على حقية خلافة علي رضي الله عنه أنه أحد الخلفاء الراشدين المهديين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وحافظوا على حدود الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وساروا بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العدل وإقامة الحق. (3) روى أبو عبد الله الحاكم وغيره بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقطعت نعله فتخلف علي يخصفها فمشي قليلاً ثم قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال أبو بكر: أنا هو قال: لا. قال عمر أنا هو قال: لا. لكن خاصف النعل –يعني عليا فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬3). هذا الحديث فيه إيماء إلى ولايته حيث إنه رضي الله عنه قاتل في خلافته أهل التأويل الذين خرجوا عليه بالتأويل، ومنه أخذت أحكام قتال البغاة في أنه لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يغنم لهم مال ولا يسبى لهم ذرية وغير ذلك من أحكامهم وقاتل أيضاً الحرورية الذين تأولوا القرآن على غير تأويله وكفروا أهل الحق ومرقوا من الدين مروق السهم من الرمية. (4) روى مسلم في (صحيحه) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)) (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين)) لابن قدامة (ص: 74) (مخطوط) برقم (253) في مكتبة عارف حكمة بالمدينة. (¬2) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (40)، وأحمد (4/ 126) (17184)، والدارمي (1/ 57) (95)، والحاكم (1/ 174). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح. (¬3) رواه الحاكم (3/ 132)، ورواه أحمد (3/ 82) (11790). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 136): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (167): إسناده رجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (5/ 639): على شرط مسلم. (¬4) رواه مسلم (1064).

وفيه أيضاً: أنه قال: ((تكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق)) (¬1). وفي لفظ: قال: ((تمرق مارقة في فرقة من الناس فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق)) (¬2). وجاء أيضاً بلفظ ((يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق)) (¬3). فقوله صلى الله عليه وسلم على حين فرقة –بضم الفاء- أي: في وقت افتراق الناس أي: افتراق يقع بين المسلمين وهو الافتراق الذي كان بين علي ومعاوية رضي الله عنهما (¬4). والمراد بالفرقة المارقة هم (أهل النهروان كانوا في عسكر علي رضي الله عنه في حرب صفين فلما اتفق علي ومعاوية على تحكيم الحكمين خرجوا وقالوا: إن علياً ومعاوية استبقا إلى الكفر كفرسي رهان فكفر معاوية بقتال علي ثم كفر علي بتحكيم الحكمين وكفروا طلحة والزبير فقتلتهم الطائفة الذين كانوا مع علي وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفة التي تقتلهم أقرب إلى الحق وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وأصحابه بالحق وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أخبر بما يكون فكان على ما قال وفيه دلالة على صحة خلافة علي رضي الله عنه وخطأ من خالفه) (¬5). (5) وروى البخاري بإسناده إلى خالد الحذاء عن عكرمة قال لي ابن عباس ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: ((كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن)) (¬6). (6) عند مسلم عن أبي سعيد أيضاً: قال أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق وجعل يسمح رأسه ويقول: ((بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية)) (¬7). هذان الحديثان دلا على حقية خلافة علي رضي الله عنه وأنه الإمام الحق بعد عثمان رضي الله عنه وأن الذين قاتلوه مجتهدون مخطئون لا إثم عليهم ولا لوم فيما وقع بينهم من القتال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تقتل عماراً الفئة الباغية)) (¬8) (وهذا أيضاً يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار وإن كان متأولاً وهو دليل على أنه لم يمكن يجوز قتال علي وعلى هذا فمقاتله مخطئ وإن كان متأولاً، أو باغ بلا تأويل وهو أصح القولين لأصحابنا وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين وكذلك أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة علي في قتال البغاة المتأولين قال: أيجعل طلحة والزبير معاً بغاة؟ رد عليه الإمام أحمد فقال: ويحك وأي شيء يسعه أن يضع في هذا المقام يعني: إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة – إلى أن قال – ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه) (¬9). ¬

(¬1) رواه مسلم (1064). (¬2) رواه مسلم (1064). (¬3) رواه مسلم (1064). (¬4) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (7/ 166). (¬5) ((منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين)) لابن قدامة (ص: 75 - 76) مخطوط وانظر ((شرح النووي)) (7/ 166). (¬6) رواه البخاري (447). (¬7) رواه مسلم (2915). (¬8) رواه مسلم (2916). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 437 - 438).

فلو قال قائل: إن قتل عمار كان بصفين (وهو مع علي والذين قتلوه مع معاوية وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار، فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم) (¬1). قال الإمام النووي بعد قوله صلى الله عليه وسلم: ((بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية)) (¬2) (قال العلماء: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن علياً رضي الله عنه كان محقاً مصيباً والطائفة الأخرى بغاة لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك .. وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجه: منها: أن عماراً يموت قتيلاً وأنه يقتله مسلمون وأنهم بغاة، وأن الصحابة يقاتلون وأنهم يكونون فرقتين باغية وغيرها وكل هذا وقع مثل فلق الصبح صلى الله وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (¬3). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلها أولى الطائفتين بالحق)) (¬4). (وفي هذا وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((تقتل عماراً الفئة الباغية)) (¬5) دلالة واضحة أن علياً ومن معه كانوا على الحق وأن من قاتلهم كانوا مخطئين في تأويلهم) (¬6). (10) وروى أبو داود بإسناده إلى سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء)) (¬7). وعند الترمذي بلفظ: ((الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك)) (¬8) وفي هذا الحديث إشارة إلى حقية خلافة علي رضي الله عنه حيث إن خلافته كانت آخر الثلاثين من مدة النبوة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وبموجب هذا قال أهل العلم. قال أبو عمر: (قال أحمد بن حنبل: حديث سفينة في الخلافة صحيح وإليه أذهب في الخلفاء) (¬9). وقد وصف الإمام أحمد رحمه الله تعالى قول من يقول بأن علياً رضي الله عنه ليس من الخلفاء بأنه سيء ورديء. قال عبد الله بن أحمد رحمه الله تعالى: (قلت لأبي إن قوماً يقولون إنه ليس بخليفة قال: هذا قول سوء رديء فقال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون له يا أمير المؤمنين أفنكذبهم وقد حج وقطع ورجم فيكون هذا إلا خليفة) (¬10). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالة له في حديث سفينة: (وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد والعوام بن حوشب عن سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أهل السنن كأبي داود. وغيره واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة وثبته أحمد واستدل به على من توقف في خلافة علي من أجل افتراق الناس عليه حتى قال أحمد: من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله ونهى عن مناكحته) (¬11). وقال شارح الطحاوية: (ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي رضي الله عنهما لما قتل عثمان وبايع الناس علياً صار إماماً حقاً واجب الطاعة وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة كما دل عليه حديث سفينة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)) (¬12). فهذه النصوص المتقدم ذكرها كلها دالة على حقية خلافة علي رضي الله عنه وأنه رضي الله عنه أحق بالأمر وأولى بالحق من كل أحد بعد الثلاثة رضي الله عنهم جميعاً فيجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن علياً رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين وأحد الأئمة المهديين. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 681 ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (1/ 542). (¬2) رواه مسلم (2915). (¬3) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (18/ 40 - 41). (¬4) رواه مسلم (1064). (¬5) رواه مسلم (2916). (¬6) ((فتح الباري)) (6/ 619). (¬7) رواه أبو داود (4646)، والحاكم (3/ 156)، والطبراني (7/ 84) (6459). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬8) رواه الترمذي (2226)، وأحمد (5/ 221) (21978)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 47) (8155). قال الترمذي، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 141): حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬9) ((جامع بيان العلم)) (2/ 352)، وانظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (ص: 235). (¬10) ((السنة)) لعبد الله بن الإمام أحمد (ص: 235). (¬11) قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/ 200): (هذه الرسالة بالمكتبة الظاهرية بخطه في مسودته في (81/ 2 - 84/ 2).اهـ. (¬12) رواه أبو داود (4646)، والحاكم (3/ 156)، والطبراني (7/ 84) (6459). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.

ثالثا: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه

ثالثا: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه لقد انعقد إجماع الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة على أن علياً رضي الله عنه كان متعيناً للخلافة بعد عثمان رضي الله عنه لفضله على من بقي من الصحابة، وأنه أقدمهم إسلاماً، وأوفرهم علماً، وأقربهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسباً، وأشجعهم نفساً، وأحبهم إلى الله ورسوله وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق وأرفعهم درجة وأشرفهم منزلة، وأشبهم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتاً فكان رضي الله عنه متعيناً للخلافة دون غيره، وقد قام من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعقد البيعة له بالخلافة بالإجماع فكان حينئذ إماماً حقاً وجب على سائر الناس طاعته وحرم الخروج عليه ومخالفته وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم: فقد نقل محمد بن سعد إجماع من له قدم صدق وسابقة في الدين ممن بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة على بيعة علي رضي الله عنه حيث قال: (وبويع لعلي بن أبي طالب رحمه الله بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان بالخلافة بايعه طلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمار بن ياسر، وأسامة بن زيد، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب الأنصاري ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت، وخزيمة بن ثابت وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم) (¬1). كما نقل إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على بيعة علي رضي الله عنه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو الحسن الأشعري وأبو نعيم الأصبهاني وغيرهم من أهل العلم. فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال: (كنت مع علي وعثمان محصور قال فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول، ثم جاء آخر فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقام علي قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال فأتى علي الدار وقد قتل الرجل فأتى داره فدخلها وأغلق عليه بابه فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير فقالوا: لا والله ما نعلم أحداً أحق بها منك قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني قال: فخرج إلى المسجد فبايعه الناس) (¬2). وذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى روى بإسناده عن عبد الرزاق عن محمد بن راشد عن عوف قال: (كنت عند الحسن فكأن رجلاً انتقص أبا موسى باتباعه علياً فغضب الحسن ثم قال: سبحان الله قتل أمير المؤمنين عثمان فاجتمع الناس على خيرهم فبايعوه أفيلام أبو موسى باتباعه) (¬3). فقد نقل الإمام أحمد رحمه الله في هاتين الروايتين أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على بيعة علي رضي الله عنه وأن إجماعهم رضي الله عنهم كان على خيرهم وأفضلهم على الإطلاق وأحقهم بالخلافة بعد عثمان رضي الله عنه. ¬

(¬1) ((الطبقات الكبرى)) (3/ 31). (¬2) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 573). (¬3) ((منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين)) (ص: 77 - 78). وانظر ((فضائل الصحابة)) للإمام أحمد (2/ 577).

وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: (ونثبت إمامة علي بعد عثمان رضي الله عنه بعقد من عقد له من الصحابة من أهل الحل والعقد ولأنه لم يدع أحد من أهل الشورى غيره في وقته وقد اجتمع على فضله وعدله، وأن امتناعه عن دعوى الأمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان حقاً لعلمه أن ذلك ليس بوقت قيامه فلما كان لنفسه في غير وقت الخلفاء قبله كان حقاً لعلمه أن ذلك وقت قيامه، ثم لما صار الأمر إليه أظهر وأعلن ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد، كما مضى من قبله من الخلفاء وأئمة العدل على السداد والرشاد متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم هؤلاء الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي الله عنهم) (¬1). وقال أبو نعيم الأصبهاني مبيناً كيف تدارك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الموقف بعد استشهاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ومبيناً المزايا العالية التي تميز بها علي رضي الله عنه على باقي الصحابة وجعلته أهلاً لأن يختاروه خليفة للمسلمين فقال: (فلما اختلفت الصحابة كان على الذين سبقوا إلى الهجرة والسابقة والنصرة والغيرة في الإسلام الذين اتفقت الأمة على تقديمهم لفضلهم في أمر دينهم ودنياهم لا يتنازعون فيهم ولا يختلفون فيمن أولى بالأمر من الجماعة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في العشرة ممن توفي وهو عنهم راض فسلم من بقي من العشرة الأمر لعلي رضي الله عنه ولم ينكر أنه من أكمل الأمة ذكراً وأرفعهم قدراً لقديم سابقته وتقدمه في الفضل والعلم، وشهوده المشاهد الكريمة يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله ويحبه المؤمنون ويبغضه المنافقون لم يضع منه تقديم من تقدمه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ازداد به ارتفاعاً لمعرفته بفضل من قدمه على نفسه إذ كان ذلك موجوداً في الأنبياء والرسل عليهم السلام قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلى قوله مَا يُرِيدُ [البقرة: 253] فلم يكن تفضيل بعضهم على بعض بالذي يضع ممن هو دونه فكل الرسل صفوة الله – عز وجل – وخيرته من خلقه، فتولى أمر المسلمين عادلاً زاهداً آخذاً في سيرته بمنهاج الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم حتى قبضه الله – عز وجل – شهيداً هادياً مهدياً سلك بهم السبيل المستبين والصراط المستقيم) (¬2). وقال أبو منصور البغدادي: (أجمع أهل الحق والعدل على صحة إمامة علي رضي الله عنه وقت انتصابه لها بعد قتل عثمان رضي الله عنه) (¬3). وقال الزهري رحمه الله تعالى بعد ذكره لما قام به أبو الحسن من الوفاء بالعهد لإخوانه الثلاثة الخلفاء السابقين قبله قال: (وكان قد وفى بعهد عثمان حتى قتل وكان أفضل من بقي من الصحابة فلم يكن أحد أحق بالخلافة منه، ثم لم يستبد بها مع كونه أحق الناس بها حتى جرت له بيعة وبايعه مع سائر الناس من بقي من أصحاب الشورى) (¬4). ¬

(¬1) ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 78)، وانظر ((مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)) (1/ 346). (¬2) ((الإمامة والرد على الرافضة)) (ص: 360 - 361). (¬3) ((أصول الدين)) (ص: 286 - 287). (¬4) ((الاعتقاد)) (ص: 193).

وقال عبد الملك الجويني في صدد ذكره للطريق التي تمت بها خلافة عمر وعثمان وعلي وأنه لا يعبأ بقول من يقول: إن إمامة علي لم يحصل عليها إجماع فقال: (وأما عمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم فسبيل إثبات إمامتهم واستجماعهم لشرائط الإمامة كسبيل إثبات إمامة أبي بكر، ومرجع كل قاطع في الإمامة إلى الخبر المتواتر والإجماع ... ولا اكتراث بقول من يقول: لم يحصل إجماع على إمامة علي رضي الله عنه فإن الإمامة لم تجحد له وإنما هاجت الفتن لأمور أخرى) (¬1). وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله تعالى حاكياً لثبوت الإجماع على خلافة أبي الحسن رضي الله عنه حيث قال: (كانت بيعة علي رحمه الله بيعة اجتماع ورحمة لم يدع إلى نفسه ولم يجبرهم على بيعته بسيفه ولم يغلبهم بعشيرته ولقد شرف الخلافة بنفسه وزانها بشرفه وكساها حلة البهاء بعدله ورفعها بعلو قدره ولقد أباها فأجبروه وتقاعس عنها فأكرهوه) (¬2). فقد بين رحمه الله تعالى أن بيعة علي رضي الله عنه كانت بالإجماع وأن حصول الإجماع عليها من قبل أهل الحل والعقد كان رحمة من الله بالأمة المحمدية، وبين رحمه الله أن علياً رضي الله عنه زين الخلافة ولم تزينه، ورفعها ولم ترفعه وهكذا كان من تقدمه من الخلفاء رضي الله عنهم زينوا الخلافة وجملوا الأمة المحمدية، وأتموا الدين وأظهروه، وأسسوا الإسلام وأشهروه رضي الله عنهم أجمعين. وقال الغزالي: (وقد أجمعوا على تقديم أبي بكر، ثم نص أبو بكر على عمر، ثم أجمعوا بعده على عثمان، ثم على علي رضي الله عنهم، وليس يظن منهم الخيانة في دين الله – تعالى- لغرض من الأغراض وكان إجماعهم على ذلك من أحسن ما يستدل به على مراتبهم في الفضل، ومن هذا اعتقد أهل السنة هذا الترتيب في الفضل، ثم بحثوا عن الأخبار فوجدوا فيها ما عرف مستند الصحابة وأهل الإجماع في هذا الترتيب) (¬3). وقال أبو بكر بن العربي في معرض سياقه لحادثة قتل عثمان ظلماً وعدواناً على أيدي الخارجين عليه الظلمة المعتدين قال: (فلما قضى الله من أمره ما قضى ومضى في قدره ما مضى علم أن الحق لا يترك الناس سدى، وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدراً وعلماً وتقى وديناً فانعقدت له البيعة ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجرى على من بها من الأوباش ما لا يرقع خرقه ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصار ورأى ذلك فرضاً عليه فانقاد إليه) (¬4). وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعوا على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهم جميعاً كما بين كذلك أن أهل السنة والجماعة أجمعوا عامة على تقديم الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم. ¬

(¬1) ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 362 - 363). (¬2) ذكره عنه العلامة ابن قدامة في كتابه ((منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين)) (ص: 77)، وانظر: ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (2/ 346). (¬3) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 154). (¬4) ((العواصم من القواصم)) (ص: 142).

فقد قال رحمه الله: (واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) (¬1) فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين، وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي) (¬2). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (وكانت بيعة علي بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فبايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر وكتب بيعته إلى الآفاق فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام فكان بينهم بعد ما كان) (¬3). والذي نستفيده من هذه النقول المتقدمة للإجماع أن خلافة علي رضي الله عنه محل إجماع على حقيتها وصحتها في وقت زمنها وذلك بعد قتل عثمان رضي الله عنه حيث لم يبق على الأرض أحق بها منه رضي الله عنه فقد جاءته رضي الله عنه على قدر في وقتها ومحلها، وقد جاء في بعض هذه النقول للإجماع النص على مبايعة طلحة والزبير رضي الله عنهما لعلي رضي الله عنه وهذا فيه رد لبعض الروايات التي ذكرها بعض المؤرخين من أنهما بايعا مكرهين فقد جاء في بعض تلك الروايات أن طلحة رضي الله عنه قال: (بايعت واللج على قفي) (¬4). وقد رد العلامة ابن العربي على هذا بقوله: (اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في (القفا) لغة (قفي) كما يجعل في (الهوى): (هوي) وتلك لغة هذيل لا قريش فكانت كذبه لم تدبر) (¬5). بل قد جاء في بعض الروايات أن طلحة رضي الله عنه كان أول من بايع علياً حتى قال حبيب بن ذؤيب: (بايع علياً يد شلاء لا يتم هذا الأمر) (¬6) (وأهل الكوفة يقولون: أول من بايعه الأشتر) (¬7). وقد رد القاضي أبو بكر ابن العربي على قول القائل في طلحة (يد شلاء) بقوله: (أما قولهم: (يد شلاء) لو صح فلا متعلق لهم فيه فإن يداً شلت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر ويتوقى بها من كل مكروه وقد تم الأمر على وجهه ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه وجهل المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه) (¬8). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (40)، وأحمد (4/ 126) (17184)، والدارمي (1/ 57) (95)، والحاكم (1/ 174). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (4/ 119) وقال: إسناده لا بأس به، وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 582)، والعراقي في ((الباعث على الخلاص)) (1)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 136) وقال: رجاله ثقات، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) ((الوصية الكبرى)) (ص: 33). (¬3) ((فتح الباري)) (7/ 72). (¬4) ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص: 144)، وانظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 431، 435) و ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (3/ 193)، و ((البداية والنهاية)) (7/ 247). (¬5) ((العواصم من القواصم)) (ص: 144). (¬6) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 428)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 191). (¬7) ((تاريخ الأمم والملوك)) (4/ 433)، ((البداية والنهاية)) (7/ 247). (¬8) ((العواصم من القواصم)) (ص: 144 - 145).

وهذا الرد من ابن العربي على ما قيل في يد طلحة رضي الله عنه يستحق أن يكتب بماء الذهب لأنه لو كانت يد طلحة هي الأولى في البيعة لكانت أكثر بركة ونفعاً لأنها يد ذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم أحد، أما يد الأشتر اللئيم فإنها كانت لا تزال رطبة من دم الإمام الشهيد المبشر بالجنة عثمان رضي الله عنه، فدعوى أن طلحة والزبير بايعا مكرهين دعوى غير صحيحة بل الثابت أنه لما قتل عثمان رضي الله عنه طلب جمهور الصحابة رضي الله عنهم من علي أن يتولى أمر المسلمين فكان يفر منهم في حيطان المدينة (¬1) وأيضاً: لما توفي عمر رضي الله عنه جعل الأمر شورى في ستة منهم طلحة والزبير واتفقوا على أن الأمر دائر بين عثمان وعلي فاتفقوا على تقديم عثمان وبعد استشهاده رضي الله عنه كان صاحب الحق هو علي رضي الله عنه. وقد اعترض بعض الناس على الإجماع على خلافة علي رضي الله عنه وجوه: (1) تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة وابن عمر وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم (¬2). (2) إنما بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان (¬3). (3) أن أهل الشام معاوية ومن معه لم يبايعوه بل قاتلوه. وهذه الاعتراضات لا تأثير لها على الإجماع المذكور، ولا توجب معارضته وذلك أنها مردودة من وجوه: الوجه الأول: (أن دعوى أن جماعة من الصحابة تخلفوا عن بيعته دعوى غير صحيحة إذ أن بيعته لم يتخلف عنها وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكر لأنها كانت مسألة اجتهادية فاجتهد كل واحد وأعمل نظره وأصاب قدره) (¬4). الوجه الثاني: (أن عقد الخلافة ونصب إمام واجب لابد منه، ووقف ذلك على حضور جميع الأمة واتفاقهم مستحيل أو متعذر فلا يجوز اشتراطه لإفضاء ذلك إلى انتفاء الواجب ووقوع الفساد اللازم من انتفائه) (¬5). الوجه الثالث: أن الإجماع حصل على بيعة أبي بكر بمبايعة الفاروق وأبي عبيدة ومن حضرهم من الأنصار مع غيبة علي وعثمان وغيرهما من الصحابة وكذلك حصل الإجماع على خلافة علي بمبايعة عمار ومن حضر من البدريين وغيرهم من الصحابة ولا يضر هذا الإجماع من غاب عن البيعة أو لم يبايعه من غيرهم رضي الله عنهم جميعاً. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: (والله ما كانت بيعة علي إلا كبيعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم) (¬6). الوجه الرابع: دعوى أنه إنما بويع على أن يقتل قتلة عثمان (هذا لا يصح في شرط البيعة. وإنما يبايعونه على الحكم بالحق وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب وتقع الدعوى ويكون الجواب وتقوم البينة ويقع الحكم) (¬7) بعد ذلك. الوجه الخامس: أن معاوية رضي الله عنه لم يقاتل علياً على الخلافة ولم ينكر إمامته وإنما كان يقاتل من أجل إقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان مع ظنه أنه مصيب في اجتهاده ولكنه كان مخطئاً في اجتهاده ذلك فله أجر الاجتهاد فقط. قال عبد الملك الجويني: (ومعاوية وإن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته ولا يدعيها لنفسه وإنما كان يطلب قتله عثمان رضي الله عنه ظاناً أنه مصيب ولكنه كان مخطئاً) (¬8). ¬

(¬1) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك للطبري)) (4/ 432)، ((البداية والنهاية)) (7/ 246). (¬2) ((العواصم من القواصم)) (ص: 146 - 147). (¬3) ((العواصم من القواصم)) (ص: 145). (¬4) ((العواصم من القواصم)) (ص: 147)، وانظر كتاب ((التمهيد)) للباقلاني (ص: 233 - 234). (¬5) ((منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين)) (ص: 76 - 77). (¬6) ((منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين)) (ص: 77). (¬7) ((العواصم من القواصم)) (ص: 145 - 146). (¬8) ((لمع الأدلة في عقيدة أهل السنة)) (ص: 115) مخطوط نقلاً عن كتاب ((أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ)) (ص: 115).

فخلافة علي رضي الله عنه ثابتة بالنص والإجماع ولا تأثير لأي اعتراض يورد على الإجماع فيجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن علياً رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين أمرنا بالتمسك بسنتهم والاقتداء بهم وترتيبهم في الإمامة كترتيبهم في الفضل أولاً أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين وهذا معتقد الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة فقد روى البيهقي بإسناده إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: (في الخلافة والتفضيل نبدأ بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) (¬1) وروى أيضاً بإسناده إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قيل له: (كأنك تذهب إلى حديث سفينة قال: أذهب إلى حديث سفينة وإلى شيء آخر رأيت علياً في زمن أبي بكر وعمر وعثمان لم يتسم بأمير المؤمنين ولم يقم الجمع والحدود ثم رأيته بعد قتل عثمان قد فعل ذلك فعلمت أنه قد وجب له في ذلك الوقت ما لم يكن له قبل ذلك) (¬2). وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى: (خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالخلافة أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين ثم علي بن أبي طالب رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين) (¬3). وقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون) (¬4). وقال أبو بكر الباقلاني رحمه الله تعالى موضحاً الدليل على ترتيب الخلافة الراشدة: (والدليل على إثبات الإمامة للخلفاء الأربعة رضي الله عنهم على الترتيب الذي بيناه: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلام الدين ومصابيح أهل اليقين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون فقال: ((خير القرون قرني)) (¬5). فلما قدموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتبوهم على الترتيب المذكور علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدموا أحداً تشهياً منهم، وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره في وقت توليه. قال الشريف الأجل الإمام جمال الإسلام: ووقع لي أنا دليل من نص الكتاب في ترتيبهم على هذه الرتبة أنه لا يجوز أن يكون غير ذلك هو قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55]. ووعده حق. وخبره صدق لا يقع بخلاف مخبره فلابد من أن يتم ما وعدهم به، وأخبر أن يكون لهم، ولا يصح إلا على هذا الترتيب لأنه لو قدم علي عليه السلام لم تصر الخلافة فيها إلى أحد من الثلاثة لأن علياً عليه السلام مات بعد الثلاثة وكذلك لو قدم عثمان رضي الله عنه لم تصر الخلافة إلى أبي بكر وعمر لأن عثمان مات بعد موتهما، ولو قدم عمر لم تصر الخلافة إلى أبي بكر لأن عمر مات بعده والله تعالى أخبر ووعد أنها تصير إليهم فلم يصح أن تقع إلا على الوجه الذي وقعت ولله الحمد على الهداية والتوفيق) (¬6). فهذه الأقوال عن هؤلاء الأئمة كلها فيها البيان الشافي لعقيدة الفرقة الناجية في ترتيب الخلافة الراشدة كما علم مما تقدم في هذا المبحث من نقول للإجماع أن علياً رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين باتفاق أهل الحل والعقد وأنه قد اتفق على بيعته عامة من حضر المدينة من البدريين والأنصار كاجتماع أهل السقيفة على بيعة أبي بكر رضي الله عنه وبناء على ما تقدم فإن الذي لا يسعه في عقيدة ترتيب الخلافة ما وسع الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فإنه رافضي مقيت. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – لناصر بن علي عائض –2/ 688 ¬

(¬1) ((الاعتقاد)) (ص: 168 - 169). (¬2) ((الاعتقاد)) (ص: 168 - 169). (¬3) ((الاعتقاد)) (ص: 375). (¬4) ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 310 - 322) (¬5) رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. (¬6) ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 66 - 67).

الفرع الخامس: خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه

الفرع الخامس: خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه لما استشهد الخليفة الرابع: علي رضي الله عنه بقتل أحد الخوارج له وهو عبدالرحمن بن عمرو المرادي في شهر رمضان لسبع عشرة ليلة خلت منه سنة أربعين للهجرة النبوية (¬1) بويع بالخلافة بعده ابنه الحسن رضي الله عنه واستمر خليفة على الحجاز واليمن والعراق وخراسان وغير ذلك نحو سبعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل ستة أشهر وكانت خلافته هذه المدة خلافة راشدة حقه لأن تلك المدة كانت مكملة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً. فقد روى الترمذي بإسناده إلى سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك)) (¬2). وعند الإمام أحمد من حديث سفينة أيضاً بلفظ: ((الخلافة ثلاثون عاماً ثم يكون بعد ذلك الملك)) (¬3). وعند أبي داود بلفظ: ((خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء أو ملكه من يشاء)) (¬4). ولم يكن في الثلاثين بعده صلى الله عليه وسلم إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن وقد قرر جمع من أهل العلم عند شرحهم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الخلافة في أمتي ثلاثون سنة)) أن الأشهر التي تولى فيها الحسن بن علي بعد موت أبيه كانت داخلة في خلافة النبوة ومكملة لها. فقد قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: (فنفذ الوعد الصادق في قوله- صلى الله عليه وسلم- ... : ((الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم تعود ملكاً)) فكانت لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وللحسن منها ثمانية أشهر لا تزيد ولا تنقص يوماً فسبحان المحيط لا رب غيره) (¬5). وقال القاضي عياض: (لم يكن في ثلاثين سنة إلا الخلفاء الراشدون الأربعة والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي ... والمراد من حديث ((الخلافة ثلاثون سنة)) خلافة النبوة وقد جاء مفسراً في بعض الروايات ((خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً)) (¬6). وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في (دلائل النبوة) من طريق سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً)) وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي) (¬7). وقال شارح الطحاوية: (وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر) (¬8). ¬

(¬1) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 37)، ((تاريخ الطبري)) (5/ 143)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/ 387)، ((البداية والنهاية)) (7/ 387)، وانظر ((تاريخ خليفة بن خياط)) (ص: 199)، ((الطبقات)) له (ص: 5). (¬2) رواه الترمذي (2226). وقال الترمذي وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 141): حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه أحمد (5/ 220) (21969). وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده حسن رجاله ثقات رجال الصحيح غير سعيد بن جمهان. (¬4) رواه أبو داود (4646)، وسكت عنه، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬5) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/ 1720). (¬6) انظر: ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (12/ 201). (¬7) ((البداية والنهاية)) (8/ 17). (¬8) ((شرح الطحاوية)) (ص: 545).

وقال المناوي بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (¬1) قال: (وكان ذلك فلما بويع له بعد أبيه وصار هو الإمام الحق مدة ستة أشهر تكملة للثلاثين سنة التي أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إنها مدة الخلافة وبعدها يكون ملكاً عضوضاً) (¬2). ولما كان رضي الله عنه هو المبايع بالخلافة بعد أبيه وأنه الإمام الحق تلك المدة التي كانت مكملة لخلافة النبوة رأى أنه لابد من أن يكون أمره نافذاً على بلاد الشام التي كان الأمر فيها حينئذ لمعاوية رضي الله عنه فتوجه نحو بلاد الشام بكتائب كأمثال الجبال وبايعه منهم أربعون ألفاً على الموت فلما ترائى الجمعان علم أنه لا يغلب أحدهما حتى يقتل بعضها بعضاً واشترط على معاوية رضي الله عنه شروطاً التزمها، ووفى بها وعلى وفقها جرى الصلح بينهما وقد روى قصة الصلح بينهما الإمام البخاري رحمه الله تعالى في (صحيحه). فقد روى بإسناده إلى الحسن البصري حيث قال: (استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها فقال له معاوية – وكان والله خير الرجلين -: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس – عبد الرحمن ابن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز – فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلبا إليه فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك قال: فمن لي بهذا؟ قالا نحن لك به فما سألهما شيئاً إلا قالا: نحن لك به فصالحه فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: ((إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (¬3). وبقبوله الصلح مع معاوية حصل مصداق قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (فكان كما قال: أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة) (¬4). وهذا الإصلاح الذي حصل بين فريقي الحسن بن علي ومعاوية رضي الله عنهما مما يحبه الرب -جل وعلا – ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو من أكبر مناقب الحسن رضي الله عنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وهذا الحديث يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان ممدوحاً يحبه الله ورسوله، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان القتال واجباً أو مستحباً لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم بترك واجب أو مستحب) (¬5). وقد ذكر ابن العربي أسباباً هيأت الحسن لقبول الصلح مع معاوية رضي الله عنه حيث قال: (وعمل الحسن بمقتضى حاله فإنه صالح حين استشرى الأمر عليه وكان ذلك بأسباب سماوية ومقادير أزلية ومواعيد من الصادق صادقة منها: ما رأى من تشتت آراء من معه. ومنها: أنه طعن حين خرج إلى معاوية فسقط عن فرسه وداوى جرحه حتى برأ فعلم من ينافق عليه ولا يأمنه على نفسه. ومنها: أنه رأى الخوارج أحاطوا بأطرافه، وعلم أنه إن اشتغل بحرب معاوية استولى الخوارج على البلاد، وإن اشتغل بالخوارج استولى عليه معاوية. ¬

(¬1) رواه البخاري (2704). (¬2) ((فيض القدير)) (2/ 409). (¬3) رواه البخاري (2704). (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 376). (¬5) ((منهاج السنة)) (2/ 202).

ومنها: أنه تذكر وعد جده الصادق عند كل أحد صلى الله عليه وسلم في قوله: ((إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (¬1) وإنه لما سار الحسن إلى معاوية بالكتائب في أربعين ألفاً وقدم قيس بن سعد بعشرة آلاف قال عمرو بن العاص لمعاوية: إني أرى كتيبة لا تولي أولاها حتى تدبر أخراها فقال معاوية لعمرو: من لي بذراري المسلمين فقال أنا: فقال عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة: تلقاه فتقول له: الصلح فصالحه فنفذ الوعد الصادق في قوله: ((إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (¬2).). وكان ذلك الصلح المبارك الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون علي يد سبطه الحسن بن علي عام واحد وأربعين هجرية (فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه توفى في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة وهذا من دلائل – نبوته – صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً، وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا وهو تركه الدنيا الفانية ورغبته في الآخرة الباقية، وحقنه دماء هذه الأمة فنزل عن الخلافة وجعل الملك بيد معاوية حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد) (¬3) وتسليم الحسن الأمر لمعاوية يعتبر عقد بيعة منه له بالخلافة وكان ذلك في موضع يقال له: (مسكن) ولما نزل الحسن عن الخلافة لمعاوية بايعه (الأمراء من الجيشين واستقل بأعباء الأمة فسمي ذلك العام عام الجماعة لاجتماع الكلمة فيه على رجل واحد) (¬4) ولاجتماع المسلمين بعد الفرقة وتفرغهم للحروب الخارجية والفتوح، ونشر دعوة الإسلام بعد أن عطل قتلة عثمان سيوف المسلمين عن هذه المهمة نحو خمس سنوات. (ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق وحصل على بيعته عامئذ الإجماع والاتفاق – رحل الحسن بن علي ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم، وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وجعل كلما مر بحي من شيعتهم يبكتونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية وهو في ذلك – هو البار الراشد الممدوح، وليس يجد في صدره حرجاً ولا تلوماً ولا ندماً، بل هو راض بذلك مستبشر به وإن كان قد ساء هذا خلقاً من ذويه وأهله وشيعتهم ولاسيما بعد ذلك بمدد، وهلم جراً والحق في ذلك اتباع السنة ومدحه فيما حقن به دماء الأمة، كما مدحه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الحديث الصحيح ولله الحمد والمنة) (¬5). والحاصل مما تقدم أن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن خلافة الحسن بن علي كانت خلافة حقة وأنها جزء مكمل لخلافة النبوة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ستكون ثلاثين سنة وكذلك كانت كما أخبر عليه الصلاة والسلام. عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم – ناصر بن علي عائض – 2/ 743 ¬

(¬1) رواه البخاري (2704). (¬2) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/ 1719 - 1720). (¬3) ((البداية والنهاية)) (8/ 18). (¬4) ((البداية والنهاية)) (6/ 250). (¬5) ((البداية والنهاية)) (8/ 21).

الفصل الثاني: عقيدة أهل السنة في آل البيت

المطلب الأول: التعريف بآل البيت لغة: إن كلمة آل من الكلمات التي وقع فيها الاختلاف عند علماء اللغة من حيث الاشتقاق، ومن حيث المعنى، أما من حيث الاشتقاق، فقيل إن أصلها أول، وقيل إن أصلها أهل. فذهب الخليل بن أحمد إلى أن كلمة (آل) مشتقة من الأول، قال: (آل يؤول إليه، إذا رجع إليه) (¬1). ووافقه ابن فارس قال: (آل يؤول أي رجع ... يقال: أول الحكم إلى أهله، أي أرجعه ورده إليهم) (¬2). وابن الجوزي حيث قال: (والأصل في ذلك قولنا: آل، وهو بمعنى: رجع) (¬3). واختار هذا القول ابن تيمية (¬4). وذهب فريق آخر إلى أن أصل كلمة (آل): أهل. في (المفردات) (¬5): (الآل مقلوب من الأهل). وفي (لسان العرب) (¬6): (أصلها أهل ثم أبدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل فلما توالت الهمزتان أبدل الثانية ألفا كما قالوا آدم وآخر). وبمثل هذا قال الفيروزآبادي (¬7). وفي (المصباح) (¬8) ذكر القولين ولم يرجح. وضعف ابن القيم القول الثاني لأمور: أحدهما: عدم الدليل عليه. الثاني: أنه يلزم منه القلب الشاذ من غير موجب، مع مخالفة الأصل. الثالث: أن الأهل تضاف إلى العاقل وغيره بخلاف الآل. الرابع: أن الأهل تضاف إلى العلم والنكرة، والآل لا يضاف إلا إلى معظم من شأنه أن يؤول غيره إليه. الخامس: أن الأهل تضاف إلى الظاهر والمضمر، أما الآل فإضافتها إلى المضمر قليلة شاذة (¬9). وأما من حيث المعنى فقد نص غير واحد على أن آل الرجل هم أهل بيته وقرابته (¬10)، وأضافت طائفة أخرى الأتباع (¬11)، واقتصر بعضهم على الأتباع (¬12). وقد وفق ابن الجوزي بين القولين فقال: (الآل: اسم لكل من رجع إلى معتمد فيما رجع فيه إليه، فتارة يكون النسب، وتارة بالسبب) (¬13). فقوله: (بالنسب) إشارة إلى الأهل والقرابة، وقوله: (بالسبب) إشارة إلى الأتباع، ومن الثاني قوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46]. هذا وقد اختلف علماء اللغة في دخول الشخص من آل نفسه، فذهب بعض المحققين إلى التفصيل في ذلك، وهو إن ذكر الشخص مع آله فلا يدخل فيهم، وإن لم يذكر معهم كأن يقال آل زيد فعند ذلك يدخل فيهم (¬14). وأما الأهل فقد اتفق علماء اللغة على إطلاق أهل الرجل على زوجه. قال الخليل: (أهل الرجل: زوجه) (¬15). ونقله ابن فارس مقراً له (¬16). وقال الراغب: (وعبر بأهل الرجل عن امرأته) (¬17). وفي (لسان العرب): (أهل الرجل: زوجته) (¬18). وفي (المصباح المنير): (ويطلق الأهل على الزوجة) (¬19). ولهذا الاتفاق ذهب بعضهم إلى أن الأهل تطلق على الزوجة خاصة؛ لأنها المرادة في عرف اللسان (¬20). ¬

(¬1) ((كتاب العين)) (8/ 395). (¬2) ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 159). (¬3) ((نزهة الأعين)) (ص: 121). (¬4) ((حاشية الروض المربع)) (1/ 40)، ((مجموع الفتاوى)) (22/ 463). (¬5) ((مفردات ألفاظ القرآن)) (ص: 98). (¬6) ((لسان العرب)) (1/ 186). (¬7) ((القاموس المحيط)) (ص: 1245). (¬8) ((المصباح المنير)) (ص: 12). (¬9) ((جلاء الأفهام)) (ص: 203 - 204). (¬10) كتاب ((العين)) (8/ 395)، ((الصحاح)) (4/ 1627)، ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 160). (¬11) ((الصحاح)) (4/ 1627)، ((المصباح المنير)) (ص: 12)، ((القاموس المحيط)) (ص: 1245). (¬12) ((الكليات)) (ص: 164). (¬13) ((نزهة الأعين)) (ص: 121 - 122). (¬14) ((جلاء الأفهام)) (ص: 204)، ((القول البديع)) (ص: 121). (¬15) كتاب ((العين)) (4/ 89). (¬16) ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 150). (¬17) ((مفردات ألفاظ القرآن)) (ص: 96). (¬18) (1/ 186). (¬19) (ص: 11). (¬20) ((الكليات)) (ص: 210).

ومما يدل على الاتفاق في هذا المعنى اتفاقهم على أن التأهل: (التزوج) (¬1). وقد أضاف أكثرهم إلى معنى الزوجة العشيرة والقرابة (¬2)، إلا أن الراغب عد ذلك من المجاز (¬3). ومن خلال هذه النقول يتبين أن لفظة الآل والأهل تشتركان في معان كثيرة بل تقتربان من الترادف. وأما البيت لغة، فيلحظ الناظر أن المتقدمين من علماء اللغة كالجوهري وابن فارس كانوا يقصرون معنى البيت على عيال الرجل كزوجه، وعلى المأوى والسكن. يقول ابن فارس: (الباء والياء والتاء أصل واحد، وهو المأوى، والمآب، ومجمع الشمل. والبيت: عيال الرجل والذين يبيت عندهم) (¬4). أما المتأخرون كصاحب (القاموس) فأضافوا معان قد لا تخرج عن المعنيين السابقين كالشرف، والتزويج، والقبر، وفرش البيت (¬5). أما إطلاق أهل البيت مركبة تركيباً إضافياً، فهي عند علماء اللغة بمعنى من يسكن فيه. قال الخليل: (أهل البيت سكانه) (¬6). وتبعه على ذلك من أتى بعده كابن فارس، وابن منظور (¬7)، والفيروزآبادي (¬8)، بدون نكير منهم. إلا أن هذا التركيب صار عرفاً على آل النبي صلى الله عليه وسلم. قال الراغب: (وصار أهل البيت متعارفاً في آل النبي صلى الله عليه وسلم) (¬9). آيات آل البيت في القرآن الكريم لمنصور بن حمد العيدي – ص: 17 ¬

(¬1) كتاب ((العين)) (4/ 89)، ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 150)، ((مفردات ألفاظ القرآن)) (ص: 79)، ((النهاية في غريب الحديث)) (1/ 84)، ((لسان العرب)) (1/ 186). (¬2) ((نزهة الأعين)) (ص: 163)، ((المصباح المنير)) (ص: 11)، ((لسان العرب)) (1/ 185). (¬3) ((مفردات ألفاظ القرآن)) (ص: 96). (¬4) ((معجم مقاييس اللغة)) (1/ 324 - 325). (¬5) ((القاموس المحيط)) (ص: 190). (¬6) كتاب ((العين)) (4/ 89). (¬7) ((لسان العرب)) (1/ 186). (¬8) ((القاموس المحيط)) (ص: 1245). (¬9) ((مفردات ألفاظ القرآن)) (ص: 151).

المطلب الثاني: تعريف آل البيت شرعا

المطلب الثاني: تعريف آل البيت شرعا واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال: فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة, وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: أنهم بنو هاشم, وبنو المطلب, وهذا مذهب الشافعي (¬1) وأحمد في رواية عنه (¬2). والثاني: أنهم بنو هاشم خاصة، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬3) , والرواية عن أحمد (¬4) واختيار ابن القاسم صاحب مالك (¬5). والثالث: أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب, فيدخل فيهم بنو مطلب, وبنو أمية, وبنو نوفل, ومن فوقهم إلى بني غالب, وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك, حكاه صاحب (الجواهر) عنه, وحكاه اللخمي في (التبصرة) عن أصبغ, ولم يحكه عن أشهب. وهذا القول في الآل أعني أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة هو منصوص الشافعي (¬6) وأحمد (¬7) والأكثرين, وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي (¬8). والقول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة, حكاه ابن عبد البر في (التمهيد) (¬9) قال في باب عبد الله بن أبي بكر، في شرح حديث أبي حميد الساعدي: استدل قوم بهذا الحديث على أن آل محمد هم أزواجه وذريته خاصة، لقوله في حديث مالك عن نعيم المجمر، وفي غير ما حديث: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)) (¬10) وفي هذا الحديث يعني حديث أبي حميد: ((اللهم صل على محمد وعلى وأزواجه وذريته)) (¬11) , قالوا: فهذا تفسير ذلك الحديث, ويبين أن آل محمد هم أزواجه وذريته, قالوا: فجائز أن يقول الرجل لكل من كان من أزواج محمد صلى الله عليه وسلم ومن ذريته صلى الله عليك، إذا واجهه, وصلى الله عليه إذا غاب عنه, ولا يجوز ذلك في غيرهم. قالوا: والآل والأهل سواء, وآل الرجل وأهله سواء, وهم الأزواج والذرية بدليل هذا الحديث. والقول الثالث: أن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم, وأقدم من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله, ذكره البيهقي عنه (¬12)، ورواه عن سفيان الثوري وغيره, واختاره بعض أصحاب الشافعي (¬13) , حكاه عنه أبو الطيب الطبري في تعليقه, ورجحه الشيخ محيي الدين النواوي في (شرح مسلم) (¬14) واختاره الأزهري. والقول الرابع: أن آله صلى الله عليه وسلم هم الأتقياء من أمته, حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة. فصل في ذكر حجج هذه الأقوال, وتبين ما فيها من الصحيح والضعيف ¬

(¬1) [12271])) ((الأم)) للشافعي (2/ 88)، ((الحاوي)) للماوردي (7/ 516). (¬2) [12272])) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 517 - 518)، ((الفروع)) لابن مفلح (2/ 481). (¬3) [12273])) ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 12)، و ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/ 49). (¬4) [12274])) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 517 - 518)، ((الفروع)) لابن مفلح (2/ 481). (¬5) [12275])) ((الذخيرة)) للقرافي (3/ 142)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/ 9). (¬6) [12276])) ((الأم)) للشافعي (2/ 88)، ((الحاوي)) للماوردي (7/ 516). (¬7) [12277])) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 517 - 518)، ((الفروع)) لابن مفلح (2/ 481). (¬8) [12278])) ((الأم)) للشافعي (2/ 88)، ((الحاوي)) للماوردي (7/ 516)، ((المغني)) لابن قدامة (2/ 517 - 518)، ((الفروع)) لابن مفلح (2/ 481). (¬9) [12279])) ((التمهيد)) (16/ 183، 196). (¬10) [12280])) رواه البخاري (3370) ومسلم (406). من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه. (¬11) [12281])) رواه البخاري (3369). (¬12) [12282])) رواه البيهقي (2/ 82) (2986). قال ابن القيسراني في ((ذخيرة الحفاظ)) (1/ 191): [فيه] الحسن بن صالح ضعيف. (¬13) [12283])) انظر: ((الحاوي)) (7/ 517). (¬14) [12284])) ((شرح صحيح مسلم)) (7/ 185).

فأما القول الأول: وهو أن الآل من تحرم عليهم الصدقة على ما فيهم من الاختلاف, فحجته من وجوه: أحدها: ما رواه البخاري في صحيحه: من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه, قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالنخل عند صرامه, فيجيء هذا بتمرة وهذا بتمرة حتى يصير عنده كوم من تمر, فجعل الحسن والحسين يلعبان بذلك التمر, فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه, فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه, فقال: أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة)) (¬1) , ورواه مسلم وقال: ((إنا لا تحل لنا الصدقة)) (¬2). الثاني: ما رواه مسلم في صحيحه: عن زيد بن أرقم, قال: ((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة, فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ, ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله عز وجل فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به, فحث على كتاب الله ورغب فيه, وقال: وأهل بيتي: أذكركم الله في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي. فقال له حصين بن سبرة: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته, ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل, وآل جعفر, وآل عباس. قال: أكل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الصدقة لا تحل لآل محمد)) (¬3). الدليل الثالث: ما في الصحيحين: من حديث الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها ((أن فاطمة رضي الله عنها أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث, ما تركنا صدقة, إنما يأكل آل محمد من هذا المال يعني مال الله ليس لهم أن يزيدوا على المأكل)) (¬4). فآله صلى الله عليه وسلم لهم خواص: منها حرمان الصدقة, ومنها أنهم لا يرثونه, ومنها استحقاقهم خمس الخمس, ومنها اختصاصهم بالصلاة عليهم. وقد ثبت أن تحريم الصدقة واستحقاق خمس الخمس وعدم توريثهم مختص ببعض أقاربه صلى الله عليه وسلم فكذلك الصلاة على آله. الدليل الرابع: ما رواه مسلم: من حديث ابن شهاب, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي, أن عبد المطلب بن ربيعة أخبره، أن أباه ربيعة بن الحارث، قال لعبد المطلب بن ربيعة، وللفضل بن العباس رضي الله عنهما: ((ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولا له استعملنا يا رسول الله على الصدقات فذكر الحديث وفيه: فقال لنا: إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) (¬5). الدليل الخامس: ما رواه مسلم في صحيحه: من حديث عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، فذكر الحديث وقال فيه: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكبش، فأضجعه، ثم ذبحه ثم قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد، ومن آل محمد, ومن أمة محمد. ثم ضحى به)) (¬6). هكذا رواه مسلم بتمامه، وحقيقة العطف المغايرة، وأمته صلى الله عليه وسلم أعم من آله. قال أصحاب هذا القول: (وتفسير الآل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم أولى من تفسيره بكلام غيره). فصل ¬

(¬1) [12285])) رواه البخاري (1485). (¬2) [12286])) رواه مسلم (1069). (¬3) [12287])) رواه مسلم (2408). (¬4) [12288])) رواه البخاري (3711)، ومسلم (1759). (¬5) [12289])) رواه مسلم (1072). (¬6) [12290])) رواه مسلم (1967).

وأما القول الثاني: أنهم ذريته وأزواجه خاصة، فقد تقدم احتجاج ابن عبد البر له، بأن في حديث أبي حميد ((اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته)) (¬1) وفي غيره من الأحاديث اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, وهذا غايته أن يكون الأول منهما قد فسره اللفظ الآخر. واحتجوا أيضاً بما في الصحيحين: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)) (¬2) ومعلوم أن هذه الدعوة المستجابة لم تنل كل بني هاشم ولا بني المطلب, لأنه كان فيهم الأغنياء وأصحاب الجدة وإلى الآن. وأما أزواجه وذريته صلى الله عليه وسلم فكان رزقهم قوتاً, وما كان يحصل لأزواجه بعد من الأموال كن يتصدقن به ويجعلن رزقهن قوتاً. (وقد جاء عائشة رضي الله عنها مال عظيم فقسمته كله في قعدة واحدة، فقالت لها الجارية: لو خبيت لنا منه درهماً نشتري به لحماً؟ فقالت لها: لو ذكرتني فعلت) (¬3). واحتجوا أيضاً بما في الصحيحين: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق بالله عز وجل) (¬4). قالوا: ومعلوم أن العباس وأولاده وبني المطلب لم يدخلوا في لفظ عائشة ولا مرادها. قال هؤلاء: وإنما دخل الأزواج في الآل، وخصوصاً أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تشبيهاً لذلك بالسبب، لأن اتصالهن بالنبي صلى الله عليه وسلم غير مرتفع، وهن محرمات على غيره في حياته وبعد مماته، وهن زوجاته في الدنيا والآخرة، فالسبب الذي لهن بالنبي صلى الله عليه وسلم قائم مقام النسب. وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عليهن، ولهذا كان القول الصحيح، وهو منصوص الإمام أحمد رحمه الله: (أن الصدقة تحرم عليهن, لأنها أوساخ الناس، وقد صان الله سبحانه ذلك الجناب الرفيع وآله من كل أوساخ بني آدم) (¬5) ويا لله العجب كيف يدخل أزواجه في قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)) (¬6) , وقوله في الأضحية: ((اللهم هذا عن محمد وآل محمد)) (¬7)، وفي قول عائشة رضي الله عنها: ((ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز بر)) (¬8) وفي قول المصلي: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)) (¬9)، ولا يدخلن في قوله: ((إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد مع كونها من أوساخ الناس)) (¬10)، فأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالصيانة عنها والبعد منها. ¬

(¬1) [12291])) رواه البخاري (3369). (¬2) [12292])) رواه البخاري (4460)، ومسلم (1055). (¬3) [12293])) رواه الحاكم (4/ 15). بلفظ: (أن معاوية بن أبي سفيان بعث إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف فقسمتها حتى لم تترك منها شيئا فقالت بريرة: أنت صائمة فهلا اتبعت لنا بدرهم لحما فقالت عائشة: لو أني ذكرت لفعلت). (¬4) [12294])) رواه البخاري (5423)، ومسلم (2970). (¬5) [12295])) ((المغني)) (7/ 331). (¬6) [12296])) رواه البخاري (4460)، ومسلم (1055). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) [12297])) رواه الطبراني (1/ 311) , والحاكم (2/ 425) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (9/ 259) , من حديث أبي رافع رضي الله عنه, قال ابن حبان في ((المجروحين)) (1/ 495): (فيه) عبد الله بن محمد بن عقيل كان رديء الحفظ كان يحدث على التوهم, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 24): إسناده حسن, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬8) [12298])) رواه البخاري (6687) ومسلم (2970). (¬9) [12299])) رواه البخاري (3370) ومسلم (406). من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه. (¬10) [12300])) رواه مسلم (1072) ولفظه: (( .... إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس إنها لاتحل لمحمد ولا لآل محمد ... )).

فإن قيل: لو كانت الصدقة حراماً عليهن لحرمت على مواليهن، كما أنها لما حرمت على بني هاشم على مواليهم، وقد ثبت في الصحيح أن بريرة تصدق عليها بلحم فأكلته، ولم يحرمه النبي صلى الله عليه وسلم, وهي مولاة لعائشة رضي الله عنها. قيل: هذا هو شبهة من أباحها لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وجواب هذه الشبهة: أن تحريم الصدقة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليس بطريق الأصالة، وإنما هو تبع لتحريمها عليه صلى الله عليه وسلم وإلا فالصدقة حلال لهن قبل اتصالهن به، فهن فرع في هذا التحريم على المولى فرع التحريم على سيده، فلما كان التحريم على بني هاشم أصلاً استتبع ذلك مواليهم ولما كان التحريم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تبعاً, لم يقو ذلك على استتباع مواليهن، لأنه فرع عن فرع. قالوا: وقد قال الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً [الأحزاب: 30 - 33] فدخلن في أهل البيت لأن هذا الخطاب كله في سياق ذكرهن، فلا يجوز إخراجهن من شيء, والله أعلم. فصل وأما القول الثالث: وهو أن آل النبي صلى الله عليه وسلم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة. فقد احتج له بأن آل المعظم المتبوع هم أتباعه على دينه وأمره، قريبهم وبعيدهم. قالوا: واشتقاق هذه اللفظة تدل عليه, فإنه من آل يؤول إذا رجع، ومرجع الأتباع إلى متبوعهم لأنه إمامهم وموئلهم. قالوا: ولهذا كان قوله تعالى: إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَر [القمر: 34] المراد به أتباعه وشيعته المؤمنون به من أقاربه وغيرهم. وقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46]، المراد به أتباعه. واحتجوا أيضاً بأن واثلة بن الأسقع روى: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا حسناً وحسيناً، فأجلس كل واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة رضي الله عنها من حجره وزوجها، ثم لف عليهم ثوبه, ثم قال: اللهم هؤلاء أهلي، قال واثلة: فقلت يا رسول الله، وأنا من أهلك؟ فقال: وأنت من أهلي)) رواه البيهقي بإسناد جيد (¬1). قالوا: ومعلوم أن واثلة بن الأسقع من بني ليث بن بكر بن عبد مناة، وإنما هو من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم. فصل وأما أصحاب القول الرابع: أن آله الأتقياء من أمته. ¬

(¬1) [12301])) رواه البيهقي (2/ 80) (2984). وقال البيهقي: إسناده صحيح، وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 385): حسن غريب، وقال ابن القيم في ((جلاء الأفهام)) (334): إسناده جيد، وصححه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1890).

فاحتجوا بما رواه الطبراني في (معجمه): عن جعفر بن إلياس بن صدقة، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا نوح بن أبي مريم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري, عن أنس بن مالك, قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آل محمد؟ فقال: كل تقي, وتلا النبي صلى الله عليه وسلم: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ [الأنفال: 34])) قال الطبراني: لم يروه عن يحيى إلا نوح، تفرد به نعيم. وقد رواه البيهقي: من حديث عبد الله بن أحمد بن يونس، حدثنا نافع أبو هرمز، عن أنس، فذكره (¬1). ونوح هذا ونافع أبو هرمز لا يحتج بهما أحد من أهل العلم، وقد رميا بالكذب واحتج لهذا القول أيضاً بأن الله عز وجل قال لنوح عن ابنه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود: 46]، فأخرجه بشركه أن يكون من أهله، فعلم أن آل الرسول صلى الله عليه وسلم هم أتباعه. وأجاب عنه الشافعي رحمه الله بجواب جيد، وهو أن المراد أنه ليس من أهلك الذين أمرناك بحملهم، ووعدناك بنجاتهم، لأن الله سبحانه قال له قبل ذلك: احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود: 40] , فليس ابنه من أهله الذين ضمن نجاتهم. وتخصيصاً له بالذكر من بين النوع، لأنه من أحق أفراد النوع بالدخول فيه، وهنا للناس طريقان: أحدهما: أن ذكر الخاص قبل العام أو بعده قرينة تدل على أن المراد بالعام ما عداه. والطريق الثاني: أن الخاص ذكر مرتين مرة بخصوصه ومرة بشمول الاسم العام له تنبيهاً على مزيد شرفه، وهو كقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7]، وقوله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 98]. وأيضاً فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حق له ولآله دون سائر الأمة، ولهذا تجب عليه وعلى آله عند الشافعي رحمه الله وغيره ... وإن كان عندهم في الآل اختلاف، ومن لم يوجبها فلا ريب أنه يستحبها عليه وعلى آله، ويكرهها أو لا يستحبها لسائر المؤمنين، أو لا يجوزها على غير النبي صلى الله عليه وسلم وآله، فمن قال: إن آله في الصلاة هم كالأمة، فقد أبعد غاية الإبعاد. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرع في التشهد السلام والصلاة، فشرع في السلام تسليم المصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً وعلى نفسه ثانياً، وعلى سائر عباد الله الصالحين ثالثاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فإذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض)) (¬2) , وأما الصلاة فلم يشرعها إلا عليه وعلى آله فقط، فدل على أن آله هم أهله وأقاربه. وأيضاً فإن الله سبحانه أمرنا بالصلاة عليه بعد ذكر حقوقه وما خصه به دون أمته من حل نكاحه لمن تهب نفسها له، ومن تحريم نكاح أزواجه على الأمة بعده، ومن سائر ما ذكر مع ذلك من حقوقه وتعظيمه وتوقيره وتبجيله. ¬

(¬1) [12302])) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 338) (3332)، والبيهقي (2/ 83) (2987). قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (8/ 293): [فيه] نوح بن أبي مريم مع ضعفه يكتب حديثه، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/ 165): إسناده واهٍ جداً، [وروي] نحوه ضعيف. (¬2) [12303])) رواه أحمد (1/ 413) (3919). قال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (10/ 6): إسناده صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط البخاري رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي سعيد فمن رجال البخاري.

ثم قال تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53]، ثم ذكر رفع الجناح عن أزواجه في تكليمهن آباءهن وأبناءهن ودخولهم عليهن، وخلوتهم بهن، ثم عقب ذلك بما هو حق من حقوقه الأكيدة على أمته، وهو أمرهم بصلاتهم عليه وسلامه، مستفتحاً ذلك الأمر بإخباره بأنه هو وملائكته يصلون عليه، فسأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: على أي صفة يؤذن هذا الحق؟ فقال: ((قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)) (¬1) , فالصلاة على آله هي من تمام الصلاة عليه وتوابعها، لأن ذلك مما تقر به عينه، ويزيده الله به شرفاً وعلواً. صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً. وأما من قال إنهم الأتقياء من أمته فهؤلاء هم أولياؤه، فمن كان منهم من أقربائه فهو من أوليائه، ومن لم يكن منهم من أقربائه، فهم من أوليائه، لا من آله. فقد يكون الرجل من آله وأوليائه، كأهل بيته والمؤمنين به من أقاربه، ولا يكون من آله ولا من أوليائه، وقد يكون من أوليائه وإن لم يكن من آله، كخلفائه في أمته الداعين إلى سنته, الذابين عنه، الناصرين لدينه، وإن لم يكن من أقاربه. وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إن أوليائي المتقون أين كانوا ومن كانوا)) (¬2) ... وأما من زعم أن الآل هم الأتباع، فيقال: لا ريب أن الأتباع يطلق عليهم لفظ الآل في بعض المواضع بقرينة، ولا يلزم من ذلك أنه حيث وقع لفظ الآل يراد به الأتباع، لما ذكرنا من النصوص، والله أعلم. جلاء الأفهام لابن القيم - بتصرف 1/ 210 ¬

(¬1) [12304])) رواه البخاري (3370)، ومسلم (406). من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه. (¬2) [12305])) رواه البخاري (5990)، ومسلم (215) بلفظ: ((ألا إن آل أبي (يعني فلانا) ليسوا لي بأولياء إنما ولي الله وصالح المؤمنين)). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

المطلب الثالث دخول أزواج النبي في آل البيت

المطلب الثالث دخول أزواج النبي في آل البيت دخول الأزواج رضي الله عنهن في مصطلح الآل: لما كان دخول الأزواج رضي الله عنهن في الآل والأهل، وتحريم الصدقة عليهم مما قد يخفى (¬1)، نذكر هنا نصوصاً إضافية تدل على ذلك. 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ولقد ذكروا رجلاً ... ما كان يدخل على أهلي إلا معي)) (¬2). فهنا سمى النبي صلى الله عليه وسلم زوجته رضي الله عنها في هذا الحديث (حديث الإفك) سماها أهله بل أهل بيته. 2 - عن أنس أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم قلن للنبي صلى الله عليه وسلم بعد بنائه بزينب: (كيف وجدت أهلك؟) (¬3). 3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتالين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬4). 4 - عن ابن عباس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة هو وأهله لا يجدون شيئاً) (¬5). 5 - سئلت عائشة رضي الله عنها ما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في البيت فقالت: (كان يكون في مهنة أهله) (¬6). وواضح أن السؤال عن بيته صلى الله عليه وسلم الذي فيه زوجته. 6 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له قلادة من جزع فقال: ((لأدفعنها إلى أحب أهلي إلي، فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة ... )) الحديث – يعني عائشة – رضي الله عنها، وفي رواية، ((لأدفعنها إلى أحب أهل البيت إلي)) (¬7). 7 - في حديث الإفك قال أسامة بن زيد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أهلك وما نعلم إلا خيراً) (¬8). وهذان الحديثان يدلان على شيوع إطلاق أهل النبي صلى الله عليه وسلم على زوجاته رضي الله عنهن. 8 - عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله) (¬9). ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يضحي عن الزوجات فحسب. 9 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جئنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنا فأذن لنا، فوضعت بين أيدينا صحفة فيها قدر مد من الشعير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما أمسى في آل محمد غير شيء ترونه)) (¬10). ¬

(¬1) خفي على الهيتمي كما في ((الصواعق المحرقة)) (ص: 144). (¬2) رواه البخاري (2661)، ومسلم (2770). (¬3) رواه البخاري (4793)، ومسلم (1428). (¬4) رواه البخاري (6454)، ومسلم (2970) واللفظ له. (¬5) رواه الترمذي (2360)، وابن ماجه (2719)، وأحمد (1/ 255) (2303) بلفظ: ((لا يجدون عشاء)) بدلاً من ((لا يجدون شيئاً)). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال ابن القيم في ((عدة الصابرين)) (1/ 299): صحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (5/ 182)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬6) رواه البخاري (676). (¬7) رواه أحمد (6/ 101) (24748)، وأبو يعلى في ((المسند)) (7/ 445) (4471)، والطبراني (22/ 442) (18932). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 411): وإسناد أحمد وأبي يعلى حسن. (¬8) رواه البخاري (4750). (¬9) رواه البخاري (7210). (¬10) رواه الطبراني في ((الأوسط)) (3/ 195) (2907)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (1/ 255)، وابن أبي شيبة (11/ 496)، والخطيب في ((موضح أوهام الجمع والتفريق)) (1/ 62). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 311): رواه الطبراني في ((الأوسط)) ورجاله ثقات.

10 - حديث بلال رضي الله عنه لما جاءت إبل الصدقة قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منها))، فلما أراحه بلال رضي الله عنه منها قال: (ثم اتبعته حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته) (¬1). 11 - لما دون عمر رضي الله عنه الدواوين قال: (أبدأ بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ بالأزواج ثم بعلي رضي الله عنه) (¬2). قال ابن قدامة تعليقاً على حديث عائشة رضي الله عنها: (إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة) (¬3)، قال: (وهذا يدل على تحريمها على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) (¬4). قال ابن القيم: (ولهذا كان القول الصحيح وهو منصوص الإمام أحمد أن الصدقة تحرم عليهم؛ لأنها أوساخ الناس، وقد صان الله ذلك الجناب الرفيع وآله من كل أوساخ بني آدم، ويالله العجب كيف يدخل أزواجه في قوله: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)) (¬5)، وقوله في الأضحية: ((اللهم تقبل من محمد وآل محمد)) (¬6)، وفي قول عائشة: ((ما شبع آل رسول الله من خبز بر)) (¬7)، وفي قول المصلي: اللهم صل على محمد وآل محمد، ولا يدخلن في قوله: ((إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) (¬8)، مع كونها من أوساخ الناس، فأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالصيانة عنها والبعد منها) (¬9). فهذه نصوص صريحة الدلالة في إطلاق آل وأهل النبي صلى الله عليه وسلم على زوجاته الطاهرات رضي الله عنهن، وهناك نصوص أخرى أطلقت عليهم مصطلح (أهل البيت) غير ما تقدم. آيات آل البيت في القرآن الكريم لمنصور بن حمد العيدي – ص: 30 ¬

(¬1) رواه أبو داود (3055)، وابن حبان (14/ 261) (6351)، والطبراني (1/ 363) (1123)، والبيهقي (6/ 80) (11767). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في ((الأموال)) (ص: 236 - 237)، والبلاذري في ((فتوح البلدان)) (3/ 548) (1017). (¬3) رواه ابن أبي شيبة (3/ 214) موقوفاً. وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (3/ 416): إسناده إلى عائشة حسن. (¬4) ((المغني)) (4/ 112). (¬5) رواه البخاري (6460)، ومسلم (1055) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (¬6) رواه مسلم (1967) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬7) رواه البخاري (5423)، ومسلم (2970) (¬8) رواه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (8/ 38). من حديث معاوية بن حيدة. وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (6/ 29)، وقال البيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 224): ثابت. والحديث روي من طرق أخرى بلفظ: (( ... الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته)). (¬9) ((جلاء الأفهام)) (ص: 217 - 218).

المبحث الثاني فضائل آل البيت

المطلب الأول: فضائل أهل البيت في الكتاب أما الآيات التي تشير إلى فضائل ومناقب أهل البيت والتي تدل على رفعة منزلتهم وعلو درجتهم لما لهم من صلة بالنسب الشريف صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هي: 1 - قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]. ففي هذه الآية منقبة عظيمة شرف الله بها آل البيت حيث طهرهم من الرجس تطهيراً وهي شاملة لجميع أهل بيته صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومن سلك مسلكهم وسار على نهجهم فالله أراد لهم التطهير. قال ابن حجر الهيتمي: هذه الآية منبع فضائل أهل البيت النبوي لاشتمالها على غرر من مآثرهم والاعتناء بشأنهم حيث ابتدأت بـ (إنما) المفيدة لحصر إرادته تعالى في أمرهم على إذهاب الرجس الذي هو الإثم أو الشك فيما يجب الإيمان به عنهم، وتطهيرهم من سائر الأخلاق والأحوال المذمومة (¬1). وقد اختلف المفسرون في معنى الرجس على أربعة أقوال: فقيل الإثم: وقيل الشرك، وقيل الشيطان، وقيل الأفعال الخبيثة والأخلاق الذميمة، فالأفعال الخبيثة كالفواحش ما ظهر منها وما بطن، والأخلاق الذميمة كالشح، والبخل والحسد وقطع الرحم (¬2). 2 - قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. وفي ذلك منقبة عظيمة ودرجة عالية شريفة حيث أمر بالصلاة عليهم تبعاً له صلى الله عليه وسلم يوضح ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن كعب بن عجرة قال: ((لما نزلت هذه الآية قلنا يا رسول الله: قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ... )) (¬3). 3 - قوله تعالى: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: 61]. في هذه الآية فضيلة عالية ومنقبة جليلة لأصحاب الكساء وهم فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ((لما نزلت هذه الآية فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي)) (¬4). قال ابن حجر الهيتمي: فعلم أنهم المراد من الآية وأن أولاد فاطمة وذريتهم يسمون أبناءه وينسبون إليه نسبة صحيحة نافعة في الدنيا والآخرة (¬5). وكما هو معلوم أنه قد ورد الثناء في الكتاب والسنة على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في غير ما آية وحديث على سبيل العموم مثل: قوله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح: 29]. قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]. وقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... [الفتح: 18]. وغير ذلك من الآيات، ويدخل في هذا الثناء صحابته من أهل بيته رضي الله عنهم دخولاً أولياً فهم أولى وألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم بن رجاء –ص: 60 ¬

(¬1) ((الصواعق المحرقة)) (ص: 223). (¬2) انظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/ 571)، و ((زاد المسير)) لابن الجوزي (6/ 381). (¬3) رواه البخاري (6357). (¬4) رواه مسلم (2404). (¬5) ((الصواعق المحرقة)) (ص: 240).

المطلب الثاني فضائل أهل البيت في السنة

المطلب الثاني فضائل أهل البيت في السنة لقد وردت أحاديث كثيرة تبين فضائل ومناقب أهل البيت عموماً منها: 1 - ما روى الترمذي بسنده أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: ((يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ثم تخير البيوت، فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً)) (¬1). فهذا الحديث يدل على فضل جنس العرب ثم جنس قريش ثم جنس بني هاشم فكان النبي صلى الله عليه وسلم خير الناس نفساً ونسباً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والمعنى أن النخلة طيبة في نفسها، وإن كان أصلها ليس بذاك فأخبر صلى الله عليه وسلم: أنه خير الناس نفساً ونسباً) (¬2). 2 - وروى مسلم في صحيحه بسنده عن أبي عمار شداد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)) (¬3). فهذا الحديث نص في التفضيل (والذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم وروميهم وفرسيهم وغيرهم، وأن قريشاً أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم فهو أفضل الخلق وأفضلهم نسباً) (¬4). 3 - وجاء في صحيح مسلم بإسناده إلى يزيد بن حيان قال: ((انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا يزد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بن أخي! والله! لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فامثلوا، وما لا، فلا تكلفونيه، ثم قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً بماء يدعى خماً، بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ... )) (¬5) الحديث. ففي هذا الحديث منقبة واضحة وفضيلة عالية لأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم حيث قرن الوصية بهم مع الوصية بالالتزام والتمسك بكتاب الله الذي فيه الهدى والنور، فجعلهم صلى الله عليه وسلم ثقلاً دليل واضح على عظم حقهم وارتفاع شأنهم وعلو منزلتهم. فالتمسك بالكتاب امتثال ما أمر الله به فيه واجتناب ما نهى عنه قولاً وعملاً. والتمسك بأهل بيته محبتهم والمحافظة على حرمتهم والعمل بروايتهم الصحيحة والاهتداء بهديهم وسيرتهم إذا لم يكن في ذلك مخالفة في الدين ... ¬

(¬1) رواه الترمذي (3607)، وأحمد (1/ 210) (1788)، والبزار (1/ 229). قال الترمذي: حسن، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 819): إسناده صحيح، وحسنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند. (¬2) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 374). (¬3) رواه مسلم (2276). (¬4) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 270). (¬5) رواه مسلم (2408).

4 - وروى مسلم في صحيحه عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33])) (¬1). فهذه فضيلة ظاهرة لهؤلاء الخمسة وقد طهرهم الله من الرجس وجل نسل آل البيت منهم رضي الله عنهم أجمعين. 5 - روى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا بني عبد المطلب إني سألت الله لكم ثلاثاً أن يثبت قائمكم وأن يهدي ضالكم، وأن يعلم جاهلكم وسألت الله فيكم أن يجعلكم جوداء نجداء رحماء فلو أن رجلاً صفن بين الركن والمقام فصلى وصام ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار)) (¬2). فهذا الحديث تضمن ثلاث مناقب لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهي واضحة لا تحتاج إلى زيادة بيان كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم إضافة إلى ما تضمنه من وجوب محبتهم والبعد عن بغضهم لأن من فعل ذلك فهو من أهل النار والعياذ بالله. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم بن رجاء -بتصرف – ص: 62 ¬

(¬1) رواه مسلم (2424). (¬2) رواه الحاكم (3/ 161)، وروا هـ الطبراني (11/ 176) (11412). قال الحاكم: هذا حديث حسن صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 174): [فيه] محمد بن زكريا الغلابي وهو ضعيف، وذكره ابن حبان في ((الثقات)) وقال: يعتبر حديثه إذا روى عن الثقات فإن في روايته عن المجاهيل بعض المناكير، وروى هذا عن سفيان الثوري، وبقية رجاله رجال الصحيح.

المطلب الثالث: فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

الفرع الأول: فضائل أزواج النبي إجمالا الفضيلة الأولى: الحديث عنهن بوصف الزوجية ذكر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الزوجية في غير ما موضع من القرآن الكريم، ومن ذلك أول آية من آيات التخيير: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ [الأحزاب: 28]، إن ذكر أمهات المؤمنين بلفظ الزوجية هنا لم يكن عبثاً من القول –وحاشا القرآن أن يكون كذلك- بل له دلالة على الفضل، ووجه ذلك: أن لفظ الأزواج مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران كما هو المفهوم من لفظه؛ فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان والمتساويان، ومنه قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات: 22]، قال أهل التفسير: أشباههم وأمثالهم (¬1). ففي الآية دليل ظاهر على التزكية العلية لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث جعلن في مقام المشابه المناسب له صلى الله عليه وسلم مما يدل على صفات الصلاح والتقوى والطهر. وتأمل كيف كان القرآن يتحدث عن الزوجات الكافرات للأنبياء بلفظ المرأة، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ [التحريم: 10] أما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان الخطاب لهن بلفظ الزوجة غالباً حتى في مقام العتاب كما في سورة التحريم، ولم يخاطبهن بلفظ المرأة. وغير خافٍ لطافة بداية الخطاب القرآني لهن بلفظ الزوجية في آية التخيير، وكأن الله يذكرهن بمقام المشابهة والمناسبة للنبي صلى الله عليه وسلم والذي لا ينبغي أن يغفلن عنه، بل يلحظنه دائما، وقد فعلن رضي الله عنهن. الفضيلة الثانية: اختيارهن جميعاً الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة: وهذا أمر مقطوع به دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنه المتقدم وحديث عائشة رضي الله عنها، وفيه: (فجعل يخيرهن ويقرأ عليهن القرآن، ويخبرهن بما صنعت عائشة رضي الله عنها فتتابعن على ذلك) (¬2). وعلى هذا قول جمهور المفسرين (¬3) أنهن جميعاً تتابعن على ما قالت عائشة رضي الله عنها إلا ما روي عن ابن زيد (¬4) أن بدوية اختارت نفسها، لكنه رأي مرجوح. قال ابن حجر: (واستدل به بعضهم على ضعف ما جاء أن من الأزواج حينئذ من اختارت الدنيا لعموم قولها: (ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت) (¬5). قال ابن تيمية: (وقد ثبت بالنقل الصحيح أن هذه الآيات لما نزلت قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه، وخيرهن كما أمره الله، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك أقرهن ولم يطلقهن، حتى مات عنهن) (¬6). قال ابن كثير: (فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة؛ فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة) (¬7). وإذا كان هذا الاختيار دالاً على المرتبة العالية في التقوى وصدق الإيمان لأمهات المؤمنين عموماً فإن فيه فضائل خاصة لعائشة رضي الله عنها من عدة جهات: الأولى: البدء بها في التخيير المشعر بتقدمها على باقي الأمهات رضي الله عنهن. الثانية: بيان كمال عقلها، وصحة رأيها مع صغر سنها (¬8)، حيث أسرعت بالاستجابة ولم تشاور أبويها، ورأت أن هذا لا استشارة فيه البتة. ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) (7/ 8 - 9). (¬2) ((تفسير الطبري)) (21/ 99)، والحديث رواه مسلم مطولاً (1478) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (¬3) ((تفسير الطبري)) (21/ 100)، ((المحرر الوجيز)) (12/ 51). (¬4) ((تفسير الطبري)) (21/ 99 - 100). (¬5) ((فتح الباري)) (8/ 383). (¬6) ((رسالة في فضل أهل البيت)) (ص: 22). (¬7) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 401). (¬8) ((فتح الباري)) (8/ 382).

الثالثة: أنها بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم قد سنت سنة حسنة، فيكون لها أجر باقي الأمهات لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرهن جميعاً بما قالت عائشة رضي الله عنها. عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً)) (¬1). الرابعة: استبشار النبي صلى الله عليه وسلم باستجابتها حتى رئي الفرح في وجهه صلى الله عليه وسلم. وكان من تبعات اختيار أمهات المؤمنين رضي الله عنهن الله ورسوله والدار الآخرة – وهو من الفضائل- إنزال بقية الآيات تكريماً لهن. قال الشوكاني: (لما اختار نساء رسول الله رسول الله؛ أنزل فيهن هذه الآيات تكريماً لهن وتعظيماً لحقهن) (¬2). الفضيلة الثالثة: العناية بنصحهن وخطابهن بأحسن الألقاب: وهذا أمر تميزن به عن بقية الصحابة، بل عن بقية آل البيت رضي الله عنهم أجمعين، يقول الألوسي: (قال تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ [الأحزاب: 30] تلوين للخطاب، وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن. ونداؤهن هاهنا وفيما بعد بالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام، واعتبار كونهن نساء في الموضعين أبلغ من اعتبار كونهن أزواجاً كما لا يخفى على المتأمل) (¬3). الفضيلة الرابعة: استحقاقهن الأجر العظيم: قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 29]، هذه الآية الكريمة تدل على أنهن سينلن أجراً عظيماً، وهذا الأجر العظيم مجمل بينته الآيات الأخر، وإذا تأملنا وجدنا أن هذا الأجر العظيم في الدنيا والآخرة؛ أما في الآخرة فكونهن مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهذا أمر لا غاية فوقه ولا مزية بعده، وفي ذلك من زيادة النعيم والثواب على غيرهن ما هو معلوم؛ فإن الثواب والنعيم على قدر المنزلة. أما في الدنيا فمن ثلاثة أوجه: الوجه الأول: جعلن أمهات المؤمنين تعظيماً لحقهن، وتأكيداً لحرمتهن، وتشريفاً لمنزلتهن. الوجه الثاني: حظر طلاقهن، وتحريم التزوج عليهن على أحد القولين عند المفسرين في قوله تعالى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ [الأحزاب: 52]؛ لأنهن لم يخترن غير النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بإمساكهن (¬4). الوجه الثالث: قتل قاذفهن، أما غيرهن فالجلد فقط. ويلاحظ في الآية الكريمة إيقاع الظاهر موقع المضمر؛ فإنه تعالى قال: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 29]، ولم يقل فإن الله أعد لكن أجراً عظيماً. والحكمة من ذلك كما قال بعض المفسرين: (تنبيهاً على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم وهو الإحسان؛ كأنه قال: أعد لكن؛ لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسناً) (¬5)، وهذا التعليل يتماشى مع الفائدة العامة للإظهار في موضع الإضمار عند المفسرين (¬6)، وهو بيان علة الحكم. وقال بعض المفسرين: الفائدة من ذكر الإحسان؛ ليعلم أن هذا الأجر حاصل لهن على مقدار إحسانهن؛ لأن الإحسان متفاوت، فعلى مقدار إحسان كل واحدة يكون أجرها العظيم (¬7). ولا مانع من صواب هذا الرأي أيضاً؛ إذ أنه لا يخلو مثال للإظهار في موضوع الإضمار من فائدة خاصة به (¬8). ¬

(¬1) رواه مسلم (1017). (¬2) ((فتح القدير)) (4/ 276). (¬3) ((روح المعاني)) (21/ 184). (¬4) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/ 565 - 566). (¬5) ((البحر المحيط)) (7/ 220). (¬6) ((تفسير القرآن)) لابن عثيمين (1/ 67). (¬7) ((التحرير والتنوير)) (21/ 316). (¬8) ((قواعد التفسير)) (1/ 340).

وكما تحدث المفسرون عن الإظهار في موضع الإضمار تحدثوا عن حرف (من) في الآية، وهل هو لبيان الجنس أو للتبعيض. فقال بعض المفسرين: إنها لبيان الجنس؛ لأن الجميع اخترن الله ورسوله والجميع محسنات (¬1)، وقال بعضهم بجواز: أن تكون للتبعيض؛ لأن اختيار الجميع لله ولرسوله لم يعلم وقت النزول. والظاهر أن (من) هنا للتبيين لا للتبعيض؛ لأن علامة (من) التبعيضية صحة مجيء (¬2) (بعض) مكانها، وهنا لا يستقيم وضع (بعض) مكانها، بينما التي لبيان الجنس تقدر بتخصيص الشيء دون غيره (¬3)، وهو ما يناسب هنا، فكأن الآية: فإن الله أعد للمحسنات أخص أمهات المؤمنين أجراً عظيماً، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30]، والمعنى: فاجتنبوا الرجس أخص الأوثان. وغير خاف أنه على القولين لا إشكال في كون كل أمهات المؤمنين محسنات، وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة على وصفه بالتعظيم (¬4). الفضيلة الخامسة: إبراز شرفهن وعلو منزلتهن: وهذا الأمر وإن كانت الآيات تدل عليه صراحة أو ضمناً إلا أننا هنا سنبرزه في قوله تعالى: يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30]. وقد يكون مستغرباً لأول وهلة كيف تدل هذه الآيات على شرف أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن -؟ والجواب هو بالنظر إلى الحكمة من وراء مضاعفة العذاب. فقد ذكر أهل التفسير حكماً من وراء ذلك تدل على ما نحن بصدده، فمن هذه الحكم قولهم: (إن مضاعفة العذاب لشرف المنزلة وفضل الدرجة وتقدمهن على سائر النساء، فهن وإن كن كالنساء جبلة؛ فإنهن لسن كغيرهن شرفاً، وشرف المنزلة لا يحتمل العثرات (¬5)، وزيادة قباحة المعصية تتبع زيادة الفضل) (¬6)، وهذا التعليل لأكثر المفسرين (¬7). بل إن الرازي تأكيداً لهذا الأمر جعل نسبة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرائر المسلمات، كنسبة الحرة إلى الأمة، فالحرة يضاعف عذابها على الأمة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يضاعف عذابها على الحرة (¬8). وقيل الحكمة من مضاعفة العقوبة لكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي قوي الأمر عليهن بسبب مكانتهن (¬9)، وغير خاف أن هذا يعود للأول. وقيل: لما فيه من كفران نعمة القرب، وهذا يعود للأول (¬10). وقيل: لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم (¬11). وقيل: لأنه قد يقتدى بهن (¬12). ولا مانع من صحة كل هذه الحكم. وقد يستشكل مضاعفة العقوبة لما قد علم أن من كثرة حسناته يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره. ¬

(¬1) ((الكشاف)) (3/ 259)، ((روح المعاني)) (21/ 182). (¬2) ((مغني اللبيب)) (1/ 349). (¬3) ((رصف المباني)) (ص: 389). (¬4) ((التحرير والتنوير)) (21/ 317). (¬5) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/ 567 - 568). (¬6) ((حسن الأسوة)) (ص: 85). (¬7) ((مفاتيح الغيب)) (25/ 179)، ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 113)، ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 408)، ((أضواء البيان)) (3/ 564). (¬8) ((مفاتيح الغيب)) (25/ 179). (¬9) ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 113). (¬10) ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 114). (¬11) ((جواهر العقدين)) (1/ 158). (¬12) ((جواهر العقدين)) (1/ 158).

أجاب ابن القيم فقال: (من كملت عليه نعمة الله واختصه منها بما لم يختص به غيره في إعطائه منها ما حرمه غيره، فحبي بالإنعام، وخص بالإكرام، وخص بمزيد التقريب، وجعل في منزلة الولي الحبيب، اقتضت حاله من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص بأن يراعي مرتبته من أدنى مشوش وقاطع؛ فلشدة الاعتناء به، ومزيد تقريبه، واتخاذه لنفسه، واصطفائه على غيره؛ تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم، ونعمه عليه أكمل، والمطلوب منه فوق المطلوب من غيره؛ فهو إذا غفل وأخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد البراني مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك أيضاً، فيجتمع في حقه الأمران) (¬1). الفضيلة السادسة: مضاعفة الأجر: وهذا منطوق قوله تعالى: نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31]. قال الطبري: (يعطي الله الواحدة منهن مثلي ما يعطي غيرهن من سائر النساء) (¬2). قال الألوسي: (ويستدعي هذا أنه إذا أثيب نساء المسلمين على الحسنة بعشر أمثالها؛ أثبن على الحسنة بعشرين مثلاً لها، وإذا زيد للنساء على العشر شيء؛ زيد لهن ضعفه) (¬3). وقد ورد في ذلك حديث: ((أربعة يؤتون أجرهن مرتين: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أسلم من أهل الكتاب، ورجل كانت عنده أمة فأعجبته، فأعتقها، ثم تزوجها، وعبد مملوك أدى حق الله، وحق سادته)) (¬4). ولكنه لا يصح، والآية تغني عنه. قال أهل التفسير: مضاعفة الأجر لعظيم قدرهن (¬5)، وقيل: أجر على الطاعة والتقوى وأجر على طلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬6). وليس الفضل هنا بمجرد الوعد بمضاعفة الأجر – وهو فضل ولا شك – ولكن بتنفيذ الأمر. يقول ابن تيمية: (وهن ولله الحمد قنتن لله ورسوله وعملن صالحاً؛ فاستحققن الأجر مرتين، فصرن أفضل لطاعة الأمر، لا لمجرد الأمر) (¬7). ولم أقف على خلاف هذا لأي مفسر من أهل السنة بكافة طوائفهم. الفضيلة السابعة: البشارة بالجنة: الله تعالى وعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهذا فضل لهن من جهتين: الجهة الأولى: اختصاصهن عن بقية النساء بل والرجال بهذا الوعد. الجهة الثانية: أنهن من أهل الجنة لكونهن بالاتفاق قنتن لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعملن صالحاً، ويزيد الأمر قطعية قول عمار رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها: (إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة) (¬8). وقد أخذت هذه البشارة من قوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: 31]، فقد ذهب أهل التفسير إلى أن الرزق الكريم: الجنة (¬9). قال ابن كثير: (فإنهن في منازل رسول الله في أعلى عليين فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش) (¬10). ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)) (1/ 333). (¬2) ((تفسير الطبري)) (22/ 2). (¬3) ((روح المعاني)) (22/ 2). (¬4) رواه الطبراني (8/ 212) (7872). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 263): فيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف وقد وثق، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (7005): منكر. (¬5) ((التحرير والتنوير)) (22/ 5 - 6). (¬6) ((محاسن التأويل)) (13/ 4848). (¬7) ((منهاج السنة)) (4/ 64). (¬8) رواه البخاري (3772). (¬9) ((تفسير الطبري)) (22/ 2)، ((المحرر الوجيز)) (12/ 56)، ((مفاتيح الغيب)) (25/ 180)، ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 115)، ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 408)، ((فتح القدير)) (4/ 77)، ((التحرير والتنوير)) (22/ 6)، ((التفسير الصحيح)) (4/ 124). (¬10) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 408).

واستشف بعض المفسرين تحقق الوقوع من التعبير بالماضي في (أعتدنا) دون المضارعة، يقول الطاهر بن عاشور: (والعدول عن المضارع إلى فعل الماضي في قوله: وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: 31] لإفادة تحقيق وقوعه) (¬1). وقد لحظ الرازي معنى لطيفاً في وصف الرزق بالكرم، يقول: (فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه، وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار، أما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر؛ فهو الذي يأتي بنفسه؛ فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزق، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق) (¬2). وابن عطية مع أنه يرى – كبقية المفسرين – أن الرزق الكريم هو الجنة؛ إلا أنه يجوز أن يكون في ذلك وعد دنيوي، وهو أن أرزاقهن في الدنيا على الله، وهو كريم من حيث هو حلال وقصد وبرضا من الله من نيله (¬3). ولكن يضعف قوله أن لفظة الرزق الكريم وردت في القرآن الكريم خمس مرات لم يرد بها سوى الجنة، بل إن ابن عطية نفسه فسر الرزق الكريم في سورة النور (¬4) بالجنة، وهذه الآية في (سورة النور) وثيقة الصلاة بآية الأحزاب من حيث إرادة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. ومن لطائف هذه الوعود في الآية الكريمة أننا نلحظ إسناد فعل إيتاء أجرهن إلى ضمير الجلالة بوجه صريح تشريفاً لإيتائهن الأجر؛ لأنه المأمول بهن، وكذلك فعل أعتدنا. كما أن في إضافة الأجر إلى ضمير (ها) إشارة إلى تعظيم ذلك الأجر بأنه يناسب مقامها وإلى تشريفها بأنها مستحقة ذلك الأجر (¬5). وهذه الأمور تميزت بها هذه الآية عن التي قبلها مما يظهر للقارئ تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب (¬6). الفضيلة الثامنة: تفضيلهن على عموم النساء: وهو منطوق قوله تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء [الأحزاب: 32]. قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: (ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات؛ أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم) (¬7). ولا إشكال عند المفسرين من حيث الجملة على دلالة هذه الآية، وإنما حصل الخلاف هل هذا التفضيل باعتبار الجملة أم باعتبار كل واحدة منهن على قولين: القول الأول: أن هذا التفضيل باعتبار الجملة، فلو تقصينا النساء جماعة جماعة لم نجد جماعة تساوي جماعة أمهات المؤمنين (¬8). ونوقش هذا بأنه خلاف الأصل؛ فالأصل أن (أحداً) لشخص واحد فنبقيه على موضوعه ولا نتأوله بجماعة واحدة (¬9). وكأن الزمخشري – الذي رأى هذا القول – أراد المطابقة بين المتفاضلين، لكنه كان مستغنياً عن ذلك بحمل الكلام على واحدة ويكون المعنى أبلغ، والتقدير: ليست واحدة منكن كأحد من النساء؛ أي كواحدة من النساء (¬10). القول الثاني: أن هذا التفضيل باعتبار كل واحدة منهن وهذا قول أكثر المفسرين (¬11). وأورد على هذا القول أنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة الزهراء ولا قائل به. ¬

(¬1) ((التحرير والتنوير)) (22/ 6). (¬2) ((مفاتيح الغيب)) (25/ 180). (¬3) ((المحرر الوجيز)) (12/ 56). (¬4) (آية: 26). (¬5) ((التحرير والتنوير)) (22/ 5). (¬6) ((روح المعاني)) (22/ 2). (¬7) ((زاد المسير)) (6/ 378). (¬8) ((الكشاف)) (3/ 259)، ((روح المعاني)) (22/ 5)، ((فتح القدير)) (4/ 77). (¬9) ((البحر المحيط)) (7/ 221). (¬10) ((الكشاف)) (3/ 259). (¬11) ((تفسير الطبري)) (22/ 3)، ((المحرر الوجيز)) (12/ 56)، ((زاد المسير)) (6/ 378)، ((مفاتيح الغيب)) (25/ 180)، ((البحر المحيط)) (7/ 221)، ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 408 - 409)، ((محاسن التأويل)) (12/ 4495)، ((التحرير والتنوير)) (22/ 6).

وأجيب: بأن أمهات المؤمنين أفضل من حيثية الزوجية لا من سائر الحيثيات (¬1). وهذا الجواب ضعيف؛ إذ أنه يحصر أفضلية الأمهات في حيثية الزوجية، والأحسن أن يقال: إن الآية عامة في فضل أمهات المؤمنين على سائر النساء، لكن تخرج فاطمة من ذلك العموم بالأدلة التي تدل على فضلها وسيادتها لنساء هذه الأمة. قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: ((أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة)) (¬2). وبناء على هذا يكون أولى القولين بالصواب القول الثاني، على أن الألوسي حاول التوفيق بين القولين فأجاد حيث قال: (لأن فضل الجماعة على الجماعة يكون غالباً لفضل كل منها) (¬3). وقد اجتهد المفسرون في استنباط العلة التي من أجلها فضلت نساء النبي صلى الله عليه وسلم على بقية النساء، فمن ذلك ما قاله الرازي: (كما أن محمداً ليس كأحد من الرجال ... كذلك قرابته اللاتي يشرفن به، وبين الزوجين نوع من الكفاءة) (¬4). ويشهد لكلام الرازي تصدير آيات التخيير بلفظ الزوجية. أما الطاهر ابن عاشور فله رأي آخر: (وسبب ذلك أنهن اتصلن بالنبي صلى الله عليه وسلم اتصالاً أقرب من كل اتصال، وصرن أنيساته، ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرهن من أحواله وخلقه ... ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن؛ ولأن إقباله عليهن إقبال خاص، ألا ترى إلى قوله: ((حبب إلي من دنياكم ... ))) (¬5). ولا مانع من صحة التعليلين، بل ويمكن أن يضاف إليها ما اتصفن به من صفات التقوى والإيمان وما تميزن به من تلقي تربية النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من بقية النساء. الفضيلة التاسعة: الوعد بقبول العمل: قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]. يقول الألوسي: (والآية متضمنة الوعد منه تعالى لأهل بيت نبيه بأنهم إن ينتهوا عما ينهى عنه، ويأتمروا بما يأمرهم به؛ يذهب عنهم لا محالة مبادئ ما يستهجن، ويحليهم أجل تحلية بما يستحسن، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم وترتب الآثار الجميلة عليها قطعاً، ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم، من حيث إن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك) (¬6). ويشهد لقوله رحمه الله التعبير القرآني حيث أكد التطهير بالمصدر؛ ليعلم أنه في أعلى مراتب التطهير، بل وذكره في سياق الامتنان؛ لإفادة العموم ليشمل جل مراتب التطهير (¬7). الفضيلة العاشرة: الاصطفاء الإلهي: قال تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا [الأحزاب: 34]. لقد فطن المفسرون للحكمة من ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين، إذ أن من المعلوم عند أهل العلم بالتفسير وثاقة الصلة بين الآية وما تختم به من أسماء كريمة (¬8). إن ختم الآية بذكر الخبير لها دلالتها الواضحة على أن الله تعالى اختار لنبيه أزواجاً هن خير الأزواج، حيث اصطفى له سبحانه خير نساء العالمين. وكفى بذلك شرفاً وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص: 68]، وقد لحظ هذا المعنى أهل التفسير. قال الزمخشري تعليقاً على قوله تعالى: خَبِيرًا: (أي علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته) (¬9). ¬

(¬1) ((روح المعاني)) (22/ 4). (¬2) رواه البخاري (3623). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) ((روح المعاني)) (22/ 5). (¬4) ((مفاتيح الغيب)) (25/ 180). (¬5) ((التحرير والتنوير)) (22/ 7). (¬6) ((روح المعاني)) (22/ 19). (¬7) ((جواهر العقدين)) (1/ 23 - 24). (¬8) ((القواعد الحسان)) (ص: 51). (¬9) ((الكشاف)) (3/ 261).

وقال ابن كثير: (بخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك وخصكن به ... واختاركن لرسوله أزواجاً) (¬1). فليس الأمر إعطاء، بل تخصيص واختيار ولا ريب أن هذه تزكية إلهية ما بعدها تزكية، تدل على كمال صلاح وإيمان أمهات المؤمنين وتؤكد حقيقة اصطفاء أمهات المؤمنين على سائر النساء. وفي ختام هذا المطلب نقول: إن هذه الآيات الكريمات أظهرت لكل مسلم رفعة درجة أمهات المؤمنين، وعلو همتهن، وصحة مقصدهن باختيار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما أظهرت اصطفاءهن على نساء العالمين، وأن الله عز وجل اختارهن لكمالهن زوجات لنبيه فلا يناسبه وهو الأكمل صلى الله عليه وسلم إلا أكمل النساء. وهذا يستوجب على كل مسلم ومسلمة: تولي زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة فضلهن وإحسان القول فيهن وسلامة اللسان تجاههن، والذب عنهن، والرد على منتقصهن، أو من يقلل من مكانتهن، بل وإظهار فضائلهن، ودراسة سيرتهن، ومعرفة أخبارهن وآدابهن وعبادتهن؛ فإنهن أعظم النساء تعلماً في مدرسة النبوة بل إن هناك أموراً عديدة من هديه صلى الله عليه وسلم لا يمكن العلم بها إلا من طريقهن رضي الله عنهن. آيات آل البيت في القرآن الكريم لمنصور بن حمد العيدي – ص: 145 ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 416) ((التفسير الميسر)) (ص: 422).

الفرع الثاني: فضائل بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا

أولاً: فضل خديجة رضي الله عنها هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يلتقي نسبها بنسب النبي صلى الله عليه وسلم في الجد الخامس قصي بن كلاب، وهي أقرب أمهات المؤمنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، وكانت أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً، تزوجها صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة كانت قبله عند أبي هالة بن النباش بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار، وبقيت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أكرمه الله برسالته، فآمنت به ونصرته، فكانت له وزير صدق، فهي ممن كمل من النساء فقد كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة من أهل الجنة، وكان صلى الله عليه وسلم يثني عليها ويفضلها على سائر نسائه رضي الله عنهن ويبالغ في تعظيمها، فلم يتزوج امرأة قبلها، وكل أولاده منها إلا إبراهيم رضي الله عنه فإنه من سريته مارية رضي الله عنها كما لم يتزوج صلى الله عليه وسلم عليها امرأة قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها رضي الله عنها فكانت وفاتها قبل الهجرة بثلاث سنين (¬1). ولقد وردت الأحاديث الصحيحة في مناقبها رضي الله عنها ومن ذلك: 1 - ما رواه الحاكم بإسناده إلى عفيف بن عمرو قال ((كنت امرءاً تاجراً، وكنت صديقاً للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي ثم جاءت امرأة فقامت تصلي ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي فقلت للعباس من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذا المرأة خديجة بنت خويلد امرأته وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب. قال عفيف الكندي: وأسلم وحسن إسلامه لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام)) (¬2). في هذا الحديث منقبة عظيمة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها حيث كانت في السابقين الأولين إلى الإسلام فهي أول من آمن به صلى الله عليه وسلم من النساء. قال الحافظ ابن حجر: (ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها، فيكون لها مثل أجرهن، لما ثبت ((أنه من سن سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيء)) (¬3) وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجال، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله عز وجل) (¬4). 2 - ومن مناقبها التي انفردت بها دون سائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها حتى فارقت الحياة الدنيا. فقد روى مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت)) (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((المنتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم)) للزبير بن بكار (ص: 23 - 34) ((طبقات ابن سعد)) (ص: 131)، ((السيرة النبوية))، لابن هشام (1/ 198)، ((البداية والنهاية)) (2/ 272 - 273)، ((تاريخ الإسلام)) (1/ 41)، ((الإصابة)) لابن حجر (4/ 273 - 276)، ((فتح الباري)) (7/ 134). (¬2) رواه الحاكم (3/ 201). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬3) رواه مسلم (1017). (¬4) ((فتح الباري)) (7/ 137). (¬5) رواه مسلم (2436).

قال الحافظ ابن حجر: (وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين، لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاماً، انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاماً وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك. وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها) (¬1). 3 - ومن مناقبها رضي الله عنها التي تدل على شرفها وجلالة قدرها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر من ذكرها بعد موتها بالثناء عليها والمدح لها وما يسرها في حياتها حيث يصل من يودها. فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد)) (¬2). وروى مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما غرت للنبي صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها)) (¬3). وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيراً منها قال: ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء)) (¬4). في هذه الأحاديث المتقدمة (ثبوت الغيرة وأنه غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلاً عمن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر، وقد بينت ذلك وأنه لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها ... وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة) (¬5). قال القرطبي: (كان حبه صلى الله عليه وسلم لها لما تقدم ذكره من الأسباب، وهي كثيرة كل منها سبب في إيجاد المحبة) (¬6). وقال ابن العربي عند ذكر فضائلها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتفع بخديجة برأيها ومالها ونصرها فرعاها حية وميتة برها موجودة ومعدومة وأتى بعد موتها ما يعلم أن يسرها لو كان في حياتها. ومن هذا المعنى ما روي من أن ((من البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)) (¬7).) (¬8). 4 - ومن مناقبها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بأن حبه لها كان رزقاً من الله رزقه إياه. فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رزقت حبها)) (¬9). ففي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لخديجة رضي الله عنها. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (7/ 137). (¬2) رواه البخاري (3818). (¬3) رواه مسلم (2435). (¬4) رواه أحمد (6/ 117) (24908). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): حديث صحيح. (¬5) ((فتح الباري)) (7/ 136 - 137). (¬6) فيما نقله عنه ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 137). (¬7) رواه مسلم (2552). (¬8) ((عارضة الأحوذي بشرح الترمذي)) (13/ 252). (¬9) رواه مسلم (2435).

قال الإمام النووي عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((رزقت حبها)): (فيه إشارة إلى أن حبها فضيلة حصلت) (¬1). 5 - ومما يدل على فضلها وجلالة قدرها أن الله سبحانه وتعالى أرسل إليها السلام مع جبريل وأمر نبيه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. فقد روى الشيخان بإسنادهما إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب ولا نصب)) (¬2). ورويا أيضا بإسنادهما إلى إسماعيل بن أبي خالد قال: (قلت لعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة؟ قال: نعم، ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب) (¬3). وفي ذلك منقبتان عظيمتان لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: الأولى: إرسال الرب جل وعلا سلامه عليها مع جبريل وإبلاغ النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وهذه خاصة لا تعرف لامرأة سواها (¬4). الثانية: البشرى لها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. قال السهيلي: (لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث ثم صارت ربة بيت في الإسلام منفردة به فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضاً غيرها، قال: وجزاء الفعل يذكر غالباً بلفظه وإن كان أشرف منه، فلهذا جاء في الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر) (¬5). وقال الحافظ ابن حجر: (وفي البيت معنى آخر لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)) الحديث أخرجه الترمذي وغيره (¬6). ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها) (¬7). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قصب)) قال ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف، قال الحافظ وعند الطبراني في (الأوسط) من حديث فاطمة قالت قلت: ((يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب. قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت)) (¬8). ¬

(¬1) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (15/ 210). (¬2) رواه البخاري (3820)، ومسلم (2432). (¬3) رواه البخاري (3819)، ومسلم (2433). (¬4) ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/ 105). (¬5) ((الروض الأنف)) (1/ 278 - 279)، وانظر: ((فتح الباري)) (7/ 138). (¬6) رواه الترمذي (3871)، وأحمد (6/ 304) (26639)، وأبو يعلى (12/ 451) (7021)، والحاكم (2/ 451). قال الترمذي: حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وقال الذهبي: على شرط مسلم، وقال ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (2/ 297): له طرق. (¬7) ((فتح الباري)) (7/ 138). (¬8) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 139) (440). قال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (2/ 236): غريب وله شاهد في الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 226): رواه الطبراني في ((الأوسط)) من طريق مهاجر بن ميمون عنها، ولم أعرفه ولا أظنه سمع منها والله أعلم، وبقية رجاله ثقات، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (247): إسناده رجاله ثقات غير مهاجر بن ميمون فإنه لا يعرف.

قال السهيلي: (النكتة في قوله: ((من قصب)) ولم يقل من لؤلؤ أن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع ألفاظ الحديث) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر: (وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حرية على رضاه بكل ممكن ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها) (¬2). ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صخب فيه ولا نصب)) الصخب: الصياح والمنازعة برفع الصوت، والنصب: التعب (¬3). فنفى عنه ما في بيوت الدنيا من آفة جلبة الأصوات وتعب تهيئتها وإصلاحها. وقد أبدى السهيلي لنفي هاتين الصفتين حكمة لطيفة فقال: (لأنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإيمان أجابت خديجة رضي الله عنها طوعاً فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب، بل أزالت عنه كل تعب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها) (¬4). 6 - ومن مناقبها ما حظيت به رضي الله عنها من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتاح لسماع صوت من يشبه صوتها لما وضع الله لها في قلبه من المحبة رضي الله عنها فقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((استأذنت هالة بنت خويلد – أخت خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال: اللهم هالة قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدل الله خيراً منها)) (¬5). ففي هذا الحديث (دلالة حسن العهد وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب) (¬6). 7 - ومن مناقبها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنها رضي الله عنها خير نساء هذه الأمة: فقد روى البخاري بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة)) (¬7). وعند مسلم بلفظ: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)) قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض (¬8). قال النووي عند شرحه الحديث: (أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها وأن المراد به جميع نساء الأرض أي: كل من بين السماء والأرض من النساء والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه) (¬9). قال القرطبي: (الضمير عائد على غير مذكور لكنه يفسره الحال والمشاهدة يعني: به الدنيا) (¬10). وقال الحافظ ابن حجر بعد أن حكى أقوال العلماء في مرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة)) والذي يظهر لي أن قوله: ((خير نسائها)) خبر مقدم والضمير لمريم فكأنه قال مريم خير نساء زمانها، وكذا في خديجة، وقد جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها لما تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وذكر آسية من حديث أبي موسى رفعه: ((كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية)) (¬11) فقد أثبت في هذا الحديث الكمال لآسية كما أثبت لمريم، فامتنع حمل الخيرية في حديث الباب على الإطلاق وجاء ما يفسر المراد صريحاً، فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه ((لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين)) (¬12) وهو حديث حسن الإسناد واستدل بهذا الحديث على أن خديجة أفضل من عائشة (¬13)، وسيأتي مزيد تفصيل عند ذكر فضائل عائشة رضي الله عنهن فإنه أدعى لذلك والله أعلم. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم السحيمي-ص: 76 ¬

(¬1) ((الروض الأنف)) (1/ 279) وانظر: ((فتح الباري)) (7/ 138). (¬2) ((فتح الباري)) (7/ 138). (¬3) ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 14، 5/ 62) وانظر: ((فتح الباري)) (7/ 138). (¬4) ((الروض الأنف)) (1/ 279) وانظر: ((فتح الباري)) (7/ 138). (¬5) رواه البخاري (3821)، ومسلم (2437). (¬6) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (15/ 311). (¬7) رواه البخاري (3815). (¬8) رواه مسلم (2430). (¬9) ((شرح صحيح مسلم)) (15/ 207). (¬10) ((فتح الباري)) (7/ 135). (¬11) رواه البخاري (3433)، ومسلم (2431). (¬12) رواه البزار في ((البحر الزخار)) (4/ 255)، والطبراني كما ذكر الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 226): وقال: رواه الطبراني والبزار وفيه أبو يزيد الحميري ولم أعرفه وبقية رجاله وثقوا، وحسن إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 168)، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (ص: 249): إسناده رجاله ثقات غير أبي يزيد الحميري فلم يعرف. (¬13) ((فتح الباري)) (7/ 168).

ثانيا: فضل سودة رضي الله عنها

ثانياً: فضل سودة رضي الله عنها هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدون بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر، وأمها الشموس بنت قيس بن عمرو بن زيد الأنصارية، كانت عند السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو فتوفي عنها، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهي أول امرأة تزوجها بعد خديجة رضي الله عنهن وانفردت به صلى الله عليه وسلم نحواً من ثلاث سنين أو أكثر حتى دخل بعائشة وكانت سيدة جليلة نبيلة، وهي التي وهبت يومها لعائشة رعاية لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي مع سائر من توفي عنهن من أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن وكانت وفاتها رضي الله عنها في آخر زمن عمر بن الخطاب، وقيل سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنهم أجمعين (¬1). وقد وردت لأم المؤمنين سودة رضي الله عنها فضائل ومناقب تدل على جلالة قدرها وعظيم شأنها رضي الله عنها ومن تلك المناقب: 1 - حرصها على البقاء في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وإيثارها يومها في القسم لعائشة رضي الله عنهن إيثاراً منها لرضاه عليه الصلاة والسلام وحباً في البقاء معه لتكون من أزواجه في الدنيا والآخرة. فقد روى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني وأجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128]. فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز)) (¬2). وروى البخاري بإسناده إلى عائشة: (أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة) (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: ((كان رسول الله، إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬4). قلت: ففي طلب سودة رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم إمساكها مع إيثار لضرتها بقسمها ما يدل على رجاحة عقلها ونبل مقصدها. وقد تضمنت موافقة رسول صلى الله عليه وسلم على إمساكها فضيلة ظاهرة لسودة رضي الله عنها حيث بقيت في عصمته عليه الصلاة والسلام وتوفي وهي في عداد زوجاته الطاهرات. قال ابن القيم رحمه الله: (فلما توفاها الله –يقصد خديجة- تزوج بعدها سودة بنت زمعة .. وكبرت عنده وأراد طلاقها، فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها فأمسكها وهذا من خواصها أنها آثرت بيومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحباً له، وإيثارا لمقامها معه، فكان يقسم لنسائه ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة لرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها) (¬5). 2 - ومن مناقبها رضي الله عنها أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها: فقد روى مسلم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة قالت فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة قالت: يا رسول الله قد جلعت يومي منك لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين ويوم سودة)) (¬6). قال ابن الأثير: (كأنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها) (¬7). وقال النووي: (وقولها من امرأة، قال القاضي: من هنا للبيان واستفتاح الكلام، ولم ترد عائشة عيب سودة بذلك بل وصفتها بقوة النفس وجودة القريحة وهي الحد بكسر الحاء) (¬8) فرضي الله عنها وأرضاها. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم السحيمي ص 85 ¬

(¬1) انظر: ((الاستيعاب)) (4/ 323)، و ((الطبقات الكبرى)) (7/ 57). (¬2) رواه الترمذي (3040). وقال: حسن غريب، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/ 115): له شاهد في الصحيحين بدون ذكر نزول الآية، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه البخاري (5212). (¬4) رواه البخاري (2593)، وروى مسلم أوله (2445). (¬5) ((جلاء الأفهام)) (ص: 123). (¬6) رواه مسلم (1463). (¬7) ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 389). (¬8) ((شرح صحيح مسلم)) (10/ 302).

ثالثا: فضل عائشة رضي الله عنها

ثالثاً: فضل عائشة رضي الله عنها هي الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان وأمها أم رومان بنت عويمر الكنانية، ولدت بعد المبعث بأربع سنوات أو خمس. تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست ودخل بها وهي بنت تسع سنين وكان دخولها بها في شوال في السنة الأولى، وقيل في السنة الثانية من الهجرة. وهي المبرأة من فوق سبع سموات، وكانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أفقه نساء الأمة على الإطلاق، فكان الأكابر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها، وقد توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت وفاتها رضي الله عنها في سنة ثمان وخمسين ليلة السابع عشر من رمضان وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين ودفنت في البقيع رضي الله عنها وأرضاها (¬1). العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان السحيمي ص88 1 - فضل عائشة رضي الله عنها في القرآن الكريم أوجه دلالات آيات الإفك على فضلها رضي الله عنها الفضيلة الأولى: إرادة الله تعالى الخير بها هذا التعبير مستفاد من قوله تعالى: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور: 11]. وقد تحدث المفسرون كل على طريقته في طبيعة هذا الخير فذكروا من ذلك: أولاً: اكتساب الثواب العظيم والأجر الجزيل (¬2). يقول الرازي (صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله فاستوجبوا به الثواب، وهذه طريقة المؤمنين عند وقوع الظلم بهم) (¬3). وحصول الأجر هو غاية منى الصالحين، والذي هو من علم الغيب، لا يقطع به؛ ولأجل هذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((وثبت الأجر إن شاء الله)) (¬4). فعلق على المشيئة؛ لأنه أمر غيبي. هذا الأمر الغيبي صار بالنسبة لعائشة رضي الله عنها في أمر الإفك أصبح من علم الشهادة المقطوع به، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]. ثانياً: إنزال ثماني عشرة آية من القرآن في شأنها (¬5). وهذه الآيات كل واحدة منها ناطقة بتعظيم شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تنزيه وتبريء لأم المؤمنين وذم ولعن للقاذفين، وهذا ترفيع من الله ولا شك (¬6). قال ابن كثير: (ومن خصائصها أن الله سبحانه برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها وبراءتها وحياً يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة) (¬7). وهذا أحد الأمور التي ذكرها ابن عباس لعائشة يبشرها وهي في فراش الموت (¬8). ثالثاً: حصول البراءة القطعية (¬9). ¬

(¬1) ((الاستيعاب)) (4/ 357)، و ((الطبقات الكبرى)) (7/ 59). (¬2) ((الكشاف)) (3/ 54)، ((المحرر الوجيز)) (10/ 453)، ((زاد المسير)) (6/ 18)، ((روح المعاني)) (18/ 115)، ((محاسن التأويل)) (12/ 4460). (¬3) ((مفاتيح الغيب)) (23/ 151). (¬4) جزء من حديث رواه أبو داود (2357)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (2/ 255) (3329)، والدارقطني في ((السنن)) (2/ 185)، والحاكم (1/ 584)، والبيهقي (4/ 239) (8391). من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسن إسناده الدارقطني، وابن قدامة في ((المغني)) (4/ 438)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 323) كما أشار لذلك في المقدمة، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬5) ((الكشاف)) (3/ 53). (¬6) ((المحرر الوجيز)) (10/ 453)، ((مفاتيح الغيب)) (23/ 151). (¬7) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 405). (¬8) الحديث رواه البخاري (4753). (¬9) ((المحرر الوجيز)) (10/ 453).

وإنما كانت هذه البراءة قطعية؛ لأن الله تعالى حكم ببراءتها واقعاً، أما غير عائشة فإنه إن لم يشهد عليه أربعة شهود بارتكاب الزنا، حكم ببراءته ظاهراً مع أنه قد يكون زانياً في نفس الأمر. وإذا علم ببراءة عائشة رضي الله عنها قطعاً، فيكفر قاذفها لتكذيبه القرآن الكريم. قال ابن العربي: (إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة، فبرأها الله، فكل من رماها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر) (¬1). ويترتب على هذه الفضيلة، فضيلة أخرى وهو أن الإيمان والكفر أصبح متعلقاً بمدحها وقدحها. يقول الرازي: (صيرورتها بحال تعلق الكفر والإيمان بقدحها ومدحها؛ فإن الله تعالى نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه، فكل من يشك فيه كان كافراً قطعاً وهذه درجة عالية) (¬2). رابعاً: وعظ المؤمنين إلى يوم الدين، ونقمة من المفترين في الدنيا والآخرة (¬3). فإن هذه الآيات فيها من المواعظ والترغيب والترهيب والوعد والوعيد والتهديد والدروس والفوائد الشيء الكثير، وهذا كله إنما نشأ بسببها رضي الله عنها فكانت كما قال عمران بن حصين: (والله ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر) (¬4). وفي رواية: (جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيراً) (¬5). قال الرازي: (لولا إظهارهم للإفك؛ كان يجوز أن تبقى التهمة كامنة في صدور البعض، وعند الإظهار انكشف كذب القوم على مر الدهر ... وشهد الله بكذب القاذفين ونسبهم إلى الإفك وأوجب عليهم اللعن والذم) (¬6). الفضيلة الثانية: الشهادة الإلهية لها بالدرجة العالية من الإيمان والعفاف. قال تعالى: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور: 12]. يقول ابن عطية: (كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد فيهم، فكانوا يقضون بأنه في عائشة أبعد، وقد روي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب وامرأته وذلك أنه دخل عليها فقالت يا أبا أيوب: أسمعت ما قيل؟ قال: نعم وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب تفعلينه؟ فقالت: لا والله، قال: فعائشة والله أفضل منك، قالت أم أيوب: نعم) (¬7) (¬8). وهذا القياس يدل على أنه استقر في نفوس الأكابر كأبي أيوب رضي الله عنه، المكانة العالية الرفيعة لعائشة رضي الله عنها. ففي الآية دليل على صدق إيمانها، ودرجة عفافها، وإلا لم يكن الخطاب في هذه الآية بهذه القوة. ويستتبع هذه الفضيلة فضيلة أخرى وهي: الأمر الإلهي القاضي بوجوب ظن الخير في خصوص عائشة أما غيرها فمن جهة العموم؛ لأنها سبب النزول ودخول سبب النزول في الآية قطعي، وما كان هذا الواجب ليحصل لولا عظيم مرتبتها في الإيمان، فلها الأولوية رضي الله عنها في الظن الحسن وأحقية الدفاع. قال الألوسي: (وجوب ظن الخير بعائشة خصوصاً للقطع في دخولها بالعموم، أو على القول بأنها مرادة خصوصاً) (¬9). الفضيلة الثالثة: عتاب أهل الإيمان لأجلها. ¬

(¬1) ((أحكام القرآن)) (3/ 366). (¬2) ((مفاتيح الغيب)) (23/ 151). (¬3) ((المحرر الوجيز)) (10/ 453). (¬4) رواه البخاري (334) من حديث عائشة رضي الله عنها. والقول لأسيد بن الحضير وليس لعمران بن الحصين. (¬5) رواه البخاري (336) من حديث عائشة رضي الله عنها. والقول لأسيد بن الحضير وليس لعمران بن الحصين. (¬6) ((مفاتيح الغيب)) (23/ 151). (¬7) رواه إسحاق بن راهويه في ((المسند)) (3/ 978)، والطبري في تفسيره (19/ 129)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (1/ 48). (¬8) ((المحرر الوجيز)) (10/ 453). (¬9) ((روح المعاني)) (18/ 123).

إن مما يلحظ في آيات الإفك أن الله تعالى عاتب أهل الإيمان عتاباً شديداً وبعبارات متنوعة لأجل التقصير في حق عائشة رضي الله عنها، الأمر الذي نص عليه عدد من المفسرين. قال تعالى: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ [النور: 12]. قال الطبري: (هذا عتاب من الله تعالى ذكره أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة) (¬1). كما لاحظ المفسرون أمر الالتفات في الآية من الخطاب إلى الغيبة. قال الزمخشري: (عدل عن الغيبة إلى الخطاب وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات) (¬2). الآية تشير على أن من كان مؤمناً فشأنه الثناء على عائشة والدفاع عنها، وأن القدح فيها دلالة على خلل في الإيمان (¬3). وقال تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور: 13] قال الزمخشري: (وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاجهم عليه بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، إذا قذف امرأة من عرض نساء المسلمين فكيف بالصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله؟!) (¬4). فإذا كان كل هذا التوبيخ لمن قصر في دفعه، فكيف بمن أشاعه؟ فكيف بمن اعتقده بعد نزول هذه الآيات؟ وقال تعالى: وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور: 16]. وهذه الآية أيضاً من جملة آيات العتاب. قال ابن عطية والقرطبي والشوكاني: (هذا عتاب لجميع المؤمنين) (¬5). قال ابن عطية: (أي كان ينبغي أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله أن يقع هذا من زوجة نبيه، وأن تحكموا عليه بالبهتان) (¬6). فالله تعالى يعاتب عموم المؤمنين لأجلها –رضي الله عنها-. ومن لطائف التفسير أننا لا نجد لوماً للمؤمنين لأجل أحد، إلا لأبي بكر الصديق وبنته عائشة رضي الله عنهما. أما أبو بكر ففي قوله تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ [التوبة: 40]. فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إن الله تعالى ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر) (¬7). وهكذا يعاتب الله المؤمنين في مواضع متعددة على التقصير في جنب عائشة وليس الأمر عتاباً فقط بل تحذير أيضاً من معاودة مثل هذا. قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النور: 17]. قال الطاهر بن عاشور: (بعد أن بين الله بادئ ذي بدء أنه ليس شراً، وأن الذين جاؤوا به ما اكتسبوا إلا الإثم، ونعى على المؤمنين تهاونهم وغفلتهم وأنهم اقتحموا بذلك ما يكون سبباً للحاق العذاب بهم ... أعقب ذلك كله بتحذير المؤمنين من العود إلى مثله) (¬8). وبين القرطبي أن مثل هذا العود كفر حيث قال: (لما في ذلك من أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله وذلك كفر من فاعله) (¬9). الفضيلة الرابعة: التهديد بالعقوبة لأجل عائشة رضي الله عنها: لعظم الأمر وشناعته، لم يقتصر الرب عز وجل على لوم المؤمنين وعتابهم في شأن عائشة رضي الله عنها، بل نجد أمراً وراء ذلك وهو التهديد بالعقوبة. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (18/ 77). (¬2) ((الكشاف)) (3/ 53). (¬3) ((روح المعاني)) (18/ 118). (¬4) ((الكشاف)) (3/ 54). (¬5) ((المحرر الوجيز)) (10/ 463)، ((الجامع لأحكام القرآن)) (12/ 136)، ((فتح القدير)) (4/ 14). (¬6) ((المحرر الوجيز)) (10/ 463). (¬7) ((تاريخ دمشق)) (30/ 291). (¬8) ((التحرير والتنوير)) (18/ 182). (¬9) ((الجامع لأحكام القرآن)) (12/ 137).

قال تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النور: 20]. قال الطبري: (لولا أن الله تفضل عليكم ... لهلكتم فيما أفضتم وعاجلتكم من الله العقوبة) (¬1). وقال ابن عطية: (لفضحكم بذنوبكم، ولعذبكم فيما أفضتم فيه من قول الباطل والبهتان) (¬2). ويلاحظ أنهما فهما من الآية تكراراً في العقوبة. وقال ابن الجوزي: (جوابه محذوف، تقديره: لعاقبكم فيما قلتم لعائشة) (¬3). وقد تتابع المفسرون على تقرير هذا المعنى (¬4)، وأجاد الرازي في تتبع الزواجر المأخوذة من الآية (¬5). وهذا التنصيص على أن المتكلم في عائشة مستحق للعقوبة، أمر لم يحصل لغيرها سواء من الصحابة أو أهل البيت، بل إن الله تعالى امتن عليهم بعدم العقوبة بل وكرر منته بذلك. قال الشوكاني: (تكرير لما تقدم وتذكيراً للمنة منه سبحانه على عباده بترك المعاجلة لهم) (¬6). وقال الألوسي: (وهذا تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجريرة) (¬7). ولم نر هذا الأسلوب من التكرار والامتنان في القرآن الكريم إلا في حق عائشة، حتى إن الوعيد بالعقوبة في مسألة أخذ الغنائم لم يكن فيه مثل هذا التكرار ولا مثل إبراز المنة بهذه الأساليب المتعددة، وهذا كله يدل على أنه عظيم عند الله الاعتداء على زوج نبيه وما ذاك إلا لمكانتها العالية رضي الله عنها وهذا مصداق قوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا [النور: 15]. يقول ابن كثير: (فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل، الله يغار لهذا، وهو سبحانه لا يقدر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك حاشا وكلا ... فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة؟! ولهذا قال: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15]) (¬8). الفضيلة الخامسة: أن القدح في عائشة رضي الله عنها قدح في الله تعالى. وذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن ينزهوه عند سماع خبر القدح في زوجة نبيه (¬9)، فالله تعالى ينزه أن يحصل لقرابة نبيه تدنيس (¬10). وعند التأمل في هذا الأمر نجد أن القدح في عائشة قدح في الله إذ جعل تحت نبيه من ليست أهلاً له، وأيضاً فإن الله تعالى ينزه أن لا يعاقب هؤلاء المفترين لما فيه من القدح في الحكمة، وأيضاً فإن الله تعالى منزه أن يرضى بظلم هؤلاء المفترين (¬11). ومن بديع التناظرات القرآنية ما ذكره القاسمي بقوله: (ولأجل هذا قال العلماء: قذف عائشة كفر، لأن الله تعالى سبح نفسه عند ذكره كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد) (¬12). فالقدح في عائشة رضي الله عنها، تكاد تبلغ شناعته نسبة الولد أو الزوج لله تعالى بل إن ظاهر قوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 25]، يدل على أن القدح في عائشة مناف لكونه تعالى حقاً. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (18/ 80). (¬2) ((المحرر الوجيز)) (10/ 466). (¬3) ((زاد المسير)) (6/ 23). (¬4) ((الجامع لأحكام القرآن)) (12/ 135)، ((روح المعاني)) (18/ 123). (¬5) ((مفاتيح الغيب)) (23/ 154 - 155 - 156). (¬6) ((فتح القدير)) (4/ 14). (¬7) ((روح المعاني)) (18/ 123). (¬8) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 28). (¬9) ((المحرر الوجيز)) (10/ 463)، ((الجامع لأحكام القرآن)) (12/ 136)، ((روح المعاني)) (18/ 120). (¬10) ((فتح الباري)) (8/ 338). (¬11) ((مفاتيح الغيب)) (23/ 157). (¬12) ((محاسن التأويل)) (12/ 4473).

وهذا ما فهمه الألوسي حيث قال: (ولعل فائدة هذا العلم يأسهم من إنقاذ أحد إياهم ... أو تبين خطأهم في رميهم حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عز وجل حقا أي موجداً للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة، وكذا تأبى كونه عز وجل حقاً أي واجباً لذاته بناء على أن الوجوب الذاتي يستتبع الاتصاف بالحكمة بل لجميع الصفات الكاملة) (¬1). ولئن عذر من رماها قبل التنزيل لغفلة أو جهل فلا مجال لإعذار من قدح فيها رضي الله عنها بعد التنزيل؛ إذ أن الحجة القرآنية قد قامت عليه من كل وجه. الفضيلة السادسة: الشهادة لها بالإحصان والإيمان: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور: 23]. يرى بعض أهل التفسير أن هذه الآية خاصة في أم المؤمنين عائشة، ويرى بعضهم أنها تعمها وأمهات المؤمنات، ويرى بعضهم أنها في عموم المؤمنات. وعلى كافة هذه الأقوال فدخول عائشة رضي الله عنها فيها قطعي؛ إذ أنها سبب نزول الآية (¬2). ففي حديث قصة الإفك، بشر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وتلا عليها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ ... الآية (¬3)، وهذا نص في كون هذه الآية من آيات الإفك وسبب النزول قطعي الدخول في الآية ولا يخرج بالتخصيص بحال، كما نص على ذلك أهل العلم في كتب علوم القرآن (¬4). وعليه فيكون من فضائل عائشة رضي الله عنها أنها مؤمنة، محصنة بنص القرآن الكريم. وقد أورد الزمخشري إشكالاً وأجاب عليه، وهو أنه إذا أريد وحدها فلماذا الجمع؟ وأجاب عن ذلك: بأنه إما إرادة لها ولبنات جنسها؛ لكونها أم المؤمنين، أو دخل معهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة كبراهن وأقربهن منزلة (¬5). الفضيلة السابعة: الشهادة لها بالطيب: اختلف أهل التفسير في معنى قوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور: 26]. فقال بعضهم: المراد بالخبيثات أي النساء الخبيثات والخبيثون الرجال الخبيثون، والطيبات أي النساء الطيبات والطيبون أي الرجال منهم (¬6). واختار هذا القول الرازي (¬7)، وابن المنير (¬8)، وابن تيمية (¬9)، وأبو حيان (¬10)، وأبو السعود (¬11) (¬12). قال الألوسي: (ورواه الإمامية عن أبي عبد الله وأبي جعفر) (¬13). وتفرع على هذا القول الحكم بطيب عائشة رضي الله عنها؛ ولأجل هذا قال ابن عباس يخاطب عائشة رضي الله عنها: وطيبك فقال: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور: 26]. وجاء عنها رضي الله عنها أنها قالت: (لقد نزل عذري من السماء، وقد خلفت طيبة عند طيب) (¬14). ¬

(¬1) ((روح المعاني)) (18/ 130). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (18/ 82 - 83). (¬3) حديث قصة الإفك رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770). من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬4) ((حاشية مقدمة التفسير)) (ص: 56). (¬5) ((الكشاف)) (3/ 57). (¬6) ((تفسير الطبري)) (18/ 84 - 85)، ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 35). (¬7) ((مفاتيح الغيب)) (23/ 170). (¬8) ((الكشاف)) (3/ 58). (¬9) ((محاسن التأويل)) (12/ 4474). (¬10) ((البحر المحيط)) (6/ 405). (¬11) ((محاسن التأويل)) (12/ 4497 - 4468). (¬12) ((روح المعاني)) (18/ 131). (¬13) ((روح المعاني)) (18/ 131). (¬14) رواه أبو يعلى (8/ 90) (4626) بلفظ: ((خلقت)) بدلاً من ((خلفت))، وذكره الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 141) بلفظه، وقال: إسناده جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 244): في إسناده من لم أعرفهم.

وقد ضبطت كلمة (خلفت) بالفاء: خلفت، أي: تركت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته طيبة (¬1). وحيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الطيبين فتكون عائشة من أطيب الطيبات بدلالة الآية، وقد نص على ذلك من اختار القول الثاني. قال الرازي: (ولا أحد أطيب ولا أطهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزواجه إذن لا يكن إلا طيبات) (¬2)، وجمع رحمه الله بين قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران: 121]، حيث غدا يوم أحد من بيت عائشة وبين هذه الآية فقال: (فدل هذا النص على أنها مطهرة مبرأة من كل قبيح) (¬3). قال ابن تيمية: (أخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين فلا تكون خبيثة لطيب؛ فإنه خلاف الحصر، وأخبر أن الطيبين للطيبات فلا يكون طيب لخبيثة؛ فإنه خلاف الحصر، إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين فلا يبقى خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة) (¬4). وقال ابن القيم: (وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله، أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها كما قال تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) (¬5). والقول الآخر في هذه الآية: أن المراد بالطيب والخبيث الكلمات، فالكلمات الخبيثات أولى بأهل الخبث والقبح، والكلام الطيب أولى بأهل الطيب (¬6). والفضيلة ثابتة لعائشة حتى على هذا القول. قال ابن كثير: (فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم) (¬7). ورأى رحمه الله أن القولين متلازمان قال: (وهذا –القول الأول- يرجع إلى ما قاله أولئك – القول الثاني – باللازم) (¬8). وذلك؛ لأنها طيبة فلا يصلح لها، إلا الكلام الطيب، ومن تكلم فيها كان أحق بالكلام الخبيث. وتفرع على هذه الفضيلة فضيلة أخرى وهي: أن الله تعالى مدح مادح عائشة وذم ذامها. يقول الشوكاني في هذه الآية: (هذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبث ومدح للذين برؤها) (¬9)، وتبعه صديق حسن وهذا شرف أي شرف، أن يفيض الثناء على المحسن حتى يصل لمن أثنى عليه وهذا فضل من الله عظيم يؤتيه من يشاء، واختيار منه سبحانه مبني على الحكمة قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [آل عمران: 73]، وقال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص: 68]. الفضيلة الثامنة: الشهادة لها بالبراءة والنزاهة من الأدناس: قال تعالى: أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور: 26]. اتفق المفسرون على أن الضمير في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عائد إلى الطيبات والطيبين بمراعاة الخلاف في معنى الطيبات والطيبين، فقيل إن الضمير عائد إلى كل طيب وطيبة. قال ابن جرير: (الطيبون من الناس مبرؤون من خبيثات القول) (¬10). وقيل عائد إلى عائشة وصفوان، فهم منزهون من أقوال أهل الافتراء (¬11)، وقيل إنها في كافة الأزواج. ¬

(¬1) لم أقف على من ذكر هذا القول. (¬2) ((مفاتيح الغيب)) (23/ 170). (¬3) ((مفاتيح الغيب)) (8/ 180). (¬4) ((محاسن التأويل)) (12/ 4474). (¬5) ((زاد المعاد)) (3/ 62). (¬6) ((تفسير الطبري)) (18/ 84، 85)، ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 34). (¬7) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 34). (¬8) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 35). (¬9) ((فتح القدير)) (4/ 18). (¬10) ((تفسير الطبري)) (18/ 86). (¬11) ((زاد المسير)) (6/ 27).

قال ابن عطية: (وبهذه الآية قيل لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: الطيبات المبرآت) (¬1)، وعلى كافة الأقوال فالآية شاهدة لعائشة بالبراءة والنزاهة من الأدناس، أما على القول الثاني والثالث فظاهر، وأما على القول الأول؛ فلأنها كانت سبب النزول فتكون أولى من دخل في مصداق الآية، وقد ثبت في السنة المطهرة ذلك ففي حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة أما الله فقد برأك)) (¬2). والذي يظهر أن البراءة في هذا الموضع تختلف عن البراءة في صدر الآيات، فالبراءة في صدر الآيات من التهمة الشنيعة والبراءة في آخر الآيات من عموم الأدناس والتهم وهذا أحسن من القول بالتأكيد؛ لأن التأسيس مقدم على التأكيد على ما قرره علماء التفسير (¬3). وإذا تقرر هذا، علمنا أن من فضائل عائشة رضي الله عنها أن الله ذكر أمر تطهيرها في القرآن الكريم في موضعين: الأول: حين الحديث عن آيات أمهات المؤمنين في (سورة الأحزاب). والثاني: في هذا الموضع من (سورة النور). وعليه فيكون هذا الأمر مما تميزت به عائشة من أهل البيت وبقية الصحابة. الفضيلة التاسعة: الشهادة لها بالجنة: من فضائل عائشة رضي الله عنها أنها بشرت بالجنة في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور: 26]. فقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الرزق الكريم في الآية الجنة (¬4). قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ: (أي عند الله في جنات النعيم وفيه وعد بأن تكون زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة) (¬5). وقد سلم بهذا بعض مفسري الشيعة (¬6). ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: 31]. فإن المراد به الجنة بقرينة أعتدنا، والقرآن يفسر بعضه بعضاً (¬7). ويلاحظ أن هذه الآية الكريمة التي تبشر أم المؤمنين بالجنة، لم تقيد ذلك بقيد مما يقطع بأن عائشة رضي الله عنها في الجنة بدلالة القرآن الكريم، ومثلها في ذلك بقية أمهات المؤمنين (¬8). وهذه الدلالة نبه عليها ابن عباس في عبارته لأم المؤمنين في مرض وفاتها حيث سمعها تقول: أعوذ بالله من النار فقال ابن عباس: (ما لك وللنار يا أم المؤمنين أعاذك الله منها) (¬9). ولعله لأجل هذه الفضائل القرآنية وغيرها، كانت لها المكانة العظيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (والله ما كان على الأرض نسمة أحب إلى رسول الله منك (أي عائشة)، ثم استدركت فقالت: أستغفر الله بعد أبيها) (¬10). ورغم هذه الفضائل المتعددة كتاباً وسنة كانت تقول في مرض موتها بعد ثناء ابن عباس عليها: (دعني منك يا ابن عباس، فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً) (¬11)، فرضي الله عنها وأرضاها. آيات آل البيت في القرآن الكريم لمنصور بن حمد العيدي – ص: 206 2 - فضل عائشة في السنة ¬

(¬1) ((المحرر الوجيز)) (10/ 475). (¬2) حديث قصة الإفك رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770). من حديث عائشة رضي الله عنه. (¬3) ((قواعد التفسير)) (2/ 702). (¬4) ((تفسير الطبري)) (18/ 86)، ((مفاتيح الغيب)) (23/ 170)، ((روح المعاني)) (18/ 131 - 132)، ((الحجج الباهرة)) (ص: 373). (¬5) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 35). (¬6) ((تفسير شبر)) (ص: 352). (¬7) ((روح المعاني)) (18/ 131 - 132). (¬8) ((مفاتيح الغيب)) (23/ 170). (¬9) ((مفاتيح الغيب)) (23/ 167)، والحديث رواه البخاري (4753). (¬10) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (3/ 237). (¬11) الحديث رواه البخاري (4753).

مناقبها رضي الله عنها كثيرة مشهورة فقد وردت أحاديث صحيحة بخصائص انفردت بها عن سواها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن ومنها: 1 - مجيء الملك بصورتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير قبل زواجها به صلى الله عليه وسلم فقد روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه)) (¬1). 2 - ومن مناقبها رضي الله عنها أنها كانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد صرح بمحبتها لما سئل عن أحب الناس إليها. فقد روى البخاري بإسناده إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قلت: فمن الرجال؟ قال: أبوها ... )) (¬2) الحديث. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً وقد قال: ((لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل)) (¬3)، فأحب أفضل رجل من أمته، وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله. وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفيضاً) (¬4). 3 - ومن مناقبها رضي الله عنها نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها دون غيرها من نسائه عليه الصلاة والسلام، فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: ((كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها)) (¬5). قال الذهبي: (وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها) (¬6). 4 - ومن مناقبها رضي الله عنها أن جبريل عليه السلام أرسل إليها سلامه مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (¬7). قال النووي: (وفيه فضيلة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها) (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (3895)، ومسلم (2438) واللفظ له. (¬2) رواه البخاري (3662)، ومسلم (2384). (¬3) رواه البخاري (3657). (¬4) ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 142). (¬5) رواه البخاري (3775). (¬6) ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 143). (¬7) رواه البخاري (3768). (¬8) ((شرح صحيح مسلم)) (15/ 221).

5 - ومن مناقبها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بتخييرها عند نزول آية التخيير وقرن ذلك بإرشادها إلى استشارة أبويها في ذلك الشأن لعلمه أن أبويها لا يأمرانها بفراقه فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم. فقد روى الشيخان بإسنادهما إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمراً لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: إن الله جل ثناؤه قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 28 - 29] قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت)) (¬1). 6 - ومن مناقبها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يمرض في بيتها فكانت وفاته صلى الله عليه وسلم بين سحرها ونحرها في يومها وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها (¬2). فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة، قالت: فلما كان يومي سكن)) (¬3). وعند مسلم عنها أيضاً قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول: ((أين أنا اليوم أين أنا غداً؟ استبطاء ليوم عائشة قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري)) (¬4). وروى البخاري أيضا بإسناده عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيها يقول: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة حتى مات عندها. قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثم قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن. فأعطانيه فقضمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به وهو مستند إلى صدري)) (¬5). وفي رواية أخرى بزيادة ((فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة)) (¬6) 7 - ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأنها من أصحاب الجنة. فقد روى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت ((قلت: يا رسول الله من من أزواجك في الجنة؟ قال: أما إنك منهن؟ قالت: فخيل إلي آن ذاك أنه لم يتزوج بكراً غيري)) (¬7). وروى البخاري بإسناده إلى القاسم بن محمد: ((أن عائشة اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر)) (¬8). وفي هذا فضيلة عظيمة لعائشة رضي الله عنها حيث قطع لها بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (4786)، ومسلم (1475). (¬2) ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 189) و ((البداية والنهاية)) (8/ 95). (¬3) رواه البخاري (3774). (¬4) رواه مسلم (2443). (¬5) رواه البخاري (4450). (¬6) رواه البخاري (4451). (¬7) رواه الحاكم (4/ 14). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3/ 133): على شرط مسلم. (¬8) رواه البخاري (3771). (¬9) ((فتح الباري)) (7/ 108).

8 - ومن مناقبها رضي الله عنها ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) (¬1). في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فضل عائشة زائد على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة. قال النووي: (قال العلماء: معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه، والمراد بالفضيلة: نفعه والتشبع منه وسهولة مساغه والالتذاذ به وتيسر تناوله وتمكن الإنسان من أخذ كفايته منه بسرعة وغير ذلك فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الأطعمة، وفضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة. وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة) (¬2). وبهذا يتبين فضلها ومنزلتها رضي الله عنها وأرضاها. وقد اختلف العلماء في التفضيل بين خديجة وفاطمة وعائشة رضي الله عنهن حتى اشتهر ذلك (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أفضل نساء هذه الأمة خديجة وعائشة وفاطمة وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع وتفصيل) (¬4). وعند التحقيق والنظر في النصوص الواردة في تفضيل كل واحدة منهن رضي الله عنهن نجد أنها تدل على أفضلية خديجة وفاطمة ثم عائشة رضي الله عنهن، وذلك أن الضمير الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها خديجة)) (¬5) قد فسر صريحا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد فضلت خديجة على نساء أمتي)) (¬6). وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية)) (¬7). قال ابن حجر: (وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل) (¬8). وقال صلى الله عليه وسلم: ((حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون)) (¬9). ¬

(¬1) رواه البخاري (3770)، ومسلم (2446). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) (15/ 208 - 209). (¬3) انظر: ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 306)، و ((الروض الأنف)) (2/ 298)، و ((الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة)) للزركشي (ص: 56 - 59)، و ((بدائع الفوائد)) (3/ 163)، و ((جلاء الأفهام)) (ص: 122)، و ((فتح الباري)) (7/ 139)، و ((البداية والنهاية)) (3/ 127). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 394). (¬5) رواه البخاري (3815). (¬6) رواه البزار في ((البحر الزخار)) (4/ 255)، والطبراني كما ذكر الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 226): وقال: رواه الطبراني والبزار وفيه أبو يزيد الحميري ولم أعرفه وبقية رجاله وثقوا، وحسن إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 168)، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (249): إسناده رجاله ثقات غير أبي يزيد الحميري فلم يعرف. (¬7) رواه أحمد (1/ 293) (2668)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 93) (8355)، وابن حبان (15/ 470) (7010)، والحاكم (2/ 539). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبي، وقال النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/ 341): إسناده حسن، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 226): رجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 543). (¬8) ((فتح الباري)) (7/ 135). (¬9) رواه الترمذي (3878)، وأحمد (3/ 135) (12414)، وابن حبان (15/ 464) (7003)، والحاكم (3/ 172). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 543).

وهذا نص في أن خديجة رضي الله عنها أفضل نساء الأمة. ثم إن اللفظ الوارد في تفضيل فاطمة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) (¬1). وفي لفظ ((سيدة نساء أهل الجنة)) (¬2) (فهو صريح لا لبس فيه ولا يحتمل التأويل، وهو نص في أنها أفضل نساء الأمة وسيدة نساء أهل الجنة، وقد شاركت أمها في هذا التفضيل فهي وأمها أفضل نساء أهل الجنة، وهي وأمها أفضل نساء الأمة بهذا وردت النصوص) (¬3). أما ما ورد في تفضيل عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) (¬4) فهو لفظ لا يستلزم الأفضلية المطلقة كما قال ابن حجر: (وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها، لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤونة وسهولة الإساغة، وكان أجل أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى) (¬5). فالحديث إذاً دال على أفضلية عائشة رضي الله عنها على سائر نساء هذه الأمة ما عدا خديجة وفاطمة رضي الله عنهن لورود الدليل على ذلك مما قيد تلك الأفضلية لعائشة رضي الله عنها. وأما ما ورد من حديث عمرو بن العاص لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أي النساء أحب إليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: عائشة)) (¬6) فقد أشار ابن حبان رحمه الله على أنه مقيد في نسائه صلى الله عليه وسلم إذ عقد عنواناً في صحيحه فقال: (ذكر خبر وهم في تأويله من لم يحكم صناعة الحديث) وساق تحته حديث عمرو بلفظ: ((قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، فقال: أبو بكر أو قال أبوها)) (¬7). ثم قال ابن حبان: (ذكر الخبر الدال على أن مخرج هذا السؤال كان عن أهله دون سائر النساء من فاطمة وغيرها) وأخرج بسنده عن أنس قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة قيل له: ليس عن أهلك نسألك قال: فأبوها)) (¬8). وبهذا يتبين أن عائشة تلي خديجة وفاطمة في الفضل رضي الله عنها إذ كل ما ورد من دليل على عموم تفضيلها رضي الله عنها مقيد بالنص الوارد في خديجة وفاطمة رضي الله عنهن. ولا ينكر أن لعائشة رضي الله عنها من الفضائل كالعلم مثلاً ما تختص به عن خديجة وفاطمة رضي الله عنهن إلا أنه (لا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق) (¬9). العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان السحيمي –ص: 89 بتصرف ¬

(¬1) رواه البخاري (6285)، ومسلم (2450). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري (3623). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) ((مباحث المفاضلة في العقيدة)) (ص: 368) رسالة دكتوراه للشيخ محمد أبو سيف بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1411هـ. (¬4) رواه البخاري (3770)، ومسلم (2446). (¬5) ((فتح الباري)) (6/ 447). (¬6) رواه البخاري (3662)، ومسلم (2384) بلفظ: ((أي الناس)) بدلاً من ((أي النساء)). (¬7) رواه ابن حبان (16/ 40) (7106). (¬8) رواه ابن حبان (16/ 40) (7107). (¬9) ((فتح الباري)) (7/ 108).

رابعا: فضل حفصة رضي الله عنها

رابعاً: فضل حفصة رضي الله عنها وهي حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي أخت عبدالله لأبيه وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة، أخت عثمان بن مظعون. وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة، وكانت قبله عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد وكان بدرياً شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم ومات بالمدينة، وكانت رضي الله عنها صوامة قوامة، ولدت قبل المبعث بخمس سنين وكانت وفاتها في شعبان سنة خمس وأربعين رضي الله عنها وأرضاها (¬1). وقد وردت في مناقبها أحاديث منها: 1 - أنها كانت ممن حظي بشرف الهجرة فقد روى ابن سعد بإسناده إلى أبي الحويرث قال: (تزوج خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم حفصة بنت عمر فكانت عنده وهاجرت معه إلى المدينة) (¬2). 2 - روى البخاري بإسناده إلى سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث ((أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري فلبث ليالي، ثم لقيني فقال: بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي. ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفش سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها)) (¬3). 3 - روى الطبراني بإسناده إلى قيس بن يزيد ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة ... فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فتجلببت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آتاني جبريل عليه السلام فقال: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وأنها زوجتك في الجنة)) (¬4). في هذا الحديث فضيلة ظاهرة ومنقبة عالية لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها حيث الثناء عليها بكثرة الصيام والقيام والإخبار بأنها زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجنة. قال ابن القيم رحمه الله: (ومن خواصها: ما ذكره الحافظ المقدسي في (مختصر السيرة): ((أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فأتاه جبريل فقال: ((إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة وأنها زوجتك في الجنة)) (¬5). العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم السحيمي- ص: 98 ¬

(¬1) ((معرفة الصحابة)) لأبي نعيم (6/ 3213)، ((عيون الأثر)) لابن سيد الناس (2/ 384). (¬2) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 81). (¬3) رواه البخاري (5122). (¬4) رواه الطبراني (18/ 365) (934). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 248): رجاله رجال الصحيح. (¬5) ((جلاء الأفهام)) (ص: 127).

خامسا: فضل أم سلمة رضي الله عنها

خامساً: فضل أم سلمة رضي الله عنها وهي هند بنت أبي أمية واسمه حذيفة، وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، أم المؤمنين أم سلمة مشهورة بكنيتها معروفة باسمها وكان أبوها يلقب زاد الركب لأنه كان أحد الأجواد فكان إذا سافر لم يحمل أحد معه من رفقته زاداً بل هو كان يكفيهم. وأما عاتكة بنت عامر كنانية من بني فراس وكانت تحت أبي سلمة بن عبد الأسد وهو ابن عمها، وهاجرت معه إلى الحبشة ثم هاجرت إلى المدينة فيقال: أنها أول ظعينة دخلت إلى المدينة مهاجرة ولما مات زوجها خطبها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل به سنة أربع من الهجرة وكانت من أجمل النساء وأشرفهن نسباً، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة إحدى وستين (¬1). وقد وردت أحاديث في مناقبها منها: 1 - ما رواه مسلم بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول: ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له فقلت: إن لي بنتاً وأنا غيور فقال: أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب الغيرة)) (¬2). 2 - ومن مناقبها ما شرفت به رضي الله عنها من رؤية جبريل عليه السلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي: فقد روى الشيخان بإسنادهما عن معتمر بن سليمان التيمي قال: سمعت أبي عن أبي عثمان قال: ((أنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: من هذا؟ أو كما قال. قالت: هذا دحية فلما قام قالت: والله ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل. أو كما قال. قال أبي: قلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد)) (¬3). قال النووي: (قوله إن أم سلمة رأت جبريل في صورة دحية: هو – بفتح الدال وكسرها – وفيه منقبة لأم سلمة رضي الله عنها. وفيه جواز رؤية البشر الملائكة ووقوع ذلك ويرونهم على صورة الآدميين لأنهم لا يقدرون على رؤيتهم على صورهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى جبريل على صورة دحية غالباً، ورآه مرتين على صورته الأصلية) (¬4). وقال ابن القيم: (ومن خصائصها أن جبريل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهي عنده فرأته صورة دحية الكلبي) (¬5). فرضي الله عنها وأرضاها. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان السحيمي –ص: 102 ¬

(¬1) ((الطبقات)) لابن سعد (8/ 86 - 96)، و ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 201 - 210)، و ((البداية والنهاية)) (4/ 217)، و ((مجمع الزوائد)) (9/ 245)، و ((الإصابة)) (4/ 407 - 408). (¬2) رواه مسلم (918). (¬3) رواه البخاري (4980)، ومسلم (2451). (¬4) ((شرح صحيح مسلم)) (16/ 240 - 241). (¬5) ((جلاء الأفهام)) (ص: 136).

سادسا: فضل زينب بنت جحش رضي الله عنها

سادساً: فضل زينب بنت جحش رضي الله عنها وهي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر الأسدي حليف بني عبد شمس وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت من المهاجرات الأول، تزوجها صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث، وقيل سنة خمس، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة وفيها نزلت فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب: 27] وكان زيد يدعي ابن محمد فلما نزلت ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ [الأحزاب: 5]، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأته انتفى ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من أن الذي يتبنى غيره يصير ابنه بحيث يتوارثان إلى غير ذلك، وكانت زينب رضي الله عنها من سادات النساء ديناً وورعاً وجوداً ومعروفاً وهي أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به حيث كانت وفاتها سنة عشرين فرضي الله عنها وأرضاها (¬1). العقيدة في أهل اليت بين الإفراط والتفريط لسليمان السحيمي –ص: 104 1 - فضل زينب بنت جحش رضي الله عنها في القرآن الكريم أوجه دلالات قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة .. على فضل زينب رضي الله عنها هذه الآيات الكريمات دلت على عدد من فضائل زينب رضي الله عنها وهي كالتالي: الفضيلة الأولى: دلالة الآية على إيمانها: بحسب ما ذكره جمهور المفسرين في سبب نزول الآية الأولى فإنها تدل بكل وضوح على عمق إيمانها رضي الله عنها فرغم أنها من بيت شريف نسيب، والشأن عند العرب أنه لا ينكحها إلا مثلها إلا أنها استجابت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضيت بزيد زوجاً فكان عاقبة هذا الرضى والتسليم لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن صار زوجها بعد ذلك هو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. الفضيلة الثانية: أن الله تبارك وتعالى هو الذي تولى تزويجها: وهذا ثابت في قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب: 37]، فهذه الآية الكريمة تدل على أن الذي زوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب هو الله تعالى. وترتب على هذا الفضيلة الثالثة: أنه لم يحصل في زواج زينب شيء مما هو معتبر في النكاح من ولي وصداق وشهود. قال ابن القيم: (ومن خصائص زينب أن الله سبحانه كان هو وليها الذي زوجها لرسوله صلى الله عليه وسلم من فوق سماواته) (¬2). قال الشوكاني: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على زينب بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في حق النكاح في حق أمته) (¬3). وعلى دلالة الآية على هذا ذهب غير واحد من المفسرين (¬4)، وقد تأيد هذا المعنى بروايات في السنة المطهرة، فعن أنس رضي الله عنه: (أن زيداً لما خطب زينب للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن وجاء رسول الله ودخل عليها بغير إذن) (¬5) ... ولهذه الفضيلة كانت رضي الله عنها تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (زوجكن أهليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات) (¬6). وفي رواية: (إن الله أنكحني في السماء) (¬7). ¬

(¬1) ((الطبقات)) لابن سعد (8/ 101 - 105)، و ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/ 51 - 45)، و ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 211 - 218)، و ((البداية والنهاية)) (7/ 106 - 107)، و ((مجمع الزوائد)) (9/ 246 - 248)، و ((الإصابة)) (4/ 307 - 308). (¬2) ((زاد المعاد)) (1/ 108). (¬3) ((فتح القدير)) (4/ 95). (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 425)، ((حسن الأسوة)) (ص: 195)، ((التحرير والتنوير)) (22/ 39). (¬5) رواه مسلم (1428). (¬6) رواه البخاري (7420). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬7) رواها البخاري (7421). من حديث أنس رضي الله عنه.

وكانت رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: أن جدي وجدك واحد، وأني أنكحنيك الله من السماء، وأن السفير جبريل عليه السلام) (¬1)، ولعل لأجل هذه الفضيلة أولم عليها رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يولم على امرأة من نسائه (¬2). الفضيلة الرابعة: نزول الحجاب في زواجها: حيث ثبت أن آية الحجاب وهي قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ [الأحزاب: 53]، نزلت في قصة زواجها، وقد ثبت ذلك من حديث أنس رضي الله عنه (¬3) وقد عد ذلك أهل العلم من فضائلها (¬4)، ولعل مرد ذلك ما يوحي به نزول الآية في وقت زواجها من مزيد العناية بها رضي الله عنها، ولعل هذا من توابع تزويج الله لها فكأنه سبحانه وتعالى زوجها، وجعل من تبعات ذلك ضرب الحجاب عليها وعلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم والأمة. آيات آل البيت في القرآن الكريم لمنصور بن حمد العيدي – ص: 262 2 - فضل زينب في السنة - ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها بين أزواجه بذكر إحدى مآثرها بصيغة يتحقق تأويلها مستقبلاً وهي الصدقة والإنفاق في سبيل الله. فقد روى مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً قالت فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق)) (¬5). وروى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً، قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة قالت: وكانت زينب امرأة صناعة اليد فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله عز وجل)) (¬6). قال النووي: (معنى الحديث أنهن ظنن أن المراد بطول اليد طول اليد الحقيقية وهي الجارحة فكن يذرعن أيديهن بقصبة فكانت سودة أطولهن جارحة وكانت زينب أطولهن يداً في الصدقة وفعل الخير فماتت زينب أولهن فعلمن أن المراد طول اليد في الصدقة والجود ... وفيه معجزة باهرة لرسوله صلى الله عليه وسلم ومنقبة ظاهرة لزينب. ووقع الحديث في كتاب الزكاة من البخاري بلفظ: متعقد يوهم أن أسرعهن لحاقاً سودة وهذا الوهم باطل بالإجماع) (¬7). 4 - ومن مناقبها ثناء عائشة رضي الله عنها ووصفها بصفات مكارم الأخلاق والتي اشتملت على البر والتقوى والورع. ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (20/ 276)، والثعلبي في ((الكشف والبيان)) (8/ 49). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 412): أخرجه الطبري وأبو القاسم الطحاوي في كتاب "الحجة والتبيان" من مرسل الشعبي. (¬2) حديث الوليمة رواه البخاري (5168)، ومسلم (1428). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (7421)، وأحمد (3/ 226) (13385)، والنسائي (6/ 79)، وفي ((السنن الكبرى)) (6/ 436) (11421). (¬4) ((العقيدة في أهل البيت)) (ص: 106). (¬5) رواه مسلم (2452). (¬6) رواه الحاكم (4/ 26). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬7) ((شرح صحيح مسلم)) (16/ 241).

فقد روى مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها من حديث طويل وفيه ((فأرسلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى)) (¬1). وفي حديث الإفك قالت عائشة رضي الله عنها: ((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ماذا عملت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً. قالت وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع)) (¬2). ففي ما تقدم من كلام عائشة رضي الله عنها فضيلة ظاهرة ومنقبة عالية لأم المؤمنين زينب رضي الله عنها وأرضاها. وفي ذلك يقول الإمام الذهبي: ويروى عن عائشة أنها قالت: يرحم الله زينب لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها، ونطق به القرآن، وإن رسول الله قال لنا: ((أسرعكن بي لحوقاً أطولكن باعاً)) فبشرها بسرعة لحوقها به، وهي زوجته في الجنة (¬3). ومناقبها التي وردت بها الأحاديث والآثار كثيرة وحسبنا هنا ما تقدم. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان السحيمي –ص: 107 ¬

(¬1) رواه مسلم (2442). (¬2) رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770). (¬3) ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 215).

سابعا: فضل جويرية بنت الحارث رضي الله عنها

سابعاً: فضل جويرية بنت الحارث رضي الله عنها هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن جذيمة وهو المصطلق بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن عمرو الخزاعية المصطلقية، كانت إحدى سبايا غزوة بني المصطلق (المريسيع) سنة خمس أو ست من الهجرة فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها وكانت قبله تحت مسافع بن صفوان المصطلقي والذي قتل في تلك المعركة، وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق، وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من بركتها على قومها (¬1). وقد وردت في مناقبها رضي الله عنها أحاديث دلت على فضلها وعظم شأنها منها: 1 - ما رواه الإمام أحمد في (مسنده) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابتك وأتزوجك قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها)) (¬2). ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة لأم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها حيث كان زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم خيراً لها ولقومها فما أن علم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بذلك حتى أطلقوا الأسارى الذين كانوا في أيديهم من قومها إجلالاً وتعظيماً لسيد الخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنهم صاروا أصهاره فكان خيرها شاملاً لقومها. 2 - ومن مناقبها أنها كانت من المكثرات للعبادة الذاكرات الله ذكراً كثيراً رضي الله عنها فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن جويرية ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) (¬3). 3 - تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لها بهذا الاسم فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله بن عباس قال: ((كانت جويرية اسمها برة، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة)) (¬4). وقد كانت وفاتها رضي الله عنها سنة خمسين للهجرة وقيل سنة ست وخمسين (¬5). العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم السحيمي –ص: 109 ¬

(¬1) ((الاستيعاب)) (ص: 582)، و ((أسد الغابة)) (ص: 1327)، و ((الإصابة)) (7/ 565). (¬2) رواه أحمد (6/ 277) (26408)، ورواه الحاكم (4/ 27)، والبيهقي (9/ 74) (18535). وقال: صحيح ثابت، وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (31/ 379): هذه الأحاديث ونحوها مشهورة، بل متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبي العرب، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (8/ 150): أصله في الصحيحين. (¬3) رواه مسلم (2726). (¬4) رواه مسلم (2140). (¬5) انظر: ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (8/ 120)، و ((البداية والنهاية)) (8/ 51)، و ((الإصابة)) (4/ 258).

ثامنا: فضل أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها

ثامناً: فضل أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها وهي رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموية زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم حبيبة وهي بها أشهر من اسمها وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية ولدت رضي الله عنها قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند عبيد الله بن جحش بن رباب بن يعمر الأسدي من بني أسد بن خزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة فولدت حبيبة وبها كانت تكنى، وقد ارتد زوجها عبيد الله بن جحش عن الإسلام ودخل في النصرانية فهلك وهو على تلك الحالة وتمسكت هي بدينها وذلك من فضل الله عليها ليتم لها الإسلام والهجرة فأبدلها الله عز وجل به خير البشر وأفضلهم سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهي أقرب أزواجه نسباً إليه وأكثرهن صداقاً رضي الله عنها وأرضاها (¬1). قال الذهبي عنها: (وهي من بنات عم الرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في أزواجه من هي أكرم نسباً إليه منها ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له صلى الله عليه وسلم عليها بالحبشة وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربعمائة دينار، وجهزها بأشياء) (¬2). وقد ورد لها بعض المناقب التي تدل على علو مكانتها وعظيم شأنها رضي الله عنها وأرضاها ومن تلك المناقب: 1 - أنها كانت ممن هاجر في الله الهجرة الثانية إلى الحبشة فارة بدينها رضي الله عنها: فقد روى الحاكم بإسناده إلى إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: ((قالت أم حبيبة رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوء صورة وأشوهها ففزعت فقلت تغيرت والله حاله فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية، فقلت: والله ما خير لك وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأري في النوم كأن آتيا يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني قالت: فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول الله النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه فقالت: بشرك الله بخير قالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته ... )) (¬3) الحديث. ففي هذا الحديث فضيلة ظاهرة ومنقبة عالية لأم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وهي أنها كانت ممن شرف بالهجرة إلى أرض الحبشة وثبتت على إسلامها وهجرتها رضي الله عنها وأرضاها. وفي ذلك يقول ابن سعد: (وكان عبيد الله بن جحش هاجر بأم حبيبة معه إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فتنصر وارتد عن الإسلام وتوفي بأرض الحبشة، وثبتت أم حبيبة على دينها الإسلام وهجرتها) (¬4). وقال ابن كثير: (أسلمت قديماً وهاجرت هي وزوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فتنصر هناك زوجها وثبتت على دينها رضي الله عنها) (¬5). ¬

(¬1) ((الاستيعاب)) (ص: 595)، و ((أسد الغابة)) (ص: 1353)، و ((الإصابة)) (7/ 651). (¬2) ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 219). (¬3) رواه الحاكم (4/ 22)، ورواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 97). قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 221): هي منكرة. (¬4) ((الطبقات الكبرى)) (8/ 96). (¬5) ((البداية والنهاية)) (8/ 30).

3 - ومن مناقبها أنها أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة لعقد الهدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش ومنعته من الجلوس عليه لأنه كان يومئذ على الشرك ولم يكن قد أسلم. فقد روى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن مسلم الزهري قال: (لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه، فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك فقال: يا بنية أصابك بعدي شر) (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: (وهي التي أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة وقالت: (إنك مشرك) ومنعته من الجلوس عليه) (¬2). 3 - ومن مناقبها ما رواه ابن سعد والحاكم عن عوف بن الحارث قال: (سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك فقلت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت: سررتيني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك، وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما) (¬3) ورضي الله عنها وأرضاها. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم السحيمي –ص: 111 ¬

(¬1) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 99 - 100)، وأورده الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (2/ 223) وضعفه الألباني في ((فقه السيرة)) (373). (¬2) ((جلاء الأفهام)) (ص: 134). (¬3) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 100)، والحاكم (4/ 24).

تاسعا: فضل صفية بنت حيي رضي الله عنها

تاسعاً: فضل صفية بنت حيي رضي الله عنها وهي صفية بنت حيي بن أخطب بن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن أبي خبيب من بني النضير وهو من سبط لاوي بن يعقوب، ثم من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام، كانت قبل إسلامها تحت سلام بن مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، فقتل يوم خيبر فصارت صفية مع السبي فأخذها دحية الكلبي، ثم استعادها النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها. كانت من سيدات النساء عبادة وورعاً وزهادة وبراً وصدقة كما كانت شريفة عاقلة، ذات حسب، وجمال، ودين رضي الله عنها وأرضاها (¬1). وقد ورد في مناقبها رضي الله عنها أحاديث منها: 1 - ما روى الشيخان من حديث طويل عن أنس رضي الله عنه في غزوة خيبر وفيه ((فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبى الذرية، وكان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عتقها صداقها)) (¬2). وفي رواية: فقال ثابت لأنس: ((ما أصدقها؟ قال: أصدقها نفسها فأعتقها)) (¬3). قال ابن القيم: (ومن خصائصها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها ... وصار ذلك سنة للأمة إلى يوم القيامة يجوز للرجل أن يجعل عتق جاريته صداقها وتصير زوجته) (¬4). 2 - ومنها ما رواه البخاري في صحيحه بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: ((قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروساً فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه فخرج حتى بلغنا سد الصهباء حلت فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صنع حيسا في نطع صغير ثم قال لي آذن من حولك، فكانت تلك وليمته على صفية، ثم خرجنا إلى المدينة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب)) (¬5). وقال الحافظ ابن حجر: (ووقع في مغازي أبي الأسود عن عروة فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب فأجلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضع رجلها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه وركبت) (¬6). ففي ذلك دليل على عظم شأنها وجلالة قدرها حيث كانت تجل المصطفى صلى الله عليه وسلم وتكرمه من أن تضع رجلها على فخذه وإنما كانت تضع ركبتها على فخذه حتى تركب فرضي الله عنها. 3 - ومن مناقبها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من التنويه بشرف نسبها فقد روى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: فما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة أني ابنة يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وإنك لابنة نبي، وأن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة)) (¬7). وقد تضمن بياناً لمكانتها وجبراً لخاطرها. قال ابن القيم: (وهذا من خصائصها رضي الله عنها) (¬8). 4 - مدح النبي صلى الله عليه وسلم لها ووصفه لها بالصدق، قد أخرج ابن سعد عن زيد بن أسلم ((أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في الوجع الذي توفي فيه اجتمعت إليه نساؤه فقالت صفية بنت حيي: أما والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي فغمزنها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبصرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مضمضن. فقلن: من أي شيء يا نبي الله؟ قال: من تغامزكن بصاحبتكن والله إنها لصادقة)) (¬9). فكانت رضي الله عنها عاقلة حليمة فاضلة وكانت وفاتها سنة اثنين وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنهم أجمعين. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم السحيمي –ص: 114 ¬

(¬1) ((الاستيعاب)) (ص: 605)، ((أسد الغابة)) (ص: 1375)، ((الإصابة)) (7/ 738 - 741). (¬2) رواه البخاري (4200). (¬3) رواه البخاري (4201). (¬4) ((جلاء الأفهام)) (ص: 137)، و ((زاد المعاد)) (1/ 112). (¬5) رواه البخاري (4211). (¬6) ((فتح الباري)) (7/ 480). (¬7) رواه الترمذي (3894). وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (5/ 323): سنده لا شك في صحته، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي). (¬8) ((جلاء الأفهام)) (ص: 137). (¬9) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 129)، ورواه الحاكم (4/ 29).

عاشرا: فضل ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها

عاشراً: فضل ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية، وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن قماطة من حمير. كانت تزوجت مسعود بن عمرو الثقفي ثم فارقها فخلف عليها أبو رهم بن عبد العزى فمات عنها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم زوجه إياها العباس بن عبد المطلب وكان يلي أمرها. وهي خالة بني العباس بن عبد المطلب بن عبد الله وإخوته، وبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة وكانت آخر امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وذلك سنة سبع من عمرة القضية (¬1). وقد وردت لها مناقب رضي الله عنها في أحاديث منها: 1 - ما رواه الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأخوات مؤمنات ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأختها أم الفضل بنت الحارث، وأختها سلمة بنت الحارث امرأة حمزة، وأسماء بنت عميس أختهن لأمهن)) (¬2). ففي هذا الحديث منقبة عظيمة وفضيلة ظاهرة لأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها حيث شهد لها المصطفى صلى الله عليه وسلم بحقيقة الإيمان واستقراره في قلبها هي وأخواتها اللاتي ذكرن معها رضي الله عنهن وأرضاهن. 2 - إن تسميتها باسم (ميمونة) إنما سماها بهذا الاسم النبي صلى الله عليه وسلم روى الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان اسم خالتي ميمونة برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة)) (¬3). 3 - ومن مناقبها رضي الله عنها ما رواه الحاكم عن يزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة قال: ((تلقيت عائشة وهي مقبلة من مكة أنا وابن لطلحة بن عبيد الله وهو ابن أختها وقد كنا وقعنا في حائط من حيطان المدينة فأصبنا منه فبلغها ذلك فأقبلت على ابن أختها تلومه وتعذله، ثم أقبلت علي فوعظتني موعظة بليغة ثم قالت: أما علمت أن الله تبارك وتعالى ساقك حتى جعلك في أهل بيت نبيه؟ ذهبت والله ميمونة ورمى برسنك على غاربك، أما أنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم)) (¬4). ففي هذا الحديث شهادة لأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها بأنها صاحبة تقوى وممن يصل الرحم الذي حث الله على صلتها وتوعد بالعقوبة من قطعها. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط – سليمان بن سالم السحيمي – ص117 ¬

(¬1) ((الاستيعاب)) (ص: 620)، و ((الإصابة)) (8/ 126). (¬2) رواه الحاكم (4/ 35). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬3) رواه الحاكم (4/ 32). وقال: صحيح، ووافقه الذهبي. (¬4) رواه الحاكم (4/ 34). قال الذهبي في ((التلخيص)): على شرط مسلم.

حادي عشر: فضل زينب بنت خزيمة

حادي عشر: فضل زينب بنت خزيمة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت تحت عبد الله بن جحش تزوجها سنة ثلاث من الهجرة وكانت تسمى أم المساكين لكثرة إطعامها المساكين ولم تلبث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا شهرين أو ثلاثة وتوفيت رضي الله عنها جلاء الأفهام لابن القيم – ص: 375

المطلب الرابع: فضائل بنات النبي صلى الله عليه وسلم

1 - فضل زينب رضي الله عنها وهي زينب بنت سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم القرشية الهاشمية، وأمها خديجة بنت خويلد، وكانت أكبر بناته صلى الله عليه وسلم وأول من تزوج منهن رضي الله عنهن، وقد ولدت قبل البعثة بمدة قيل إنها عشر سنين وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع العبشمي، وأمه هاله بنت خويلد خالة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولدت زينب لأبي العاص علياً وأمامة فتوفي علي وهو صغير، وبقيت أمامة فتزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت زينب رضي الله عنها من المهاجرات السيدات (¬1). وقد وردت جملة من الأحاديث في مناقبها رضي الله عنها: 1 - فقد روى ابن سعد والحاكم بإسناديهما إلى عائشة رضي الله عنها: ((أن أبا العاص بن الربيع كان فيمن شهد بدراً مع المشركين فأسره عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري. فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم قدم في فداء أبي العاص أخوه عمر بن الربيع وبعثت معه زينب بنت رسول الله، وهي يومئذ بمكة، بقلادة لها كانت لخديجة بنت خويلد من جزع ظفار، وظفار جبل باليمن وكانت خديجة بنت خويلد أدخلتها بتلك القلادة على أبي العاص بن الربيع حين بنى بها، فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، القلادة عرفها ورق لها وذكر خديجة وترحم عليها وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا إليها متاعها فعلتم. قالوا: نعم يا رسول الله فأطلقوا أبا العاص بن الربيع وردوا على زينب قلادتها وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيلها إليه فوعده ذلك ففعل)) (¬2). 2 - وروى الحاكم بإسناده عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رسول الله لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في إثرها فأدركها هبار بن الأسود فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها وألقت ما في بطنها وأهرقت دماً فحملت فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أميه فقال: بنو أمية نحن أحق بها وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص، فصارت عند هند بنت عتبة بن ربيعة وكانت تقول لها هند: هذا بسبب أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: ألا تنطلق فتجيئني بزينب قال: بلى يا رسول الله قال: فخذ خاتمي فأعطها إياه فانطلق زيد وترك بعيره فلم يزل يتلطف حتى لقي راعياً فقال: لمن ترعى قال: لأبي العاص قال: فلمن هذه الغنم قال: لزينب بنت محمد فسار معه شيئاً ثم قال له: هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيها إياه ولا تذكره لأحد قال: نعم فأعطاه الخاتم فانطلق الراعي فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال رجل قالت: وأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا قال: فسكتت حتى إذا جاء الليل خرجت إليه فلما جاءته قال لها: اركبي قالت: لا ولكن اركب أنت بين يدي فركب وركبت وراءه حتى أتت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هي أفضل بناتي أصيبت في) (¬3) ¬

(¬1) انظر: ((الإصابة)) (7/ 665). (¬2) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 31)، والحاكم (3/ 366). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬3) رواه الحاكم (2/ 219). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

3 - وروى البزار بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وكنت فيهم، فقال: إن لقيتم هبار بن الأسود، ونافع بن عبد عمرو فأحرقوهما، وكانا نخسا بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت، فلم تزل ضبنة حتى ماتت، ثم قال: إن لقيتموهما، فاقتلوهما، فإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله)) (¬1). وجاء عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وأن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما)) (¬2). والمعني بفلان وفلان هبار بن الأسود ورفيقه كما تقدم في الحديث السابق، قال ابن حجر رحمه الله: (والقصة مشهورة عند ابن إسحاق وغيره .. ) (¬3) (وقد أسلم هبار هذا، ففي رواية أبي نجيح فلم تصبه السرية وأصابه الإسلام فهاجر) (¬4). 4 - وروى الحاكم بإسناده إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ((أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليها أبو العاص بن الربيع أن خذي لي أماناً من أبيك، فخرجت فأطلعت رأسها من باب حجرتها والنبي صلى الله عليه وسلم في الصبح يصلي بالناس فقالت: أيها الناس: إني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني أجرت أبا العاص، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال: أيها الناس إنه لا علم لي بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يجير المسلمين أدناهم)) (¬5). (ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة لزينب رضي الله عنها حيث قبل جوارها لزوجها وصار ذلك سنة للمسلمين إلى يوم القيامة، وهو أنه يجير على المسلمين أدناهم ولو كان امرأة) (¬6). 5 - وروى مسلم بإسناده إلى أم عطية قالت: ((لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً واجعلن في الخامسة كافوراً أو شيئاً من كافور فإذا غَسَلْتُنَّهَا فأعلمنني قالت: فأعلمناها فأعطانا حقوه وقال .... أشعرنها إياه)) (¬7). ففي هذه الأحاديث بيان لمناقب وفضائل زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لها من منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كانت ممن تقدم إسلامهم، وممن حظيت بالهجرة حتى أوذيت في الله وصبرت وتحملت من الأذى ما كان سبباً في وفاتها، وقد انتقلت إلى الرفيق الأعلى في أول السنة الثامنة من الهجرة (¬8) رضي الله عنها. ¬

(¬1) لم أقف على رواية أبي هريرة ولكن رواه البزار (3/ 242) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 215): رجاله رجال الصحيح، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (ص: 218): إسناده رجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه البخاري (3016). (¬3) انظر: ((سيرة ابن هشام)) (1/ 654)، و ((المستدرك)) (4/ 42 - 43). (¬4) ((فتح الباري)) (6/ 150). (¬5) رواه الحاكم (4/ 49)، ورواه الطبراني (22/ 425) (18899). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 333): رواه الطبراني في ((الأوسط)) و ((الكبير)) باختصار، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات، وصححه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/ 770). (¬6) ((عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم)) لناصر بن علي عايض حسن آل شيخ (ص: 422 - 423). (¬7) رواه مسلم (939). (¬8) ((الطبقات)) لابن سعد (8/ 32) و ((السير)) للذهبي (2/ 250) و ((الإصابة)) (4/ 306).

2 - فضل رقية رضي الله عنها

2 - فضل رقية رضي الله عنها هي رقية بنت خير الخلق وسيد البشر صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمية وأمها خديجة بنت خويلد كانت ولادتها سنة ثلاث وثلاثين من مولد أبيها صلى الله عليه وسلم (¬1). قال ابن عبد البر: (لا أعلم خلافاً أن زينب أكبر بناته صلى الله عليه وسلم واختلف فيمن بعدها منهن ذكر أبو العباس محمد بن إسحاق السراج قال: سمعت عبد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر بن سليمان الهاشمي قال: ولدت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاثين سنة، وولدت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وثلاثين سنة) (¬2). وكانت رضي الله عنها قبل الهجرة تحت عتبة بن أبي لهب، وكانت أختها أم كلثوم تحت عتيبة بن أبي لهب فلما نزلت تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] قال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما حمالة الحطب: (فارقا ابنتي محمد) وقال أبو لهب: (رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد ففارقاهما) (¬3). وقد أبدلها الله عز وجل بزوج من السابقين الأولين إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقد جاء عن قتادة رضي الله عنه أنه قال: (كانت رقية عند عتبة بن أبي لهب فلما أنزل الله تبارك وتعالى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] سأل النبي صلى الله عليه وسلم عتبة طلاق رقية وسألته رقية ذلك فطلقها، فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية وتوفيت عنده) (¬4). وقد تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه بمكة وهاجرا إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك ابنا سماه عبد الله فكان يكنى به ومات وهو صغير، وقيل مات في جمادى الأولى سنة أربع وهو ابن ست سنين نقره ديك في عينه فتورم وجهه ومرض ومات (¬5). وقد وردت في فضائلها طائفة من الأحاديث والآثار منها: 1 - ما رواه الحاكم بإسناده إلى عروة في تسمية الذين خرجوا في المرة الأولى إلى الحبشة قبل خروج جعفر وأصحابه عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬6). ففي هذا منقبة ظاهرة لرقية وزوجها عثمان رضي الله عنهما إذ شرفوا بفضل الهجرة الأولى. 2 - ومن فضائلها أنها لما مرضت رضي الله عنها أمر النبي صلى الله عليه وسلم زوجها عثمان بن عفان أن يتخلف عن غزوة بدر لتمريضها. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر قال: وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه)) (¬7). وفي ذلك منقبة عظيمة ومنزلة رفيعة لرقية رضي الله عنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنه أذن لعثمان في أن يتأخر عن غزوة بدر التي هي أول معركة فاصلة بين جيش الإيمان وجيش الكفر، لتمريضها رضي الله عنها وضرب له بسهمه في الغنيمة وأجره عند الله كمن حضر الغزوة، إكراماً لها وتعظيماً لشأنها رضي الله عنها. وقد كانت وفاتها يوم بدر في السنة الثانية من الهجرة قال ابن عبد البر: (وأما وفاة رقية فالصحيح في ذلك أن عثمان تخلف عليها بأمر رسول الله، وهي مريضة في حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وتوفيت يوم وقعة بدر ودفنت يوم جاء بن حارثة بشيراً بما فتح الله عليهم ببدر) (¬8). وقال ابن كثير عند ذكره لبنات النبي صلى الله عليه وسلم: (وماتت رقية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، ولما قدم زيد بن حارثة بالبشارة وجدهم قد ساووا التراب عليها، وكان عثمان قد أقام عندها يمرضها فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره) (¬9). فرضي الله عنها وأرضاها وبما تقدم يتبين فضلها ومنزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) ((الاستيعاب)) (ص: 594). (¬2) ((الاستيعاب)) (4/ 292). (¬3) ((الطبقات)) لابن سعد (8/ 36) و ((السير)) للذهبي (2/ 251) و ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (9/ 216 - 217). (¬4) رواه الطبراني (22/ 434) (18908). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 219): إسناده حسن. (¬5) انظر ((الطبقات)) لابن سعد (8/ 36 - 37) و ((المستدرك)) للحاكم (4/ 46 - 47) و ((السير)) للذهبي (2/ 250 - 251) و ((الإصابة)) (4/ 297 - 298). (¬6) ((المستدرك)) (4/ 46). (¬7) رواه البخاري (3130). (¬8) ((الاستيعاب)) (4/ 294). (¬9) ((البداية والنهاية)) (5/ 256) وانظر: ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (8/ 36).

3 - فضل أم كلثوم رضي الله عنها

3 - فضل أم كلثوم رضي الله عنها هي أم كلثوم بنت المصطفى سيد ولد آدم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة بنت خويلد، تزوجها عتيبة بن أبي لهب قبل البعثة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] قال له أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته، ففارقها ولم يكن دخل بها، فلم تزل بمكة مع أبيها صلى الله عليه وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها وبايعت رسول الله مع أخواتها حين بايعه النساء وهاجرت إلى المدينة، فلم تزل بها، ولما توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوجها الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، وكان ذلك شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، وأدخلت عليه في هذه السنة في جمادى الآخرة، فلم تزل عنده إلى أن ماتت ولم تلد له شيئاً. فرضي الله عنها وأرضاها (¬1). وقد وردت لها مناقب تدل على فضلها ومنزلتها رضي الله عنها: 1 - ما ذكره ابن عبد البر من قوله: (وكان عثمان رضي الله عنه إذ توفيت رقية قد عرض عليه عمر بن الخطاب حفصة ابنته ليتزوجها فسكت عثمان عنه لأنه قد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدل عثمان على من هو خير له منها وأدلها على من هو خير لها من عثمان)) فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وزوج عثمان أم كلثوم) (¬2). 2 - وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: شهدنا بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان، قال فقال: ((هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا، قال: فانزل، قال: فنزل في قبرها)) (¬3). قال الحافظ ابن حجر عند شرحه الحديث: (قوله: شهدنا بنتاً للنبي صلى الله عليه وسلم هي أم كلثوم زوج عثمان رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد، وأخرجه ابن سعد في (الطبقات) في ترجمة أم كلثوم (¬4)، وكذا الدولابي في (الذرية الطاهرة) (¬5) .. ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية، أخرجه البخاري في (التاريخ الأوسط) والحاكم في (المستدرك) (¬6)، قال البخاري: (ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر لم يشهدها، قلت: وهم حماد في تسميتها فقط) (¬7). 3 - ومن مناقبها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازتها رضي الله عنها فقد روى ابن سعد في ترجمتها بإسناده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها وجلس على حفرتها، ونزل في حفرتها علي بن أبي طالب والفضل بن عباس وأسامة بن زيد) (¬8). وبهذا يتبين فضلها ومنزلتها إذ أبدلها الله عز وجل بعد مفارقة ابن أبي لهب برجل حيي كريم تستحي منه الملائكة من أفضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان نعم الزوج لها ونعمة الزوجة له، كما أنها حظيت رضي الله عنها بأن يكون المصطفى صلى الله عليه وسلم إمام المصلين على جنازتها وكفى بذلك منقبة وفضيلة لما في دعائه لها من البركة والرحمة والمغفرة. وقد كانت وفاتها سنة تسع من الهجرة (¬9) فرضي الله عنها وأرضاها. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط سليمان بن سالم بن رجاء السحيمي– ص: 121 ¬

(¬1) ((الاستيعاب)) (4/ 294). (¬2) ((الاستيعاب)) (4/ 464). (¬3) رواه البخاري (1285). (¬4) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 38). (¬5) رواه الدولابي في ((الذرية الطاهرة)) (ص: 60). (¬6) رواه البخاري في ((التاريخ الأوسط)) (1/ 44)، والحاكم في ((المستدرك)) (4/ 51) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، واحتج به ابن حزم في ((المحلى)) (5/ 145). (¬7) ((فتح الباري)) (3/ 158). (¬8) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 39). (¬9) انظر: ((الطبقات الكبرى)) (8/ 38)، و ((العبر)) للذهبي (1/ 9)، و ((الإصابة)) (4/ 466).

4 - فضل فاطمة رضي الله عنها

4 - فضل فاطمة رضي الله عنها هي فاطمة بنت إمام المتقين سيد ولد آدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمها خديجة بنت خويلد كانت تكنى بأم أبيها ولدت رضي الله عنها قبل البعثة سنة خمس وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، زوجها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب سنة اثنتين للهجرة بعد وقعة بدر وولدت له الحسن والحسين ومحسنا وأم كلثوم وكانت وفاتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر فرضي الله عنها وأرضاها ولقد وردت في مناقبها وفضائلها أحاديث كثيرة منها العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن رجاء السحيمي- ص131 عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مرحباً يا ابنتي ثم أجلسها عن يمينه – أو عن شماله – ثم أسر إليها حديثاً فبكت فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن فسألتها عما قال فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت: أسر إلي أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي. فبكيت. فقال أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة – أو نساء المؤمنين – فضحكت لذلك)) (¬1). عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلم علي لم ينزل قبلها فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)) (¬2). عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء فبكت ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت فسألنا عن ذلك فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت)) (¬3). عن المسور بن مخرمة قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها)) (¬4). عن عبد الله بن الزبير: ((أن علياً ذكر ابنة أبي جهل فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنها فاطمة بضعة منى يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها)) (¬5). عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً وهدياً ودلاً، وقال الحسن: حديثاً وكلاماً – ولم يذكر الحسن السمت والهدى والدل – برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة كرم الله وجهها: كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها)) (¬6). عن سالم عن أبيه أنه كان يسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر أسامة بن زيد فبلغه أن الناس عابوا أسامة وطعنوا في إمارته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال كما حدثني سالم: ((ألا إنكم تعيبون أسامة وتطعنون في إمارته وقد فعلتم ذلك بأبيه من قبل، وإن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لأحب الناس كلهم إلي، وإن ابنه هذا من بعده لأحب الناس إلي فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم. قال سالم ما سمعت عبد الله يحدث هذا الحديث قط إلا قال ما حاشا فاطمة)) (¬7). الصحيح المسند من فضائل الصحابة – مصطفى بن العدوي – ص: 252 ¬

(¬1) رواه البخاري (3623). (¬2) رواه الحاكم (3/ 164). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (79). (¬3) رواه البخاري (4433). (¬4) رواه البخاري (5230). (¬5) رواه الترمذي (3869)، وأحمد (4/ 5) (16168)، والحاكم (3/ 173). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (¬6) رواه البخاري (3762). (¬7) رواه أحمد (2/ 106) (5848). قال أحمد شاكر محقق ((المسند)) (8/ 129): إسناده صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني على شرط مسلم في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (745).

المطلب الخامس فضائل بعض رجال آل البيت

أولا: حمزة سيد الشهداء عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)) (¬1). ¬

(¬1) رواه الحاكم (3/ 215). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (374).

ثانيا: شهادة عبد الرحمن بن عوف – أحد العشرة – لحمزة بأنه خير منه

ثانيا: شهادة عبد الرحمن بن عوف – أحد العشرة – لحمزة بأنه خير منه عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام – وكان صائماً – فقال: (قتل مصعب بن عمير وهو خير مني كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة – وهو خير مني – ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط – أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا – وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (1275).

ثالثا: حمزة أسد الله

ثالثا: حمزة أسد الله عن سعد بن أبي وقاص قال: (كان حمزة بن عبد المطلب يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا أسد الله) (¬1). ¬

(¬1) رواه الحاكم (3/ 214). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

رابعا: حمزة المبارز يوم بدر

رابعا: حمزة المبارز يوم بدر عن قيس بن عباد عن أبي ذر رضي الله عنه (أنه كان يقسم فيها قسماً إن هذه الآية: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في يوم بدر) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (4743).

خامسا: قصة قتل حمزة ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم

خامسا: قصة قتل حمزة ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: ((خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم، وكان وحشي يسكن حمص فسألنا عنه فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره كأنه حميت قال: فجئنا حتى وقفنا عليه بيسير فسلمنا فرد السلام قال: وعبيد الله معتجر بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه فقال عبيد الله: يا وحشي أتعرفني؟ قال: فنظر إليه ثم قال: لا والله، إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها أم قتال بنت أبي العيص، فولدت له غلاما بمكة فكنت أسترضع له، فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه، فلكأني نظرت إلى قدميك. قال: فكشف عبيد الله عن وجهه ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر قال: فلما أن خرج الناس عام عينين – وعينين جبل بحيال أحد بينه وبينه واد – خرجت مع الناس إلى القتال فلما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ قال فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور أتحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب. قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا منى رميته بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه قال: فكان ذاك العهد به فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني قال: أنت وحشي قلت: نعم. قال: أنت قتلت حمزة؟ قلت: قد كان من الأمر ما بلغك. قال: فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟ قال: فخرجت فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته حربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته)) (¬1). عن ابن عباس قال: (لما قتل حمزة يوم أحد أقبلت صفية تطلبه لا تدري ما صنع قال: فلقيت علياً والزبير فقال علي للزبير: اذكر لأمك، قال الزبير: لا بل اذكر أنت لعمتك قالت: ما فعل حمزة؟ قال فأرياها أنهما لا يدريان قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخاف على عقلها قال: فوضع يده على صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت، ثم جاء وقام عليه وقد مثل به فقال: لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع. قال: ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم فيضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبعاً ثم يرفعون ويترك حمزة ثم يجاء بتسعة فيكبر عليهم حتى فرغ منهم) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (4072). (¬2) رواه الحاكم (3/ 218)، والبيهقي (4/ 12) (6596)، وابن أبي شيبة (14/ 404). وقال البيهقي: لا أحفظه إلا في حديث أبي بكر بن عياش عن يزيد بن أبي زياد، وكانا غير حافظين.

سادسا: بعد حمزة من النار

سادسا: بعد حمزة من النار عن ابن مسعود قال: ((قال أبو سفيان يوم أحد: قد كانت في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملاء مني، ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت، ساءني ولا سرني قال: ونظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع هند أن تأكلها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكلت منها شيئاً؟ قالوا: لا. قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار)) (¬1). الصحيح المسند من فضائل الصحابة – مصطفى بن العدوي – ص: 184 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 463) (4414)، وابن أبي شيبة (8/ 492). قال أحمد شاكر في تحقيق ((المسند)) (6/ 191): إسناده صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): حسن لغيره.

الفرع الثاني: فضل جعفر بن أبي طالب

أولا: جعفر الطيار ذو الجناحين عن الشعبي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سلم على ابن جعفر قال: (السلام عليك يا ابن ذي الجناحين) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (3709).

ثانيا: شهادة أبي هريرة لجعفر

ثانيا: شهادة أبي هريرة لجعفر عن أبي هريرة قال: (ما احتذى النعال ولا انتعل ولا ركب المطايا ولا ركب الكور بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب) (¬1). ¬

(¬1) رواه الترمذي (3764)، وأحمد (2/ 413) (9342). قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (4/ 256): إسناده جيد، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): إسناده صحيح موقوف.

ثالثا: حزن الرسول صلى الله عليه وسلم على جعفر وبشارته له

ثالثا: حزن الرسول صلى الله عليه وسلم على جعفر وبشارته له عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((قال النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب – وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان – ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له)) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (1246).

رابعا: شجاعة جعفر رضي الله عنه

رابعا: شجاعة جعفر رضي الله عنه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة. قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية)) (¬1). عن ابن أبي هلال قال وأخبرني نافع أن ابن عمر أخبره: (أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره، يعني في ظهره) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (4261). (¬2) رواه البخاري (4260).

خامسا: جعفر أبو المساكين

خامسا: جعفر أبو المساكين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الناس كانوا يقولون: (أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير ولا يخدمني فلان ولا فلانة وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني وكان أخير الناس للمساكن جعفر بن أبي طالب: كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فيشقها فنلعق ما فيها) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (3708).

سادسا: خلق جعفر وخلقه

سادسا: خلق جعفر وخلقه من حديث البراء رضي الله عنه قال: ( ... لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة .. الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (2699).

سابعا: هجرة جعفر للحبشة وموقفه القوي مع النجاشي وشجاعته في الحق رضي الله عنه

سابعا: هجرة جعفر للحبشة وموقفه القوي مع النجاشي وشجاعته في الحق رضي الله عنه عن أبي موسى رضي الله عنه: ((بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم: أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم – إما قال: في بضع وإما قال: في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي – فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا – يعني لأهل السفينة – سبقناكم بالهجرة. ودخلت أسماء بنت عميس – وهي ممن قدم معنا – على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة – وأسماء عندها – فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار – أو في أرض – البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه)) (¬1). عن أبي موسى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن وبالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار ومنهم حكيم إذا ألقى الخيل – أو قال العدو – قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم)) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (4230)، ومسلم (2502). (¬2) رواه البخاري (4232)، ومسلم (2499).

عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروها أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ثم قدموا للنجاشي هداياه ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وخير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم؛ فإن قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا: نعم. ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليردانهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا هيم الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن.

فلما جاؤوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ليسألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسبي الجوار يأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدم، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمر بالصلاة والزكاة والصيام قال: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا ففتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، ولما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء. قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي. فقرأ عليه صدراً من كهيعص. قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد. قالت أم سلمة رضي الله عنها: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً أعيبهم عنده ثم أستأصل به خضراءهم. قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة – وكان أتقى الرجلين فينا – لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عليهما السلام عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت أم سلمة: فأرسل إليهم يسألهم عنه قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه قالوا: نقول والله فيه ما قال الله سبحانه وتعالى وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول قالت: فضرب النجاشي يده على الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فنخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال: وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي – والسيوم الآمنون – من سبكم غرم ثم من سبكم غرم ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دير ذهب وأني آذيت رجلاً منكم، والدير بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد على ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع في الناس فأطيعهم فيه قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به يعني من ينازعه في ملكه قالت: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفاً أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر قالت: فقال الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنا قالت: وكان من أحدث القوم سنا قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم قالت: ودعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده، واستوثق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة)) (¬1). الصحيح المسند من فضائل الصحابة – مصطفى بن العدوي – ص206 ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 201) (1740). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 27): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق وقد صرح بالسماع، وقال أحمد شاكر محقق ((المسند)) (3/ 180): إسناده صحيح، وجود إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 578).

الفرع الثالث: فضل إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفرع الثالث: فضل إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدي بن ثابت قال سمعت البراء قال: لما مات إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن له مرضعا في الجنة)) (¬1). عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين – وكان ظئراً لإبراهيم عليه السلام – فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه. ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) (¬2). الصحيح المسند من فضائل الصحابة – مصطفى بن العدوي – ص: 256 ¬

(¬1) رواه البخاري (6195). (¬2) رواه البخاري (1303).

الفرع الرابع: فضل الحسن والحسين رضي الله عنهما

الفرع الرابع: فضل الحسن والحسين رضي الله عنهما عن أبي سعيد الخدري قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) (¬1). عن زر بن حبيش عن حذيفة قال: ((سألتني أمي منذ متى عهدك بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقلت لها: منذ كذا وكذا قال: فنالت مني وسبتني. قال فقلت لها: دعيني فإني آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأصلي معه المغرب ثم لا أدعه حتى يستغفر لي ولك قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه المغرب، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم انفتل فتبعته فعرض له عارض فناجاه، ثم ذهب فاتبعته فسمع صوتي فقال: من هذا؟ فقلت حذيفة قال: مالك؟ فحدثته بالأمر فقال: غفر الله لك ولأمك، ثم قال: أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ قال: قلت بلى قال: فهو ملك من الملائكة لم يهبط الأرض قبل هذه الليلة فاستأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها)) (¬2). عن ابن أبي نعم قال كنت شاهداً لابن عمر وسأله رجل عن دم البعوض فقال: ((ممن أنت؟ قال: من أهل العراق. قال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هما ريحانتاي من الدنيا)) (¬3). عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن ويقول: ((اللهم إني أحبهما فأحبهما أو كما قال)) (¬4). قال سمعت البراء رضي الله عنه قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي على عاتقه يقول: اللهم إني أحبه فأحبه)) (¬5). عن أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه قال: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى أتى سوق بني قينقاع فجلس بفناء بيت فاطمة فقال أثم لكع، أثم لكع؟ فحبسته شيئاً فظننت أنها تلبسه سخاباً أو تغسله فجاء يشتد حتى عانقه وقبله وقال: اللهم أحبه وأحب من يحبه)) (¬6). عن عبد الله قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهما أن دعوهما فإذا قضى الصلاة وضعهما في حجره وقال: من أحبني فليحب هذين)) (¬7). ¬

(¬1) رواه الترمذي (3768)، وأحمد (3/ 3) (11012)، وابن حبان (15/ 411) (6959)، والحاكم (3/ 182). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الدارقطني في ((سؤالات السهمي)) (216): صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث قد صح من أوجه كثيرة وأنا أتعجب أنهما لم يخرجاه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 204): رجاله رجال الصحيح. (¬2) رواه الترمذي (3781)، وأحمد (5/ 391) (23377)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 80) (8298). قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) رواه البخاري (5994). (¬4) رواه البخاري (3747). (¬5) رواه البخاري (3749)، ومسلم (2422). (¬6) رواه البخاري (2122)، ومسلم (2421). (¬7) رواه أبو يعلى (8/ 434) (5017)، وابن حبان (15/ 426) (6970)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 50) (8170). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 182): رجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم خلاف، وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (1/ 330): له شاهد نحوه بسند صحيح، وحسن إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (4002).

عن زهير بن الأقمر قال: بينما الحسن بن علي يخطب بعد ما قتل علي رضي الله عنه إذ قام رجل من الأزد آدم طوال فقال: ((لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعه في حبوته يقول من أحبني فليحبه. فليبلغ الشاهد الغائب، ولولا عزمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثتكم)) (¬1). عن الحسن سمع أبا بكرة: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه، ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)) (¬2). عن خالد بن معدان قال: ((وفد المقدام بن معدي كرب وعمرو بن الأسود إلى معاوية فقال معاوية للمقدام: أعلمت أن الحسن بن علي توفي؟ فرجع المقدام. فقال له معاوية: أتراها مصيبة؟ فقال: ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره وقال: هذا مني وحسين من علي رضي الله تعالى عنهما)) (¬3). عن عقبة بن الحارث قال: (رأيت أبا بكر رضي الله عنه وحمل الحسن وهو يقول: بأبي شبيه بالنبي، ليس شبيه بعلي، وعلي يضحك) (¬4). عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي فجعل في طست فجعل ينكت وقال في حسنه شيئاً فقال أنس: كان أشببهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوشمة) (¬5). عن الزهري أخبرني أنس قال: (لم يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي) (¬6). حدثنا إياس عن أبيه قال: (لقد قدت بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين بغلته الشهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا قدامه وهذا خلفه) (¬7). حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فأقبل حسن وحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ويقومان، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ رأيت هذين فلم أصبر ثم أخذ في خطبته)) (¬8). الصحيح المسند من فضائل الصحابة – مصطفى بن العدوي – ص257 ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 366) (23155)، والحاكم (3/ 190)، وابن أبي شيبة (12/ 99). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1502): صحيح. (¬2) رواه البخاري (3746). (¬3) رواه أبو داود (4131)، وأحمد (4/ 132) (17228)، والطبراني (3/ 43) (2629). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 158): إسناده قوي، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬4) رواه البخاري (3750). (¬5) رواه البخاري (3748). (¬6) رواه البخاري (3752). (¬7) رواه مسلم (2423). (¬8) رواه أبو داود (1109)، والترمذي (3774)، وابن ماجه (2916)، والنسائي (3/ 108)، وأحمد (5/ 354) (23045)، وابن حبان (13/ 403) (6039)، والحاكم (1/ 424). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (319) كما أشار لذلك في المقدمة.

الفرع الخامس فضل عبد الله بن عباس

أولا: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس بالعلم والحكمة والفقه في الدين عن ابن عباس قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: ((اللهم علمه الحكمة)) (¬1). عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة فوضعت له وضوءاً من الليل قال فقالت ميمونة: يا رسول الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) (¬2). عن ابن عباس قال: (دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الحكمة مرتين) (¬3). عن عمرو بن دينار أن كريباً أخبره أن ابن عباس قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني فجعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته خنست، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال لي: ما شأني أجعلك حذائي فتخنس فقلت: يا رسول الله أو ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله؟ قال: فأعجبته فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً قال: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نام حتى سمعته ينفخ ثم أتاه بلال فقال: يا رسول الله الصلاة فقام فصلى ما أعاد وضوءا)) (¬4). عن ابن عباس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوءاً. قال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال: اللهم فقهه في الدين)) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (3756). (¬2) رواه البخاري (143) دون لفظ: ((وعلمه التأويل))، وأحمد (1/ 266) (2397)، وابن حبان (15/ 531) (7055)، والحاكم (3/ 615). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (8/ 300): منهم من أرسله والمتصل هو الصحيح، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 29): متفق عليه دون قوله: ((وعلمه التأويل))، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 279): لأحمد طريقان رجالهما رجال الصحيح. (¬3) رواه الترمذي (3823). وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عطاء، وقد رواه عكرمة عن ابن عباس، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه أحمد (1/ 330) (3061)، وابن أبي شيبة (12/ 111). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 278): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وقال أحمد شاكر في محقق ((المسند)) (5/ 25): إسناده صحيح، وصححه الألباني على شرط الشيخين في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/ 174). (¬5) رواه البخاري (143).

ثانيا: حرص ابن عباس على طلب العلم

ثانيا: حرص ابن عباس على طلب العلم عن ابن عباس قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: ((يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير فقال: واعجباً لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟ فتركت ذلك وأقبلت على المسألة فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟! فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث قال: فبقى الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي فقال: كان هذا الفتى أعقل مني)) (¬1). ¬

(¬1) رواه الدارمي (1/ 150) (570)، والطبراني (10/ 244) (10614)، والحاكم (1/ 188). وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 280): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

ثالثا: تقديم عمر لعبد الله بن عباس رضي الله عنهم

ثالثا: تقديم عمر لعبد الله بن عباس رضي الله عنهم عن ابن عباس قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم. فدعا ذات ليلة فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال: ما تقولون في قول الله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: إذا جاء نصر الله والفتح – وذلك علامة أجلك – فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول) (¬1). عن ابن عباس (أن عمر سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قال: فسألني فأخبرته فقال: أعبتموني أن تأتوا بمثل ما أتى به هذا الغلام الذي لم يجتمع سواد رأسه) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (4970). (¬2) رواه أحمد (1/ 14) (85)، وابن أبي شيبة (6/ 383)، وابن أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (1/ 312) (386)، والحاكم مطولاً (1/ 604). وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

رابعا: ثناء ابن مسعود على ابن عباس رضي الله عنهم

رابعا: ثناء ابن مسعود على ابن عباس رضي الله عنهم عن مسروق: قال عبد الله: (نعم ترجمان القرآن ابن عباس) (¬1). عن مسروق قال: قال عبد الله: (لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل) (¬2). عن عكرمة بن عمار ثنا أبو زميل الحنفي ثنا عبد الله بن عباس قال: ((لما اعتزلت حروراء وكانوا في دار على حدتهم قلت: لعلي يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم. قال: فإني أتخوفهم عليك قال: قلت: كلا إن شاء الله قال: فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة، فدخلت على قوم لم أر قط أشد اجتهاداً منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلبة من آثار السجود قال: فدخلت فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، ما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل الوحي وهم أعلم بتأويله، فقال بعضهم: لا تحدثوه، وقال بعضهم لنحدثنه. قال: قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؟ قالوا ننقم عليه ثلاثاً قلت: ما هن؟ قالوا: أولهن أنه حكم الرجال في دين الله، وقد قال الله إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ قال: قلت: وماذا؟ قالوا: وقاتل ولم يسب ولم يغنم، لئن كانوا كفارا لقد حلت له أموالهم، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم قال: قلت: وماذا؟ قالوا ومحا نفسه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين قال: قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم وحدثتكم من سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ما لا تنكرون أترجعون؟ قالوا: نعم. قال: قلت: أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله فإنه يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إلى قوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ وقال في المرأة وزوجها: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟ قالوا: اللهم في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم. قال: خرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم. وأما قولكم إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام إن الله عز وجل يقول: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ فأنتم تترددون بين ضلالتين فاختاروا أيهما شئتم؟ أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم قال: وأما قولكم إنه محى نفسه من أمير المؤمنين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً فقال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب يا علي محمد بن عبد الله فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل من علي، أخرجت من هذه؟ قالوا اللهم نعم فرجع منهم عشرون ألفاً وبقى منهم أربعة آلاف فقتلوا)) (¬3). ¬

(¬1) رواه أبو خيثمة في ((العلم)) (48)، وأحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 847)، والحاكم (3/ 618)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) (1/ 97) (96). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 126): إسناده صحيح، وقال الألباني في ((العلم لأبي خيثمة)) (48): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) رواه أبو خيثمة في ((العلم)) (48)، وابن أبي شيبة (12/ 110)، وأحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 847)، والحاكم (3/ 618)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) (1/ 97) (96). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (7/ 126): إسناده صحيح، وقال الألباني في ((العلم لأبي خيثمة)) (48): إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 165) (8575)، والطبراني (10/ 257) (10620)، والحاكم (2/ 162)، والبيهقي (8/ 179) (16517). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن تيمية في ((منهاج السنة)) (8/ 530): إسناده صحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 242): رواه الطبراني وأحمد ببعضه ورجالهما رجال الصحيح.

خامسا: بعض من ثناء التابعين على ابن عباس رضي الله عنهما

خامسا: بعض من ثناء التابعين على ابن عباس رضي الله عنهما عن مجاهد قال: (كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه نورا) (¬1). عن يزيد بن الأصم قال: (خرج معاوية حاجاً وخرج معه ابن عباس فكان لمعاوية موكب ولابن عباس موكب ممن يسأل عن الفقه) (¬2). عن شقيق قال: (كان ابن عباس على الموسم فخطب فافتتح سورة النور فجعل يقرأ ثم يفسر فقال شيخ من الحي: سبحان الله ما رأيت كلاماً يخرج من رأس رجل لو سمعته الترك لأسلمت) (¬3). عن ابن بريدة الأسلمي قال: (شتم رجل ابن عباس فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال، إني لآتي على الآية من كتاب الله عز وجل فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم منها، وإني لأسمع بالحكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به من سائمة) (¬4). الصحيح المسند من فضائل الصحابة – مصطفى بن العدوي – ص: 422 ¬

(¬1) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 980). (¬2) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 983). (¬3) رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (2/ 980)، والطبري في تفسيره (1/ 81)، والحاكم (3/ 618)، وابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 226). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬4) رواه الطبراني (10/ 266) (10643)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 322). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 287): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

الفرع السادس: فضل العباس بن عبد المطلب

الفرع السادس: فضل العباس بن عبد المطلب عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون) (¬1). عن أبي هريرة قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها معها ثم قال يا عمر! أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)) (¬2). قال أخبرني كثير بن عباس بن عبد المطلب عن أبيه العباس قال: ((شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فلزمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه وهو على بغلة شهباء – وربما قال معمر بيضاء – قال العباس: فأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكفها وهو لا يألو ما أسرع نحو المشركين)) (¬3). عن عبد المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودر عرق بين عينيه ثم قال: ((والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي)) (¬4). الصحيح المسند من فضائل الصحابة – مصطفى بن العدوي – ص: 443 ¬

(¬1) رواه البخاري (1010). (¬2) رواه البخاري (1468)، ومسلم (983). (¬3) رواه مسلم (1775). (¬4) رواه أحمد (1/ 207) (1777)، والبزار في ((البحر الزخار)) (6/ 131)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (26/ 302). قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 428): له شواهد، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 210): إسناده صحيح.

المطلب السادس: هل القول بتفضيل بني هاشم يعد تفضيلا مطلقا لهم على جميع الأشخاص وفي كل الأحوال؟

المطلب السادس: هل القول بتفضيل بني هاشم يعد تفضيلاً مطلقاً لهم على جميع الأشخاص وفي كل الأحوال؟ لا يعني القول بتفضيل آل البيت – عند أهل السنة والجماعة – تفضيلهم مطلقاً في كل الأحوال وعلى جميع الأشخاص، بل قد يوجد في آحاد الناس من هو أفضل من آحاد بني هاشم، لزيادة التقوى والإيمان والعمل عنده، وهو الذي على أساسه يثاب الإنسان أو يعاقب، أما نفس القرابة ولو كانت من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يعلق بها ثواباً ولا عقاباً، ولا مدح أحداً بمجرد كونه من ذوي القربى وأهل البيت، ولا ذكر سبحانه استحقاقه الفضيلة عند الله بذلك (¬1)! فإن القرابة والنسب لا يؤثران في ترتيب الثواب والعقاب، ولا في مدح الله عز وجل للشخص المعين، ولا في كرامته عند الله، وإنما الذي يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح، وهو التقوى كما سبق (¬2). قال سبحانه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. وعلى ضوء هذه الآية الكريمة، وحديث: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) (¬3)، ولزيادة التوضيح أقول (¬4): الأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة، كان معدن الذهب خيراً؛ لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه، فإن قدر أنه تعطل ولم يخرج ذهباً، كان ما يخرج الفضة أفضل منه. فالعرب في الأجناس، وقريش فيها، ثم هاشم في قريش مظنة أن يكون فيهم من الخير أعظم مما يوجد في غيرهم. ولهذا كان في بني هاشم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش، فضلاً عن وجوده في سائر العرب وغير العرب، وكان في قريش الخلفاء الراشدون وسائر العشرة وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب، وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس. فلابد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول، وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل. كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء، والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم. فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً، ودون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى، فضلاً عمن هو أعظم إيماناً وتقوى؛ فكلا القولين خطأ، وهما متقابلان. بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية؛ فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد. والثاني يفضل به لأنه الحقيقة والغاية، ولأن كل من كان أتقى لله كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا؛ لأن الحقيقة قد وجدت، فلم يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فلا يستدل بالأسباب والعلامات. ¬

(¬1) انظر: ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 602)، و (8/ 220). (¬2) انظر: ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 600). (¬3) رواه البخاري (3383)، ومسلم (2638). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) انظر: ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 606 - 608).

ولهذا كان رضا الله عن السابقين الأولين أفضل من الصلاة على آل محمد، لأن ذلك إخبار برضا الله عنه أنه يصلي عليه هو وملائكته بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56]، فلم تكن فضيلته بمجرد كون الأمة يصلون عليه، بل بأنه تعالى وملائكته يصلون عليه بخصوصه، وإن كان الله وملائكته يصلون على المؤمنين عموماً، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب: 43]، ويصلون على معلمي الناس الخير، كما في الحديث: ((إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير)) (¬1). فمحمد صلى الله عليه وسلم لما كان أكمل الناس فيما يستحق به الصلاة من الإيمان وتعليم الخير وغير ذلك، كان له من الصلاة عليه خبراً وأمراً خاصية لا يوجد مثلها لغيره صلى الله عليه وسلم. فبنو هاشم لهم حق وعليهم حق، والله تعالى إذا أمر الإنسان بما لم يأمر به غيره، لم يكن أفضل من غيره بمجرد ذلك، بل إن امتثل ما أمر الله به كان أفضل من غيره بالطاعة، كولاة الأمور وغيرهم ممن أمر بما لم يؤمر به غيره، من أطاع منهم كان أفضل؛ لأن طاعته أكمل، ومن لم يطع منهم كان من هو أفضل منه في التقوى أفضل منه (¬2). فالصلاة على آل محمد حق لهم عند المسلمين، وذلك سبب لرحمة الله تعالى لهم بهذا النسب، لأن ذلك يوجب أن يكون كل واحد من بني هاشم لأجل الأمر بالصلاة عليه تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم يصل عليه. ألا ترى أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة: 103]. وفي (الصحيحين) عن ابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم صلى عليهم، وإن أبي أتاه بصدقته فقال: ((اللهم صل على آل أبي أوفى)) (¬3). فهذا فيه إثبات فضيلة لمن صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ممن كان يأتيه بالصدقة، ولا يلزم من هذا أن يكون كل من لم يأته بصدقة لفقره دون من أتاه بصدقة وصلى عليه؛ بل قد يكون من فقراء المهاجرين الذين ليس لهم صدقة يأتونه بها من هو أفضل من كثير ممن أتاه بالصدقة وصلى عليه، وقد يكون بعض من يأخذ الصدقة أفضل من بعض من يعطيها، وقد يكون فيمن يعطيها أفضل من بعض من يأخذها، وإن كانت اليد العليا خيراً من اليد السفلي. فالفضيلة بنوع لا يستلزم أن يكون صاحبها أفضل مطلقاً، ولهذا في الأغنياء من هو أفضل من جمهور الفقراء، وفي الفقراء من هو أفضل من جمهور الأغنياء؛ فإبراهيم وداود وسليمان ويوسف وأمثالهم أفضل من أكثر الفقراء، ويحيى وعيسى ونحوهما أفضل من أكثر الأغنياء. فالاعتبار العام هو التقوى، كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، فكل من كان أتقى أفضل مطلقاً. وبهذا تزول شبه كثيرة تعرض في مثل هذه الأمور. وقد أورد شيخ الإسلام في معرض رده على الرافضي جماعة من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم كالعباس، وحمزة، وجعفر، وعقيل، وعبد الله، وعبيد الله، والفضل، وغيرهم من بني العباس، وربيعة، وأبي سفيان بن الحارث؛ وبين أن هؤلاء ليس أفضل من أهل بدر، ولا من أهل بيعة الرضوان، ولا من السابقين الأولين، إلا من تقدم بسابقته، كحمزة وجعفر؛ فإنهما رضي الله عنهما من السابقين الأولين. وكذلك عبيدة بن الحارث الذي استشهد يوم بدر (¬4). وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً أن كثيراً من بني هاشم في زمنه لا يحفظ القرآن، ولا يعرف من حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما شاء، ولا يعرف معاني القرآن، فضلاً عن علوم القرآن والفقه والحديث (¬5). والخلاصة: أنه لا يقال بتفضيل بني هاشم مطلقاً، وإنما مع وجود الإيمان والتقوى والعمل الصالح، فصاحب الإيمان والتقوى من غير بني هاشم أقرب إلى الله وإلى رسول الله وأحب إليهما من الهاشمي الذي لا يتصف بذلك الوصف. دراسات في أهل البيت النبوي – خالد بن أحمد الصمي – ص: 66 ¬

(¬1) رواه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (81)، وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)). (¬2) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 602 - 605). (¬3) رواه البخاري (1497)، ومسلم (1078). (¬4) انظر: ((منهاج السنة النبوية)) (8/ 244 - 245). (¬5) انظر: ((آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤه)) (ص: 200).

المبحث الثالث: مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في آل البيت

المبحث الثالث: مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في آل البيت 1 - أهل السنة يوجبون محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعلون ذلك من محبة النبي عليه الصلاة والسلام، ويتولونهم جميعاً، لا كالرافضة الذين يتولون البعض، ويفسقون البعض الآخر (¬1). 2 - أهل السنة يعرفون ما يجب لهم من الحقوق؛ فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم تبعاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - أهل السنة يتبرؤون من طريقة النواصب الجافين لأهل البيت والروافض الغالين فيهم. 4 - أهل السنة يتولون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويترضون عنهن، ويعرفون لهن حقوقهن، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة (¬2). 5 - أهل السنة لا يخرجون في وصف آل البيت عن المشروع، فلا يغالون في أوصافهم، ولا يعتقدون عصمتهم، بل يعتقدون أنهم بشر تقع منهم الذنوب كما تقع من غيرهم. 6 - أهل السنة يعتقدون أن أهل البيت ليس فيهم مغفور الذنب، بل فيهم البر والفاجر، والصالح والطالح. 7 - أهل السنة يعتقدون أن القول بفضيلة أهل البيت لا يعني تفضيلهم في جميع الأحوال، وعلى كل الأشخاص، بل قد يوجد من غيرهم من هو أفضل منهم لاعتبارات أخرى. أقوال أئمة السلف وأهل العلم والإيمان من بعدهم. تواتر النقل عن أئمة السلف وأهل العلم جيلاً بعد جيل، على اختلاف أزمانهم وبلدانهم بوجوب محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامهم والعناية بهم، وحفظ وصية النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، ونصوا على ذلك في أصولهم المعتمدة. ولعل كثرة المصنفات التي ألفها أهل السنة في فضائلهم ومناقبهم أكبر دليل على ذلك. وإليك طائفة من أقوالهم في ذلك: قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه (ت 13هـ): روى الشيخان في صحيحيهما عنه رضي الله عنه أنه قال: (والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي) (¬3). قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (ت 23هـ): روى ابن سعد في (الطبقات) عن عمر بن الخطاب أنه قال لعباس رضي الله عنهما: (والله! لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب – يعني والده – لو أسلم؛ لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب) (¬4). قول زيد بن ثابت رضي الله عنه (ت 42هـ): عن الشعبي قال: (صلى زيد بن ثابت رضي الله عنه على جنازة، ثم قربت له بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس رضي الله عنهما فأخذ بركابه. فقال زيد: خل عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا نفعل بالعلماء، فقبل زيد يد ابن عباس وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا) (¬5). قول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما (ت 60 هـ): ¬

(¬1) انظر: ((نونية القحطاني)) (ص: 24)، ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 178). (¬2) انظر: ((نونية القحطاني)) (ص: 24)، ((الشريعة)) للآجري (5/ 2276)، ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 178). (¬3) رواه البخاري (3711)، ومسلم (1759). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 22 - 23). والحديث رواه الطبراني (8/ 9) (7280). من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 242): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وصححه ابن حجر في ((المطالب العالية)) (4/ 418)، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3341): صحيح بمجموع طرقه. (¬5) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (19/ 326).

أورد الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية): أن الحسن بن علي دخل عليه في مجلسه، فقال له معاوية: (مرحباَ وأهلاً بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ وأمر له بثلاثمائة ألف (¬1). وأورد -أيضاً- أن الحسن والحسين رضي الله عنهما وفدا على معاوية رضي الله عنه فأجازهما بمائتي ألف، وقال لهما: (ما أجاز بهما أحد قبلي. فقال الحسين: ولم تعط أحداً أفضل منا) (¬2). قول ابن عباس رضي الله عنهما (ت 68 هـ): قال رزين بن عبيد: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما فأتى زين العابدين علي بن الحسين، فقال له ابن عباس: (مرحباً بالحبيب ابن الحبيب) (¬3). قول أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (ت 321 هـ): قال رحمه الله في (عقيدته الشهيرة): (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير) (¬4). وقال أيضا: (ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق) (¬5). قول الإمام الحسن بن علي البربهاري (ت 329 هـ): قال في (شرح السنة): (واعرف لبني هاشم فضلهم، لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرف فضل قريش والعرب، وجميع الأفخاذ، فاعرف قدرهم وحقوقهم في الإسلام، ومولى القوم منهم، وتعرف لسائر الناس حقهم في الإسلام، واعرف فضل الأنصار ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وآل الرسول فلا تنساهم، واعرف فضلهم وكراماتهم) (¬6). قول أبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت 360 هـ): قال في (كتاب الشريعة): (واجب على كل مؤمن ومؤمنة محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنو هاشم: علي بن أبي طالب وولده وذريته، وفاطمة وولدها وذريتها، والحسن والحسين وأولادهما وذريتهما، وجعفر الطيار وولده وذريته، وحمزة وولده، والعباس وولده وذريته رضي الله عنهم: هؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجب على المسلمين محبتهم، وإكرامهم، واحتمالهم، وحسن مداراتهم، والصبر عليهم، والدعاء لهم) (¬7). قول الإمام عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني (ت 387 هـ): قال رحمه الله تعالى في (النونية) (¬8): واحفظ أهل البيت واجب حقهم ... واعرف عليا أيما عرفان لا تنتقصه ولا تزد في قدره ... فعليه تصلى النار طائفتان إحداهما لا ترتضيه خليفة ... وتنصه الأخرى إلها ثاني قول الموفق ابن قدامة المقدسي (ت 620 هـ): قال في (لمعة الاعتقاد): (ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرءات من كل سوء، أفضلهم خديجة بنت خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فهو كافر بالله العظيم) (¬9). أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (8/ 146). (¬2) ((البداية والنهاية)) (8/ 146). (¬3) ((البداية والنهاية)) (9/ 124). (¬4) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 467 - 471). (¬5) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 490 - 491). (¬6) ((شرح السنة)) (ص: 96 - 97). (¬7) ((الشريعة)) (5/ 2276). (¬8) ((نونية القحطاني)) (ص: 24). (¬9) ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 178).

قال في ((العقيدة الواسطية)): (ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: ((أذكركم الله في أهل بيتي)) (¬1). وقال للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: ((والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)) (¬2). وقال: ((إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)) (¬3)). (¬4). وقال – رحمه الله تعالى- في بيان عقيدة السلف في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: (ويتولون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أولاده وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية. والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) (¬5). ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة يسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل) (¬6). وقال -رحمه الله-: (ولا ريب أن لآل محمد صلى الله عليه وسلم حقاً على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشاً يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم. وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم، وفضل قريش على سائر العرب، وفضل بني هاشم على سائر قريش، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره) (¬7). وقال أيضاً: (والحب لعلي وترك قتاله خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتاله. وهم متفقون على وجوب موالاته ومحبته، وهم أشد الناس ذبا عنه، وردا على من يطعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب) (¬8). قول الحافظ ابن كثير (ت 774 هـ): قال في (التفسير): (ولا ننكر الوصاية بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم؛ فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه، وعلي وأهل ذريته رضي الله عنهم أجمعين) (¬9). قول محمد بن إبراهيم الوزير اليماني (ت 840 هـ): قال –رحمه الله تعالى-: (وقد دلت النصوص الجمة المتواترة على وجوب محبتهم وموالاتهم (يعني أهل البيت)، وأن يكون معهم، ففي (الصحيح): ((المرء مع من أحب)) (¬10). ومما يخص أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قول الله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]). ¬

(¬1) رواه مسلم (2408). (¬2) رواه بنحوه أحمد (1/ 207) (1777). من حديث عبدالمطلب بن ربيعة رضي الله عنه. قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 428): له شواهد، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 210): إسناده صحيح. (¬3) رواه مسلم (2276). من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. (¬4) ((شرح العقيدة الواسطية)) للفوزان (ص: 195). (¬5) رواه البخاري (3411)، ومسلم (2431). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬6) ((شرح العقيدة الواسطية)) للفوزان (ص: 198، 201). (¬7) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 599). (¬8) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 395). (¬9) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/ 199). (¬10) رواه البخاري (6168)، ومسلم (2640). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

فيجب لذلك حبهم وتعظيمهم وتوقيرهم واحترامهم والاعتراف بمناقبهم فإنهم أهل آيات المباهلة والمودة والتطهير، وأهل المناقب الجمة والفضل الشهير) (¬1). أقوال العلامة صديق حسن خان (ت 1307 هـ): قال في (الدين الخالص): ( ... وأما أهل السنة فهم مقرون بفضائلهم (يعني أهل البيت) كلهم أجمعين أكتعين أبصعين، لا ينكرون على أهل البيت من الأزواج والأولاد، ولا يقصرون في معرفة حق الصحابة الأمجاد. قائمون بالعدل والإنصاف، حائدون عن الجور والاعتساف، فهم الأمة الوسط بين هذه الفرق الباطلة الكاذبة الخاطئة) (¬2). وقال في موضوع يبين عقيدة أهل السنة في الأزواج والعترة: ( ... وأهل السنة يحرمون الكل، ويعظمونهن حق العظمة، وهو الحق البحت، وكذلك يعترفون بعظمة أولاده صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ويذكرونهم جميعاً بالخير والدعاء والثناء، فمن لم يراع هذه الحرمة لأزواجه المطهرات، وعترته الطاهرات فقد خالف ظاهر الكتاب وصريح النص منه) (¬3). قول العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ت 1376 هـ): قال في (التنبيهات اللطيفة): ( ... فمحبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة من وجوه، منها: أولاً: لإسلامهم وفضلهم وسوابقهم. ومنها: لما يتميزوا به من قرب النبي صلى الله عليه وسلم واتصالهم بنسبه. ومنها: لما حث عليه ورغب فيه) (¬4). قول العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين (ت 1421 هـ): قال في (شرح العقيدة الواسطية): (ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يحبونهم للإيمان، وللقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكرهونهم أبداً) (¬5). دراسات في أهل البيت النبوي لخالد بن أحمد الصمي – ص: 52 وعقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة وسَطٌ بين الإفراطِ والتَّفريط، والغلُوِّ والجَفاء في جميعِ مسائل الاعتقاد، ومِن ذلك عقيدتهم في آل بيت الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم يَتوَلَّونَ كلَّ مسلمٍ ومسلمةٍ من نَسْل عبدالمطلِّب، وكذلك زوجات النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جميعاً، فيُحبُّون الجميعَ، ويُثنون عليهم، ويُنْزلونَهم منازلَهم التي يَستحقُّونَها بالعدلِ والإنصافِ، لا بالهوى والتعسُّف، ويَعرِفون الفضلَ لِمَن جَمع اللهُ له بين شرِف الإيمانِ وشرَف النَّسَب، فمَن كان من أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم يُحبُّونَه لإيمانِه وتقواه، ولصُحبَتِه إيَّاه، ولقرابَتِه منه صلى الله عليه وسلم. ومَن لَم يكن منهم صحابيًّا، فإنَّهم يُحبُّونَه لإيمانِه وتقواه، ولقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَرَون أنَّ شرَفَ النَّسَب تابعٌ لشرَف الإيمان، ومَن جمع اللهُ له بينهما فقد جمع له بين الحُسْنَيَيْن، ومَن لَم يُوَفَّق للإيمان، فإنَّ شرَفَ النَّسَب لا يُفيدُه شيئاً، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر حديث طويلٍ رواه مسلم في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((ومَن بطَّأ به عملُه لَم يُسرع به نسبُه)) (¬6). ¬

(¬1) انظر: ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 460، 461) بتصرف. (¬2) ((الدين الخالص)) (3/ 270). (¬3) ((الدين الخالص)) (3/ 268). وانظر: ((قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر)) (ص: 101 - 103). (¬4) ((التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة)) (ص: 94). (¬5) ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 283). (¬6) رواه مسلم (2699).

وقد قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث في كتابه (جامع العلوم والحكم) (ص:308): (معناه أنَّ العملَ هو الذي يَبلُغُ بالعبدِ درجات الآخرة، كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132]، فمَن أبطأ به عملُه أن يبلُغَ به المنازلَ العاليةَ عند الله تعالى لَم يُسرِع به نسبُه، فيبلغه تلك الدَّرجات؛ فإنَّ اللهَ رتَّب الجزاءَ على الأعمال لا على الأنساب، كما قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون: 101]، وقد أمر الله تعالى بالمسارعةِ إلى مغفرتِه ورحمتِه بالأعمال، كما قال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ [آل عمران: 133 - 134] الآيتين، وقال: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 57 - 61]). ثمَّ ذَكَرَ نصوصاً في الحثِّ على الأعمالِ الصالِحَة، وأنَّ ولايةَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم إنَّما تُنالُ بالتقوى والعمل الصَّالِح، ثمَّ ختَمها بحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في (صحيح البخاري) و (صحيح مسلم)، فقال: (ويشهد لهذا كلِّه ما في (الصحيحين) عن عمرو بن العاص أنَّه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنَّما وليِّيَ اللهُ وصالِحُ المؤمنين)) (¬1)، يشير إلى أنَّ ولايتَه لا تُنال بالنَّسَب وإن قَرُب، وإنَّما تُنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكملَ إيماناً وعملاً فهو أعظم ولايةً له، سواء كان له منه نسبٌ قريبٌ أو لم يكن، وفي هذا المعنى يقول بعضُهم: لعمرُك ما الإنسان إلاَّ بدينه ... فلا تترك التقوى اتكالا على النسب لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ ... وقد وضع الشركُ النَّسِيبَ أبا لهب). @ فضل أهل البيت وعلو مكانتهم عند أهل السنة والجماعة لعبدالمحسن بن حمد العباد البدر- ص13 ¬

(¬1) رواه البخاري (5990) ومسلم (215).

المبحث الرابع: حقوق أهل البيت

المطلب الأول: الدفاع عنهم من عقيدة أهل السنة والجماعة في آل البيت تحريم إيذائهم أو الإساءة إليهم بقول أو فعل، فقد روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي: أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق)) (¬1). وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: ((أنه اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض قريش يجفو بني هاشم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)) (¬2). ومنها: حق تبرئة ساحتهم مما ينسب إليهم كذباً وزوراً، وهذا من المطالب العالية. فإن الدفاع عنهم لا يعني مجرد الرد على من يسبهم وتعزيره وتأديبه، بل يشمل ذلك، ويشمل الرد على من غلا فيهم، وأنزلهم فوق منزلتهم؛ فإن ذلك يؤذيهم، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه الكبير (منهاج السنة) في الرد على من غلا فيهم. ومما يؤكد أن الغلو فيهم يؤذيهم ما جاء في رجال الكشي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام حيث قال: (إن اليهود أحبوا عزيراً حتى قالوا فيه ما قالوا، فلا عزير منهم ولا هم من عزير، وإن النصارى أحبوا عيسى حتى قالوا فيه ما قالوا، فلا عيسى منهم ولا هم من عيسى، وإنا على سنة من ذلك، إن قوماً من شيعتنا سيحبونا حتى يقولوا فينا ما قالت اليهود في عزير، وما قالت النصارى في عيسى ابن مريم، فلا هم منا ولا نحن منهم) (¬3). وقد أنكر جمع من علماء الشيعة على الغلاة منهم، وذكروا أشياء كثيرة من الغلو، لكن مع مضي القرون أصبح هذا الغلو من ضروريات مذهب الشيعة وعقائدهم، حتى قال أحد كبار علمائهم – عبد الله المامقاني أكبر شيوخهم في علم الرجال في هذا العصر-: (إن القدماء –يعني من الشيعة- كانوا يعدون ما نعده اليوم من ضروريات مذهب الشيعة غلوا وارتفاعاً، وكانوا يرمون بذلك أوثق الرجال كما لا يخفى على من أحاط خبراً بكلماتهم) (¬4). آل البيت عليه السلام وحقوقهم الشرعية – صالح بن عبد الله الدرويش – ص30 ¬

(¬1) رواه مسلم (78). (¬2) رواه بنحوه أحمد (1/ 207) (1777). من حديث عبدالمطلب بن ربيعة رضي الله عنه. قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 428): له شواهد، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 210): إسناده صحيح. (¬3) ((رجال الكشي)) (ص: 111). (¬4) ((تنقيح المقال)) (3/ 23).

المطلب الثاني: الصلاة عليهم

المطلب الثاني: الصلاة عليهم ومنها: مشروعية الصلاة عليهم، وذلك عقب الأذان، وفي التشهد آخر الصلاة، وعند الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ... فقد جاء فيها عدة نصوص؛ كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] وكما جاء في الحديث لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية الصلاة عليه في الصلاة؛ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم)) (¬1) فالصلاة على آله من تمام الصلاة عليه وتوابعها؛ لأن ذلك مما تقر به عينه، ويزيده الله به شرفاً وعلواً. وقد ألف ابن القيم رحمه الله كتاباً مستقلاً في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سماه: (جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام)، وقد بين فيه أن الصلاة على آل البيت حق لهم دون سائر الأمة، بغير خلاف بين الأئمة (¬2). لكن قد يورد البعض مسألتين: الأولى: أن أهل السنة كثيراً ما يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر (الآل) فيقولون: صلى الله عليه وسلم. والثانية: أن أهل السنة إذا صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الكلام يضيفون مع الآل الأصحاب، فيقولون: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. والجواب عن المسألة الأولى أن يقال: الأمر في ذلك واسع؛ فقد أمر الله في القرآن بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الآل؛ كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] فإن ذكر الآل فأمر حسن، وإن لم يذكروا فالأمر فيه سعة. وأما الجواب عن المسألة الثانية: فإن الله أمر نبيه بالصلاة على أصحابه في قوله: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة: 103] ونحن مأمورون بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم، فذكرهم في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فيه سعة، وهو من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. آل البيت عليه السلام وحقوقهم الشرعية – صالح بن عبد الله الدرويش – ص: 30 ¬

(¬1) رواه مسلم (405). من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه. (¬2) ((جلاء الأفهام)) (1/ 224).

المطلب الثالث: حقهم في الخمس

المطلب الثالث: حقهم في الخمس ومن حقوق آل البيت عليهم السلام عند أهل السنة، حقهم من الخمس؛ لقوله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال: 41] وقوله تعالى: مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الحشر: 7] وثبت في السنة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (سمعت علياً يقول: ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس، فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة أبي بكر، وحياة عمر، فأتي بمال فدعاني، فقال: خذه، فقلت: لا أريده، قال: خذه؛ فأنتم أحق به، قلت: قد استغنينا عنه. فجعله في بيت المال) رواه أبو داود (¬1). ففي الخمس سهم خاص بذي القربى، وهو ثابت لهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول جمهور العلماء، وهو الصحيح (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها؛ فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬3). لكن أهل السنة –بخلاف الشيعة- يقولون: إنهم يعطون من خمس الغنائم، وليس من خمس الأموال، فليس في الإرث خمس، وكذا في المسكن والسيارة وغيرها؛ لأن الله يقول: وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: 1] فقال: أَنَّمَا غَنِمْتُم ولم يقل: من أموالكم. وقد اضطربت الشيعة بعد غيبة الإمام الثاني عشر اضطراباً كبيراً بسبب الخمس، حيث ظهرت مشكلة: إلى من يسلم الخمس، وماذا يصنع به؟ يبين هذا الاضطراب الشيخ المفيد حيث يقول: (قد اختلفت قوم من أصحابنا في ذلك – أي: الخمس – عند الغيبة، وذهب كل فريق إلى مقال: فمنهم من يسقط إخراجه لغيبة الإمام، وما تقدم من الرخص فيه من الأخبار. وبعضهم يوجب كنزه – أي: دفنه – ويتأول خبراً ورد: إن الأرض تظهر كنوزها عند ظهور الإمام، وأنه عليه السلام إذا قام دله الله على الكنوز فيأخذها من كل مكان. وبعضهم يرى صلة الذرية وفقراء الشيعة على طريق الاستصحاب. وبعضهم يرى عزله لصاحب الأمر، فإن خشي إدراك الموت قبل ظهوره وصى به إلى من يثق به في عقله وديانته حتى يسلم إلى الإمام إن أدرك قيامه، وإلا وصى به إلى من يقوم مقامه في الثقة والديانة. ثم قال بعد ذلك: وإنما اختلف أصحابنا في هذا الباب لعدم ما يلجأ إليه من صريح الألفاظ ... ) (¬4). فالقول الوحيد المستند إلى الأخبار الواردة عن الأئمة من بين كل الأقوال التي استعرضها الشيخ المفيد هو القول الأول الذي يسقط إخراج الخمس. ومنها: اليقين الجازم بأن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذريته هو أشرف أنساب العرب قاطبة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)) (¬5). آل البيت عليه السلام وحقوقهم الشرعية – صالح بن عبد الله الدرويش – ص: 34 ¬

(¬1) رواه أبو داود (2983)، والحاكم (2/ 140)، وابن أبى شيبة (6/ 516)، والضياء (2/ 265) (643). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم في ((المحلى)) (7/ 329)، وقال عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (583): صحيح الإسناد، كما أشار لذلك في المقدمة. (¬2) انظر: ((المغني)) (9/ 288). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 407). (¬4) ((المقنعة)) للشيخ المفيد (ص: 46). (¬5) رواه مسلم (2276). من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.

المطلب الرابع: تحريم الصدقة عليهم

المطلب الرابع: تحريم الصدقة عليهم ومن هذه الحقوق: تحريم الزكاة والصدقة عليهم؛ وذلك لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما تحريم الصدقة فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلاً لتطهيرهم، ودفعاً للتهمة عنه؛ كما لم يورث، فلا يأخذ ورثته درهماً ولا ديناراً) (¬2). هذه هي أهم الحقوق التي أوجبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لآل بيت النبي عليهم السلام، اقتصرنا فيها على ما اشتهر نصه وذاع أمره؛ خشية الإطالة وحرصاً على الاختصار؛ فالواجب على كل مسلم مراعاتها ومعرفتها، واتباع ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم تجاهها، فضلاً عن محبتهم وتوقيرهم. آل البيت عليه السلام وحقوقهم الشرعية – صالح بن عبد الله الدرويش – ص: 38 المطلب الخامس: شروط استحقاق آل البيت حقوقهم يظهر من خلال معتقد أهل السنة والجماعة أنهم يشترطون لموالاة قرابة النبي صلى الله عليه وسلم شرطين، لابد من تحققهما لتكون الموالاة لهم، وإلا فإنهم لا يجدون ذلك الاحترام وتلك المكانة؛ فإن فيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والسني والرافضي وغير ذلك. الشرط الأول: أن يكونوا مؤمنين مستقيمين على الملة. فإن كانوا كفاراً فلا حق لهم في الحب والتعظيم والإكرام والولاية، ولو كانوا من أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم كعمه أبي لهب. يقول الشيخ العلامة العثيمين –رحمه الله تعالى- في تقرير هذا الشرط: (فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولإيمانهم بالله، فإن كفروا فإننا لا نحبهم ولو كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فأبوا لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره، ولإيذائه النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك أبو طالب؛ فيجب علينا أن نكرهه لكفره ولكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من الحماية والذب عنه) (¬3). الشرط الثاني: أن يكونوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة. فإن فارقوا السنة، وتركوا الجادة، وخالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وتلبسوا بالبدع والمحدثات؛ فإنه ليس لهم حق في الحب والتعظيم والإكرام والولاية، حتى يرجعوا إلى السنة، ويتمسكوا بها. والواجب في هذه الحالة دعوتهم إلى العودة إلى الكتاب والسنة، ونبذ ما سواهما من الأهواء والبدع، وأن يكونوا على ما كان عليه سلفهم، كعلي رضي الله عنه وسائر بنيه، والعباس رضي الله عنه وأولاده. يقول العلامة صديق حسن خان في تقرير هذا الشرط في معرض التعليق على حديث: ((تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي)) (¬4). (المراد بهم من هو على طريقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسمته ودله وهديه، ولا يستقيم المقارنة بكتاب الله إلا إذا كانوا موافقين له عاملين به. فمعيار الأخذ بالعترة اتفاقهم بالقرآن في كل نقير وقطمير ... ). ¬

(¬1) رواه مسلم (1072). من حديث عبدالمطلب بن ربيعة رضي الله عنه. (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 30). (¬3) ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 274 - 275). (¬4) رواه الترمذي (3786)، والطبراني (3/ 66) (2680). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (7/ 159)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

إلى أن قال: (وأما من عاد منهم مبتدعاً في الدين فالحديث لا يشمله؛ لعدم المقارنة، هذا أوضح من كل واضح، لا يخفى إلا على الأعمى. وكم من رجال ينسبونهم إليه صلى الله عليه وسلم في اتحاد الطين قد خرجوا من نسبة الدين، ودخلوا في عدد المنتحلين والغالين والجاهلين، وسلكوا سبيل المبتدعين المشركين، كالسادة الرافضة، والخارجة، والمبتدعة، ونحوهم. فليس هؤلاء مصداق هذا الحديث أصلاً وإن صحت نسبتهم الطينية إليه صلى الله عليه وسلم فقد فارقوه في النسبة الدينية. فالحاصل أن نفس هذا الحديث يخرج الخارجين عن الطريقة المثلى المأثورة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمارة للفرقة الناجية في حديث الافتراق، قال: ((هم ما أنا عليه وأصحابي)) (¬1). فمن كان من أهل البيت على هذه الشيمة الشريفة فهو المستحق لما في الحديث، ومن لم يكن كذلك فليس أهلاً بما هنالك) (¬2). ويقول الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله تعالى – في تقرير شرطي تولي أهل السنة لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم. ( ... وذلك إذا كانوا متبعين للسنة، مستقيمين على الملة كما كان عليه سلفهم، كالعباس وبنيه، وعلي وبنيه، أما من خالف السنة ولم يستقم على الدين فإنه لا تجوز محبته، ولو كان من أهل البيت) (¬3) اهـ. قلت: وبهذا تعلم أن قول المقريزي رحمه الله: (فليست بدعة المبتدع منهم، أو تفريط المفرط منهم في شيء من العبادات، أو ارتكابه محرماً من المحرمات مخرج له من نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بل الولد ولد على كل حال عق أو فجر) (¬4)؛ لا يستقيم على ما قرره أهل السنة، وأنه مبالغ فيه، فالكلام ليس في كونه من ولد النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما في موالاته ومحبته حال بدعته. وبالله تعالى التوفيق. دراسات في أهل البيت النبوي – خالد بن أحمد الصمي – ص: 62 فالواجب واللائق في من ينتسب إلى أهل البيت المطهر أن يكونوا أولى الناس حظاً في تقوى الله وخشيته واتباع طريقة مشرفهم وسنته صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً باطناً وظاهراً، ناظرين إلى أن التفضيل الحقيقي هو بتقوى الله عز وجل واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند تفسير سورة تبت: (وليس في القرآن ذم من كفر به صلى الله عليه وسلم باسمه إلا هذا وامرأته –يعني أبا لهب- ففيه أن الأنساب لا عبرة لها، بل صاحب الشرف يكون ذمه على تخلفه عن الواجب أعظم، وكما قال تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ [الأحزاب: 30]) (¬5). وجاء عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال لرجل يغلو فيه: (أحبونا لله فإن أطعنا الله فأحبونا وإن عصينا الله فابغضونا، فقال له الرجل: إنكم ذوو قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فقال: ويحكم، لو كان الله نافعنا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير عمل بطاعته لنفع بذلك من هو أقرب إليه منا، والله إني أخاف أن يضاعف للعاصي منا العذاب ضعفين) (¬6). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2641). من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. وقال: غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 185)، وابن العربي في ((أحكام القرآن)) (3/ 432): ثابت، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 284): أسانيدها جياد. (¬2) ((الدين الخالص)) (3/ 348). (¬3) ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 196). (¬4) انظر: ((السلوك في معرفة الملوك)) (7/ 199). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (16/ 602). (¬6) ((الصواعق المحرقة)) للهيتمي (ص: 346)، وذكر ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (9/ 178) نحو هذا الكلام عن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم.

قلت: وذلك لأن صاحب الشرف مظنة الاتباع والقدوة لغيره. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم بن رجاء السحيمي– ص: 197 الشرط الثالث: ثبوت النسب: أشرفُ الأنساب نسَبُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأشرف انتسابٍ ما كان إليه صلى الله عليه وسلم وإلى أهل بيتِه إذا كان الانتسابُ صحيحاً، وقد كثُرَ في العرب والعجم الانتماءُ إلى هذا النَّسب، فمَن كان من أهل هذا البيت وهو مؤمنٌ، فقد جمَع الله له بين شرف الإيمان وشرف النَّسب، ومَن ادَّعى هذا النَّسبَ الشريف وهو ليس من أهله فقد ارتكب أمراً محرَّماً، وهو متشبِّعٌ بِما لَم يُعط، وقد قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((المتشبِّعُ بِما لَم يُعْطَ كلابس ثوبَي زور))، رواه مسلمٌ في (صحيحه) (¬1) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة تحريمُ انتساب المرء إلى غير نسبِه، ومِمَّا ورد في ذلك حديثُ أبي ذر رضي الله عنه أنَّه سَمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس مِن رجلٍ ادَّعى لغير أبيه وهو يَعلَمه إلاَّ كفر بالله، ومَن ادَّعى قوماً ليس له فيهم نسبٌ فليتبوَّأ مقعَدَه من النار))، رواه البخاريُّ، ومسلم، واللفظ للبخاري (¬2). وفي (صحيح البخاري) من حديث واثلة بن الأَسْقع رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مِن أعظَمِ الفري أن يَدَّعيَ الرَّجلُ إلى غير أبيه، أو يُري عينَه ما لَم تَرَ، أو يقولَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لَم يقل)) (¬3)، ومعنى الفري: الكذب، وقوله: ((أو يُري عينَه ما لَم تَرَ))، أي: في المنام. وفي (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) رحمه الله (31/ 93) أنَّ الوقفَ على أهل البيت أو الأشراف لا يستحقُّ الأخذَ منه إلاَّ مَن ثبت نسبُه إلى أهل البيت، فقد سُئل عن الوقف الذي أُوقِف على الأشراف، ويقول: (إنَّهم أقارب)، هل الأقاربُ شرفاء أم غير شرفاء؟ وهل يجوز أن يتناولوا شيئاً من الوقف أم لا؟ فأجاب: (الحمد لله، إن كان الوقفُ على أهل بيتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو على بعض أهل البيت، كالعلويِّين والفاطميِّين أو الطالبيِّين، الذين يدخل فيهم بنو جعفر وبنو عَقيل، أو على العبَّاسيِّين ونحوِ ذلك، فإنَّه لا يستحقُّ مِن ذلك إلاَّ مَن كان نسبُه صحيحاً ثابتاً، فأمَّا مَن ادَّعى أنَّه منهم أو عُلِم أنَّه ليس منهم، فلا يستحقُّ مِن هذا الوقفِ، وإن ادَّعى أنَّه منهم، كبَنِي عبدالله بن ميمون القدَّاح؛ فإنَّ أهلَ العلمِ بالأنسَاب وغيرَهم يعلمون أنَّه ليس لهم نسبٌ صحيحٌ، وقد شهد بذلك طوائفُ أهل العلم من أهل الفقه والحديث والكلام والأنساب، وثبت في ذلك محاضرُ شرعيَّة، وهذا مذكورٌ في كتب عظيمة مِن كتب المسلمين، بل ذلك مِمَّا تواتر عند أهل العلم. وكذلك مَن وقف على الأشراف، فإنَّ هذا اللفظ في العُرف لا يدخل فيه إلاَّ مَن كان صحيح النَّسَب من أهل بيت النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وأمَّا إن وقف واقفٌ على بني فلانٍ أو أقارب فلانٍ ونحو ذلك، ولم يكن في الوقف ما يقتضي أنَّه لأهل البيت النبويِّ، وكان الموقوف مُلكاً للواقف يصح وقفُه على ذريّة المعيَّن، لم يدخل بنو هاشم في هذا الوقف). فضل أهل البيت وعلو مكانتهم عند أهل السنة والجماعة لعبدالمحسن بن حمد العباد البدر-ص: 82 فمتى ثبت الانتساب إلى آل البيت مع الإسلام استحق ما لهم من حقوق. ويتعين على هذا ترك الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم إلا بحق وقد جاء الوعيد الشديد في من انتسب إلى غير أبيه أو ادعى قوماً ليس له فيهم نسب. ¬

(¬1) رواه البخاري (5219) ومسلم (2129). (¬2) رواه البخاري (3508) ومسلم (61). (¬3) رواه البخاري (3509).

فقد جاء في الحديث الصحيح عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل)) (¬1). وجاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار)) (¬2). وعن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام)) (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر)) (¬4). ففي هذه الأحاديث الوعيد الشديد لمن انتسب إلى غير أبيه أو قوماً غير قومه، وتحريم الانتفاء من النسب المعروف والادعاء إلى غيره، وقيد لك بالعلم ولابد منه في الحالتين إثباتاً أو نفياً لأن الإثم يترتب على العالم بالشيء المتعمد له (¬5). ومما يدل على عظم جرم صاحب ذلك الفعل أنه عطفه على الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كذب على الله وقد قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ [الأنعام: 21]. وقد ذكر القاضي عياض أنه روي عن مالك فيمن انتسب إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم أنه يضرب ضرباً وجيعاً، ويشهر، ويحبس طويلاً حتى تظهر توبته لأنه استخفاف بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬6). ومع هذا فقد كثر في العصور المتأخرة الانتساب إلى آل البيت إما لمطامع دنيوية وطلب رفعة ومنزلة مكذوبة أو من أجل الكيد للإسلام وأهله. فالناظر في كتب التصوف يجد أن كثيراً من أرباب الطرق ينتسبون إلى آل البيت ليخدعوا الناس بتلك الدعوى، كما أن كتب الرافضة مليئة بذلك حيث اتخذوا آل البيت ستاراً لبث أفكارهم ومعتقداتهم. وكما تقدم من أن الانتساب إلى آل البيت لا يكفي لوحده ولو ثبت ذلك فإن الصوفية القائلة بوحدة الوجود أو أن الشريعة لها ظاهر وباطن أو جواز الطواف على القبور والعكوف عندها، والرافضة القائلة بأن القرآن محرف ومزيد فيه ومنقوص منه (¬7)، وأن الصحابة جلهم قد ارتد عن الإسلام (¬8) وأن الأئمة معصومون (¬9)، وغير ذلك من المعتقدات التي تنافي الإسلام كالقول بالرجعة ونسبة البداء لله سبحانه وتعالى فهؤلاء وأمثالهم لا حظ لهم في الحقوق ولو صح انتسابهم إلى آل البيت لعدم توافر الشرط اللازم لذلك، والله أعلم. العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط لسليمان بن سالم بن رجاء السحيمي- ص: 197 ¬

(¬1) رواه البخاري (3509). (¬2) رواه البخاري (3508)، ومسلم (61). (¬3) رواه البخاري (4326)، ومسلم (63). (¬4) رواه البخاري (6768)، ومسلم (62). (¬5) انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 409 - 410)، و ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 541). (¬6) ((الشفا)) (2/ 1113). (¬7) انظر: ((الكافي)) للكليني (2/ 361)، و ((تفسير العياشي)) (1/ 9)، و ((الاحتجاج)) للطبرسي (ص: 249). (¬8) انظر ذلك في ((روضة الكافي)) للكليني (8/ 245 - 246)، و ((الاختصاص)) للمفيد (ص: 6)، و ((الغدير)) للأميني (3/ 261 - 262)، و ((بصائر الدرجات)) (ص: 289)، و ((بحار الأنوار)) للمجلسي (27/ 29) وما بعدها. (¬9) انظر: ((أصول الكافي)) للكليني (1/ 261)، ((بصائر الدرجات)) للصفار (ص: 149)، ((عقائد الإمامية)) للزنجاني (2/ 157)، ((الحكومة الإسلامية)) للخميني (ص: 91).

الفصل الثالث: موقف أهل السنة من العلماء

الفصل الثالث: موقف أهل السنة من العلماء • 1 - أنه لصبرهم وتقواهم كانت لهم الإمامة في الدين:. • 2 - أن طاعتهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:. • 3 - أن الرد إليهم عند نزول النوازل لما خصهم الله به من القدرة على الاستنباط. • 4 - ومن فضلهم: أنه قرنت شهادتهم بشهادة الله تعالى والملائكة. • 5 - ومن فضلهم: أن اتباعهم يهدي إلى الصراط السوي. • 6 - ومن فضلهم: أنهم ورثة الأنبياء. • 7 - أنهم ممن أراد الله عز وجل بهم الخير. • 8 - أن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين يصلون على معلم الناس الخير. • 9 - أن العالم لا ينقطع عمله ما بقي علمه ينتفع به الناس. • 10 - العلماء هم الدعاة إلى الله عز وجل.

1 - أنه لصبرهم وتقواهم كانت لهم الإمامة في الدين:

1 - أنه لصبرهم وتقواهم كانت لهم الإمامة في الدين: قال الله -تبارك وتعالى-: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 247]. فبين لهم نبيهم - عليه الصلاة والسلام - أن الله اصطفاه عليهم، ونوه إلى اتصافه بالبسط في العلم والجسم، ففي هذا إشارة إلى أن ذلك من أوصاف من يكون قائداً: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]. (فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك؛ قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به، وصار متبوعاً لمن بعده، كما كان تابعاً لمن قبله، وإلا فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم التابعون، ثم تابعوهم إلى يوما القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم، وعليها أصبر، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، والله أعلم) (¬1) اهـ. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 358).

2 - أن طاعتهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:

2 - أن طاعتهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: قال الله –تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]. وأولو الأمر هم: الأمراء، والعلماء. فطاعة العلماء تبع لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء. فإن باب الخروج على الأمراء والحكام هو العلماء، فإن أضيع حق العلماء؛ ضاع حق الأمراء، وإذا ضاع حق العلماء والأمراء؛ خرج الناس عليهم؛ فحياة العالم وصلاحه حياة العالم وصلاحه! فإذا ضاعت حقوق العلماء؛ ضاعت حقوق الأمراء، وإذا ضاعت حقوق العلماء والأمراء؛ فسد العالم!!

3 - أن الرد إليهم عند نزول النوازل لما خصهم الله به من القدرة على الاستنباط

3 - أن الرد إليهم عند نزول النوازل لما خصهم الله به من القدرة على الاستنباط قال الله – تبارك وتعالى -: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83]. ففي الآية الرجوع إليهم عند نزول النوازل وطلب حكمها، وترك الافتئات عليهم، والتقدم عليهم فيها. وفي الآية أن الرجوع إلى أهل الرأي رد لما أمر الله عز وجل به من الرد إلى العلماء الذين يستنبطونه؛ لأن أهل الرأي ليسوا من أهل الاستنباط.

4 - ومن فضلهم: أنه قرنت شهادتهم بشهادة الله تعالى والملائكة

4 - ومن فضلهم: أنه قرنت شهادتهم بشهادة الله تعالى والملائكة قال الله - تبارك وتعالى -: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18].

5 - ومن فضلهم: أن اتباعهم يهدي إلى الصراط السوي

5 - ومن فضلهم: أن اتباعهم يهدي إلى الصراط السوي قال الله - تبارك وتعالى -: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم: 43]. وقال -تبارك وتعالى-: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. عن عبد الله بن مسعود قال: ((خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام: 153])) (¬1). فمن اتبع العلماء؛ اتبع الصراط المستقيم، ومن خالف العلماء، وأضاع حقهم؛ فقد خرج إلى سبيل الشيطان، ففارق الصراط المستقيم الذي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه. قال محمد بن الحسين الآجري – رحمه الله -: (فما ظنكم –رحمكم الله- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا؛ فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية. ثم جاءت طبقات من الناس لابد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح، فبقوا في الظلمة؛ فما ظنكم بهم؟! هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض، ولا كيف اجتناب المحارم، ولا كيف يعبد الله في جميع ما يعبده به خلقه؛ إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العالم تحير الناس، ودرس العلم بموتهم، وظهر الجهل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مصيبة ما أعظمها مصيبة) (¬2) اهـ. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2454)، وابن ماجه (3428)، أحمد (1/ 385) (3652)، والدارمي (1/ 232)، وابن حبان (1/ 180) (6). قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 19): [هو] الصواب، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (1/ 141): رجاله ثقات، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 131) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬2) (أخلاق العلماء)) للآجري (ص: 28 - 29).

6 - ومن فضلهم: أنهم ورثة الأنبياء

6 - ومن فضلهم: أنهم ورثة الأنبياء عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقا يطلب فيه علما؛ سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، والملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وأورثوا العلم، فمن أخذه؛ أخذ بحظ وافر)) (¬1). قال أبو حاتم بن حبان رضي الله عنه: (في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرناهم الذين يعلمون علم النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من سائر العلوم، ألا تراه يقول: ((العلماء ورثة الأنبياء)). والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعلم نبينا صلى الله عليه وسلم، سنته، فمن تعرى عن معرفتها؛ لم يكن من ورثة الأنبياء) (¬2) اهـ. قال ابن القيم –رحمه الله-: (قوله: ((إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وأورثوا العلم)). هذا من كمال الأنبياء، وعظم نصحهم للأمم، وتمام نعمة الله عليهم وعلى أممهم أن أزاح جميع العلل، وحسم جميع المواد التي توهم بعض النفوس أن الأنبياء من جنس الملوك الذين يريدون الدنيا وملكها، فحماهم الله سبحانه وتعالى من ذلك أتم الحماية. ثم لما كان الغالب على الناس أن أحدهم يريد الدنيا لولده من بعده، ويسعى ويتعب ويحرم نفسه لولده؛ سد هذه الذريعة عن أنبيائه ورسله، وقطع هذا الوهم الذي عساه أن يخالط كثيراً من النفوس التي تقول: فلعله إن لم يطلب الدنيا لنفسه؛ فهو يحصلها لولده، فقال: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا هو صدقة)) (¬3). فلم تورث الأنبياء ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم. وأما قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ [النمل: 16]. فهو ميراث العلم والنبوة لا غير، وهذا باتفاق أهل العلم من المفسرين وغيرهم؛ وهذا لأن داود عليه السلام كان له أولاد كثيرة سوى سليمان، فلو كان الموروث هو المال؛ لم يكن سليمان مختصاً به. وأيضاً؛ فإن كلام الله يصان عن الإخبار بمثل هذا؛ فإنه بمنزلة أن يقال: مات فلان، وورثه ابنه، ومن المعلوم أن كل أحد يرثه ابنه، وليس في الإخبار بمثل هذا فائدة. وأيضاً؛ فإن ما قبل الآية وما بعدها يبين أن المراد بهذه الوراثة وراثة العلم والنبوة، لا وراثة المال. قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ [النمل: 15 - 16]. وإنما سيق هذا لبيان فضل سليمان، وما خصه الله به من كرامته وميراثه ما كان لأبيه من أعلى المواهب، وهو العلم والنبوة: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل: 16]. وكذلك قول زكريا –عليه الصلاة والسلام-: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 5 - 6]. فهذا ميراث العلم والنبوة والدعوة إلى الله، وإلا فلا يظن بنبي كريم أنه يخاف عصبته أن يرثوا ماله، فيسأل العظيم ولداً يمنعهم ميراثه، ويكون أحق به منهم. وقد نزه الله أنبياءه ورسوله عن هذا وأمثاله، فبعداً لمن حرف كتاب الله ورد على رسوله كلامه، ونسب الأنبياء إلى ما هم برآء منزهون عنه، والحمد لله على توفيقه وهدايته) (¬4) اهـ. فالعلماء ورثوا العلم، فبه يسوسون العباد والبلاد والممالك، فموتهم فساد لنظام العالم. ¬

(¬1) رواه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (5/ 196) (21763)، وابن حبان (1/ 289) (88). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة وليس هو عندى بمتصل. ثم أورد له إسنادًا وقال: هذا أصح، وقال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (25/ 247): له طرق كثيرة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 151) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) ((صحيح ابن حبان)) (1/ 289). (¬3) رواه البخاري (4240)، ومسلم (1759) بدون: ((نحن معاشر الأنبياء)). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 66 - 67).

7 - أنهم ممن أراد الله عز وجل بهم الخير

7 - أنهم ممن أراد الله عز وجل بهم الخير عن معاوية رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً؛ يفقهه في الدين)) (¬1). فالعالم ممن أراد الله به خيراً. والعلماء ثلاثة: - عالم بالله وبأمره. - عالم بالله غير عالم بأمره. - عالم بأمره غير عالم به. وقال علي بن خشرم: (سمعت ابن عيينة يقول: قال بعض الفقهاء: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله، عالم بأمر الله، وعالم بالله وبأمر الله. وأما العالم بأمر الله: فهو الذي يعلم السنة ولا يخاف الله. وأما العالم بالله: فهو الذي يخاف الله، ولا يعلم السنة. وأما العالم بالله وبأمر الله: فهو الذي يعلم السنة، ويخاف الله؛ فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السموات) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (71)، ومسلم (1037). من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. (¬2) ((حلية الأولياء)) (7/ 280)، ((شعب الإيمان)) (4/ 477) (1774).

8 - أن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين يصلون على معلم الناس الخير

8 - أن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين يصلون على معلم الناس الخير عن أبي أمامة الباهلي قال: ((ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)) (¬1). قال الفضيل بن عياض: (عالم عامل معلم يدعى كبيراً في ملكوت السموات) (¬2). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2685)، والطبراني (8/ 233) (7911). قال الترمذي: غريب، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 333): رواه الطبراني في ((الكبير)) وفيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد، والحديث صححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه الترمذي بعد حديث رقم (2685).

9 - أن العالم لا ينقطع عمله ما بقي علمه ينتفع به الناس

9 - أن العالم لا ينقطع عمله ما بقي علمه ينتفع به الناس عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (¬1). والحديث يدل على أن عمل العالم والثواب عليه لا ينقطع بمجرد موته، ما دام الناس ينتفعون بعلمه، وهذا يشمل ما خلفه من تعليم علمه للناس، وما خلفه من تصانيف ينتفع بها الناس، ويشمل في زماننا ما في حكم التصانيف من دروس وفتاوى مسجلة. معاملة العلماء – محمد بن عمر بن سالم بازمول ص: 29 ¬

(¬1) رواه مسلم (1631).

10 - العلماء هم الدعاة إلى الله عز وجل

10 - العلماء هم الدعاة إلى الله عز وجل العلماء المقصود بهم: العالمون بشرع الله، والمتفقهون في الدين، والعاملون بعلمهم على هدى وبصيرة، على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة، الداعون إلى الله بالحكمة التي وهبهم الله إياها: وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269]. والحكمة: العلم والفقه. فعلى هذا فالعلماء بهذا التعريف: هم الدعاة بداهة، والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم الدعاة، فأجدر من يتصدر الدعوة بعد الأنبياء – وقد انقضت النبوة وانتهت – هم العلماء وذلك: أولا: لأنهم ورثتهم. والأنبياء لم يورثوا درهما ولا ديناراً، إنما ورثوا هذا العلم. والدعوة إنما تكون بالعلم، فأهل العمل هم الدعاة. ثانياً: العلماء هم حجة الله في أرضه على الخلق، والحجة لا تقوم إلا على لسان داعية بفقهه وبعلمه وبقدوته، فعلى هذا، فالعلماء هم أجدر الناس بالدعوة. ثالثاً: العلماء هم أهل الحل والعقد في الأمة، وهم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم، كما قال غير واحد من السلف في تفسير قوله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]. قال مجاهد: هم أولو العلم والفقه، وإذا كانوا هم أولوا الأمر فولايتهم للدعوة من باب أولى. رابعاً: العلماء هم المؤتمنون على مصالح الأمة العظمى؛ على دينها، وعلى دنياها وأمنها ومن باب أولى أن يكونوا هم المؤتمنون على الدعوة وشؤونها. خامساً: العلماء هم أهل الشورى الذين ترجع إليهم الأمة في جميع شؤونها ومصالحها. وإذا كانوا يستشارون في جميع مصالح الأمة – في دينها ودنياها – فمن باب أولى أن يكونوا هم أهل الشورى في الدعوة وقيادتها. سادساً: العلماء هم أئمة الدين، والإمامة في الدين فضل عظيم، وشرف ومنزلة رفيعة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]. والإمامة في الدين تقتضي بالضرورة الإمامة في الدعوة. وما الدين إلا بالدعوة، وما الدعوة إلا بالدين. سابعا: العلماء هم أهل الذكر، والذكر بالعلم والدعوة، كما قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]. فعلى هذا هم أهل الدعوة إلى الله تعالى. ثامنا: العلماء أفضل الناس كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]، وأفضل الناس هو الداعي إلى الله. تاسعاً: العلماء هم أزكى الناس، وأخشاهم لله، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [فاطر: 28]. وإذا كانوا هم كذلك، فهم الأجدر أن يكونوا هم الدعاة على هذه الصفات، وهم الأجدر أن يكونوا هم القادة والرواد في الدعوة. عاشراً: العلماء هم الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر بالعلم والحكمة، إذا فالعلماء هم الدعاة. حادي عشر: العلماء هم شهداء الله الذين أشهدهم الله على توحيده، وقرن شهادته بشهادته – سبحانه – وبشهادة ملائكته؛ وفي هذا تزكيتهم وتعديلهم، فقال تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ومن كانوا كذلك فهم المؤتمنون على الدعوة، وهم الأولى بقيادتها وريادتها. هذا على وجه العموم، فالعلماء هم أهل هذه الخصال. ولا يلزم أن تتوفر كل هذه الخصال في كل عالم، فالكمال لا يكون إلا لله – سبحانه – لكنهم في الجملة – أي العلماء – لا شك أنهم المتميزون بهذه الصفات الجديرون بها. العلماء هم الدعاة لناصر بن عبد الكريم العقل – ص: 5

المبحث الثاني: التحذير من زلات العلماء والموقف الصحيح منها

تمهيد مما لا شك فيه أن العلماء كغيرهم من الناس بل هم عرضة للخطأ والغفلة والسهو فقد تقع منهم الأخطاء ولذلك نسب النبي صلى الله عليه وسلم الخطأ إلى أبي بكر الصديق. فقال له: ((أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً)) (¬1) وذلك لما طلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمح له بتعبير رؤيا. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) (¬2). قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في (مجموع الفتاوى): ( .... فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين وهذا في الذنوب المحققة وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم وخطؤهم مغفور لهم) (¬3)، ويقول الإمام الشاطبي كما في (الاعتصام): ( ... فعلى كل تقدير لا يتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحجتها حاكم بأحكامها جملة وتفصيلاً وأنه متى وجد متوجهاً غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكماً ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة) (¬4). وقال في (الموافقات): (إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليداً له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتداً بها لم يجعل لها الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها) (¬5). تحذير الفضلاء من اتباع زلات العلماء – عقيل بن محمد بن زيد المقطري - ص: 17 ¬

(¬1) رواه البخاري (7046). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه الترمذى (2499)، وابن ماجه (4251)، وأحمد (3/ 198) (13072)، والدارمى (2/ 392) (2727)، والحاكم (4/ 272). قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 414): صحيح، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 448): كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 69). (¬4) ((الاعتصام)) (2/ 862). (¬5) ((الموافقات)) (4/ 170 - 171).

المطلب الأول: التحذير من زلة العالم

المطلب الأول: التحذير من زلة العالم شبه العلماء زلة العالم بانكسار السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير (¬1). وقيل: زلة العالم مضروب بها الطبل. وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن (¬2) , وأئمة مضلون) (¬3). وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: ((كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة العالم، فإن اهتدى؛ فلا تقلدوه دينكم، تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان، وأن أخطأ؛ فلا تقطعوا إياسكم منه، فتعينوا عليه الشيطان)) الحديث (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه؛ فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع) (¬5). وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في خطبته كثيراً: (وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقول المنافق الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به؛ فإن على الحق نوراً، قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟، قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا تصدنكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء، وأن يراجع الحق) (¬6). وقال الحسين بن فضل: (لكل عالم هفوة) (¬7). وقال علي بن الحسين رحمه الله ورضي عن أبيه: (ليس ما لا يعرف من العلم، إنما العلم ما عرف، وتواطأت عليه الألسن) (¬8). وقال إبراهيم بن أبي عبلة رحمه الله: (من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً) (¬9). قال مالك: (شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس) (¬10). وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: (لا يكون إماماً في الحديث من تتبع شواذ الحديث، أو حدث بكل ما يسمع، أو حدث عن كل أحد) (¬11). حرمة أهل العلم لمحمد إسماعيل المقدم – ص: 366 ¬

(¬1) ((جامع بيان العلم)) (2/ 225). (¬2) ((الموافقات)) (4/ 90). (¬3) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 223). (¬4) ((جامع بيان العلم)) (1873). (¬5) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (2/ 226). (¬6) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (2/ 224). (¬7) ((أسباب النزول للواحدي)) (18). (¬8) ((سير أعلام النبلاء)) (3/ 391). (¬9) ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 324). (¬10) ((ترتيب المدارك)) (1/ 184). (¬11) ((جامع بيان العلم)) (2/ 104).

المطلب الثاني: أصناف الناس تجاه زلة العالم

المطلب الثاني: أصناف الناس تجاه زلة العالم الناس تجاه زلة العالم ثلاثة أصناف: 1 - صنف لا يرى أن عند هذا العالم أي خطأ، فهو يعظمه ويجله ويصوبه لدرجة أن يجعل سيئاته حسنات. 2 - وصنف يسقط ذلك العالم لمجرد تلك الزلة أو الزلات فلا يرى له حسنة إطلاقاً. 3 - وصنف وفقه الله وسدده فاتبع الحق وهو العدل، فتراه يعظم من يستحق التعظيم من أهل العلم والدعاة والصالحين مع إقرارهم بأنه وإن عظم شأن الرجل فإنه تكون له الحسنات والسيئات فيمدح ويوالى ويذم ويعادى بحسب ما فيه من الحسنات والسيئات. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة .. أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه ... وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه. بل في بره وكونه من أهل الجنة بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد. والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا. ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه. فيعظم الحق ويرحم الخلق ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه، ويبغض من وجه. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم) (¬1). قلت: ومن قرأ في التاريخ عرف ما حصل من الفتن بسبب القدح في العلماء والطعن فيهم أو تعظيمهم وإنزالهم منزلة المعصومين. فالروافض مثلاً غلوا في قدحهم في أبي بكر رضوان الله عليه وأعلام الصحابة، كما غلوا في مدحهم علياً رضي الله عنه. والنواصب غلوا في قدحهم علياً ومدحهم لبقية الصحابة رضوان الله على الجميع. فهذا الغلو من الطرفين جر الأمة إلى مصائب فادحة في جوانب شتى. قال شيخ الإسلام: (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم كحال أهل البدع. فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة تريد أن تجعل أحدهم معصوماً من الذنوب والخطايا. والآخر مأثوماً فاسقاً أو كافراً فيظهر جهلهم وتناقضهم كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى أو عيسى مع قدحه في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه) (¬2). تحذير الفضلاء من اتباع زلات العلماء – عقيل بن محمد بن زيد المقطري - ص: 13 الموقف المذموم من زلة العالم وله صورتان: الأولى: موقف من يتتبعون عثرات العلماء، ويتصيدون زلاتهم، ويفرحون بها، ويستثمرونها في تأثيمهم، والتشهير بهم، والتشنيع عليهم، لإهدار قدرهم، وإسقاط منزلتهم، وإحباط محاسنهم، وجحود فضائلهم، بداع من التعصب الأعمى، أو التحزب الجاهلي، أو التآمر لتحطيم قمم الإسلام، ورموز نهضته. والمؤمن الصادق ينصح لوجه الله، لإحقاق الحق، وهداية الناس، لا للتجريح والتشهير والعدوان، وإذكاء نار الفتن التي تأكل الأوقات، وتستنفد الطاقات. وقد شكا العلماء قديماً وحديثاً من هذا الصنف المتربص الجاحد الظالم: قال داود بن يزيد: سمعت الشعبي يقول: (والله لو أصبت تسعاً وتسعين مرة، وأخطأت مرة؛ لأعدوا علي تلك الواحدة) (¬3). وفي هؤلاء قال الشاعر: إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحاً ... مني وما يسمعوا من صالح دفنوا آخر: إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرا أذاعوا، وإن لم يسمعوا أفكوا ¬

(¬1) (((منهاج السنة)) (4/ 543 - 544). (¬2) ((منهاج السنة)) (4/ 337). (¬3) ((سير أعلام النبلاء)) (4/ 308).

وقال محمد بن سيرين: (ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره) (¬1). الصورة الثانية: موقف من يغالون في أئمتهم وعلمائهم ومشائخهم غلواً يقطعهم عن رؤية زلتهم، فضلاً عن الحذر منها، وكأنهم اقتبسوا شعلة من نور العصمة التي لا تنبغي إلا لنبي، وقد قيل: (حبك الشيء يعمي ويصم)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر) (¬2). وقال الإمام أحمد رحمه الله: (لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا). وهاك صوراً من الغلو في العلماء: فمن ذلك قول بعضهم: (نظرة عندنا من أحمد - أي: ابن حنبل – تعدل عبادة سنة). وقول آخر: (عندنا بخراسان يظنون أن أحمد بن حنبل لا يشبه البشر، يظنون أنه من الملائكة). وقال شيخ السلمي له: (من قال لأستاذه: لم؟ لم يفلح أبداً) (¬3). وحكى الشيخ سليمان بن يوسف بن مفلح أحد أعلام الشافعية رحمه الله عن نفسه، فقال: (كنت إذا سمعت شخصاً يقول: أخطأ النووي، أعتقد أنه كفر) (¬4). فأين هؤلاء من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله). قال الإمام ابن القيم: (اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه, بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة) اهـ (¬5). وقال ابن المبارك رحمه الله لمناظرين في الكوفة في النبيذ المختلف فيه لما احتجوا بأسماء بعض أهل العلم: (فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال؛ فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة، أفلأحد أن يحتج بها؟) (¬6). حرمة أهل العلم لمحمد إسماعيل المقدم – ص 368 ¬

(¬1) ((البداية والنهاية)) (9/ 275). (¬2) ((جامع بيان العلم)) (2/ 229). (¬3) أورده السبكي في ((طبقات الشافعية الكبرى)) (4/ 146، 147)، والذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (17/ 251). (¬4) ((الدرر الكامنة)) (2/ 261). (¬5) ((إعلام الموقعين)) (2/ 191، 214، 221). (¬6) ((السنن الكبرى للبيهقي)) (1/ 298).

المطلب الثالث: الموقف الصحيح من زلة العالم

أولاً: اعتقاد عدم عصمة العالم وأن الخطأ لا يستلزم الإثم الخطأ من مقتضى الطبيعة البشرية لا يسلم منه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وإن الخطأ لا يستلزم الإثم؛ بل المجتهد المخطئ مأجور. وقال أبو هلال العسكري رحمه الله: (ولا يضع من العالم الذي برع في علمه زلة، إن كانت على سبيل السهو والإغفال؛ فإن لم يعر من الخطإ إلا من عصم الله جل ذكره، وقد قالت الحكماء: (الفاضل من عدت سقطاته)، وليتنا أدركنا بعض صوابهم, أو كنا ممن يميز خطأهم) (¬1) اهـ. تريد مهذباً لا عيب فيه ... وهل عود يفوح بلا دخان آخر: فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائي سررن ألوف وقال الإمام ابن الأثير – رحمه الله -: (وإنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل بها شيء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((حق على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)) (¬2)) (¬3). من ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحضة، وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان: لا يعصمون, ولا يؤثمون) (¬4). وقال أيضاً رحمه الله: (وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطأوا، كما قال تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]. قال الله: ((قد فعلت)) (¬5). وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا أن لا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر: 10]. وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور، ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين، لاسيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله، ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد، وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهو من الظالمين، ومن عظم حرمات الله، وأحسن إلى عباد الله، كان من أولياء الله المتقين، والله سبحانه أعلم) (¬6). حرمة أهل العلم لمحمد إسماعيل المقدم – ص: 371 لا يُشْتَرَطُ في العالم أنْ لا يُخْطِئ، فعلماء الحديث والأثر وأهل الفقه والنظر ربما حصل منهم أغلاط لأنَّهُم غير معصومين، وهذه الأغلاط التي قد تحصل منهم، حُصُولها من نِعَمِ الله - عز وجل -. ولمَّا سُئِلَ بعض الأئمة عن غلط العالم؛ كيف يغلط العالم، كيف يخالف السنة، كيف يكون في سلوكه مُقَصِّرْ، كيف يغيب عن ذهنه في مسألة التدقيق ويتساهل؟ ¬

(¬1) ((شرح ما يقع فيه التصحيف)) (ص: 6). (¬2) رواه البخاري (6501). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) ((اللباب في تهذيب الأنساب)) (1/ 9). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (35/ 69). (¬5) رواه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (¬6) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (32/ 239، 4/ 195) و ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 580).

فقال (لئلا يُشَابِهْ العلماء الأنبياء)، لأنَّ النبي هو الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي يصيب في كل شيء وهو الذي يُتَّبَعْ في كل شيء، فإذا كان العالم على صوابٍ كثير وربما وقع في اجتهاد هو عليه مأجور ولكنه أخطأ في ذلك، لم يكن عند الناس رَفْعْ لعالم في منزلة النبي فَيُتَّبَعْ على كل شيء، فيحصل في النفوس التوحيد والبحث عن الحق من الكتاب والسنة والنظر فيما يُبَرِّئْ الذمة في ذلك. وهذه عبوديات في القلب يسلكها الناس مع وجود هذا الخلاف بين أهل العلم. ولهذا إذا نظرت في هؤلاء الذين عَنَاهُمْ الطحاوي (أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) هو عَنَى بهم أوَّلِيًّا الأئمة الأربعة: - أبو حنيفة: وهو من أهل الفقه والنظر ليس هو من أهل الحديث والأثر. - والإمام مالك والشافعي وأحمد: وهؤلاء هم أئمة أهل الحديث كما أنهم أئمة أهل الفقه في المذاهب المتبوعة المعروفة. هؤلاء بينهم خلاف في مذاهبهم، أبو حنيفة يذهب إلى قول، مالك يذهب إلى قول، الشافعي يذهب إلى قول، الإمام أحمد يذهب إلى قول. هؤلاء منهم من يكون قوله هو الصواب، ومنهم من يكون قوله خلاف الأولى، أو يكون قوله مرجوحاً وهكذا. فالعالم يُدَقِّقْ ويَتَحَرَّى من الأقوال ولا يُقَلِّدُ عالماً في كل ما قال؛ لأنَّ المسائل كثيرة جداً وهو بشر فقد يتهيأ له في المسألة أَنْ يُدَقِّقْ وفي مسألة أخرى لا يدقق وهكذا. لهذا وجب على أهل الإيمان أنْ يَتَوَلَّوا جميع العلماء وأن يذكروهم بخير وأن لا يذكروا أحداً منهم بسوء شرح العقيدة الطحاوية لصالح آل الشيخ

ثانيا: أن نثبت له الأجر ولا نقلده على خطئه

ثانيا: أن نثبت له الأجر ولا نقلده على خطئه لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر)) (¬1). تحذير الفضلاء من اتباع زلات العلماء – عقيل بن محمد بن زيد المقطري - ص: 13 هذا الحديث يدل على أن العالم – إذا كان مستوفياً لشروط الاجتهاد – إذا اجتهد في مسألة ما واستفرغ جهده للوصول إلى الحق أجر على ذلك أجران إن أصاب الحق، أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الحق. وإذا لم يصب الحق أجر أجراً واحداً وذلك على اجتهاده ورفع عنه الإثم والحرج على عدم إصابته للحق لقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] لكن الأمر الذي يجب أن يتنبه له هو أن هذا الخطأ الذي أخطأ فيه العالم لا يجوز متابعته عليه بل يجب أن يحذر العامة كي لا يغتروا به، إلا أن المتتبعين للرخص يحتجون بتقليد العالم في هذه الزلة فيقال لهم: طالما وأنتم مقلدون فما هو الحامل لكم على تقليد هذا العالم ومخالفة الكثيرين من العلماء من أفتى بخلافه. ثم يقال لهم أيضاً إن كنت حسب ما تقولون إنكم مقلدون لهذا العالم في هذه الزلة (والتي تسمونها رخصة)، فلم لا تقلدونه في الأمور الأخرى مما لم يرخص فيه؟ بل نراكم تبحثون عن عالم آخر تأخذون عنه زلاته التي خالف فيها العالم الأول وهكذا دواليك. والحقيقة أنهم اتخذوا التقليد ستاراً لتحقيق رغبات أنفسهم. هذا ولقد حذر سلفنا الصالح من زلات العلماء وذلك لأن العالم إذا زل تابعه على ذلك كثير من الناس ولذلك قيل: (زلة العالِم – بكسر اللام – زلة العالَم – بفتح اللام-). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى ذلك عنه الدارمي في (السنن)، وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) بإسناد صحيح قال: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون) (¬2). وقال ابن عباس كما في (المدخل) للبيهقي والخطيب في (الفقيه والمتفقه) وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) بإسناد حسن: قال: ويل للأتباع من زلة العالم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم الشيء برأيه فيلقى من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه فيخبره ويرجع ويقضي الأتباع بما حكم (¬3). وقال الإمام الشاطبي كما في كتابه (الموافقات): (وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: كنا في الكوفة فناظروني في ذلك –يعني في النبيذ المختلف فيه- فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة. فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه. فاحتجوا، فما جاؤوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه. قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق: عدَّ أن ابن مسعود لو كان ههنا جالساً فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن: فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟ ¬

(¬1) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. (¬2) رواه الدارمي (1/ 166) (649)، وابن عبدالبر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 223). (¬3) رواه للبيهقي في ((المدخل)) (835، 836) والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 14) وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 226).

فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاووس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خياراً. قال فقلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يداً بيد؟ فقالوا: حرام. فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالاً فماتوا وهم يأكلون الحرام، فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى) (¬1) اهـ المراد. وقال الغزالي في (المستصفى): فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده) (¬2) اهـ المراد. وقال الفتوحي في (شرح الكوكب المنير): ( ... ويحرم عليه -أي على العامي- تتبع الرخص وهو أنه كلما وجد رخصة في مذهب عمل بها ولا يعمل بغيرها في ذلك المذهب. ويفسق به -أي تتبع الرخص- لأنه لا يقول بإباحة جميع الرخص أحد من علماء المسلمين، فإن القائل بالرخصة في هذا المذهب لا يقول بالرخصة الأخرى التي في غيره. قال ابن عبد البر: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً. ومما يحكى أن بعض الناس تتبع رخص المذاهب من أقوال العلماء وجمعها في كتاب وذهب به إلى بعض الخلفاء فعرضه على بعض العلماء الأعيان فلما رآها قال: (يا أمير المؤمنين هذه زندقة في الدين ولا يقول بمجموع ذلك أحد من المسلمين) (¬3). قلت: هذه الحكاية نقلها الإمام الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول ص: 272) فقال: (وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم. فقلت: مصنف هذا زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر. وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب). وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: (أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق. قال الإمام أحمد بن حنبل: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة بالسماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً) (¬4). قلت: وانظر (روضة الطالبين) للنووي (¬5). تحذير الفضلاء من اتباع زلات العلماء – عقيل بن محمد بن زيد المقطري - ص: 41 ¬

(¬1) ((الموافقات)) (4/ 171 - 172). (¬2) ((المستصفى)) (2/ 391). (¬3) ((شرح الكوكب المنير)) (4/ 577). (¬4) ((إرشاد الفحول)) (ص: 272). (¬5) (11/ 108).

ثالثا: عدم الاعتماد عليها وترك العمل بها

ثالثا: عدم الاعتماد عليها وترك العمل بها أن يعلم أن زلة العالم ليست من الشرع في شيء، فلا تنسب إليه، ولا هي من الخلاف السائغ، ولا يجوز اقتداء به فيها، بل يتعين تبرئة الشريعة منها. قال الإمام الشاطبي في (الموافقات): (إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتداً بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها. كما أنه لا ينبغي أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً؛ فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين) اهـ (¬1). وقال الإمام الشاطبي أيضاً: (إنه لا يصح اعتمادها – أي زلة العالم – خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد؛ فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا؛ فلذلك قيل: (إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء, وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها) اهـ (¬2). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله – وهو مما يختص به العلماء رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها) اهـ (¬3). ومع أهمية التنبيه إلى زلة العالم، فإن هذا لا يستلزم هجره وإطراح ما عدا ذلك من علومه النافعة، كما يفعل الغلاة من المنتسبين إلى طلب العلم، وفي هذا يقول العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى: (فهذه الآراء المغلوطة لم تكن سبباً في الحرمان من علوم هؤلاء الأجلة، بل مازالت منارات يهتدي بها في أيدي أهل الإسلام، وما زال العلماء على هذا المشرع ينبهون على خطإ الأئمة مع الاستفادة من علمهم وفضلهم، ولو سلكوا مسلك الهجر لهدمت أصول وأركان، ولتقلص ظل العلم في الإسلام، وأصبح الاختلال واضحاً للعيان، والله المستعان) (¬4) اهـ. حرمة أهل العلم لمحمد إسماعيل المقدم – ص: 373 ¬

(¬1) ((الموافقات)) (5/ 136). (¬2) ((الموافقات)) (5/ 139). (¬3) ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 223) ط. مؤسسة الرسالة. (¬4) ((تصنيف الناس بين الظن واليقين)) (ص: 91).

رابعا: أن يلتمس العذر للعالم، ويحسن الظن به، ويقيله عثرته

رابعا: أن يلتمس العذر للعالم، ويحسن الظن به، ويقيله عثرته قال الإمام السبكي – رحمه الله -: (فإذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله) (¬1). وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر عنه) (¬2). وأسند البخاري في كتاب الشروط من (صحيحه) قصة الحديبية ومسير النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وفيها: ((وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)) إلخ الحديث. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فقه الحديث: (جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله؛ لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم) (¬3) اهـ. قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: (فقد أعذر النبي صلى الله عليه وسلم غير المكلف من الدواب باستصحاب الأصل، ومن قياس الأولى إذا رأينا عالماً عاملاً، ثم وقعت منه هنة أو هفوة، فهو أولى بالإعذار، وعدم نسبته إليها والتشنيع عليه بها – استصحاباً للأصل – وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، وإلا كان المعنف قاطعاً للطريق ردءاً للنفس اللوامة، وسبباً في حرمان العالم من علمه، وقد نهينا أن يكون أحدنا عونا للشيطان على أخيه) (¬4) اهـ. ثم نقل قول الصنعاني رحمه الله تعالى: (وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب) اهـ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((من أقال مسلما أقال الله عثرته)) (¬5). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) (¬6). قال الإمام الشافعي – رحمه الله – (ذوو الهيئات الذين يقالون عثراتهم الذين ليسوا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة) (¬7). ¬

(¬1) ((قاعدة في الجرح والتعديل)) (ص: 93). (¬2) ((مدارج السالكين)) (3/ 521). (¬3) ((فتح الباري)) (5/ 335). (¬4) ((تصنيف الناس)) (ص: 80). (¬5) رواه أبو داود (3460)، وابن ماجه (1800)، وابن حبان (11/ 404) (5029)، والحاكم (2/ 52). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (ص: 687)، وقال ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (ص: 99): صحيح. (¬6) رواه أبو داود (4375)، وأحمد (6/ 181) (25513)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 310) (7294)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (465)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (9/ 43)، والبيهقي (8/ 161) (16423). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال العقيلي في ((التلخيص الحبير لابن حجر)) (4/ 1403): له طرق، وليس فيها شيء يثبت، وجوده ابن حزم في ((المحلى)) (11/ 405). (¬7) رواه البيهقي (8/ 334) (18084).

وقال الإمام العز بن عبد السلام – رحمه الله: (لو رفعت صغائر الأولياء إلى الأئمة والحكام لم يجز تعزيرهم عليها، بل يقيل عثرتهم، ويستر زلتهم، فهم أولى من أقيلت عثرته، وسترت زلته) (¬1). وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: (الظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عضب صبره، وأديل عليه شيطانه، فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته مالم يكن حداً من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع) (¬2) اهـ. حرمة أهل العلم - لمحمد إسماعيل المقدم – ص 374 يجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصا الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها، إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقا يقينا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه - فلا بد له في تركه من عذر. وجماع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول. والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ، فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز – 2/ 740 ¬

(¬1) ((قواعد الأحكام)) (1/ 150). (¬2) ((بدائع الفوائد)) (3/ 139).

خامسا: أن يحفظ للعالم قدره، ولا يجحد محاسنه

خامسا: أن يحفظ للعالم قدره، ولا يجحد محاسنه قال الذهبي في ترجمة القفال الشاشي: (قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: (قدسه من وجه، ودنسه من وجه)، أي دنسه من جهة نصر الاعتزال، قلت: قد مر موته، والكمال عزيز – وإنما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر له في استفراغه الوسع في طلب الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله) (¬1). واستدرك الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله بعض ألفاظ الشيخ أبي إسماعيل الهروي، وقال: (في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يجبره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له) (¬2). وقال أيضاً: (شيخ الإسلام حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (عمله خير من علمه)، وصدق رحمه الله، فسيرته بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع، لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ في هذا الباب لفظاً ومعنى .. ) (¬3) .. حرمة أهل العلم لمحمد إسماعيل المقدم – ص: 377 بحيث لا نسقط مكانته من نفوس الناس ولا نشنع عليه من أجلها ونلغي ما عنده من العلم وموافقة الحق مع التحذير من الزلة التي وقعت منه وتحذير الأمة من الاغترار بها ومتابعتها. أقوال أهل العلم في ذلك: قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (لا ينبغي أن ينسب صاحبها – أي الزلة – إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه المخالفة بحتاً فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين) (¬4) اهـ وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (من له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد يكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته ومنزلته في قلوب المسلمين) (¬5) اهـ ثم اعلم أن الزلات تتفاوت فمنها ما يكون ذا أثر على الناس فيجب في هذه الحالة تحذيرهم من الاغترار بها وليكن هذا التحذير بأسلوب حسن بحيث لا يشعر الناس بالتنقص من هذا العالم ولا يطعن في العالم ولا في رتبته. وأما إن كانت غير مؤثرة على الناس فيجب سترها وإقالة عثرة هذا العالم. كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) (¬6)، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((من أقال مسلماً أقال الله عثرته)) (¬7). فالعلماء ولا شك من ذوي الهيئات الذين تقال عثراتهم. تحذير الفضلاء من اتباع زلات العلماء – عقيل بن محمد بن زيد المقطري - ص: 20 ¬

(¬1) ((سير أعلام النبلاء)) (16/ 285). (¬2) ((مدارج السالكين)) (3/ 150). (¬3) ((مدارج السالكين)) (3/ 521)، (1/ 227، 263)، (2/ 37)، (2/ 52). (¬4) ((الموافقات)) (4/ 170 - 171). (¬5) ((أعلام الموقعين)) (3/ 295). (¬6) رواه أبو داود في سننه (برقم 4375) وأحمد (6/ 181) (25513). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 383): في إسناده اختلاف يسير لا يضره، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 420) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬7) رواه ابن حبان (11/ 405) (5030)، والبيهقي (6/ 27) (10913). والحديث حسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 171) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (465)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 298).

سادسا: إسداء النصح له

سادسا: إسداء النصح له إن العالم كغيره من الناس له حق النصح إذا أخطأ وهو مندرج تحت قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث تميم بن أوس الداري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم (¬1). وأبو داود (¬2). والترمذي (¬3)، وعنده أنه قال الدين النصيحة ثلاث مرات، فالعلماء يعتبرون من أئمة المسلمين. ولكن من الذي ينصحهم؟ أهم أصحاب الألسن الحادة والكلمات الجارحة من المتحمسين والمتشنجين ... ؟ أم ذلك الذي لا يرى الحق إلا ما كان على مثل ما هو عليه؟ أقول: إن الذين ينصحون هم أولئك الذين عرفوا الحق ورحموا الخلق، فكلماتهم بلسم على الجراح، يأتون بالعبارة التي يفوح منها الحنان والشفقة بالمنصوح لا يشعرونه بأنهم مترفعون عليه ولا شامتين به، إنهم العلماء الربانيون الذين لا يشهرون بالمنصوح بحجة النصح ولا يحرجونه بحجة التقويم ويضعون نصب أعينهم ما يلي: الإخلاص لله تعالى في هذه النصيحة فإنها من جملة العبادات التي كلفنا بها ولا تقبل إلا إذا كانت خالصة لوجه الله تعالى قال عز وجل وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء [البينة:5]. أن يكون القصد منها الإصلاح إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]. أن يكون القصد إظهار الحق حتى قال الإمام الشافعي (قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب) وقوله (ما ناظرت أحدا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لساني أو على لسانه). أن يكون مبتعدا عن كل ما يجعل المنصوح معاندا متماديا على الباطل متأسيا بذلك بسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام حيث كان إذا أراد النصح قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) (¬4). أن يكون التركيز على الرأي أو المسألة لا على قائلها لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله .. )) الحديث، (¬5). مع معرفته عليه الصلاة والسلام بالذين اشترطوا تلك الشروط في قضية عتق بريرة، وفي الثلاثة النفر الذين سألوا عن أعماله فكأنهم تقالّوها، والسنة مليئة بمثل هذا. تحذير الفضلاء من اتباع زلات العلماء – عقيل بن محمد بن زيد المقطري – ص 28 ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً قبل حديث (57)، ورواه مسلم موصولاً (55). من حديث تميم الداري رضي الله عنه. (¬2) ((سنن أبي داود)) (4944). (¬3) ((سنن الترمذي (1926)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) رواه البخاري (456)، ومسلم (1504) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) رواه البخاري (456)، ومسلم (1504) من حديث عائشة رضي الله عنها.

المبحث الثالث: خطر الطعن على العلماء, وشؤم الحط من أقدارهم

المبحث الثالث: خطر الطعن على العلماء, وشؤم الحط من أقدارهم الجناية على العلماء خرق في الدين، فمن ثم قال الطحاوي في (عقيدته): (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين – أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر – لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء، فهو على غير السبيل) (¬1). قال ابن المبارك: (من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته) (¬2). وقال أبو سنان الأسدي: (إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس؛ متى يفلح؟!) (¬3). وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: (الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب) (¬4). وعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: (كفى بالمرء شراً أن لا يكون صالحاً، وهو يقع في الصالحين) (¬5). والطاعنون في العلماء لا يضرون إلا أنفسهم، وهم يستجلبون لها بفعلتهم الشنيعة أخبث الأوصاف: بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11]. وهم من شرار عباد الله؛ بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت)) (¬6). وهم مفسدون في الأرض، وقد قال تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 81]. وهم عرضة لحرب الله تعالى، القائل في الحديث القدسي: ((من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب)) (¬7). وهم متعرضون لاستجابة دعوة العالم المظلوم عليهم، فدعوة المظلوم – ولو كان فاسقاً – ليس بينها وبين الله حجاب، فكيف بدعوة ولي الله الذي قال فيه: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) (¬8). قال الإمام الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان لمن أثقل عليه: (ما هذا؟! قد احتملتك وأنا ابن تسعين سنة، فاتق الله في المشايخ، فربما استجيبت فيك دعوة) (¬9). ولما أنكر السلطان على الوزير نظام الملك صرف الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم، أجابه: (أقمت لك بها جنداً لا ترد سهامهم بالأسحار)، فاستصوب فعله، وساعده عليه (¬10). وقيل: إن أولاد يحيى – أي ابن خالد البرمكي – قالوا له وهم في القيود مسجونين: (يا أبة صرنا بعد العز إلى هذا؟!) قال: (يا بني دعوة مظلوم غفلنا عنها، لم يغفل الله عنها) (¬11). ¬

(¬1) ((شرح العقيدة الطحاوية)) تحقيق الأرناؤوط (2/ 740). (¬2) ((سير أعلام النبلاء)) (8/ 408). (¬3) ((ترتيب المدارك)) (2/ 14). (¬4) ((الرد الوافر)) (ص: 197). (¬5) ((شعب الإيمان للبيهقي)) (5/ 316). (¬6) رواه أحمد (4/ 227) (18027)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 325). وقال: رواه أحمد عن شهر عنه وبقية إسناده محتج بهم في الصحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 96): رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وبقية رجاله رجال الصحيح، وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)). (¬7) [12846])) رواه البخاري (6502). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) رواه البخاري (6502). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬9) ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 159). (¬10) ((تحفة الطالبين)) (115/) و ((المنهاج السوي)) (74). (¬11) ((سير أعلام النبلاء)) (9/ 90).

وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة: مثل البغي، وقطيعة الرحم)) (¬1). يا صاحب البغي إن البغي مصرعة ... فاعدل فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يوما على جبل ... لاندك منه أعاليه وأسفله (¬2) وبما أن الجزاء من جنس العمل؛ فليبشر الطاعن في العلماء المستهزئ بهم؛ بعاقبة من جنس فعله: فعن إبراهيم رحمه الله قال: (إني أجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به). وقال عمرو بن شرحبيل: (لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه؛ لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً). وقد حكي أن رجلاً كان يجرئ تلامذته على الطعن في العلماء وإهانتهم، وذات يوم تكلم بكلام لم يرق أحد تلامذته، فقام إليه فصفعه على رؤوس الأشهاد: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [آل عمران: 182]، قال خالد بن زهير الهذلي: فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها وليعلم أنه يخشى على من تلذذ بغيبة العلماء والقدح فيهم أن يبتلى بسوء الخاتمة عياذاً بالله منها، فهذا القاضي الفقيه الشافعي محمد بن عبد الله الزبيدي (ولد سنة عشر وسبعمائة) (شرح التنبيه في أربعة وعشرين مجلداً، درس وأفتى، وكثرت طلابه ببلاد اليمن، واشتهر ذكره، وبعد صيته، قال الجمال المصري: إنه شاهده عند وفاته وقد اندلع لسانه واسود، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي رحمهم الله جميعاً (¬3). إن السعيد له في غيره عظة ... وفي التجارب تحكيم ومعتبر ثم الخائض في أعراض العلماء ظلماً وعدواً إن حمل عنه ذلك، واقتدى به فيه، فقد سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والدال على الشر كفاعله، والسعيد من إذا مات ماتت معه سيئاته، قال تعالى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس: 12]. وما من كاتب إلا سيلقى ... غداة الحشر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه وروي عن الإمام أحمد أنه قال: (لحوم العلماء مسمومة، من شمها مرض، ومن أكلها مات) (¬4). وعن مخلد قال: حدثنا بعض أصحابنا قال: ذكرت يوماً عند الحسن بن ذكوان رجلاً بشيء، فقال: (مه لا تذكر العلماء بشيء، فيميت الله قلبك). لحوم أهل العلم مسمومة ... ومن يعاديهم سريع الهلاك فكن لأهل العلم عونا، وإن ... عاديتهم يوما فخذ ما أتاك قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: (واعلم يا أخي – وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته – أن لحوم العلماء – رحمة الله عليهم – مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لِنَعش العلم خلق ذميم) (¬5). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4/ 4902)، والترمذي (2511)، وابن ماجه (4211)، وأحمد (5/ 36) (20390)، وابن حبان (2/ 200) (455)، والحاكم (2/ 388). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬2) ((فيض القدير)) (5/ 314). (¬3) ((الدرر الكامنة)) (4/ 106). (¬4) ((المعيد في أدب المفيد والمستفيد)) (ص: 71). (¬5) ((تبيين كذب المفتري)) (ص: 28).

وقال أيضاً رحمه الله: ( .. ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]) (¬1). ومن مخاطر الطعن في العلماء: التسبب إلى تعطيل الانتفاع بعلمهم: وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الديك؛ لأنه يدعو إلى الصلاة (¬2) فكيف يستبيح قوم إطلاق ألسنتهم في ورثة الأنبياء الداعين إلى الله عز وجل؟! وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ما نحن لولا كلمات الفقهاء؟!). وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: (الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالس العلماء) (¬3). وقال الإمام السخاوي رحمه الله: (إنما الناس بشيوخهم، فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش؟!) (¬4). ومن شؤم الطعن في العلماء: أن القدح بالحامل يفضي إلى القدم بما يحمله من الشرع والدين، ولهذا أطبق العلماء على أن من أسباب الإلحاد: (القدح في العلماء). لما استهزأ رجل من المنافقين بالصحابة رضي الله عنهم، قائلاً: (ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء) أنزل الله عز وجل: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: 65 - 66] (¬5). ويقول العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى: (بادرة ملعونة .. وهي تكفير الأئمة: النووي، وابن دقيق العيد، وابن حجر العسقلاني، أو الحط من أقدارهم، أو أنهم مبتدعة ضلال، كل هذا من عمل الشيطان، وباب ضلالة وإضلال، وفساد وإفساد، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون) (¬6). ومن شؤم تلويث الجو الدعوي بالطعن في العلماء، وتجريح الأخيار: التسبب في انزواء بعض هؤلاء الأخيار، وابتعادهم عن ساحة التربية والتعليم والدعوة، صيانة لأعراضهم، وحفظاً لحياة قلوبهم؛ لأن القلوب الحرة يؤذيها التعكير: (إن الحساسية تبلغ مداها لدى الداعية السوي، ونفسه تعاف كل جو خانق غير نقي، إن روحه لا تطيق الأجواء المغبرة وانعدام الأوكسجين، ومؤلمة هي لفحات التراب .. أسلوب في القتل هو الخنق، ونمط في الإرهاب الطائش هو العصف) (¬7). ( .. وإذا لم نتقيد بالضوابط في الممارسات الدعوية، فإن الأذواق ستفسد، ويكثر الصخب الذي يرهق الثقة المؤهل للتقدم، فينزوي حفاظاً على عرضه وسمعته، ولئلا يقسو قلبه عبر قيل وقال) (¬8). ¬

(¬1) ((قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله - في تفسير هذه الآية: (أي: فليحذر وليخض ... من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: في الدنيا: بقتل أو حد أو حبس، أو نحو ذلك)). (¬2) رواه أحمد (5/ 192) (21723)، وابن حبان (13/ 37) (5731). من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه. والحديث صححه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (363)، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: رجاله ثقات رجال الشيخين وقد اختلف في وصله وإرساله. (¬3) ((جامع بيان العلم)) (1/ 114). (¬4) ((فتح المغيث)) (2/ 320). (¬5) ((تفسير الطبري)) (14/ 333). (¬6) ((تصنيف الناس بين الظن واليقين)) (ص: 94). (¬7) ((فضائح الفتن)) (ص: 10). (¬8) ((فضائح الفتن)) (ص: 18).

فأقبح به من تعويق، وتثبيط، وتزهيد حذرنا منه العلامة الشيخ طاهر الجزائري (ت 1338هـ) وهو على فراش الموت بكلمات حقها أن تكتب بماء العيون لا بماء الذهب؛ إذ قال رحمه الله: (عدوا رجالكم، واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم) (¬1). فإذا خلت الساحة من أهل العلم والتقى، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، يفتونهم بغير علم، وإذا أفتوهم بغير علم فلا تسأل عن الحرمات التي تستباح، والدم المعصوم الذي يهراق، والعرض الذي ينتهك، والمال الذي يهدر، ونظرة واحدة إلى الواقع الأليم في بعض بلاد المسلمين وما يقع فيها من مجازر ومذابح بأيدي الأدعياء الذين استبدوا برأيهم، وتأولوا بأهوائهم، وركبوا رؤوسهم، ولم يصغوا إلى نصائح العلماء؛ تنبئك عن مخاطر تغييب العلماء، وقطع الصلة بينهم وبين الشباب. إن العلماء هم (عقول الأمة) والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرة بالبقاء .. حرمة أهل العلم لمحمد إسماعيل المقدم –ص: 319 قال الطحاوي: وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. هذه الجملة من هذه العقيدة المباركة قَرَّرَ فيها الطحاوي منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أهل العلم من أهل الأثر وأهل الفقه. فإنهم كما قال (لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ) لأنَّهُم نَقَلَةْ الشريعة ولأنهم المُفتون في مسائل الشريعة، ولأنهم المُبَيِّنُون للناس معنى كلام الله عز وجل في كتابه ومعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يدفعون عن الدين ويذبُّونَ عنه بتثبيت العقيدة الصحيحة وتثبيت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ورد الموضوعات والأحاديث المنكرة والباطلة التي أضيفت للنبي صلى الله عليه وسلم. فهم إذاً حُمَاةُ الشريعة الحماية العلمية، ولهذا كان العلماء ورَثَةَ الأنبياء؛ لأنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارا ولا درهما وإنما وَرَّثُوا العلم، والذين حَمَى العلم هم الصحابة رضوان الله عليهم، وهم التابعون من علماء السلف وعلماء تابعي التابعين من أهل الحديث ومن أهل الفقه. فهؤلاء منهج أهل السنة والجماعة أن يُذْكَرَ الجميع بالجميل، وأن لا نقع في عالمٍ من العلماء لا من أهل الحديث ولا من أهل الفقه، بل يُذْكَرُونَ بالجميل ولا يُذْكَرُونَ بسوء، وإنما يُرْجَى لهم فيما أخطؤوا فيه أنهم إنِّمَا اجتهدوا ورَجَوا الأجر والثواب والخطأ لا يُتَابَعُ عليه صاحبه. وهذا الأصل ذكره الطحاوي في هذا المقام لأجل أنَّ طائفةً من غلاة أهل الحديث في ذاك الزمن كانوا يقعون في أهل الفقه، وطائفة من غلاة أهل الفقه كانوا يقعون في أهل الحديث ويصفونهم بالجمود. وأهل السنة الذين تحققوا بالكتاب وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبهدي الصحابة يعلمون أنَّ الجميع مُحْسِنْ، وأنَّ هؤلاء وهؤلاء ما أرادوا إلا نصرة الشريعة والحفاظ على العلم والفقه. نعم هم درجات في مقامهم وفي علمهم، لكنَّهُم لا يُذْكَرُونَ إلا بالجميل، والله - عز وجل - سَخَّرَ هؤلاء لشيء وسَخَّرْ هؤلاء لشيء، والوسط هو سِمَةُ أهل الاعتدال وسِمَةُ أهل السنة والجماعة كما كان عليه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والشافعي ومالك وأبي حنيفة وجماعات أهل العلم فإنهم كانوا على هذا السبيل. ونذكر هاهنا مسائل: المسألة الأولى: أنَّ ذِكر العلماء بالجميل وعدم ذكرهم بأي سوءٍ أو قدح هذا امتثال لأمرين: ¬

(¬1) ((التعالم)) (ص: 91).

1 - الأمر الأول: امتثال لقول الله عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ولقوله: يَرْفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، ولقوله عز وجل: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فَبَيَّنَ الله - عز وجل - منزلة أهل العلم وبَيَّنَ فضل العلم وفضل أهله وأنهم مرفُوعون عن سائر المؤمنين درجات لِمَا عندهم من العلم بالله عز وجل. وبَيَّنَ أنَّ المؤمن للمؤمن مُوالي، أنَّ المؤمن يُوالي المؤمن، ومعنى هذه الموالاة في قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، هي من الوَلَاية وهي المحبة والنُّصْرَة. وهذه المحبة والنُّصْرَة عند أهل السنة والجماعة تتفاضل بتفاضل تحقق وصف الإيمان. فالمؤمن يحب ويوالي المؤمن الآخر إذا كان كامل الإيمان أكثر من نُصْرَتِهِ ومحبته لمن كان دونه. ومعلومٌ أنَّ العلماء هم الذين أثنى الله - عز وجل - عليهم وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فواجبٌ إذاً بنص الآية أن يُوَالَوا وأن يُذْكَرُوا بالجميل وأن يُحَبُّوا وأن يُنْصَرُوا وأن لا يُذْكَرُوا بغير الحَسَنِ والجميل. 2 - الأمر الثاني: أنَّ القدح في أهل العلم فيما أخطؤوا فيه ... يرجع في الحقيقة عند العامة إلى قَدْحٍ في حَمَلَةِ الشريعة ونَقَلَةِ الشريعة وبالتالي فيضعف في النفوس محبة الشّرع؛ لأنَّ أهل العلم حينئذٍ في النفوس ليسوا على مقامٍ رفيع وليسوا على منزلةٍ رفيعة في النفوس. فحينئذ يُشَكْ فيما ينقلونه من الدين وفيما يحفظون به الشريعة، فتؤول الأمور حينئذ إلى الأهواء والآراء فلا يكون ثَمَّ مرجعية إلى أهل العلم فيما أشكل على الناس فَتَتَفَصَّمْ عرى الإيمان .... لهذا كان ذِكْرُ العلماء بسوء هو من جنس ذكر الصحابة بسوء، ولهذا أتْبَعَ الطحاوي ذكر الصحابة بذكر العلماء، يعني لمَّا فَرَغَ من ذِكْرِ الصحابة ذَكَرَ العلماء؛ لأنَّ القدح في الصحابة والقدح في العلماء منشؤه واحد ونهايته واحدة، فإنَّ القدح في الصحابة طعنٌ في الدين، والقدح في العلماء المستقيمين، العلماء الربانيين فيما أخطؤوا فيه أو فيما اجتهدوا فيه هذا أيضاً يرجع إلى القدح في الدين، فالباب بابٌ واحد. شرح العقيدة الطحاوية لصالح آل الشيخ

الباب الثاني: الإمامة

تمهيد الإمامة هل هي من مواضيع العقيدة أم من مواضيع الفقه؟ الحق أن لها جوانب عقدية، ولها جوانب فقهية، كما أن لها جوانب تاريخية، ولذلك فعلماء السلف رحمهم الله عند ذكرهم لعقائدهم يذكرون ذلك، فلا نكاد نجد أحدًا ذكر عقيدته إلا وينص على التربيع بالخلفاء الأربعة وأن ترتيبهم في الخلافة على ترتيبهم في الفضل، كما ينصون على أن الإمامة في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله في النار، وينصون على الصلاة خلف كل إمام بر أو فاجر والجهاد والحج معه، وعلى تحريم الخروج على الأئمة، وعلى السمع والطاعة لهم في غير معصية، وهذه كلها من مباحث الإمامة، ولذلك نجد المتكلمين ينصون على باب الإمامة في أواخر كتبهم في العقيدة. كما أنهم يوردون ذلك في مسائل العقيدة للرد على الانحرافات والبدع التي نشأت حول هذا الموضوع، كبدعة الروافض، واعتقاداتهم الفاسدة في الإمامة، وأنها من أركان الدين، واعتقاد العصمة، والرجعة، وعلم الغيب ونحو ذلك في أئمتهم، فيذكرها علماء السلف للرد عليهم، ولتبيين مخالفتهم في ذلك، ومع بدعة الروافض بدعة الخوارج في وجوب الخروج على الأئمة الفسقة ونحو ذلك. وكذلك مما يجعلها من المسائل المتعلقة بالعقيدة في العصر الحاضر هو إنكار بعض المنتسبين للدين أنها من الدين، وهذه من أخطر المسائل الفكرية المعاصرة. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 19

الفصل الأول: تعريف الإمامة

المبحث الأول: تعريف الإمامة لغةً الإمامة في اللغة مصدر من الفعل (أمَّ) تقول: (أمَّهم وأمَّ بهم: تقدمهم، وهي الإمامة، والإمام: كل ما ائتم به من رئيس أو غيره) (¬1). ويقول ابن منظور: (الإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين .. والجمع: أئمة، وإمام كل شيء قيَّمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، وسيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، وأممت القوم في الصلاة إمامة، وائتُم به: اقتدي به. والإمام: المثال، وإمام الغلام في المكتب ما يتعلمه كل يوم، وإمام المثال ما امتثل عليه، والإمام: الخيط الذي يُمَدُّ على البناء فيبنى عليه ويسوى عليه ساف البناء .. ) اهـ (¬2). وقال صاحب (تاج العروس): (والإمام: الطريق الواسع، وبه فُسِّر قوله تعالى: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ [سورة الحجر: 79] أي: بطريق يُؤم، أي: يقصد فيتميز) قال: (والخليفة إمام الرعية، قال أبو بكر: يقال فلان إمام القوم معناه: هو المتقدم عليهم، ويكون الإمام رئيسًا كقولك: إمام المسلمين)، قال: (والدليل: إمام السفر، والحادي: إمام الإبل، وإن كان وراءها لأنه الهادي لها .. ) اهـ (¬3). وقال الجوهري في (الصحاح): (الأمُّ بالفتح القصد، يقال: أَمّه وأممه وتأممه إذا قصده) (¬4). إلى غير ذلك من المعاني المقاربة. ومن جميع ما سبق نلاحظ تقارب مدلول هذه الألفاظ عند أصحاب اللغة. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 27 ¬

(¬1) ((القاموس المحيط)) للفيروز آبادي (4/ 78) (¬2) ((لسان العرب)) لابن منظور (12/ 24) مادة (أمم). (¬3) ((تاج العروس)) (31/ 244، 245) مادة (أمم). (¬4) [12868])) ((الصحاح)) (5/ 143).

المبحث الثاني: تعريف الإمامة اصطلاحا

المبحث الثاني: تعريف الإمامة اصطلاحاً أما من حيث الاصطلاح: فقد عرفها العلماء بعدة تعريفات، وهي وإن اختلفت في الألفاظ فهي متقاربة في المعاني، ومن هذه التعريفات ما يلي: (1) ما ذكره الماوردي حيث قال: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به) اهـ (¬1). (2) ويقول إمام الحرمين الجويني: (الإمامة رياسة تامة، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا) اهـ (¬2). (3) وعرفها النسفي في عقائده بقوله: (نيابة عن الرسول عليه السلام في إقامة الدين بحيث يجب على كافة الأمم الاتباع) (¬3). (4) ويقول صاحب (المواقف): (هي خلافة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة) (¬4). 5) أما العلامة ابن خلدون فيعرفها بقوله: (هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به) أهـ (¬5). (6) ويقول الأستاذ محمد نجيب المطيعي: (المراد بها - أي الإمامة- الرئاسة العامة في شؤون الدنيا والدين) (¬6). إلى غير ذلك من التعريفات التي تدور حول هذه المعاني. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 28 ¬

(¬1) [12869])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 5). (¬2) [12870])) ((غياث الأمم في التياث الظلم)) لأبي المعالي الجويني (ص: 15). (¬3) [12871])) ((العقائد النسفية)) (ص: 179). (¬4) [12872])) ((المواقف)) للإيجي (ص: 395). (¬5) [12873])) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 190). (¬6) [12874])) ((تكملة المجموع)) لمحمد نجيب المطيعي (19/ 191).

المبحث الثالث: لفظ (الإمام) في الكتاب والسنة

المبحث الثالث: لفظ (الإمام) في الكتاب والسنة هذا وقد ورد لفظ (الإمام) في القرآن الكريم بصيغة الإفراد في عدة مواضع منها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]. والمعنى: (أني مُصَيِّرُك للناس إمامًا يؤتم به، ويقتدى به) (¬1). كما ورد في قوله تعالى حكاية عن دعاء المؤمنين: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان: 74] أي: (أئمة يقتدي بنا من بعدنا) (¬2) وقال البخاري: (أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا) (¬3). وورد اللفظ بصيغة الجمع في قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء: 73]. أي: (أئمة يؤتم بهم في الخير في طاعة الله في اتباع أمره ونهيه، ويقتدى بهم، ويتبعون عليه) (¬4). وفي قوله تعالى: وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص: 5] أي: ولاة وملوكًا (¬5). كما ورد اللفظ بمعنى: من يؤتم بهم في الشر. فقال تعالى: فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ [التوبة: 12] أي: (رؤساء الكفر بالله) (¬6) وقوله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ [القصص: 41] أي: (جعلنا فرعون وقومه أئمة يأتم بهم أهل العتو على الله والكفر به) (¬7). لكن إذا أطلق لفظ (الإمام) فإنه لا ينصرف إلى أئمة الباطل، لأنه ورد ذكرهم في القرآن بهذه الكلمة مقيدة. كما في هذه الآيات. وورد اللفظ أيضًا في مواطن كثيرة من الحديث النبوي الشريف منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإمام الأعظم الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته .. )) الحديث (¬8). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأئمة من قريش)) (¬9). والمراد: الحاكم أو الخليفة. إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة. وهكذا أخذت الإمامة معناً اصطلاحيًا إسلاميًا، فقصد بالإمام: خليفة المسلمين وحاكمهم، وتوصف الإمامة أحيانًا بالإمامة العظمى أو الكبرى تمييزًا لها عن الإمامة في الصلاة، على أن الإمامة إذا أطلقت فإنها توجه إلى الإمامة الكبرى أو العامة، كما أوضح ذلك ابن حزم رحمه الله (¬10). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 30 ¬

(¬1) [12875])) ((تفسير الطبري)) (2/ 18). (¬2) [12876])) ((تفسير الطبري)) (19/ 319) (¬3) [12877])) ((صحيح البخاري)) قبل حديث (7275). (¬4) [12878])) ((تفسير الطبري)) (18/ 472) (¬5) [12879])) ((تفسير الطبري)) (19/ 517). (¬6) [12880])) ((تفسير الطبري)) (14/ 154). (¬7) [12881])) ((تفسير الطبري)) (19/ 583). (¬8) رواه البخاري (7138)، ومسلم (1829). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬9) رواه أحمد (4/ 421) (19792) , وابن أبي عاصم في ((السنة)) (2/ 294) , من حديث أبي برزة الأسلمي, قال ابن كثير في ((تحفة الطالب)) (ص: 211): يقوى لأن له سندين جيدين, وصححه الألباني في ((ظلال الجنة)) (ص: 1125). وروي عن أبي هريرة وعلي وأنس رضي الله عنهم. (¬10) [12884])) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 90).

المبحث الرابع: الترادف بين ألفاظ: الإمام والخليفة وأمير المؤمنين

المبحث الرابع: الترادف بين ألفاظ: الإمام والخليفة وأمير المؤمنين والذي يبدو من استعراض الأحاديث الواردة في باب الخلافة والإمامة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين الذين رووها لم يفرقوا بين لفظ خليفة وإمام، ومن بعد تولية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أضافوا إليها لفظ: أمير المؤمنين - وإلى ذلك ذهب العلماء فجعلوها من الكلمات المترادفة المؤدية إلى معنى واحد فيقول النووي: (يجوز أن يقال للإمام: الخليفة، والإمام، وأمير المؤمنين) (¬1). ويقول ابن خلدون: (وإذ قد بيَّنَّا حقيقة هذا المنصب وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به تسمى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإمام) اهـ. (¬2)، ويعرف ابن منظور الخلافة بأنها الإمارة (¬3). وإلى ذلك ذهب الأستاذ محمد نجيب المطيعي في تكملته (للمجموع) للنووي حيث قال: (الإمامة والخلافة وإمرة المؤمنين مترادفة) (¬4) وكذلك الأستاذ محمد رشيد رضا (¬5)، ويفسر الشيخ أبو زهرة الترادف بين لفظي الخلافة والإمامة بقوله: (المذاهب السياسية كلها تدور حول الخلافة وهي الإمامة الكبرى، وسميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي (¬6) -صلى الله عليه وسلم - في إدارة شؤونهم، وتسمى إمامة: لأن الخليفة كان يسمى إمامًا، ولأن طاعته واجبة، ولأن الناس كانوا يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم الصلاة) (¬7) أي يأتمون به، وقد كان الخلفاء هم الذين يتولون إمامة الصلاة خاصة الجمع والأعياد لكن لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وضعفت الناحية العلمية عند الخلفاء، أخذوا ينيبون عنهم من يقومون مقامهم في إمامة الصلاة، وخطب الجمع والأعياد. ¬

(¬1) [12885])) ((روضة الطالبين)) (10/ 49). (¬2) [12886])) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 190) (¬3) [12887])) ((لسان العرب)) (9/ 83). (¬4) [12888])) ((المجموع)) (19/ 191). (¬5) [12889])) ((الخلافة أو الإمامة العظمى)) لمحمد رشيد رضا (ص: 101). (¬6) [12890])) أجاز الفقهاء تسمية الإمام خليفة بإطلاق، وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واختلفوا في تسميته خليفة الله، فأجازه بعضهم اقتباسًا من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... *البقرة: 30*. قال الطبري في تفسيره (1/ 452).: (أي: مني. يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدم، ومن قام مقامه في طاعة الله، والحكم بالعدل بين خلقه ونسب هذا القول إلى ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما). ومنع الجمهور ذلك لأن معنى الآية ليس عليه. قال ابن كثير: (أي قوم يخلف بعضهم بعضا قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل). ((تفسير ابن كثير)) (1/ 216). قال ابن تيمية في ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 138): (فالمقصود أن الله تعالى لا يخلفه غيره، فإن الخلافة إنما تكون عن غائب، وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه لا يحتاج في تدبيرهم إلى غيره). وذهب الراغب الأصفهاني في ((المفردات)) (ص: 156) إلى أن: (الخلافة: النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف). وقال: (وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض ... ). ثم ذكر الآيات الدالة على ذلك. (¬7) [12891])) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) لأبي زهرة (1/ 21).

كما يفسر الأستاذ محمد المبارك رحمه الله سبب اختيار هذه الألفاظ (الإمام، والخليفة، وأمير المؤمنين) بأنه: ابتعاد بالمفهوم الإسلامي للدولة ورياستها عن النظام الملكي بمفهومه القديم عند الأمم الأخرى من الفرس والرومان المختلف اختلافًا أساسيًا عن المفهوم الإسلامي الجديد) (¬1). هذا وقد كان الخلفاء الأُوَّل يلقبون بالخلفاء كما يلقبون بالأئمة، ومنذ خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه استعمل المسلمون لقب (أمير المؤمنين) فيذكر ابن سعد في طبقاته: أنه لما مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه وكان يُدْعَى خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل لعمر: خليفة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطول هذا، ولكن اجتمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يدعى به من بعده من الخلفاء، قال بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نحن المؤمنون وعمر أميرنا، فدعي عمر (أمير المؤمنين) فهو أول من سمي بذلك (¬2). وروي أن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم رضي الله عنهما لما قدما من المدينة، قالا لعمرو بن العاص: استأذن لنا يا عمرو أمير المؤمنين، فقال: أنتما والله أصبتما اسمه، فهو الأمير ونحن المؤمنون، فدخل عمرو على عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما هذا؟ فقال: أنت الأمير، ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من يومئذ (¬3). وقيل في سببها غير ذلك (¬4) أما لفظ الأمير بإطلاق فقد كان مستعملاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن لم يكن مقصورًا على الخليفة، وإنما يسمى به أمراء الجيوش والأقاليم والمدن ونحو ذلك، وقد ورد في الحديث: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) (¬5). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 32 ¬

(¬1) [12892])) ((نظام الإسلام الحكم والدولة)) (ص: 61). (¬2) [12893])) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (3/ 281). (¬3) [12894])) رواه الطبراني (1/ 64)، والحاكم (3/ 87)، والبخاري في ((الأدب المفرد) (ص: 780). قال الذهبي في ((التلخيص)): صحيح، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 64): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده الألباني في ((الأدب المفرد)). (¬4) [12895])) انظر: ((مناقب عمر بن الخطاب)) لابن الجوزي (ص: 59). (¬5) رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

المبحث الخامس: استعمالات لفظي الخلافة والإمامة

المبحث الخامس: استعمالات لفظي الخلافة والإمامة ومن الملاحظ أن لفظ (الإمامة) يغلب استعماله عادة عند أهل السنة في مباحثهم العقدية والفقهية، بينما الغالب استعمالهم لفظ (الخلافة) في كتاباتهم التاريخية، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه المباحث - خاصة العقدية - قد كتبت للرد على المبتدعة في هذا الباب كالشيعة والخوارج. فالشيعة يستخدمون لفظ الإمامة دون الخلافة، ويعتبرونها إحدى أركان الإيمان عندهم، ويفرقون بين الإمامة والخلافة، فهم يعتبرون الإمامة رئاسة دين، والخلافة رئاسة دولة (¬1)، ويريدون من ذلك إثبات أن عليًا رضي الله تعالى عنه كان إمامًا زمن خلافة الثلاثة الذين سبقوه. وفي ذلك فصل للدين عن الدولة. وهذا لا يقره الإسلام. وممن ذهب إلى التفريق بينهما أيضًا الرافضة الباطنية (¬2)، وبعض المعتزلة (¬3). وأرجع بعض الكتاب المعاصرين سبب استعمال لفظ (الإمامة) عند أهل السنة إلى تأثر أهل السنة بالشيعة (¬4). ويرى بعضهم أن هذه التسمية من اختراعات الشيعة (¬5) وهذا غير صحيح لاستعمال المسلمين هذا اللفظ قبل انشقاق الشيعة عن الجماعة، ولوروده في بعض الآيات والأحاديث كما سبق، ولاستعمال الصحابة رضوان الله عليهم له. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 36 ¬

(¬1) [12897])) انظر: ((الإمامة)) لمحمد حسين آل ياسين (ص: 19)، و ((نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية)) د. أحمد محمود صبحي (ص: 24). (¬2) [12898])) انظر: ((الإمامة وقائم القيامة)) د. مصطفى غالب (ص: 19). (¬3) [12899])) ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (2/ 129). (¬4) [12900])) ((نظرة الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية)) (ص: 23) د. أحمد محمود صبحي. (¬5) [12901])) ((المجتمع الإسلامي وأصول الحكم)) د. محمد الصادق عفيفي (ص: 123).

الفصل الثاني: وجوب الإمامة

تمهيد يقول الإمام ابن حزم: (اتفق جميع أهل السنة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل، يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم). اهـ (¬1). وقال القرطبي: (ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة، إلا ما روي عن الأصم، حيث كان عن الشريعة أصم. وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه) (¬2). والموجبون لها منهم من يرى وجوبها عن طريق الشرع، وهم أهل السنة والجماعة وأكثر المعتزلة (¬3)، ومنهم من يوجبها عقلاً، والموجبون لها عقلاً منهم من يوجبها على الله تعالى - تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا - وهم الشيعة، ومنهم من يوجبها على الناس. وهم المعتزلة البغداديون (¬4)، والجاحظ من معتزلة البصرة (¬5). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص 46 ¬

(¬1) [12902])) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 72). (¬2) [12903])) ((تفسير القرطبي)) (1/ 264). (¬3) [12904])) ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (20/ 141)، وانظر: ((العثمانية)) للجاحظ (ص: 261). (¬4) [12905])) ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي الحديد (2/ 308). (¬5) [12906])) ((العثمانية)) للجاحظ (ص: 261).

مبحث: الأدلة على وجوب الإمامة

مبحث: الأدلة على وجوب الإمامة • المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم. • المطلب الثاني: الأدلة من السنة. • المطلب الثالث: الإجماع. • المطلب الرابع: القاعدة الشرعية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). • المطلب الخامس: دفع أضرار الفوضى. • المطلب السادس: الإمامة من الأمور التي تقتضيها الفطرة وعادات الناس.

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم 1 - قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59]، أورد الطبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن أولي الأمر هم الأمراء) (¬1) ثم قال الطبري: (أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة) (¬2) وقال ابن كثير: (الظاهر - والله أعلم أن الآية عامة في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء) (¬3) وهذا هو الراجح. ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الله سبحانه أوجب على المسلمين طاعة أولي الأمر منهم وهم الأئمة، والأمر بالطاعة دليل على وجوب نصب ولي الأمر، لأن الله تعالى لا يأمر بطاعة من لا وجود له، ولا يفرض طاعة من وجوده مندوب، فالأمر بطاعته يقتضي الأمر بإيجاده، فدل على أن إيجاد إمام للمسلمين واجب عليهم. 2 - ومن الأدلة أيضًا قول الله تعالى مخاطبًا الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ... [المائدة: 83]، وقوله تعالى: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ [المائدة: 49]. فهذا الأمر من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يحكم بين المسلمين بما أنزل الله - أي بشرعه -، وخطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصصه به، وهنا لم يرد دليل على التخصيص، فيكون خطابًا للمسلمين جميعًا بإقامة الحكم بما أنزل الله إلى يوم القيامة، ولا يعني إقامة الحكم والسلطان إلا إقامة الإمامة، لأن ذلك من وظائفها ولا يمكن القيام به على الوجه الأكمل إلا عن طريقها، فتكون جميع الآيات الآمرة بالحكم بما أنزل الله دليلاً على وجوب نصب إمام يتولى ذلك .. والله أعلم. 3 - ومن الأدلة أيضًا قول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: 25]. فمهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن أتى بعدهم من أتباعهم أن يقيموا العدل بين الناس على وفق ما في الكتاب المنزل، وأن ينصروا ذلك بالقوة، وهذا لا يأتي لأتباع الرسل إلا بتنصيب إمام يقيم فيهم العدل، وينظم جيوشهم المناصرة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فالدين الحق لا بد فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر .. فالكتاب يبين ما أمر الله به وما نهى عنه، والسيف ينصر ذلك ويؤيده) اهـ (¬4). 4 - ومن الأدلة القرآنية أيضًا جميع آيات الحدود والقصاص ونحوها من الأحكام التي يلزم القيام بها وجود الإمام. وآيات وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها من الآيات، فالواقع أن جميع الآيات القرآنية التي نزلت بتشريع حكم من الأحكام التي تتعلق بموضوع الإمامة وشؤونها جاءت على أساس أن قيام الإمامة الشرعية والقيادة العامة في المجتمع الشرعي شيء مفروغ من إثباته ولا نقاش في لزومه، ذلك لأن الأحكام المشار إليها من الأمور التي يتوقف امتثالها وتنفيذها على وجود الإمام لأنها من مسؤولياته ووظائفه، فتشريع مثل هذه الأحكام يلزمه مسبقًا المفروغية من تشريع حكم لزوم الإمامة وقيام الدولة الإسلامية في المجتمع المسلم، وهذا ينهينا إلى أن لزوم الإمامة وإقامة الدولة في المجتمع الإسلامي من بدهيات وضروريات الشريعة الإسلامية. ¬

(¬1) [12907])) رواه الطبري في تفسيره (8/ 497) قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (12/ 464): أخرجه الطبري بإسناد صحيح، وقال أحمد شاكر: هذا موقوف على أبي هريرة وإسناده صحيح، ومعناه صحيح. (¬2) [12908])) ((تفسير الطبري)) (8/ 502). (¬3) [12909])) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 345). (¬4) [12910])) ((منهاج السنة)) لابن تيمية (1/ 142).

المطلب الثاني: الأدلة من السنة

المطلب الثاني: الأدلة من السنة أ- الأدلة من السنة القولية: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة فيها دلالة على وجوب نصب الإمام، ومن هذه الأدلة ما يلي: 1 - ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) (¬1) أي: بيعة الإمام، وهذا واضح الدلالة على وجوب نصب الإمام لأنه إذا كانت البيعة واجبة في عنق المسلم، والبيعة لا تكون إلا لإمام، فنصب الإمام واجب. 2 - ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) (¬2). ومثله عن أبي هريرة، وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا أحدهم)) (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإذا كان قد أوجب في أقلِّ الجماعات وأقصر الاجتماعات، أن يولى أحدهم، كان هذا تشبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك) اهـ (¬4). 3 - ومنها الحديث الذي رواه أبو أمامة الباهلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لينقضن عرى الإسلام عروة، عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة)) (¬5). قال الأستاذ عبد الكريم زيدان (والمقصود بالحكم: الحكم على النهج الإسلامي، ويدخل فيه بالضرورة وجود الخليفة الذي يقوم بهذا الحكم، ونقضه يعني التخلي عنه وعدم الالتزام به، وقد قرن بنقض الصلاة وهي واجبة، فدلّ على وجوبه) (¬6). 4 - ومنها أيضًا الحديث المشهور في السنن عن العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - من حديث طويل – ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) (¬7). ¬

(¬1) [12911])) رواه مسلم (1851). (¬2) [12912])) رواه أبو داود (2608)، وأبو يعلى (2/ 319) (1054)، والبيهقي (5/ 257) (10651). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسن إسناده النووي في ((رياض الصالحين)) (351)، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 452): إسناده جيد. (¬3) [12913])) رواه أحمد (2/ 176) (6647)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (4/ 84). من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، وقال ابن حجر في ((فتح الباري) (11/ 87): في سنده ابن لهيعة، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (10/ 134). (¬4) [12914])) ((الحسبة)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 11). (¬5) [12915])) رواه الطبراني (8/ 98) (7502)، وابن حبان (15/ 111) (6715)، والحاكم (4/ 104)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 326): وقال: إسناده صحيح ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (7/ 284): رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (5075). (¬6) [12916])) ((أصول الدعوة)) لعبد الكريم زيدان (ص: 195). (¬7) رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) وأحمد (4/ 126) (17184)، والحاكم (1/ 176). من حديث العرباض بن سارية. والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح, وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

وقد تواتر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم بايعوا أبا بكر رضي الله عنه بالخلافة بعد لحاق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، ثم استخلف أبو بكر عمر رضي الله تعالى عنهما، ثم استخلف عمر أحد الستة الذين اختاروا عثمان رضي الله عنه، ثم بعد استشهاده بايعوا عليًا بالخلافة، فهذه سنتهم رضي الله عنهم في الخلافة، وعدم التهاون في منصبها، فوجب الاقتداء بهم في ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على وجوب طاعة الحكام فيما لا معصية فيه، وأحاديث البيعة، والأمر بالوفاء بها للأول فالأول، وحرمة الخروج على أئمة المسلمين، والحث على ضرب عنق من جاء ينازع الإمام الحق، ... كل هذه الأحاديث تقتضي وجود الإمام المسلم، فدلّ ذلك على وجوب نصبه. والله أعلم. ب - من السنة الفعلية: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقام أول حكومة إسلامية في المدينة، وصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول إمام لتلك الحكومة، فبعد أن هيأ الله لهذا الدين من ينصره ورسوله بدأ - صلى الله عليه وسلم - في تشييد أركانها، فأصلح ما بين الأوس والخزرج من مشاكل وحروب طاحنة قديمة، ثم آخى بين الأنصار والمهاجرين، ونظم الجيوش المجاهدة لنشر هذا الدين والذود عن حماه، وقد أرسل الرسل والدعوات إلى ملوك الدول المجاورة يدعوهم إلى الإسلام، وعقد الاتفاقات والمعاهدات مع اليهود وغيرهم، وأبان أحكام الأسرى وما يتعلق بهم، وأحكام الحرب وأهل الذمة، وقام بتدبير بيت مال المسلمين وتوزيعه كما أمر الله عز وجل، وعيَّن الأمراء والقضاة لتدبير شؤون المسلمين، وأقام الحدود الشرعية والعقوبات .. إلى غير ذلك من مظاهر الدولة ووظائف الإمامة. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة) (¬1). ومن المعلوم أن قيام هذه الدولة وزعامته - صلى الله عليه وسلم - لها لم يكن هدفًا له في حد ذاته، وإنما هو من مستلزمات هذا الدين الذي لا يتم إلا به، كيف وقد عرضت عليه قريش من أول وهلة الملك عليها من دون تعب ولا جهاد، وإنما بترك سبِّ آلهتهم، فرفض ذلك رفضًا باتًا (¬2). وإنما كان هدفه الوحيد - صلى الله عليه وسلم - القيام بتبليغ هذه الرسالة وحملها إلى الناس، واتخاذ كافة الوسائل المؤدية إلى ذلك، ومن هذه الوسائل قيام الدولة الإسلامية، فهي واجبة لهذا الغرض، ولأنها من مستلزمات هذا الدين ... فالمقصود أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تولية زعامة الدولة الإسلامية الأولى دليل على وجوب الإمامة، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مبينًا للأحكام الشرعية بقوله وفعله وإقراره، وفعله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب (¬3) إذا لم يكن مختصًا به - صلى الله عليه وسلم - ولا جبلِّيا ولا مترددًا بين الجبلي وغيره، ولا بيانًا لمجمل كقطع يد السارق ونحوه لقوله تعالى: فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158.]، ولقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ... [الحشر: 7] ولقوله عز من قائل كريمًا فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ... [الأحزاب: 63] قال ابن النجار: (فلولا الوجوب لما رفع تزويجه الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم) (¬4). ¬

(¬1) [12918])) ((الاعتصام)) (1/ 49). (¬2) [12919])) ((سيرة ابن هشام)) (1/ 293). (¬3) [12920])) على خلاف بين علماء الأصول، لكن هذا هو الراجح لقوة الدليل. انظر: ((تفصيل المسألة في شرح الكوكب المنير)) لابن النجار الحنبلي (2/ 189). (¬4) [12921])) ((شرح الكوكب المنير)) (2/ 190).

المطلب الثالث: الإجماع

المطلب الثالث: الإجماع ومن أهم الأدلة الدالة على وجوب الإمامة الإجماع على ذلك من قبل الأمة، وأول ذلك إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على تعيين خليفة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، بل حتى قبل دفنه وتجهيزه (¬1). وقد ورد في ذلك عدة روايات منها ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات، وأبو بكر بالسنح (¬2) قال إسماعيل - يعني بالعالية - فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنَّه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبَّله فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيًّا وميّتًا، والذي نفسي بيده، لا يذيقنك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيُّها الحالف على رسلك. فلمَّا تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن محمدًا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حيُّ لا يموت وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر: 30]، وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] قال: فشنج الناس يبكون، قال: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلامًا قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حُباب بن المنذر: والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارًا وأعربهم أنسابًا، فبايعوا عمر وأبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس) (¬3). وبهذا يتبين أنه قد ثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بمجرد أن بلغهم نبأ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بادروا إلى عقد اجتماع السقيفة الذي ضم كبار المهاجرين والأنصار، وتركوا أهم الأمور لديهم ذلك الوقت وهو تجهيز الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتشييعه، ويقول الهيتمي: (اعلم أيضًا أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب، بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬4). وقد نقل هذا الإجماع طائفة من العلماء، منهم الماوردي حيث قال: (وعقدها - أي الإمامة - لمن يقوم بها واجب بالإجماع، وإن شّذ عنهم الأصم) (¬5). ويقول النووي: (وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة .. ) (¬6) ويقول ابن خلدون: (نصب الإمام واجب، وقد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعًا دالاً على وجوب نصب الإمام) اهـ (¬7) ... ¬

(¬1) [12922])) كانت وفاته عليه الصلاة والسلام يوم الإثنين بعد أن زاغت الشمس لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول وكان دفنه - كما يقول ابن هشام - من وسط الليل ليلة الأربعاء. انظر: ((سيرة ابن هشام)) (4/ 664)، وانظر: ((سبل السلام)) (2/ 111). (¬2) [12923])) السنح: قيل بتسكين النون وقيل بضمها: منازل بني الحارث من الخزرج بالعوالي بينه وبين المسجد النبوي ميل. ((فتح الباري)) (7/ 29). (¬3) [12924])) رواه البخاري (3667، 3668). (¬4) [12925])) ((الصواعق المحرقة)) (ص: 7). (¬5) [12926])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 5). (¬6) [12927])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 205). (¬7) [12928])) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 191).

المطلب الرابع: القاعدة الشرعية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)

المطلب الرابع: القاعدة الشرعية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ومن الأدلة على وجوب الإمامة القاعدة الشرعية القائلة بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد علم أن الله سبحانه وتعالى أمر بأمور ليس في مقدور آحاد الناس القيام بها، ومن هذه الأمور إقامة الحدود وتجهيز الجيوش المجاهدة لنشر الإسلام، وإعلاء كلمة الله، وجباية الزكاة وصرفها في مصارفها المحددة، وسد الثغور وحفظ حوزة المسلمين، ونشر العدل ودفع الظلم، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد .. إلى غير ذلك من الواجبات التي لا يستطيع أفراد الناس القيام بها، وإنما لا بد من إيجاد السلطة وقوةٌ لها حق الطاعة على الأفراد، تقوم بتنفيذ هذه الواجبات، وهذه السلطة هي الإمامة. فبناء على ذلك يجب تعيين إمام يخضع له ويطاع، ويكون له حق التصرف في تدبير الأمور حتى يتأتى له القيام بهذه الواجبات، وفي هذا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (لا بد للناس من إمارة بَرَّة كانت أو فاجرة) قالوا: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: (يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء) (¬1). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض) (¬2) ويقول معللاً ذلك: (لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة) (¬3). ويقول ابن حزم: (وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله من الأحكام عليهم في الأموال، والجنايات، والدماء، والنكاح، والطلاق، وسائر الأحكام كلها، ومنع الظالم، وإنصاف المظلوم، وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم، واختلاف آرائهم، وامتناع من تحرى في كل ذلك ممتنع غير ممكن .. ) إلى أن قال: ( ... وهذا الذي لا بد منه ضرورة، وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها، فإنه لا يقام هناك حكم حق، ولا حدّ حتى قد ذهب الدين في أكثرها، فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو أكثر ... ) (¬4). ¬

(¬1) [12929])) ((منهاج السنة)) (1/ 146)، و ((السياسة الشرعية)). (¬2) [12930])) ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص: 161). (¬3) [12931])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 162). (¬4) [12932])) ((الفصل في الملل والنحل)) (4/ 72).

المطلب الخامس: دفع أضرار الفوضى

المطلب الخامس: دفع أضرار الفوضى كما أن من الأدلة على وجوب الإمامة دفع أضرار الفوضى، لأن في عدم اتخاذ إمام معين من الأضرار والفوضى ما لا يعلمه إلا الله، ودفع الضرر وحماية الضروريات الخمس - الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل - واجب شرعًا، ومن مقاصد الشريعة حفظها. وهذا لا يتم إلا بإقامة إمام للمسلمين، فدل على وجوبه، قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي: (الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس) (¬1). ويقول ابن المبارك رحمه الله: إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... بعروته الوثقى لمن دانا كم يدفع الله بالسلطان مظلمة ... في ديننا رحمة منه ودنيانا لولا الخليفة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا (¬2) ... وخير دليل على ذلك: الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم، ففيه دلالة قاطعة على أنه لن تقوم للإسلام قائمة إلا بالرجوع إلى الله، ثم السعي إلى إقامة الخلافة الإسلامية التي ما فتئ أعداء الإسلام ينخرون في جنباتها حتى قوضوها، وصار لهم ما أرادوا فبعد أن أُبعدت الخلافة الإسلامية، ونُحي الإسلام عن قيادة الأمة، عُطلت الحدود، وانتهكت الأعراض والحرمات، وعطلت راية الجهاد، وقسمت بلاد المسلمين إلى دويلات متناحرة يضرب بعضها رقاب بعض. وسلبت خيرات المسلمين من أراضيهم، وتكالبت عليهم الأمم الكافرة من كل حدب وصوب (وما الذل الذي يخيم على المسلمين فيجعلهم يعيشون على هامش العالم، وفي ذيل الأمم ومؤخرة التاريخ، إلا قعود المسلمين عن العمل لإقامة الخلافة وعدم مبادرتهم إلى نصب خليفة لهم التزامًا بالحكم الشرعي الذي أصبح معلومًا من الدين بالضرورة كالصلاة والصوم والحج، فالقعود عن العمل لاستئناف الحياة الإسلامية معصية من أكبر المعاصي، لذلك كان نصب خليفة لهذه الأمة فرضًا لازمًا لتطبيق الأحكام على المسلمين، وحمل الدعوة الإسلامية إلى جميع أنحاء العالم) (¬3). لذلك فلا خلاص لهذه الأمة مما هي فيه اليوم من الذل والهوان إلا بالإنابة إلى الله، ثم إقامة حكم الله على هذه الأرض وفق ما ارتضى لها ربها عز وجل. ¬

(¬1) [12933])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 19) و ((السنة)) (1/ 81)، و ((طبقات الحنابلة)) (1/ 311) بلفظ (بأمر المسلمين). (¬2) [12934])) انظر: ((الحلية)) لأبي نعيم (8/ 164). (¬3) [12935])) ((قواعد نظام الحكم في الإسلام)) د. محمود عبد المجيد الخالدي (ص: 248).

المطلب السادس: الإمامة من الأمور التي تقتضيها الفطرة وعادات الناس

المطلب السادس: الإمامة من الأمور التي تقتضيها الفطرة وعادات الناس ومن الأدلة أيضًا أن النزوع إلى تنصيب رئيس للجماعة أمر فطري، جبل الله الخلق عليه، حيث إن الإنسان مدني بالطبع - كما يقال - فهو لا يستطيع أن يعيش بمفرده وحيدًا مستقلاً عن أخيه الإنسان الآخر، بل لا بد أن يعيش مع الناس حتى تستقيم أمور حياته، وتتحقق مصالحه، ونتيجة لمخالطة الناس الآخرين قد تتعارض مصالحهم مع مصالحه، ويحدث الاحتكاك بينه وبينهم ويحصل التنازع، فلا بد من أمير يختصم إليه الناس، ويرتضونه ليحكم في منازعتهم وخصوماتهم، ومن هنا كان تنصيب الإمام أمرًا ضروريًا للمحافظة على حقوق الناس، وضمان استقرار الحياة، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا جمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، وللناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناه، فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين، فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم. مصيبين تارة ومخطئين أخرى) اهـ. (¬1) والسلطة المسيرة للمجتمع هذه هي إحدى الأركان المكونة لأي مجتمع كان (¬2)، فلا يمكن أن يقوم أي مجتمع ما لم تكتمل أركانه. وقديمًا قال الشاعر صلاءة بن عمر بن مالك الأفوه الأودي (¬3): لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا وقال قبل هذا البيت: والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... يومًا، فقد بلغوا الأمر الذي كادوا والنزوع إلى اتباع قائد معين ليس مما فطر الله عليه بني الإنسان فحسب، بل يشاركهم في ذلك بعض الحيوانات وحتى الحشرات، فأنت ترى الإبل تكون عادة تابعة لقائدها (الجمل الفحل) تتبعه حيث سار، ولذلك لا يهتم راعي الإبل إلا بتوجيه هذا القائد، ومن ثم تتبعه البقية، أما الحشرات فلا أدل من بروز تلك الفطرة منها عند النحل الذي يتخذ له (ملكًا) (¬4) من سلالة معينة يقوم بحمايته وتوفير ما يحتاجه، ويتبعه حيث كان. فما بالك بالإنسان الذي منحه الله العقل، وجعله يدرك الخطأ من الصواب، ويعرف ما ينفعه مما يضره. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي - بتصرف – ص 45 ¬

(¬1) [12936])) ((الحسبة)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 8) (¬2) [12937])) فالمجتمع مكون من أفراد وصلات اجتماعية يحددها العرف وقوانين مرسومة وأنظمة متبعة وسلطة تسير أمور المجتمع، وفوق هذا كله وأهم من هذا كله شعور بالانتماء إلى هيئة واحدة وجماعة واحدة وعقيدة يشترك جميع الأفراد في احترامها والحفاظ عليها. ((المجتمع الإسلامي)) لمحمد أمين المصري (ص: 7). (¬3) [12938])) انظر: ((ديوان الأفوه الأودي ضمن مجموعة: الطرائف الأدبية)) (ص: 10). (¬4) [12939])) انظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 145).

الفصل الثالث: شروط الإمام

المبحث الأول: الإسلام وهذا شرط واجب في كل ولاية إسلامية صغيرة كانت أو كبيرة ومن باب أولى اشتراطها في الولاية العظمى، والأدلة على هذا الشرط كثيرة منها: أ- قول الله عز وجل: وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141] أي: بأن يسلطوا عليهم في الدنيا (¬1)، ومعلوم أن الولاية العظمى هي أعظم سبيل وأقوى تسليط على المحكوم. ب- ومنها الآيات الدالة على النهي عن تولي الكفار كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51]. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً [النساء: 144] ومنها قوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ... [آل عمران: 28] إلى غير ذلك من الآيات الناهية عن تولي الكفار (¬2) وتوليتهم نوع من التولي المنهي عنه، لذا لا يجوز توليتهم على شيء من أمور المسلمين، ... جـ- ومن أدلة اشتراط الإسلام في الإمام قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ... [النساء: 59] فقوله تعالى مِنكُمْ نصٌّ على اشتراط أن يكون ولي الأمر من المسلمين، ... ومعلوم أن الكافر لا تجب طاعته في شيء أبدًا، بل تجب محاربته ومقاتلته بنص القرآن (¬3) حتى يسلم أو يعطي الجزية عن يد وهو صاغر إن كان من أهلها. د- ومن الأدلة على ذلك أيضًا ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنا لا نستعين بمشرك)) (¬4) وفي رواية: ((ارجع فلن أستعين بمشرك)) (¬5) للذي تبعه يوم بدر وأراد أن يغزو معه وهو على شركه فإذا ورد النهي عن الاستعانة بالكافر في بعض الأمور فكيف يستعان به على تدبير أمور المسلمين ويولى أمرهم! ¬

(¬1) [12940])) ((تفسير ابن كثير)) (3/ 388). (¬2) [12941])) جمع هذه الآيات العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه ((أحكام أهل الذمة)) (1/ 238) فليراجعها من شاء. (¬3) [12942])) إشارة إلى قوله تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *التوبة: 29*. وقوله: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ... *التوبة: 36*. (¬4) [12943])) رواه أبو داود (2732)، وابن ماجه (2301)، وأحمد (6/ 67) (24431)، وابن حبان (11/ 28) (4726) وسكت عنه أبو داود، واحتج به ابن حزم في ((المحلى)) (7/ 335)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2293). (¬5) [12944])) رواه مسلم (1817). من حديث عائشة رضي الله عنها.

ولقد امتثل لهذا الأمر خلفاء المسلمين، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعاتب أبا موسى الأشعري على اتخاذ كاتب نصراني فقد قال عبد الله بن أحمد: حدثنا أبي ... عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبًا نصرانيًا قال: مالك؟ قاتلك الله. أما سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ... [المائدة: 51] ألا اتخذت حنيفيًا، قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه. قال: (لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدنيهم إذ أقصاهم الله). وقال عمر رضي الله عنه أيضًا: (لا تؤمِّنوهم وقد خوَّنهم الله، ولا تُقرِّبوهم وقد أبعدهم الله، ولا تُعزُّوهم وقد أذلهم الله) (¬1)، ودرج على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناء حسن في الأمة كعمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمتوكل والمقتدر وغيرهم (¬2). جـ- الإجماع على ذلك: أجمع المسلمون على عدم جواز تولية الكفار تدبير أمور المسلمين، وأنه لا ولاية لكافر على مسلم، وقد حكى هذا الإجماع كثير من أهل العلم منهم: ابن المنذر حيث قال: (أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال) (¬3) وقال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل. قال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها) (¬4). وبناء على هذا فلا يجوز أن تعقد الإمامة لكافر أصلي أو مرتد، لأن معنى إقامة دولة إسلامية هو أن تلتزم بالمنهج الإسلامي تطبقه وتعيش حياتها على وفق تعاليمه، وهذا المنهج الإسلامي لا يتصور تطبيقه إلا من أناس يدينون بالولاء والخضوع التام لمشِّرع هذا المنهج، الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي - بتصرف – ص: 234 ¬

(¬1) [12945])) رواه البيهقي (10/ 127) (20910). قال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 184)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (8/ 255): إسناده صحيح. (¬2) [12946])) انظر تفصيل ذلك في: ((أحكام أهل الذمة)) (1/ 212). (¬3) [12947])) انظر: ((أحكام أهل الذمة)) (2/ 414). (¬4) [12948])) ((إكمال المعلم)) (6/ 128).

المبحث الثاني: البلوغ

المبحث الثاني: البلوغ وهذا من الشروط البديهية واللازمة في كل ولاية إسلامية صغيرة كانت أو كبيرة، فلا تنعقد إمامة الصبي لأنه مولى عليه في أموره وموكل به غيره، فكيف يجوز أن يكون ناظرًا في أمور الأمة، قال تعالى: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً [النساء:5] والمراد بالسفهاء هنا: (الصغار والنساء) (¬1) فإذا نهينا عن إعطائهم أموالهم لأنهم لا يحسنون التصرف فمن باب أولى أن لا يقلَّدوا تدبير أمور المسلمين، ولأن الصغير غير مكلف لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ)) (¬2) فمن رُفع عنه القلم لا يصح تصرفه في الأمور لأنه غير مكلف شرعًا فما دام لا يملك التصرف في خاصة نفسه فلا يجوز شرعًا أن يكون مالكًا للتصرف في جميع شؤون المسلمين، ومن لا يلي أمر نفسه لا يلي أمر المسلمين من باب أولى. 1) ما كان عارضًا مرجوًا زواله كالإغماء فهذا قال عنه أبو يعلى: (لا يمنع عقدها ولا استدامتها لأنه مرض قليل اللبث، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغمي عليه في مرضه) (¬3). (2) ما كان لازمًا لا يرجى زواله كالجنون والخبل، وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أ- ما كان مطبقًا لا يتخلله إفاقة فهذا يمنع الابتداء والاستدامة، وإذا طرأ عليه أبطلها لأنه يمنع مقصود الولاية. ب- ما كان أكثر زمانه الخبل فهذا كما كان مطبقًا. جـ - ما كان أكثر زمانه الإفاقة فهذا يمنع من عقد الإمامة (¬4) واختلف في منعه من استدامتها. هذا ولا يكتفى في رئيس الدولة أن يكون عاقلاً فقط، بل لا بد أن يكون على درجة عالية من الذكاء والفطنة تمكّنه من التفكير في قضايا الأمة وإيجاد الحلول المناسبة لها. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 237 ¬

(¬1) [12949])) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 318) هذا على سبيل الغالب وإلا ففيه رجال سفهاء، كما أن هناك نساء عاقلات. (¬2) [12950])) رواه أبو داود (4402)، وأحمد (1/ 154) (1327)، والحاكم (4/ 430). بلفظ: ((رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبى حتى يحتلم)). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: وقد روي هذا الحديث بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا، وقال الذهبي في ((التلخيص)): صحيح فيه إرسال، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬3) [12951])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 21). (¬4) [12952])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 18)، و ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى: (ص: 21).

المبحث الثالث: الحرية

المبحث الثالث: الحرية وهذا الشرط أيضًا من الشروط الضرورية في الإمامة لأن المملوك لا يحق له التصرف في شيء إلا بإذن سيده، فلا ولاية له على نفسه، فكيف تكون له الولاية على غيره، ويعلل الغزالي هذا الشرط بقوله: (فلا تنعقد الإمامة لرقيق، فإن منصب الإمامة يستدعي استغراق الأوقات في مهمات الخلق فكيف ينتدب لها من هو كالمفقود في حق نفسه الموجود لمالك يتصرف تحت تدبيره وتسخيره، كيف وفي اشتراط نسب قريش ما يتضمن هذا الشرط، إذ ليس يتصور الرق في نسب قريش بحال من الأحوال) (¬1). هذا وقد نقل ابن بطال عن المهلب الإجماع على ذلك فقال: (وأجمعت الأمة على أنها - أي الإمامة - لا تكون في العبيد) (¬2). وقال الشنقيطي: (لا خلاف في هذا بين العلماء) (¬3). ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا الخوارج، فإنهم جوزوا أن يكون الإمام عبدًا (¬4) وشذوذ الخوارج لا يعده العلماء قادحًا في صحة الإجماع. فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على إمامة العبد فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) (¬5). ونحوه عن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه في الحديث الطويل: قال: ((وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقام رجل فقال: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله ... والسمع والطاعة وإن عبد حبشي ... )) الحديث (¬6). وما في معناهما. فالجواب على ذلك من أوجه: (1) أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود عادة، فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة، وإن كان لا يتصور شرعًا أن يلي ذلك، ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي (¬7)، ويشبه هذا الوجه قوله تعالى: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف: 81] على أحد التفسيرات (¬8). (2) أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مأمورًا من وجهه الإمام الأعظم على بعض البلاد، قال الشنقيطي رحمه الله: (وهو أظهرها) (¬9) فليس هو الإمام الأعظم. (3) أن يكون أطلق عليه اسم العبد نظرًا لاتصافه بذلك سابقًا مع أنه وقت التولية حر، ونظيره إطلاق لفظ اليتيم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقًا في قوله: وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ... [النساء: 2]. (4) أو أن المراد بذلك المتغلِّب لا المختار، ففي هذه الحالة تجب طاعته وإن كان عبدًا حبشيًا، ولا يجوز الخروج عليه لمجرد عبوديته، ويؤيد هذا الرأي لفظ: ((إن تأمر عليكم ... )) فلفظ ((تأمر)) يدل على أنه تسلط على الإمارة بنفسه ولم يؤمر من قبل أهل الحل والعقد. ¬

(¬1) [12953])) ((فضائح الباطنية)) (ص: 180). (¬2) [12954])) ((فتح الباري)) (13/ 122). (¬3) [12955])) ((أضواء البيان)) (1/ 55). (¬4) [12956])) ((الملل والنحل للشهرستاني)) (1/ 116). (¬5) رواه البخاري (7142). (¬6) رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) وأحمد (4/ 126) (17184)، والحاكم (1/ 176). من حديث العرباض بن سارية. والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)): ثابت صحيح, (2/ 1164) وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬7) [12959])) ((فتح الباري)) (13/ 122). (¬8) [12960])) ((أضواء البيان)) (1/ 56). (¬9) [12961])) ((أضواء البيان)) (1/ 56).

والراجح من هذه الإجابات في نظري هو الجواب الثاني، وهو الذي رجحه الشنقيطي رحمه الله، وسبب الترجيح هو ورود بعض الأحاديث الدالة على ذلك، منها ما أخرجه الحاكم من حديث علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الأئمة من قريش، أبرارها أمراء أبرارها وفجارها أمراء فجارها، ولكل حق، فآتوا كل ذي حق حقه، وإن أمرت قريش فيكم عبدًا حبشيًا مجدعًا فاسمعوا له وأطيعوا)) (¬1). ويعضد هذا الرأي أيضًا ألفاظ الحديث: ((وإن استعمل)) , ((وإن أُمِّر)) ونحوها ... والله أعلم. ومما يدل على اشتراط الحرية، وأن تصرف العبد باطل وإن كان حاكمًا حكم العز بن عبد السلام رحمه الله ببيع أمراء الدولة الأيوبية في مصر - المماليك - لأنه لا يصح شرعًا تصرفهم إلا إذا عتقوا فحكم ببيعهم وإدخال أثمانهم إلى بيت مال المسلمين، فلما حكم بذلك غضبوا وغضب نجم الدين أيوب - حاكم مصر في ذلك الوقت - وقال: هذا ليس من اختصاصه فقرر العز الرحيل عن مصر فجهز أمتعته وسار، ثم لحقه جميع الناس وقالوا: إن خرج خرجنا، فلحق به نجم الدين في الطريق وترضاه وطلب منه أن يعود وينفذ ما حكم به، فعاد ونفذ ما أراد (¬2). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 237 ¬

(¬1) رواه الطبراني (4/ 26) , والحاكم (4/ 85). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 195): [فيه] حفص بن عمر بن الصباح الرقي قال الحاكم حدث بغير حديث لم يتابع عليه, وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 472) , وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2757). (¬2) [12963])) انظر: ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (8/ 216، 217).

المبحث الرابع: أن يكون ذكرا

المبحث الرابع: أن يكون ذكرًا من شروط الإمام أن يكون ذكرًا (ولا خلاف في ذلك بين العلماء) (¬1). ويدل عليه ما ثبت في (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه أن فارسًا ملَّكوا ابنة كسرى قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) (¬2). وقد ورد في القرآن الكريم كثير من الآيات الدالة على تقديم الرجال على النساء من ذلك قوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ... [النساء: 34] وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ((النساء ناقصات عقل ودين)) (¬3). والإمامة تحتاج إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، لذلك لا تقبل شهادتها إلا إذا كان معها رجل، وقد نبَّه الله على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى: أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة: 282] ... كما أن إمامة المسلمين تقتضي الدخول في المحافل ومخالطة الرجال وقيادة الجيوش ونحو ذلك، وهذا محظور على النساء شرعًا بقوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] وغيرها. يقول الغزالي: (الرابع الذكورية، فلا تنعقد الإمامة لامرأة، وإن اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال، وكيف تترشح امرأة لمنصب الإمامة وليس لها منصب القضاء ولا منصب الشهادة في أكثر الحكومات) (¬4). وقال البغوي: (اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إمامًا ولا قاضيًا، لأن الإمام يحتاج إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز وتعجز لضعفها عن القيام بأكثر الأمور، ولأن المرأة ناقصة والإمامة والقضاء من كمال الولايات فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال) (¬5). والواقع يشهد لذلك فالناس بتجاربهم يعرفون أنه لا يصلح للإمامة إلا الرجال وإن صار منهن في منصب رئاسة الدولة فإنما كان نادرًا ولظروف استثنائية. وكذلك طبيعة المرأة النفسية والجسمية لا تتلاءم أبدًا مع هذا المنصب، فكما هو معروف أن طبيعة المرأة يلاحظ عليها إرهاف العاطفة وسرعة الانفعال وشدة الحنان (وقد خلقت هذه الصفات في المرأة لتستطيع بها أن تؤدي وظيفتها الأولى وهي الأمومة والحضانة) (¬6) وإذا كانت هذه الصفات لازمة في مضمار الأمومة والحضانة فقد تكون ضارة في مضمار القيادة والرئاسة، أما الرجل فلا يندفع في الغالب - مع عواطفه ووجدانه - كما تندفع المرأة، بل يغلب عليه الإدراك والفكر والروي وهما قوام المسؤولية والقيادة. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى شرع للرجل ما يلائم بنيته الجسمية والنفسية كالجهاد والقيادة ونحو ذلك، وشرع للمرأة ما يلائم تكوينها أيضًا من تربية وحضانة وأعمال أخرى تلائمها. هذا وقد حكى الإجماع على عدم جواز تولية المرأة الإمامة ابن حزم الظاهري حيث قال: (وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة) (¬7) وكذلك القرطبي (¬8). وخالف في ذلك الخوارج، فهناك فرقة منهم تقول بجواز ذلك وهي: الشبيبية (أتباع شبيب بن يزيد الشيباني) قال البغداي عنهم: (إنه من أتباعه أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفيهم وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت) (¬9). هذا عن الإمامة أما القضاء فلبعض العلماء فيه رأي، ولكن جمهورهم يمنع ذلك قال ابن التين فيما حكاه عنه ابن حجر: (احتج بحديث أبي بكرة - الآنف الذكر - من قال لا يجوز أن تولى المرأة القضاء. وهو قول الجمهور وخالف ابن جرير الطبري فقال: يجوز أن تقضي فيما تقبل شهادتها فيه، وأطلق بعض المالكية الجواز) (¬10) وروي ذلك عن أبي حنيفة: (أنها تلي الحكم فيما تجوز فيه شهادة النساء) (¬11). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 243 ¬

(¬1) [12964])) ((أضواء البيان)) (1/ 55)، وعدّه ابن حزم من المسائل المجمع عليها. انظر: ((مراتب الإجماع له)) (ص: 125). (¬2) [12965])) رواه البخاري (4425). (¬3) رواه البخاري (304) واللفظ له، ومسلم (79، 80). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) [12967])) ((فضائح الباطنية)) (ص: 180). (¬5) [12968])) ((شرح السنة)) للبغوي (10/ 77). (¬6) [12969])) ((الإسلام)) لأحمد شلبي (ص: 226). (¬7) [12970])) ((الفصل)) (4/ 110). (¬8) [12971])) أحكام القرآن (1/ 271). (¬9) [12972])) ((الفرق بين الفرق)) (ص: 110). وعند الذهبي: (أنها امرأته استخلفها بعده، فدخلت الكوفة، وقامت خطيبة وصلَّت الصبح بهم في الجامع فقرأت في الركعة الأول بالبقرة وفي الثانية بآل عمران ... ). راجع: ((تاريخ الإسلام)) (3/ 160)، و ((الخطط)) (2/ 355)، و ((المعارف)) لابن قتيبة (ص: 180). (¬10) [12973])) ((فتح الباري)) (13/ 56). (¬11) [12974])) ((فتح الباري)) (8/ 128).

المبحث الخامس: العلم

المبحث الخامس: العلم قالوا: يشترط أن يكون بلغ مرتبة الاجتهاد وهم الجمهور، فقد قال الشاطبي رحمه الله: (إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع) (¬1)، وقال إمام الحرمين الجويني: (فالشرط أن يكون الإمام مجتهدًا بالغًا مبلغ المجتهدين مستجمعًا صفات المفتين، ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف) (¬2)، وقال الرملي في سياق عده لشروط الإمام: ( ... مجتهدًا كالقاضي وأولى، بل حكى فيه الإجماع ... ) قال: (وكون أكثر من ولي أمر الأمة بعد الخلفاء الراشدين غير مجتهد إنما هو لتغلبهم فلا يَرِدْ) (¬3). وإلى هذا القول ذهب الإمام الشافعي (¬4)، والماوردي (¬5)، والقاضي أبو يعلى (¬6)، وعبد القاهر البغدادي (¬7)، والقرطبي (¬8)، وابن خلدون (¬9)، والقلقشندي (¬10) وغيرهم واستدلوا على ما ذهبوا إليه بالأدلة التالية: 1 - إن الصحابة رضوان الله عليهم قدَّموا للإمامة من قدمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصلاة - ... - وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ... )) إلخ الحديث (¬11). 2 - واستدلوا أيضًا بالقياس حيث قاسوا منصب الإمامة العظمى على منصب القضاء، قال الباقلاني: (لأن القاضي الذي يكون من قِبَلِه يفتقر إلى ذلك فالإمام أولى) ... 3 - واستدلوا أيضًا بطبيعة العمل الموكل إلى الإمام الأعظم قال إمام الحرمين الجويني: (والدليل عليه أن أمور معظم الدين تتعلق بالأئمة فأما ما يختص بالولاة وذوي الأمر فلا شك في ارتباطه بالإمام، وأما ما عداه من أحكام فقد يتعلق به من جهة انتدابه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو لم يكن الإمام مستقلاً بعلم الشريعة لاحتاج إلى مراجعة العلماء في تفاصيل الوقائع التي ترفع إلى الإمام، وذلك يشتت رأيه ويخرجه عن دائرة الاستقلال) (¬12). ويقول القلقشندي: (لأنه محتاج لأن يصرف الأمور على النهج القويم ويجريها على الصراط المستقيم، ولأن يعلم الحدود ويستوفي الحقوق ويفصل الخصومات بين الناس، وإذا لم يكن عالمًا مجتهدًا لم يقدر على ذلك) (¬13). 4 - أما ابن خلدون فقد استدل على اشتراط الاجتهاد بقوله: (لأن التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال). وقال: (لأنه إنما يكون منفذًا لأحكام الله تعالى إذا كان عالمًا بها، وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها) (¬14). وهذه المسألة من المسائل الاجتهادية لأنه لم يرد نص صريح فيها، وإنما مرجع ذلك إلى الضرورة والحاجة والمصلحة، فإذا وُجِد مجتهد تتوفر فيه بقية الشروط الضرورية والمنصوص عليها فهو المطلوب، وإن تعذر وجوده فلا تترك مصالح المسلمين تتعطل ويدب فيهم الفساد بسبب عدم وجود المجتهد الذي تتوفر فيه شروط الإمام والله أعلم. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 247 ¬

(¬1) [12975])) ((الاعتصام)) (2/ 126). (¬2) [12976])) ((غياث الأمم)) (ص: 66). (¬3) [12977])) ((نهاية المحتاج)) (7/ 409). (¬4) [12978])) ((الأم)) (1/ 161). (¬5) [12979])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 6). (¬6) [12980])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 20). (¬7) [12981])) ((أصول الدين)) (ص: 277). (¬8) [12982])) ((أحكام القرآن)) (1/ 271). (¬9) [12983])) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 139). (¬10) [12984])) ((مآثر الإنافة)) (1/ 37). (¬11) [12985])) رواه مسلم (673). من حديث أبو مسعود رضي الله عنه. (¬12) [12986])) ((غياث الأمم)) (ص: 66). (¬13) [12987])) ((مآثر الإنافة)) (1/ 37). (¬14) [12988])) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 193).

المبحث السادس: العدالة

المبحث السادس: العدالة العدالة صفة كامنة في النفس توجب على الإنسان اجتناب الكبائر والصغائر والتعفف عن بعض المباحات الخارمة للمروءة، وهي مجموعة صفات أخلاقية من التقوى والورع والصدق والأمانة والعدل ورعاية الآداب الاجتماعية ومراعاة كل ما أوجبت الشريعة الالتزام به. وبناء على هذا الشرط فلا يجوز تولية الفاسق ولا من فيه نقص يمنع الشهادة. قال القاضي عياض: (ولا تنعقد لفاسق ابتداء) (¬1) وذكر مثله الحافظ في الفتح (¬2) وقال القرطبي: (ولا خلاف بين الأمة في أنه لا يجوز أن تعقد الخلافة لفاسق) (¬3). ومن الأدلة على اشتراط هذا الشرط ما يلي: 1 - ما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام حينما قال له ربه: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] عن مجاهد: (أنه أراد أن الظالم لا يكون إمامًا ... ) (¬4)، وقال الفخر الرازي: (احتج الجمهور على أن الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ووجه الاستدلال بها على وجهين: الأول: ما بيَّنَّا أن قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ جواب لقوله: وَمِن ذُرِّيَّتِي طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى، فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة ليكون الجواب مطابقًا للسؤال فتصير الآية كأنه تعالى قال: لا ينال الإمامة الظالمون، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه، فكانت الآية دالة على ما قلناه) (¬5). وبنحوه ذهب الشوكاني فقال: (وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالمًا، ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتبارًا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا السياق ... ) إلى أن قال: (فالأولى أن يقال: إن هذا الخبر في معنى الأمر لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف، وقد علمنا أنه قد عهده من الإمامة وغيرها كثير من الظالمين) (¬6). قال الفقيه الحنفي أبو بكر الجصاص: (فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة) (¬7) وقال الزمخشري عند تفسير هذه الآية: (وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدم للصلاة). قال: (وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إمامًا قط، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكفِّ الظلمة، فإذا نصب من كان ظالمًا في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم) (¬8). ¬

(¬1) [12989])) ((إكمال المعلم)) (6/ 128). (¬2) [12990])) ((فتح الباري)) (13/ 8). (¬3) [12991])) ((تفسير القرطبي)) (1/ 270)، وانظر: ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص: 21). (¬4) [12992])) ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/ 69). (¬5) [12993])) ((التفسير الكبير)) للفخر الرازي (4/ 46). (¬6) [12994])) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 138). (¬7) [12995])) ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/ 70). (¬8) [12996])) ((الكشاف)) (1/ 309).

وقال ابن خلدون: (وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها، فكان أولى باشتراطها فيه) (¬1) وقال البغدادي: (وأقل ما يجب له من هذه الخصلة أن يكون ممن يجوز قبول شهادته تحملاً وأداءً) (¬2) والحقيقة أنه إذا كان الله تعالى قد جعل العدالة شرطًا في أصغر ما يتصور من الولايات والأحكام مثل حضانة الصغير والحكم في جزاء الصيد، وأن الفاسق لا يصلح أن يكون واليًا على صغير أو يتيم، ولا حكمًا في مسألة قياسية فكيف يصلح واليًا على الأمة جمعاء، وحكمًا في قضايا في غاية الخطورة. - كما يدل على ذلك أن الفسق مدعاة للتساهل في تطبيق أحكام الشريعة وإقامة الدين، فلو كان فسقه بشرب خمر مثلاً فالمتصور عقلاً أنه لا بد أن يقع منه التساهل في شأن الخمر وشاربها، وهكذا في سائر الأحكام كما أن الأخيار العدول في الأمة كثير والحمد لله فما الداعي لتولية الفاسق؟ هذا وقد قسم الماوردي الفسق الذي تزول به العدالة إلى قسمين: الأول: ما تابع فيه الشهوة. الثاني: ما تعلق فيه بشبهة. فأما الأول منها فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى، فهذا - كما يرى الماوردي - يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها .... وأما الثاني: فمتعلق بالاعتقاد والتأول بشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق، فقد اختلف العلماء فيها، فذهب فريق من العلماء إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ... وقال كثير من علماء البصرة: (إنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج به منها كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشهادة) (¬3). 2 - ومنها ما رواه البخاري وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون بعدي أثرة (¬4) وأمورًا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم)) (¬5). إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا الموضوع ولذلك كان مذهب السلف رضوان الله عليهم الصلاة والجهاد مع كل إمام برًا كان أو فاجرًا، لأن هذا من طاعة الله، فهم يطاعون في طاعة الله ويعصون في معصيته. وهذا ما أدى بأبي يعلى أن يقول: (وقد روي عن الإمام أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل فقال في رواية عبدوس بن مالك: (ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا عليه برًا كان أو فاجرًا فهو أمير المؤمنين) وقال أيضًا في رواية المروزي: (فإن كان أميرًا يعرف بشرب المسكر والغلول يغزو معه إنما ذلك له في نفسه) (¬6). ¬

(¬1) [12997])) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 193). (¬2) [12998])) ((أصول الدين)) (ص: 277). (¬3) [12999])) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 17). (¬4) [13000])) الأثرة: بفتح الهمزة والثاء: الاسم من آثر يؤثر إيثارًا إذا أعطى، أراد أن يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء. والاستئثار: الانفراد بالشيء. انظر: ((لسان العرب)) (4/ 8) مادة (أثر). (¬5) رواه البخاري (7052). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬6) [13002])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 20).

فمقصود الإمام أحمد الوالي المتغلب كما هو نص الرواية الأولى - لا في حالة الاختيار من قبل أهل الحل والعقد، ويدلّ على ذلك - بالإضافة إلى ما سبق - قوله أيضًا: (وإن الإمامة لا تجوز إلا بشروطها: النسب، والإسلام، والحماية، والبيت ... وحفظ الشريعة، وعلم الأحكام، وصحة التنفيذ والتقوى، وإتيان الطاعة، وضبط أموال المسلمين، فإن شهد له بذلك أهل الحل والعقد من علماء المسلمين وثقاتهم أو أخذ هو ذلك على نفسه ثم رضيه المسلمون جاز له ذلك) (¬1) فهذا يدلّ على أن الإمام أحمد يشترط كغيره العدالة والعلم في حالة الاختيار أما في حالة التغلب فلا يشترط ... وهذا ما حدا بالأحناف ألا يعدوا العدالة من الشروط الواجبة وأجازوا أن يلي الفاسق أمر الأمة، لكنهم يكرهون ذلك (¬2)، لأنه قد ثبت أن الصحابة صلّوا خلف أئمة الجور من بني أمية ورضوا بتقلدهم رئاسة الدولة. والرد عليهم أن ذلك في حال التغلب لا في حال الاختيار كما مر. وهناك من يجعل الفسق موجبًا للعزل، وبناء عليه فلا تلزم إمامة المتغلب الفاسق بل العدل فقط، ... وبهذا يتبين أن هذا الشرط واجب توفره في الإمام عند الاختيار دون التغلب لتضافر الأدلة على ذلك. كما أنه مما ينبغي التنبيه له أنه ليس المقصود بالعدالة أن يكون المرشح للإمامة معصومًا في أقواله وأفعاله وتصرفاته، خاليًا من كل نقص، مبرَّءًا من كل عيب - كما تدَّعي الرافضة -، فهذه الصفات لا يدركها إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين أكرمهم الله بالعصمة من الكبائر والذنوب وعدم إقرارهم على الصغائر إن وقعت منهم. أما المسلم العادي فقد يقع في بعض الذنوب والآثام ولكنه سرعان ما يسترجع ويستغفر الله مما بدر منه ويعزم أن لا يعود، فهذه لا تخرم مروءته ولا تبطل عدالته. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) (¬3). كما أن العدالة معتبرة في كل زمان بأهله وإن اختلفوا في وجه الاتصاف بها، فنحن نقطع بأن عدالة الصحابة لا تساويها عدالة التابعين، وعدالة التابعين لا تساويها عدالة من بعدهم، وكذلك كل زمان مع ما بعده إلى زماننا هذا، فلو قيس عدول زماننا بعدول الصحابة والتابعين لم يعدوا عدولاً لتباين ما بينهما من الاتصاف بالتقوى والمروءة، ولكن لا بد من اعتبار كل عدول زمان بحسبه، وإلا لم يمكن إقامة ولاية يشترط فيها العدالة التامة ... والله أعلم. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 251 ¬

(¬1) [13003])) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 305). (¬2) [13004])) انظر: ((المسامرة في شرح المسايرة)) (ص: 166، 167)، وانظر: ((حاشية رد المحتار على الدر المختار)) (1/ 548). (¬3) رواه الترمذي (2499) , وابن ماجه (4251) , والحاكم (4/ 272). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (439): إسناده قوي. وحسّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

المبحث السابع: الكفاءة النفسية

المبحث السابع: الكفاءة النفسية ومما ينبغي توفره في الخليفة أيضًا أن يكون شجاعًا جريئًا على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرًا بها كفيلاً بحمل الناس عليها، عارفًا بالدهاء قويًا على معاناة السياسة وحسن التدبير ليصبح له بذلك ما جعل له من حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام وتدبير المصالح. ودليل اشتراط هذا الشرط هو طبيعة هذا المنصب الذي يحتاج إلى كل هذه الصفات حتى يكون قادرًا على سياسة الرعية وتدبير مصالحهم الدينية والدنيوية، ولأن الحوادث التي تحدث في الدولة ترفع إليه ولا يتسنى له البتّ فيها كما لا تتبين له المصلحة إلا إذا كان على قدر من الحكمة والرأي والتدبير، ولذلك فلا يولى إلا من كان عنده القدرة على ذلك، يدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر رضي الله عنه حينما قال له: ((يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) (¬1). وفي رواية قال له: ((يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين ولا تولين مال يتيم)) (¬2) فإذا كان كان هذا في الولاية الصغرى وفي الأموال فمن باب أولى في الإمامة العظمى الشاملة للقيام بأعباء الولايات الصغرى والكبرى والأموال وغيرها. وإلى اشتراط هذا الشرط ذهب إمام الحرمين الجويني (¬3) وسبقه أبو يعلى حيث يقول: (الثالث: أن يكون قَيِّما بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود لا تلحقه رأفة في ذلك والذب عن الأمة) (¬4) وبه قال الماوردي: (الرابع: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، الخامس: الشجاعة، والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو) (¬5) وبه قال البغدادي (¬6)، وابن خلدون (¬7)، والإيجي في المواقف (¬8) والغزالي في فضائح الباطنية (¬9) وغيرهم كثير. فهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهناك من العلماء من لا يشترطون هذا الشرط مجوزين الاكتفاء بأن يستشير الإمام أصحاب الآراء الصائبة في كل ما يحتاج إلى البتّ فيه من الأمور المهمة معللين ذلك بأنه يندر أن يتوفر هذا الشرط مع الشروط المطلوبة في الإمامة من الاجتهاد وغيره. والواقع أنه ليس هناك حدّ معين لهذا الشرط، وإنما لكل زمان بحسبه، فالمهم أن لا يكون هناك قصور يخلّ بالمقاصد التي من أجلها نصب الإمام ... والله أعلم. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 259 ¬

(¬1) [13006])) رواه مسلم (1825). (¬2) [13007])) رواه مسلم (1826). (¬3) [13008])) ((غياث الأمم)) (ص: 68). (¬4) [13009])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلي الماوردي (ص: 20). (¬5) [13010])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلي الماوردي (ص: 6). (¬6) [13011])) ((أصول الدين)) (ص: 277). (¬7) [13012])) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 193) (¬8) [13013])) ((المواقف)) (ص: 398). (¬9) [13014])) ((فضائح الباطنية)) (ص: 185).

المبحث الثامن: الكفاءة الجسمية

المبحث الثامن: الكفاءة الجسمية والمقصود بها سلامة الحواس والأعضاء التي يؤثر فقدانها على الرأي والعمل. كذهاب البصر والنطق والسمع فهذه تؤثر في الرأي، وفقدان اليدين والرجلين يؤثر في النهوض وسرعة الحركة، وتشوه المنظر وتضعف من هيبة الإمام في نفوس الرعية، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الشرط في قصة طالوت كما مر وذلك في قوله تعالى: إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة: 247]. من أجل هذا قسَّم الفقهاء أوجه النقص الجسدية إلى أربعة أقسام: الأول: ما لا يمنع من عقد الإمامة وهو: النقص الذي لا يؤثر فقده في رأي ولا عمل ولا يشين في المنظر فهذا نقص لا يحول دون قيام الخليفة بوظائفه لأنه لا يؤثر في كفاءته وقدرته على سياسة الأمور في الدولة الإسلامية. الثاني: النقص الذي يمنع من اختيار الشخص لمنصب الخلافة كفقد اليدين أو عجز الرجلين الذي يمنعه من النهوض ويؤثر في حركته، فهذا وذاك نقص يؤثر في الكفاءة اللازم توفرها في المرشح للخلافة، ويعوقه عن مباشرة سلطاته واختصاصاته فيما لو ولي أمر الأمة، وهو ما يضر بحقوقها ومصالحها العامة، لذلك فإن هذا النقص يحول دون صلاحية الشخص لرئاسة الدولة، كما أنه يؤدي في حالة طروء هذا النقص عليه بعد توليته الخلافة إلى منع استدامتها. الثالث: وهو النقص المؤدي إلى العجز الجزئي ويؤثر في أداء بعض الأعمال كقطع إحدى اليدين أو الرجلين، وهذا من شأنه أن يحول دون اختياره للخلافة لعجزه عن كمال التصرف، ولم يختلف الفقهاء في ذلك وإنما اختلفوا في استدامتها ... الرابع: وهو النقص الذي يمنع الخليفة من مباشرة الأعباء المقررة على المنصب ولا يحول دون قيامه بسائر اختصاصاته وسلطاته كالنقص المؤثر في المظهر كجدع الأنف وسمل إحدى العينين، فهذا لا يخرجه من الإمامة بعد عقدها اتفاقًا، لعدم تأثيره في شيء من حقوقها، أما في الاختيار فالعلماء فيه على رأيين منهم من أجاز، ومنهم من منع ليسلم الولاة من شين يعاب ونقص يزدرى فتقلّ هيبتهم، وفي قلَّتها نفور عن الطاعة، وما أدى إلى هذا فهو نقص في حقوق الأمة. أما عن شرط سلامة الحواس. فالسمع والنطق يشترطه كثير من الفقهاء، لأن الوقوف على مصالح المسلمين والرأي والتدبير يتوقف عليهما ومنهم من لم يشترطهما لإمكان الفهم عن طريق الكتابة (¬1) ونحوها. لكن الراجح اشتراط توفرهما في الخليفة للحاجة إليهما، وكذلك البصر فهو من الشروط التي يجب توافره ضرورة، لأن الأعمى لا يستطيع أن يدبر أمر نفسه وهو ما لا يسمح له أن يدبر أمر المسلمين، أما في الولاية الصغرى فجائز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولى ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى على المدينة عدة مرات (¬2) وقد خالف في اشتراط هذا الشرط ابن حزم رحمه الله تعالى فقال: (لا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب، كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والأحدب، والذي لا يدان له ولا رجلان، ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام ... فكل هؤلاء إمامتهم جائزة، إذ لم يمنع منها نص القرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلا) (¬3). ونحن لا نقول بأنه نص عليه قرآن ولا سنة ولا إجماع، وإنما مقصود الإمامة لا يتم إلا بمن كانت فيه هذه الشروط، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والله أعلم. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي - بتصرف– ص: 261 ¬

(¬1) [13015])) انظر: ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 19)، ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 21، 22)، ((مآثر الإنافة)) (1/ 34)، ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 193) ((طرق اختيار الخليفة)) د. فؤاد محمد النادي (ص: 64)، ((رئاسة الدولة في الفقه الإسلامي)) (ص: 168). (¬2) [13016])) حديث استخلاف ابن أم مكتوم على المدينة رواه أبو داود (2931)، وأحمد (3/ 132) (12366)، وأبو يعلى (5/ 422) (3110). من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (496)، وحسن سناده ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/ 174)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 2) كما قال ذلك في المقدمة. (¬3) [13017])) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 167).

المبحث التاسع: عدم الحرص عليها

المبحث التاسع: عدم الحرص عليها وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الشرط، وجعل الحرص عليها بغير مصلحة شرعية تهمة يعاقب عليها بمنعه منها. والأدلة على هذا الشرط كثيرة منها: 1 - عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) (¬1). 2 - وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من قومي فقال أحد الرجلين: أَمِّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: ((إنا لا نُوَلِّي هذا من سأله ولا من حرص عليه)) (¬2). ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: (إذا رأيت الرجل يحرص على أن يؤَمَّر فأخِّرْه) (¬3) أما إذا كان في تقديم الإنسان نفسه مصلحة شرعية كأن يكون أهلاً لهذا المنصب فيموت الوالي ولا يوجد غيره، وخشي من التأخر الفتنة والضياع، فله أن يقدم نفسه بنية المصلحة الشرعية لا بنية الحرص عليها، قال الحافظ ابن حجر: (وهذا لا يخالف ما فرض في الحديث الذي قبله من الحصول بالطلب أو بغير طلب، بل في التعبير. بـ (حرص) إشارة إلى أن من قام بالأمر عند خشية الضياع يكون كمن أُعْطى بغير سؤال، لفقد الحرص غالبًا عمن هذا شأنه، وقد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه لكونه يصير واجبًا عليه) (¬4). ... هذا وقد سأل الولاية بعض الأنبياء المصطفين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما رأوا أنهم أكفأ من يقوم بها، ولخطورة ما يترتب عليها لو وضعت في يد غير أمينة، فهذا يوسف عليه السلام يقول للملك: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55] وهذا سليمان عليه السلام يسأل الله عز وجل الولاية فيقول: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي ... [ص: 35] الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي - بتصرف– ص 264 ¬

(¬1) [13018])) رواه البخاري (6622)، ومسلم (1652). (¬2) [13019])) رواه البخاري (3194). (¬3) [13020])) رواه ابن الجعد في مسنده (ص: 269). (¬4) [13021])) ((فتح الباري)) (13/ 126).

المبحث العاشر: القرشية

المبحث العاشر: القرشية هذا الشرط من الشروط التي وردت النصوص عليه صريحة وانعقد إجماع الصحابة والتابعين عليه، وأطبق عليه جماهير علماء المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا النزر اليسير من أهل البدع كالخوارج وبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، ... من هم قريش؟ قبيلة قريش هم أولاد قريش، واختلف النَّسَّابون في قريش هذا من هو؟ على عدة أقوال: الأول: قيل هو: النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. قال ابن هشام: (النضر قريش، فمن كان من ولده فهو: قرشي. ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي) (¬1). وإلى هذا القول ذهب بعض الشافعية (¬2)، ويدل على ذلك ما ذكره ابن إسحاق وغيره في قصة وفد كنده: ((أن الأشعث بن قيس قال: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار (¬3) فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث ... ثم قال لهم: لا. بل نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا (¬4) ولا ننتفي من أبينا، فقال الأشعث بن قيس: هل فرغتم يا معشر كندة؟ والله لا أسمع رجلاً يقولها إلا ضربته ثمانين)) (¬5). قال البغدادي: (وهذا اختيار أبي عبيدة معمر بن المثنى، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وبه قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه) (¬6) وهو قول ابن حزم (¬7) وابن منظور (¬8). وقول الحافظ ابن حجر (¬9) وابن قيم الجوزية (¬10) رحمهم الله تعالى. الثاني: أن قريشًا هو فهر بن مالك، قال الزبيري: (قالوا: اسم فهر بن مالك، قريش، ومن لم يلد فهر فليس من قريش) (¬11). وقال الزبيدي: (والصحيح عند أئمة النسب أن قريشًا هو: فهر بن مالك بن النضر، وهو: جماع قريش وهو: الجد الحادي عشر (¬12) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكل من لم يلده فليس بقرشي (¬13) قيل: اسمه فهر. ولقبه: قريش. وقيل: العكس، وقد روي عن نسابي العرب أنهم قالوا: من جاوز فهرًا فليس من قريش (¬14)، قال الزهري: (وهو الذي أدركت عليه من أدركت من نسابي العرب أن من جاوز فهرًا فليس من قريش) (¬15). ¬

(¬1) [13022])) ((سيرة ابن هشام)) (1/ 93). (¬2) [13023])) انظر: ((حاشية الجمل)) (7/ 784). (¬3) [13024])) المرار شجر من شجر البوادي، وآكل المرار هو: الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن كندة، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - جدة من كندة مذكورة وهي أم كلاب بن مرة وإياها أراد الأشعث. عن ((زاد المعاد)) (3/ 40). (¬4) [13025])) قفى أمه: أي رماها بالفجور، وانتفى من أبيه أي انتسب إلى غير أبيه. (¬5) [13026])) رواه ابن ماجه (2132)، وأحمد (5/ 211) (21888)، والطيالسي (2/ 222) (1145)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (1/ 23)، قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (2/ 186): إسناده جيد قوي، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬6) [13027])) ((أصول الدين)) (ص: 276)، ((الحاوي)) للماوردي (8/ 466)، ((روضة الطالبين)) للنووي (5/ 321). (¬7) [13028])) ((جمهرة أنساب العرب)) (ص: 12). (¬8) [13029])) انظر: مادة (قرش) من لسان العرب لابن منظور (6/ 334). (¬9) [13030])) ((فتح الباري)) (6/ 534). (¬10) [13031])) ((زاد المعاد)) (3/ 40). (¬11) [13032])) ((نسب قريش)) لابن المصعب الزبيري (ص: 12). (¬12) [13033])) لأن نسبه - صلى الله عليه وسلم - كالتالي: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ... إلخ. انظر: ((سيرة ابن هشام)) (1/ 1). (¬13) [13034])) ((إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين)) (2/ 30). (¬14) [13035])) ((شرح المواهب اللدنية)) للزرقاني (1/ 75). (¬15) [13036])) ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/ 40).

قال الشنقيطي: (فالفهري قرشي بلا نزاع، ومن كان من أولاد مالك بن النضر، أو أولاد النضر بن كنانة ففيه خلاف، ومن كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع) (¬1) ويدل على ذلك ما رواه واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بين هاشم)) (¬2). وهناك أقوال أخرى ضعيفة .... وسميت قريش قريشًا من التقرش، والتقرش التجارة والاكتساب، وقال ابن إسحاق: يقال سميت قريش قريشًا لتجمعها من بعد تفرقها (¬3)، قال الزبيدي: (وقد حكى بعضهم في تسمية فهر بقريش عشرين قولاً أوردتها في شرحي على (القاموس)) (¬4) وقيل غير ذلك (¬5). أدلة أهل السنة والجماعة على اشتراط القرشية قلنا: إن جماهير علماء المسلمين قاطبة ذهبوا إلى اشتراط هذا الشرط وحكى الإجماع عليه من قبل الصحابة والتابعين، وبه قال الأئمة الأربعة، فقال الإمام أحمد في رواية الإصطخري: (الخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم، ولا نقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة) (¬6) (وقد نص الشافعي رضي الله عنه على هذا في بعض كتبه (¬7)، وكذلك رواه زرقان عن أبي حنيفة) (¬8) وقال الإمام مالك: (ولا يكون - أي الإمام - إلا قرشيًا. وغيره لا حكم له إلا أن يدعوا إلى الإمام القرشي) (¬9) ولم يخالف في ذلك إلا النزر اليسير من الخوارج وبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، واستدل المثبتون بعدة أدلة صريحة صحيحة من السنة والإجماع فمن السنة ما يلي: 1 - ما رواه البخاري في صحيحه عن معاوية رضي الله تعالى عنه حيث قال البخاري: (باب الأمراء من قريش، حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية - وهم عنده في وفد من قريش - أن عبد الله بن عمرو يحدث ((أنه سيكون ملك من قحطان فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولئك جهالكم فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين)) (¬10). 2 - ومنها الحديث المتفق على صحته عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)) (¬11) قال الحافظ ابن حجر: (وليس المراد حقيقة العدد، وإنما المراد به انتفاء أن يكون الأمر في غير قريش) (¬12). ¬

(¬1) [13037])) ((أضواء البيان)) (1/ 52). (¬2) رواه مسلم (2276). (¬3) [13039])) ((سيرة ابن هشام)) (1/ 93، 94). وانظر: ((لسان العرب)) (6/ 334) مادة (قرش). (¬4) [13040])) انظر: ((تاج العروس)) (4/ 337). (¬5) [13041])) من شاء الاستزادة فليراجع ((نسب قريش)) لابن المصعب الزبيري (ص: 12)، و ((لسان العرب)) مادة (قرش) (6/ 335)، و ((فتح الباري)) (6/ 534). (¬6) [13042])) ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلي (1/ 26). (¬7) [13043])) ((الأم)) (1/ 143). (¬8) [13044])) ((أصول الدين)) (ص: 275). (¬9) [13045])) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/ 1721). (¬10) [13046])) رواه البخاري (3500). (¬11) [13047])) رواه البخاري (3501). (¬12) [13048])) فتح الباري (13/ 117).

3 - ومنها ما رواه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم)) (¬1). 4 - وفي مسند الإمام أحمد: ((أن أبا بكر وعمر لما ذهبا إلى سقيفة بني ساعدة حين اجتمع الأنصار لاختيار خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تكلَّم أبو بكر ولم يترك شيئًا أنزل في الأنصار وذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شأنهم إلا ذكره، وقال: ولقد علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا سلكت وادي الأنصار. ولقد علمت يا سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر فَبَرُّ الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم، فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء)) (¬2). وقد مرَّ معنا في الرواية الواردة في الصحيح ... في مبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه عند ذكره لهذا الحديث بمعناه لا بلفظه حيث قال: (ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) (¬3). (5) ومنها ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على باب البيت ونحن فيه فقال: الأئمة من قريش، إن لهم عليكم حقًا ولكم عليهم حقًا مثل ذلك، ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) (¬4). وقال ابن حزم: (وهذه رواية الأئمة من قريش. جاءت مجيء التواتر رواها أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومعاوية وروى جابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وعبادة بن الصامت معناها) (¬5). ... وأكثر من هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال: (قد جمعت طرقه عن نحو أربعين صحابيًا لما بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه لم يرد إلا عن أبي بكر الصديق) (¬6). إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب. ثانيًا الإجماع: أما الإجماع: فقد حكاه غير واحد من العلماء منهم: النووي حيث قال في شرحه لحديث: ((الناس تبع لقريش ... )) إلخ. الحديث: (هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة) (¬7). ¬

(¬1) [13049])) رواه البخاري (3495)، ومسلم (1818). (¬2) [13050])) رواه أحمد (1/ 5) (18). قال ابن تيمية في ((منهاج السنة)) (1/ 536): مرسل حسن، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 194): رواه أحمد - وفي الصحيح طرف من أوله - ورجاله ثقات إلا أن حميد بن عبد الرحمن لم يدرك أبا بكر، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)): رجاله ثقات إلا أن حميد بن عبد الرحمن لم يدرك أبا بكر وللحديث شاهد. (¬3) [13051])) جزء من حديث طويل رواه البخاري (6830). من حديث بن عباس رضي الله عنهما. (¬4) [13052])) رواه أحمد (3/ 129) (12329)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (3/ 467) (5942)، والطيالسي (ص: 284)، والطبراني (1/ 252) (725)، والبيهقي (8/ 134) (16318)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 186). وقال: إسناده جيد، والحديث صحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (483) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 195): رجال أحمد ثقات، وصححه العراقي في ((محجة القرب)) (189). (¬5) [13053])) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 89). (¬6) [13054])) ((فتح الباري)) (7/ 32). (¬7) [13055])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 200).

ومنهم القاضي عياض. فقد نقل عنه النووي قوله: (اشتراط كونه – أي الإمام - قرشيًا هو: مذهب العلماء كافة. قال: وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد، قال القاضي: وقد عدها العلماء في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا، وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار قال: ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه: يجوز كونه من غير قريش، ولا سخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من النبط وغيرهم يقدم على القرشي لهوان خلعه إن عرض منه أمر وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين والله أعلم) (¬1). وممن حكى هذا الإجماع أيضًا الماوردي (¬2)، والإيجي في (المواقف) (¬3)، وابن خلدون في (المقدمة) (¬4)، والغزالي في (فضائح الباطنية) (¬5) وغيرهم. ومن المحدثين الشيخ محمد رشيد رضا حيث قال: (أما الإجماع على اشتراط القرشية فقد ثبت بالنقل والفعل، رواه ثقات المحدثين، واستدل به المتكلمون وفقهاء مذاهب السنة كلهم، وجرى عليه العمل بتسليم الأنصار وإذعانهم لبني قريش، ثم إذعان السواد الأعظم من الأمة عدة قرون ... ) (¬6). ولكن الحافظ ابن حجر يعترض على هذا الإجماع بقوله: (قلت: ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: (إن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل ... الحديث). ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش فيحتمل أن يقال: لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًا، أو تغير اجتهاد عمر في ذلك والله أعلم) (¬7). القائلون بعدم اشتراط القرشية وأدلتهم أول من قال بعدم اشتراط القرشية الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه (إذ جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إمامًا) (¬8). وزعم ضرار بن عمرو - من شيوخ المعتزلة - أيضًا أن الإمامة تصلح في غير قريش (حتى إذا اجتمع قرشي ونبطي قدمنا النبطي إذ هو أقل عددًا وأضعف وسيلة فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة) (¬9) قال الشهرستاني: (والمعتزلة - أي جمهورهم - وإن جوزوا الإمامة في غير قرشي، إلا أنهم لا يجيزون تقديم النبطي على القرشي (¬10) وزعم الكعبي أن القرشي أولى بها من الذي يصلح لها من غير قريش، فإن خافوا الفتنة جاز عقدها لغيره) (¬11). ¬

(¬1) [13056])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 200). (¬2) [13057])) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 6). (¬3) [13058])) ((المواقف)) (ص: 398). (¬4) [13059])) ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 194). (¬5) [13060])) ((فضائح الباطنية)) (ص: 180). (¬6) [13061])) ((الخلافة أو الإمامة العظمي)) لرشيد رضا (ص: 19). (¬7) [13062])) ((فتح الباري)) (13/ 119). والواقع أنه لا يرجع إلى التأويل إلا إذا صح الخبر في مخالفة عمر للإجماع، ولكن هذا الأثر ضعيف لانقطاعه. (¬8) [13063])) ((الملل والنحل)) (1/ 116). (¬9) [13064])) ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 91). (¬10) [13065])) ((الملل والنحل)) (1/ 91). (¬11) [13066])) ((أصول الدين)) (ص: 275).

ومن الأشاعرة إمام الحرمين الجويني حيث مال إلى عدم اشتراطه، وزعم أنه من أخبار الآحاد وهو على مذهبه الباطل لا يحتج به في مثل هذه المسائل حيث قال: (وهذا مسلك لا أوثره، فإن نقلة هذا الحديث معدودون لا يبلغون مبلغ عدد التواتر والذي يوضح الحق في ذلك: أنا لا نجد في أنفسنا ثلج الصدور واليقين المثبوت بصدد هذا من فلق (¬1). في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد، فإذًا لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة) (¬2) وقال في كتابه (الإرشاد): (وهذا مما يخالف فيه بعض الناس، وللاحتمال فيه عندي مجال، والله أعلم بالصواب) (¬3). وقد اختلف قول أبي بكر الباقلاني، فاشترط القرشية في كتابه (الإنصاف) فقال: (ويجب أن يعلم أن الإمامة لا تصلح إلا لمن تجتمع فيه شرائط منها: أن يكون قرشيًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأئمة من قريش)) (¬4) ولم يشترطها في كتابه (التمهيد) حيث قال: (إن ظاهر الخبر لا يقضي بكونه قرشيًا، ولا العقل يوجبه) (¬5). وإلى نفي اشتراط القرشية ذهب أكثر الكتاب المحدثين منهم: الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية) وذهب إلى أن الأحاديث الواردة مجرد أخبار لا تفيد حكمًا (¬6)، ومنهم العقاد (¬7)، ومنهم د. علي حسني الخربوطلي في كتابه (الإسلام والخلافة) (¬8) وتجرأ على رمي الأحاديث المذكورة بالوضع، ومنهم د. صلاح الدين دبوس في كتابه (الخليفة توليته وعزله) وذهب إلى أن هذه الأحاديث مجرد أخبار (¬9)، ومنهم الأستاذ محمد المبارك رحمه الله وعفا عنه واعتبرها من باب السياسة الشرعية المتغيرة بتغير العوامل (¬10). واستدل من ذهب إلى نفي اشتراط القرشية بما يلي: 1 - بقول الأنصار يوم السقيفة (منا أمير ومنكم أمير) (¬11) قالوا: فلو لم يكن الأنصار يعرفون أنه يجوز أن يتولى الإمامة غير قرشي لما قالوا ذلك. 2 - ومن أدلتهم أيضًا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسوا الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) (¬12) فالحديث أوجب الطاعة لكل إمام وإن كان عبدًا، فدل على عدم اشتراط القرشية. ¬

(¬1) [13067])) الفلق: بيان الحق بعد إشكاله. (¬2) [13068])) ((غياث الأمم)) للجويني (ص: 163). (¬3) [13069])) ((الإرشاد إلى قواعد الأدلة في أصول الاعتقاد)) لأبي المعالي الجويني (ص: 427). (¬4) [13070])) ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 69). (¬5) [13071])) نقلاً عن الأستاذ عبد الوهاب عبد اللطيف في تعليقه على ((الصواعق المحرقة)) للهيتمي (ص: 9) ولم أقف على هذا الكلام في كتاب ((التمهيد)) لأن النسخة الموجودة المتداولة الآن من تحقيق جماعة من المستشرقين، وقد حذفوا كتاب ((الإمامة)) كاملاً، وقد نسب هذا الكلام إلى الباقلاني ابن خلدون أيضًا. انظر: ((المقدمة)) (ص: 194). (¬6) [13072])) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 90). (¬7) [13073])) ((الديمقراطية في الإسلام)) (ص: 69). (¬8) [13074])) ((الإسلام والخلافة)) (ص: 42). (¬9) [13075])) ((الخليفة توليته وعزله)) (ص: 270). (¬10) [13076])) ((نظام الإسلام في الحكم والدولة)) (ص: 71). (¬11) رواه البخاري (3667، و3668). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬12) رواه البخاري (7142).

3 - واستدلوا أيضًا بقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيّ استخلفته ... فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل) (¬1) والمعروف أن معاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش (¬2) فدل على الجواز. كما روي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: (لو أدركني أحد رجلين، ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح) (¬3). 4 - كما استنتجوا من قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه: (إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ... ) (¬4) أن هذا تعليل لطاعة العرب لهم فإذا تغير الحال تغير موضع الاختيار. 5 - ومنهم من قال: إن هذه الأحاديث التي يستدل بها أهل السنة إنما هي على سبيل الإخبار، وليس فيها أمر يجب امتثاله، ذهب إلى ذلك بعض الكتاب المحدثين كالشيخ محمد أبي زهرة (¬5) ود. صلاح الدين دبوس (¬6). وغيرهم. 6 - واستدلوا على ذلك أيضًا بقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] فجعل الأفضلية والإكرام بالتقوى لا بالمعايير الأخرى كالنسب ونحوه، بل وردت أحاديث تحذر من التفاخر بالأنساب والأحساب، وتنهى عن العصبية الجاهلية منها: أ- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم)) (¬7). ب- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أذهب عنكم عُبِّيَّة (¬8) الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي. أنتم بنو آدم، وآدم من تراب. ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن)) (¬9). مناقشة هذه الأدلة ¬

(¬1) [13079])) رواه أحمد (1/ 18) (108). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 127): رجاله ثقات. (¬2) [13080])) انظر: الإصابة لابن حجر (9/ 219). (¬3) [13081])) رواه أحمد (1/ 20) (129). من حديث أبي رافع رضي الله عنه. قال ابن كثير في ((مسند الفاروق)) (1/ 380): إسناده على شرط السنن وعلي بن زيد بن جدعان له غرائب وإفرادات ولكن له شاهد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 223): رواه أحمد وفيه علي بن زيد وحديثه حسن وفيه ضعف، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 80). (¬4) [13082])) رواه البخاري (6830) بلفظ: ((ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش)). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) [13083])) ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 90). (¬6) [13084])) ((الخليفة توليته وعزله)) (ص: 270). (¬7) [13085])) رواه مسلم (934). من حديث أبو مالك الأشعري رضي الله عنه. (¬8) [13086])) عُبِّيَّة الجاهلية: بضم العين المهملة وكسر الموحدة المشددة وفتح المثناة التحتية المشددة: أي: فخرها وتكبرها. قال الخطابي: العبية الكبر والنخوة، يريد بهذا القول ما كان عليه أهل الجاهلية من التفاخر بالأنساب والتباهي بها، وأصله مهموز من العبء وهو: الثقل وفيه لغة أخرى وهي: العبية بالكسر. انظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 190). (¬9) [13087])) رواه أبو داود (5116)، والترمذي (3955)، وأحمد (2/ 523) (10791)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 62). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن غريب، وحسن إسناده المنذري، وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 247): صحيح.

1 - أما استدلالهم بقول الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) (¬1) فواضح البطلان، وذلك لرجوعهم رضي الله عنهم عن هذا القول في تلك اللحظة بعد أن سمعوا النص الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه أبو بكر رضي الله تعالى عنه في قوله: ((ولقد علمت يا سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم. فقال له سعد: صدقت. نحن الوزراء وأنتم الأمراء)) (¬2). فيحتمل أنهم قالوا هذا القول قبل أن يعرفوا النص الذي يثبت الخلافة في قريش ولهذا رجعوا إلى رشدهم لما عرفوا الحقيقة. 2 - أما استدلالهم بأحاديث الأمر بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا، فقد سبق الجواب عليها مفصلاً وأن المراد إما إمامة المتغلب أو الإمارة الصغرى على بعض الولايات، أو لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة وضرَبَهُ مثلاً. 3 - أما استدلالهم بقول عمر في إرادته استخلاف معاذ بن جبل الأنصاري رضي الله تعالى عنه فهذا لم يتم، وإنما رشح عمر ستة قرشيين اختارهم وقال: (ليختاروا أحدهم)، وأيضًا لو ثبت ذلك فإن النص مقدَّم على قول الصحابي وإن بلغ من الفضل ما بلغ، ولعله اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه ثم تراجع عنه إلى النص، وقد أجاب الحافظ في (الفتح) (¬3) على هذا الاعتراض باحتمالين هما: أ- إما أن يكون الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًا. ب- وإما أن يكون قد تغير اجتهاد عمر في ذلك. ... وإما أن يريد من قوله ذلك الولاية الصغرى، أي: على أحد الأقاليم، وهذا لا يشترط فيه النسب اتفاقًا. هذا على افتراض صحة الحديث، وإلا فالحديث ضعيف لانقطاع سنده فلا يصلح للاحتجاج به. أما الحديث الثاني والذي فيه ذكر سالم مولى أبي حذيفة وأبي عبيدة فيحتمل إرادة التولية الصغرى أيضاً، أو أنه يعتبر قرشياً، لأن أبا حذيفة القرشي (¬4) قد تبناه وهو مولى له، ومولى القوم منهم، وقد أرضعته زوجه - وهو كبير - بعد تحريم التبني فأصبح ابنًا له، وقصة إرضاعه مشهورة وهي في صحيح مسلم وغيره، قال ابن عبد البر: (وهو يعد في قريش لما ذكرنا) (¬5) ويقصد قوله: (لأنه لما أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة تولى أبا حذيفة وتبناه أبو حذيفة، ولذلك عُدَّ في المهاجرين) (¬6) أما أبو عبيدة فقرشي باتفاق (¬7). 4 - أما استدلالهم بقول أبي بكر: (إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ... ) وقولهم بأن هذا تعليل لطاعة العرب لهم، فإذا تغير الحال تغير موضع الاختيار، هكذا عللوه، وهو تعليل بعيد، لأنه ظاهر في أحقية قريش بالخلافة فهو بحق دليل على اشتراط القرشية لا على نفيها، والنصوص التي ذكرت استدلال أبي بكر مبينة لهذا الظاهر، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بدليل تسليمهم بالطاعة لأبي بكر رضي الله عنه حينما بين لهم هذا الدليل ... والله أعلم. ¬

(¬1) رواه البخاري (3667، و3668). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) [13089])) رواه أحمد (1/ 5) (18). قال ابن تيمية في ((منهاج السنة)) (1/ 536): مرسل حسن، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 194): رواه أحمد - وفي الصحيح طرف من أوله - ورجاله ثقات إلا أن حميد بن عبد الرحمن لم يدرك أبا بكر، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)): رجاله ثقات إلا أن حميد بن عبد الرحمن لم يدرك أبا بكر وللحديث شاهد. (¬3) [13090])) ((فتح الباري)) (13/ 119). (¬4) [13091])) ((الإصابة)) (11/ 81). (¬5) [13092])) ((الاستيعاب)) (2/ 567). (¬6) [13093])) ((الاستيعاب)) (2/ 567). (¬7) [13094])) ((الإصابة)) (5/ 285).

5 - وأما من قال بأنها على سبيل الإخبار وليس فيها أمر فمردود، لأنها أمر في صيغة الخبر، وقد وردت بعض الأحاديث بالأمر الصريح كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((قدموا قريشًا ولا تقدموها)) (¬1) فهذا أمر منه - صلى الله عليه وسلم - بذلك. كما أنه لو كان إخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - لتحقق الخبر، وهو: أنه لن يتولى الخلافة إلا قرشي، لأن خبر الصادق لابد أن يتحقق، لكن الواقع غير ذلك، فقد تولى الخلافة غير القرشيين، منهم من يدعي كذبًا أنه قرشي كالعبيديين الذي تسموا بالفاطميين (¬2)، ومنهم: من لم يدع ذلك كسلاطين الدولة العثمانية، قال ابن حزم: (هذان الخبران - يقصد حديث ابن عمر، ومعاوية السابق ذكرهما - وإن كانا بلفظ الخبر فهما أمر صحيح مؤكد إذ لو جاز أن يوجد الأمر في غير قريش لكان تكذيبًا لخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا كفر ممن أجازه) (¬3). 6 - وأما ما قالوه من أن الإسلام نهى عن العصبية، وأن تسود طائفة معينة على سائر المسلمين وأنه جاء بالمساواة بين المسلمين جميعًا لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى ... إلخ. إن الإسلام باشتراطه أن يكون الإمام قرشيًا لم يكن بذلك داعيًا إلى العصبية القبلية التي نهى عنها في أكثر من موضع، فإن الإمام في نظر الإسلام ليس له أي مزية على سائر أفراد الأمة ولا لأسرته أدنى حق زائد على غيرهم، فالإمام وغيره من أفراد المسلمين سواء في نظر الإسلام، بل هو متحمل من التبعات والمسؤوليات ما يجعله من أشدَّ الناس حملاً وأثقلهم حسابًا يوم القيامة. وهذا وليس معنى أن الإسلام نهى عن العصبية أن الناس لا تفاضل بينهم، بل التفاضل بين الخلق في الدنيا من صميم الفطرة ووردت أدلة شرعية على ذلك. فجمهور العلماء (¬4) على أن جنس العرب خير من غيرهم، كما أن جنس قريش خير من غيرهم، قد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم – ((أنه سئل أي الناس أكرم؟ فقال: أتقاهم. فقالوا: ليس عن هذا نسألك، فقال: فيوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: أفعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) (¬5). وفي رواية: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) (¬6). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذهبت طائفة إلى عدم التفضيل بين الأجناس، وهذا قول طائفة من أهل الكلام: كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره ... وهذا القول يقال له مذهب الشعوبية وهو: قول ضعيف من أقوال أهل البدع) (¬7). وقال: (لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد فإن في غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار خير من أكثر قريش ... ). ¬

(¬1) رواه البزار (2/ 119)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (10/ 28). من حديث علي رضي الله عنه. وقال: روي من غير وجه وابن الفضل ليس بالحافظ، وأبو بكر بن أبي جهمة، وأبوه لا نعلمهما يحدثان إلا بهذا الحديث, وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه أبو معشر وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4384). (¬2) [13096])) انظر لكشف كذبهم وتبين أصلهم: ((تاريخ السيوطي)) (ص: 4). (¬3) [13097])) ((المحلى)) لابن حزم (10/ 503). (¬4) [13098])) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/ 29). (¬5) [13099])) رواه البخاري (3353)، ومسلم (2378). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) [13100])) رواه مسلم (2638). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) [13101])) ((منهاج السنة)) (2/ 260).

قال: (والمقصود أنه أرسل - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الثقلين الإنس والجن فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية، ولكن خص قريشًا بأن الإمامة فيهم، وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم، وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل، وجب أن تكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان، وليست الإمامة أمرًا شاملاً وإنما يتولاها واحد من الناس) (¬1). وقال شيخ الإسلام: (وإذا فرضنا اثنين أحدهما: أبوه نبي. والآخر: أبوه كافر. وتساويا في التقوى والطاعة من كل وجه كانت درجتهما في الجنة سواء، ولكن أحكام الدنيا بخلاف ذلك في: الإمامة، والزوجية، والشرف، وتحريم الصدقة ونحو ذلك ... ) قال: والخير في الأشراف أكثر منه في الأطراف (¬2). أما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة ومدح الله عز وجل للشخص المعين وكرامته عند الله وفضله فهذا لا يؤثر فيه النسب، وإنما المؤثر الوحيد هو التقوى والعمل الصالح، كما قال عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في فضل قريش على سائر القبائل (¬3) منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)) (¬4). فالحاصل أن هناك من ألغى فضيلة الأنساب مطلقًا، وهناك من يفضل الإنسان بنسبه على من هو أعظم منه في الإيمان والتقوى فضلاً عمن هو مثله. قال ابن تيمية: (فكلا القولين خطأ، وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية، فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد، والثاني يفضل به لأنه الحقيقة والغاية، ولأن كل من كان أتقى كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا، لأن الحقيقة قد وجدت فلم يعلق الحكم بالمظنة) (¬5). فالمقصود أن اشتراط القرشية في الإمام ليس له علاقة بالعصبية القبلية التي نهى الإسلام عنها ألبتة. كما أن النسب في حد ذاته في أصل الشريعة لا قيمة له ذاتية وإنما هو صفة كمال. هذا وأهل السنة لم يقصروها على نوع بعينه من قريش، وإنما كان من انتسب إلى قريش جازت له الإمامة إذا توفرت شروطها الأخرى، وهناك من المبتدعة من قصرها على فرع معين، فقصرها بعضهم على بني هاشم. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي- بتصرف – ص: 265 ¬

(¬1) [13102])) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 30). (¬2) [13103])) ((المنتقي من منهاج الاعتدال)) للذهبي (ص: 530). (¬3) [13104])) انظر: كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (2/ 632). (¬4) رواه مسلم (2276) بلفظ: ((ولد)) بدلاً من ((بني)). من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. (¬5) [13106])) ((منهاج السنة)) (2/ 261).

الفصل الرابع: واجبات الإمام

تمهيد حِمْلُ الإمامة ثقيل، وواجباتها كبيرة لا يستطيع القيام بها على وجهها الأكمل إلا أولو العزم من الرجال، لذلك كانت من أعظم القربات عند الله لمن احتسب القيام بها، وقصد التقرُّب إليه تعالى، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله ... )) وذكر منهم: ((إمام عادل ... )) (¬1). ومما يدل على ثقل هذا الحمل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له في الإمارة: ((إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيِّده وهو مسؤول عنه، ألا كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (¬3). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 234 ¬

(¬1) [13107])) رواه البخاري (660)، ومسلم (1031). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) [13108])) رواه مسلم (1825). (¬3) رواه البخاري (5200)، ومسلم (1829). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

المبحث الأول: الواجبات الأساسية

المبحث الأول: الواجبات الأساسية • المقصد الأول: إقامة الدين. • المقصد الثاني: سياسة الدنيا بهذا الدين.

المقصد الأول: إقامة الدين

المقصد الأول: إقامة الدين وتتمثل في: أولاً: حفظه وذلك بما يلي: 1 - نشره والدعوة إليه بالقلم واللسان والسنان. 2 - دفع الشبه والأباطيل ومحاربتها. 3 - حماية البيضة وتحصين الثغور حتى يكون المسلمون في أمن على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم. ثانيًا: تنفيذه وذلك بما يلي: 1 - إقامة شرائعه وحدوده وتنفيذ أحكامه: وذلك يشمل جباية الزكاة، وتقسيم الفيء، وتنظيم الجيوش المجاهدة لأجل رفع راية الإسلام، وإقامة قضاة الشرع للحكم بين الناس بما أنزل الله، وتنفيذ هذه الأحكام والحدود التي شرعها الله لعباده ... إلخ. 2 - حمل الناس عليه بالترغيب والترهيب.

المقصد الثاني: سياسة الدنيا بهذا الدين

المقصد الثاني: سياسة الدنيا بهذا الدين وهو: الحكم بما أنزل الله في جميع شؤون هذه الحياة، وينتج عن هذا المقصد بعض المقاصد الفرعية منها: 1 - العدل ورفع الظلم. 2 - جمع الكلمة وعدم الفرقة. 3 - القيام بعمارة الأرض واستغلال خيراتها فيما هو صالح للإسلام والمسلمين. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – بتصرف – ص 237

المبحث الثاني: واجبات فرعية

المبحث الثاني: واجبات فرعية بالإضافة إلى هذه الواجبات الرئيسة هناك بعض الواجبات اللازمة على الإِمام وإن لم يكن بعضها من الأهداف الرئيسة للإِمامة، وإنما هي وسائل إلى تحقيق هذه الأهداف، وبناء على القاعدة الأصولية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فهي واجبة على الإمام إذًا ... ومن هذه الواجبات ما يلي: أولاً: استيفاء الحقوق المالية لبيت المال وصرفها في مصارفها الشرعية: من واجبات الإمام ومسؤولياته الجسام استيفاء الحقوق المالية أو الموارد أو كما يقول أبو يعلى: (جباية الفيء، والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًا واجتهادًا من غير عسف) (¬1) وكذلك المصروفات والنفقات والعطاءات، وعلى حدِّ قول القاضي أبي يعلى: (تقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقصير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير) (¬2). موارد بيت المال: 1 - الزكاة: وهي: الركن الثاني من أركان الإسلام، ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، تجب على كل مسلم ومسلمة مَلَكَ نصابًا وحال عليه الحول فيما يشترط فيه ذلك. وقد حدّدت الشريعة الإسلامية نصاب كل صنف من أصناف الأموال المزكَّاة. وقد اتفق الصحابة على قتال مانعيها، وعلى هذا فمن أنكر وجوبها كفر، ومن منعها معتقدًا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها منه جبرًا وعزَّره على امتناعه، وإن كان خارجًا عن قبضة الإمام قاتله، كما فعل أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وقال قولته المشهورة: (والله لو منعوني عقالاً - وفي رواية عناقًا - كانوا يُؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه) (¬3). وهي ليست حقًا موكولاً للأفراد يؤديه منهم من شاء ويدعه من أراد، وإنما هي حق عام يتولاه الإمام وولاته فيقومون بجبايته ممن تجب عليه، ويصرفونه إلى من تجب له. والأدلة على ذلك كثيرة منها: 1 - قول الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]. فالشاهد من الآية قوله: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا قال الفخر الرازي في تفسيره: (دلت هذه الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها الإمام ومن يلي من قِبَله، والدليل عليه أن الله جعل للعاملين سهمًا فيها، وهذا يدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل، والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات فدلّ هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ الزكوات) (¬4). كما يدلّ ذلك أيضًا أن بعض المصارف المذكورة لا يمكن أن يصرفها إلا الإمام، مثل مصرف المؤلَّفة قلوبهم، فهذا لا يقوم به إلا الإمام، فدلّ على استحقاق دفعها إليه. ومثل إعداد العدَّة والعُدَدِ للجهاد في سبيل الله فلا يمكن تنظيم ذلك إلا بتصرف الإمام. 2 - قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة: 103]. فالخطاب في قوله خُذْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكل من يلي أمر المسلمين من بعده كما فهم الصحابة رضوان الله عليهم بذلك (¬5). ¬

(¬1) [13110])) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 28). (¬2) [13111])) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 28). (¬3) [13112])) رواه البخاري (7284)، ومسلم (20). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) [13113])) ((التفسير الكبير)) للرازي (16/ 114). (¬5) [13114])) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 145).

3 - ومنها ما رواه ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعث معاذًا إلى اليمن قال له: (( ... أعْلِمْهُم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم ... )) الحديث (¬1). والشاهد من الحديث قوله: ((تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم)) فبين الحديث أن الشأن فيها أن يأخذها ويردها رادٌّ، لا أن تترك لاختيار من وجبت عليه (¬2). قال الحافظ ابن حجر: (استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها، إما بنفسه وإما بنائبه فمن امتنع منهم أخذت منه قهرًا) (¬3). ومعروف في السيرة النبوية والتاريخ سعاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين بعثهم إلى الأمصار، وكذلك سار على نهجه خلفاؤه من بعد. وللصحابة فتاوى كثيرة في هذا الموضوع (¬4)، ولهذا قال العلماء: (يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة، ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه فيه، ومنهم من يبخل فوجب أن يبعث من يأخذ ... ) (¬5). الحكمة في دفعها للإمام: ولقيام الإمام بجمعها ثم توزيعها دون قيام المالك بتوزيعها بنفسه على مستحقيها حكم كثيرة منها: 1 - أن كثيرًا من الأفراد قد تموت ضمائرهم أو يصيبها السقم والهزال فلا ضمان للفقير إذا ترك حقه لمثل هؤلاء. 2 - في أخذ الفقير حقه من الحكومة لا من الغني نفسه حفظ لكرامته، وصيانة لماء وجهه أن يراق بالسؤال، ورعاية لمشاعره أن يجرحها المنُّ والأذى. 3 - أن ترك الأمر للأفراد يجعل التوزيع فوضى فقد ينتبه أكثر من غني لإعطاء فقير واحد، على حين يغفل عن آخر لا يفطن له أحد، وربما كان أشدُّ فقرًا (¬6). كل ما سبق يدل على أن على الإمام أن يطلب الزكاة ويجبيها من أصحابها، ثم يقوم بتوزيعها على مستحقيها الذين ذكرتهم الآية السابقة. وعلى الأمة أن تدفعها إليه أو إلى عماله الذين يرسلهم لجبايتها. دفعها إلى أئمة الجور: الواقع أننا عند استعراض الأدلة والفتاوى والنصوص الواردة في المسألة نجد منها ما يوجب الدفع ومنها ما يمنع ذلك، فلنستعرضها ونرى الراجح منها: الأدلة الموجبة لدفع الزكاة لأئمة الجور: 1 - عن جرير بن عبد الله قال: ((جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن أناسًا من المصدقين (جباة الصدقة) يأتوننا فيظلموننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرضوا مصدقيكم)) (¬7). 2 - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ((أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أدَّيت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ قال: نعم. إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله، ولك أجرها وإثمها على من بدَّلها)) (¬8). 3 - كما يدلّ على ذلك فتاوى الصحابة والتابعين، وكلام الفقهاء من ذلك: ¬

(¬1) رواه البخاري (1496)، ومسلم (19) (29). (¬2) [13116])) ((فقه الزكاة)) للقرضاوي (2/ 749). (¬3) [13117])) ((فتح الباري)) (3/ 360). (¬4) [13118])) انظر: ((فقه الزكاة)) للقرضاوي (2/ 754). (¬5) [13119])) ((المجموع)) (6/ 167) و ((روضة الطالبين)) النووي (2/ 210). (¬6) [13120])) انظر: ((فقه الزكاة)) للقرضاوي (2/ 756). (¬7) [13121])) رواه مسلم (989). (¬8) [13122])) رواه أحمد (3/ 136) (12417)، والطبراني في ((الأوسط)) (8/ 338) (8802). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 66): رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، وقال الوادعي في ((أحاديث معلة)) (41): رجاله رجال الصحيح، ولكن في ((تهذيب التهذيب)) أن رواية سعيد بن أبي هلال عن أنس مرسلة.

أ- ما روي عن سهل بن أبي صالح عن أبيه قال: (اجتمع عندي نفقة فيها صدقة - يعني بلغت نصاب الزكاة - فسألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري أن أقسمها أو أدفعها إلى السلطان؟ فأمروني جميعًا أن أدفعها إلى السلطان، ما اختلف علي منهم أحد). وفي رواية فقلت لهم: (هذا السلطان يفعل ما ترون - كان هذا في عهد بني أمية - فأدفع إليهم زكاتي؟ فقالوا كلهم: نعم فادفعها) (¬1). ب- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ادفعوا صدقاتكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها) (¬2). وفي رواية عن قزعة مولى زياد بن أبيه أن ابن عمر قال: (ادفعوا إليهم وإن شربوا بها الخمر) (¬3). جـ- وعن المغيرة بن شعبة أنه قال لمولى له - وهو على أمواله بالطائف - (كيف تصنع في صدقة مالي؟ قال: منها ما أتصدق به، ومنها ما أدفع إلى السلطان، قال: وفيم أنت من ذلك؟ - أنكر عليه أن يفرقها بنفسه - فقال: إنهم يشترون بها الأرض ويتزوجون بها النساء. فقال: ادفعها إليهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن ندفعها إليهم) (¬4). قال ابن قدامة: (روي عن الإمام أحمد أنه قال: قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب، ويشربون بها الخمور، قال: ادفعها إليهم، قال: وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى من جاءه من سعاة ابن الزبير أو نجدة الحروري) (¬5) من الخوارج. د- أما أقوال الفقهاء: فللشافعية في دفع الأموال الظاهرة إلى الإمام الجائر وجهان. أحدهما: يجوز، ولا يجب. قال النووي: (وأصحها يجب الصرف إليه لنفاذ حكمه وعدم انعزاله) (¬6). أما الحنابلة فقد قال ابن قدامة في المغني: (لا يختلف المذهب أن دفعها إلى الإمام جائز سواء كان عادلاً أو غير عادل، وسواء كانت في الأموال الظاهرة أو الباطنة ويبرأ بدفعها إليه) (¬7). القائلون بعدم جواز دفعها إلى أئمة الجور: وفي المقابل نجد من الصحابة والتابعين والفقهاء من أفتى بعدم جواز دفعها إلى أئمة الجور إذا علم أنهم لا يضعونها في مواضعها فمنهم: 1 - يروى رجوع ابن عمر عن فتاواه السابقة وإفتاؤه بعدم دفعها إليهم يدل على ذلك: أ- ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن أبيه إلى خيثمة قال: سألت ابن عمر عن الزكاة؟ فقال: (ادفعها إليهم)، وسألته مرة أخرى فقال: (لا تدفعها إليهم، فقد أضاعوا الصلاة) (¬8). ب- وروى أبو عبيدة بسنده عن ميمون قال: إن صديقًا لابن عمر أخبرني أنه قال لابن عمر: ما ترى في الزكاة فإن هؤلاء لا يضعونها مواضعها؟ فقال: ادفعها إليهم قال: فقلت: أرأيت لو أخَّروا الصلاة عن وقتها أكنت تصلي معهم؟ قال: لا، قال فقلت: هل الصلاة إلا مثل الزكاة؟ فقال: (لبَّسوا علينا لبَّس الله عليهم) (¬9). ¬

(¬1) [13123])) رواه البيهقي (4/ 115) (7635)، وابن أبي شيبة (3/ 46). قال البيهقي: وروينا فى هذا أيضاً عن أبى هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم، وصححه الألباني في ((مشكلة الفقر)) (72). (¬2) [13124])) رواه البيهقي (4/ 115) (7631)، وابن أبي شيبة (3/ 47). قال النووي في ((المجموع)) (4/ 146): إسناده صحيح أو حسن، وصححه الألباني في ((مشكلة الفقر)) (73). (¬3) [13125])) رواه البيهقي (4/ 115) (7633). قال النووي في ((المجموع)) (4/ 164): إسناده صحيح أو حسن. (¬4) [13126])) رواه البيهقي (4/ 115) (7630). قال النووي في ((المجموع)) (2/ 162): إسناده فيه ضعف، وضعفه الألباني في ((مشكلة الفقر)) (74). (¬5) [13127])) ((المغني)) (2/ 505). (¬6) [13128])) ((المجموع)) (6/ 107). (¬7) [13129])) ((المغني)) (2/ 505). (¬8) [13130])) ((مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله)) (ص: 152). (¬9) [13131])) ((الأموال)) لأبي عبيد (ص: 508).

جـ- وروى أبو عبيد بسنده إلى حبان بن أبي جبلة عن ابن عمر أنه رجع عن قوله في دفع الزكاة إلى السلطان وقال: (ضعوها في مواضعها) (¬1). 2 - وقال الثوري: (احْلِفْ لهم واكْذبهم ولا تُعْطِهم شيئًا إذا لم يضعوها مواضعها) وقال: (لا تعطهم) (¬2). 3 - وقال عطاء: (اعطهم إذا وضعوها مواضعها) فمفهومه كما قال ابن قدامة: (أنه لا يعطيهم إذا لم يكونوا كذلك) (¬3). 4 - وقال الشعبي وأبو جعفر: (إذا رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة). 5 - وقال إبراهيم: (ضعوها في مواضعها فإن أخذها السلطان أجزأك) (¬4). وروي عنه قوله: (لا تؤدوا الزكاة لمن يجور فيها) (¬5). 6 - ومن أقوال الفقهاء ما ذهب إليه البهوتي بقوله: (وإن لم يكن يضعها أي الإمام - مواضعها (حَرُم) دفعها (ويجوز) وعبارة الأحكام السلطانية وكثير من النسخ ويجب (كتمها إذن) وهذا قول القاضي في الأحكام السلطانية) (¬6). القول الراجح: وعند النظر في هذه الأدلة يتضح رجحان قول القائلين بجواز دفع الزكاة إلى سلاطين الجور وإجزائها إذا طلبوها وخيفت الفتنة عملاً بالأحاديث المذكورة وبعموم الأحاديث الموجبة لطاعتهم وإن جاروا، وأنَّ عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حملتم، وأدّوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم. ونحوها ... وقد روي عن بشير بن الخصاصية قال: ((قلنا: يا رسول الله إن قومًا من أصحاب الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال: لا)) (¬7). أمَّا إذا لم يُلِحُّوا في طلبها وأُمِنَتْ الفتنة، أو أمكن إخفاؤها، فعلى صاحبها تحرِّي الأحق بها من أهلها ودفعها إليه ... والله أعلم. (2) الجزية: المورد الثاني من موارد بيت مال المسلمين هو الجزية. وهي: المال المقدر المأخوذ من الذمي، يلتزم إذا ما دخل في ذمة المسلمين بأدائها إلى الدولة الإسلامية إذا أحبَّ البقاء على دينه. قال تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] وتسقط الجزية بعد وجوبها إذا أسلم الذمي، أو عجزت الدولة عن حمايتهم، ولهذا ردّ أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه الجزية إلى الذميين في بعض مدن الشام عند عجز الجيش الإسلامي عن حمايتهم. ولا تجب الجزية في السنة إلا مرة واحدة (¬8). (3) الخراج: ¬

(¬1) [13132])) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 505). (¬2) [13133])) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 505). (¬3) [13134])) ((المغني)) (2/ 505). وانظر: ((موسوعة إبراهيم النخعي الفقهية)). د. محمد رواس قلعجي الكتاب الثاني (ص: 318). (¬4) [13135])) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 505). (¬5) [13136])) مصنف عبد الرزاق (4/ 48). (¬6) [13137])) ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 302). (¬7) [13138])) رواه أبو داود (1586) وسكت عنه، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 251) كما قال هذا في المقدمة. (¬8) [13139])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 165).

وهو ما ضُرب على أراضي الكفار المغنومة عنوة التي تركت بيد أصحابها، وأول من فعل ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ فرض على أرض العراق الخراج وتركها بيد أصحابها بعد مشاورة منه للصحابة رضي الله عنهم وموافقتهم له على رأيه، وأما قدر الخراج المضروب فيعتبر بما تحتمله الأرض (¬1) نصَّ عليه أحمد في رواية محمد بن داود وقد سئل عن حديث عمر: (وضع على جَرِيب (¬2) الكَرْمِ كذا وعلى جريب كذا كذا) هو شيء موصوف على الناس لا يزاد عليه أو عن رأى الإمام غير هذا زاد ونقص؟ قال بل هو على رأي الإمام إن شاء زاد وإن شاء نقص. وقال هو بَيِّن في حديث عمر: (إن زدت عليهم كذا ألا يجهدهم؟) إنما نظر عمر إلى ما تطيق الأرض) (¬3). (4) العشور: وهي ضريبة تؤخذ من الذميين والمستأمنين على أموالهم المعدَّة للتجارة إذا دخلوا بلاد المسلمين، ومقدارها نصف العشر على الذمي، والعشر على الحربي، لأنهم يأخذون على تجّار المسلمين مثله إذا قدموا بلادهم (¬4) أما الذميون فلأنهم صولحوا على ذلك، قاله أبو عبيد ومالك بن أنس (¬5) وقد روى أبو عبيد بإسناده إلى الشعبي قال: (أول من وضع العشر في الإسلام عمر) (¬6). ويشترط فيه النصاب كما ذهب إلى ذلك الحنابلة (¬7) والحنفية (¬8)، أما مالك فلم يشترط ذلك (¬9). (5) الغنائم: الغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار بالقتال. وقد سمّاها الله تعالى أنفالاً لأنها زيادة في أموال المسلمين (¬10) وهي: أربعة أصناف: أسرى، وسبي، وأرضون، وأموال منقولة، وهذه هي الغنائم المألوفة. (6) الفيء: وهو كل ما أخذه المسلمون من الكفار بغير قتال، قال الله تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر: 6]. وسُمِّي فيئًا لأن الله تعالى أفاءه على المسلمين، أي ردّه عليهم من الكفار لـ (أن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته، لعباده المؤمنين الذين يعبدونه) (¬11). (7) الموارد الأخرى: ¬

(¬1) [13140])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 145). (¬2) [13141])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 148). (¬3) [13142])) الجريب لغة: الوادي، واستعير ليكون اسمًا لمساحة مربعة من الأرض، فهو وحدة قياس مربعة أو مكَسَّرة، وهو أيضًا وحدة كيل كبيرة ومساحة الجريب العُمَرية تعادل (1366.0416 م 2). انظر: ((الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان)) لابن الرفعة الأنصاري (ص: 80 - 81)، أما جريب الكيل فيعادل (10448) غرامًا من القمح. انظر: ((الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان)) (ص: 87) والمراد هنا وحدة المساحة. (¬4) [13143])) ((الأموال)) لأبي عبيد (ص: 473) (¬5) [13144])) ((الأموال)) لأبي عبيد (ص: 467). (¬6) [13145])) ((الأموال)) لأبي عبيد (ص: 467). (¬7) [13146])) ((المغني)) (10/ 589). (¬8) [13147])) ((بدائع الصنائع)) (2/ 36). (¬9) [13148])) ((الأموال)) (ص: 478). (¬10) [13149])) ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص: 32). (¬11) [13150])) ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص: 40).

ومن موارد بيت المال الأموال التي ليس لها مالك مُعًيَّن مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معيَّن، وكالغصوب، والعواري، والودائع. التي تعذَّر معرفة أصحابها، والأراضي التي تستغلُّها الدولة أو تؤجرها، والمعادن التي تستخرجها الدولة من باطن الأرض، وخمس الركاز. وهي: المعادن المستخرجة من باطن الأرض، كالذهب والفضة والنحاس والملح ونحوها ... أما إذا استخرجتها الدولة فهي لبيت مال المسلمين. ومنها ما يفرضه الإمام على الأغنياء عند الضرورة وعجز بيت المال لصرفه على شؤون الدولة والرعية الضرورية مثل نفقات الجند والسلاح وسد حاجات المحتاجين ونحو ذلك. مصارف بيت المال: 1 - الزكاة: وتصرف لمن سمّاهم الله في كتابه في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]. ولا يجوز صرفها لغير هؤلاء الثمانية، ولا إلى بني هاشم ولا لمواليهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)) (¬1). أما بنو المطلب ففيهم روايتان عن الإمام أحمد بالمنع وبالجواز (¬2)، وإلى الجواز ذهب أبو حنيفة (¬3)، واستدل المانعون بحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنا وبنوا المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيءٌ واحد)) (¬4). قال ابن حزم: (فصحَّ أنه لا يجوز أن يُفَرَّق بين حكمهم في شيءٍ أصلاً، لأنَّهم شيءُ واحد بنصِّ كلامه عليه الصلاة والسلام، فصحّ أنهم آل محمد، وإذا هم آل محمد فالصدقة عليهم حرام) (¬5). 2 - الجزية والخراج والعشور ونحوها: فهذه تُدخَل إلى بيت مال المسلمين، وتصرف في العطاءات والنفقات المستحقة ومصروفات بيت المال الأخرى على حسب ما يراه الإمام. ونحوها موارد بيت المال الخاصة بالدولة كالأراضي المؤجرة والأموال التي لا صاحب لها ونحو ذلك. 3 - الغنائم: وهذه تصرف كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ... [الأنفال: 1]. وقوله: وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... الآية [الأنفال: 41]. فالواجب في المغنم تخميسه، وصرف الخُمس إلى من ذكره الله تعالى، وقسمة الباقي بين الغانمين، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (الغنيمة لمن شهد الوقعة، وهم الذين شهدوها للقتال سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا) (¬6). ¬

(¬1) [13151])) رواه مسلم (1072) ولفظه: (( .... إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس إنها لاتحل لمحمد ولا لآل محمد ... )). (¬2) [13152])) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 517 - 518)، ((الفروع)) لابن مفلح (2/ 481). (¬3) [13153])) ((المبسوط)) للسرخسي (10/ 12)، و ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/ 49). (¬4) [13154])) رواه أبو داود (2980)، وسكت عنه، وقال ابن حزم في ((المحلى)) (3/ 327): إسناده في غاية الصحة، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (582) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 89) كم قال ذلك في المقدمة. (¬5) [13155])) ((المحلى)) لابن حزم (6/ 210). (¬6) [13156])) ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص: 33).

ويجب قسمها بالعدل، فلا يحابى أحد لا لرياسة، ولا لجاه، ولا لفضل، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده. ففي (صحيح البخاري) أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى له فضلاً على من دونه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تُنْصَرون وترزقون إلا بضعفائكم)) (¬1) والعدل في القسمة أن يقُسم للرجل سهم وللفرس سهمان، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر (¬2). أما إن رأى الإمام أن في تفضيل بعض المجاهدين على بعض مصلحة دينية يعلمها هو، لا لهوى النفس، فله ذلك كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة (¬3). 4 - الفيء: وهذا يقسم على من ذكرهم الله في سورة الحشر قال تعالى: مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ] الحشر: 7 - 10 [.] وعن عمر بن الخطاب رضي الله قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه من خيل ولا ركاب، فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكان ينفق على أهله نفقة سنته). وفي لفظ: (يحبس لأهله قوت سنتهم ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله) (¬4). وعلى هذا فيصرف الفيء بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع مصالح المسلمين، ومنها الإنفاق على ذوي الحاجات ودفع الأرزاق للجند والعلماء والقضاة وسائر موظفي الدولة، كما يعطى منه إلى عموم المسلمين، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم في سيرتهم وهديهم، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدًا مملوكًا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى وقسمنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته) (¬5). ¬

(¬1) [13157])) رواه البخاري (2896). (¬2) [13158])) الحديث رواه ابن ماجه (2321)، وابن حبان (11/ 139) (4810). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) [13159])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 35). (¬4) [13160])) رواه البخاري (2904). (¬5) [13161])) رواه أبو داود (2950)، وأحمد (1/ 42) (292). من حديث مالك بن أوس. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 106) كما قال ذلك في المقدمة، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 149).

وقد روي عنه أيضًا: (والله لئن بقيت لهم إلى قابل ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظَّه من هذا المال وهو يرعى مكانه) (¬1). ويفهم من هذا كله أن عموم المسلمين لهم نصيب من مال الفيء، فيعطون منه بعد سد النفقات الضرورية للدولة. 5 - ويلحق بالفيء ويكون مصرفه مصرف الفيء الأموال التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمين وليس له وارث، وكالغصوب، والعواري، والودائع وغير ذلك من أموال المسلمين التي تعذر معرفة أصحابها (¬2)، أو التي لا صاحب لها. وجوه صرف الأموال: الواجب على الإمام عند صرف الأموال أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، كعطاء من يحصل للمسلمين منهم منفعة عامة أو المحتاجين فمن هؤلاء: 1 - المقاتلة: وهم أهل النصرة والجهاد، وهم أحق الناس بالفيء، فإنه لا يحصل إلا بهم، حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء هل هو مختص بهم أو مشترك في جميع المصالح؟ (¬3) وكذلك إذا قتل أو مات من المقاتلة فإنه ترزق امرأته وأولاده الصغار حتى يكبروا (¬4). 2 - ذوو الولايات كالولاة والقضاة والعلماء والسعاة على المال جمعًا وحفظًا وقسمةً، وجميع القائمين على مصالح المسلمين. 3 - كذلك يصرف في الأثمان والأجور لما يعم نفعه من سداد الثغور بالكراع والسلاح، وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس كالجسور والقناطر وطرقات المياه والأنهار ونحو ذلك. 4 - ومن المستحقين ذوو الحاجات: فإن الفقهاء قد اختلفوا هل يقدَّمون في غير الصدقات من الفيء ونحوه - على غيرهم؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره منهم من قال يقدَّمون، ومنهم من قال: المال استحق بالإسلام، فيشتركون فيه كما يشترك الورثة في الميراث، قال ابن تيمية: (والصحيح أنهم يقدَّمون، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقدِّم ذوي الحاجات كما قدَّمهم في مال بني النضير، وقال عمر رضي الله عنه: ليس أحد أحق بهذا المال من أحد ... ) (¬5). وذكر كلام عمر الآنف الذكر. 5 - كما يجوز - بل يجب - الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه، وإن كان لا يحل له أخذ ذلك، كما خصَّص الله في القرآن نصيبًا للمؤلفة قلوبهم من الصدقات، وكما كان يعطيهم - صلى الله عليه وسلم - من الفيء ونحوه فقد أعطى الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن الفزاري، وعلقمة العامري، وزيد الخير الطائي وقال: ((إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم)) (¬6). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا النوع من العطاء وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك فالأعمال بالنيات، فإذا كان القصد بذلك مصلحة الدين وأهله، كان من جنس عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وإن كان المقصود العلو في الأرض والفساد كان من جنس عطاء فرعون .. ) (¬7) ¬

(¬1) [13162])) رواه أحمد (1/ 42) (292). من حديث مالك بن أوس. وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 149). (¬2) [13163])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 62). (¬3) [13164])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 74). (¬4) [13165])) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 586). (¬5) [13166])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 51). (¬6) [13167])) رواه مسلم (1064). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬7) [13168])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 55).

أما عن حقوق العاملين في الدولة فعلى الدولة تأمين الزواج للموظف والمسكن والخادم والمركب، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناده إلى جبير بن نفير عن المستورد بن شداد قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادمًا، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنًا، قال: قال أبو بكر: أخبرتُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من اتخذ غير ذلك فهو غالّ أو سارق)) (¬1). وكذلك من مات وعليه دين، وليس له مال يفي بدينه، أو له أولاد قُصَّر فإن الإمام يؤدي ما عليه من دين من بيت مال المسلمين، كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاًّ فعلينا)) (¬2) وفي رواية عن جابر بن عبد الله: ((أنا أولى بكُلِّ مؤمن من نفسه فأيّما رجل مات وترك دينًا فإليّ، ومن ترك مالاً فلورثته)) (¬3). ومن واجبات الإمام بالإضافة إلى ما سبق: ثانيًا: اختيار الأكفاء للمناصب القيادية: نظرًا لثقل الأعباء المنوطة بالإمام فإنه لا يستطيع وحده القيام بتدبيرها جميعًا، ولذلك كان لابد له من ولاة ومعاونين يقومون وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه)) (¬4). وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله لم يبعث نبيًا إلا وله بطانتان. بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)) (¬5). ويدخل في الحكم الوزراء والبطانة جميع الولاة الذين يقوم بتوليتهم، كالقضاة، وولاة الحرب، والحسبة، والمال. وغيرهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل) (¬6). ¬

(¬1) [13169])) رواه أبو داود (2945)، والطبراني (20/ 305) (17483)، والحاكم (1/ 563). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (497) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 484) كما قال ذلك في المقدمة. (¬2) [13170])) رواه البخاري (2398) بلفظ: ((فإلينا)) بدلاً من ((فعلينا)). (¬3) [13171])) رواه مسلم (867) بلفظ: ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله. ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي)). (¬4) [13172])) رواه أبو داود (2932)، وأحمد (6/ 70) (24459)، وأبو يعلى (7/ 416) (4439)، وابن حبان (10/ 345) (4494)، والبيهقي (10/ 111) (20816). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (487) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال النووي في ((رياض الصالحين)) (ص: 278): إسناده جيد على شرط مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 469) كما قال ذلك في المقدمة. (¬5) [13173])) رواه الترمذي (2369)، وأحمد (2/ 289) (7874)، والحاكم (4/ 145)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 144). قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (487) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬6) [13174])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 6).

كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله)) (¬1). وفي رواية: ((من قلد رجلاً عملاً على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين)) (¬2). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين) (¬3) فليس على الإمام إلا أن يستعمل أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام وأخذه الولاية بحقها، فقد أدى الأمانة وقام بالواجب في هذا وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله. هذا وابن تيمية - رحمه الله - لم يقصر واجب ولي الأمر على تولية الأصلح فقط، بل تعدَّى ذلك إلى وجوب الإعداد والتأهيل ليتوفر لأعمال الدولة من يتولاها من القادرين على القيام بها، حيث يقول: (ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال، حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم من أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يُطلب منه إلا ما يقدر عليه .. ) (¬4) فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية ونحو ذلك، أو لرشوة يأخذها من مال أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] لذلك تعتبر تولية الولاة والاستعانة بالأعوان مسؤولية جسيمة يجب أن لا تسلَّم إلا لأربابها الذين يقْدِرون عليها، وإنها من أعظم الأمانات، ومن أخطر الأمور توسيدها لغير أهلها، بل ذلك من علامات الساعة، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا ضُيِّعَت الأمانة، انتظر الساعة. قيل: يا رسول الله وما إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) (¬5). ¬

(¬1) [13175])) رواه الطبراني (11/ 114) (11238)، والبيهقي (10/ 118) (20861) ولفظ الطبراني: ((ومن تولى من أمر المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلا وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله وسنة رسوله فقد خان الله ورسوله)). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 214): رواه الطبراني وفيه أبو محمد الجزري حمزة ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬2) [13176])) رواه الحاكم (4/ 104) بلفظ: ((من استعمل رجلا من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين)) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬3) [13177])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 7). (¬4) [13178])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 21). (¬5) [13179])) رواه البخاري (59).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... )) الحديث (¬1). وروي عن عمران بن سُليم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((من استعمل فاجرًا وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)) (¬2). محاسبتهم: هذا مع أن من واجب الإمام حسن اختيار ولاته والتدقيق والتحري في ذلك، فإن عليه أيضًا تتبُّع أخبارهم، ومحاسبتهم على كلِّ صغيرة وكبيرة، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي حميد الساعدي ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل ابن اللتبية - وفي رواية الأتبية - على صدقات بني سُليم، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاسبه قال: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهلا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا؟ ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي. فهلاّ جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا؟ فوالله لا يأخذ أحدكم منها شيئًا - قال هشام: بغير حقه - إلا جاء الله يحمله يوم القيامة. ألا فَلأَعْرِفَنَّ ما جاء الله رجلٌ ببعير له رغاء، أو ببقرة لها خوار، أو شاة تَيْعَر (¬3) - ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه - ألا هل بلغت؟)) (¬4). وعن الأحنف بن قيس - وكان أحد ولاة عمر رضي الله عنه - قال: (قدمت على عمر بن الخطاب رضوان الله عليه فاحتبسني عنده حولاً، فقال: يا أحنف قد بلوتك وخبرتك، فرأيت أن علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، وإنَّا كنا لنُحَدَّث: إنما يهلك هذه الأمة كلُّ منافق عليم) (¬5). ثالثًا: الإشراف بنفسه على تدبير الأمور وتفقُّد أحوال الرعية: أن الإمام هو المسؤول الأول عن كل صغيرة وكبيرة في الدولة، ومع أنه يُشْرَع له اتخاذ الوزراء والأعوان على تدبير الأمور، إلا أنه يجب عليه أن يشرف بنفسه على هؤلاء الوزراء والأعوان، وأن لا يتَّكل عليهم، فعليه أيضًا أن يقوم بالإشراف على أحوال الرعية ويتفقد أحوالهم، وأن لا يحتجب عنهم حتى يعرف أوضاعهم، فيعين محتاجهم، وينصر مظلومهم، ويقمع ظالمهم، قال أبو يعلى في تعداده لواجبات الإمام: (العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، ليهتمَّ بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغشُّ الناصح، وقد قال تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى [ص: 26] فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (¬6).) (¬7). ¬

(¬1) [13180])) رواه البخاري (893) ومسلم (1829) , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) [13181])) ((مناقب عمر)) لابن الجوزي (ص: 78). وقد عزاه السيوطي في ((جامع الأحاديث)) (31475) إلى ((المداراة)) وقال: ولا يحضرني اسم مخرج إلا أنه قديم يكثر الرواية فيه عن أبي خيثمة. انظر: ((كنز العمال)) (5/ 761) (14306). (¬3) [13182])) شاة تيعر: أي: تصيح. واليعار صوت الغنم. وقيل: صوت المعزى، وقيل هو: الشديد من أصوات الشاء. ((لسان العرب)) (5/ 301) مادة (يَعَرَ). (¬4) [13183])) رواه البخاري (7197). (¬5) [13184])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (7/ 94)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (24/ 310). (¬6) رواه البخاري (5200)، ومسلم (1829). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬7) [13186])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 28)

والذي يدلّ على ما سبق ذكره من وجوب مباشرة الإمام بنفسه وعدم الاحتجاب عن رعيته والنصح لهم ما رواه أبو داود بإسناد إلى أبي مريم الأزدي قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من ولاَّه الله عز وجل شيئًا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخُلَّتِهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره)) (¬1). واختلف في مشروعية الحاجب للحكام ... (¬2) رابعًا: الرفق بالرعية والنصح لهم وعدم تتبع عوراتهم: كما أن من واجبه أيضًا الرفق بهذه الرعية التي استرعاه الله أمرها، والنصح لهم، وعدم تتبع سوءاتهم وعوراتهم، وقد ورد في هذا الواجب أحاديث وآثار كثيرة منها: ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هذا: ((اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)) (¬3). قال النووي: (هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحثِّ على الرفق بهم، وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى) (¬4). ومنها ما رواه البخاري بسنده إلى الحسن قال: إن عبيد الله بن زياد زار مَعْقِل بن يسار في مرضه الذي مات فيه، فقال له معقل: إني محدثك حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية من المسلمين فيموت وهو غاشّ لهم إلا حرَّم الله عليه الجنة)) (¬5). وعند مسلم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل الجنة معهم)) (¬6). وعن الحسن أن عائذ بن عمرو كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن شرَّ الرّعاء الحُطَمَةَ (¬7)، فإياك أن تكون منهم، فقال له: اجلس إنما أنت من نخالة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: وهل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم)) (¬8). ومنها ما رواه أبو داود بسنده عن أبي أمامة قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا ابتغى الأمير الرِّيبة في الناس أفسدهم)) (¬9). ¬

(¬1) [13187])) رواه أبو داود (2048)، والبيهقي (10/ 101) (20045). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (487) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 567): رجال إسناده كلهم ثقات. (¬2) [13188])) فمنهم من أجازه ومنهم من معه. انظر: ((تكملة المجموع)) لمحمد نجيب المطيعي (20/ 132)، و ((المغني)) لابن قدامة (11/ 387). (¬3) [13189])) رواه مسلم (1828). (¬4) [13190])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 213). (¬5) [13191])) رواه البخاري (7150)، ورواه مسلم (142) واللفظ له. (¬6) [13192])) رواه مسلم (142) بلفظ: ((ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة)). (¬7) [13193])) الحُطمة: العنيف المتعسف قليل الرحمة. انظر: ((لسان العرب)) (12/ 139) مادة (حطم). (¬8) [13194])) رواه مسلم (1830). (¬9) [13195])) رواه أبو داود (4889)، وأحمد (6/ 4) (23866)، والحاكم (4/ 419). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 469) كما قال ذلك في المقدمة، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم)) (¬1). خامسًا: أن يكون قدوة حسنة لرعيته: من طبيعة النفس البشرية أنها دائمًا مولعة بتقليد الأقوى سواء كان في الخير أو الشرّ، وحيث إن الإمام هو الذي في يده زمام السلطة والتدبير، فإن نفوس الرعية تكون مولعة فيما يذهب إليه، لذلك وجب عليه أن يكون قدوة حسنة لأتباعه حتى يسيروا على نهجه، ويقلِّدوه في سنَّته الحسنة، لأنَّ عيونهم معقودة به وأبصارهم شاخصة إليه، فإن أي صغيرة تبدو منه تتجسم لدى العامّة، ويتخذون منها ثغرة ينفذون منها إلى الانحراف، وقلَّ أن يردَّهم بعد ذلك نصح أو تخويف. (ولذلك لما دخل قائد جيش المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قصر كسرى وهو يتلوا قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ [الدخان: 25 - 28] أرسل سعد كل ما في قصر كسرى إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأخذ عمر رضي الله عنه يقلِّب هذه النفائس ويقول: إن قومًا أدُّوا هذا لأمناء. فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لقد عففت فعفَّت رعيتك، ولو رتعت لرتعت) ثم قسم عمر ذلك في المسلمين (¬2). وقد روى البخاري رحمه الله عن أبي بكر رضي الله عنه في حديثه للأحمسية لما سألته: ما بقاء هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: (ما استقامت بكم أئمتكم) (¬3). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الناس لم يزالوا مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم) (¬4)، وقال: (الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن رتع الإمام رتعوا) (¬5). لذلك كان من سيرته رضي الله عنه - كما ذكر ذلك سالم بن عبد الله عن أبيه قال: (كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدَّم لأهله فقال: لا أعلمن أحدًا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت له العقوبة) (¬6). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وينبغي أن يُعْرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جُلب إليه، هكذا قال عمر بن عبد العزيز، فإن نفق فيه الصدق والبرّ والعدل والأمانة جُلب إليه ذلك، وإن نفق فيه الكذب والجور والخيانة جُلب إليه ذلك) (¬7) الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 336 - 373 ¬

(¬1) [13196])) رواه أبو داود (4888)، والطبراني (19/ 365) (16529). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 250)، وابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 300): إسناده صحيح، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 469) كما قال ذلك في المقدمة. (¬2) [13197])) ((الكامل في التاريخ)) (2/ 362)، و ((البداية والنهاية)) (7/ 78). (¬3) [13198])) رواه البخاري (3834). (¬4) [13199])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 292)، والبيهقي (8/ 162) (16428). (¬5) [13200])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 292)، وابن أبي شيبة (7/ 94). (¬6) [13201])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 289)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/ 268). (¬7) [13202])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 32).

الفصل الخامس: حقوق الإمام

المبحث الأول: حق الطاعة الطاعة دعامة من دعائم الحكم في الإسلام وقاعدة من قواعد نظامه السياسي، وهي من الأمور الضرورية لتمكين الإمام من القيام بواجبه الملقى على عاتقه، وضرورية أيضًا لتمكين الدولة من تنفيذ أهدافها وتحقيق أغراضها، ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث يقول: (لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا أمير، ولا أمير بلا طاعة). وإن من أهم ما يميز نظام الإسلام عن غيره من النظم الأرضية التي وضعها البشر هو ذلك الوازع الديني في ضمير المؤمن، فهو يستشعر - عند قيام الإمام بواجبه - أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب عليه الطاعة لهذا الإمام، فيؤنبه ضميره ويردعه وازعه الديني عن الإخلال بنظام الدولة أو التمرد والعصيان على أي أمر من أمور الدولة التي وضعتها لصالح الأمة، وإن غابت عنه عين الرقيب والحارس لهذا النظام، لأنه يشعر بأن الرقيب حيّ قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو مطلع عليه عالم بأحواله في كل لحظة وأوان. وهذا ما لا وجود له في النظم الأرضية، فكل منهم يراقب عين الرقيب وحارس النظام، وهو بشر مثلهم، ومن طبيعة البشر الضعف والغفلة والتقصير، فإن غاب عنه فلا رقيب ولا حارس ولا وازع ديني أو خلقي يردعه من التمرد على هذا النظام المراد حفظه. كذلك المؤمن إذا اتخذ هذه الطاعة قربة لله سبحانه وتعالى وعبادة، فله عليها الأجر الجزيل، لأنه يطيعهم امتثالاً لأمر الله ورسوله بذلك لا لأشخاصهم. فيرجو من الله الثواب على ذلك. أما النظم الأخرى فلا رجاء ولا أجر إلا ما يصيبه في هذه الحياة الدنيا من حطامها، ومن النتائج المترتبة على حفظ هذه النظم، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد: 26]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق) (¬1). وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه لم يفِ)) (¬2). لذلك فالسمع والطاعة لخلفاء المسلمين وأئمتهم من أجل الطاعات والقربات عند الله تعالى، ومن الواجبات الملقاة على عاتق كل مسلم .. قال ابن كثير: (وقال الصياح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ... الآية [الحج: 41]. ثم قال: (ألا إنها ليست على الوالي وحده ولكنها على الوالي والموالى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلك؛ وبما للوالي عليكم منه؟ إنَّ لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يهديكم إلى التي هي أقوم ما استطاع، وإنَّ عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة ولا المخالف سرها علانيتها) (¬3). أدلة وجوبها: السمع والطاعة للإمام من أهم حقوقه الواجبة له، ومن أعظم الواجبات على الرعية له، وقد دَلَّ على ذلك الكتاب والسنة: فمن الكتاب: ¬

(¬1) [13203])) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 16، 17). (¬2) [13204])) رواه البخاري (2672)، ومسلم (108). (¬3) [13205])) ((تفسير ابن كثير)) (5/ 434).

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]. فلما أمر الله تعالى الرعاة والولاة بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل في الآية السابقة لها: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ أمر الرعية من الجيوش وغيرهم بطاعة أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (¬1). وأولو الأمر في هذه الآية هم كما قال الشوكاني: (الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية) (¬2). وقال ابن حجر: (قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها - أي عن أولي الأمر في هذه الآية - ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله - فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمواْ بِالْعَدْل الآية. فقال: هذه في الولاة) (¬3). وتشمل أيضًا العلماء كما رواه الطبري بإسناده عن ابن عباس وابن أبي نجيح والحسن ومجاهد وعطاء وغيرهم (¬4). فالصواب إذًا شمولها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأولو الأمر أصحابه وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس) (¬5). ثانيًا: من السنة: أما من السنة فالأحاديث كثيرة في وجوب السمع والطاعة للأئمة في غير معصية نأخذ منها ما يلي: 1 - ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني)) (¬6). 2 - ومنها ما رواه البخاري بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله)) (¬7). وفي رواية إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر: ((اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة)) (¬8). 3 - ومنها ما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله! كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)) (¬9). ¬

(¬1) [13206])) ((محاسن التأويل)) للقاسمي (5/ 353). (¬2) [13207])) ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 481). (¬3) [13208])) ((فتح الباري)) (13/ 111). (¬4) [13209])) ((تفسير الطبري)) (7/ 500). (¬5) [13210])) ((الحسبة)) لابن تيمية (ص: 118). (¬6) رواه البخاري (2957) , ومسلم (1835) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (7142) , من حديث أنس رضي الله عنه. (¬8) رواه البخاري (696). (¬9) [13214])) رواه البخاري (3603)، ومسلم (1843)، والترمذي (2190).

4 - ومنها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) (¬1) .. وفي رواية لمسلم: ((إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)) (¬2). إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الموجبة لطاعة الأئمة في غير معصية وإن جاروا، روى أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده إلى مصعب بن سعد قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلمات أصاب فيهن الحق، قال: (يحق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوه إذا دعا) (¬3). طاعة الإمام ليست مطلقة: حينما أوجب الله عز وجل على الرعية أن تطيع ولاة الأمور المسلمين لم يجعل هذه الطاعة مطلقة من كل قيد، وذلك لأن الحاكم والمحكوم كلهم عبيد لله عز وجل، واجب عليهم طاعته وامتثال أوامره، لأنه هو الحاكم وحده، فإذا قصرت الرعية في حق من حقوق الله تعالى فعلى الحاكم تقويمها بالترغيب والترهيب حتى تستقيم على الطريق، وكذلك الحاكم إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، وإنما على الأمة نصحه وإرشاده، والسعي بكل وسيلة إلى إرجاعه إلى الحق شريطة ألا يكون هناك مفسدة أعظم من مصلحة تقويمه، وإلا فعلى الرعية الصبر حتى يقضي الله فيه بأمره ويريحهم منه ... أدلة تقييد سلطة الحاكم: والأدلة على تقييد سلطة الحاكم وأنه لا طاعة له في معصية كثيرة جدًا نأخذ منها بعض النماذج: أولاً: من كتاب الله: 1 - يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]. قال الحافظ ابن حجر: قال الطيبي: (أعاد الفعل في قوله: وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته، ثم بين ذلك في قوله: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ كأنه قيل: فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله) (¬4). وعن أبي حازم سلمة بن دينار أن مسلمة بن عبد الملك قال: (ألَسْتُم أمرتم بطاعتنا في قوله: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ؟ قال: أليست قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: فردوه إلى الله والرسول ... [النساء: 59]). فالشاهد من الآية أن الإمام المطاع يجب أن يكون من المسلمين ... وأنه إذا وقع خلاف بينه وبين رعيته فالحكم في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله لا هواه وبطشه، فدل ذلك على تقييد سلطته بإتباع الكتاب والسنة. ¬

(¬1) رواه البخاري (7199)، ومسلم (1840). (¬2) [13216])) رواه مسلم (1840)، ورواه البخاري (7055). (¬3) [13217])) رواه أبو عبيد في ((الأموال)) (ص: 12)، ورواه الطبراني في تفسيره (8/ 490)، والخلال في ((السنة)) (1/ 109). (¬4) [13218])) ((فتح الباري)) (13/ 112).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إنهم - أي أهل السنة والجماعة - لا يجوزون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إمامًا عادلاً، فإذا أمرهم بطاعة الله أطاعوه، مثل أن يأمرهم بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصدق، والعدل، والحج، والجهاد في سبيل الله. فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله، ولا يسقط وجوبها لأمر ذلك الفاسق بها، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق) (¬1). قال: (فأهل السنة: لا يطيعون ولاة الأمور مطلقًا إنهم يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ... الآية [النساء: 59]) (¬2). 2 - ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة: 12] والشاهد من الآية قوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ روى ابن جرير بسنده عن ابن زيد في قوله: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيّه وخيرته من خلقه، ثم لم يستحلّ له أمر إلا بشرط، لم يقل لا يَعْصِينَكَ ويترك. حتى قال: فِي مَعْرُوفٍ فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف وقد اشترط الله هذا على نبيه) (¬3). وقال الزمخشري مفسراً سبب تقييد طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمعروف مع أنه لا يأمر إلا بالمعروف: (نبه بذلك على أن طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بالتوقي والاجتناب) (¬4). وقال الكيا الهراسي: (يؤخذ من قوله: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أنه لا طاعة لأحد في غير معروف) قال: (وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا بمعروف وإنما شرطه في الطاعة لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين) (¬5). ¬

(¬1) [13219])) ((منهاج السنة)) (2/ 76). (¬2) [13220])) ((منهاج السنة)) (2/ 76). (¬3) [13221])) ((تفسير الطبري)) (28/ 80). ونحوه في ((تفسير ابن كثير)) (8/ 127). (¬4) [13222])) ((الكشاف)) (4/ 95). ونحوه في ((فتح القدير)) للشوكاني (5/ 216). (¬5) [13223])) نقلاً عن: ((محاسن التأويل)) للقاسمي (16/ 137).

فيؤخذ من هذا أن طاعة المخلوقين جميعهم: حاكمهم ومحكوميهم مقيدة بأن تكون بالمعروف، والمعروف هو ما عرف من الشارع والعقل السليم حسنه أمرًا كان أو نهيًا، والحكم في ذلك هم العلماء الذين يستنبطون الحكم من الكتاب والسنة كما قال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]. إذا لم يكن الإمام عالمًا - مع أنه من شروطه - وكما شملت الآية السابقة أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ العلماء أيضًا، ولأننا أمرنا عند التنازع بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذا ما يحمله علماء الشرع ويتعلمونه ويعلمونه. لذلك كله تكون طاعة الحكام تبعًا لطاعة العلماء وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم تبعًا لهم، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء) (¬1) وكما قال عبد الله بن المبارك: رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذُّلَّ إدمانُها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها وهل بَدَّل الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها وباعوا النفوس فلم يربحوا ... ولم تغل في البيع أثمانها لقد رتع القوم في جيفة ... يبين لذي العقل إنتانها (¬2) ثانيًا: من السنة: أما الأدلة على تقييد سلطة الإمام من السنة فكثيرة جدًا نأخذ منها ما يلي: 1 - ما رواه الخمسة وأحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) (¬3). قال ابن القيم رحمه الله تعليقًا على هذا الحديث: (وفي هذا الحديث دليل على أن من أطاع ولاة الأمر في معصية الله كان عاصيًا، وأن ذلك لا يمهد له عذرًا عند الله، بل إثم المعصية لا حق به، وإن كان لولا الأمر لم يرتكبها، وعلى هذا يدل هذا الحديث وهذا وجهه وبالله التوفيق) (¬4). 2 - ومنها ما رواه البخاري - واللفظ له - ومسلم وغيرهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سريّة، وأمَّر عليها رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطبًا وأوقدتم نارًا ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطبًا وأوقدوا نارًا، فلما هموا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فرارًا من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذُكِرَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف)) (¬5). ¬

(¬1) [13224])) ((إعلام الموقعين)) (1/ 10). (¬2) [13225])) ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 327 - 328). (¬3) [13226])) رواه البخاري (2955)، ومسلم (1839)، وأبو داود (2626)، والترمذي (1707)، والنسائي (7/ 160)، وأحمد (2/ 17) (4668). (¬4) [13227])) انظر: ((تهذيب سنن أبي داود)) (7/ 208). (¬5) [13228])) رواه البخاري (7145)، ومسلم (1840).

ورويت هذه القصة أيضًا وجاء فيها أن أميرها كان عبد الله بن حذافة السهمي وكان امرءاً فيه دعابة، ولم يكن من الأنصار بل كان مهاجريًا. فهذا قد أمرهم بدخول نار الدنيا، وقد أوجب الرسول - صلى الله عليه وسلم - عصيانه، فما بالك بالذين يأمرون بدخول نار الآخرة بارتكاب المعاصي! فكيف تكون طاعتهم؟. 3 - ومنها ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله)) (¬1). فهذا الحديث قيد الطاعة للإمام الذي يقود بكتاب الله وبناء على ذلك فلا تجوز طاعة حاكم يحكم بغير ما أنزل الله في حكمه هذا، سواء كان هذا الحكم مخرجًا له من الملة أو لا ... لأنه في كلتا الحالتين عاص لا يأمر بالمعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. 4 - ومنها ما رواه الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه سيلي أمركم من بعدي رجال يطفئون السنة ويحدثون البدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، قال ابن مسعود: كيف بي إذا أدركتهم؟ قال: ليس - يا ابن أم عبد - طاعة لمن عصى الله قالها ثلاث مرات)) (¬2). ونحو ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ((سيليكم أمراء بعدي، يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله)) (¬3). (5) بل إن الطاعة المطلقة من كل قيد تجرُّ إلى الشرك بالله وعبادة الرجال بعضهم لبعض كما قال عز وجل: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31]. وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وكان قد ((قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نصراني فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم قال: أليس يحرمون ما أحلَّ الله فتحرمونه، ويُحلُّون ما حرَّم الله فتحِلُّونه؟ قال: فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم)) (¬4). قال ابن تيمية: وكذلك قال أبو البختري: (أَمَا إنهم يُصَلُّوا، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية) (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري (696). (¬2) [13230])) رواه أحمد (1/ 399) (3790). وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (5/ 302)، وصححه الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (ص: 562). (¬3) [13231])) رواه الحاكم (3/ 401). هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (590): قوي بالطرق. (¬4) [13232])) رواه الترمذي (3095)، والبيهقي (10/ 116) (20847). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث، وحسنه ابن تيمية في ((حقيقة الإسلام والإيمان)) (111)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) [13233])) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 64).

وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: (كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم، فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبادتهم إنما كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صَلُّوا لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة للرجال وتلك عبادة للأموال) (¬1) يقصد حديث: ((تعس عبد الدينار)) (¬2). وروى الطبري بسنده إلى ابن جريج عند قوله تعالى: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ ... الآية [عمران: 64]، قال: (لا يطع بعضنا بعضًا في معصية الله) (¬3). لذلك فمن أطاع العلماء والأمراء فيما فيه معصية لله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله عز وجل، وهذا شرك وعبادة لهم من دون الله، وأي ذنب أكبر من أن يتخذ الإنسان الآخر ربًّا مُشَرِّعًا يطيعه في معصية الله، ويحرم عليه ما أحلّ الله له. والطاعة في المعصية طاعة للطاغوت، وقد أُمِرنا بالكفر به، قال ابن تيمية: (والمطاع في معصية الله والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله أو مطاعًا أمره المخالف لأمر الله هو طاغوت) (¬4). من كل ما سبق يتبين أن طاعة الأئمة مقيدة بما ليس فيه معصية لله ورسوله، أما ما كان كذلك فلا طاعة لهم فيه كما نصت الأدلة. ويتبين لنا كذلك أن الطاعة للأئمة التي أمرنا الله بها وأوجبها على الرعية إنما هي طاعة مبصرة لا طاعة عمياء كما تنص عليها المصطلحات العسكرية في النظم الوضعية، وكما تنص عليها بعض الطرق الصوفية من إيجاب الطاعة العمياء على الشخص أمام مريده، أما الإسلام فلا ((إنما الطاعة في المعروف)) (¬5) كما مرّ معنا في قصة أصحاب السرية وأميرهم وتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم. ولو أجيزت الطاعة في المعصية لكان هناك تناقض في الإسلام، إذ لا يعقل أن يحرَّم الشارع شيئًا ثم يوجبه (¬6). ويعلق الأستاذ أحمد شاكر على حديث: ((السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ... إلخ)) بقوله: ( ... ثم قَيَّد هذا الواجب - واجب الطاعة - بقيد صحيح دقيق، يجعل للمكلف الحق في تقديره ما كلف به، فإن أمره من له الأمر عليه بمعصية فلا سمع ولا طاعة، لا يجوز له أن يعصي الله بطاعة المخلوق، فإن فعل كان عليه من الإثم ما كان على من أمره، لا يعذر عند الله بأنه أتى هذه المعصية بأمر غيره، فإنه مكلَّف مسئول عن عمله، شأنه شأن آمره سواء. ومن المفهوم بداهة أن المعصية التي يجب على المأمور ألا يطيع فيها الآمر هي المعصية الصريحة التي يدلّ الكتاب والسنة على تحريمها، لا المعصية التي يتأوّل فيها المأمور ويتحايل حتى يوهم نفسه أنه إنما امتنع لأنه أمر بمعصية مغالطة لنفسه ولغيره) (¬7). فهذا ردٌّ على الذين يرتكبون المعاصي بحجة أنهم قد أُمروا بها، فيقولون الإثم على من أمرنا لا علينا، والحق أن الإِثم على الآمر وعلى الفاعل، وكل ما سبق من أحاديث وأقوال للعلماء ردٌّ على زعمهم ومخادعتهم أنفسهم. ¬

(¬1) [13234])) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 64). (¬2) رواه البخاري (2887). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) [13236])) ((تفسير الطبري)) (3/ 304). (¬4) [13237])) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 201). (¬5) رواه البخاري (7257) , ومسلم (1840) , من حديث علي رضي الله عنه. (¬6) [13239])) ((النظام السياسي في الإسلام)) د. عبد القادر أبو فارس (ص: 73). (¬7) [13240])) انظر: حاشية المسند (6/ 301) لأحمد شاكر.

هذا وقد خرجت طائفة من أهل الشام زمن الأمويين يرون الطاعة المطلقة للإمام، وأن الله يتقبل حسناته، ويتجاوز عن سيئاته، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الطائفة: ( ... وأما غالية الشام أتباع بني أمية فكانوا يقولون: إن الله إذا استخلف خليفة تقبَّل منه الحسنات، وتجاوز له عن السيئات، وربما قالوا: إنه لا يحاسبه، ولهذا سأل الوليد بن عبد الملك عن ذلك العلماء فقالوا: يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أم داود؟ وقد قال له: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26]، وكذلك سؤال سليمان بن عبد الملك عن ذلك لأبي حازم المدني في موعظته المشهورة فذكر له هذه الآية) (¬1) ثم بيَّن رحمه الله تعالى غلطهم فقال: (لكن غلط من غلط منهم من جهتين. من جهة: أنهم كانوا يطيعون الولاة طاعة مطلقة، ويقولون: إن الله أمر بطاعتهم. الثانية: قول من قال منهم: إن الله إذا استخلف خليفة تقبَّل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات) (¬2). طاعة الإمام الجائر: هذه الطاعة ليست مشروطة بكون الإِمام عادلاً، بل حتى ولو كان فيه شيء من الجور والفسق على نفسه، كأن يكون فيه تقصير في حق الله تعالى، أو بعض حقوق الآدميين، لأن العادل الخائف والمراقب لله عز وجل قَلَّ أن يأمر بمعصية وهو يعلم أنها معصية، أما الذي قد يأمر بمعصية لله تعالى فهو الجائر والفاسق، فهذا يطاع في طاعة الله ويعصى في معصية الله، ما لم يصل به جوره وفسقه إلى الحد الذي يوجب عزله - وسيأتي بيان ذلك وأقوال العلماء وأدلتهم ... - والذي يدل على ذلك ما يلي: 1 - ما رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: تؤدُّون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)) (¬3). 2 - وعن سعيد بن حضير ((أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، استعملت فلانًا ولم تستعملني، قال: إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) (¬4). 3 - ومنها حديث سلمة بن يزيد أنه قال: ((يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه ... إلى أن قال: اسمعوا وأطيعوا فإنَّ عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم)) (¬5). 4 - ومنها ما رواه مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: ((قلت: يا رسول الله: إنا كنا بِشَرّ فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل وراء هذا الشر خير؟ قال: نعم، قلت: فهل وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضُربَ ظهرك وأُخِذَ مالك فاسمع وأطع)) (¬6). ¬

(¬1) [13241])) ((منهاج السنة)) (1/ 232). (¬2) [13242])) ((منهاج السنة)) (1/ 233). (¬3) [13243])) رواه البخاري (3603)، ومسلم (1843)، والترمذي (2190). (¬4) [13244])) رواه البخاري (3792)، ومسلم (1845). (¬5) [13245])) رواه مسلم (1846). (¬6) [13246])) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847).

فهذه الأحاديث وما في معناها تَدُلّ في جملتها على أن الطاعة في المعروف واجبة على المسلم للإمام، وإن منع بعض الحقوق واستأثر ببعض الأموال، بل ولو تعدى ذلك إلى الضرر بالجسم كالضرب، أو إلى أخذ المال ونحوه من الأمور الشخصية (¬1)، فعلى المؤمن القيام بما أوجبه الله عليه من الطاعة في المعروف، وأن يحتسب حقه عند الله عز وجل، فعند الله تجتمع الخصوم، وذلك سدًّا لفتح باب الفتن والاختلاف المذموم. كما تدل على أن المؤمن ينبغي ألا يغضب ولا ينتقم إلا لله عز وجل، لا لنفسه أسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله)) (¬2) فإذا قصر الإمام في حقٍ من حقوق الدنيا لأحد الرعية فعليه أن يطيعه في طاعة الله، ولا يعصيه بسبب منعه هذا الحق، وإن كان يرتكب شيئًا من المعاصي في نفسه، وعنده تقصير في أداء بعض الواجبات، ففي هذه الحال على المؤمن نصحه وطاعته في طاعة الله، أما إن تطرَّق الأمر إلى ما يمس الدين كأن يأمره بمعصية لله عز وجل فهنا لا سمع ولا طاعة، بل يجب عليه العصيان وإن تَرتَّب على ذلك ما ترتَّب، ورضي الله عن الصديق حيث يقول في خطبته المشهورة: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم) (¬3)، وكما في حديث عبادة بن الصامت الآنف الذكر وفيه: (وأن نقول كلمة الحق، ولا نخاف في الله لومة لائم) في نفس مبايعتهم على السمع والطاعة في العسر واليسر ... إلخ. ولا شك أن من قام بالحق ودعا إليه فإن أمراء الجور سيتصدُّون له، فعليه حينئذٍ أن يصبر ويثبت ويستمر ويحتسب ذلك عند الله تعالى، قال تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17]، ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الجهاد أفضل؟ قال: ((كلمة حق عند سلطان جائر)) (¬4). وروى الحاكم عن عبد الرحمن بن بشير الأنصاري قال: (أتى رجل فنادى ابن مسعود فأكبَّ عليه، فقال: يا أبا عبد الرحمن متى أضلُّ وأنا أعلم؟ قال: إذا كانت عليك أمراء إذا أطعتهم أدخلوك النار، وإذا عصيتهم قتلوك) (¬5) فمثل هؤلاء مخالفتهم إذا أمروا بمعصية واجبة وإن حصل للإنسان أذى منهم. ومع تقرير هذا يجب أن نُنَبِّه إلى أنه ليس متفقًا على وجوب الصبر على الأذى الشخصي عند السلف، فقد خالف في ذلك ناس منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، عملاً بأدلة أخرى مثل: 1 - قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى: 39]. 2 - حديث ((من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد)) (¬6) وما شابهها دون تفريق بين وقوع الظلم والبغي من حاكم أو غيره، من ذلك ما روي ((أن معاوية أرسل إلى عامل له أن يأخذ الوهط - وهي أرض لعبد الله بن عمرو بالطائف، فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته، وقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من قتل دون ماله مظلومًا فهو شهيد)) (¬7). لكن هذه الأدلة عامة وتلك أخص فتخصص العموم، قال ابن المنذر: (الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع مما ذُكِر إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه) (¬8). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي- بتصرف – ص: 375 ¬

(¬1) [13247])) انظر: ((الشريعة)) للآجري (ص: 40). (¬2) [13248])) رواه البخاري (6786) بلفظ: ((ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله)) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) [13249])) ((سيرة ابن هشام)) (4/ 661). (¬4) رواه أبو داود (4344)، والترمذي (2174)، وابن ماجه (3256)، وأحمد (3/ 19) (11159). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسن إسناده ابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (19/ 180)، والعيني في ((عمدة القاري)) (15/ 228)، وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (ص: 169): حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬5) [13251])) رواه الحاكم (4/ 508) وقال: وهذا موقوف صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬6) [13252])) رواه البخاري (2480)، ومسلم (141). (¬7) [13253])) رواه عبد الرزاق (10/ 115)، والبيهقي (8/ 335) (18091). (¬8) [13254])) ((فتح الباري)) (5/ 134).

المبحث الثاني: النصرة والتقدير

المبحث الثاني: النصرة والتقدير اتضح لنا عند ذكر واجبات الإمام عظم المسئولية الملقاة على عاتقه، ومنها محاربته للفساد والمفسدين، وهذه تجعله في خطر منهم، لذلك فعلى الأمة أن تقوم بجانبه وتساعده على نوائب الحق، ولا تُسْلِمُه لأعدائه المفسدين سواء كانوا داخل الدولة الإسلامية أو خارجها، يدل على ذلك ما يلي: 1 - قول الله عز وجل: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ... [المائدة: 2] ولا شك أن معاضدة الإمام الحق ومناصرته من البر الذي يترتب عليه نصرة الإسلام والمسلمين. 2 - يدل على ذلك أيضًا ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر ... )) الحديث (¬1). قال أبو يعلى: (وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة) (¬2) ... ولذلك شرع قتال أهل البغي إذا بدؤوا بقتال الإمام العادل بدون تأويل سائغ، كما شرع حد الحرابة في قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ... [المائدة: 33]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا طلبهم - أي المحاربين - السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم) (¬3). وللموضوع تفصيلات كثيرة مذكورة في كتب الفقه ليس هذا مقام تفصيلها ... كما أن على المسلمين احترام الإمام العادل وتقديره والدعاء له وعدم إهانته حتى يكون له مهابة عند ضعاف النفوس، فيرتدعون عما تمليه عليهم عواطفهم وشهواتهم يدل على ذلك ما يلي: 1 - ما روي عن زياد بن كسيب العدوي قال: ((كنت مع أبي بكرة - رضي الله عنه - تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق، فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)) (¬4). 2 - وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) (¬5). وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا) (¬6). ¬

(¬1) [13255])) رواه مسلم (1844). (¬2) [13256])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 28). (¬3) [13257])) ((السياسة الشرعية)) (ص: 85). (¬4) [13258])) رواه الترمذي (2224)، وأحمد (5/ 42) (20450)، والبيهقي (8/ 163) (17102). قال الترمذي: حسن غريب، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (5/ 306): مرفوع بإسناد غريب، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 218): رجال أحمد ثقات. (¬5) [13259])) رواه أبو داود (4843)، والبيهقي (8/ 163) (16435). والحديث سكت عنه أبو داود، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (497) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال النووي في ((الترخيص بالقيام)) (56): إسناده كلهم عدول معروفون إلا أبا كنانة وهو مشهور، ولا نعلم أحداً تكلم فيه، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 426) كما قال ذلك في المقدمة. (¬6) [13260])) ((شرح السنة)) للبغوي (10/ 54).

وقال الفضيل بن عياض: (لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد) (¬1). وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: (لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم) (¬2). هذا بشرط أن يكون الإمام من أئمة العدل، أما أئمة الجور والفسق فلا يعانون على فسقهم وظلمهم، وقد قال مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن القاسم أنه قال: (إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذب عنه والقتال معه، وأما غيره فلا، دعه وما يراد منه ينتقم الله من الظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما) (¬3). بل إذا رأى المسلم أنه لا فائدة من الدخول عليهم ومناصحتهم أو خاف على نفسه فتنتهم فعليه اعتزالهم، وترك الدخول عليهم، والحذر من موافقتهم على باطل، يدل على ذلك ما يلي: 1 - حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد عليَّ الحوض)) (¬4). قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: (ليت شعري من الذي يدخل إليهم اليوم فلا يصدقهم على كذبهم، ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم، ومن الذي ينصح ومن الذي ينتصح منهم؟ إن أسلم لك يا أخي في هذا الزمان وأحوط لدينك أن تقل من مخالطتهم وغشيان أبوابهم ونسأل الله الغنى عنهم والتوفيق لهم) (¬5). ... وهذا في القرن الرابع الهجري فما بالك بالخامس عشر!!! 2 - ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قربًا إلا ازداد من الله بعدًا)) (¬6). 3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ... وإن أبغض القراء إلى الله الذي يزورون الأمراء)) (¬7). 4 - وروي عن حذيفة رضي الله عنه قال: (إياكم ومواطن الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه) (¬8). وقال خالد بن زيد: سمعت محمد بن علي - الباقر - يقول: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إذا رأيتم القارئ يحب الأغنياء فهو صاحب دنيا وإذا رأيتموه يلزم السلطان فهو لص) (¬9). ¬

(¬1) [13261])) ((البداية والنهاية)) (10/ 199). (¬2) [13262])) ((تفسير القرطبي)) (5/ 260). (¬3) [13263])) ((شرح الخرشي على مختصر خليل)) (8/ 60)، وانظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/ 1721). (¬4) [13264])) رواه الترمذي (2259)، والنسائي (7/ 160)، وابن حبان (1/ 512) (279)، والحاكم (1/ 151). قال الترمذي: صحيح غريب، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (495) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) [13265])) ((العزلة للخطابي)) (ص: 92). (¬6) [13266])) رواه أحمد (2/ 371) (8823)، والبيهقي (10/ 101) (20752). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 249): أحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح خلا الحسن بن الحكم النخعي وهو ثقة، وصح إسناده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 309). (¬7) [13267])) رواه الترمذي (2383)، وابن ماجه (50)، الطبراني في ((الأوسط)) (3/ 261) (3090)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 339). قال الترمذي: حسن غريب. (¬8) [13268])) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 277). (¬9) [13269])) ((البداية والنهاية)) (9/ 310).

وقال أبو ذر لسلمة: (يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم شيئًا إلا أصابوا من دينك أفضل منه) (¬1). وقال سعيد بن المسيب: (لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار بقلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة) (¬2). وروى الإمام أحمد عن معمر بن سليمان الرقي عن فرات بن سليمان عن ميمون بن مهران قال: (ثلاث لا تبلون نفسك بهن، لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تدخل على امرأة وإن قلت أعلمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك إلى ذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك من هواه) (¬3). والمراد من كل ما سبق هم سلاطين الجور والظلم، والنهي عن مخالطتهم وإتيانهم بقصد التقرب إليهم وحصول شيء من دنياهم. وإعانتهم على ظلمهم قد تكون بمجالستهم ومؤازرتهم، وقد تكون بتبرير أخطائهم، بل قد تكون بالسكوت عنهم وعدم إنكار المنكر عليهم، وتكون بالدعاء لهم كما قيل: (من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه) (¬4). قال ابن تيمية: (وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم ولو أنه لاق لهم دواة أو برى لهم قلمًا. ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم، وأعوانهم هم أزواجهم المذكورون في الآية) (¬5). يقصد قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ... [الصافات: 22]. أما الدخول عليهم على سبيل النصح لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فهذا باب آخر ... كما أن خلفاء المسلمين العدول تجب مناصحتهم ومؤازرتهم ومشاركتهم في الرأي، وقد كان القراء هم أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته (¬6). وقد عقد الغزالي في (إحياء علوم الدين) بابًا فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم، وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم. فقال: (اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال (الحالة الأولى) وهي: شرها أن تدخل عليهم. (والثانية) وهي: دونها أن يدخلوا عليك. (والثالثة) وهي: الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك ... ) (¬7). قال: (ولا يجوز الدخول إلا بعذرين: أحدهما: أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام، وعلم أنه لو امتنع أُوذِي أو (فسد) (¬8). عليهم طاعة الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة، فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية. والثاني: أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه أو عن نفسه، إما بطريق الحسبة، أو بطريق التظلم فذلك رخصة بشرط ألا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولاً، فهذا حكم الدخول) (¬9). ... ويضاف إلى ما سبق أمر آخر وهو: الثالث: الدخول عليهم بقصد مناصحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما دل عليه الحديث: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) (¬10) ... ¬

(¬1) [13270])) ((إحياء علوم الدين)) (2/ 142). (¬2) [13271])) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 57). (¬3) [13272])) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/ 85). (¬4) [13273])) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 46) عن الثوري. (¬5) [13274])) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 61). (¬6) [13275])) رواه البخاري (7286). (¬7) [13276])) ((إحياء علوم الدين)) (2/ 142). (¬8) [13277])) كذا ولعلها (فسدت). (¬9) [13278])) ((إحياء علوم الدين)) (2/ 145). (¬10) رواه أبو داود (4344)، والترمذي (2174)، وابن ماجه (3256)، وأحمد (3/ 19) (11159). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسن إسناده ابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (19/ 180)، والعيني في ((عمدة القاري)) (15/ 228)، وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (169): حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

وقد كان من شدة ورع بعض السلف رضوان الله عليهم أن نهوا عن الدخول عليهم ولو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وقد كان كثير من السلف ينهون عن الدخول على الملوك لمن أراد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أيضًا. وممن نهى عن ذلك عمر بن عبد العزيز، وابن المبارك، والثوري وغيرهم من الأئمة. وقال ابن المبارك: ليس الآمر الناهي من اعتزلهم، وسبب هذا ما يخشى من فتنة الدخول عليهم فإن النفس قد تخيل للإنسان إذا كان بعيدًا عنهم أنه يأمرهم وينهاهم ويغلظ عليهم، فإذا شاهدهم قريبًا مالت النفس إليهم، لأن محبة الشرف كامنة في النفس له ولذلك يداهنهم ويلاطفهم وربما مال إليهم وأحبهم ولا سيما إن لاطفوه وأكرموه وقبل ذلك منهم) (¬1). قال: (وقد جرى ذلك لعبد الله بن طاوس مع بعض الأمراء بحضرة أبيه طاوس فوبَّخَهُ على فعله ذلك، وكتب سفيان الثوري إلى عبَّاد بن عبَّاد وكان في كتابه: (إياك والأمراء أن تدنو منهم أو تخالطهم في شيء من الأشياء، وإياك أن تخدع ويقال لك: لتشفع وتدرأ عن مظلوم أو ترد مظلمة، فإن ذلك خديعة إبليس، وإنما اتخذها فجار القراء سلمًا، وما كفيت عن المسألة والفتيا فاغتنم ذلك ولا تنافسهم، وإياك أن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله، أو ينشر قوله أو يسمع قوله، فإذا ترك ذلك منه عرف فيه، وإياك وحب الرياسة، فإن الرجل يكون حب الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو: باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة فتفقد بقلب واعمل بنية، واعلم أنه قد دنا من الناس أمر يشتهي الرجل أن يموت والسلام) (¬2). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي - بتصرف – ص: 397 ¬

(¬1) [13280])) من رسالة شرح حديث: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم ... إلخ لابن رجب (ص: 13) ضمن مجموعة الرسائل المنيرية المجلد الثاني: الجزء الثالث. الرسالة الأولى. (¬2) [13281])) رسالة شرح حديث: ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم ... إلخ لابن رجب (ص: 13) ضمن مجموعة الرسائل المنيرية المجلد الثاني: الجزء الثالث. الرسالة الأولى.

المبحث الثالث: المناصحة

المبحث الثالث: المناصحة إن الإمام بَشَرٌ، يعتريه ما يعتري البشر من الضعف والخطأ والنسيان، ولذلك شرعت النصيحة له لتذكيره وتبيين ما قد يخفى عليه من الأمور، وهذه من حقوقه على الرعية، فعلى الرعية القيام بأدائها إليه سواء طلبها أم لا، والأدلة على هذا كثيرة منها: 1 - ما رواه مسلم في صحيحه عن تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدين النصيحة)). وفي رواية - قالها ثلاثًا - قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬1). وهذا من الأحاديث العظيمة ومن جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، قال النووي: (وأما ما قاله جماعة من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام، أي: أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوا بل المدار على هذا وحده) (¬2). ومعنى النصيحة لله كما نقله النووي عن الخطابي وغيره من العلماء: (أن معناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال، والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن جميع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض فيه ... وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى: فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها. وأما النصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيًا وميتًا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء سنته وبث دعوته ونشر شريعته ... وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكريهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم. وأما النصيحة لعامة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر: فبإرشادهم إلى مصالحهم في آخرتهم ودنياهم ... وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر) (¬3). والنصيحة كما قال الخطابي: (كلمة جامعة معناها: حيازة الحظ للمنصوح له، قال: ويقال هو: من وجيز الأسماء، ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفي بها العبارة عن هذه الكلمة) (¬4). وقال أبو عمرو بن الصلاح: (النصيحة: كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً) (¬5). 2 - ومنها ما رواه جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيف من منى فقال: ((نضر الله امرءًا سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) (¬6). ¬

(¬1) [13282])) رواه مسلم (55). (¬2) [13283])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 37). (¬3) [13284])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 38، 39) مختصرًا. (¬4) [13285])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 37). (¬5) [13286])) ((جامع العلوم والحكم)) (ص76). (¬6) [13287])) رواه ابن ماجه (189)، وأحمد (4/ 80) (16784)، والدارمي (1/ 86) (228)، وأبو يعلى (13/ 408) (7413)، والطبراني (2/ 126) (1542)، والحاكم (1/ 162). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين قاعدة من قواعد أصحاب الروايات ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 144): رواه الطبراني في ((الكبير)) وأحمد وفي إسناده ابن إسحاق عن الزهري وهو مدلس وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري ورجالها موثقون، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

مما سبق نستنتج أن النصيحة أصل عظيم من أصول الإسلام ولذلك عدها ابن بطة من أصول السنة عند السلف رضوان الله عليهم (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يبايع أحدًا، يشترط عليه النصح لكل مسلم. قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم) (¬2). وقد دأب الصحابة رضوان الله عليهم على أداء هذا الحق لأئمتهم، فقد روى الإمام أحمد بسنده إلى محمد بن عبد الله (أن عبد الله بن عمر لقي ناسًا خرجوا من عند مروان فقال: من أين جاء هؤلاء؟ قالوا: خرجنا من عند الأمير مروان، قال: وكل حق رأيتموه تكلًّمتم به وأعنتم عليه، وكل منكر رأيتموه أنكرتموه عليه؟ قالوا: لا والله، بل يقول ما ينكر فنقول قد أصبت أصلحك الله، فإذا خرجنا من عنده قلنا: قاتله الله ما أظلمه وأفجره. قال عبد الله: كنا بعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعدُّ هذا نفاقًا لمن كان هكذا) (¬3). وقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يؤدي المؤمن هذه النصيحة إلى أئمة الجور وإن خاف منهم الهلاك وعد ذلك من أفضل الجهاد يدل عليه الأحاديث التالية: 1 - عن أبي أمامة رضي الله عنه ((أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الجهاد أفضل؟ ورسول الله يرمي الجمرة الأولى فأعرض عنه، ثم قال له عند الجمرة الوسطى فأعرض عنه، فلما رمى جمرة العقبة ووضع رجله في الغرز قال: أين السائل؟ قال: أنا ذا يا رسول الله. قال: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) (¬4). قال الخطابي: (إنما كان هذا أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان على أمل الظفر بعدوه ولا يتيقن العجز عنه، لأنه لا يعلم يقينًا أنه مغلوب، وهذا يعلم أن يد سلطانه أقوى من يده، فصارت المثوبة فيه على قدر عظيم المئونة) (¬5). 2 - وعن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى رجل فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك)) (¬6). ¬

(¬1) [13288])) انظر: ((الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة)) (ص: 179) رسالة ماجستير مقدمة من الطالب رضا معطي نعسان بجامعة أم القرى. (¬2) [13289])) رواه مسلم (56). (¬3) [13290])) رواه أحمد (2/ 69) (5373). قال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (7/ 198): إسناده صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير عمر بن عبدالله. (¬4) [13291])) رواه ابن ماجه (3257)، وأحمد (5/ 256) (22261)، والطبراني (8/ 282) (8097)، والبيهقي (10/ 91) (20680). قال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (3/ 397): [فيه] أبو غالب أرجو أنه لا بأس به، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (5/ 314)، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬5) [13292])) ((العزلة)) (ص: 92). (¬6) [13293])) رواه الحاكم (3/ 215) بلفظ: ((سيد)) بدلاً من ((خير))، والديلمي (2/ 324) (3472)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (6/ 53). قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (374).

3 - وروى أحمد بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنك أنت ظالم فقد تُوُدِّع منها)) (¬1). وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يَحُثُّون أقوامهم على نصحهم وتقويمهم إذا أخطئوا، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول في خطبته المشهورة: (أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني) (¬2). وقال رضي الله عنه: (إني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني) (¬3). وهذا عمر رضي الله عنه يقول فيما رواه سفيان بن عيينة عنه: (وأحب الناس إليَّ من رفع إليَّ عيوبي) (¬4) وكذلك بقية الخلفاء. كما أنه ينبغي للناصح للسلطان أن يراعي مكانته بحيث لا يخرق هيبته. يدل على ذلك حديث عياض بن غنم الأشعري رضي الله عنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية، وليأخذ بيده فلْيخل به، فإن قَبِلَهَا، قَبِلَهَا، وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له)) (¬5). كما أنه يجب على الناصح أن يحذر التأنيب والتعيير (¬6) والغيبة والسعاية حتى تكون خالصة لله تعالى. وقد كان علماء السلف رضوان الله عليهم يصدعون بقول الحق والنصح لأئمة الجور في وجوههم، وإن توقعوا أو تيقنوا الإيذاء بسبب ذلك، لا يخشون في الله لومة لائم، لأنهم يعلمون أن من قتل بسبب ذلك فهو شهيد، والشهادة أغلى أماني المؤمن المصدق بوعد الله، لذلك قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك ومحتملين ألوان العذاب، وصابرين عليه في ذات الله تعالى، ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله. والأمثلة على ذلك كثيرة نأخذ منها على سبيل المثال: ¬

(¬1) [13294])) رواه أحمد (2/ 190) (6784)، والبزار (6/ 363) (2375)، وابن عدي (6/ 123)، والحاكم (4/ 108). وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي (7/ 265): رواه أحمد، والبزار بإسنادين، ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح، وكذلك رجال أحمد. وقال في (7/ 273): رواه أحمد، والبزار، والطبراني، وأحد أسانيد البزار رجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (10/ 30). (¬2) [13295])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 183). (¬3) [13296])) رواه ابن هشام في ((السيرة النبوية)) (6/ 82)، والطبري في ((التاريخ)) (2/ 237). من حديث أنس رضي الله عنه. قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (5/ 248): رواه ابن إسحاق بإسناد صحيح. (¬4) [13297])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 293). (¬5) [13298])) رواه أحمد (3/ 403) (15369)، والحاكم (3/ 329)، والبيهقي (8/ 164) (17103)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1096). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 232): رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أني لم أجد لشريح من عياض وهشام سماعاً وإن كان تابعيا، وصححه الألباني في ((تخريج كتاب السنة)). (¬6) [13299])) ألّف ابن رجب الحنبلي رسالة قيمة في ((الفرق بين النصيحة والتعيير)) حققها نجم عبد الرحمن خلف ونشرتها المكتبة القيمة.

أ- قدم هشام بن عبد الملك حاجًا إلى مكة فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين. فأتي بطاوس اليماني، فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه، ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين، ولكن قال: السلام عليك يا هشام، ولم يكنه، وجلس بإزائه. وقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضبًا شديدًا حتى هم بقتله. فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله، ولا يمكن ذلك. فقال: يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟ فازداد غضبًا وغيظًا. قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تقبل يدي، ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت: كيف أنت يا هشام؟ قال: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، ولا يعاتبني ولا يغضب عليَّ، وأما قولك لم تقبل يدي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته من شهوة، أو ولده من رحمة). وأما قولك لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب، وأما قولك لم تكنني فإن الله تعالى سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا يحيى يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] وأما قولك: جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه يقول: (إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام) (¬1). فانظر إلى عزة المؤمن كيف تفعل أمام السلاطين. ب- وروى أبو سليمان الخطابي بسنده إلى عبد الله بن بكر السهمي قال: (سمعت بعض أصحابنا قالوا: أرسل عمر بن هبيرة - وهو على العراق - إلى فقهاء من فقهاء البصرة وفقهاء من فقهاء الكوفة، وكان ممن أتاه من فقهاء البصرة الحسن، ومن أهل الكوفة الشعبي، فدخلوا عليه، فقال لهم: إن أمير المؤمنين يزيد يكتب إلي في أمور أعمل بها فما تريان؟ قال: فقال الشعبي: أصلح الله الأمير أنت مأمور والتبعة على من أمرك، فأقبل على الحسن فقال: ما تقول؟ قد قال هذا، قل أنت، قال: اتق الله يا عمر فكأنك بملك قد أتاك فاستزلك عن سريرك هذا، وأخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، إن الله تعالى ينجيك من يزيد، وإن يزيد لا ينجيك من الله سبحانه، فإياك أن تعرض لله تعالى بالمعاصي، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ثم قام فتبعه الآذن فقال: أيها الشيخ ما حملك على ما استقبلت به الأمير؟ قال: حملني عليه ما أخذ الله تعالى على العلماء في علمهم ثم تلا: وَإِذ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ... [آل عمران: 187]) (¬2). إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا حصر لها. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 405 ¬

(¬1) [13300])) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 146). (¬2) [13301])) ((العزلة)) للخطابي (ص: 96).

المبحث الرابع: حق المال

المبحث الرابع: حق المال واجبات الإمام كثيرة كما سبق تستدعي التفرغ التام لتدبير شؤون الرعية، وهو كغيره من الناس في حاجة إلى المال لمأكله ومشربه وخدمه وعياله ونحو ذلك، لذلك فقد جعل الإسلام له حقًا في مال المسلمين يأخذ منه ما يكفيه ومن يعول، وقد أخذ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ما يكفيهما من بيت المال. فقد روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن عطاء بن السائب قال: (لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح فقال له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا فانطلق معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاة وكسوة في الرأس والبطن) (¬1). وروى البخاري وابن سعد بسنديهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما استخلف أبو بكر الصديق قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، واحترف للمسلمين فيه) (¬2). ولما وُلي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا لا يأكل من المال حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، وأرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشارهم في ذلك فقال: (قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، قال: وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك) (¬3). وروى أحمد بسنده إلى عبد الله بن زرير عن علي بن أبي طالب قال: يا ابن زرير إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين الناس)) (¬4). وروى أيضًا ابن سعد وابن أبي شيبة عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف) (¬5). قلت: أشار بذلك إلى قوله تعالى: وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6]. وتساءل بعض المسلمين عما يحلُّ لأمير المؤمنين من المال فقال عمر: (أنا أخبركم بما أستحل منه، يحل لي حلتان: حلة في الشتاء، وحلة في القيظ. وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بَعْدُ رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم) (¬6). مما سبق يتَّضح أن للإمام أن يأخذ من مال المسلمين راتبًا معيَّنا يَسُدُّ به حاجته ومن يعول من غير إسراف ولا تقتير، وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحق لمن ولي ولاية من إمارة أو غيرها وإن كان موسرًا، فقد روى البخاري بسنده إلى حويطب بن عبد العزى أخبره ((أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر في خلافته فقال له عمر: ألم أحدَّث أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقلت: بلى فقال عمر: ما تريد ذلك؟ قلت: إني لي أفراسًا وأعبدًا وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، قال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذه فتموّله وتصدق به فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وإلا فلا تتبعه نفسك)) (¬7). قال الحافظ ابن حجر: قال الطبري: (في حديث عمر الدليل الواضح على أن من شُغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك) (¬8). لكن عليه أن يتقي الله فيه، فإنه أمانة في يده فعليه أن يأخذ ما يكفيه بلا إسراف ولا تقتير، ولا يعبث بأموال المسلمين التي ائتمنه الله عليها. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 416 ¬

(¬1) [13302])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 184)، وابن الجوزي في ((صفوة الصفوة)) (1/ 257). (¬2) [13303])) رواه البخاري (2070)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 184). (¬3) [13304])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 307). (¬4) [13305])) رواه أحمد (1/ 78) (578). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 234): فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (2/ 26)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (362). (¬5) [13306])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (7/ 624)، وابن أبي شيبة (3/ 276). (¬6) [13307])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 275 - 276). (¬7) [13308])) رواه البخاري (7163). (¬8) [13309])) ((فتح الباري)) (13/ 154).

المبحث الخامس: مدة صلاحية الحاكم للإمامة

المبحث الخامس: مدة صلاحية الحاكم للإمامة ومن حقوق الإمام أن يبقى حاكمًا ما دام صالحًا للإمامة وليس له وقت محدد ينتهي إليه، حتى ينتهي أجله، أو تنتهي قدرته وطاقته في القيام بها، يقول الدكتور محمد الصادق عفيفي: (وللخليفة الحق في أن يحكم مدى الحياة، حتى يأمن الملق والنفاق، وحتى لا يستكين لأحد طمعًا في تجديد انتخابه مرة ثانية، والحاكم عندما ينظر يجب أن تكون نظرته شاملة، أي: ينظر إلى الشعب في مجموعه دون تفرقة بين طائفة وأخرى، وأن يعمل على أساس أنه باق مدى الحياة طال الزمن أو قصر، حتى يكون عمله خالصًا من الشبهات) (¬1). وهذا مما يخالف فيه الإسلام النظم الديمقراطية التي تحدد فترة معينة للرئيس، ثم بعدها ينتخب انتخابًا ثانيًا، وفي هذه الحالة يكون هَمُّه جمع أكبر عدد من الأصوات المرشِّحة له، فيخصّ أعضاء حزبه ومرشحيه بالمصلحة دون غيرهم من الناس لكسب رضاهم ... والله أعلم. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص: 419 ¬

(¬1) [13310])) ((المجتمع الإسلامي وأصول الحكم)) (ص: 195).

المبحث السادس: أداء العبادات خلفه ومعه

المطلب الأول: أداء الصلاة خلف كل بر وفاجر أولا: الصلاة خلف البر والفاجر ولما كان السلطان أو الخليفة قد يصلي بالناس الجمع والأعياد وغيرها من الصلوات، لزم بيان حكم أداء هذا الركن الإسلامي، ألا وهو الصلاة خلفه إذا كان مبتدعا، سواء كان داعية أو مستتراً ببدعته لا يظهرها. وتفصيل الحكم في هذه المسألة يختلف باختلاف حال الحاكم المبتدع من كونه داعية أو غير داعية، ويختلف أيضاً باختلاف حال المأموم من الرعية، من كونه يجد من يصلي خلفه تلك الصلاة غير السلطان، أو غير واجد إلا الصلاة خلف الحاكم المتلبس ببدعة. ولإيضاح ذلك أقول: إن كان الحاكم المبتدع داعياً إلى بدعته، ولم يمكن إقامة الجمع والأعياد والجماعات إلا خلفه، وهذا يكون غالباً إذا كان الخليفة هو المتولي لأمر الصلاة كما في العهد السابق، فإن الصلاة خلفه في هذه الحال صحيحة مجزئة عند عامة أهل السنة من السلف والخلف، بل قد عد عدد من أهل العلم تاركها في هذه الحال مبتدعاً، وذلك لأن هذه الصلاة من شعائر الإسلام الظاهرة، وتليها الأئمة دون غيرهم فتركها خلفهم يفضي إلى تركها بالكلية. ومما يدل على ذلك ما جاء عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم، ومن جاء بعدهم من سلف هذه الأمة، ومن ذلك: ما جاء عن عبيد الله بن عدي رضي الله عنه أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج، فقال: (الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) (¬1). وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله على هذا الأثر بقوله: (باب إمامة المفتون والمبتدع) (¬2). فأمر عثمان رضي الله عنه بالصلاة مع إمام الفتنة، والمقصود به هنا كنانة بن بشر وهو أحد رؤوس الخوارج الذين حاصروا عثمان رضي الله عنه كما رجح ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله (¬3). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة، ولاسيما في زمن الفتنة؛ لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الصلاة) (¬4). وعن سوار بن شبيب أنه قال: حج نجدة الحروري في أصحابه فوادع ابن الزبير، فصلى هذا بالناس يوماً وليلة، وهذا بالناس يوماً وليلة، فصلى ابن عمر خلفهما فاعترضه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن أتصلي خلف نجدة الحروري؟ فقال ابن عمر: (إذا نادوا حي على خير العمل أجبنا، وإذا نادوا إلى قتل نفس قلنا: لا، ورفع بها صوته) (¬5). وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه قيل له زمن ابن الزبير والخوارج والخشبية: أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضاً؟ فقال: من قال: حي على الصلاة. أجبته، ومن قال: حي على الفلاح. أجبته، ومن قال: حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله. قلت: لا) (¬6). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال) (¬7). وسار التابعون ومن تبعهم بإحسان من أئمة السلف على هذا، فقرروه قولاً وفعلاً، فمن ذلك: ¬

(¬1) [13311])) رواه البخاري (695). من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه. (¬2) ((صحيح البخاري)) (2/ 188، مع الفتح). (¬3) انظر: ((فتح الباري)) (2/ 189). (¬4) ((فتح الباري)) (2/ 190). (¬5) رواه ابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (ص: 284) برقم (209). (¬6) رواه البيهقي في ((السنن) (3/ 122) (5088). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 281).

ما جاء عن الأعمش رحمه الله أنه قال: (كان كبار أصحاب عبد الله –يعني ابن مسعود- يصلون الجمعة مع المختار ويحتسبون بها) (¬1). وقد كان أبو وائل رحمه الله يصلي الجمعة مع المختار بن أبي عبيد (¬2). وعن الحسن رحمه الله أنه سئل عن الصلاة خلف صاحب البدعة، فقال الحسن: (صل خلفه، وعليه بدعته). وعن الحكم بن عطية رحمه الله أنه قال: سألت الحسن وقلت: رجل من الخوارج يؤمنا، أنصلي خلفه؟ قال: (نعم، قد أم الناس من هو شر منه) (¬3). وعن ابن وضاح رحمه الله: قال: سألت الحارث بن مسكين: هل ندع الصلاة خلف أهل البدع؟ فقال: (أما الجمعة خاصة فلا، وأما غيرها من الصلاة فنعم) (¬4). وقال ابن وضاح أيضاً: سألت يوسف بن عدي عن تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا خلف كل بر وفاجر))، قال: (الجمعة خاصة)، قلت: وإن كان الإمام صاحب بدعة، قال: (نعم، وإن كان صاحب بدعة لأن الجمعة في مكان واحد ليس توجد في غيره) (¬5). وقال سفيان الثوري رحمه الله في وصيته لشعيب بن حرب: (يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت، حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر). قال شعيب لسفيان: يا أبا عبد الله الصلاة كلها؟ قال: (لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صل خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخير، لا تصل إلا خلف من تثق به، وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة ... ) (¬6). وهكذا سار أهل العلم على تقرير ذلك، وأن الصلاة خلف أهل البدع من الولاة جائزة وصحيحة، لا يجوز إعادتها؛ إن لم يكن هناك من أهل العدل من يمكن الصلاة خلفه، لهذا خص بعض من تقدم ذلك بصلاة الجمعة؛ وذلك لأن صلاة الجمعة لا يمكن إقامتها إلا خلف الولاة، أما بقية الصلوات فإنها يمكن أن تصلى خلف سني عادل، أو من يوثق به. أما أقوال محققي أهل العلم في ذلك، فقد قال ابن قدامة رحمه الله (فأما الجمع والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر وفاجر، وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة، وكذلك العلماء الذين في عصره، ... ولأن هذه الصلاة من شعائر الإسلام الظاهرة، وتليها الأئمة دون غيرهم، فتركها خلفهم يفضي إلى تركها بالكلية) (¬7). وقال النووي رحمه الله: (وكذا تكره –أي الصلاة- وراء المبتدع الذي لا يكفر ببدعته، وتصح، فإن كفر ببدعته فقد قدمنا أنه لا تصح الصلاة وراءه كسائر الكفار، ونص الشافعي في المختصر على كراهة الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، فإن فعلها صحت) (¬8). وهذه الكراهة إما هي إن أمكن الصلاة خلف غيره من أهل العدل كما هو مقرر عند الشافعية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى، فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة أهل السنة، بلا خلاف عندهم) (¬9). ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (1/ 475) برقم (5497)، وابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (ص: 284) برقم (210). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (1/ 475) برقم (5497)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (2/ 386) برقم (3798). (¬3) روه ابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (ص: 284) برقم (211). (¬4) روه ابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (ص: 284) برقم (212). (¬5) روه ابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (ص: 284) برقم (212). (¬6) رواه اللالكائي في ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 154). (¬7) ((المغني)) (3/ 22). (¬8) ((المجموع)) (4/ 150). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 280).

وقال أيضاً: (وأما الصلاة خلف المبتدع فهذه المسألة فيها نزاع وتفصيل، فإذا لم تجد إماماً غيره كالجمعة التي لا تقام إلا بمكان واحد، وكالعيدين وكصلوات الحج خلف إمام الموسم، فهذه كلها تفعل خلف كل بر وفاجر باتفاق أهل السنة والجماعة) (¬1). فظهر من ذلك أن الأئمة لا يختلفون في جواز الصلاة خلف أئمة البدع الدعاة إلى بدعهم، إن لم يكن إقامتها خلف غيرهم من أهل السنة. وأما إن أمكنه أن يصلي خلف إمام من أهل العدل، ومع ذلك صلى خلف الحاكم المبتدع، فهنا حصل النزاع بين العلماء في صحة صلاته، مع اتفاقهم على كراهية ذلك. ولهم في ذلك قولان: القول الأول: أن الصلاة صحيحة ولكنها مكروهة، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬2)، والشافعي (¬3)، وهو أحد القولين في مذهب مالك (¬4) وأحمد (¬5)، وعليه عامة أهل العلم وجمهور أصحاب الأئمة الأربعة (¬6). والقول الثاني: أن الصلاة لا تصح ويجب على المصلي خلف الولاة المبتدعة أن يعيد صلاته، وهو الرواية الأخرى عن مالك (¬7) وأحمد (¬8) – رحم الله الجميع – وهذه الرواية هي المذهب عند الحنابلة (¬9). والقول الأول (هو الصحيح – إن شاء الله – فبالإضافة إلى أنه قول عامة السلف فهو الذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعد الدين. فإن الحكم ببطلان عمل ما مما شرعه الله لعباده لا يكون إلا بانخرام أحد شروط الصحة المقررة لقبوله في الشرع) (¬10). أما إن كان الحاكم يخفي بدعته ويسر بها، فإن لم يمكن أداء الصلاة إلا خلفه كالجمع والجماعات، فمن باب أولى أن الصلاة خلفه صحيحة، وأن معيدها بعد أن صلاها خلفه معدود من أهل البدع، وذلك لأن المستتر أخف من المعلن ببدعته فلما صحت هناك كان من الأولى أن تصح هنا. أما إن أمكن أن تصلى خلف غيره من أهل العدل، فإن الصلاة خلف أهل العدل أولى من الصلاة خلف الحاكم المبتدع المسر ببدعته، مع صحتها خلف الحاكم المبتدع المسر ببدعته، فالحكم بصحة الصلاة هنا أولى من الحكم بصحة الصلاة خلف المعلن ببدعته. قال ابن قدامة رحمه الله: (فإن كان ممن يخفي بدعته وفسوقه صحت الصلاة خلفه) (¬11). لكن ينبغي التنبيه على أن الصلاة لا تترك خلف المبتدع المسر ببدعته غير المعلن لها إنكاراً عليه، لأن الإنكار يكون على من أظهر البدعة، أما المسر بها الساكت عنها، لا ينكر عليه في الظاهر بل يناصح سراً. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور، ففيه نزاع مشهور وتفصيل ليس هذا موضع بسطه. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 355). (¬2) انظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (1/ 304)، و ((الكفاية)) للمرغيناني (1/ 305)، و ((مجمع الأنهر)) لداماد أفندي (1/ 108). (¬3) انظر: ((المجموع)) للنووي (1/ 150 - 151)، و ((الحاوي)) للماوردي (2/ 328). (¬4) انظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/ 239)، و ((المعيار المعرب)) للونشريسي (2/ 338 - 339). (¬5) انظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/ 22)، و ((الإنصاف)) للمرداوي (2/ 253). (¬6) انظر: ((المعيار المعرب)) للونشريسي (2/ 338 - 339)، و ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (3/ 280). (¬7) انظر: تفسير القرطبي (1/ 356)، و ((الجامع)) لابن أبي زيد القيرواني (ص: 148)، و ((المعيار المعرب)) للونشريسي (2/ 338). (¬8) انظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/ 22)، و ((الإنصاف)) للمرداوي (2/ 253). (¬9) كما حكاه المرداوي في ((الإنصاف)) (2/ 252). (¬10) ((موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع)) للشيخ الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي (1/ 364). (¬11) ((المغني)) (3/ 23).

ولكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة، لا يجوز مع القدرة على غيره، فإن من كان مظهراً للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته، ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلن فلم تنكر ضرت العامة، ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم، وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى بخلاف من أظهر الكفر) (¬1). وبما سبق تقريره ونقله من آثار وأقوال الصحابة والتابعين ومن تبعهم من الأئمة المحققين، يظهر لنا الموقف الصحيح للرعية تجاه حكامهم إذا ما اقترفوا شيئاً من البدع مع بيان حكم الصلاة خلفهم. ضوابط معاملة الحاكم عند أهل السنة والجماعة وأثرها على الأمة لخالد ضحوي الظفيري 2/ 443 قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى -: فإذا كان داعية -أي إلى البدع- منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته لما في ذلك من النهي عن المنكر لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهرا للمنكر في الإمامة وجب ذلك. لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان. ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا. فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك بل يصلى خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه كالجمع والأعياد والجماعة. إذا لم يكن هناك إمام غيره ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج (¬2) والمختار بن أبي عبيد الثقفي (¬3) وغيرهما الجمعة والجماعة فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقا معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع (¬4). وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهو أولى من فعلها خلف الفاجر. وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد للعلماء. منهم من قال: أنه يعيد لأنه فعل ما لا يشرع بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا فكانت صلاته خلفه منهيا عنها فيعيدها. ومنهم من قال: لا يعيد. قال: لأن الصلاة في نفسها صحيحة وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة. وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه كالجمعة فهنا لا تعاد الصلاة وإعادتها من فعل أهل البدع وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا قيل: إن الصلاة خلف الفاسق لا تصح أعيدت الجمعة خلفه وإلا لم تعد وليس كذلك. بل النزاع في الإعادة حيث ينهى الرجل عن الصلاة. فأما إذا أمر بالصلاة خلفه فالصحيح هنا أنه لا إعادة عليه لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 342). (¬2) [13339])) رواه ابن أبي شيبة (4/ 340). وصححه الألباني في ((إرواء الغليل)) (525). (¬3) [13340])) رواه ابن أبي شيبة (2/ 55). (¬4) [13341])) ((المجموع)) (4/ 251)، ((المغني)) (2/ 149).

وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه. ومن قال إنه يكفر أمر بالإعادة لأنها صلاة خلف كافر (¬1). مجموع الفتاوى لابن تيمية - 23/ 343 - 345 ¬

(¬1) [13342])) ((المحيط البرهاني)) لبرهان الدين مازه (2/ 102)، ((شرح فتح القدير)) للكمال بن الهمام (1/ 350)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/ 370)، ((المغني)) (2/ 149)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/ 254 - 256)،

ولو علم المأموم أن الإمام مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الراتب الذي لا تمكن الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك. فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم (¬1). ولهذا قالوا في العقائد: إنه يصلي الجمعة والعيد خلف كل إمام برا كان أو فاجرا وكذلك إذا لم يكن في القرية إلا إمام واحد فإنها تصلى خلفه الجماعات فإن الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجل وحده وإن كان الإمام فاسقا. هذا مذهب جماهير العلماء: أحمد بن حنبل والشافعي (¬2) وغيرهما بل الجماعة واجبة على الأعيان في ظاهر مذهب أحمد (¬3). ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند الإمام أحمد (¬4). وغيره من أئمة السنة. كما ذكره في رسالة عبدوس وابن مالك والعطار. والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون كما كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج (¬5) وابن مسعود وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة (¬6) وكان يشرب الخمر حتى أنه صلى بهم مرة الصبح أربعا ثم قال: أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة ولهذا رفعوه إلى عثمان (¬7). وفي صحيح البخاري (أن عثمان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص فسأل سائل عثمان. فقال: إنك إمام عامة وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة. فقال: يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) (¬8). ومثل هذا كثير. والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورا لا يرتب إماما للمسلمين فإنه يستحق التعزير حتى يتوب فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه. فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان فيه مصلحة ولم يفت المأموم جمعة ولا جماعة. وأما إذا كان ترك الصلاة يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم. وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة فهنا ليس عليه ترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق أو بدعة تظهر مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الرافضة والجهمية ونحوهم. ¬

(¬1) [13343])) ((المحيط البرهاني)) لبرهان الدين مازه (2/ 102)، ((شرح فتح القدير)) للكمال بن الهمام (1/ 350)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/ 370)، ((المجموع)) (4/ 251)، ((المغني)) (2/ 149)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/ 254 - 256)، (¬2) [13344])) ((المجموع)) (4/ 251)، ((المغني)) (2/ 149). (¬3) [13345])) ((المغني)) (2/ 149)، ((الإنصاف)) (2/ 256). (¬4) [13346])) ((المغني)) (2/ 149)، ((الإنصاف)) (2/ 256). (¬5) [13347])) رواه ابن أبي شيبة (4/ 340). وصححه الألباني في ((إرواء الغليل)) (525). (¬6) [13348])) الحديث رواه أحمد (1/ 450) (4298)، والطبراني (9/ 299) (9520). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 329): رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (6/ 146). (¬7) [13349])) رواه بنحوه أحمد (1/ 144) (1229)، والبيهقي (8/ 318) (17985). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬8) [13350])) رواه البخاري (695). من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه.

مجموع الفتاوى لابن تيمية 23/ 352 - 355 ثانيا: الصلاة خلف المستور قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم فإن كان الإمام مستورا لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين (¬1) ولم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم وهذا مذهب الشافعي (¬2) وأبي حنيفة (¬3) وهو أحد القولين في مذهب مالك (¬4) وأحمد (¬5). وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم (¬6). وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله. ولم يقل أحمد إنه لا تصح إلا خلف من أعرف حاله. ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع وكانوا باطنية ملاحدة وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر. فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين ومن قال إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة (¬7)، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط (¬8) وكان قد يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعاً وجلده عثمان بن عفان على ذلك (¬9). وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف (¬10). وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد (¬11) وكان متهماً بالإلحاد وداعيا إلى الضلال. مجموع الفتاوى لابن تيمية - 3/ 280 - 281 وقال: ويجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين. وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال. مجموع الفتاوى لابن تيمية - 23/ 351 ¬

(¬1) [13351])) ((المجموع)) (4/ 251)، ((المغني)) (2/ 149). (¬2) [13352])) ((روضة الطالبين)) للنووي (1/ 459)، ((المجموع)) للنووي (4/ 251 - 254)، ((أسنى المطالب)) لأبي يحيى زكريا الأنصاري (1/ 219)، ((مغني المحتاج)) للشربيني الخطيب (1/ 242). (¬3) [13353])) ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/ 157)، ((شرح فتح القدير)) للكمال بن الهمام (1/ 350)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/ 370). (¬4) [13354])) ((الذخيرة)) للقرافي (2/ 240)، ((التاج والإكليل)) للمواق (2/ 129)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/ 515). (¬5) [13355])) ((المغني)) لابن قدامة (2/ 22)، ((الفروع)) لابن مفلح (2/ 13)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/ 253)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/ 296). (¬6) [13356])) ((المحيط البرهاني)) لبرهان الدين مازه (2/ 102)، ((شرح فتح القدير)) للكمال بن الهمام (1/ 350)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/ 370)، ((المجموع)) (4/ 251)، ((المغني)) (2/ 149)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/ 254 - 256)، (¬7) [13357])) ((المجموع)) (4/ 251)، ((المغني)) (2/ 149). (¬8) [13358])) الحديث رواه أحمد (1/ 450) (4298)، والطبراني (9/ 299) (9520). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 329): رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (6/ 146). (¬9) [13359])) رواه أحمد (1/ 144) (1229)، والبيهقي (8/ 318) (17985). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬10) [13360])) رواه ابن أبي شيبة (4/ 340). وصححه الألباني في ((إرواء الغليل)) (525). (¬11) [13361])) رواه ابن أبي شيبة (2/ 55).

المطلب الثاني: الجهاد معه

المطلب الثاني: الجهاد معه أما عن حكم الجهاد معهم وتحت لوائهم ورايتهم، فقد نص أهل العلم على أن الجهاد يكون مع كل بر وفاجر، وسيأتي نقل أقوالهم في ذلك تحت الحديث عن حكم الجهاد مع الحاكم الفاسق، والبدع من أنواع الفسق والفجور التي لا تمنع الرعية من إقامة الجهاد خلف حكامهم إن كانوا متلبسين بذلك. ومن آثار السلف في ذلك ما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يحث على الجهاد أيام المأمون والمعتصم في قتال بابك الخرمي. ومن ذلك كتاب الإمام أحمد إلى علي بن المديني، ونصه: (إلى أبي الحسن علي بن عبد الله من أحمد بن محمد: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: أحسن الله إليك في الأمور كلها، وسلمك وإيانا من كل سوء برحمته، كتبت إليك وأنا ومن أعنى به في نعم من الله متظاهرة، أسأله العون على أداء شكر ذلك فإنه ولي كل نعمة، كتبت إليك –رحمك الله- في أمر لعله أن يكون قد بلغك من أمر هذا الخرمي، الذي قد ركب الإسلام بما قد ركبه به، من قتل الذرية وغير ذلك وانتهاك المحارم وسبي النساء وكلمني في الكتاب إليك بعض إخوانك، رجاء منفعة ذلك عند من يحضرك ممن له نية في النهوض إلى أهل أردبيل، والذب عنهم وعن حريمهم ممن ترى أنه يقبل منك، فإن رأيت –رحمك الله- لمن حضرك ممن ترى أنه يقبل منك ذلك، فإنهم على شفا هلكة وضيعة وخوف من هذا العدو المظل، كفاك الله وإيانا كل مهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)) (¬1). وعن حسين الصائغ قال: لما كان من أمر بابك جعل أبو عبد الله يحرض على الخروج إليه وكتب معي كتاباً إلى أبي الوليد والي البصرة يحرضهم على الخروج إلى بابك (¬2). فظهر أن ارتكاب الحاكم للبدعة لا يكون سبباً للتخاذل عنه وعدم نصرته والجهاد معه، لأن في ذلك خذلاناً للمسلمين وقد يكون سبباً لنصر أعداء الله عليهم خاصة إن كانوا في مواجهة الكفار. لكن ينبه هنا على أن الجهاد أو القتال الذي لا يترك مع الخليفة المبتدع هو الجهاد الشرعي الذي نص أهل العلم على أنه جهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، ويدخل في ذلك قتال الخوارج والبغاة مع الإمام، أما القتال في الفتنة فإن هذا مما يحرم متابعة الإمام فيه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ضوابط معاملة الحاكم عند أهل السنة والجماعة وأثرها على الأمة لخالد ضحوي الظفيري 2/ 452 ¬

(¬1) رواه الخلال في ((السنة)) (1/ 147 - 148) برم (115). (¬2) رواه الخلال في ((السنة)) (1/ 148) برم (117).

المطلب الثالث: الحج معه

المطلب الثالث: الحج معه كان السلف الصالح – رحمهم الله- لا يتوقفون عن الحج، مهما كان اعتقاد الخليفة ما دام مسلماً، ولم يرد عن أحد من السلف أنه توقف عن الحج بسبب ابتداع الخليفة أو فسقه. قال زهير بن عباد –رحمه الله-: (كان من أدركت من المشايخ، مالك، وسفيان، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، ووكيع، وغيرهم، كانوا يحجون مع كل خليفة) (¬1). وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: (وقد أجمعت العلماء من أهل الفقه والعلم والنساك والعباد والزهاد من أول هذه الأمة إلى وقتنا هذا: أن صلاة الجمعة والعيدين ومنى وعرفات والغزو والجهاد والهدي مع كل أمير بر أو فاجر، وإعطاءهم الخراج والصدقات والأعشار جائز، والصلاة في المساجد التي بنوها والمشي على القناطر والجسور التي عقدوها والبيع والشراء، وسائر التجارة والزراعة والصنائع كلها في كل عصر ومع كل أمير جائر على حكم الكتاب والسنة)) (¬2). وقال ابن أبي زمنين: (ومن قول أهل السنة: أن الحج، والجهاد مع كل بر وفاجر، من السنة والحق) (¬3). وقال ابن بطال – رحمه الله-: (وإن كان غير عدل؛ فالواجب عند العلماء من أهل السنة ترك الخروج عليه وأن يقيموا معه الحدود: الصلوات، والحج، وتؤدى إليه الزكوات) (¬4). وكذلك أداء الزكاة فهو –أيضا- من حقوق الولاة، وإن كانوا مبتدعة. ضوابط معاملة الحاكم عند أهل السنة والجماعة وأثرها على الأمة لخالد ضحوي الظفيري 2/ 454 ¬

(¬1) رواه ابن أبي زمنين في ((أصول السنة)) (ص: 288). (¬2) ((الشرح والإبانة)) (ص: 276 - 280). (¬3) ((أصول السنة)) (ص: 288). (¬4) ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 128).

الفصل السادس: الخروج على الأئمة

المبحث الأول: مسببات العزل من المتفق عليه بين العلماء أن الإمام ما دام قائما بواجباته الملقاة على عاتقه، مالكا القدرة على الاستمرار في تدبير شؤون رعيته، عادلاً بينهم فإنه لا يجوز عزله ولا الخروج عليه، بل ذلك مما حذر منه الإسلام وتوعد الغادر بعذاب أليم يوم القيامة، كما أن الأخطاء اليسيرة، لا تجوِّز عزل الإمام، لأن الكمال لله وحده والمعصوم من عصمه الله، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لكن هناك أمور عظيمة لها تأثير على حيات المسلمين الدينية والدنيوية، منها ما يؤدي إلى ضرورة عزل الإمام المرتكب لها، وهذه الأمور منها: ما هو متفق عليه بين العلماء. ومنها: ما هو مختلف فيه. والآن نستعرض هذه الأسباب لنرى آراء العلماء فيها: الأول: الكفر والردَّة بعد الإسلام: أول الأمور وأعظم الأسباب الموجبة لعزل الوالي وخلعه عن تدبير أوامر المسلمين هو الردة والكفر بعد الإيمان، فإذا ما ارتكب الإمام جرمًا عظيمًا يؤدي إلى الكفر والارتداد عن الدين فإنه ينعزل بذلك عن تدبير أمر المسلمين، ولا يكون له ولاية على مسلم بحال، قال تعالى: وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141] وأي سبيل أعظم من سبيل الإمامة؟ وفي الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: ((بايعنا – أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)) (¬1). قال الخطابي: (معنى بواحًا يريد ظاهرًا باديًا من قولهم باح بالشيء يبوح بوحًا وبواحًا إذا أذاعه وأظهره) (¬2) ((وعندكم من الله فيه برهان)) قال الحافظ ابن حجر: (أي: نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل) (¬3). وقال النووي: (المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولاياتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام) (¬4). ومن مفهوم هذا الحديث أنه لا يشترط أن يعلن هذا الحاكم الردة عن الإسلام أو الكفر، بل يكفي إظهاره لبعض المظاهر الموجبة للكفر قال الكشميري: (ودل - أي هذا الحديث - أيضًا على هذا أن أهل القبلة يجوز تكفيرهم وإن لم يخرجوا عن القبلة، وأنه قد يلزم الكفر بلا التزام وبدون أن يريد تبديل الملة، وإلا لم يحتج الرائي إلى برهان) (¬5). فظاهر الحديث أن من طرأ عليه الكفر فإنه يجب عزله، وهذا أهون ما يجب على الأمة نحوه، إذ الواجب أن يقاتل ويباح دمه بسبب ردته امتثالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن عباس: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (¬6). ... وأن الكافر لا ولاية له على المسلم بحال وهذا السبب في عزل الإمام محل اتفاق بين العلماء، ومجمع عليه عندهم، قال أبو يعلى: (إن حدث منه ما يقدح في دينه، نظرت فإن كفر بعد إيمانه فقد خرج عن الإمامة، وهذا لا إشكال فيه لأنه قد خرج عن الملة ووجب قتله) (¬7). ¬

(¬1) [13368])) رواه البخاري (7055)، ومسلم (1840). (¬2) [13369])) ((فتح الباري)) (13/ 8). (¬3) [13370])) ((فتح الباري)) (13/ 5). (¬4) [13371])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 229). (¬5) [13372])) ((إكفار الملحدين)) للكشميري (ص: 22). (¬6) [13373])) رواه البخاري (3017). (¬7) [13374])) ((المعتمد في أصول الدين)) (ص: 243).

وقال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر: (أنه - أي الإمام - ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) (¬2). وقال السفاقسي: (أجمعوا على أن الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة يثار عليه) (¬3). الثاني: ترك الصلاة والدعوة إليها: كما أن من الأسباب الموجبة لعزل الإمام ترك الصلاة والدعوة إليها، إما جحودًا فهذا كفر ويدخل في السبب الآنف الذكر، وإما تهاونًا وكسلاً فعلى رأي بعض العلماء أنه معصية وكبيرة من الكبائر، وعلى الرأي الآخر أنه كفر ... فعلى أي الحالين يجب عزل الإمام الذي يترك الصلاة عملاً بالأحاديث الواردة في ذلك والتي نهت عن منابذة أئمة الجور ونقض بيعتهم وعن مقاتلتهم بشرط إقامتهم الصلاة ومن الأحاديث: 1 - ما رواه مسلم عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ... )) الحديث (¬4). ومن مفهوم الحديث أنه متى تركوا إقامة الصلاة فإنهم ينابذون، والمنابذة هي المدافعة والمخاصمة والمقاتلة. 2 - كما يدل على ذلك أيضًا الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا)) (¬5). وهذا الحديث فيه التصريح بمقاتلة الأمراء الذين لا يصلون، ومعلوم أن المقاتلة هي آخر وسيلة من وسائل العزل ... الثالث: ترك الحكم بما أنزل الله: وهذا السبب أيضًا كالذي قبله تستوي فيه الصور من الحكم بغير ما أنزل الله المخرجة لفاعلها من الإسلام، وكذلك الصور التي لا تخرجه من الملة ... والذي يدل على أن هذا السبب موجب لعزل الإمام بجميع صوره المكفرة والمفسقة هو ورودها مطلقة في الأحاديث النبوية الصحيحة الآتية: 1 - عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله)) (¬6). ¬

(¬1) [13375])) ((شرح صحيح مسلم) للنووي (12/ 229). (¬2) [13376])) ((فتح الباري)) (13/ 123). (¬3) [13377])) ((إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري)) (10/ 217). (¬4) [13378])) رواه مسلم (1855). (¬5) [13379])) رواه مسلم (1854). (¬6) رواه البخاري (7142).

2 - وعن أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها قالت: ((حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع ... إلى أن قالت: ثم سمعته يقول: إن أمر عليكم عبد مجدع - حسبتها قالت: أسود - يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) (¬1). وفي رواية: الترمذي والنسائي سمعته يقول: ((يا أيها الناس اتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله)) (¬2). فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أنه يشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام رعيته بكتاب الله. أما إذا لم يحكم فيهم شرع الله فهذا لا سمع له ولا طاعة وهذا يقتضي عزله، وهذا في صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة، أما المكفرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة ... الرابع: الفسق والظلم والبدعة: من المتفق عليه بين العلماء أن الإمامة لا تعقد لفاسق ابتداء. قال القرطبي: (لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق (¬3) ... لكن لو انعقدت الإمامة لعادل ثم طرأ عليه الفسق فما الحكم؟ هنا حصل الخلاف بين العلماء فمنهم من قال يستحق العزل وتنتقض بيعته، ومنهم من قال باستدامة العقد ما لم يصل به الفسق إلى ترك الصلاة أو الكفر، وفصَّل آخرون القول في ذلك على ما سيأتي: 1 - القائلون بالعزل مطلقًا: وهؤلاء يرون أن طروء الفسق كأصالته في إبطال العقد وذلك لانتفاء الغرض المقصود أصلاً من الإمامة، ونسب القرطبي هذا القول للجمهور فقال: (قال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته، ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق، وحفظ أموال الأيتام والمجانين، والنظر في أمورهم، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها ... ). قال: (فلو جوزنا أن يكون فاسق أدى إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله) (¬4). ونسب الزبيدي هذا القول إلى الشافعي في القديم (¬5)، وإليه ذهب بعض أصحابه) (¬6) وهو المشهور عن أبي حنيفة. وهو مذهب المعتزلة والخوارج، أما المعتزلة فقد قال عنهم القاضي عبد الجبار: (فأما الأحداث التي يخرج بها من كونه إمامًا فظهور الفسق سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغ لأن ذلك يقدح في عدالته) قال: ( ... لا فرق بين الفسق بالتأويل، وبين الفسق بأفعال الجوارح في هذا الباب عند مشايخنا ... وهذا مما لا خلاف فيه، لأنهم أجمعوا أنه يهتك بالفجور وغيره (وكذا) أنه لا يبقى على إمامته) (¬7). وأما الخوارج فإنهم لما كانوا يقولون بأن الفسق يخرج مرتكبه من الإيمان قالوا بانعزال الإمام إذا فسق لأنه حينئذ ليس مؤمنًا - على مذهبهم - وغير المؤمن لا يصلح أن يكون إمامًا، ومما أجمعت عليه الخوارج هو (الخروج على الأئمة) (¬8). 2 - القائلون بعدم العزل بالفسق مطلقًا: وهم جمهور أهل السنة، قال القاضي عياض: (وقال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه) (¬9). ¬

(¬1) رواه مسلم (1298). (¬2) [13382])) رواه الترمذي (1706)، والنسائي (7/ 154)، وابن ماجه (2328)، وأحمد (6/ 402) (27301)، والحاكم (4/ 206) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬3) [13383])) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 270). (¬4) [13384])) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 271). (¬5) [13385])) ((إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين)) (2/ 233). (¬6) [13386])) ((مآثر الإنافة)) (1/ 72). (¬7) [13387])) ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (20/ 170) ق 2. (¬8) [13388])) ((الفرق بين الفرق)) (ص: 73). (¬9) [13389])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 229).

وقال النووي: (إن الإمام لا ينعزل بالفسق على الصحيح) (¬1) وقال أبو يعلى في المعتمد: (ذكر شيخنا أبو عبد الله في كتابه عن أصحابنا أنه لا ينخلع بذلك، أي بفسق الأفعال كأخذ الأموال وضرب الأبشار، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله تعالى) (¬2). وذهب في كتابه (الأحكام السلطانية) إلى أن الفسق (لا يمنع من استدامة الإمامة سواء كان متعلقًا بأفعال الجوارح وهو ارتكاب المحظورات وإقدامه على المنكرات إتباعًا لشهوة، أو كان متعلقًا بالاعتقاد وهو: المتأول لشبهة تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحق) (¬3). ثم استدل على ما ذهب إليه بكلام الإمام أحمد في المنع من الخروج على الأئمة لما في ذلك من إحياء الفتنة، وبالأحاديث الآمرة بالصبر على جور الأئمة ... لكن مما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام هو أن المراد هنا هل الفسق يجعله مستحقًا للعزل أم لا؟ ... علمًا بأن هناك طرقًا للعزل غير السيف، ... وليس كل من استحق العزل يعزل، وإنما ينظر إلى ما سيترتب على هذا العزل، فإن ترتب عليه فتنة أكبر لم يجز العزل والخروج عليه. كما لا يجوز إنكار المنكر بمنكر أعظم منه، أما إذا أمنت الفتنة وقدر على عزله بوسيلة لا تؤدي إلى فتنة ففي هذه الحال يقوم أهل الحل والعقد بعزله لأنهم الذين أبرموا معه عقد الإمامة، فهم الذين يملكون نقضه. (3) ومنهم من فصل في ذلك: وهذا التفصيل من جهتين: من جهة ماهية الفسق، ومن جهة زمان العزل. أ- فأما ما يتعلق بماهية الفسق: فقد ذكر الماوردي الشافعي أن الفسق المانع لعقد الإمامة واستدامتها على ضربين: أحدهما: ما تابع فيه الشهوة. وهو: فسق الجوارح، وهو: ارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى. قال: (فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها) (¬4). الثاني منهما: متعلق بالاعتقاد والمتأول لشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق، فقد اختلف العلماء فيها (فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ويخرج بحدوثه منها ... وقال كثير من علماء البصرة: إنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج به منها، كما لا يمنع ولاية القضاء وجواز الشهادة) (¬5). ب- أما ما يتعلق بزمان العزل ففيها ثلاثة أوجه وهي كالتالي: أحدها: ينخلع بنفس الفسق ... كما لو مات. والثاني: لا ينخلع حتى يحكم بخلعه، كما إذا فك عنه الحجر ثم صار مبذرًا، فإنه لا يصح أن يصير محجورًا عليه إلا بالحكم. والثالث: إن أمكن استتابته وتقويم اعوجاجه لم يخلع وإن لم يمكن ذلك خلع (¬6). وهذا الوجه هو الذي رجحه الجويني (¬7) وذهب إليه ابن حزم الظاهري فقال: (والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه. وهو: إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق) (¬8). ¬

(¬1) [13390])) ((روضة الطالبين)) (10/ 48). (¬2) [13391])) ((المعتمد في أصول الدين)) (ص: 243). (¬3) [13392])) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 20). (¬4) [13393])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 17). (¬5) [13394])) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 17). (¬6) [13395])) انظر: ((تكملة المجموع)) للمطيعي (17/ 520). (¬7) [13396])) ((غياث الأمم)) (ص: 92)، وانظر: (ص: 76) و (ص: 88). (¬8) [13397])) ((الفصل)) (4/ 176).

وقد استدل القائلون بالعزل بالأدلة الدالة على اشتراطه في عقد الإمامة ابتداء ... قالوا: فكذلك هنا، ولأن الغرض من المنصب هو حماية جناب الدين ورفع الظلم وتحقيق العدل، فإذا انتفت هذه الخصال انتفى مقصود الإمامة والإمامة واجبة شرعًا كما مر فدل على أنه لا بد أن يكون الإمام عادلاً. واستدل المانعون بالأحاديث الصحيحة الكثيرة في الأمر بالصبر على جور الأئمة وعدم نزع اليد من الطاعة، وبما يترتب على العزل من فتن وإراقة الدماء وقد يجلب دفع هذا المنكر منكرًا أكبر منه وهذا لا يجوز ... الخامس: نقص التصرف: ومن مسببات العزل أيضًا نقص التصرف، وذلك بأن يطرأ على الإمام ما يقيد تصرفاته أو يبطلها، وقد قسمه العلماء إلى حجر وقهر: أ- فالحجر: (هو: أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقه) (¬1). فهذا لا يقتضي عزله وخروجه من أحكام الإمامة، وإنما ينظر إلى أفعال من استولى على أموره وهي: لا تخرج عن صورتين. 1 - إما أن تكون جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل، وفي هذه الحالة يجوز (إقراره عليها تنفيذًا لها وإمضاء لأحكامها، لئلا يقف من الأمور الدينية ما يعود بفساد على الأمة) (¬2). 2 - وإما أن تكون أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل ففي هذه الحال (لم يجز إقراره عليها، ولزمه أن يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه) (¬3). ب- أما القهر فله صورتان: الأولى: الأسر: وهو: أن يصير مأسورًا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، سواء كان هذا العدو مشركًا أو مسلمًا باغيًا ... 1 - أن يكون مرجو الخلاص من هذا الأسر فهو في هذه الحال باق على إمامته، قال الماوردي: (وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك إما بقتال أو بفداء) (¬4) وعلى كافة الأمة استنقاذه لما أوجبته الإمامة من نصرته. 2 - أن يكون ميئوسًا من خلاصه، وفي هذه الحال ينظر إلى الآسر: أ- فإن كانوا المشركين: فعلى أهل الحل والعقد استئناف بيعة غيره على الإمامة. ب- وإن كانوا بغاة: فلن يخلو حالهم من أمرين: 1 - إما أن يكونوا قد نصبوا لأنفسهم إمامًا دخلوا في بيعته، وانقادوا لطاعته ففي هذه الحال يكون (الإمام المأسور في أيديهم خارجًا من الإمامة بالإياس من خلاصه، لأنهم قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة وخرجوا بها عن الطاعة، فلم يبق لأهل العدل بهم نصرة وللمأسور معهم قدرة، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوا لها فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة لخروجه منها) (¬5). 2 - وإما أن يكونوا لم ينصبوا لهم إمامًا، بل كانوا فوضى لا إمام لهم ففي هذه الحالة يكون (الإمام المأسور في أيديهم على إمامته، لأن بيعتهم له لازمة وطاعته عليهم واجبة، فصار معهم كمصيره مع أهل العدل إذا صار تحت الحجر، وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر على الاستنابة، فإن قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم) (¬6). الصورة الثانية: أن يخرج عليه من يستولي على الإمامة بالقوة: ¬

(¬1) [13398])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 19)، و ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 22). (¬2) [13399])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 20)، و ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 23). (¬3) [13400])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 23)، و ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 20). (¬4) [13401])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 20). (¬5) [13402])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلي (ص23)، و ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 20). (¬6) [13403])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 20)، و ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 23).

وهذا أحد طرق انعقاد الإمامة ... وهو ما يسمى بالقهر والغلبة، وفي هذه الحال إذا تمكن هذا القاهر وغلب على الإمام الأول، واستولى على تدبير الأمور، فإن الإمام السابق في هذا الحال يكون معزولاً، وتنعقد الإمامة لهذا المستولي الجديد للضرورة، وحتى لا يقع الناس في الفوضى والفتنة، ويعمّ الفساد، وقد صلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بأهل المدينة يوم الحرَّة (¬1) وقال: (نحن مع من غلب) (¬2). وقال: (لا أقاتل في الفتنة، وأصلي وراء من غلب) (¬3). وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى بطلان إمامة السابق كما في رواية أبي الحارث: (في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيفتتن الناس فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم، مع من تكون الجمعة؟ قال: (مع من غلب) (¬4). وقد سبق الحديث عن هذه الطريقة، وأدلة ثبوتها، وأقوال العلماء فيها وأنها ليست من الطرق المشروعة وإنما للضرورة، ولأن مصلحة المسلمين تقتضي ذلك. والله أعلم. السادس: نقص الكفاءة: وذلك بعجز عقلي أو جسدي له تأثير على الرأي أو العمل: وهذه منها ما يمنع عقد الإمامة ابتداء ويمنع استدامتها، ومنها ما يمنع عقدها ابتداء فقط ... - ومنها ما لا يمنع العقد لا ابتداء ولا يمنع من استدامتها، ونحن في هذا المقام سنقتصر على ما يمنع من عقد الإمامة ابتداء ومن استدامتها، لأن ذلك هو الموجب للعزل فقط. أ- زوال العقل: بجنون ونحوه، وهذا مما لا خلاف فيه (¬5) إذا كان دائمًا لا ينفك، لأن الجنون يمتد عادة (فلو لم ينصبوا إمامًا آخر لأدى ذلك إلى اختلال الأمور، ولأن المجنون يجب ثبوت الولاية عليه، فكيف يكون وليًا لكافة الأمة)؟ (¬6) وأيضًا لأن ذلك (يمنع المقصود الذي هو إقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحماية المسلمين) (¬7). هذا إذا كان مطبقا لا يتخلله إفاقة، أما إذا كان يتخلله إفاقة يعود فيها إلى حال السلامة ففي هذه الناحية يحتاج الأمر إلى تفصيل (فإن كان أكثر زمانه الخبل فهو كما لو كان مطبقًا - أي يمنع ابتداء العقد واستدامته - وإن كان أكثر زمانه الإفاقة فقد قيل: يمنع من عقدها، وهل يمنع من استدامتها؟ فقيل: يمنع من استدامتها كما يمنع من ابتدائها، لأن في ذلك إخلالاً بالنظر المستحق فيه، وقد قيل: لا يمنع من استدامتها وإن منع من عقدها، لأنه يراعى في ابتداء عقدها سلامة كاملة وفي الخروج منها نقص كامل) (¬8) أما إن كان عارضًا يرجى زواله كالإغماء ونحوه فهذا لا يمنع العقد ابتداء، ومن ثم لا يمنع استدامتها من باب أولى. ب- فقد بعض الحواس المؤثرة في الرأي أو العمل مثل: ¬

(¬1) [13404])) الحرة موضع قريب من المدينة، ووقعة الحرة هذه هي الوقعة التي حصلت بين يزيد بن معاوية وبين أهل المدينة لما خلعوه لما أخذوا عليه من فسق، فبعث إليهم من يردهم إلى الطاعة، وأنظرهم ثلاثة أيام، فلما رجعوا قاتلهم واستباح المدينة ثلاثة أيام ... انظر: ((البداية والنهاية)) (8/ 232). (¬2) [13405])) ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (4/ 110). (¬3) [13406])) ((الطبقات الكبرى)) (4/ 149). وإسناده صحيح إلى سيف المازني، أما هو فأورده ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. انظر: إرواء الغليل (2/ 304). (¬4) [13407])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 23). (¬5) [13408])) حكى الجويني الإجماع على ذلك. انظر: ((غياث الأمم)) (ص: 93). (¬6) [13409])) ((مآثر الإنافة)) (1/ 67). (¬7) [13410])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 21). (¬8) [13411])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 21)، و ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 18).

1 - العمى: فهذا يمنع من عقدها ومن استدامتها، لأنه يُبْطِل القضاء ويمنع من جواز الشهادة - على رأي الجمهور - فأولى أن يمنع من صحة الإمامة (¬1). أما عشى العين وضعف البصر فلا يمنع من الاستدامة. 2 - الصمم والخرس: ففي انعزاله بطروئهما عليه ثلاثة مذاهب حكاها الماوردي وهي: الأول: ينعزل بذلك كما ينعزل بالعمى لتأثيرهما في التدبير والعمل، ورجّح هذا القول (¬2)، وعليه اقتصر الرافعي والنووي (¬3). الثاني: لا ينعزل لقيام الإشارة مقام السمع، والخروج من الإمامة لا يكون إلا بنقص كامل. الثالث: إن كان يحسن الكتابة لم يعزل، وإن كان لا يحسنها انعزل، لأن الكتابة مفهومة والإشارة موهومة (¬4). أما ما لا يؤثر ذهابه في الرأي والعمل كالخَشَم في الأنف الذي يمنع إدراك الروائح، وفقد الذوق الذي يعرف به الطعوم فإنهما لا يوجبان العزل بلا خلاف، وكذلك لا ينعزل بتمتمة اللسان ونحوها لأن نبي الله موسى عليه السلام لم تمنعه عقدة لسانه من النبوة فأولى ألا يمنع الإمامة (¬5). هذا وقد سبقت الإشارة إلى أن من الفقهاء من لا يشترط هذه الأمور في الإمامة عند ابتداء العقد، ومن باب أولى بعد العقد كابن حزم وغيره لكنه رأي مرجوح ... جـ- فقد بعض الأعضاء المخل فقدها بالعمل أو النهوض: وذلك كذهاب اليدين أو الرجلين. فإذا طرأ على الإمام شيء من ذلك انعزل لعجزه عن كمال القيام بحقوق الأمة. أما ما يؤثر في بعض العمل دون بعض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرجلين ففيه وجهان: الأول: أنه لا يؤثر وإن كان ذلك يمنع عقد الإمامة ابتداء، لأن المعتبر في عقدها كمال السلامة، فيعتبر في الخروج منها كمال النقص، وهذا هو الراجح. والثاني: يؤثر لنقص الحركة، فلو كان ذلك لا يؤثر فقده في عمل ولا نهوض كقطع الذكر أو الأنثيين، فهذا لا يمنع من الإمامة ولا من استدامتها، لأن ذلك مؤثر في التناسل فقط ... وقد استدلوا على ذلك بوصف الله ليحيى بن زكريا عليهما السلام وثنائه عليه فقال تعالى: وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 39] وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أنه لم يكن له ذكر يغشى به النساء ... ) (¬6) قالوا: (فلما لم يمنع ذلك من النبوة، فأولى أن لا يمنع من الإمامة) (¬7). ونحو ذلك سمل إحدى العينين وجدع الأنف والأذن لأن ذلك لا تأثير له على الحقوق والله أعلم. الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي - ص 468 ¬

(¬1) [13412])) الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص: 21)، و ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 18). (¬2) [13413])) ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص: 18). (¬3) [13414])) ((مآثر الإنافة)) (1/ 68). (¬4) [13415])) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 18). (¬5) [13416])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 21)، وانظر: ((مآثر الإنافة)) (1/ 69). (¬6) [13417])) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 643) بلفظ: (الحصور: الذي لا يأتي النساء). (¬7) [13418])) ((الأحكام السلطانية)) لأبي يعلى (ص: 21).

المبحث الثاني: حكم الخروج على الأئمة

المبحث الثاني: حكم الخروج على الأئمة الأئمة أحوالهم متباينة من شخص لآخر، وواحدهم لا يخرج عن أحد ثلاثة: إما أن يكون عادلاً مقسطًا، وإما أن يكون كافرًا مجرمًا، وإما أن يكون حاله مترددًا بين هذين وهو الفاسق أو الظالم، وهذا قد يكون فسقه وظلمه على نفسه وفي أعماله الخاصة، وقد يتعدى ذلك إلى الرعية إما في أموالهم وأنفسهم أو في دينهم وأعراضهم. ولكل واحد من هؤلاء حكم خاص. 1 - الإمام العادل المقسط: فهذا يحرم الخروج عليه مطلقًا وباتفاق العلماء، يدل على ذلك الآية والأحاديث الآمرة بالطاعة لأولي الأمر من المسلمين ... ويدل على ذلك أيضًا الآيات والأحاديث الواردة في وجوب الوفاء بالبيعة، وما ورد من النهي والتحذير من نكثها في ذلك ... حتى ولو وجد بعد إبرام العقد والمبايعة لمن هو أفضل وأكمل شروطًا ... بل تجب مناصرته ومقاتلة من ناوأه وبغى عليه إذا لم يفئ إلى أمر الله. هذا وقد سبق أن بيَّنَّا أن العدالة المطلوبة التي باتصاف الإِمام بها يحرم الخروج عليه كائنًا من كان هذا الخارج لا تقتضي أن يكون معصومًا في أقواله وأفعاله، بل كل بشر عرضة للوقوع في الخطأ وفي بعض الذنوب، لكن إذا كان حريصًا على التحرز من ذلك ويرجع عن خطئه إذا تبين له ذلك ويستغفر ويتوب إلى الله عما بدر منه، ويرجع حقوق الآدميين إلى أصحابها إذا ظهر له الخطأ في تصرفه فيها إذا أمكن ذلك. فهو بهذه الصفات من أئمة العدل الواجب طاعتهم والمحرم الخروج عليهم بكل صور الخروج المختلفة. ولهؤلاء الأئمة نرجو من الله المغفرة لهم فيما يقعون فيه من خطأ ولهم ثواب الاجتهاد الذي بذلوه في سبيل الوصول إلى الحق سواء أصابوه أم خالفوه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. 2 - الخروج على الحاكم الكافر المرتد: وهذا - أيضًا - متفق على وجوب الخروج عليه ومنابذته بالسيف إذا قُدر على ذلك، أما إذا لم يكن لهم قدرة عليه فعليهم السعي إلى سلوك أقرب طريق للإطاحة به، وتخليص المسلمين من تسلطه عليهم مهما كلَّف ذلك من جهد، يدل على ذلك حديث عُبادة الآنف الذكر (( ... وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر: (وإذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها كما في الحديث ... يعني حديث عبادة الآنف الذكر) (¬2). وقال في موضع آخر: (إنه - أي الحاكم - ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) (¬3). 3 - الخروج على الأئمة الظلمة ذهب غالب أهل السنة والجماعة إلى أنه لا يجوز الخروج على أئمة الظلم والجور بالسيف ما لم يصل بهم ظلمهم وجورهم إلى الكفر البواح، أو ترك الصلاة والدعوة إليها أو قيادة الأمة بغير كتاب الله تعالى كما نصت عليها الأحاديث السابقة في أسباب العزل. ¬

(¬1) [13419])) رواه البخاري (7055)، ومسلم (1840). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬2) [13420])) ((فتح الباري)) (13/ 7). (¬3) [13421])) ((فتح الباري)) (13/ 123).

وهذا المذهب منسوب إلى الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. وهم: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة (¬1)، وأبو بكرة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وهو: مذهب الحسن البصري (¬2) والمشهور عن الإمام أحمد بن حنبل وعامة أهل الحديث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( ... ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر ... ) (¬3). هذا وقد ادعى الإجماع على ذلك بعض العلماء كالنووي في شرحه لصحيح مسلم (¬4) وكابن مجاهد البصري الطائي فيما حكاه عنه ابن حزم (¬5) ولكن دعوى الإجماع فيها نظر، لأن هناك من أهل السنة من خالف في ذلك (¬6). الأدلة: استدلوا على مذهبهم وهو ترك الخروج على أئمة الظلم بالسيف بالأدلة التالية: أولاً: الأحاديث الواردة في الأمر بالطاعة وعدم نكث البيعة والأمر بالصبر على جورهم وإن رأى الإنسان ما يكره. وهي أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر المعنوي كما ذكر ذلك الشوكاني (¬7) رحمه الله أهمها: 1 - حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) (¬8). وفي رواية: (وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) (¬9). قال ابن تيمية بعد ذكره لهذا الحديث: (فهذا أمر الطاعة مع استئثار ولي الأمر، وذلك ظلم منه، ونهي عن منازعة الأمر أهله وذلك نهي عن الخروج عليه) (¬10). 2 - حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلوا)) (¬11). 3 - حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات ... مات ميتة جاهلية)) (¬12). 4 - حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة)) (¬13). 5 - حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) (¬14). ¬

(¬1) [13422])) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (4/ 171). (¬2) [13423])) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (9/ 135). (¬3) [13424])) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 444). (¬4) [13425])) ((شرح صحيح مسلم)) (12/ 229). (¬5) [13426])) ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص: 199). (¬6) [13427])) ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (6/ 128). (¬7) [13428])) ((نيل الأوطار)) (7/ 199). (¬8) [13429])) رواه البخاري (7055)، ومسلم (1840). (¬9) رواه البخاري (7199)، ومسلم (1840). (¬10) [13431])) ((منهاج السنة)) (2/ 88). (¬11) [13432])) رواه مسلم (1854). (¬12) [13433])) رواه البخاري (7054)، ومسلم (1849). (¬13) [13434])) رواه مسلم (1855). (¬14) [13435])) رواه مسلم (1851).

6 - حديث حذيفة قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع. وفي رواية: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قال فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬1). إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في هذا المعنى، وهي جميعها صريحة في النهي عن الخروج على الأئمة، وإن رأى الإنسان ما يكره، وصريحة كذلك في الأمر بالصبر على جورهم وعدم نزع اليد من الطاعة. ثانيا: الأحاديث الدالة على تحريم اقتتال المسلمين فيما بينهم، وعلى النهي عن القتال في الفتنة: ومن الأدلة على عدم جواز الخروج على الأئمة الفساق الأحاديث الدالة على تحريم الاقتتال بين المسلمين، وهذا يقع عادة عندما تخرج طائفة عن طاعة إمامها، لأنه يستنجد بجنده من المسلمين فيحصل الاقتتال بينهم، وهناك ما يدل على غلظ تحريم قتل المسلم أخاه المسلم، وعلى النهي عن الاقتتال بين المسلمين، ومن هذه الأدلة: 1 - ما رواه البخاري بسنده إلى طريف أبي تميمة قال: ((شهدت صفوان وجندبًا وأصحابه وهو يوصيهم فقالوا: هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا؟ قال سمعته يقول: من سمع سمع الله به يوم القيامة. قال: ومن شاق شقق الله عليه يوم القيامة. فقالوا: أوصنا. فقال إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبًا فليفعل ومن استطاع أن لا يحال بينه وبين الجنة بملء كف من دم أهراقه فليفعل)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر: (وهذا وإن لم يرد مصرحًا برفعه لكان في حكم المرفوع، لأنه لا يقال بالرأي) (¬3). 2 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (¬4). 3 - وعن الأحنف بن قيس رضي الله تعالى عنه قال: ((ذهبت لأنصر هذا الرجل - يعني على بن أبي طالب رضي الله عنه - فلقيني أبو بكرة فقال أين تريد؟ فقلت: أنصر هذا الرجل، فقال: ارجع فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. فقلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه)) (¬5). 4 - وعن جرير ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له في حجة الوداع: استنصت الناس فقال: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) (¬6). فهذه الأحاديث وما في معناها تدل على تحريم اقتتال المسلمين فيما بينهم، وهذا لا شك يكون عند الخروج على الأئمة بالسيف، فدل على تحريم ذلك الخروج. أحاديث النهي عن القتال في الفتنة: كما أن مما يدل على ذلك الأحاديث الواردة في النهي عن القتال في الفتنة، وهي أحاديث كثيرة منها: ¬

(¬1) [13436])) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847). (¬2) [13437])) رواه البخاري (7152). (¬3) [13438])) ((فتح الباري)) (13/ 130). (¬4) [13439])) رواه البخاري (48)، ومسلم (64). (¬5) [13440])) رواه البخاري (31)، ومسلم (2888). (¬6) [13441])) رواه البخاري (121)، ومسلم (65).

1 - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به)) (¬1). أي: من وجد عاصمًا وموضعًا يلتجئ إليه ويعتزل فيه فليعتزل (¬2). 2 - وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)) (¬3). وهذا يدل على فضل اعتزال الفتن عند وقوعها، وأنها مفسدة للدين الذي هو أول ما يجب على المسلم صيانته وحفظه. 3 - وعن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت - ثلاثًا -. قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجئ سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار)) (¬4). 4 - وعن عديسة بنت إهبان بن صيفي الغفاري قالت: ((جاء علي بن أبي طالب إلى أبي فدعاه للخروج معه، فقال له أبي: إن خليلي وابن عمك عهد إلي إذا اختلف الناس أن اتخذ سيفًا من خشب فقد اتخذته فإن شئت خرجت به معك ... قالت: فتركه)) (¬5). 5 - وعن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الفتن: ((كسروا فيها سيوفكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة، فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم)) (¬6). فهذه النصوص جميعها تدل على النهي عن القتال في الفتنة ولا شك أن الخروج على الأئمة مما يؤدي إلى الفتنة، فدل ذلك على النهي عن الخروج على الأئمة الظلمة. قال الحافظ ابن حجر: (والمراد بالفتنة في هذا الباب: هو ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل) (¬7). ثالثا: الأحاديث الدالة على أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر: ¬

(¬1) [13442])) رواه البخاري (7082). (¬2) [13443])) انظر: ((فتح الباري)) (13/ 30) بتصرف يسير. (¬3) [13444])) رواه البخاري (19). (¬4) [13445])) رواه مسلم (2887). (¬5) [13446])) رواه الترمذي (2201)، وابن ماجه (3214)، وأحمد (6/ 393) (27244). قال الترمذي: حسن غريب، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬6) [13447])) رواه أبو داود (4259)، وابن ماجه (3961)، وأحمد (4/ 416) (19745)، والحاكم (4/ 487). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (909) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه ابن دقيق في ((الاقتراح)) (101). (¬7) [13448])) ((فتح الباري)) (13/ 31).

فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) (¬1). وفي رواية (( ... بأقوام لا خلاق لهم)) (¬2). فإذا كان الدين قد يؤيد وينصر بسبب رجل فاجر، ولا يضر الدين فجوره فلا يجوز الخروج على الأئمة الفجرة لمجرد فجورهم، لأن فجور الفاجر منهم لا يضر هذا الدين وإنما ضرره على نفسه، وقد يجر هذا الخروج إلى فتن وويلات لا تحمد عقباها. رابعاً: ومن الأدلة على عدم الخروج أيضًا موقف الصحابة الذين توقفوا عن القتال في الفتنة، وموقف علماء السلف أيام حكم بني أمية وبني العباس وكان في بعضهم فسوق وظلم، ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كفره بعضهم، وكان الحسن البصري يقول: (إن الحجاج عذاب الله فلا تدافعوا عذاب الله بأيديكم ولكن عليكم الإستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76]) (¬3). وقيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث (¬4): أين كنت يا عامر؟ قال: (كنت حيث يقول الشاعر: عوى الذئب فاستأنت بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير (¬5) أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء) (¬6). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا استقر رأي أهل السنة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم (¬7). ¬

(¬1) [13449])) رواه البخاري (3062)، ومسلم (111). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) [13450])) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 279) (8885)، وابن حبان (10/ 376) (4517)، والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 268) (1948) والضياء (5/ 231) (1863). من حديث أنس رضي الله عنه. قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 73): إسناده صحيح، وقال محمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (1/ 396): إسناده جيد، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1866). (¬3) [13451])) ((منهاج السنة)) (1/ 241). (¬4) [13452])) كانت سنة إحدى وثمانين حينما بعث الحجاج ابن الأشعث قائدًا على الجيش لمحاربة رتبيل ملك الترك، وكان كل منهما يكره الآخر، فمضى ابن الأشعث، وفتح كثيرًا من البلاد، ورأى التوقف في فصل الشتاء حتى يذهب البرد، ويتقوى المسلمون، فعاتبه الحجاج، وكتب إليه بكلام بذيء، فلم يحتمله ابن الأشعث فشاور أصحابه في خلعه، فوافقوه، وجعل الناس يلتفون حوله، فسير إليه الخليفة عبد الملك بن مروان جيشًا بقيادة الحجاج، فهزمهم ابن الأشعث ودخل البصرة، ثم رأى أن يخلع الخليفة أيضًا، فوافقه جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب، ثم أخذت تدور بينهم المعارك، منها معركة (دير الجماجم) المشهورة، وراح ضحية لهذه الفتنة خلق كثير من الصالحين. انظر: ((البداية والنهاية)) (9/ 35) وما بعدها. (¬5) [13453])) هذا البيت في ((غريب الحديث)) للحربي (ص: 732) تحقيق سليمان العايد رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى 1402 هـ. ورواه ابن قتيبة في ((الشعر والشعراء)) (787)، وعزاه للأحيمر السعدي، وانظر كتاب: ((العزلة)) للخطابي (ص: 56) فقد رواه بسنده إلى الشافعي وعزاه إلى تأبط شرًا. (¬6) [13454])) ((منهاج السنة)) (2/ 241). (¬7) [13455])) ((منهاج السنة)) (2/ 241).

قلت: ولا يكاد أحد من علماء السلف يذكر عقيدته إلا وينص على هذه المسألة ذاتها، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الإمام أحمد في عقيدته في أكثر من رواية حيث قال: (ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق (¬1) ... وبنحو كلام الإمام أحمد هذا. نص على ذلك أبو زرعة، وابن أبي حاتم الرازيان (¬2)، وعلي بن المديني (¬3)، وغيرهم كثير: كالطحاوي (¬4)، وأبي عثمان الصابوني (¬5) وغيرهم. خامسًا: ومن الأدلة على النهي عن الخروج على الأئمة صلاة الصحابة رضوان الله عليهم خلف أئمة الجور والمبتدعة، وهذا يقتضي الإقرار بإمامتهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وهو: أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة السنة بلا خلاف عندهم) (¬6). والذي يدل على ذلك الجواز فعل الصحابة رضوان الله عليهم حيث كانوا يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقد كان يشرب الخمر، وصلى مرة الصبح أربعًا، وجلده عثمان رضي الله عنه على ذلك، وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف (¬7)، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهمًا بالإلحاد (¬8)، وأخرج ابن سعد عن زيد بن أسلم: (أن ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أميرًا إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله) (¬9). سادسًا: ومن الأدلة على عدم جواز الخروج على الأئمة الفسقة مراعاة مقاصد الشريعة إذ أن من أهداف الشريعة الإسلامية تحقيق أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما. ولا شك أن الضرر في الصبر على جور الحكام أقل منه في الخروج عليهم لما يؤدي إليه من الهرج والمرج، فقد يرتكب في فوضى ساعة من المظالم ما لا يرتكب في جور سنين. قال ابن تيمية: (وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر، أعظم مما تولد من الخير) (¬10). ولذلك (فلا يهدم أصل المصلحة شغفًا بمزاياها، كالذي يبني قصرًا ويهدم مصرًا) (¬11). ¬

(¬1) [13456])) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي)) (1/ 161). (¬2) [13457])) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (ص: 167) و (ص: 179). (¬3) [13458])) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (ص: 164). (¬4) [13459])) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 366). (¬5) [13460])) ((رسالة عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) لأبي عثمان ضمن مجموعة ((الرسائل المنيرية)) (1/ 129). (¬6) [13461])) ((مجموعة الرسائل والمسائل الرسالة الأخيرة)) (5/ 198) تعليق محمد رشيد رضا. (¬7) [13462])) حديث كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج ذكره ابن أبي شيبة في المصنف. وقال عنه الألباني: سنده صحيح على شرط الستة. انظر: ((إرواء الغليل)) (2/ 303). (¬8) [13463])) انظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (5/ 199). (¬9) [13464])) قال الألباني: سنده صحيح. انظر: ((إرواء الغليل)) (2/ 204). (¬10) [13465])) ((منهاج السنة) (2/ 241). (¬11) [13466])) ((إحياء علوم الدين)) على هامشه ((إتحاف السادة المتقين)) للزبيدي (2/ 233).

وذكر ابن الأزرق في معرض استدلاله أن جور الإمام لا يسقط وجوب الطاعة قال: (الثاني: دلالة وجوب درء أعظم المفاسد عليه، إذا لا خفاء أن مفسدة عصيانه تربو على مفسدة إعانته بالطاعة له كما قالوا في الجهاد معه، ومن ثَمَّ قيل: عصيان الأئمة هدم أركان الملة) (¬1) كما أن في الصبر على جورهم واحتساب ذلك عند الله تكفير السيئات ومضاعفة الأجور (فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل) (¬2). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الحكمة التي راعاها الشارع في النهي عن الخروج على الأمراء وندب إلى ترك القتال في الفتنة لما في المقاتلة من قتل للنفوس بلا حصول للمصلحة المطلوبة. قال: (وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما ... ) (¬3) قال: (لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صارت إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر، مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا، وبهذا الوجه صارت الخوارج يستحلون السيف على أهل القبلة حتى قاتلت عليًا - رضي الله تعالى عنه - وغيره من المسلمين، وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم) (¬4). ويقرر تلميذه ابن القيم رحمهما الله هذه المسألة فيقول: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: ((لا، ما أقاموا الصلاة))، وقال: ((ومن رأى من أميره ما يكرهه، فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعة)). ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكره، فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه ... ) (¬5) إلى أن قال: (فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول، ويخلفه ضده. الثانية: أن يقلّ وإن لم يُزل بجملته. الثالثة: أن يتساويا. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه). ¬

(¬1) [13467])) ((بدائع السلك)) (1/ 78). (¬2) [13468])) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 368). (¬3) [13469])) ((منهاج السنة)) (2/ 243). (¬4) [13470])) ((منهاج السنة)) (2/ 243). (¬5) [13471])) ((إعلام الموقعين)) (3/ 4).

قال: (فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة) (¬1) ثم ضرب الأمثلة على كل درجة، ومنها قوله في التمثيل على الرابعة: (سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله سره ونوّر ضريحه يقول: (مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرَّم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذراري وأخذ الأموال فدعهم) (¬2). سابعًا: ومن الأدلة على عدم جواز الخروج على الأئمة أننا عند استعراضنا للفتن التي قامت في التاريخ الإسلامي الأول نجد أنها لم تؤت الثمار المرجوة من قيامها، بل بالعكس قد أدت إلى فتن وفرقة بين المسلمين لا يعلم عظم فسادها إلا الله، يقول المعلمي: (وقد جرَّب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر: 1 - خرج الناس على عثمان يرون أنهم يريدون الحق. 2 - ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساؤهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق، فكانت ثمرة ذلك بعد اللقيا، والتي أن انقطعت خلافة النبوة وتأسست دولة بني أمية. 3 - ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المأساة. 4 - ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحرَّة. 5 - ثم خرج القرَّاء مع ابن الأشعث فماذا كان؟ 6 - ثم كانت قضية زيد بن علي، وعرض عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فخذلوه، فكان ما كان) (¬3). قلت: وقد عدَّ أبو الحسن الأشعري خمسة وعشرين خارجًا كلهم من آل البيت (¬4) ولم يكتب لأحد منهم نصيب في الخروج، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر، أعظم مما تولَّد من الخير ... ) (¬5). فإذا كان هذا مآل الخارج، وإن كان قصده حسنًا، ولا يريد إلا الخير وإصلاح الأوضاع، فكيف يجوز الخروج؟ الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي – ص 499 والذي يترجح ... ما ذهب إليه المحدثون وجمهور الفقهاء من أن الفسق أو الظلم ليس من مسوغات الخروج على الحاكم وأن مجمل الموقف منه يتلخص في: - وجوب طاعته في غير معصية الله - مشروعية الصبر على أذاه - وجوب نصحه والإنكار عليه - عدم الخروج عليه بالسيف - وأما عزله من غير فتنة فمحل نظر ومن الأدلة على هذا الموقف: أولا: أما وجوب طاعته في غير معصية فلعموم قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا [النساء: 59] ولحديث ((إنما الطاعة في المعروف)) (¬6). ثانيا: أما الصبر على أذاه فلقوله صلى الله عليه وسلم ((من كره من أميره شيئا فليصبر عليه)) (¬7). وقوله لما قيل له أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا فأعرض عنه ثم قال ((اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)) (¬8) ¬

(¬1) [13472])) ((إعلام الموقعين)) (3/ 4). (¬2) [13473])) ((إعلام الموقعين)) (3/ 5). (¬3) [13474])) ((التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)) لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي (1/ 94). (¬4) [13475])) انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 151 - 166). (¬5) [13476])) ((منهاج السنة)) (2/ 241). (¬6) [13477])) رواه البخاري (7145)، ومسلم (1840). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (7053) , ومسلم (1849). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬8) [13479])) رواه مسلم (1846). من حديث سلمة بن يزيد رضي الله عنه.

ثالثا: وأما وجوب نصحه والإنكار عليه فلقوله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬1) وقوله: ((إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم قال لا ما أقاموا فيكم الصلاة)) (¬2) وقال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام فشرط علي والنصح لكل مسلم فبايعته على هذا)) (¬3). قال أبو عمر بن عبد البر: (وأما مناصحة ولاة الأمر فلم يختلف العلماء في وجوبها) (¬4). والنصيحة أعم من الوعظ والأمر والإنكار فهي .. كلمة جامعة تعني إرادة الخير كله للمنصوح له قال محمد بن نصر المروزي: (النصيحة لأئمة المسلمين تعني حب صلاحهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهة افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعةالله) (¬5) رابعا: وأما عدم الخروج عليه بالسيف فللأحاديث المتقدمة وغيرها وهي كثيرة جدا قال عنها الشوكاني إنها متواترة ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) (¬6) قال النووي: (وأما الخروج عليهم (يعني الأئمة) وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين) (¬7). وأما عزله من غير فتنة فله أدلة شرعية كثيرة: أن ذلك من باب تغيير المنكر الذي هو فرض بلا خلاف ولأن هذا التغيير ينسجم مع قواعد الشريعة العامة مثل الضرر يزال والضرر الأشد يزال بالضر الأخف. ولأن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها (¬8). ولا شك أن إزالة المفسدة بمصلحة أكبر منها لا غبار عليه فتجلب المصلحة الكبرى وتدرأ المفسدة الصغرى بقدر الإمكان. ثم إن النصوص الشرعية الواردة في المنع من الخروج على الفسقة جاءت في سياقين. السؤال عن المنازعة والمنابذة والمقاتلة. النهي عن مفارقة الجماعة أو شق عصاها. أما ما نحن بصدده فلا أظن في النصوص ما يمنعه. وهذا هو الذي قرره كثير من أهل العلم يقول الداودي (الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب وإلا فالواجب الصبر) (¬9). على أنه ينبغي أن يعلم أن العزل هنا ينبغي تقييده بأمرين: أن يفحش فسق الحاكم وظلمه بحيث لا يمكن إصلاحه وتقويمه. أن يتولى أمر العزل أهل الحل والعقد فكما أنهم تولوا العقد فكذلك الحل والعزل ولا يترك الأمر للدهماء من العامة فيكثر الهرج وتنتشر الفتنة. مفهوم الطاعة والعصيان لعبد الله الطريقي ص: 76 ¬

(¬1) رواه مسلم (55). من حديث تميم الداري رضي الله عنه. (¬2) [13481])) رواه مسلم (1855). من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. (¬3) [13482])) رواه البخاري (58). (¬4) [13483])) ((الاستذكار)) (27/ 361). (¬5) [13484])) ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 693 - 694). (¬6) [13485])) رواه البخاري (6874)، ومسلم (98). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬7) [13486])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 229). (¬8) [13487])) انظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 3). (¬9) [13488])) انظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 8).

الفصل السابع: موقف أهل السنة من تعدد الأئمة

تمهيد هل يوجب الإسلام على الأمة الإسلامية أن تكون دولة واحدة بإمام واحد؟ أو يجيز للأمة الإسلامية أن تكون دويلات عديدة، كل واحدة مستقلة عن الأخرى، لها إمامها ولها سياستها المستقلة التي قد تتعارض مع أختها المجاورة، كما كان قائما في فترة من الفترات الماضية، وكما هو حاصل الآن في الحاضر من انقسام الأمة الإسلامية إلى دويلات طائفية صغيرة تتناحر وتتنافر فيما بينها؟. الواقع أن الإسلام قد جاء بالدواء الشافي لهذا الداء العضال، ولذلك فمن الواجب علينا الكشف عن هذا الدواء، وإظهاره للمسلمين لعلهم يرعوون إلى الحق، ويرجعون إلى رشدهم بجمع كلمتهم، وتوحيد صفهم، ووقوفهم أمام أعدائهم صفًا واحدًا، بدلاً من هذه الفرقة والضعف والهوان، وهو ما أراده لهم أعداؤهم.

مبحث: حكم تعدد الأئمة

مبحث: حكم تعدد الأئمة مذهب جماهير المسلمين من أهل السنة والجماعة وغيرهم قديمًا وحديثًا وهو أنه: لا يجوز تعدد الأئمة في زمن واحد وفي مكان واحد، قال الماوردي: (إذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزوه) (¬1). وقال النووي: (اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد ... ) (¬2). وهؤلاء القائلون بالمنع على مذهبين: أ- قوم قالوا بالمنع مطلقًا سواء اتسعت رقعة الدولة الإسلامية أم لا، وإلى هذا القول ذهب أكثر أهل السنة والجماعة، وبعض المعتزلة حتى زعم النووي اتفاق العلماء عليه (¬3). ب- وهناك من قال بالمنع إلا أن يكون هناك سبب مانع من الإتحاد على إمام واحد، ويقتضي هذا السبب التعدد، ففي هذه الحالة يجوز التعدد. وذكر إمام الحرمين الجويني أهم هذه الأسباب في قوله: (منها اتساع الخطة، وانسحاب الإسلام على أقطار متباينة، وجزائر في الحج متقاذفة، وقد يقع قوم من الناس نبذة من الدنيا لا ينتهي إليهم نظر الإمام، وقد يتولج خط من ديار الكفر بين خطة الإسلام، وينقطع بسبب ذلك نظر الإمام عن الذين وراءه من المسلمين ... ) قال: (فإذا اتفق ما ذكرناه فقد صار صائرون عند ذلك إلى تجويز نصب إمام في القطر الذي لا يبلغه أثر نظر الإمام) (¬4). وعزا الجويني هذا القول إلى شيخه أبي الحسن الأشعري، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي (¬5)، ورجحه أبو منصور البغدادي (¬6)، وإلى ذلك ذهب القرطبي في تفسيره فقال: (لكن إذا تباعدت الأقطار، وتباينت كالأندلس وخراسان، جاز ذلك) (¬7). لكن يلاحظ من أقوال المجيزين عند اتساع الرقعة، إنما ذلك بسبب الضرورة، وإلا فإن وحدة الإمامة هي الأصل، وإن التعدد إنما أبيح على سيبل الاستثناء المحض، ولضرورات تجيزه، والضرورة تقدر بقدرها وإذا زالت الضرورة زال حكمها وبقي الأصل. استدلوا على ما ذهبوا إليه بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول: 1 - من الكتاب: فقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تدعو المسلمين وتأمرهم بالإجماع والتآلف، وتنهى عن التفرق والاختلاف المؤديين إلى التنازع والفشل، فمن هذه الآيات قوله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ... [آل عمران: 103]. ومنها قوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105]. ومنها قوله عز من قائل: وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى. ¬

(¬1) [13489])) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 9). (¬2) [13490])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 233). (¬3) [13491])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 233). (¬4) [13492])) ((غياث الأمم)) (ص: 28). (¬5) [13493])) ((مآثر الإنافة)) (1/ 46). (¬6) [13494])) ((أصول الدين)) (ص: 274). (¬7) [13495])) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 273).

ووجه الدلالة من هذه الآيات أنها جميعًا جاءت متفقة على الأمر بالوحدة والتضامن، والنهي عن التشتت والافتراق والاختلاف، لما ينجم عن ذلك عادة من التنازع والفشل الممقوت، وكلها تدل على وجوب وحدة الأمة الإسلامية وتضامنها، وذلك لا يتأتى إلا إذا كان إمامها واحدًا لا ينازعه أحد، إذ إن وجود إمامين فأكثر يؤدي إلى غيرة أحدهما من الآخر، ومنافسته له، ومحاولة التعالي عليه، ومن ثم إلى الشقاق والتناحر لا محالة، وهذا مما نهى الإسلام عنه، فدل على وجوب أن يكون إمام المسلمين واحدًا، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 2 - من السنة: أما من السنة فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث صحيحة صريحة في هذه تدل على وجوب منع تعدد الأئمة في الزمن الواحد ومن هذه الأحاديث: أ- ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)) (¬1). فالأمر بقتل الآخر يدل على تحريم نصب إمامين في آن واحد، لأن القتل لا يكون إلا عن كبيرة يتفاقم خطرها. لذلك فلا يجوز عقد البيعة لخليفتين في زمن واحد. وأول بعض العلماء القتل هنا بالخلع والاعتراض عليه لا بالقتل الحقيقي (¬2). ولكن هذا التأويل لا محل له ومردود بالحديث التالي: ب- ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا رقبة الآخر ... )) الحديث (¬3). جـ- ما رواه أبو حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: وفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)) (¬4). د- ومنها ما رواه عرفجة بن شريح قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) (¬5). 3 - الإجماع: فإن الصحابة رضي الله عنهم قد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يلي إمامة الأمة أكثر من واحد، ودليل ذلك أن المهاجرين لم يوافقوا الأنصار في طلبهم أن يكون منهم أمير، ومن المهاجرين أمير حينما طلبوا ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكان مما روي في ذلك الموقف قول أبي بكر رضي الله عنه: (هيهات أن يجتمع سيفان في غمد) (¬6) عندئذٍ رضي الأنصار بذلك، فصار ذلك منهم إجماعًا على عدم جواز تعدد الأئمة، بل روى البيهقي في الخطبة نفسها عبارة أكثر تصريحًا من السابقة وهي قوله: (أنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران، فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامهم، وتتفرق جماعتهم ويتنازعون فيما بينهم، هنالك تترك السنة، وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح) (¬7). ¬

(¬1) [13496])) رواه مسلم (1853). (¬2) [13497])) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 156). (¬3) [13498])) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 156). (¬4) [13499])) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842). (¬5) [13500])) رواه مسلم (1852). (¬6) [13501])) انظر: ((فتح الباري)) (12/ 153). وقيل: إنه من قول عمر. وهو عند البزار وغيره. (¬7) [13502])) ((السنن الكبرى)) للبيهقي (8/ 145) عن ابن إسحاق.

أما من بعدهم فقد نقل الإجماع على ذلك النووي (¬1)، وإمام الحرمين الجويني (¬2)، والقرطبي (¬3)، والقاضي عبد الجبار (¬4) (من المعتزلة) وابن حزم حيث قال: (واتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين ولا في مكان واحد) (¬5). وخالفه في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرامية وغيرهم جواز ذلك، وأن عليًا كان إمامًا ومعاوية كان إمامًا، وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلاً منهم ينفذ حكمه في أهل ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد، وأما جواز العقد لهما فهذا لا يفعل مع اتفاق الأمة ... ) (¬6) لكن نفاذ حكم الثاني كنفاذ حكم الإمام المتغلب على حد سواء، فلا ينافي هذا الحكم المجمع عليه، وليس الكلام إلا حكم الشرع، أما الأمور الطارئة فلها مجال آخر، وتأخذ أحكام الضرورة. والمراد بالإجماع المذكور هنا هو: إجماع الصحابة وسلف هذه الأمة، وإلا فقد سبق أن ذكرنا من خالف في هذه المسألة من الكرامية وغيرهم من أهل الأهواء، ولكن مخالفتهم لا تؤثر في إجماع أهل السنة والجماعة على ذلك، لأن الإجماع المقصود: إجماعهم لا إجماع جميع الناس ... والله أعلم. 4 - المعقول: أما الدليل بالمعقول فإن تعدد الأئمة للأمة الإسلامية الواحدة يؤدي إلى الاختلاف والشقاق والخصومات وحصول الفتن والاضطرابات والقلاقل، واختلاف أمر الدين والدنيا، وهذا لا يجوز. وبناء على ذلك فلا تجوز الإمامة لأكثر من واحد في زمن واحد. وكذلك لو جاز في العالم إمامان لجاز أن يكون ثلاثة وأربعة وأكثر، فإن منع من ذلك مانع كان متحكمًا بلا برهان، ومدعيًا بلا دليل، وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد، وإن جاز ذلك الأمر حتى يكون في كل عام إمام، أوفي كل مدينة إمام، أو في كل قرية إمام، أو يكون كل واحد إمامًا وخليفة في منزله، وهذا الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا (¬7). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي بتصرف ص551 قال الشوكاني: إذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما، فإن استمرا على الخلاف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك. وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدرى من قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب، فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس، فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها. السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار4/ 512 ¬

(¬1) [13503])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 232). (¬2) [13504])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 232) علماً بأنه من القائلين بجواز التعدد عند وجود السبب المؤدي إلى ذلك. (¬3) [13505])) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1/ 273). (¬4) [13506])) ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (20/ 243) ق 1. (¬5) [13507])) ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص: 144). (¬6) [13508])) ((نقد مراتب الإجماع)) لابن تيمية (ص: 216) بذيل كتاب ((مراتب الإجماع)) لابن حزم. (¬7) [13509])) انظر: ((الفصل)) (4/ 88)، و ((الملل والنحل)) (1/ 113)، و ((أصول الدين)) (ص: 275).

الباب الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المبحث الأول: معنى المعروف والمنكر لغة المعروف في اللغة، يدور معناه غالبا على ما تعارف عليه الناس وعلموه ولم ينكروه والمنكر في اللغة، يدور معناه غالبا على ما جهله الناس واستنكروه وجحدوه. قال في القاموس: عرفه يعرفه معرفة وعرفانا وعرفة بالكسر، وعِرِفّانا بكسرتين مشددة الفاء، علمه، والمعروف ضد المنكر. والنكر بالضم وبضمتين، المنكر كالنكراء، والأمر الشديد، والنكرة خلاف المعرفة، وتناكر تجاهل والقوم تعادوا، ونكر فلان الأمر كفرح نكرا محركة، ونكرا ونكورا بضمها ونكيرا، وأنكره واستنكره وتناكره جهله، والمنكر ضد المعروف. وقال في لسان العرب: عرف العرفان العلم .... والمعروف ضد المنكر، والعرف ضد النكر، يقال: أولاه عرفا أي معروفا، والمعروف والعارفة خلاف النكر، والمعرف كالعرف، وقوله تعالى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، والإنكار الجحود، وقوله تعالى: إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، أي أقبح الأصوات: والنُكْر، والنكُرُ الأمر الشديد، والمنكر من الأمر خلاف المعروف، وقد تكرر في الحديث الإنكار والمنكر وهو ضد المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر، والنكْر والنكراء، ممدود، المنكر، وفي التنزيل العزيز، لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا [الكهف:74]، ونكر الأمر نكيرا، وأنكر إنكارا ونُكرا، جهله عن كراع، وفي التنزيل العزيز: نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود:70]. وقال في المعجم الوسيط: العرف المعروف وهو خلاف النكر وما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم. نكر فلان نكرا ونُكرا ونكاره، فطن وجاد رأيه،،، والشيء جهله، وفي التنزيل العزيز: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ [هود:70]، ونكر الأمر نكاره صعب واشتد وصار منكرا، وأنكر الشيء جهله، وفي التنزيل العزيز: وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58]، وحقه جحده، وفي التنزيل العزيز: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [النحل:83] القول البين الأظهر لعبدالعزيز بن عبدالله الراجحي - ص:8

المبحث الثاني: معنى المعروف والمنكر شرعا

المبحث الثاني: معنى المعروف والمنكر شرعاً المعروف في الشرع: كل ما يعرفه الشرع ويأمر به ويمدحه ويثني على أهله، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وفي مقدمتها توحيد الله عز وجل والإيمان به. والمنكر في الشرع: كل ما ينكره الشرع وينهي عنه ويذمه ويذم أهله، ويدخل في ذلك جميع المعاصي والبدع، وفي مقدمتها الشرك بالله عز وجل وإنكار وحدانيته أو ربوبيته أو أسمائه أو صفاته. وعبارات المفسرين في تفسير المعروف والمنكر، لا تتجاوز ذلك. فقيل: المعروف: كل قول حسن وفعل جميل وخلق كامل للقريب والبعيد. وقيل: المعروف: الخير كله، والمنكر جميع الشر. وقيل: المعروف: ما عرف حسنه شرعا وعقلا، والمنكر: ما عرف قبحه شرعا وعقلا. وقيل: المعروف: الإحسان والطاعة، وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه (¬1) وقيل: المعروف طاعة الله وما يعرفه الشرع وأعمال البر كلها. وقيل: المعروف: الإيمان، والمنكر الشرك، وقيل المعروف السنة، والمنكر البدعة (¬2) وقيل: المعروف: خلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام. والمنكر. عبادة الأصنام وقطع الأرحام وقيل: المعروف: الطاعات والفضائل أجمع. وقيل: العرف، صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام وغض الأبصار والاستعداد لدار القرار. وقيل: المعروف: عبادة وتوحيده وكل ما أتبع ذلك، والمنكر، عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك (¬3)، وهذا الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها. وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: (عرف) قد تكرر ذكر المعروف في الحديث، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه، من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بني الناس، إذا رأوه لا ينكرونه، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس، والمنكر ضد ذلك جميعه. وقال: وقد تكرر ذكر الإنكار والمنكر في الحديث، وهو ضد المعروف وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر يقال: أنكر الشيء ينكره إنكارا فهو منكر، ونكره ينكره نكرا فهو منكور، واستنكره فهو مستنكر والنكير الإنكار، والإنكار الجحود. القول البين الأظهر لعبد العزيز بن عبد الله الراجحي - ص:10 ¬

(¬1) انظر ((تفسر ابن سعدي)) (1/ 194 - 196) (2/ 77) (3/ 65 - 66) (¬2) انظر ((تفسير البغوي)) (4/ 249) (¬3) انظر ((تفسير القرطبي)) (ج/ 203)

المبحث الثالث: المراد بالمعروف والمنكر عند اجتماعهما، وانفراد أحدهما

المبحث الثالث: المراد بالمعروف والمنكر عند اجتماعهما، وانفراد أحدهما إذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر فإنه يدخل فيه النهي عن المنكر وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف ولأنه لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر، ومثال ذلك قول الله تعالى لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فإن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر. وكذلك إذا أطلق النهي عن المنكر، من غير أن يقرن بالأمر بالمعروف فإنه يدخل فيه الأمر بالمعروف وذلك لأن ترك المعروف من المنكر، ولأنه لا يتم ترك الشر إلا بفعل الخير. ومثال ذلك قول الله تعالى فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165]، فإن نهيهم عن السوء يتضمن أمرهم بالخير. وأما عند اقتران أحدهما بالآخر فيفسر المعروف بفعل الأوامر ويفسر المنكر بترك النواهي، وأمثلة ذلك كثيرة في كتاب الله تعالى. كقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71] القول البين الأظهر لعبدالعزيز بن عبدالله الراجحي - ص:8

الفصل الأول: فوائدالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضله، وحكمه

المبحث الأول: فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك حكم عظيمة تتحقق عند القيام بهذا الجانب العظيم من الدين .. وإذا تأملت هذه الحكم تجدها إما راجعة ومتعلقة بالآمر الناهي، وإما عائدة إلى المأمور المنهي، وإما عامة للجميع .. ويمكننا تلخيص هذه الجوانب الثلاثة فيما يلي: (1) الفوائد والمصالح العائدة للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: أ- خروجه من عهدة التكليف (¬1)، ولذا قال الذين حذروا المعتدين في السبت من بني إسرائيل لما قيل لهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف: 164] قالوا: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ فالساكت عن الحق مؤاخذ ومتوعد بالعقوبة، كما أنه شيطان أخرس. قال علي بن الحسين: (التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب الله وراء ظهره إلا أن يتقي منهم تقاه. قالوا وما تقاه؟ قال: يخاف جباراً عنيداً أن يسطو عليه وأن يطغى) (¬2). ب- إقامة حجة الله على خلقه (¬3). قال الله تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 16]. ج- الشهادة على الخلق .. قال الإمام مالك –رحمه الله-: (وينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله، فإن عصوا كانوا شهوداً على من عصاه) (¬4) أ. هـ. د- أداء بعض حق الله تعالى عليه من شكر النعم التي أسداها له من صحة البدن وسلامة الأعضاء .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة .. )) (¬5). هـ- تحصيل الثواب، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، سواء كانت الأدلة خاصة كالحديث السابق أم كانت عامة كقوله: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7] ومثل ذا كثير في الأصلين. وتكفير السيئات .. قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114]. وقال –صلى الله عليه وسلم-: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) (¬6). وجاء في حديث حذيفة لما سأله عمر –رضي الله عنه عن الفتنة: ((فتنة الرجل في أهله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والمعروف)) قال سليمان: قد كان يقول: ((الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. )) (¬7). ز- النجاة من العذاب الدنيوي والأخروي الذي توعد الله به من قعد عن هذا الواجب وأهمله. ¬

(¬1) انظر: ((أضواء البيان)) (1/ 176). (¬2) ((البداية والنهاية)) (9/ 115). (¬3) ((أضواء البيان للشنقيطي)) (1/ 176). (¬4) ((الجامع)) لابن أبي زيد القيرواني (ص: 156). (¬5) رواه مسلم (720). من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. (¬6) رواه الترمذي (1987)، وأحمد (5/ 153) (21392)، والدارمي (2/ 415) (2791)، والحاكم (1/ 121)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 245) (8026). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 349): صحيح، وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (131)، وقال السفاريني الحنبلي في ((شرح كتاب الشهاب)) (411): إسناده صحيح. (¬7) رواه البخاري (1435).

وحينما يحل العذاب بقوم ظالمين فإن الله ينجي الذين ينهون عن السوء، كما قال تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 116 – 117] وقال: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165]. ح- التشبه بالرسل والقيام بدعوتهم والسير في طريقهم. ط- إلقاء هيبته في قلوب الخلق. (2) الفوائد والمصالح العائدة على المأمور والمنهي: أ- رجاء الانتفاع والاستقامة، كما قال لنا الناصحون من بني إسرائيل لمن قال لهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ... مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى: 9] وقال: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]. ب- تهيئة الأسباب لتحقيق النجاة الدنيوية والأخروية. قال أبو هريرة –رضي الله عنه في قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]: ((خير الناس للناس يجاء بهم وفي أعناقهم السلاسل حتى يدخلهم في الإسلام)) (¬1) فإن المأمور والمنهي إذا انتفع واهتدى كان ذلك سبباً في تحصيله السعادة الدنيوية والأخروية، فينجو من عقاب الله ويحصل له الثواب. (3) الفوائد والمصالح العامة والتي لا تختص بطرف دون الآخر: أ- إقامة الملة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة: 251] وقال: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج: 40] وقال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ [البقرة: 193] وقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه [الأنفال: 39]. هذا واعلم أن الإنسان لابد له من أمر ونهي ودعوة، فمن لم يأمر بالخير ويدعو إليه أمر بالشر .. بل لو أراد الإنسان أن لا يأمر ولا ينهى لا بخير ولا بشر، فإنه لابد له وأن يؤمر وينهى كما تقدم، .. فلمن لم يزحف بمبادئه زحف عليه بكل مبدأ وفكرة، والنفس تتلقى وتتشرب من المبادئ الأخرى والأخلاق، والطبع سراق، شعرت أم لم تشعر. ولذلك أمر الإسلام بمجالسة الصالحين وأهل البر والمعروف والخير، ونهى عن مجالسة غيرهم، لأن النفس والطبع سراقان لما يريانه، وصاحبهما لا يشعر في كثير من الأحيان. فإذا قام الناس بذلك المطلب العظيم تحققت حماية المجتمع المسلم من كل دخيل عليه، وإن ذلك يكون بمثابة قوة المناعة التي أودعها الله تعالى في البدن لتقاوم الأمراض والأسقام .. بالإضافة إلى أن الأمر بالمعروف يغذي الأمة أفراداً وجماعات بالمثل والقيم والأخلاق والعقائد السليمة .. فلا يحتاج أحد منهم إلى استيراد مبدأ أو خلق أجنبي على هذا الدين. ¬

(¬1) رواه البخاري (4557).

فإذا أهملنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شعر الناس بالخواء الفكري والروحي، وبدؤوا يبحثون عما يسد جوعتهم، ويملأ نفوسهم وقلوبهم، واتجهوا إلى المبادئ الأرضية والأفكار المتعفنة، وهجمت عليهم الانحرافات بأنواعها وألوانها التي لا تحصى، ومن ثم يتلقفهم شياطين الجن والإنس على مختلف رتبهم وتخصصاتهم من مشككين ومشرعين .. إلخ. وبالتالي تظهر الفترة، وتستحكم الغربة، ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً. ومن المعلوم أن الإنسان لديه دافع داخلي يدفعه إلى حب الفضيلة والخير وفعلهما، وهو أمر مغروس في فطرته، فإذا وجد من يفعل المعروف فإن ذلك يحركه للقيام به، فإذا كان ذلك الفاعل له من نظرائه كان الدافع لفعله أكبر، فكيف إذا أمره بفعله آمر وحرضه عليه؟! لا ريب أن هذا يكون أدعى إلى القيام به، ثم لو ليم على ترك ذلك المعروف، أو نيل منه بكلام أو ضرب أو حبس، كان ذلك دافعاً خامساً لتحقيقه. وذلك لأن النفوس مجبولة على تشبه بعضها ببعض .. وقد شبهها شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بأسراب القطا .. فإذا كثر الفاعلون للخير تداعى الناس لفعله، ولذا جاء في الحديث: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها .. )) (¬1). وسبب ورود هذا الحديث، هو ذلك الرجل الذي جاء بتلك الصرة من المال فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتداعى الناس إلى التصدق. ب- رفع العقوبات العامة .. قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] وقال أيضاً في الجواب عن سبب مصابهم يوم أحد: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165] فالكفر والمعاصي بأنواعها سبب للمصائب والمهالك، قال تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ .... [هود: 116] وقال: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117] (وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم، فإن الأمة التي يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي أمم ناجية لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير، فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر ذلك، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد فهي أمم مهددة بالدمار والهلاك كما هي سنة الله تعالى في خلقه، وبهذا تعلم أن دعاة الإصلاح المناهضون للطغيان والظلم والفساد هم صمام الأمان للأمم والشعوب، وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين للخير والصلاح الواقفين للظلم والفساد، إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله واستحقاق النكال والضياع) (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (¬2) ما بين القوسين من كلام سيد رحمه الله في ((الظلال)) (12/ 79) بتصرف.

ج- استنزال الرحمة من الله تعالى، لأن الطاعة والمعروف سبب للنعمة قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] وقال: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 146 – 148] وقال: وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 41 - 42]. ومثل ذا كثير في الكتاب والسنة كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [الأعراف: 96] وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ... [المائدة: 66]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)) (¬1). د- شد ظهر المؤمن وتقويته ورفع عزيمته، وإرغام أنف المنافق .. فإن المؤمن يقوى ويعتز حينما ينتشر الخير والصلاح ويوحد الله لا يشرك به، وتضمحل المنكرات على إثر ذلك، بينما يخنس المنافق بذلك، ويكون ذلك سبباً لغمه وضيق صدره وحسرته، لأنه لا يحب ظهور هذا الأمر ولا ذيوعه بين الخلق. كيف لو طولب هو بالتطبيق والعمل ومجانبة المنكر .. وألزم بما أظهر من الانتساب إلى الدين؟! لا شك أنه يتألم لذلك أشد الألم ويحزن بسببه أشد الحزن. قال الثوري –رحمه الله-: (إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق) (¬2). هـ- بقيام المسلمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحصل لهم الطموح والترفع عن الدنايا، كما يحصل لهم الشعور بأنهم ربانيون يصلحون الناس، وحينئذ يكونون قدوة حسنة بصلاح أنفسهم وحسن استقامتهم، مما يجعلهم يحاسبون أنفسهم على أصغر زلة، وهذه بحد ذاتها فائدة عظيمة جداً اقتضتها حكمة الله في تهيئة هذه الأمة لقيادة غيرها من الأمم (¬3). وابتلاء الخلق بعضهم ببعض .. لأن هذا العمل بجميع مراتبه وأنواعه جهاد، وما قتال الكفار بالسيف والسنان إلا نوع من أنواعه. قال تعالى: وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [محمد: 4]. وبمثل هذه الابتلاءات يظهر إيمان المؤمن، وصبره على مكاره النفس في سبيل رضى ربه، ولأجل نشر دينه وشريعته. ¬

(¬1) رواه الترمذي (2344)، وأحمد (1/ 30) (205)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/ 66) (1182). من حديث عمر رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال ابن حبان في ((المقاصد الحسنة)) (402): صحيح، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 328)، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (866) كما أشار لذلك في مقدمته. وقال محمد جار الله في ((النوافح العطرة)) (275): صحيح. (¬2) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال (ص: 67). (¬3) انظر: ((صفوة الآثار والمفاهيم)) (4/ 274).

ز- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنصر على الأعداء، فإن الأمة لا تنتصر بعدد ولا عدة، وإنما تنتصر بهذا الدين، ولذا كانت مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرادة الدنيا من البعض سبب لوقوع الهزيمة في أحد، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165] وقال: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30] وقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة: 25] وقال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40 – 41]. ح- تحقيق وصف الخيرية في هذه الأمة قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ [آل عمران: 110] وقد تقدم إيراد كلام بعض أهل العلم في هذه الآية، كعمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير وغيرهم. ط- التجافي عن صفات المنافقين، وظهور الفرقان بين صفاتهم وصفات المؤمنين .. ذلك أن من أخص صفات المؤمنين القيام بهذا العمل الطيب قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ... [التوبة: 71]. كما أن ترك القيام بهذا العمل يعد من صفات المنافقين البارزة، كما أخبر الله عز وجل عن ذلك بقوله: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة: 67]. وسيأتي في آخر هذا المبحث – عند ذكر الآثار المترتبة على تركه – كلام الإمام أحمد – رحمه الله – (يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع – إلى أن قال – المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى .. والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه .. ). ي- استقامة الموازين، واتزان المفاهيم، فيجلو أمر المنكر أمام الناس، ويعلمون أنه منكر، كما يعلمون أن هذا الأمر المعين من المعروف، وبالتالي يقبلون على هذا ويعرضون عن ذاك، بخلاف ما إذا عطل جانب الأمر والنهي، فقد يتوهم كثير من الناس في كثير من المنكرات أنها من المعروف، كما يتوهم كثير منهم كذلك في كثير من أمور المعروف وخصاله أنها من المنكر، فيشنعون على فاعلها، ويقفون في طريقه، كما هو حاصل في هذه الأيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 68

المبحث الثاني: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المبحث الثاني: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر • المطلب الأول: الأدلة على فضله من القرآن الكريم. • المطلب الثاني: الأدلة من السنة على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

المطلب الأول: الأدلة على فضله من القرآن الكريم

المطلب الأول: الأدلة على فضله من القرآن الكريم 1 - قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران: 110]. سبب نزولها: قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنهم- وذلك أن مالك بن الضيف ووهب بن يهوذا قالا: نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعونا إليه. فأنزل الله هذه الآية (¬1). من المخاطب بهذه الآية؟ قال ابن عباس -رضي الله عنهما- هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وقال الضحاك: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة الرواة والدعاة الذين أمر الله بطاعتهم (¬2). وقال الحسن البصري ومجاهد وجماعة: الخطاب لجميع الأمة (¬3). وهذا القول هو الراجح -والله أعلم- فالخطاب يشمل جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك للمرجحات التالية: أ- أن الآية عامة وليس فيها تخصيص صريح يقيدها بالصحابة أو بطائفة منهم. ب- النصوص الواردة في الكتاب والسنة والتي تبين فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، منها: 1 - قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]. قال القرطبي - رحمه الله - وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً، أي دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط العدل (¬4). وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الوسطية بالعدل فقد. 2 - ورد عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143]. قال (عدلاً) (¬5). 3 - وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم فيقال لأمته: هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، ويشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً فذلك قوله جل ذكره وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (¬6). 4 - وقوله صلى الله عليه وسلم ((نحن الآخرون السابقون)) (¬7). 5 - وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرت جنازة فأثني عليها خيراً فقال: ((وجبت وجبت وجبت)) ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها شراً فقال: ((وجبت وجبت وجبت)) فقال عمر: فدى لك أبي وأمي: مر عليك بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: ((وجبت وجبت وجبت)) ومر بجنازة فأثني عليها شراً. فقلت: ((وجبت وجبت وجبت)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ... من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)) (¬8). فهذه النصوص تفيد بمضمونها عموم الأمة، وأن الخطاب ليس مقصوراً على الصحابة ولا على جزء منهم. ¬

(¬1) ((أسباب النزول)) الواحدي (ص: 78). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (7/ 102). (¬3) ((تفسير البحر المحيط)) (3/ 28). (¬4) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي (2/ 153) (¬5) رواه البخاري (7349). (¬6) رواه البخاري (4487). (¬7) رواه البخاري (876)، ومسلم (855). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) رواه البخاري (1367)، ومسلم (949). من حديث أنس رضي الله عنه.

وقال القرطبي: قال علماؤنا أنبأنا ربنا - تبارك وتعالى- في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولاً مكاناً وإن كنا آخراً زماناً كما قال عليه السلام ((نحن الآخرون الأولون)). وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول ولا ينفذ قول غير العدول على غيرهم إلا أن يكونوا عدولاً (¬1). وهذا القول يزيد ترجيحنا قوة. وقد اختلف في لفظة كان فقيل هي بمعنى الحدوث والوقوع، والمعنى وجدتم خير أمة وعلى هذا فكان فعل تام، وقيل كان ناقصة وهي عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض ولا تدل على انقطاع طارئ بدليل قوله: إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء: 23]. فعلى هذا التقدير يكون المعنى كنتم خير أمة، وقيل معناه كنتم مذكورين في الأمم الماضية فأنتم خير أمة، وقيل معناه كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة (¬2). وقال الرازي في تفسيره: المعنى أنكم (كنتم) في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلها، فاللائق بهذا ألا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال في قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] قال: ((خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا الإسلام)) (¬4). وقال قتادة: (هم أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- لم يؤمر نبي قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في الإسلام فهم خير أمة أخرجت للناس) (¬5). وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال ((إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) (¬6). فالله سبحانه وتعالى يخبر في هذه الآية الكريمة بأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم التي خلقت من قبل وذلك بسبب فضائل كثيرة منها أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وحري بكل مسلم يتلو هذه الآية أو يسمعها أن يطبق ما تدعو إليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل عليه أن يطبقه على نفسه أولاً ثم على إخوانه المسلمين وغيرهم ثانياً، فيفعل الخير ويأمر به ويتجنب الشر ويحذر منه وليعلم أنه متى ترك هذا الجانب المهم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فإنه يفقد الفضيلة التي وصف الله بها المؤمنين. لذا ينبغي لكل مسلم ولا سيما الدعاة أن يجعلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزءاً من حياتهم. 2 - ويقول تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114]. ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي (2/ 156، 157). (¬2) ((روح المعاني)) الألوسي (5/ 270هـ) (¬3) ((التفسير الكبير ومفاتيح الغيب)) الفخر الرازي (4/ 173هـ) (¬4) رواه البخاري (4557). (¬5) ((تفسير العلامة أبي السعود)) (1/ 533) (¬6) رواه الترمذي (3001)، وابن ماجه (3480)، وأحمد (5/ 3) (20041)، والحاكم (4/ 94)، والبيهقي (9/ 5) (18172). قال الترمذي: حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/ 112)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/ 73): حسن صحيح، وله شاهد مرسل رجاله ثقات.

النجوى السر بين الاثنين أو الجماعة، تقول ناجيت فلاناً ونجا، وهم يتناجون، ونجوت فلاناً أنجوه نجوى أي أناجيه، فنجوت مشتقة من نجوت الشيء أنجوه: أي أخلصته وأفردته، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله. فالنجوى المسارة (¬1). وقال جماعة من المفسرين: إن النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين سواء كان ذلك سراً أو جهراً (¬2). وقيل النجوى: الإسرار في التدبير (¬3). معنى الآية: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا فيما كان من أعمال الخير (¬4). وقال القشيري: أفضل الأعمال ما كانت بركاته تتعدى صاحبه إلى غيره، ففضيلة الصدقة يتعدى نفعها إلى من تصل إليه، والفتوة أن يكون سعيك لغيرك، وأما المعروف فكل حسن في الشرع معروف، ومن ذلك إنجاد المسلمين وإسعادهم فيما لهم فيه قربة إلى الله وزلفى عنده، وإعلاء التواصي بالطاعة، ومن تصدق بنفسه على طاعة ربه وتصدق بقلبه على الرضى بحكمه ولم يخرج بالانتقام لنفسه، وحث الناس على ما فيه نجاتهم بالهداية إلى ربهم وأصلح بين الناس بصدقه في حاله، فإن لسان فعله أبلغ في الوعظ من لسان نطقه (¬5). فالله سبحانه وتعالى بين أنه لا خير فيما يتناجى فيه الناس إلا ما كان فيه الحث على الصدقة وفعل المعروف والإصلاح بين الناس. 3 - قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وينهون عن المنكر وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71]. قال أبو السعود في قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض: بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالاً ومالاً إثر بيان قبح حال أضدادهم عاجلاً وآجلاً (¬6). وقيل: قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف (¬7). وأما قوله: يَأْمُرُونَ بالمعروف وينهون عن المنكر [التوبة: 71] أي يأمرون بعبادة الله تعالى وتوحيده وكل ما أتبع ذلك، وينهون عن عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك (¬8). فالآية تفيد أن المؤمنين جميعاً من رجال ونساء ينطلقون من قاعدة واحدة، وهي أنهم يأمرون بالأمور الحسنة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة وينهون عن كل ما خالف الشرع من العقائد الفاسدة والأعمال السيئة والأخلاق الرديئة، ومن هذا شأنه أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ [التوبة: 71] يدخلهم الله في رحمته ويشملهم بإحسانه (¬9). وقال الزمخشري في تفسيره: السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد والوعيد (¬10). إذاً فمن هذه صفته يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن الله سبحانه وتعالى يدخله في رحمته، وذلك فضل منه وتكرم وإحسان وليس من باب الوجوب فالله - سبحانه وتعالى- لا يجب عليه شيء ولو عامل عباده بعدله لم ينج منهم أحد. ¬

(¬1) انظر: ((الصحاح)) الجوهري (6/ 2501، 2503). (¬2) ((فتح القدير)) الشوكاني (2/ 514، 515) (¬3) ((تفسير البغوي)) (1/ 479). (¬4) ((روح المعاني)) الألوسي (5/ 403). (¬5) ((لطائف الإشارات)) القشيري (1/ 363، 364). (¬6) ((تفسير أبي السعود)) (4/ 82). (¬7) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي م3، 4 (4/ 203). (¬8) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي م3، 4 (4/ 203). (¬9) ((تيسير الكريم الرحمن)) عبد الرحمن السعدي (3/ 264) (¬10) ((تفسير الكشاف)) م1، 2 (2/ 203).

4 - وقوله تعالى: لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وينهون عن المنكر وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 113 - 114] سبب نزولها: قال الواحدي: قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سَعْيَة وأسيد بن سَعْيَة وأسعد بن عبيد ومن أسلم من اليهود قالت أحبار اليهود: ما آمن لمحمد إلا شرارنا ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائهم وقالوا لهم: لقد خنتم واستبدلتم بدينكم ديناً غيره فأنزل الله هذه الآية (¬1). معنى الآية: ليسوا سواء تفرقة بين هاتين الفرقتين من أهل الكتاب اليهود والنصارى وأنهم ليسوا سواء على وضع واحد في موقفهم من الإسلام والمسلمين، وإذا كانت الآية الكريمة قد فرقت بين الفرقتين فإنها لم تحدد أي الفريقين من أهل الكتاب هو المتجه إليه الحكم في قوله من أهل الكتاب. أمة قائمة في إطلاق الحكم هكذا بحيث يدخل فيه الفريقان معاً حكم عظيمة تبين أنه في كلا الفريقين من أهل الكتاب اليهود والنصارى جماعات قائمة على الحق مؤمنة بالله واليوم الآخر تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر (¬2). فمعنى الآية ليس أهل الكتاب على حد سواء، بل منهم المجرم ومنهم المسلم القائم على الحق المستقيم على الهدى التالي لآيات الله والساجد له والمؤمن بالبعث بعد الموت الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. ومن كانت هذه حاله فهو من (الصالحين) أي من جملة من صلحت أحوالهم عند الله عز وجل واستحقوا رضاه وثناءه (¬3). فالله سبحانه وتعالى أثنى عليهم لاتصافهم بالصفات المذكورة ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5 - وقوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 112]. أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال من مات على هذه التسع فهو في سبيل الله التائبون العابدون (¬4) الآية. التائبون الراجعون إلى طاعة الله تعالى عن الحالة المخالفة للطاعة. وهل المراد التوبة من الشرك أو من كل معصية أو الأظهر أنه من كل معصية؟ قال في فتح البيان ( .. ثم قيل المراد بالتوبة عن الشرك والبراءة من النفاق وقيل من كل معصية) (¬5). (العابدون) المؤدون لما أوجب الله عليهم من الطاعات القولية والفعلية (¬6). (السائحون) الصائمون (¬7). (الراكعون الساجدون) المكثرون من الركوع والسجود في صلاة الفرض والنفل (¬8). (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر). أي الآمرون بجميع ما أمر الله ورسوله بفعله والناهون عن جميع ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركه. قال المراغي: أي الداعون إلى الإيمان وما تبعه من أعمال البر والخير والناهون عن الشرك وما بسبيله من المعاصي والسيئات (¬9). ¬

(¬1) ((أسباب النزول)) الواحدي (ص: 87). (¬2) ((التفسير القرآني للقرآن)) عبد الكريم الخطيب (1/ 561). (¬3) انظر إلى: ((زاد المسير)) ابن الجوزي (1/ 442). (¬4) ((الدر المنثور في التفسير المأثور)) السيوطي (3/ 281). (¬5) ((فتح البيان في مقاصد القرآن)) صديق خان (4/ 205). (¬6) انظر ((تفسير التحرير والتنوير)) محمد عاشور (11/ 91). (¬7) ((زاد المسير)) ابن الجوزي (3/ 506). (¬8) ((زاد المسير)) ابن الجوزي (3/ 506). (¬9) ((تفسير المراغي)) (4/ 34).

(والحافظون لحدود الله) أي الحافظون لشرائعه وأحكامه التي بين فيها ما يجب على المؤمنين اتباعه وما يحظر عليهم فعله منها، وكذا ما يجب على أئمة المسلمين وأولي الأمور منهم إقامته وتنفيذه بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلوا بما يجب عليهم حفظه منها (¬1). (وبشر المؤمنين) أي وبشر المؤمنين المتصفين بالصفات المذكورة في الآية الكريمة. ففي هذه الآية دليل على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله أثنى عليهم وبشرهم. وفي الآية إظهار في مقام الإضمار اعتناء بهم وتشريفاً لقدرهم وحذف المبشر به إشارة إلى أنه لا يدخل تحت الحصر بل لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (¬2). 6 - وقوله تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ [هود: 116]. فهذا دليل على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث إنه كان سبباً لنجاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وهلاك الآخرين. يقول الشيخ: عبد الرحمن السعدي: (وهذا حث لهذه الأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس قائمون بدين الله يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ويبصرونهم من العمى، وفي هذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون وصاحبها يكون إماماً في الدين إذا جعل عمله خالصاً لرب العالمين) (¬3). 7 - وقوله تعالى: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف: 163 - 165]. فالله سبحانه وتعالى يخبر عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق، فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا أي لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم قالت لهم المنكرة: مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ أي نفعل ذلك مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ولعلهم بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إلى الله فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ ارتكبوا المعصية بِعَذَابٍ بَئِيسٍ فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحون ولا ارتكبوا عظيماً فيذمون (¬4). ¬

(¬1) ((تفسير المراغي)) (4/ 34). (¬2) ((الصاوي على الجلالين)) (2/ 146). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن)) (3/ 468، 469). (¬4) انظر ((تفسير ابن كثير)) (2/ 257).

وقد اختلف المفسرون في الفرقة الساكتة هل نجت أم هلكت؟ فقال القرطبي - رحمه الله -: إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي قاله ابن عباس وقال أيضاً: ما أدري ما فعل الله بهم. وهو الظاهر من الآية. قال عكرمة: قلت لابن عباس لم قلت ما أدري ما فعل الله بهم؟! ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ فلم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا فكساني حلة (¬1). ورجح أيضاً أبو السعود أن الفرقة الساكتة نجت يقول في قوله تعالى: أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهم الفريقان (¬2). والآية الكريمة لم تذكر صراحة إلا الفريقين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمهلكين. والأولى - عندي -: ترك الخوض في أمرهم ونكل علم ذلك إلى الله تعالى. وإن كنا نجزم أن درجتهم أقل من درجة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. ويكفي في نزول درجتهم سكوت الله تعالى عنهم والله تعالى أعلى وأعلم. والمهم أن نعرف أن الله سبحانه وتعالى بين لنا في هذه الآية الكريمة أنه أنجى الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر من العذاب الذي أصاب القوم. وهذا دليل على فضله وعظمته حيث كان سبباً في نجاة أهله .. 8 - قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] وقد اختلف المفسرون في معنى العدل والإحسان في الآية. فقال ابن عباس -رضي الله عنهما- العدل: لا إله إلا الله. والإحسان أداء الفرائض. وقيل العدل: الفرض، والإحسان: النافلة. وقال سفيان بن عيينة: العدل ههنا استواء السريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- العدل الإنصاف والإحسان التفضل (¬3). وقيل: العدل هو القيام على طريق الحق في كل أمر، فمن أقام وجوده على العدل استقام على طريق مستقيم فلم ينحرف عنه أبداً ولم تتفرق به السبل. والإحسان إحسان مطلق يتناول كل قول يقوله الإنسان وكل عمل يعمله، بل الإحسان هو الإيمان بالله على أتم صورة وأكملها بحيث لا يبلغ درجة الإحسان إلا من عبد الله على هذا الوجه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم ((أن تعبد الله كأنك تراه)) (¬4). قلت: والعدل والإحسان يشمل كل ما ذكره المفسرون بل أوسع مما ذكروه بكثير والله أعلم. وإيتاء ذي القربى يعني ويأمر بصلة الرحم وهم القرابة الأدنون والأبعدون منك فيستحب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن (¬5). (وينهى عن الفحشاء والمنكر) الفحشاء ما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال، (والمنكر) ما لا يعرف في شريعة ولا سنة (والبغي) الكبر والظلم والتطاول على الغير (¬6). يعظكم لعلكم تذكرون أي يعظكم بما يأمر وينهى طلباً لأن تتعظوا بذلك (¬7). فبين سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه ينهى عن الفحشاء والمنكر. فيكفي شرفاً للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أنهم ينهون عما ينهى عنه الله سبحانه وتعالى فهم في حقيقة الأمر منفذون لأمر الله تعالى داعين إلى تنفيذه. ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي (7/ 307). (¬2) ((تفسير أبي السعود)) (2/ 423). (¬3) ذكر ذلك كله القرطبي في ((الجامع لأحكام القرآن)) م5 (10/ 165). (¬4) جزء من حديث رواه البخاري (50)، ومسلم (9). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) ((تفسير الخازن)) (3/ 131). (¬6) ((تفسير الخازن)) (3/ 131). (¬7) ((تفسير أبي السعود)) (3/ 395).

9 - وقوله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40 - 41]. يقول الفخر الرازي: ولولا دفاع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا ما يبغونه من مواضع العبادة ولكنه دفع هؤلاء بأن أمر بقتال أعداء الدين ليتفرغ أهل العبادة وبناء البيوت لها. لهذا المعنى ذكر الصوامع والبيع والصلوات وإن كانت لغير أهل الإسلام (¬1). وقيل لولا هذا الدفع لهدمت في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد (¬2). وقيل لولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقيل لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار (¬3). والصوامع: قيل إنها صوامع الرهبان. قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد، وقيل إنها صوامع الصابئين. قاله قتادة. وأما البيع فقيل: هي بيع النصارى. وأما الصلوات فقيل: إنها كنائس اليهود وقيل مساجد الصابئين. وأما المساجد: فقيل مساجد المسلمين قاله ابن عباس (¬4). وروي عن الحسن أنها بأسرها أسماء المساجد، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع، وأما البيع فأطلق هذا على المساجد على سبيل التشبيه، وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد (¬5) ولا يخفى علي أوالقول من بعد. والذي حمله على ذلك هو أنه لا يمكن أن يدافع عن هذه الأماكن والعبادة فيها باطلة ولكن المعنى: أن هذه الأماكن مع أنها مخصصة للعبادة لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها ... (¬6). وقوله وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي ينصر دينه وأولياءه فهو قوي على نصر أوليائه والانتقام من أعدائه. وقوله: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ هذا إخبار عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إن مكنهم الله في الأرض وبسط لهم الدنيا كيف يقومون بأمر الدين. وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله تعالى أعطاهم التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مرجعها إلى تقديره وفيه تأكيد لما وعد من إظهار أوليائه وإعلاء كلمته (¬7). وقال سيد قطب -رحمه الله-: ¬

(¬1) ((تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب) م12 (23/ 40، 41) (¬2) ((فتح القدير)) الشوكاني (3/ 457). (¬3) ((فتح القدير)) الشوكاني (3/ 457). (¬4) ذكر هذه الأقوال ابن الجوزي ((زاد المسير)) (5/ 436، 437). (¬5) ((تفسير الفخر الرازي)) م11 (23/ 41). (¬6) انظر إلى ((الظلال)) سيد قطب (4/ 2425). (¬7) ((تفسير القرآن الجليل)). المسمى ((بمدارك التنزيل وحقائق التأويل)) النسفي (3/ 279هـ).

الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ فحققنا لهم النصر وثبتنا لهم الأمر أَقَامُوا الصَّلَاةَ فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين وآتوا الزكاة فأدوا حق المال وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي، وأمروا بالمعروف فدعوا إلى الخير والصلاح ودفعوا إليه الناس، ونهوا عن المنكر فقاوموا الشر والفساد، وحققوا بهذا وذاك الأمة المسلمة التي لا تبقي على منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه. هؤلاء هم الذين ينصرون الله إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة معتزين بالله وحده دون سواه وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين (¬1). فالله سبحانه وتعالى في آخر هذه الآيات وضع الأسس والقواعد للطائفة الحاكمة، وبين أن القيام بهذه القواعد سبب للتثبيت والنصر وأن الإخلال بها أو ببعضها سبب للهزيمة والإبعاد وربما يصحب ذلك عذاب. وهذه القواعد: 1 - أن تقيم الصلاة في نفسها وفي مجتمعها وأن تؤدى كما يؤديها المصطفى صلى الله عليه وسلم كاملة الشروط والأركان والواجبات ... 2 - وأن تؤدي الزكاة من نفسها أولاً ثم هي تأخذها من الأغنياء وتردها على الفقراء والمحتاجين ثانياً. 3 - وأن تأتمر بالمعروف وتنتهي عن المنكر أولاً ثم هي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتناصر أهله وتحميهم وتعينهم على ذلك ثانياً. فإذا حققت هذه الأسس كتب الله لها البقاء والنصر وإذا خالفت فلترتقب زوالها وخذلانها في أية ساعة من ليل أو نهار. وهذا دليل واضح في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث إنه كان سبباً أساسياً في النصر إن أقيم أو الهزيمة إن ترك. 10 - قول الله تعالى: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 63]. قال في البحر المحيط: لولا تخصيص يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى والأمر بالمعروف (¬2). وقال الطبري -رحمه الله-: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الربا في الحكم من اليهود من بني إسرائيل ربانيوهم وهم أئمتهم المؤمنون وساستهم العلماء، وأحبارهم وهم علماؤهم وقوادهم عن قولهم الإثم يعني قول الكذب والزور وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير ما أنزل الله. ثم يقولون هذا حكم الله وأكلهم السحت يعني الرشوة (¬3). وقال أيضا -رحمه الله-: ما في القرآن أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها (¬4). فالآية فيها تخصيص يتضمن توبيخاً من جهة، ومن جهة أخرى فإذا كان الله تعالى ذم كبار القوم لعدم قيامهم بالأمر بالمعروف فإنه بالمقابل يحب الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وإذا كان الله سبحانه وتعالى رغب في الأمر بالمعروف وبين فضله من خلال النصوص السابقة فإنه رهب الذين يتركونه ولعنهم فقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]. ¬

(¬1) ((في ظلال القرآن)) سيد قطب (4/ 2427، 2428). (¬2) ((البحر المحيط)) أبو حيان (3/ 522). (¬3) ((تفسير الطبري)) (6/ 192، 193). (¬4) ((تفسير الطبري)) (6/ 192، 193).

أي لعنهم الله جل وعلا في الإنجيل والزبور على لسان هذين النبيين -عليهما السلام- بأن أنزل الله سبحانه وتعالى: ملعون من يكفر من بني إسرائيل بالله أو بأحد من رسله عليهم السلام (¬1). وقيل: لعن الأسلاف والأخلاف ممن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم على لسان داود وعيسى بن مريم لأنهما أعلما أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث فلعنا من يكفر به (¬2). ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ أي لم يكن اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ إلا لأجل المعصية والاعتداء لا شيء آخر، ثم فسر المعصية بقوله: كانوا لا يتناهون لا ينهى بعضهم بعضاً عن منكر فعلوه للتعجب من سوء فعلهم مؤكداً لذلك بالقسم. فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبئهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب (¬3). وقيل لا ينهى بعضهم بعضاً عن معاودة منكر فعلوه أو عن مثل منكر فعلوه أو عن منكر أرادوا فعله وتهيؤوا له ولا ينهون عنه (¬4). فالله سبحانه وتعالى لعن بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام بسبب أمور منها: أنهم لا يتناهون عن المنكرات الموجودة لديهم. وفي ذلك تحذير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يتهاونوا في هذا الباب. وقد جاءت السنة النبوية المطهرة موضحة هذا الجانب ومحذرة من مشابهة بني إسرائيل في تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إلى قوله فاسقون ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم أو لتأطرنه على الحق أطراً أو لتقصرنه على الحق قصراً)) (¬5) وفي رواية ((أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)) (¬6). فهذا الحديث يدل على الحث على القيام بالمعروف والنهي عن المنكر والحذر من تركهما. فقد يصيب الأمة ما أصاب بني إسرائيل من اللعن بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود - بتصرف - ص 109 ¬

(¬1) ((روح المعاني)) الألوسي (6/ 211) بتصرف. (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي (6/ 252). (¬3) ((تفسير الكشاف)) الزمخشري (2/ 42). (¬4) ((تفسير البيضاوي)) (ص: 159). (¬5) رواه أبو داود (4336)، ورواه الترمذي (3047)، وابن ماجه (799)، وأحمد (1/ 391) (3731). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن غريب، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 194): إسناده ثقات، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه عندهم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 489)، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (5/ 268): إسناده ضعيف، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن أبو داود)). (¬6) رواها أبو داود (4337)، والبيهقي (10/ 93) (19983)، وأبو يعلى (9/ 27) (5094). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 194): إسناده ثقات، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه عندهم، قال الذهبي في ((تلخيص العلل المتناهية)) (281): فيه خالد بن عمرو كذاب، وضعف هذه الرواية الألباني في ((ضعيف الجامع الصغير)) (1822).

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن الأحاديث الواردة في فضله كثيرة جداً ولكننا سوف نقتصر على طرف منها: 1 - ورد في الصحيحين ومسند أحمد وسنن النسائي والدارمي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على كل مسلم صدقة. قال أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق. قال أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير. قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال يمسك عن الشر فإنه له صدقة)) (¬1). فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ندب الأمة إلى نفع الخلق بالتصدق عليهم، صدقة حسية أو معنوية. فمن وجد الحسية فهو خير وإلا تصدق بالمعنوية ففيها خير، وإن أمكنه فعل ذلك كله فهو أفضل. قال ابن حجر -رحمه الله-: فمن أمكنه أن يعمل بيده فيتصدق وأن يغيث الملهوف وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويمسك عن الشر فليفعل الجميع (¬2). ويؤخذ من هذا الحديث أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد يرد سؤال هنا ألا وهو. كيف جعل الأمر بالمعروف من الصدقات. وهو من فروض الكفاية؟ نقول يتعين هذا الأمر إذا حصل من غيره القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإلا لا يكون من باب الصدقات وقد أشار ابن حجر –رحمه الله- إلى هذه المسألة (¬3). 2 - وعن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة. يجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) (¬4). 3 - وفي رواية أخرى عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين وثلاثمائة مفصل فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار)) (¬5). 4 - عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)) (¬6). ففي هذه الأحاديث الشريفة ترغيب من المصطفى صلى الله عليه وسلم بفعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهما سبب في نجاة العبد من النار. ¬

(¬1) رواه البخاري (6022)، ومسلم (1008)، والنسائي (5/ 64)، والدارمي (2/ 399) (2747)، وأحمد (4/ 395) (19549). (¬2) ((فتح الباري)) ابن حجر العسقلاني (3/ 308هـ). (¬3) انظر: ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)) (3/ 309هـ). (¬4) رواه مسلم (720). (¬5) رواه مسلم (1007). (¬6) رواه الترمذي (1956)، وابن حبان (2/ 286) (529). قال الترمذي: حسن غريب، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 293)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

5 - وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: ((كنا عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ فقلت: أنا أحفظه كما هو. قال: هات إنك عليه –أو عليها- لجريء. قلت: فتنة الرجل أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: ليس هذا أريد ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر. قال ليس عليكم منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً. قال: أيكسر أم يفتح؟ قال: يكسر قال: إذن لا يغلق أبداً. قلنا أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم كما أن دون الغد الليلة. إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط. فهبنا أن نسأل حذيفة، فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال: عمر)) (¬1). فهذا الحديث الشريف الصحيح دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في تكفير الذنوب التي تحصل بسبب الفتنة في الأهل والمال والولد والجار. وقد قرنه صلى الله عليه وسلم بالصلاة والصوم والصدقة، وهما من أركان الإسلام، فهذا دليل على فضله وعظمته. 6 - وعن أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري -رضي الله عنه- أنا ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: ((أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون. إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) (¬2). ففي هذا الحديث دليل على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه يقوم مقام الصدقات المادية أو الحسية. 7 - وعن درة بنت أبي لهب –رضي الله عنها- قالت قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر. فقال يا رسول الله أي الناس خير؟ فقال: ((خير الناس أقرؤهم وأتقاهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم)) (¬3). فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين في هذا الحديث أن من أفضل الناس من اتصف بالصفات المذكورة في هذا الحديث ومنها أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. ¬

(¬1) رواه البخاري (1435)، ومسلم (144). (¬2) رواه مسلم (1006). (¬3) رواه أحمد (6/ 432) (27474)، والطبراني (24/ 257) (20678). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 525): إسناده حسن، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 266): رواه أحمد وهذا لفظه والطبراني ... ورجالهما ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر.

8 - وروى الأصبهاني من حديث أبي الدرداء عويمر قال: ((قلت يا نبي الله إن مع الإيمان عملاً؟ قال يرضخ مما رزقه الله. قال: قلت يا نبي الله: أرأيت إن كان فقيراً لا يجد ما يرضخ به؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. قال: قلت يا رسول الله إن كان عيياً لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قال يعين صانعاً أو يصنع لأخرق. قال: قلت يا نبي الله إن كان أخرق ولا يستطيع شيئاً؟ قال يعين مغلوباً. قال قلت يا نبي الله أرأيت إن كان ضعيفاً لا يستطيع أن يعين مغلوباً؟ قال ما تريد أن تترك في صاحبك من خير. قال: يمسك أذاه عن الناس. قلت: يا نبي الله إذا فعل ذلك يدخل الجنة؟ قال: ما من مسلم أو مؤمن يفعل خصلة من هؤلاء إلا أخذت بيده حتى يدخل الجنة)) (¬1). فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الخصال التي تدخل صاحبها الجنة. ومن المتفق عليه بين الأمة أن العمل الواحد لا ينجي صاحبه من النار ولا يدخله الجنة. ولكن –إذا صح هذا الحديث- فإننا نقول أن يقوم الإنسان بالمفروضات والواجبات ويركز على بعض الخصال المندوبة فحينئذ يرجى له دخول الجنة. والله أعلم. 9 - وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((والذي نفسي بيده إن المعروف والمنكر خليقتان ينصبان للناس يوم القيامة. فأما المعروف فيبشر أصحابه ويعدهم الخير وأما المنكر فيقول إليكم إليكم وما يستطيعون له إلا لزوماً)) (¬2). 10 - وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من رجل ينعش لسانه حقاً يعمل به بعده إلا أجرى الله عليه أجره إلى يوم القيامة ثم وفاه الله عز وجل ثوابه يوم القيامة)) (¬3). فهذان الحديثان يبينان عظمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضلهما حيث إن المعروف يبشر صاحبه والنهي عن المنكر يدافع عنه. وأن أجره يجري إلى يوم القيامة طالما أن ذلك العمل ناتج بسبب أمره ونهيه. فهنيئاً للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لما ينالهم من الثواب الكبير والأجر العظيم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – بتصرف - ص140 ¬

(¬1) لم أقف عليه من حديث أبي الدرداء. ولكن الحديث رواه ابن حبان (2/ 96) (373)، والطبراني (2/ 156) (1651)، والحاكم (1/ 132)، والبيهقي (3/ 203). من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 233): رواته ثقات، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 138): رجاله ثقات. (¬2) رواه أحمد (4/ 391) (19505)، والطيالسي (535)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 376) (8925). قال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/ 363): رواه أبو داود الطيالسي، ورواته ثقات، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 265): رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح، وقال الألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5082): رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن قتادة والحسن البصري مدلسان وقد عنعناه. (¬3) رواه أحمد (3/ 266) (13829)، والخطيب البغدادي في ((موضح أوهام الجمع والتفريق)) (2/ 467)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 95)، وقال: إسناده فيه نظر لكن الأصول تعضده. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 172): فيه عبيد الله بن عبد الله بن موهب، قال أحمد: لا يعرف، قلت: وشيخ ابن موهب مالك بن محمد بن حارثة الأنصاري لم أر من ترجمه، وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (92).

المبحث الثالث: الآثار المترتبة على تركه

المبحث الثالث: الآثار المترتبة على تركه 1 - وقوع الهلاك: وذلك من جهتين: الأولى: أن المعاصي التي تظهر ولا تنكر سبب للعقوبات والمصائب (¬1). الثانية: أن السكوت ذاته يعد معصية يستحق صاحبه العقوبة (¬2)، كما أنه يدل على التهاون في دين الله عز وجل. هذا إذا كان الساكت عنه فرداً من أفراد المجتمع .. أما حين يسكت المجتمع بأكمله .. فإن العقوبة تعم في هذه الحال. قال الله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [الأنفال: 25]. وقال البخاري –رحمه الله-: باب ما جاء في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ... ثم ذكر بعض الأحاديث تحت هذا الباب. قال الحافظ: (وعند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب) (¬3). ولهذا الأثر شاهد من حديث عدي بن عميرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة)) (¬4). ا. هـ (¬5). وقد ورد في هذا المعنى أحاديث وآثار متنوعة، منها حديث أبي بكر الصديق –رضي الله عنه عند بيانه لما أشكل على البعض من قوله تعالى: عليكم أنفسكم وفيه: وإنما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ... )) (¬6). وثبت عنه أيضاً. ((وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) (¬7). قال ابن العربي في شرحه: (وهذا الفقه عظيم، وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل بها إلى الآخرة، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات، وركوب الذل من الظلمة للخلق ... ) ا. هـ (¬8). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 138 – 142، 215). (¬2) ((تفسير السعدي)) (2/ 155). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (13/ 474) (7081). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 6): ولهذا الأثر شاهد. (¬4) رواه أحمد (4/ 192) (17756، 17757)، وابن أبي شيبة في ((المسند)) (2/ 168)، وابن المبارك في ((الزهد)) (1352)، والطبراني (17/ 139) (14032). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 270): رواه أحمد من طريقين إحداها هذه والأخرى عن عدي بن عدي حدثني مولى لنا وهو الصواب وكذلك رواه الطبراني وفيه رجل لم يسم وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 6): إسناده حسن وله شاهد. (¬5) انظر: الفتح (13/ 3 - 4) (¬6) رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وأحمد (1/ 7) (29، 30)، وابن حبان (1/ 539) (304). قال الترمذي، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 208): صحيح، وصحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (412)، وابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 193)، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 36)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬7) رواه أبو داود (4338). قال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2317): صحيح، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (713): صحيح على شرط الشيخين. (¬8) ((عارضة الأحوذي)) (9/ 15).

وقد جاء من حديث جرير –رضي الله عنه مرفوعاً: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب)) (¬1). وعن حذيفة –رضي الله عنه مرفوعاً: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) (¬2). ولما قالت أم المؤمنين زينب –رضي الله عنها-: ((أنهلك وفينا الصالحون؟)) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم إذا كثر الخبث)) (¬3). وقال بلال بن سعد –رحمه الله-: (إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة) (¬4). وقال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: (كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا كلهم العقوبة) (¬5). هذا وإن العقوبات تتنوع وتقع بصور مختلفة، فمنها ما يكون بالتدمير بالزلازل أو الفيضانات أو نقص الأنفس من جراء الحروب أو الأوبئة أو نقص الثمرات، ومنها ما يكون بالريح، أو بإدالة الأعداء، أو بتولي أهل الشر وتسلطهم على رقاب المسلمين (ولا تكون القيادة لأهل الشر إلا إذا تخلى عنها أهل الخير ورضوا من إيمانهم بإيمان صوري، أو إيمان ناقص لا يلحقهم بهذه الخيرية، وإنما يعاقبهم بتسليط أهل الشر عليهم فيحكمونهم بالحكم الدنيوي المرخص لأعراضهم والمهدر لكرامتهم والمصادر لأموالهم .. ) (¬6). وبهذا تعلم أن العاصي لا يضر نفسه فحسب، وإنما يضر مجتمعه بأكمله، وقد شبه الرسول –صلى الله عليه وسلم- حاله مع حالهم بقوله: ((مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها. فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإنا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً)) (¬7). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4339) بلفظ: ((ما من رجل يكون في قوم .. ))، وابن ماجه (3254)، وأحمد (4/ 364) (19250)، وابن حبان (1/ 536) (300)، والبيهقي (10/ 91) (19979). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4073): له متابعة، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده حسن، عبيد الله بن جرير روى عنه جمع وذكره ابن حبان في ((الثقات))، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين. (¬2) رواه الترمذي (2169)، وأحمد (5/ 391) (23375). قال الترمذي: حسن، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 357): حسن إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمر، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 484) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 358): إسناده جيد. (¬3) رواه البخاري (3346)، ومسلم (2880). (¬4) ((الزهد)) لابن المبارك رقم (1350)، ((الحلية)) (5/ 222)، ((الشعب)) (6/ 99) (7601). (¬5) ((الموطأ)) رقم (1820)، ((الزهد)) لابن المبارك رقم (1351)، ((مسند الحميدي)) (1/ 131)، وابن الجوزي في مناقب عمر بن عبد العزيز (ص: 250)، و ((الشعب)) (6/ 99) (7602). (¬6) ما بين الأقواس نقلته من ((صفوة الآثار)) (4/ 283). (¬7) رواه الترمذي (2173)، والبزار (1/ 491) (3298). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (687) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

2 - انتفاء وصف الخيرية عن هذه الأمة: وذلك أن الحكم المقرون بالوصف المناسب له يدل على أنه معلل بذلك الوصف، فيدور الحكم مع الوصف وجوداً وعدماً، كما قال في المراقي: دلالة الإيماء والتنبيه ... في الفن تقصد لدى ذويه أن يقرن الوصف بحكم إن يكن ... لغير علة يعبه من فطن (¬1) 3 - أنه يجرئ العصاة والفساق على أهل الحق والخير: فينالون منهم ويتطاولون عليهم (¬2) وهذا مشاهد ملموس في هذه الأيام – والله المستعان -. 4 - أنه سبب لظهور الجهل واندراس العلم (¬3): وذلك أنه إذا ظهر المنكر ولم يوجد من ينكره نشأ عليه الصغير وألفه وظن أنه من الحق، كما هي الحال في كثير من المنكرات اليوم. 5 - أن في هذا الأمر تزييناً للمعاصي عند الناس وفي نفوسهم (¬4)؛ لأن صاحب المنكر كالبعير الأجرب يختلط بالإبل فتجرب جميعاً بإذن الله .. !! والناس كأسراب القطا قد جبل بعضهم على التشبه ببعض .. !! فإذا أضفت إلى ذلك ما يوجد داخل النفس من الأمر بالسوء، وحب الشهوة، فإذا وجد المنكر عند الناس في الخارج قوي الباعث الذي في النفس!! فإذا كان الفاعل له في الخارج من نظراء هذا ازداد طلبه له، ويشتد الدافع له إذا وجد من يأمره به ويرغبه بارتكابه .. ويعظم الدافع إلى ارتكابه إذا أوذي بسبب تركه ونيل منه بسبب مجانبته .. !! هذا وإن أهل الفساد لا يرضون إلا بموافقته لهم ويكرهون من تنزه عن ذلك. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- إلى أن المرأة الزانية تود أن النساء كلهن يزنين .. ونقله عن بعض السلف. علماً أنه لو وقع فيه معهم لانتقصوه وصغر في أعينهم .. واتخذوا من فعله هذا حجة عليه يطعنون بها متى شاؤوا!! (¬5). 6 - عدم إجابة الدعاء: جاء هذا في حديث عائشة –رضي الله عنها- مرفوعاً: ((مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم)) (¬6) وقد تقدم حديث حذيفة قريباً وفيه: ((ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) (¬7). 7 - سبب ظهور غربة الدين: واختفاء معالمه، وتفشي المنكرات والكفر والظلم .. وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)) (¬8) فكلما انتشر الفساد والظلم كلما ازدادت الغربة .. حتى يصبح المتمسك بدينه غريباً بينهم .. وحتى تصبح السنن والهدى من الأمور المرفوضة والمستهجنة عند هذا الجنس السيئ من الخلق .. قال الخلال: (أخبرني عمر بن صالح بطرسوس، قال: قال لي أبو عبد الله: يا أبا حفص: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع. ¬

(¬1) انظر: ((نشر البنود)) (1/ 93 – 94) و ((صفوة الآثار)) (4/ 283). (¬2) ((تفسير السعدي)) (2/ 155). (¬3) ((تفسير السعدي)) (2/ 155). (¬4) ((تفسير السعدي)) (2/ 155). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 215)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 37، 44 – 47). (¬6) رواه ابن ماجه (3251) واللفظ له، وابن حبان (1/ 526) (290)، والبيهقي (10/ 93) (20695)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 377) (6665). وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬7) رواه الترمذي (2169)، وأحمد (5/ 391) (23375). قال الترمذي: حسن، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 357): حسن إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمر، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 484) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 358): إسناده جيد. (¬8) رواه مسلم (145). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

فقلت: يا أبا عبد الله، وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟! فقال: يا أبا حفص صيروا أمر الله فضولاً. وقال: المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني قالوا: هذا فضول. قال: والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه. فقالوا: نعم الرجل، وليس بينه وبين الفضول عمل!) (¬1). وقال جامع بن شداد: كنت عند عبد الرحمن بن يزيد بفارس، فأتاه نعي الأسود بن يزيد، فأتيناه نعزيه. فقال: مات أخي الأسود. ثم قال: قال عبد الله: يذهب الصالحون أسلافاً ويبقى أصحاب الريب. قالوا: يا أبا عبد الرحمن، وما أصحاب الريب؟! قال: (قوم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر) (¬2). 8 - إلف المسلم لهذه المنكرات: المتفشية لكثرة مشاهدته لها، والأمر كما قيل: (كثرة المساس تبلد الإحساس)، فما تعود للقلب تلك الشفافية والحساسية عند رؤية المنكر. وقد حكي عن بعضهم: أنه مر يوماً في السوق فرأى بدعة فبال الدم من شدة إنكاره لها بقلبه، وتغير مزاجه لرؤيتها، فلما كان في اليوم الثاني مر فرآها فبال دماً صافياً، فلما كان في اليوم الثالث مر فرآها فبال بوله المعتاد لأنه قد ألف رؤيتها (¬3). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص68 ¬

(¬1) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال رقم (65). (¬2) البيهقي في ((الشعب)) رقم (7584) (6/ 94). (¬3) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 93 – 94).

المبحث الرابع: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنظر إلى ذاته انظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (3/ 216)، ((الجامع لشعب الإيمان)) (6/ 91)، ((إحياء علوم الدين)) (2/ 303 و ((عارضة الأحوذي)) (ص: 1319)، ((تفسير ابن عطية)) (5/ 215)، ((مجموع الفتاوى)) (5/ 166 - 167)، ((فتح الباري)) (13/ 53)، ((فتح القدير)) (1/ 369)، ((عون المعبود)) (11/ 492)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 489، 493 – 495)، ((صفوة الآثار)) (4/ 275))، ((دقائق التفسير)) (3/ 289)، ((الدرر السنية)) (7/ 30 - 34).

المطلب الأول: الحكم العام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات، وأجلها وأفضلها. ولقد دل على وجوبه الكتاب والسنة (¬1)، كما نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم كابن عطية (¬2) والنووي وأبي المعالي الجويني (¬3). وإذا تأملت نصوص الكتاب والسنة في طلب هذا الأمر العظيم ألفيت ذلك قد ورد باستفاضة كبيرة جداً مع تنوع في الأساليب التي يمكن أن نوجز لك بعضها ثم نمثل عليها بعد ذلك: 1 - الأمر به. 2 - جعله من الصفات اللازمة للمؤمنين. 3 - اعتبار فعل ما يضاده من الصفات اللازمة للمنافقين. 4 - جعله سبباً للخيرية في هذه الأمة. 5 - بيان أن تركه سبب لوقوع اللعن والإبعاد. 6 - بيان أن فعله سبب للنجاة. 7 - بيان أن تركه سبب للهلاك. 8 - اعتباره سبباً للنصر. 9 - اعتبار تركه سبباً للذم والتوبيخ. 10 - وصف من تركه وقعد عنه بالظلم. 11 - نفي الإيمان عمن قعد عنه حتى بالقلب. 12 - الشهادة بالإيمان لفاعله، وتارة يجعله من أفضل أعمال المؤمنين. 13 - تارة يقرنه بعدد من الحقوق والواجبات، ويجعلها معه في سياق واحد. وبعد هذا العرض الموجز إليك ذكر بعض النماذج من الكتاب أو السنة على ما سبق فنقول: من الأول: قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ... [آل عمران: 104] وقوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] ومن ذلك أيضاً ما رواه أبو سعيد الخدري –رضي الله عنه مرفوعاً: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ... )) (¬4)، ومنه حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- مرفوعاً: ((إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح عليكم، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله، وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (¬5). ومن الثاني: قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة: 71]. ومن الثالث: قوله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة: 67] قال البيهقي –رحمه الله-: (ثم إن الله تعالى جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرق ما بين المؤمنين والمؤمنات لأنه قال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ وقال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ فثبت بذلك أن أخص أوصاف المؤمنين وأقواها دلالة على صحة عقدهم وسلامة سريرتهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.) (¬6) ا. هـ ¬

(¬1) انظر: ((الإحياء)) (2/ 303 - 308)، ((الفتاوى العراقية)) (1/ 99)، ((الآداب الشرعية)) (1/ 171 - 173) ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 579)، ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 281)، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 5 - 18)، ((فتح المبين)) (ص: 245)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 427)، ((أصول الدعوة)) (ص: 165). (¬2) ((تفسير ابن عطية)) (5/ 166). (¬3) ((النووي شرح مسلم)) (1/ 2/22). (¬4) رواه مسلم (49). (¬5) رواه الترمذي (2257)، وأحمد (1/ 436) (4156)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 511) (9828)، وابن حبان (11/ 129) (4804)، والبيهقي (3/ 180) (5827). قال الترمذي: حسن صحيح، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (6/ 96)، وقال الألباني: صحيح. (¬6) انظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (3/ 216)، و ((الشعب)) (6/ 84) (7558).

ومن الرابع: قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ... [آل عمران: 110] وقد تقدم قول عمر –رضي الله عنه (من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله في هذه الآية) (¬1). ومن الخامس: قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة: 78 - 79]. ومن السادس: قوله تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ... [هود: 116]. ومن السابع: حديث أبي بكر -رضي الله عنه- في تقويم مفهوم أخطأ فيه البعض: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) (¬2)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) (¬3) (¬4). ومن الثامن: قوله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ... [الحج: 40 - 41]. ومن التاسع: قوله تعالى: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 63] قال ابن جرير –رحمه الله-: (وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها). ا. هـ. وأخرج في تفسيره بإسناد صحيح عن الضحاك أنه قال في هذه الآية: (ما في القرآن آية أخوف عندي منها: أنا لا ننهى) (¬5). ومن العاشر: قوله تعالى: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ [هود: 116]. ومن الأقوال للمفسرين في هذه الآية قول بعضهم: (أراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات، أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتبعوا طلب الشهوات واللذات، واشتغلوا بتحصيل الرياسات) (¬6) ا. هـ. ومن الحادي عشر: حديث ابن مسعود مرفوعاً: ((ما من نبي يبعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) (¬7). ومنه حديث أبي سعيد المتقدم وفيه: ((وذلك أضعف الإيمان)) (¬8). ومن الثاني عشر: قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ... [فصلت: 33]. ومن الثالث عشر: قوله –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ((إياكم والجلوس في الطرقات. فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ... )) (¬9) فقد اعتبره من جملة الأمور التي بها يباح الجلوس في الطرقات .. وإلا فيحرم، وهذا يدل على أنه حق واجب له؛ ثم إنه عده في جملة أمور واجبة، وهي غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وهذه كلها من الواجبات كما هو معلوم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 90 ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (7/ 102) (7612). (¬2) رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وأحمد (1/ 7) (29، 30)، وابن حبان (1/ 539) (304). قال الترمذي، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 208): صحيح، وصحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (412)، وابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 193)، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 36)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬3) رواه أبو داود (4338). قال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2317): صحيح، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (713): صحيح على شرط الشيخين. (¬4) انظر بعض ما ورد في التحذير من تركه من كتاب: ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 72 - 79). (¬5) ((تفسير الطبري)) تحقيق أحمد شاكر (10/ 449). (¬6) انظر: ((تفسير الرازي)) (18/ 75)، ((وفتح القدير)) (2/ 534)، ((وتفسير القاسمي)) (9/ 180). (¬7) رواه مسلم (50). (¬8) رواه مسلم (49). (¬9) رواه البخاري (2465).

المطلب الثاني: اختلاف حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باختلاف المأمور به والأحوال والأوقات

الفرع الأول: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا تبين ... أن أصل هذا العمل واجب قطعاً .. لكن هذا الوجوب لا يكون لازماً في كل مطلوب شرعاً ولا على كل فرد كل حال (فيما زاد على القلب). إذا عرفت هذا وتبينته فاعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون محرماً، وقد يكون مكروهاً .. أما حال كونه واجباً: فهذا يحصل إذا كان العمل المأمور به من الواجبات، أو الفعل المرتكب –الذي يراد النهي عنه- معدوداً من المحرمات (¬1) .. فهنا يجب الأمر أو النهي ما لم يكن هناك عذر في تركه. متى يسقط الوجوب (¬2): لا شك أن الإنكار بالقلب لا يسقط بحال من الأحوال، لكن الإنكار باليد واللسان قد يسقط وجوبه وذلك في واحد من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: إذا تكاثرت الفتن والمنكرات (¬3): وهذا يكون على نوعين: النوع الأول: ما يكون في آخر الزمان؛ وهذا النوع هو الذي تحمل عليه كثير من الأحاديث الواردة في العزلة والتي منها حديث أبي سعيد –رضي الله عنه- مرفوعاً ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)) (¬4). ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما-: ((شبك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه وقال: كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حثالة قد مرجت عهودهم وأمانتهم واختلفوا فصاروا هكذا، قال: فكيف أصنع يا رسول الله؟! قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر وتقبل على خاصتك وتدعهم وعوامهم)) (¬5). وفي لفظ آخر: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكرت الفتنة فقال: إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم وخفت أمانتهم وكانوا هكذا –وشبك بين أصابعه- قال ابن عمرو: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، وأملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)) (¬6). ¬

(¬1) انظر: ((الآداب الشرعية)) (1/ 174). (¬2) انظر: ((المحلى)) (9/ 391)، ((الإحياء)) (2/ 315)، ((أحكام القرآن)) (2/ 720)، ((مجموع الفتاوى)) (14/ 479)، ((الآداب الشرعية)) (1/ 155 - 156)، ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 283)، ((فتح المبين)) (ص: 245 - 246) ((غذاء الألباب)) (1/ 212 - 214)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 497 - 498)، ((المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة)) (2/ 315 - 324). (¬3) انظر ما جاء في ذلك من الآثار في كتاب ((الإبانة الكبرى)) من رقم (725 - 774). (¬4) رواه البخاري (19). (¬5) رواه البخاري (480) من حديث واقد عن أبيه عن ابن عمر أو ابن عمرو: شبك النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه. وقال عاصم بن علي حدثنا عاصم بن محمد سمعت هذا الحديث من أبي فلم أحفظه فقومه لي واقد عن أبيه قال: سمعت أبي وهو يقول: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله بن عمر كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس). بهذا. وانظر: ((الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم)) للحميدي (2/ 206) (1435)، و ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 5) (7456). (¬6) رواه أبو داود (4343)، وابن ماجه (3957)، وأحمد (2/ 212) (6987)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 59) (10033)، والحاكم (4/ 315). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (909) كما أشار لذلك في مقدمته. وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 291): إسناده حسن، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 95) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.

ومن ذلك أيضاً حديث حذيفة –رضي الله عنه- المشهور: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن. قلت وما دخنه؟ قال قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: نعم، من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. فقلت: يا رسول الله فما ترى –وفي رواية- فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬1) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة لا تحصى (¬2). هذا وقد حمل جماعة من السلف والخلف قوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ... [المائدة: 105] على هذا المعنى، ومن ذلك ما ورد عن أبي مازن أنه قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة فإذا قوم من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم (¬3). وفي لفظ عند ابن جرير: كنت في خلافة عثمان بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ يسندون إليه، فقرأ رجل عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ فقال الشيخ إنما تأويلها آخر الزمان (¬4). النوع الثاني: ما يقع من الفتن في بعض الأوقات دون التي تقع آخر الزمان: وهذا كالفتن التي وقعت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اعتزل جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حينما وقعت الفتن، ومن هؤلاء سعد بن أبي وقاص (¬5)، ومحمد بن مسلمة، وسلمة بن الأكوع، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وعروة بن الزبير من التابعين (¬6). عن عامر بن سعد قال: كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في إبله فجاءه ابن عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فجاء فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون في الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره وقال: اسكت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)) (¬7). وقال البخاري: (باب التعرب في الفتنة) وذكر حديثين: الأول: وفيه تعرب سلمة بن الأكوع بعد مقتل عثمان .. (¬8) والثاني: حديث أبي سعيد مرفوعاً ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم ... )) (¬9) وقد تقدم ذكره قال الحافظ: والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه، وقد اختلف السلف في أصل العزلة (¬10) فقال الجمهور: الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك، وقال قوم: العزلة أولى لتحقق السلامة، بشرط معرفة ما يتعين .. وقال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى. ¬

(¬1) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847). (¬2) راجع الأرقام الآتية من كتاب: ((جامع الأصول)) (ص: 7457، 7460، 7470، 7473). (¬3) ((تفسير الطبري)) (11/ 140). (¬4) ((تفسير الطبري)) (11/ 141 - 142). (¬5) انظر: ((الإبانة الكبرى)) رقم (734). (¬6) انظر: ((العزلة)) للخطابي (ص: 21). (¬7) رواه مسلم (2965). (¬8) الحديث رواه البخاري (7087). (¬9) رواه البخاري (7088). (¬10) انظر كلام ابن النحاس في ((العزلة والهجرة من بلد المعاصي)) (ص: 108 - 109).

وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين، ومنهم من يترجح، وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه، إما عيناً وإما كفاية بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح: من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي: من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة، لما ينشأ فيها غالباً من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها، كما قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ... [الأنفال: 25]. ويؤيد التفصيل المذكور حديث أبي سعيد أيضاً: ((خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله ورجل في شعب من الشعاب ... )) (¬1) وقد تقدم في باب العزلة من كتاب الرقاق حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه آنفا فإن أوله عند مسلم: ((خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله)) الحديث (¬2) وفيه: ((ورجل في غنيمة)) .. فإن أخذ على عمومه دل على فضيلة العزلة لمن لا يتأتى له الجهاد في سبيل الله إلا أن يكون قيد بزمان وقوع الفتن والله أعلم (¬3) ا. هـ. قال البخاري رحمه الله: (باب العزلة راحة من خلاط السوء) وذكر حديثين: الأول: حديث أبي سعيد ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أي الناس خير؟ قال: رجل .. )) (¬4) وذكر نحو الحديث السابق. والثاني حديث أبي سعيد مرفوعاً: ((يأتي على الناس زمان خير مال المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)) (¬5) قال الحافظ: (ووقع في رواية مالك: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم .. )) (¬6) ولفظه هنا صريح في أن المراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان .. ) (¬7). ا. هـ. والذي يظهر من استقراء النصوص أن الفتن من حيث التعلق بالزمان على قسمين: 1 - قسم مضى. 2 - قسم سيأتي. وأما من حيث التعلق بإمكانية ظهور الحق ومعرفته لكثير من الناس فهي أيضاً على قسمين وهما: 1 - قسم يمكن معرفة الحق فيه وتمييزه، وإن أشكل على البعض. 2 - قسم يوقع الناس في الحيرة .. فلا يكاد يعرف فيه الحق من الباطل لاختلاط المعروف بالمنكر والمحق بالمبطل. فالفتن التي يمكن معرفة الحق فيها، وإن أشكلت على بعض الناس، فيقال فيها: إن من أشكلت عليه الأمور تعينت عليه العزلة، وعليه يحمل اعتزال من ذكر من الصحابة. والله أعلم. أما من أمكنه معرفة الحق، ولم يتمكن من العمل به، أو أدت مخالطته للناس إلى تكثير سواد أهل الفتنة، أو حملهم له على المشاركة، فيلزمه أن يعتزل أيضاً. ومن عرف الحق ولم يخش تفويت العمل به ولا حملهم إياه في فتنتهم .. ولا إعانتهم عليها، ولم يكثر لهم سواداً .. لكنه لو أمر ونهى لم يكن ذلك مؤثراً في حالهم ولا مغيراً لها .. فالأفضل في حقه العزلة وقد يكون هذا الحال أيضاً من أسباب اعتزال بعض الصحابة فمن بعدهم (¬8). ¬

(¬1) رواه البخاري (6494). (¬2) رواه مسلم (1889). (¬3) ((الفتح)) (13/ 42 - 43). (¬4) رواه البخاري (6494). (¬5) رواه البخاري (6495). (¬6) رواه البخاري (7088). (¬7) ((الفتح)) (11/ 330 - 333). (¬8) انظر أمثلة ذلك بوفرة في كتاب: ((العزلة للخطابي)).

قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم هلاك أمتي على أيدي أُغيلمة سفهاء) وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش)) (¬1) قال الحافظ: وأما قوله: ((لو أن الناس اعتزلوهم)) محذوف الجواب وتقديره لكان أولى بهم .. ويؤخذ من هذا الحديث استحباب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية، فإنها سبب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك. قال ابن وهب عن مالك: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً. وقد صنع ذلك جماعة من السلف. ا. هـ (¬2). أما إن كان لا يخشى من المخالطة وقوع محذور مما سبق، وبقاؤه ينفع الناس، فهذا قد يتعين عليه البقاء وترك العزلة، وقد دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم إن كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) (¬3). وهذا يشبه زماننا هذا والله المستعان. وأما القسم الثاني من الفتن، وهي التي لا يعرف الحق فيها من الباطل، حيث تلتبس فيها الأمور، وهذا الالتباس ناتج عن طبيعة الفتنة وتلونها .. أو ناتج عن عدم قدرة المعاصر لها من تمييز الحق فيها من الباطل .. وأكثر ما يكون هذا في آخر الزمان .. وعلى ذلك تنزل كثير من الأحاديث السابقة في أول الكلام .. كحديث حذيفة، وحديث أبي سعيد، وحديث ابن عمرو بن العاص، وغيرها .. والله أعلم بالصواب. الحال الثانية: من الأحوال التي يسقط فيها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي: العجز الحسي وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان، فإن من عجز عن القيام بعمل (طولب به) عجزاً حسياً لم يكلف به، كمن عجز عن الجهاد لمرضه أو عرجه أو لذهاب بصره أو غير ذلك، وهذا معروف لا يحتاج إلى تعريف. ¬

(¬1) رواه البخاري (7058). (¬2) ((الفتح)) (13/ 10). (¬3) رواه الترمذي (2507)، وابن ماجه (3273)، وأحمد (2/ 43) (5022)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (388). من حديث ابن عمر رضي الله عنه. ولم يسم الترمذي الصحابي وقال: شيخ من أصحاب النبي. وقال بعد روايته للحديث: قال ابن أبي عدي كان شعبة يرى أنه ابن عمر. قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 543): الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر، ولم يسم الترمذي الصحابي قال: شيخ من أصحاب النبي، والطريق واحد. وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (3/ 449): [رواته] كلهم ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 528): إسناده حسن، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (7/ 94). وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

الحال الثالثة: ما كان في معنى العجز الحسي، وذلك إذا كان يلحقه من جرائه مكروه معتبر في إسقاط الوجوب عنه (¬1). دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- مرفوعاً: ((إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟! فإن لقن الله عبداً حجته قال: يا رب! رجوتك وفرقت من الناس)) (¬2) فقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حجته. ومما يدل على هذا المعنى أيضاً حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه)) (¬3). حد المكروه المعتبر شرعاً (¬4) من المعلوم أن الإنسان قد يكره كلمة، كما يكره الضرب، أو طول اللسان، أو الغيبة (¬5)، وما من شخص يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا ويتوقع منه نوع من الأذى. لذلك كان لابد من معرفة حد المكروه الذي يسقط بسببه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. اعلم أن مطالب الناس في هذه الدار ترجع إلى أربعة أمور (يطلبها الإنسان لنفسه ومن أحب كالقرابة ونحوهم) وهي: الأول: مطلوب في النفس وهو العلم. الثاني: مطلوب في البدن وهو الصحة. الثالث: مطلوب في المال وهو الثروة. الرابع: مطلوب في قلوب الناس وهو الجاه. والمكروه في هذه الأمور الأربعة أمران: الأول: زوال الموجود منها. الثاني: امتناع المرتقب. وكل واحد من هذين الأمرين يحصل بفواته الضرر. ولكي تجلى لك صورة الأمر نمثل لك على تعرض كل واحد من تلك المطالب الأربعة للزوال باعتبار ما هو حاصل وموجود منها، لا ما كان مرتقباً. فأما العلم: فلا يمكن لأحد رفعه من قلب صاحبه، وهذا من مزايا العلم وشرفه على غيره كما هو معلوم .. فانتفى المحذور من هذا الوجه. وأما البدن: فقد يقصد بالعطب الكامل وذلك بالقتل .. فهذا يسقط الوجوب ولا ريب، وقد يقصد بأذى دونه كالضرب أو قطع شيء من الأعضاء ونحو ذلك، وهذا على قسمين وهما: 1 - القسم الأول: ما كان الأذى فيه غير معتبر .. كالضربة الخفيفة ونحوها. فهي غير مؤثرة ولا معتبرة في إسقاط الوجوب. 2 - القسم الثاني: ما كان الأذى فيه معتبراً كالضرب المؤثر، وقطع شيء من الأعضاء وما جرى مجرى ذلك .. فإن هذا يسقط الوجوب. وأما المال .. فهذا على قسمين أيضاً وهما: الأول: ما كان زواله غير مؤثر ولا منظور .. كنقص حبيبات من بر، أو درهم من ممتلكات المحتسب .. وهذا على سبيل التغليب، وإلا فلا شك أن ذلك يختلف باختلاف الناس. ¬

(¬1) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 19) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 428)، ((مفتاح السعادة)) (3/ 307 - 309). (¬2) رواه ابن ماجه (3260)، وأحمد (3/ 29) (11263)، وابن حبان (16/ 368) (7368)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 90) (7574). وقال: له متابعة، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 544): إسناده جيد، وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 155): إسناده لا بأس به، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه الترمذي (2254)، وابن ماجه (3259)، وأحمد (5/ 405) (23491)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 418) (10824). قال الترمذي: حسن غريب، وقال البيهقي: تابعه سعيد بن سليمان النسيطي وعمر بن موسى الشامي عن حماد بن سلمة، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 546): حسن غريب، وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (166). وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 716): إسناده صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬4) انظر: ((الإحياء)) (2/ 317 - 319) وانظر: ((مفتاح السعادة)) (3/ 308 - 309). (¬5) انظر: الآداب الشرعية (1/ 155 - 156) و ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 103 - 106) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 434).

الثاني: ما كان زواله مؤثراً على صاحبه، كإتلاف المال، أو جزء له قيمة معتبرة منه، وهذا مسقط للوجوب (¬1). وأما الجاه فهو على قسمين أيضاً وهما: الأول: ما كان غير معتبر (¬2)، وهو ما كان بنحو غيبة تقال فيه، أو لمز أمام أحد من الخلق، أو تجهيل .. أو نحو ذلك كأن يخرج من داره حاسر الرأس مثلا – وإن كان هذا يتفاوت ويختلف باختلاف الأعراف وتفاوتها – أو كأن يمنع من ركوب المراكب الفاخرة التي اعتاد ركوبها .. ونحو ذلك .. فهذا كله غير معتبر. وهذا هو الذي يعبر عنه بالجاه المحض. الثاني: ما كان معتبراً، كأن يسود وجهه ويطاف به على حمار في السوق .. أو نحو ذا، فإن هذا يسقط الوجوب عنه .. وهو ما يعبر عنه بخوارم المروءة وليس كلها مسقطاً للوجوب (¬3). وأما التمثيل لما يخاف امتناع ما هو منتظر منها فكما يلي: ففي جانب العلم: كأن يخشى الإنكار على معلمه أو من لو أنكر عليه لحال بينه وبين التعلم .. فيقال في هذا إن له ثلاثة أحوال. الأولى: أن يجد غيره .. فهذا لا يسقط عنه الأمر والنهي .. فينكر عليه أو يأمره فإن امتنع من تعليمه ذهب وتعلم من غيره. الثاني: أن لا يجد غيره لكن العلم الذي يتلقاه منه فرضاً في حقه فإن هذا أيضاً لا يسقط الوجوب عنه. الثالثة: أن لا يجد غيره .. والعلم الذي يتعلمه منه فرض في حقه، كتعلم الوضوء والصلاة ونحو ذلك، فإن القول بسقوط الإنكار عنه متجه والله أعلم. وأما في البدن: فكأن يترك الإنكار على الطبيب خوفاً من أن لا يداويه إذا اعتل .. أو خاف أن يتأخر عنه فتمتنع بسببه صحته المرتقبة .. وأما في المال: فكتركه الحسبة على السلطان وأصحابه، وعلى من يواسيه من ماله خوفاً من أن يقطع إدراره في المستقبل ويترك مواساته. وأما الجاه: فكتركه الحسبة على من يتوقع منه نصرة .. أو جاهاً في المستقبل .. فيخشى أن لا يحصل له ذلك الجاه .. أو كأن يخاف أن يقبح حاله عند السلطان الذي يتوقع منه ولاية. فإن هذا واللذين قبله لا يسقطان شيئاً من وجوب الحسبة لأن هذه زيادات امتنعت. والذي يمكن أن يستثنى من ذلك هو ما تدعو إليه الحاجة ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر. كما إذا كان محتاجاً إلى الطبيب لمرض ناجز والصحة منتظرة من معالجة الطبيب .. ويعلم أن في تأخره عنه شدة الضنا به وطول المرض .. وقد يفضي إلى الهلاك .. فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يبعد أن يرخص له في ترك الحسبة. مسألة: هل للإنسان أن يسكت عن الإنكار بيده أو بلسانه خوفاً على منصبه؟! الجواب: أن صاحب هذا المنصب إن كان بقاؤه فيه لا يقدم نفعاً للمسلمين ولا لدعوتهم إما لطبيعته وإما لحال صاحبه أو غير ذلك، فإن هذا لا يجوز له أن يسكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل بقاء هذا المنصب. أما إن كان بقاؤه فيه ينتج منه مصالح للأمة .. وخدمات للدعوة إلى الله تعالى كالخطيب في منبره أو المعلم أو نحو ذلك .. فقد يسوغ له أن يسكت عن بعض الأمور إذا غلب على ظنه أن إنكاره لها يكون سبباً في إبعاده عن هذا المنصب. أما إن كان يؤدي إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلية فهذا لا يظهر وجهه والله أعلم. وبالجملة فإن الأمور تقدر بقدرها ولكل حالة حكم والله المستعان. لكن ينبغي الحذر من مداخل الهوى في هذا الباب، فقد يصور المرء لنفسه أن منصبه مهم لخدمة الدعوة ومصلحتها وإنما الذي يحركه في ذلك هواه. ¬

(¬1) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 97). (¬2) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 97). (¬3) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 97).

فائدة: قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ... [الأنفال: 65] ثم نزل قوله: الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ... [الأنفال: 66] قال ابن عباس: (فكتب أن لا يفر مائة من مائتين .. )، قال سفيان: وقال ابن شبرمة: (وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا) (¬1) ا. هـ. مسألة (¬2): هل يشترط في الخوف من لحوق المكروه غلبة الظن، أو يكفي في ذلك تجويز الوقوع؟ وما ضابط ذلك: قال الغزالي –رحمه الله-: (فإن قيل: فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقناً ولا معلوماً بغالب الظن ولكن كان مشكوكاً فيه، أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه (¬3)، ولكن احتمل أن يصاب بمكروه، فهذا الاحتمال هل يسقط الوجوب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه، أم يجب في كل حال، إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه؟! قلنا: إن غلب على الظن أنه يصاب بمكروه لم يجب، وإن غلب على الظن أنه لا يصاب وجب. ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب فإن ذلك ممكن في كل حسبة. وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل النظر، فيحتمل أن يقال: الأصل الوجوب بحكم العمومات، وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعاً. وهذا هو الأظهر. ويحتمل أن يقال: إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه، أو ظن أنه لا ضرر عليه. والأول أصح، نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف. فإن قيل: فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة فالجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريباً حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه. والمتهور الشجاع يبعد وقوع المكروه به بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه، فعلى ماذا التعويل؟! قلنا: التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل .. ) (¬4) ا. هـ. وإنما تؤتى الدعوات من أحد هذين الصنفين الذين ذكرهما .. فالمتهور يوقع نفسه ومن معه في مهالك تجهز عليهم وعلى دعوتهم .. وتفتح الباب على مصراعيه لعدوهم المتربص لضربهم ونسف جهودهم في الدعوة .. وهذا النوع يفسد في الغالب أكثر مما يصلح، ولا حيلة معه إلا بأن يروض نفسه ولو تكلفاً، كما ينبغي له أن يستشير من هو أعقل وأعلم منه، وعليه أن يقبل المشورة. أما ضعيف القلب والذي يخاف ظله .. ويتوهمه عدواً يطارده .. فعليه أن يعود نفسه على الإقدام .. حتى في حال خوفه لعل هذا الخوف أن يزول عنه .. وهذا النوع من الخلق لا يقل خطراً على الدعوات من الأول، ولذا فلا ينبغي أن يولى هذان على رجلين أبداً. فهذا الضعيف كم من جهاد عطل بسببه، وكم من عمل بر أو حلقة علم جمدت نتيجة لأوهامه، وبالجملة فإن مجالسة هذا الصنف –أعني الأخير- تفسد قوى النفس وتجلب الوهن والوهم والخوف من النسمات .. ومثل هذا والذي قبله لا يصلح أن يحمل دعوة ولا أن يوجه أمة .. فمن أراد السلامة فعليه اجتنابهما ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) (¬5) بل إن مجالسة المجاذيم أهون من مجالسة صاحب الوهن إن كان وهنه متعدياً كما سبق، لأن الجذام إذا أصيب به الإنسان –بإذن الله- تآكلت أطرافه وتعطلت قواها. أما هذا الواهن الموهن فإن مجالسته سبب لتآكل قوى القلب وتلاشيها .. حتى يصير صاحبها لا يقدر على تحريك ساكن. ¬

(¬1) رواه البخاري (4652). (¬2) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 101 – 102). (¬3) انظر: ((الآداب الشرعية)) (1/ 159). (¬4) ((الإحياء)) (2/ 316 - 317). (¬5) رواه البخاري (5707). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. بلفظ: ((وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)).

وغالباً ما يكون الأول –أعني المتهور- أكثر صدقاً من الثاني، لكنه لقلة علمه أو عقله وتجربته يتسرع فيوقع نفسه فيما هو في غنى عن الوقوع فيه. أما الثاني فغالباً ما يكون سبب ضعفه إنما هو خوفه على نفسه أو منصبه، وهذا قد يوقعه في المداهنة كثيراً. والله المستعان. ومما يدل على أن مجرد هيبة الناس لا تكفي في إسقاط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فكان فيما قال: ((ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه. قال: فبكى أبو سعيد وقال: قد والله رأينا فهبنا)) (¬1). قال أبو المنذر إسماعيل بن عمر: سمعت أبا عبد الرحمن العمري الزاهد يقول: إن من غفلتك عن نفسك إعراضك عن الله، بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى خوفاً من المخلوق. من ترك الأمر بالمعروف خوف المخلوقين نزعت منه الهيبة، فلو أمر ولده لاستخف به (¬2). والحاصل أن هذه الأمور التي بها يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المكلف باليد واللسان. لكن إذا سقط عنه الوجوب فليس معنى ذلك أن ينتفي في حقه ويمنع منه بل قد يكون مستحباً .. كما أنه يكون محرماً أو مكروهاً في بعض الأحيان. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص96 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2191)، وابن ماجه (3253)، وأحمد (3/ 71) (11696)، والحاكم (4/ 551). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 287)، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (169): حسن، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 716) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬2) ((نزهة الفضلاء)) (2/ 653).

الفرع الثاني: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستحبا

الفرع الثاني: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستحبا وأما حال كونه مستحباً فإن هذا يكون في أحد حالين وهما: الحالة الأولى: أن يكون المأمور به مستحباً ولم يتواطأ أهل بلد على تركه، أو يكون الفعل المرتكب مكروهاً (¬1) فيكون النهي عنه مستحباً. الحالة الثانية: وهي كون المأمور به أمراً واجباً أو الفعل المرتكب أمراً محرماً .. لكنه يخشى إذا أنكر أن يلحقه الضرر (¬2) أو الهلاك، فيسقط عنه الوجوب (¬3) ويبقى مستحباً في حقه (¬4) إن كان يرجو النفع من جراء أمره ونهيه – على قول- ولذا قال الإمام أحمد –رحمه الله-: (إن عرضت على السيف لا أجيب. -وقال- إذا أجاب العالم تقية والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟!) (¬5). وإن مما يدل على استحبابه في هذه الحالة: ما قصه الله تعالى عن الأنبياء وأتباعهم مع أقوامهم وما لاقوه من صنوف الأذى منهم .. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لخباب حينما شكى إليه ما يجد وأصحابه من المشركين، والنبي صلى الله عليه وسلم متوسد بردة له في ظل الكعبة: ((كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه .. )) (¬6). قال القرطبي عند قوله تعالى في وصية لقمان: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان: 17] (يقتضي حضاً على تغيير المنكر وإن نالك ضرر فهو إشعار بأن المغير يؤذى أحياناً وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله. أما على اللزوم فلا) ا. هـ (¬7). وقال الجصاص في كلامه على قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ... [آل عمران: 21] (وفي هذه الآية جواز إنكار المنكر مع خوف القتل، وأنه منزلة شريفة يستحق بها الثواب الجزيل لأن الله مدح هؤلاء الذين قتلوا حين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .. ) (¬8) هذا واعلم أن الذي يأمر وينهى في مثل هذه الحال أفضل وأكمل حالاً من غيره. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)) (¬9). قال ابن طاهر: سمعته – يعني شيخ الإسلام الهروي – يقول: عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي: ارجع عن مذهبك. لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك فأقول: لا أسكت (¬10). ¬

(¬1) انظر: ((الآداب الشرعية)) (1/ 174)، ((الفروق)) للقرافي (4/ 257). (¬2) وهذا لا يعني أنه يسقط عنه الإنكار بالقلب فإنه واجب في هذه الحال. انظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/ 166)، ((أصول الدعوة)) (ص: 189). (¬3) انظر: ((تفسير ابن عيطة)) (5/ 166)) ((الفروق)) للقرافي (4/ 257 - 258)، ((الفتح)) (13/ 53). (¬4) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 47 - 62، 97 - 99) ((أصول الدعوة)) (ص: 191). (¬5) ((الآداب الشرعية)) (1/ 159). (¬6) رواه البخاري (3612). (¬7) انظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 266) و ((تفسير القرطبي)) (14/ 68). (¬8) ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/ 286 - 287). (¬9) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 215)، والخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد) (6/ 376). من حديث جابر رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (263): في إسناده حكيم بن زيد قال الأزدي: فيه نظر، وبقية رجاله ثقات، والحديث صححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (374). (¬10) ((نزهة الفضلاء)) (3/ 1314).

الفرع الثالث: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محرما

الفرع الثالث: حالة كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محرما وأما الحال التي يكون فيها محرماً (¬1): فإن ذلك يحصل إذا ترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زوال مصلحة أعظم من المأمور بها .. أو ترتب مفسدة أعظم من المنهي عنها. وذلك كأن ينهى من يشرب الخمر عن شربها، ويعلم أنه لو أفاق لقتل رجلاً من المسلمين، فهذا يترك في سكره. وكمن يأمر إنساناً بالطمأنينة في الصلاة .. وهو يعلم أن ذلك يؤدي إلى تركه الصلاة بالكلية. وكأن يأتي إنسان إلى بعض المنكرات الظاهرة في الأسواق ونحوها مما ليس له عليه ولاية ولا سلطة .. فيفسدها بنفسه .. وليس هو والياً للحسبة، ولا منصوباً لذلك ويكون تغييره هذا جالباً لفتنة تقع بين الناس .. فيغير بالرغم من ذلك كله .. ! وكمن يحدث الناس ويأمرهم ببعض المعروف الذي لم تتهيأ نفوسهم لقبوله .. فيحدث ذلك من الفتن ما الله به عليم. ولذا فقد ورد في الأثر عن علي رضي الله عنه ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)) (¬2). قال الحافظ: وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. (¬3) ا. هـ. وأخرج مسلم عن ابن مسعود: ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (¬4) ولذا قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه- لعائشة –رضي الله عنها- ((لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض)) (¬5) وفي لفظ: ((مخافة أن تنفر قلوبهم)) (¬6). قال الحافظ: (ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرماً) (¬7) ا. هـ. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه كسر شيئاً من الأصنام بمكة قبل الهجرة .. مع أنها أعظم المنكرات، وهو يمر بها وهي معلقة على جدار الكعبة. فكان يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك قدر طاقته .. هذا هو الأصل ما لم توجد القدرة عند الإنسان على إزالة المنكر بحيث لا يفوت ذلك مصلحة أعظم، أو يوقع بمفسدة أشد وأطم. ولذا نهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين فقال: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ... [الأنعام: 108]. ومما يلحق بهذا القسم – أعني المحرم – ما ترتب عليه لحوق الضرر المعتبر بغيره، كتعريض قرابته أو غيرهم للقتل أو الحبس أو مصادرة الممتلكات أو الضرب أو نحو ذلك مما يسقط الوجوب عنه إن لحق به، ويبقى الأمر والنهي مستحباً في حقه .. أما إن لحق بغيره فلا. فلو كان الإنكار على أحد من الولاة يؤدي إلى منع صلاة الجماعة في المساجد، أو منع التعليم الشرعي، أو قتل المصلين المستقيمين على دينهم .. فإن الإنكار في هذه الحال يكون منكراً وقد يأثم صاحبه. ¬

(¬1) انظر تفصيلاً في هذا الموضوع في ((الفروق)) للقرافي (4/ 257 - 258). ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (99 - 101)، ((أصول الدعوة)) (ص: 191). (¬2) رواه البخاري (127). عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني عن علي رضي الله عنه. (¬3) ((الفتح)) (1/ 225). (¬4) رواه مسلم في مقدمة كتابه ((الصحيح)) (5). (¬5) رواه البخاري (1584). (¬6) رواه مسلم (1333). (¬7) ((الفتح)) (1/ 225).

ومما يلحق بذلك أيضاً أن يتعرض المرء للإنكار الذي يفتن بسببه وهو لا يطيق الفتنة. وقد تكون سبباً في انحرافه فهو رجل ضعيف! ولمثله يقال: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] وقد ألحق بعض أهل العلم في الأحوال التي يكون فيها محرماً ما كان يلحقه الضرر من جرائه مع علمه أنه لا يفيد (¬1)، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة –رضي الله عنه ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه: قالوا: وكيف يذل نفسه؟! قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه)) (¬2). وذهب آخرون منهم ابن العربي (¬3) إلى أنه يقدم حتى في هذه الحال. وقد رد عليه القرطبي (¬4) ذلك ومنعه. وأقبح من هذا كله أن يأتي من يفسد بعض المنكرات – والتي يترتب على تغييرها مفاسد أعظم- بكسر أو طلاء على الصور التي في أسواق الناس وسبلهم .. ثم يختفي بحيث لا يعرف من قام بهذا العمل .. فينقم الناس على كل المتمسكين بدينهم حتى من تناءت دياره عن ديارهم آلاف الأميال .. بل إن ذلك قد يؤدي بكثير منهم إلى كراهية الدين والنفرة منه .. وهذا مشاهد. فما قيمة زوال صورة من الصور إزاء هذه المفاسد العظيمة –إن كانت تقع- المترتبة عليه!! ولا ينبغي الاحتجاج –والحال هذه- بتحطيم إبراهيم –صلى الله عليه وسلم- الأصنام فإن الجواب عن ذلك من وجوه متعددة وهي: الأول: أنه نبي يوحى إليه فيؤمن عليه الزلل في مثل هذا .. الثاني: أنه كان معروفاً بينهم يشار إليه بالبنان .. بأنه داعية التوحيد والمنفر من عبادة الأوثان ولذلك أحضروه لما رأوا ما حصل بأصنامهم حيث قال بعضهم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء: 60]. الثالث: أنه دعاهم بشتى الطرق والوسائل مع اختلاف الأحوال .. فلم يستجيبوا لدعوته فكان آخر الدواء الكي. الرابع: أن هذا الفعل من إبراهيم –صلى الله عليه وسلم- هو عين الحكمة والصواب حيث زعزع يقينهم في تلك الآلهة المزعومة. الخامس: لم يكن يترتب على فعل إبراهيم هذا ضرر على غيره من الموحدين – إن وجدوا معه في ذلك الوقت- والله أعلم. هذا ويمكن أن نلخص الحالات التي يكون فيها محرماً فنجعلها أربعاً: الأولى: أن يؤدي إنكار المنكر إلى فوات معروف أكبر منه .. كمن ينهي إنساناً عن التدخين ويفوت صلاة الجماعة، أو يؤدي ذلك إلى خروج الوقت وهو لم يصل. الثانية: أن يؤدي إنكار المنكر إلى حصول منكر أكبر منه كما سيأتي في خبر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- مع التتار الذين رآهم يشربون الخمر. الثالثة: أن يكون الأمر بالمعروف يؤدي إلى فوات معروف أكبر منه. كمن يحث أخاً له على الصدقة على بعض الفقراء من غير الأقارب وهو يعلم أن هذا التصدق على حساب نفقته الواجبة على أهله وعياله! وكمن يكون في بلد خربتها الحروب – ولا زال العدو جاثماً على أرضها- فينادي بالتعمير مثلاً وهو يعلم أن هذا الأمر سيكون على حساب الجهاد ومواصلته. الرابعة: أن يكون الأمر بالمعروف مؤدياً إلى حصول منكر أكبر منه. كمن يأمر غيره بالتبكير في الحضور إلى المسجد ويؤدي ذلك إلى امتناعه عن الصلاة بالكلية. وكمن يأمر حديث العهد بالإسلام بالختان ويغلب على ظنه ارتداده عن الإسلام. هذا ومن الجدير بالذكر أن الذي يميز هذه الأمور ويفاضل بينها إنما هو من كان على قدر لا بأس به من العلم والفقه والبصيرة .. والناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً كبيراً .. كما أن المسائل في هذا تتفاوت من حيث الوضوح للمحتسب وعدمه كما هو معلوم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 115 ¬

(¬1) انظر: ((تفسير القرطبي)) (4/ 48). (¬2) رواه الترمذي (2254)، وابن ماجه (3259)، وأحمد (5/ 405) (23491)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 418) (10824). قال الترمذي: حسن غريب، وقال البيهقي: تابعه سعيد بن سليمان النسيطي وعمر بن موسى الشامي عن حماد بن سلمة، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (6/ 546): حسن غريب، وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (166). وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 716): إسناده صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) ((أحكام القرآن)) (1/ 266 - 267). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (4/ 48).

المطلب الثالث: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنظر إلى المطالب به انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 15)، ((العين والأثر)) (ص: 48)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 493 - 495).

المطلب الثالث: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنظر إلى المطالب به (¬1) يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية (¬2) (¬3) إذا قام به البعض سقط الحرج والإثم عن الباقين. وإن لم يقم به أحد أثم القادرون جميعاً .. وفي المنكر المعين يأثم كل من علم به وكانت لديه القدرة على إنكاره فلم ينكر ولم يكن له عذر في سكوته (¬4). ويبغي هنا التفطن إلى أمرين هما: الأول: أن الإنكار بالقلب لا ينفك عن أحد أبداً (¬5) كما تقدم، وكما سيأتي أيضاً عند الكلام على مراتب الإنكار. الثاني: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتحول إلى فرض عين .. وذلك إذا كان المنكر المراد رفعه أو المعروف المراد إيجاده وفعله لا يتمكن من القيام به -أي الأمر والنهي- إلا فلان بعينه، فإنه يتعين عليه .. كذلك يقال إذا لم يعلم به غيره. وهذا يكثر وقوعه في البيوت، فإن الناس غالباً لا يطلعون على ما يدور فيها .. فـ ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (¬6) (¬7). هذا وقد دار خلاف طويل حول قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران: 104] ومحور الخلاف هو قوله مِّنكُمْ هل (من) هنا بيانية أو تبعيضية؟! فذهب جماعة منهم الزجاج والرازي (¬8) والبغوي إلى أنها بيانية، ورجحه من المعاصرين صاحب صفوة الآثار والمفاهيم (¬9). قال الزجاج: ومعنى (ولتكن منكم أمة) –والله أعلم- ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف، ولكن (من) تدخل ههنا لتخص المخاطبين من سائر الأجناس وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين، ومثل هذا من كتاب الله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30] ليس يأمرهم باجتناب بعض الأوثان، ولكن المعنى: اجتنبوا الأوثان فإنها رجس. ومثله من الشعر قول الشاعر: أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوفل الزفر أي: هو النوفل الزفر. لأنه قد وصفه بإعطاء الرغائب والنوفل: الكثير الإعطاء للنوافل والزفر: الذي يحمل الأثقال. والدليل على أنهم أمروا كلهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله جل وعلا: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] (¬10) ا. هـ. ¬

(¬1) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 15)، ((العين والأثر)) (ص: 48)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 493 - 495). (¬2) انظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/ 315)، و ((أحكام القرآن)) لابن عربي (1/ 292)، ((الجامع لأحكام القرآن)) (6/ 237) ((النووي على مسلم)) (1/ 2/22 - 23)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 15)، ((الطرق الحكيمة)) (ص: 315)، ((الآداب الشرعية)) (1/ 161)، ((تفسير أبي السعود)) (2/ 67)، ((أصول الدعوة)) (ص: 166)، ((مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 65). (¬3) في موضوع المفاضلة بين فرض الكفاية والعين من حيث الثواب المتحقق للقائم به. انظر: ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 17)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 427). (¬4) ((شرح مسلم)) (1/جز2/ 22 - 23). (¬5) انظر: ((تنبيه الغافلين)) (ص: 16). (¬6) جزء من حديث رواه البخاري (5200)، ومسلم (1829). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬7) راجع في هذا الموضوع ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 292)، ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 15)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 428). (¬8) ((تفسير الرازي)) (8/ 167). (¬9) (4/ 270) (¬10) ((معاني القرآن للزجاج)) (1/ 452 - 453) وراجع في هذا الموضوع أيضاً ((تفسير ابن عطية)) (3/ 187) و ((القاسمي)) (2/ 177)، و ((أصول الدعوة)) (ص: 301 - 304).

وقال الرازي بعد نقله حجة أصحاب القول الأول –وهو هذا- (إذا ثبت هذا فنقول معنى هذه الآية: كونوا أمة دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأما كلمة (من) فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30] ويقال: لفلان من أولاده جند .. يريد بذلك جميع أولاده .. لا بعضهم .. ) (¬1) ا. هـ. وقال أبو السعود: وقيل (من) بيانية كما في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم ... [الفتح: 29] الآية، والأمر من كان الناقصة والمعنى (كونوا أمة تدعون ... ) كقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ... [آل عمران: 110] ولا يقتضي ذلك كون الدعوة فرض عين، فإن الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطابات العامة (¬2) ا. هـ. ويمكننا تلخيص ما يمكن أن يستدل به أصحاب هذا القول فيما يلي (¬3): 1 - إيجاب الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ... . 2 - أنه ليس أحد من المكلفين إلا وجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو اللسان أو القلب. ومما ينبغي التنبه له أن أصحاب هذا القول يقولون: إنه وإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على الكل إلا أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، ونظيره قوله تعالى: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة: 41] وقوله: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ... [التوبة: 39] فالأمر عام وكذا الوعيد، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين (¬4). وذهب آخرون كمقاتل بن حيان (¬5) وابن جرير (¬6) وابن كثير (¬7) وابن العربي (¬8) والقرطبي (¬9) والشوكاني (¬10) إلى أنها تبعيضية. أخرج ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن مقاتل بن حيان في قوله: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ ... [آل عمران: 104] يقول: (ليكن منكم قوم يعني: واحد أو اثنين أو ثلاثة نفر فما فوق ذلك) (¬11). وقد جوز الزجاج هذا المعنى مع ميله إلى الأول كما هو ظاهر كلامه حيث قال: (ويجوز أن تكون أمرت منهم فرقة لأن قوله وَلْتَكُن مِّنكُمْ .. ذكر الدعاة إلى الإيمان، والدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء، والعلم ينوب فيه بعض الناس عن بعض، وكذلك الجهاد) (¬12) ا. هـ. وقال أبو السعود: (ومن تبعيضية متعلقة بالأمر، أو بمحذوف وقع حالاً من الفاعل وهو أمة أو يدعون صفتها أي: لتوجد منكم أمة داعية إلى الخير، والأمة هي الجماعة التي يؤمها فرق الناس، أي يقصدونها ويقتدون بها، أو من الناقصة وأمة اسمها. ويدعون خبرها، أي: ولتكن منكم أمة داعين إلى الخير. وأياً كان فتوجيه الخطاب إلى الكل مع إسناد الدعوة إلى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وأنها واجبة على الكل بحيث إن أقامها البعض سقطت عن الباقين، ولو أخل بها الكل أثموا جميعاً) (¬13) ا. هـ. ¬

(¬1) ((تفسير الرازي)) (8/ 167). (¬2) ((تفسير أبي السعود)) (20/ 67). (¬3) انظر: ((تفسير الرازي)) (8/ 167)، و ((تفسير النيسابوري)) (4/ 28). (¬4) انظر: ((الرازي)) (8/ 167)، ((صفوة الآثار)) (4/ 270). (¬5) انظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) رقم (1125). (¬6) ((تفسير الطبري)) (7/ 90). (¬7) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 390). (¬8) ((أحكام القرآن)) (7/ 292). (¬9) ((تفسير القرطبي)) (4/ 165). (¬10) ((فتح القدير)) (2/ 527). (¬11) ((تفسير ابن أبي حاتم)) رقم (1125). (¬12) ((معاني القرآن)) (1/ 425 - 453)، وانظر: ((النيسابوري))، و ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 369). (¬13) ((أبو السعود)) (2/ 267).

وقال الحافظ ابن كثير: يقول الله تعالى: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأولئك هم المفلحون .. والمقصود من هذه الآية: أن تكون فرقة من هذه الأمة منصوبة لهذا الشأن وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من رأى منكم منكراً .. )) الحديث (¬1) (¬2) ا. هـ. ثم إن أصحاب هذا القول اختلفوا في التبعيض في الآية على قولين هما: الأول: أن فائدة كلمة من هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين. الثاني: أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان: 1) أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل، وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف، فثبت بهذا أن التكليف متوجه إلى العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ ... [التوبة: 122]. 2 - أنا أجمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية، بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى: ليقم بذلك بعضكم، فكان في الحقيقة إيجاباً على البعض لا على الكل والله أعلم (¬3). إشكال ودفعه (¬4): قد يتوهم البعض من قوله تعالى عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يلزمه .. وهذا غير صحيح بل هو لازم له، والآية حجة عليه لا له!! (¬5). ذلك أن الهداية لا تتحقق إلا بفعل المأمور وترك المحظور، ومن المعلوم أن أعظم المأمورات القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الذي يدع العمل بذلك لا يكون مهتدياً!! بل كيف يكون مهتدياً والرسول –صلى الله عليه وسلم- جعل الإنكار بالقلب أضعف الإيمان، وقال عن الإنكار والمجاهدة للخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون: ((فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) (¬6). وإن مما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مهتد: إقسام الله تعالى أن الإنسان لفي خسر ولم يستثن سوى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (49). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 390). (¬3) مستفاد من كلام الرازي في ((تفسيره)) (8/ 167). (¬4) انظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 183 - 153) تحقيق أحمد شاكر، ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 54). ((تفسير ابن عطية)) (5/ 214)، و ((الرازي)) (12/ 112 - 113)، و ((القرطبي)) (6/ 342 - 345). ((مجموع الفتاوى)) (4/ 479)، و ((ابن كثير)) (2/ 109)، ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (81 - 82). ((تفسير أبي السعود)) (3/ 88)، ((فتح المبين بشرح الأربعين)) (211 - 247)، وراجع أيضاً ((الظلال)) (7/ 59 - 61) ((أصول الدعوة)) (304 - 305). (¬5) انظر: جملة من الآثار عن بعض السلف في معنى هذه الآية في كتاب ((الناسخ والمنسوخ)) لأبي عبيد (ص: 286 - 294) (الآثار رقم 524 - 536). (¬6) رواه مسلم (50). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬7) انظر: ((أضواء البيان)) (1/ 169 - 171).

وقد قال بنحو ما سبق جماعة من المفسرين منهم ابن جرير حيث قال حينما ذكر الأقوال في الآية السابقة: وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات، ما روي عن أبي بكر –رضي الله عنه فيها وهو يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [المائدة: 105] الزموا العمل بطاعة الله وبما أمركم به وانتهوا عما نهاكم الله عنه لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، وأديتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي يركبه، أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلماً لمسلم أو معاهد، ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه، وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب لأن الله تعالى ذكره، أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى، ومن القيام بالقسط الأخذ على يدي الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى الأمر بالمعروف، وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان للناس ترك ذلك لم يكن للأمر به معنى إلا في الحال التي رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصاً له تركه إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه، وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى، فبين أنه قد دخل في معنى قوله: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك (إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ... ) (¬1). وقال الزجاج: (وليس يوجب لفظ هذه الآية ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعلم أنه لا يضر المؤمن كفر الكافر، فإذا ترك المؤمن الأمر بالمعروف وهو مستطيع ذلك فهو ضال، وليس بمهتد) (¬2) ا. هـ. وقال النووي: (المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: إنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب، فلا ضرر على الآمر الناهي لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول والله أعلم) (¬3) ا. هـ. ولقد وقع الخطأ في فهمها عند بعض أهل العصر الأول .. فقام أبو بكر –رضي الله عنه وبين المراد وأزال الشبهة. روى ذلك قيس بن حازم حيث قال: قال أبو بكر الصديق بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ وإنما سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) (¬4). وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)). وقال شعبة فيه ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم أكثر ممن يعمل بها .. )) (¬5). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص90 ¬

(¬1) ((الطبري)) (11/ 152 - 153). (¬2) ((معاني القرآن)) (2/ 214). (¬3) ((شرح مسلم للنووي)) (2/ 22 - 23) (بتصرف). (¬4) رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وأحمد (1/ 7) (29، 30)، وابن حبان (1/ 539) (304). قال الترمذي، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 208): صحيح، وصحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (412)، وابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 193)، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 36)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. (¬5) رواه أبو داود (4338). قال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2317): صحيح، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (713): صحيح على شرط الشيخين.

الفصل الثاني: الشروط والآداب الواجب توافرها في المحتسب، وذكر شروط إنكار المنكر

المطلب الأول: الشروط المعتبرة التي لابد من توافرها (¬1) الأول: التكليف (¬2): وهذا الشرط يخرج غير المكلف كالمجنون والصبي .. والمكلف في اصطلاح الفقهاء: هو البالغ العاقل. وهذا الشرط يعد من شروط الوجوب، لكن لا يعني هذا الاشتراط للتكليف أن غير البالغ لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر بل يكون ذلك مندوباً في حقه. كما هو الحال في الصلاة والصوم والحج ونحوها مما هو معلوم (¬3). الثاني: الإسلام (¬4): الحسبة فيها نوع ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم؛ ثم إن الكافر لو قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا يقبل منه مع انتفاء شرط الإسلام، بقطع النظر عن كونه مخاطباً بفروع الشريعة أم لا. ولأن الحسبة نصرة للدين ورفع له فلا يرجى أن يكون ناصره من هو جاحد لأصله (¬5). لكن لو قام الكافر بالإنكار للمنكر .. فهل يبقى على المسلم إنكار له؟! والجواب عن هذا أن يقال: إن زال المنكر فليس على المسلم إنكار بعده، لأنه لا وجود للمنكر .. لكن إن كان المسلم عالماً بالمنكر قبل إنكار الكافر له كان إنكاره متعيناً على المسلم فيلام على الترك. أما في حال بقاء المنكر بعد إنكار الكافر له فلا شك أن هذا لا يعفى المسلم من إنكاره أبداً. الثالث: الإخلاص وإحضار النية (¬6): لابد للمحتسب من أن يطلب بعمله وجه الله تعالى ورضاه .. دون أن يقصد بعمله وحسبته رياء ولا سمعة .. ولا منزلة في قلوب الخلق أو شيئا من دنياهم. وهذا الأمر –أعني الإخلاص- شرط في قبول سائر الأعمال الصالحة كما تقدم قال الله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]. ويتأكد الإخلاص في حال كون العمل بارزاً ظاهراً يراه الناس ويشاهدونه. وننبه في هذا الموضع إلى مدخل شيطاني يوسوس به إبليس في نفوس بعض الغيورين فيشككهم في إخلاصهم وبالتالي يقعدهم عن القيام بمثل هذا العمل العظيم .. أو يقعدهم عنه ابتداء تحاشياً للشهرة أو الانزلاق بالعجب أو الرياء والسمعة .. كما نسمع من بعض القاعدين عنه!! فلا ينبغي الالتفات إلى شيء من هذه الوساوس ولا الركون إلى تلك الهواجس .. !! وسيأتي المزيد من بيان هذا عند الكلام على أحوال الناس بالنسبة إلى القيام به وعدمه. وقد يكون للرجل جهاد وعمل ضخم في مجالات الدعوة والإصلاح والتوجيه وليس له عند الله تعالى نصيب، لأنه إنما دعا إلى تجميع الناس حول نفسه .. فدعوته وجهاده لرفع تلك النفس. الرابع: المتابعة: إن الغرض من الاحتساب هو إيجاد المعروف وإزالة المنكر والمعروف هو ما جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- .. فعلى المحتسب أن يجعل هذا نصب عينيه، وعليه أن يعلم جيداً أن المتابعة شرط في قبول عمله لقوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف: 110] والعمل الصالح هو العمل الصائب الموافق لهديه –صلوات الله وسلامه عليه-. ¬

(¬1) انظر: ((الإحياء)) (ص: 308) فما بعدها، ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 18 - 19) ((مفتاح السعادة)) (3/ 306)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 496). (¬2) ((معالم القربة)) (ص: 7 - 8). (¬3) انظر: ((غذاء الألباب)) (1/ 215 - 129) ((مفتاح السعادة)) (3/ 306) ((أصول الدعوة)) (ص: 171). (¬4) انظر: ((الإحياء)) (2/ 308) فما بعدها، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 18)، ((التشريع)) (1/ 496 - 497)، ((مفتاح السعادة)) (3/ 306). (¬5) انظر: ((غذاء الألباب)) (1/ 215 - 219)، ((أصول الدعوة)) (ص: 171). (¬6) انظر: ((النووي على مسلم)) (1/ 2/24)، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 18 - 19، 62 - 66)، ((معالم القربة)) (ص: 12).

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة المتقدم – عن مداخلة الدخن للخير الذي يكون بعد الشر لما ذكر الفتن .. وفسره بقوله ((قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي)). فيجب أن يكون منهجنا في التغيير للانحرافات الواقعة في الأمة .. وإيجاد الفضيلة والخير في المجتمع سائراً على المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31]. ولقد بدأ –صلوات الله وسلامه عليه- كغيره من الأنبياء قبله –بإصلاح عقائد الناس أولاً وجمعهم على عقيدة التوحيد؛ كما ربى أصحابه –رضوان الله عليهم أجمعين- على وحدة مصدر التلقي .. وعلى أن كل قول غير قول الله وقوله رسوله –صلى الله عليه وسلم- فإنه هو قول قابل للخطأ والصواب فلا ينظر إليه باعتبار قائله (اعرف الحق تعرف أهله، فإنما الحق لا يعرف بالرجال). فإذا بدأ المحتسب أو (الداعي) بعكس ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لو بدأ بالجهاد أو إقامة الدولة مثلاً فإنه لا يفلح في دعوته، وهذا ولا شك من ذلك الدخن الذي أخبرنا عنه –صلى الله عليه وسلم- قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي على الصراط المستقيم، والصراط المستقيم أقرب الطرق. وهو الموصل إلى حصول القصد) (¬1) ا. هـ. فكل دعوة إلى الإصلاح وكل أمر بمعروف أو نهي عن منكر لا ينتهجان ذلك المنهج السوي فلهما من المفارقة لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي هو منهج أهل السنة والجماعة بقدر المخالفة له. فإن منهج أهل السنة وطريقهم لا يقتصر على مسائل الصفات فقط، أو قضايا العلم والاعتقاد، بل ذلك يكون في تلك القضايا وغيرها من الأمور العملية وإنما كثر التدوين في مسائل الصفات خاصة ومسائل الاعتقاد عامة لكثرة المخالفين فيها أولاً ثم لخطورة الخلاف في تلك المسائل ثانياً. ونحن ندعو كل مسلم إلى التمسك بذلك المنهج فهو طريق الخلاص من هذا الواقع المرير. الخامس: العلم (¬2): تبين لك فيما سبق أنه لابد من بلوغ المطالبة بالتكليف إلى المكلف في العمل المعين .. وإلا فإنه لا يؤاخذ على تركه. وهذا ظاهر وهو الذي مر معك عند الكلام في شرطية العلم بالتكليف وأنه من شروط الوجوب، لكن العلم الذي نريد الحديث عنه هو العلم بما يأمر والعلم بما ينهى. فلابد للآمر أن يعلم أن ما يأمر به هو من المعروف، كما لابد للناهي أن يعلم أن ما نهى عنه يعد من المنكر .. فلابد إذاً أن يكون فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه. فحاله كحال الطبيب لا يمكنه العلاج حتى يفهم المرض والدواء معاً. ¬

(¬1) انظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 22 - 28). (¬2) ((الأحكام السلطانية للماوردي)) (ص: 300)، ((وللفراء)) (ص: 285)، ((نهاية الرتبة في طلب الحسبة)) (ص: 6 - 10)، ((الفروق)) (ص: 4، 255)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 29 - 31)، ((نصاب الاحتساب)) (ص: 331 - 340)، ((أضواء البيان)) (1/ 174)، ((أصول الدعوة)) (ص: 465)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لعبد المعز (ص: 22)، ((الدرر السنية)) (7/ 26).

قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] فدلت الآية على لزوم البصيرة وهي الدليل الواضح (¬1). قال ابن القيم –رحمه الله-: (وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه بل لابد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد أقصى ما يصل إليه السعي. ويكفي هذا في شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء) ا. هـ (¬2). وإن مما يدخل في هذا العلم المطلوب: علم المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها (¬3). قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) (¬4). قال النووي –رحمه الله-: (إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء) (¬5) ا. هـ. بل لا يكون عمل المحتسب أو الداعي صالحاً ما لم يكن بعلم وفقه كما قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- .. لأن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى .. وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام. فلابد إذاً من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، كما لابد من العلم بحال المأمور وحال المنهي (¬6). ولا تفهم مما سبق أن المطلوب منك عند قيامك بمهمة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تكون عالماً فقيهاً!! بل يكفي في ذلك أن تعلم أن هذا من المنكر فتنكره أو من المعروف فتأمر به وتدعو الناس إليه. أما إذا اقتحم الجهال الدعوة، وترأسوا فيها، وأخذوا بالأمر والنهي بلا علم في ذلك كله، فإنهم يفسدون في هذه الحال أكثر مما يصلحون كما تقدم؛ فقد يأمر أحدهم بالمنكر وينهى عن المعروف جهلاً منه (¬7) .. قال تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ... [النحل: 116]. وإن من أمارات الساعة ومن أسباب تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رفع العلم كما قال –صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) (¬8). ¬

(¬1) لمعرفة كلام المفسرين في هذه الآية انظر: ((الطبري)) (16/ 291) تحقيق أحمد شاكر، ((البغوي)) (2/ 453)، ((ابن الجوزي)) (4/ 295)، ((الفخر الرازي)) (18/ 225)، ((القرطبي)) (9/ 274)، ((ابن كثير)) (2/ 495 - 496)، ((أبا السعودي)) (4/ 310)، ((الشوكاني)) (3/ 59)، ((القاسمي)) (9/ 294 - 296)، ((السعدي)) (4/ 63)، ((الشنقيطي)) (1/ 173 - 174). (¬2) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 154). (¬3) ((أصول الدعوة)) (ص: 174). (¬4) ((الزهد)) لأحمد (ص: 366)، ((زاد المسير)) (ص: 250). (¬5) ((شرح مسلم)) (1/ 2/23). (¬6) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 28). (¬7) انظر: ((أضواء البيان)) (1/ 173 - 174). (¬8) رواه البخاري (100)، ومسلم (2673). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ثم أورد حديث الزبير بن عدي قال: ((أتينا أنس ابن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج. فقال: اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه. حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم –صلى الله عليه وسلم-)) (¬1). وقد ذكر الحافظ في شرحه أقوالاً متعددة ثم قال: ثم وجدت عند عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع. فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: (سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالاً يفيده، لكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون). ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله (شر منه). قال: فأصابتنا سنة خصب. فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء). ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: (لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميراً خيراً من أمير ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجد منهم خلفاً، ويجيء قوم يفتون برأيهم) (¬2) وفي لفظ عنه من هذا الوجه: (ما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه) (¬3) (¬4). والله المستعان. هذا وقد يحمل الإقدام على الإنكار بغير علم ذوي النفوذ على الوقوف في وجه الحسبة وتعطيلها قال عبد الصمد بن المهتدي: لما دخل المأمون بغداد، نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأن الشيوخ بقوا يضربون ويحبسون، فنهاهم المأمون وقال: قد اجتمع الناس على إمام، فمر أبو نعيم، فرأى جندياً وقد أدخل يديه بين فخذي امرأة، فنهاه بعنف، فحمله إلى الوالي، فحمله الوالي إلى المأمون. قال: فأدخلت عليه بكرة وهو يسبح، فقال توضأ. فتوضأت ثلاثاً ثلاثاً على ما رواه عبد خير، عن علي، فصليت ركعتين، فقال: ما تقول في رجل مات عن أبوين؟ فقلت: للأم الثالث، وما بقى للأب، قال فإن خلف أبويه وأخاه؟ قلت: المسألة بحالها، وسقط الأخ، قال: فإن خلف أبوين وأخوين؟ قلت: للأم السدس وما بقى للأب. قال: في قول الناس كلهم؟ قلت: لا، إن جدك ابن عباس يا أمير المؤمنين ما حجب الأم عن الثلث إلا بثلاثة إخوة. فقال: يا هذا، من نهى مثلك عن الأمر بالمعروف؟! إنما نهينا أقواماً يجعلون المعروف منكراً. ثم خرجت (¬5). السادس القدرة (¬6): يقول الله عز وجل: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] فمن كان بوسعه القيام بالأمر والنهي لزمه ذلك ومن لا فلا. هذا واعلم أن الناس يتفاوتون في القدرة تفاوتاً كبيراً .. فالسلطان أقدر من غيره على القيام بذلك .. كم أن المتطوع أقل اقتداراً في الغالب من المنصوب للاحتساب .. وهكذا. ¬

(¬1) رواه البخاري (7068). (¬2) رواه الدارمي (1/ 76) (188). والحديث موضوع ذكره السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (1/ 516)، والفتني في ((تذكرة الموضوعات)) (ص: 21)، والعجلوني في ((كشف الخفاء)) (2/ 123). (¬3) انظر: ((المقاصد الحسنة)) للسخاوي (1/ 517)، و ((كشف الخفاء)) للعجلوني (2/ 123). (¬4) ((الفتح)) (13/ 21). (¬5) ((نزهة الفضلاء)) (2/ 748). (¬6) انظر: ((الإحياء)) (2/ 308) فما بعدها، ((أحكام القرآن)) لابن العربي: (1/ 266 - 267). ((تفسير ابن عطية)) (5/ 166)، ((تنبيه الغافلين)) (18 - 19) ((مفتاح السعادة)) (3/ 307)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 497).

وكلما كان الإنسان أقدر كلما كان تعين ذلك عليه آكد (¬1). فإذا كان يعجز عن القيام به بيده تعين اللسان، فإن عجز عنه تعين القلب، وقد بينا أن الإنكار بالقلب لا يسقط عنه بحال من الأحوال، كما بينا أن العجز يكون حسياً ويكون ملحقاً به كخوف لحوق الأذى (¬2). لكن لو تمكن المرء من الإنكار على الضعفاء دون الأقوياء فهل يلزمه الإنكار على من قدر عليهم؟! الجواب: نعم يلزمه ذلك. لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] وهذا عمل بما يستطيع .. والله تعالى لا يكلفه ما لا يطيق لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286] رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة: 286]. وفي القاعدة الثامنة من قواعد ابن رجب –رحمه الله-: (من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا) (¬3)؟ وهذا فيه تفصيل يهمنا منه لزوم بعض العبادات التي تقبل ذلك كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلو رأى منكرين أحدهما كبير والآخر صغير وقدر على إنكار الصغير منهما دون الكبير فإن إنكار الصغيرة لا يسقط عنه. قال الخلاب: (باب الرجل يرى المنكر الغليظ فلا يقدر أن ينهى عنه ويرى منكراً صغيراً يقدر أن ينهي عنه كيف العمل فيهما)؟ أخبرنا سليمان بن الأشعث قال: سئل أبو عبد الله عن رجل له جار يعمل بالمنكر لا يقوى على أن ينكر عليه، وضعيف يعمل بالمنكر أيضاً، ويقوى على هذا الضعيف أينكر عليه؟ قال: نعم ينكر على هذا الذي يقوى أن ينكر عليه (¬4). ¬

(¬1) انظر: ((أصول الدعوة)) (ص: 465). (¬2) انظر: ((أصول الدعوة)) (ص: 175). (¬3) ((قواعد ابن رجب)) (ص: 10 - 11) وانظر القسم الرابع من الأقسام الداخلة تحت هذه القاعدة. (¬4) ((مسائل أبي داود)) (ص: 278)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (63) ((الآداب الشرعية)) (1/ 161).

المطلب الثاني: ذكر الشروط غير المعتبرة

المطلب الثاني: ذكر الشروط غير المعتبرة 1) العدالة: ذهب قوم إلى اشتراط العدالة مستدلين بما يأتي: 1 - قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104] قالوا: فالفاسق ليس من المفلحين، فيجب أن يكون الآمر الناهي غير فاسق. 2 - قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 44] فأنكر عليهم أمرهم بالشيء وواقعهم يخالفه. ولذا قال بعض الأنبياء لأقوامهم: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ .. [هود: 88] وقال تعالى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3 - 4]. واستدلوا بقوله –صلى الله عليه وسلم-: ((يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه .. )) (¬1) إلخ قالوا: فهذا كان معاقب لكونه يأمر وينهى ولا يأتمر وينتهي بنفسه. الجواب عما استدلوا به: يمكن أن يجاب عن الآية الأولى بأن الفلاح المذكور حاصل حتى للفاسق فإنه لا يكون مخلداً في النار. أو يقال: بأن هذا ورد على سبيل التغليب، لأن الغالب أن لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من أصلح أحوال نفسه. فالعاقل يقدم ما يصلحها على ما يصلح غيره في الآجل. وأما الجواب عن النصوص التي تضمنت الإنكار والوعيد لمن يأمر ولا يمتثل فيقال: قد اجتمع في هذا الموضع على المكلف واجبان: الأول: الامتثال لأمر الله تعالى. الثاني: حث الناس على ذلك وأمرهم به وتحذيرهم ونهيهم عما خالفه. فإذا قصر في أحد هذين فإن ذلك لا يعني سقوط الآخر عنه .. فإن ترك الأمر والنهي بقي عليه الامتثال .. وإن ترك الامتثال بنفسه بقي عليه الأمر والنهي (¬2). هذا وقد وقع الذم في تلك النصوص والوعيد على ارتكاب ما نهى عنه الناهي عن المنكر، ولم يقع الذم على نفس النهي عن المنكر، بل هذا يحمد ولا يذم فهو طاعة لله عز وجل وقربة، ولا شك أن وقوع المنكر ممن ينهى عنه أقبح من وقوعه ممن لا يعلم أنه منكر أو علم ولم يدع إلى تركه. وهذا لا يعني إعفاءه من الأمر والنهي كما تقدم (¬3). وبهذا تعلم أن التوبيخ إنما وقع على نسيانهم لأنفسهم من المعروف الذي أمروا به، وليس التوبيخ على أمرهم ونهيهم (¬4). قال ابن العربي: (وليس من شرطه أن يكون عدلاً عند أهل السنة (¬5)، وقالت المبتدعة: لا يغير المنكر إلا عدل. وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في قليل من الخلق، والنهي عن المنكر عام في جميع الناس) (¬6) ا. هـ. ومن المعلوم لديك أن شروط الطاعات لا تثبت إلا بالأدلة (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (3267)، ومسلم (2989). (¬2) انظر: ((تفسير الفخر)) (3/ 47)، (8/ 168)، ((الفتح)) (13/ 5). (¬3) انظر: ((القرطبي)) (4/ 47 - 48)، (6/ 345). (¬4) انظر: ((المنهاج للحليمي)) (2/ 218)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 266)، ((ابن عطية)) (5/ 166)، ((النووي على مسلم)) (1/ 2/32)، و ((ابن كثير)) (1/ 86)، ((المرقاة)) (9/ 329)، ((الألوسي)) (1/ 248) (4/ 23)، ((السعدي)) (1/ 38) ((صفوة الآثار)) (4/ 272 - 273)، ((أصول الدعوة)) (172 - 174). (¬5) ((غذاء الألباب)) (1/ 215 - 219). (¬6) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 266)، وانظر: ((القرطبي)) (4/ 47 - 48) وراجع: (6/ 345). (¬7) ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/ 292).

قال الجصاص: لما ثبت وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبينا أنه فرض على الكفاية .. وجب أن يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيرها .. ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات، فكذلك من لم يفعل سائر المعروف، ولم ينته عن سائر المناكير، فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه (¬1) ا. هـ. وإن مما يبرهن على صحة ما ذكرنا أن العصمة من المعاصي ليست من شروط الاحتساب بالإجماع، فلو اشترط ذلك لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع الأعصار، وسواء في ذلك عصر الصحابة أو من بعدهم، إذ لا أحد معصوم من المعاصي منهم .. بل حتى الأنبياء تقع منهم الصغائر على القول الراجح لكنهم لا يصرون عليها. ومن أجل ذا قال الإمام مالك وسعيد بن جبير –رحمهما الله-: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر). قال مالك: (ومن هذا الذي ليس فيه شيء؟) (¬2). قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: (لو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل الذي خلق له من عبادة ربه، إذاً لتواكل الناس الخير! وإذاً لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض) (¬3). وقال أبو الدرداء –رضي الله عنه-: (إني لآمركم بالأمر وما أفعله، ولكن لعل الله يأجرني فيه) (¬4). وقد نقل عن الحسن أنه قال لمطرف بن عبد الله: عظ أصحابك. فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل. قال: يرحمك الله! وأينا يفعل ما يقول! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر (¬5). ولو قال قائل إن ذلك مختص بالكبائر! قيل له: هل للزاني أو شارب الخمر مثلاً أن يغزو الكفار؟! فإن قالوا: لا. فقد خرقوا الإجماع .. فلا زال جنود المسلمين منذ عهد الصحابة مشتملة على بعض من يقترف الكبائر، وقصة أبي محجن رضي الله عنه يوم القادسية مشهورة معلومة، ولم يمنعهم أحد لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من بعده عن الغزو (¬6). وقال ابن كثير –رحمه الله- بعد أن قرر عدم اشتراط العدالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ولكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك) ا. هـ ثم ذكر جملة من الآثار الدالة على ذلك (¬7). ويمكن أن توصف حال مثل هذا بما نقل عن أبي عثمان الحيري أنه قال: وغير تقى يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض هذا واعلم أن القسمة رباعية فالناس أحد أربعة أشخاص تجاه المنكر: فالأول: من لا يأتيه وينهى عنه وهذا أعلى الأقسام. والثاني: من لا يأتيه ولا ينهى عنه. والثالث: من يأتيه وينهى عنه. والرابع: من يأتيه ولا ينهى عنه. 2 - الإذن من ولي الأمر (¬8): ¬

(¬1) ((أحكام القرآن)) للجصاص: (2/ 320). (¬2) ((الجامع لابن أبي زيد)) (ص: 158). (¬3) ((سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز)) (ص: 248). (¬4) ((نزهة الفضلاء)) (1/ 159). (¬5) ((تفسير القرطبي)) (1/ 368). (¬6) انظر: ((الإحياء)) (2/ 308 - 311). (¬7) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 86). (¬8) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 86).

يذهب البعض إلى شرطية إذن السلطان أو نائبه للقائم بالاحتساب! وهذا باطل لا دليل عليه من كتاب ولا سنة! بل الدليل يرده ويرفضه!! فكل مسلم يلزمه تغيير المنكر إذا رآه أو علم به وقدر على إزالته أو تغييره .. فلا يختص الأمر ولا النهي بأصحاب الولايات وحدهم دون من سواهم! وقد جرى عمل السلف على ما بينت .. ونقل عليه إمام الحرمين الإجماع وقال: (فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية والله أعلم (¬1). ا. هـ. ومن المعلوم بداهة أن الحسبة كما تكون على عامة الناس فإنها تكون على الولاة أيضاً .. فهل يقال بشرطية إذنهم من أجل القيام بالاحتساب عليهم؟! والحاصل أن الاحتساب لا يشترط فيه إذن الإمام كما لا يشترط فيه إيجاده وإقراره .. فقد أمر به رب العالمين ودعا إليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فهو من مهمات الدين ومن ميراث سيد المرسلين –صلى الله عليه وسلم-. نعم لو نصب السلطان رجالاً يقومون على الحسبة وتعاون معهم غيرهم كان ذلك أقوى وأمضى في سبيل إزالة كثير من المنكرات وأجدى في طريق الإصلاح .. لكنه ليس بشرط!! لكن أحسن أحوال الحسبة وأقواها هي الحسبة التي يلتقي فيها قوة السلطان وهيبته ودعمه مع جهود المخلصين الغيورين من رعيته .. فإن الله تعالى أنزل القرآن هدى وشفاء، وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس .. والله تبارك وتعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. والحاصل أن خير صنوف الحسبة ما اجتمع فيه معونة السلاطين والأمراء الأخيار الصادقين وجهود أهل الغيرة من رعاياهم (¬2). وهذا التفضيل الذي ذكرت إنما هو من جهة القوة والتأثير لكن إذا فقد هذا المستوى الرفيع فليس ذلك يعني تخلي المسلمين عن القيام بهذا الواجب. فلو فرض أن الولاة عطلوها وكادوا لها وحاربوها وتربصوا بها الدوائر وبأهلها وضيقوا عليهم سبيل معاشهم ومجالات تركهم .. فإنه يجب على الرعية أن يقوموا بها حسب استطاعتهم كل بحسبه، وإن غضب السلطان لذلك، فإن وجودها ليس مفتقراً إلى إذنه أو رضاه ومباركته! نعم .. لو قيل باشتراط إذن الولاة في بعض صور الاحتساب، التي لو كانت فردية بحتة لخشي من ظهور فتنة، فقد يكون لهذا الاشتراط وجه من الصحة، ولكل حالة لبوسها، وإنما نريد التقريب (¬3). وسيأتي المزيد من إيضاح هذه الجزئية عند الكلام على مراتب الاحتساب. 3 - الذكورة (¬4): اعتبر بعض أهل العلم الذكورة من جملة شروط الحسبة المعتبرة (¬5) كما حاول أصحاب هذا القول رد ما يدل على خلاف قولهم هذا الذي اختاروه مذهباً لهم. والحقيقة التي يعرفها من اطلع على كلام أصحاب هذا المذهب هي أن اشتراطهم الذكورة هنا متعلق بتولي ولاية الحسبة والانتصاب لذلك، فيؤديها المنتصب لها على وفق مفهومها الواسع. ¬

(¬1) انظر: ((شرح النووي على مسلم)) (1/ 2/23). (¬2) انظر: ((صفوة الآثار)) (4/ 270 - 271). (¬3) انظر: ((أصول الدعوة)) (171 - 172). (¬4) انظر: ((الإحياء)) (2/ 308) فما بعدها. (¬5) انظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (106) (ص: 75)، و ((الاستيعاب)) (4/ 335، 341) وراجع كلام ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (3/ 1458)، و ((القرطبي في تفسيره)) (13/ 183) عند قوله تعالى: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ *النمل: 23* ((الإصابة)) (4/ 341)، ((التراتيب الإدارية)) (1/ 285 - 286).

وكلامنا هنا ليس في ذلك خاصة وإنما حديثنا عن الحسبة هنا نريد به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً. والنساء شقائق الرجال من حيث التكليف والمطالبة والعبادة إلا ما علم اختصاصه بالرجال دونهن. ثم إن الآيات والأحاديث الواردة في الحث على القيام بهذا العمل أو التحذير من تركه .. لا تختص بالرجال دون النساء .. بل على المرأة أن تأمر نساءها كما تأمر إخوانها وأخواتها وأولادها وكذلك زوجها (بالمعروف) كما تأمر وتنهى النساء مثلها .. لكن تجتنب كل ما يؤدي إلى تقليل حشمتها أو التأثير عليها في جانب الديانة أو الشرف والعفة. ومما ينص على دخولها مع الرجل في ذلك قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ... [التوبة: 71] قال ابن النحاس: (وفي ذكره تعالى المؤمنات هنا دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء كوجوبه على الرجال حيث وجدت الاستطاعة) (¬1) ا. هـ. وحينما نقول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء، ليس معنى ذلك أن تترك المرأة بيتها وأبناءها وزوجها لتقوم بتلك المهمة كما نشاهد في هذا العصر الذي كثر فيه خروج النساء جداً .. حتى أشبهن الرجال من جهة عدم الاستقرار في البيوت للاشتغال بالدعوة أو غيرها!! وقد رأينا في هذا العصر من يحرض النساء على الخروج للدعوة، والتغلغل في كل إدارة أو وظيفة يتمكن من الدخول فيها؛ بل ويطالب أن يوجد في صفوف النساء داعيات يشار إليهن بالبنان كما هو حاصل بين الرجال. وهذا أمر غريب فيما أحسب على هذا الدين، وعلى طبيعة المرأة وفطرتها. والحاصل أن اشتغال المرأة بذلك المطلب إنما هو بضوابط وحدود شرعية، لا أن تكون المرأة مستوية مع الرجال في خوض مجالات الدعوة، وإنما أثر ذلك الواقع ما ألفنه من كثرة الخروج وإدمانه سواء للدراسة أو (الوظيفة) أو التسوق أو الخروج إلى أماكن النزهة .. كل ذلك أفرز في مجتمعنا هجران كثير من النساء والفتيات دورهن في أوقات كثيرة من اليوم. والمتأمل في حال المجتمعات الغربية وما تعيشه المرأة هناك .. وكذلك حال النساء في المجتمعات المنتسبة للإسلام يدرك أن إدمان هذا الخروج أمر يصفق له أعداء الإسلام ويفرحون به .. لأنهم بذلك يستطيعون الوصول إلى فريستهم بأقرب طريق وأيسر سبيل! فعلى المرأة أن تهتم بتربية أولادها وتقوم بحق زوجها. وإن كانت غير متزوجة فعليها أن تتعلم من الأمومة والقيام على شؤون المنزل ما يكفيها بعد الزواج .. لا كما نشاهد من كثرة النساء والفتيات اللاتي لا يعرفن شيئاً من ذلك، وكذلك عليها أن تتعلم ما تدعو الحاجة إليه من أمور الطهارة والصلاة والصوم والحج .. إلخ كما عليها أن تعي جيداً تربية الأولاد وأساليبها الصحيحة الشرعية .. حتى تخرج الأجيال الصالحة .. فإن كان عندها فضل من جهد ووقت بعد القيام بذلك كله على الوجه المطلوب وكان لديها علم ينفع المسلمين فيحبذ أن تعلم النساء والبنات هذا العلم الذي عرفته لأن الحاجة تدعو إلى ذلك (على أن يتم ذلك حسب الضوابط الشرعية). وإنما جاء هذا الاستطراد لكثرة ما أسمع وأرى من وقوع الخلل في تلك الجوانب. 4 - الحرية (¬2): ¬

(¬1) ((تنبيه الغافلين)) (ص: 6، 19). (¬2) انظر: ((الإحياء)) (2/ 308) فما بعدها، و ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 19).

إن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل وبرهان على غيرة المسلم على دينه وعقيدته، وحبه وإخلاصه لهما .. وإنه لا يتصور انتفاء المراتب الثلاث (اليد واللسان والقلب) مجتمعة، من رجل في قلبه إيمان حي –كما تقدم- وهذا أمر يشترك فيه الحر والعبد .. فالعبد مكلف بأعمال القلوب كلها كالحر تماماً سواء بسواء، لا فرق بينهما في ذلك البتة .. كالحب والبغض والإنكار بالقلب ونحو ذلك من الأمور القلبية .. كما أنه مكلف أيضاً بأعمال البدن كالحر أيضاً إلا ما دل الدليل على إخراج الرقيق من المطالبة به. هذا مع كونه لم يرد دليل على تقييد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأحرار دون الأرقاء. بل واقع الأمر على خلاف ذلك .. فإن ظاهر الآيات والأحاديث يدل على دخول الأرقاء في ذلك كقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة: 71] وهذا يشمل الجميع كما هو ظاهر. لكن إن أريد بالحسبة تلك الولاية المعروفة فإن اشتراط الحرية في محله وليس كلامنا في ذلك. وإنما ذكرت هذا الشرط والذي قبله هنا لأن الكثير من أهل العلم الذين تكلموا عن الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحدثون عنها –أي الحسبة- على أنها تلك الولاية العامة الشاملة لكثير من الجهات الحيوية في حياة الناس وأمور معاشهم فأردت التوضيح هنا لئلا يلتبس على من قرأ شيئاً من ذلك لمن ذكر مثل هذه الشروط. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 153

المبحث الثاني: الآداب الواجب توافرها في المحتسب انظر: الدرر السنية (7/ 40 - 41).

المطلب الأول: الرفق (¬1) لابد أن يكون المحتسب رفيقاً في احتسابه ما أمكنه ذلك، لأن هذه الصفة الطيبة –أعني الرفق- هي من الصفات المحببة إلى الخلق كما يحبها الخالق جل وعلا، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)) (¬2) كما قال صلى الله عليه وسلم ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) (¬3) وعن جرير رضي الله عنه مرفوعاً: ((من يحرم الرفق يحرم الخير كله)) (¬4). ثم إن هذه الصفة محببة إلى الخلق، لأن الإنسان بطبعه وفطرته يحب الإحسان ويكره الإساءة .. وهو يقبل من طريق الرفق ما لا يقبل من طريق العنف والشدة، بل إن الإنسان –غالباً- إذا أمر بعنف فإنه تأخذه العزة بالإثم فيأنف ويصر على خطئه عناداً .. وهو بطبعه نفور من أهل الفظاظة والغلظة .. ومصداق ذلك قوله تعالى: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ولذا أرشده إلى المدخل إلى نفوسهم وقلوبهم وهو ضد ذلك الوصف الرديء .. فقال فَاعْفُ عَنْهُمْ وهذا لا شك إذا كان المقام يحتمل ذلك .. ثم أعقب ذلك بقوله: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159] فاتصاف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالشفقة والرحمة والخوف على مصلحة المأمور أمر ضروري لقبول دعوته. وهكذا كان حال النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى ممتناً ببعثته: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128] بل كان –صلوات الله وسلامه عليه- يشتد عليه إعراض قومه، ويتألم لذلك، ولهذا قال تعالى له مهوناً عليه: وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127]. وقال: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً [آل عمران: 176] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة: 41]. قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ [يونس: 65] وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ [لقمان: 23]. هذا وإن الاحتساب المثمر هو الذي يجعل المحتسب عليه ينقاد لما يطلب منه من فعل أو ترك .. فإن رافق ذلك وصاحبه الاقتناع بما طلب منه كان ذلك أكمل وأفضل حتى يكون له وازع من نفسه وقلبه بضرورة فعل هذا الأمر أو تركه (¬5). ¬

(¬1) انظر: ((المنهاج للحليمي)) (2/ 218)، و ((الحدائق)) لابن الجوزي (2/ 428 - 429). و ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (29 - 31)، و ((جامع العلوم والحكم)) (ص: 285) ((معالم القربة)) (ص: 14) ((الدرر السنية)) (7/ 25، 32)، و ((أضواء البيان)) (1/ 174)، و ((أصول الدعوة)) (ص: 465). (¬2) رواه مسلم (2593). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه مسلم (2594). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) رواه مسلم (2592)، وأبو داود (4809) واللفظ له، وابن ماجه (2988)، وأحمد (4/ 366) (19272). من حديث جرير رضي الله عنه. (¬5) انظر: ((أصول الدعوة)) (ص: 176، 188).

قيل للإمام مالك رحمه الله: الرجل يعمل أعمالاً سيئة، يأمره الرجل بالمعروف وهو يظن أنه لا يطيعه، وهو ممن لا يخافه كالجار والأخ؟! فقال: ما بذلك بأس. ومن الناس من يرفق به فيطيع؛ قال الله عز وجل: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44] ا. هـ (¬1) وقال الثوري: (أؤمر بالمعروف في رفق، فإن قبل منك حمدت الله عز وجل وإلا أقبلت على نفسك) ا. هـ (¬2). وقال الإمام أحمد: (والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق فيجب عليك نهيه وإعلانه لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة، فهذا لا حرمة له) (¬3) وقال أيضاً: كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلاً رحمكم الله (¬4). وقال أيضاً: ما أغضبت رجلاً فقبل منك (¬5) كما سئل –رحمه الله- عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف ينبغي أن يأمر؟ قال: يأمر بالرفق والخضوع. ثم قال: إن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد ينتصر لنفسه (¬6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر .. (¬7) ولا يجوز أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطيش وتخرق .. (¬8) وقد أنكر الثوري –رحمه الله- على من جانب هذا الوصف فلم يكتف بالدخول على أهل المنكر من أبوابهم –مع إمكان ذلك- وإنما عمد إلى تسلق الأسوار!! نقل ذلك الخلال في رسالته ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) من طريق أبي عبد الله بن الربيع الصوفي قال: دخلت على سفيان بالبصرة فقلت: يا أبا عبد الله! إني أكون مع هؤلاء المحتسبة فندخل على هؤلاء الخبيثين ونتسلق الحيطان. قال: أليس لهم أبواب؟ قلت: بلى ولكن ندخل عليهم لكيلا يفروا. فأنكر ذلك إنكاراً شديداً وعاب فعالنا فقال رجل: من أدخل ذا؟ قلت: إنما دخلت إلى الطبيب لأخبره بدائي. فانتفض سفيان وقال: إنما أهلكنا أنا نحن سقمى ونسمى أطباء! ثم قال: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: (رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر عالم بما ينهى) (¬9) وإن من الرفق أيضاً ترك التشهير بالمنصوح إلا إن اقتضى الحال والمصلحة ذلك والله المستعان. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 175 ¬

(¬1) ((الجامع)) للقيرواني (ص: 156). (¬2) ((الجرح والتعديل)) (1/ 124). (¬3) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (23). (¬4) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (34)، وانظر أثر رقم (35). (¬5) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (38) و (43). (¬6) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (46). (¬7) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 17). (¬8) انظر: ((تفسير ابن عطية)) (3 - 187). (¬9) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال أثر رقم (32) (ص: 46).

المطلب الثاني: البدء بالنفس ((الإحياء)) (2/ 328)، ((القرطبي)) (1/ 368)، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 110 - 118)، ((الفتح المبين)) (ص: 245)، وانظر ((حاشية المدابغي)) (ص: 245)، وانظر ((غذاء الألباب)) (1/ 215 - 219)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 430 - 433)، ((أضواء البيان)) (1/ 172).

المطلب الثاني: البدء بالنفس (¬1) قدمنا لك فيما سبق أن العدالة ليست بشرط للقيام بهذا العمل .. وإلا حكمنا بإبطال مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قيل: إذا لم يعظ الناس من هو مذنب ... فمن يعظ الناس بعد محمد وليس معنى عدم اشتراط العدالة من أجل القيام بتلك المهمة أن لا يلام من فرط فيها فارتكب محارم الله!! بل القبح للذنب في حقه أعظم وأشد من غيره. ولذا كانت عقوبته في الآخرة من نوع خاص في جهنم! .. إنه يدور في أمعائه كما يدور الحمار في الرحى .. كما جاء ذلك صريحاً في حديث أسامة بن زيد –رضي الله عنه- مرفوعاً: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان: ما شأنك؟ أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآيته)) (¬2). ومن لطيف المناسبة هنا أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وهو غير ممتثل لما يأمر به ولا تارك لما ينهى عنه قد وقع تشبيهه في هذا الحديث بالحمار! كما أن الله عز وجل شبه حال المعرضين عن الأمر والنهي والموعظة والتذكير بالحمار أيضاً فقال: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [المدثر: 50 - 51] فما أسوأ الحالين وما أحرى المسلم بالابتعاد عنهما!! قال السفاريني –رحمه الله-: ومن نهى عما له قد ارتكب ... فقد أتى مما به يقضي العجب فلو بدا بنفسه فذادها ... عن غيها لكان قد أفادها وقال أيضاً: (إنما يصح التأديب بالسوط من صحيح البدن، ثابت القلب، قوي الذراعين، فيؤلم ضربه فيردع، فأما من هو سقيم البدن لا قوة له، فماذا ينفع تأديبه بالضرب؟ والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به) (¬3) ا. هـ. وإنما كان التشنيع على هذا الصنف من الناس .. لكونهم عالمين بوجوب ما تركوا، أو بتحريم ما اقترفوا .. ولا أدل على علمهم بذلك من أمرهم به أو نهيهم عنه!! وقد سبق أن قدمنا لك بعض النصوص الدالة على ذم هؤلاء كقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 44]. وقوله: كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3] بعد أن وبخهم بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2]؟ فمن أجل ذلك كله قال شعيب –عليه السلام- لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88]. ¬

(¬1) ((الإحياء)) (2/ 328)، ((القرطبي)) (1/ 368)، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 110 - 118)، ((الفتح المبين)) (ص: 245)، وانظر ((حاشية المدابغي)) (ص: 245)، وانظر ((غذاء الألباب)) (1/ 215 - 219)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 430 - 433)، ((أضواء البيان)) (1/ 172). (¬2) رواه البخاري (3267)، ومسلم (2989). (¬3) ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 43).

فإذا امتثل الآمر ما يأمر به، وانتهى عما ينهى عنه، قبل الناس دعوته وانشرحت صدورهم بسماع كلامه .. أما إن اختل ذلك فإنه يكون داعياً لهم بلسانه، راداً ومنفراً لهم بحاله، وقد تنبه لهذا المعنى عمر بن عبد العزيز رحمه الله .. فحينما ولي الخلافة وأراد أن يرد المظالم إلى أصحابها .. بدأ بنفسه وأهل بيته أولاً .. فوقف على المنبر وقال: أما بعد: فإن هؤلاء أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها وما كان لهم أن يعطوناها، وإني قد رأيت ذلك ليس علي فيه دون الله محاسب، وإني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم. فجعل يقرأ كتاباً كتاباً ثم يأخذه عمر وبيده الجلم فيقطعه حتى نودي بالظهر (¬1). وإن من خبر الناس وعرف حالهم علم أنهم ينظرون لمن يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر نظرة فاحصة تختلف عن نظرهم لغيره من سائر الناس .. فيرقبون حاله ومقاله وجميع تصرفاته .. كما يحصون عليه الكبير والقطمير .. بل وتضخم أخطاؤه في كثير من الأوقات. وإذا عثروا على خطأ له فالويل له ولمن كان على شاكلته!! فتقصيره –عندهم- لا يقف عليه وحده بل يتعداه إلى كل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر! ثم يصير ذلك التقصير الذي شاهدوه عصاً في أيديهم يقومون بإشهارها متى ما يحلو لهم ذلك!! فالحاصل أن المحتسب يلزمه أن يكون في موضع الأسوة والقدوة الحسنة لا أن يدعو الناس باللسان ويصرفهم بالعمل والسلوك! وما أحسن ما قيل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وقول الآخر: وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو سقيم وقال ثالث: فإنك إذا ما تأت ما أنت آمر ... به تُلف من إياه تأمر آتياً وقال منصور الفقيه: إن قوماً يأمرونا ... بالذي لا يفعلونا لمجانين وإن هم ... لم يكونوا يصرعونا وقال أبو العتاهية: وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ... وريح الخطايا من ثيابك تسطع @ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 200 ¬

(¬1) ((سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز)) لابن الجوزي (ص: 127).

المطلب الثالث: المساواة بين القرابة وغيرهم انظر: ((المنهاج)) (2/ 218).

المطلب الثالث: المساواة بين القرابة وغيرهم (¬1) كما يجب على المرء أن يقوم نفسه ويزكيها .. فإن عليه أيضاً أن يعنى عناية كبرى بقرابته ومن هم تحت ولايته .. وقد أرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لذلك فقال: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]. وهذا التوجه إنما هو نابع من إدراك المحتسب لحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه عملية إنقاذ وتخليص للأفراد والمجتمعات من الهلاك والعذاب الأخروي. لكن حينما يخطئ المحتسب فهم هذه الحقيقة فإنه يجور في احتسابه ويحيد .. !! فيهمل قرابته، ويدع الاحتساب عليهم، لوجود دافع من الدوافع في النفس لذلك كالشفقة العمياء أو العاطفة الهوجاء!! مع أنه لو تبصر لأبصر أن عين الشفقة إنما تكون في الاحتساب عليهم لتخليصهم من العقوبة المتوعدة. والحق أن هذا السلوك المعوج ينبئ عن كون نية المحتسب مشوبة .. !! إذ الصدق مع الله تعالى ومع الناس يمنع من سلوك هذا المسلك الرديء المردى. قال الخلال: (باب ما ينبغي للرجل أن يفعل ويعدل في أمره ونهيه في القريب والبعيد) أخبرنا أبو عبد الله المروزي قال: (قلت لأبي عبد الله: فإن كان للرجل قرابة فيرى عندهم المنكر فيكره أن يغيره أو يقول لهم فيخرج إلى ما يغتم به من أهل بيته وهو لا يرى بداً، أو يرى المنكر في غيره فيكره أن يغير للذي في قرابته. قال: إن صحت نيتك لم تبال) (¬2). ومن آفات هذا المسلك اعتراض الناس على المحتسب بحال قرابته وأهل بيته كما يعترضون عليه بحاله إن كان غير ممتثل كما تقدم .. وكم يصرف مثل هذا المحتسب من القلوب عن قبول الحق والعمل به!. قال النووي – رحمه الله-: (ولا يتاركه أيضاً لصداقته ومودته ومداهنته .. فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقاً، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدى إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدواً لنا لهذا، وكانت الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها) (¬3) ا. هـ. هذا وقد يعرض الرجل عن كثير من الاحتساب على قرابته وأهل بيته غفلة عن ذلك واشتغالاً بغيرهم .. وهذا هو الذائع الغالب! فتجد للمحتسب أو الداعي مع الناس مجاهدات وصبراً ومتابعة .. وبذلاً للمال والوقت والجهد في سبيل إرشادهم إلى الحق والخير، وأهله وقرابته أحوج ما يكونون إلى التوجيه والتعليم والنصح!! وهذه غفلة يقع فيها الكثير مع إخلاصهم ونصحهم .. ¬

(¬1) انظر: ((المنهاج)) (2/ 218). (¬2) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال (ص: 64). (¬3) ((النووي على مسلم)) (1/ 2/24).

المطلب الرابع: البدء بالأهم وتقديمه على غيره انظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/ 58 - 61).

المطلب الرابع: البدء بالأهم وتقديمه على غيره (¬1) وأهمية التدرج في ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة. قال بعضهم: إن اللبيب إذا بدا من جسمه ... مرضان مختلفان داوى الأخطر إن معرفة الأولويات ومنازل الأعمال وما يترتب عليها فعلاً أو تركاً أمر ضروري للمحتسب في أزمنة الفترات، وتفشي وظهور المنكرات، واضمحلال الديانة في قلوب الناس وواقعهم .. مثل هذا الزمان الذي نعيشه اليوم. ولقد دل على ثبوت هذا المبدأ وشرعيته الكتاب والسنة، وعليه جرى عمل سلف الأمة. وقد قص الله تعالى علينا قصص الأنبياء وأخبارهم مع أقوامهم فكان كل واحد منهم يخاطب قومه من حين بعثته إليهم بقوله: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]. ومن المعلوم أنهم معصومون في أمور البلاغ والتشريع .. فطرائقهم وهديهم ومنهجهم كل ذلك معصوم ومحفوظ من وقوع الخلل في حال تبيينه للناس وتبليغه لهم عن طريق هؤلاء الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. ومن المعروف أنهم لم يكونوا يبدؤون دعوتهم لأقوامهم بالحديث عن تحريم السكر أو الزنا أو نحو ذلك من الأمور .. وإنما كانوا يقررون لهم التوحيد أولاً ويجعلونه منطلقاً لدعوتهم .. ثم ينتقلون معه إلى معالجة كبرى المشكلات التي يعايشها ذلك المجتمع الذي يبعثون فيه .. وبعد ذلك ينتقلون إلى ما دونها وهكذا. فهذا هو سبيلهم من أولهم إلى خاتمهم –صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... [يوسف: 108] وأنزل عليه قول تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]. فقد كان هذا المنهج هو المنهج الذي سار عليه –صلوات الله وسلامه عليه- في دعوته .. روي البخاري بسنده عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: ((إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.)) (¬2). وأخرج ابن بطة بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4]: إن الله بعث نبيه –صلى الله عليه وسلم- بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... [المائدة: 3]. قال ابن عباس: وكان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً فلما نزلت (براءة) نفي المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك في تمام النعمة، وكمال الدين فأنزل الله تعالى الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ [المائدة: 3] إلى قوله الإِسْلاَمَ دِينًا (¬3). ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/ 58 - 61). (¬2) رواه البخاري (4993). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) ((الإبانة الكبرى)) (ص: 815).

وبهذا التدرج كان يوصي صلى الله عليه وسلم رسله ويأمرهم إذا بعثهم للقيام بالدعوة .. كما أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)) (¬1) الحديث. هذا وقد تمثل هذا المنهج في دعوة الأئمة من بعده صلى الله عليه وسلم .. نقل ابن الجوزي وغيره أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه وهو في قائلته فأيقظه وقال: ما يؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها. قال: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني؛ إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا؛ وإني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي. إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزله الآية والآيتين، حتى استكن الإيمان في قلوبهم. ثم قال: يا بني أما مما أنا فيه أمر هو أهم إلى من أهل بيتك، هم أهل العدة والعدد، وقبلهم ما قبلهم، فلئن جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره علي، ولكني انصف من الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجع له، فإن يرد الله تمام هذا الأمر أتمه (¬2). فهذه حكمة بالغة لا يدركها حق إدراكها ويعمل بها كما يطلب إلا مجدد أو محتذ حذوه. إن الفساد الذي ينخر في المجتمعات الإسلامية اليوم إنما هو حصيلة قرون متطاولة .. وقد عمل على تقريره وإذاعته وتعميق جذوره جبابرة ودهاقنة للفساد متتابعون! تباعدت أقطارهم واتحدت أهدافهم .. ومثل ذا لا يمكن أن يغير بيوم ولا سنة! وإنما يحتاج إلى مدة كافية تماماً يروض فيها الناس على التوحيد والإيمان والصدق بعد أن سفت السوافي على هذه الأمور العظام، وكادت أن تأفل من عالم الواقع .. إن حالاً كتلك لا يمكن أن تغير بجرة قلم كم يظن البعض .. فتجده يعمل جاهداً ومسخراً دعوته للوصول إلى ذلك القلم بأقرب طريق! إن هذا المسلك مغاير لمنهج الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- في دعوتهم. أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- أنه قال: (لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد –صلى الله عليه وسلم- فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن؛ ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل) (¬3). وأخرج ابن بطة بسنده أيضاً عن جندب –رضي الله عنه- قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فنتعلم الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا إيماناً) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (1496). (¬2) ((مناقب عمر بن عبد العزيز)) لابن الجوزي (ص: 127). (¬3) رواه البيهقي (3/ 120) (5073). والحديث رواه الطحاوي في ((مشكل الآثار)) (4/ 85)، وابن منده في ((الإيمان)) (106)، والحاكم في ((المستدرك)) (1/ 91). قال ابن منده: إسناده صحيح على رسم مسلم والجماعة إلا البخاري، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 76): أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين والبيهقي. (¬4) ((الإبانة الكبرى)) رقم (1136).

فينبغي أن يبدأ بترسيخ الإيمان في النفوس أولاً .. وتعليم الناس توحيد الله عز وجل، وتصفية نفوسهم وواقعهم من الشرك ومظاهره .. ثم ينطلق الدعاة والمحتسبون إلى ما دونه من الأمور والتي تليه أهمية .. وهكذا. وهذا لا يعني أن تقتصر الدعوة في أول أمرها على التوحيد فحسب، بل يكون هو المنطلق والأساس والقاعدة التي يبني عليها الأمر بالتخلي عن سائر الانحرافات الأخرى. وهذا جلي فيما حكاه القرآن من دعوة الرسل، إذ كانوا يدعون إلى عبادة الله وحده مع كونهم ينكرون جرائم أخرى قد تفشت في أقوامهم كاللواط، ونقص المكيال والميزان، وقطع الطريق، وما إلى ذلك من الانحرافات المتنوعة. وإنما آفة هذه الحكمة التعجل الذي غالباً ما يكون ناتجاً عن ضعف العلم والبصيرة، ولذا جاء في الحديث: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان)) (¬1). وكما في الحديث الآخر: ((التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة)) (¬2). ثم إن هذا المنهج كما يطبق في تغيير واقع المجتمعات فهو كذلك يطبق في دعوة الأفراد على حد سواء. ولشيخ الإسلام –رحمه الله- كلام نفيس جداً في هذا المقام حيث يقول: ( .. فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجباً في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. وهذا باب التعارض –باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة، وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة. فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً إلى بيانها. يبين حقيقة الحال هذه أن الله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]. ¬

(¬1) رواه البيهقي (10/ 104) (20767)، وأبو يعلى في ((المسند)) (7/ 247) (4256). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال ابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (2/ 120): إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 22): رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1795): إسناده حسن رجاله ثقات. (¬2) رواه الترمذي (2010)، وعبد بن حميد في ((المسند)) (512)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 303) (1017)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (3/ 66). من حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 446): إسناده جيد، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 334): رجاله موثقون، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً. وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع. كذلك المجدد لدينه، والمحيي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها؛ وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان واجباً في الأصل) (¬1) ا. هـ. فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين منكر كبير ومنكرات دونه أنكرنا أولاً المنكر الأكبر كأمور الاعتقاد، لأنها تقدم على ما دونها من الانحرافات .. لكن إن أمكن إنكار المنكر الأقل دون الأكبر لعذر صحيح يتعلق بالمحتسب، أو كانت المصلحة في ذلك عائدة على الحسبة نفسها أو المحتسب عليه .. فإنه ينكر الأدون في هذه الحالة؛ كالسلطان الذي يحكم القوانين ويلبس الذهب والحرير، أو يأكل الربا، أو يقامر، ولم يمكن للمحتسب أن ينكر عليه تحكيم القوانين خوفاً على نفسه أو خوفاً على دعوته فإنه إن أمكنه إنكار ما دون ذلك فعل؛ وكمن يسافر إلى بلد الكفار ويزني بالكافرات ويشرب الخمر هناك مع كونه قد حلق رأسه قزعاً .. فلم يمكن إنكار السفر وفعل الفاحشة عليه لمصلحة تتعلق بالمسلمين، كإظهاره الشراب بين أظهرهم، وزناه في ديارهم ونسائهم!! فينكر حينئذ الأدون إن أمكن، وهكذا. وقد يقدم المحتسب إنكار المنكر الأقل لمصلحة تقتضي ذلك في بعض الأحيان، كمن رأيته يريد الزنا أو شرب الخمر وأنت تعلم أن الرجل لا يزكي ماله، أو يتصف بمنكر هو أعظم من الزنا والشرب للمسكر دون الشرك بالله .. ففي هذه الحال يقدم إنكار الزنا أو الشرب لإبعاده عنه قبل الوقوع فيه فالدفع أسهل من الرفع. ثم إن الطاعة أو المعصية تتعاظم باعتبارات عدة: الأول: باعتبار الفاعل. فإذا كان الذي يقدم على المعصية ممن يقتدى به فإن هذا أخطر من إقدام الأغمار عليها. ولهذا كانت زلة العالم زلة العالم. الثاني: باعتبار الزمان. فليس الذي يشرب المسكر في نهار رمضان كالذي يشربه في غيره وهكذا. الثالث: باعتبار المكان. إذ المعصية أو الطاعة في الحرم أعظم منها خارجه. ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 57 - 61).

الرابع: باعتبار ما يترتب على العمل من الآثار (¬1). ولهذا كانت البدع أشد ضرراً وخطراً من المعاصي الأخرى الواردة من باب الشهوات. وكذلك المعصية المتعدية أعظم من القاصرة على الفاعل. ومن المعلوم أن المنكرات أقسام: فمنها ما يكون ظلماً للناس، كالوقوع في أعراضهم، أو سفك دمائهم، أو نهب أموالهم .. ومنها ما يكون ظلماً للنفس، كالشرب للخمر أو المخدر وغيرهما من المعاصي التي لا يتعدى ضررها على غير فاعلها. والقسم الثالث وهو ما كان يجمع بين هذا وذاك كمن يغتصب النساء، ويزني بهن، أو يأكل الربا .. وهذا النوع الأخير هو شر تلك الأنواع وأخطرها، ويليه الأول، وأقلها الثاني .. وأنت إذا تأملت النوع الأول منها رأيت أن فيه ظلماً للنفس في حقيقة الأمر وباطنه؛ فإذا رأينا من يجمع بين بعض هذه الأنواع فينبغي أن نقدم الإنكار للأعظم. هذا واعلم أن جنس فعل الواجبات أعظم وأعلى من جنس ترك المحرمات، فيكون الإنسان مستحقاً للذم والإثم حال كونه تاركاً واجباً من الواجبات أكثر من استحقاقه ذلك عندما يكون مرتكباً لشيء من المنهيات؛ ولهذا كانت عقوبة إبليس لما امتنع من الامتثال للأمر الطرد والإبعاد من رحمة الله .. بينما كانت عقوبة آدم –عليه السلام- لما كان ذنبه من قبل ارتكاب المحظورات الإخراج من الجنة وإهباطه إلى الأرض. وبهذا تعلم أنه إذا اجتمع في شخص ترك واجب وفعل محرم قدم الإنكار على ترك الواجب أولاً .. هذا من حيث الجملة، وإن كان الحكم قد يختلف في بعض الصور والحالات، كما إذا كان ترك الواجب العين أقل جرماً وإثماً من ارتكاب المحرم المعين، كمن ترك الصلاة مع الجماعة وفي نفس الوقت هو مقدم على القتل أو ضرب أحد والديه .. فيقدم في هذه الحال إنكار ارتكاب المحرم لشناعته وعظمه. ومما ينبغي معرفته أيضاً أن المنكرات الظاهرة تقدم في الإنكار على المنكرات المستترة، لأن العقوبة في الظاهر تعم .. ثم إنها تجرئ أصحاب المنكر وتغري غيرهم به .. بل تنقلهم إلى أعظم منه .. ثم إن هذا يكون سبباً لظهور المنكر المستتر!! وهذا مشاهد في واقعنا .. فنحن نشاهد أن السفور يبدأ من ظهور العري في التلفاز والمجلات .. من ناحية .. ومن العبث بالحجاب، تارة برفع العباءة أو تقصيرها، أو ظهور ما يسمى بالنقاب الذي تخرج المرأة فيه عينيها ثم يتدرج الأمر حتى يصل إلى إظهار الوجه، ثم الساقين والذراعين وهكذا .. فحينما نسكت عن إنكار الانحراف الأول فإنه يزداد ويتعاظم وينتشر .. ومن أمثلة ذلك أن التدخين كان أمراً مستهجناً يعزر فاعله بالجلد أربعين سوطاً في بعض الجهات .. وقد يهجر .. ثم تدرج الأمر حتى سكت الكثير عنه .. فصار أمراً مألوفاً ثم وصل الأمر بالبعض إلى شرب الخمر .. ثم جاءت المخدرات فأنست الناس ذلك كله!! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 206 ¬

(¬1) انظر كلاماً مفيداً حول هذه القضية في ((الموافقات)) (2/ 298).

المطلب الخامس: الصبر واحتمال الأذى انظر: ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 248).

المطلب الخامس: الصبر واحتمال الأذى (¬1) إن النصوص القرآنية والحديثية الواردة في موضوع الصبر لا يكاد يحصيها العاد كثرة .. وقد أخبرنا القرآن عن لقمان بأنه أوصى ابنه بقوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر؛ وما ذلك إلا لأن القيام بهذه المهمة يتطلب الكثير من المجاهدة ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحلياً بالصبر. فعلى المحتسب أن يصبر على ما أصابه، فإن الأذى هو الأصل في حقه! فليروض نفسه على تحمل ذلك في سبيل تبليغ الحق إلى قلوب الناس وإزالة المنكر من واقعهم. فإذا لم يروض المحتسب نفسه على ذلك منذ البداية فإنه ينقطع في أول الطريق أو وسطه! (ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – به، بل أمر به خاتمهم – صلى الله عليه وسلم – في أول سورة أرسل فيها فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ – إلى قوله – وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر: 1 - 7] فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالإنذار، واختتمها بالأمر بالصبر؛ ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعده الصبر.) (¬2). هذا ومن المقررات الأساسية، والمبادئ الأولية، أن أول ما يجب على المكلف العلم ثم العمل، ثم الدعوة إليه، ثم الصبر وتحمل الأذى في سبيل ذلك؛ ثم إن هذا القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يقوم بمهمة من مهام الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه قال: ((قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة)) (¬3). فكم من الأذى لاقاه الأنبياء وأتباعهم فصبروا .. قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] وقال أيضاً وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام: 34]. وقال موجهاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] ¬

(¬1) انظر: ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 248). (¬2) ما بين الأقواس () من كلام ابن تيمية بتصرف، انظر ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (29 - 31). (¬3) رواه الترمذي (2398)، وابن ماجه (3265)، وأحمد (1/ 173) (1494)، والدارمي (2/ 412) (2783)، وابن حبان (7/ 161) (2901)، والحاكم (1/ 100). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (832) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال ابن القيم في ((طريق الهجرتين)) (226): ثابت، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (2/ 167) كما أشار إلى ذلك في مقدمته.

وكلما ازداد البلاء ازداد المؤمن يقيناً وثباتاً، بخلاف المنافق، لأن المؤمن قد هيأ نفسه للابتلاء .. منذ أول خطوة في الطريق .. ثم إنه موقن بحسن العاقبة مع الصبر .. ولذا لما اجتمع الأحزاب حول المدينة، ونجم نفاق المنافقين، وظهرت خيانة اليهود من الداخل بنقض العهد .. لما كان ذلك قال المؤمنين: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب: 22] قالوا هذه المقالة مع كون ظواهر الأمور في غير صالحهم، سواء من جهة كثرة العدو .. أو شدة العيش والبرد في ذلك الوقت الذي وقعت فيه تلك الواقعة. وإنما كانوا يعنون بذلك أن الله تبارك وتعالى قد وعدهم بالابتلاء وأخبرهم بوقوعه بقوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران: 186] وبقوله أيضا: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] وبقوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142]. وغير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى .. فكانت النتيجة رسوخ إيمان المؤمنين وثبات نفوسهم .. ولذا عقب تلك الآية بقوله في وصف حالهم: زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]. وهذا بخلاف حال المنافقين الذين قالوا لما رأوا ذلك: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب: 12] وقال بعضهم يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هي بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [الأحزاب: 13 - 14]. وهذه سنة جارية لا تتبدل ولا تتغير على مر الزمان .. قال مالك –رحمه الله- (ضرب محمد بن المنكدر وأصحاب له في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر) (¬1) وأنكر الإمام عماد الدين الجماعيلي المقدسي –رحمه الله- على فساق وكسر ما معهم، فضربوه حتى غشي عليه (¬2). وقد كان أهل العلم يوصون به غيرهم .. فكان من وصية عمير بن حبيب –رحمه الله- لبنيه: (إذا أراد أحدكم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر فليوطن نفسه على الأذى، وليوقن بالثواب من الله، فإنه من يثق بالثواب من الله لا يجد مس الأذى) (¬3). وسئل الإمام أحمد –رحمه الله-: (مثل زماننا ترجو أن لا يلزم الرجل القيام بالأمر والنهي؟ قال: إذا خاف أن ينال منه. قلت –السائل- فالصلاة تراهم لا يحسنون؟. قال: مثل هذا تأمرهم. قلت –السائل- يشتم. قال: يتحمل؛ من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك) (¬4). قال الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله-: (ويكون مع أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيرة وثبات على الحق، ويعلم أنه سيصيبه شيء، وإذا لم يعلم ذلك زاد البلاء فيما بعد، فإن المنكرات ما تفشت إلا بسبب أن أول شيء يوجد يتساهل به، فيكون الأول قد نسى وصار كعادة وصعب إزالته وتأتي الأمور الأخرى وهكذا .. ) (¬5). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 217 ¬

(¬1) ((الجامع للقيرواني)) (ص: 155). (¬2) ((نزهة الفضلاء)) (3/ 1533). (¬3) ((الزهد)) لأحمد (ص: 32). (¬4) ((مسائل أبي داود)) (ص: 278). (¬5) ((فتاوى محمد بن إبراهيم)) (6/ 191).

المطلب السادس: الحلم انظر: ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 215) وذكر له عشرة أسباب، وانظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 29 - 31)، ((أصول الدعوة)) (ص: 176).

المطلب السادس: الحلم (¬1) الحلم والصبر وصفان متلازمان .. وحد الحلم: (ضبط النفس عند هيجان الغضب) (¬2). وقد أثنى الله على خليله إبراهيم –عليه السلام- بهذا الوصف فقال: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114] كما أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه بذلك فقال لأشج عبد القيس: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله عز وجل الحلم والأناة)) (¬3). والمحتسب هو أحوج ما يكون إلى التحلي بهذه الخصلة الكريمة، لأنه سيواجه من الناس ما يثيره كثيراً .. فإن كان غضوباً لا يحلم فإن البلاء سيكون أعظم في حقه!! والغالب أن لا يقبل الناس أمره ونهيه؛ بل قد يحركه الشيطان لينتقم لنفسه وينتصر لها! كما أنه يحرك صاحب المنكر أيضاً لذلك! فينبغي للمحتسب أن ينزه نفسه عن ذلك كله. ثبت عن ابن مسعود –رضي الله عنه أنه قال: ((كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (¬4). فأنت أيها المحتسب كيف يكون جوابك وتصرفك ومقالك إذا أمرت أحداً بشيء أو نهيته عن شيء فأجابك بما يفيد امتناعه عن إجابتك لما طلبته منه؟! ولم يزد على ذلك! كيف لو شتمك؟! بل كيف لو ضربك؟! إن الكثير من الناس لا يحتملون هذه الأحوال كلها .. فقد يقع بينهم وبين المحتسب عليه مشاتمة أو نحوها، ويكون ذلك أحياناً انتصاراً للنفس!!. والحاصل أنه يجب على المحتسب في مثل هذه المواقف أن يحلم فيكرر النصح والتذكير .. وإن رأى أن شكايته أو غير ذلك مما يدخل تحت قدرته وتصرفه أنفع فعليه فعله، لكن لا يكون شيء من ذلك انتصاراً لنفسه. هذا وقد يحمله الغضب على إنكار المنكر بمنكر أعظم كقتل المحتسب عليه –وهو لا يستحق ذلك- أو مهاجرته والمصلحة لا تقتضي الهجر أو غير ذلك مما قد يقع له بسبب الغضب. عن يحيى بن مندة قال: سمعت عمي عبد الرحمن، سمعت محمد بن عبيد الله الطبراني يقول: قمت يوماً في مجلس والدك –رحمه الله- فقلت: أيها الشيخ، فينا جماعة ممن يدخل على هذا المشؤوم- أعني أبا نعيم الأشعري – فقال: أخرجوهم. فأخرجنا من المجلس فلاناً وفلاناً ثم قال: على الداخل عليهم حرج أن يدخل مجلسنا، أو يسمع منا، أو يروي عنا، فإن فعل فليس هو منا في حل. قلت: ربما آل الأمر بالمعروف بصاحبه إلى الغضب والحدة، فيقع في الهجران المحرم، وربما أفضى إلى التكفير والسعي في الدم (¬5). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 222 ¬

(¬1) انظر: ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 215) وذكر له عشرة أسباب، وانظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 29 - 31)، ((أصول الدعوة)) (ص: 176). (¬2) ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 215). (¬3) رواه مسلم (17). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (3477)، ومسلم (1792). (¬5) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 280)، ((تفسير الرازي)) (8/ 168)، ((معالم القربة)) (ص: 22)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 428)، ((صفوة الآثار)) (4/ 272)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 505).

المطلب السابع: البدء بالأرفق ((طبقات الحنابلة)) (2/ 280)، ((تفسير الرازي)) (8/ 168)، ((معالم القربة)) (ص: 22)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 428)، ((صفوة الآثار)) (4/ 272)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 505).

المطلب السابع: البدء بالأرفق (¬1) اعلم أن هذا المطلب مغاير للرفق الذي مضى، وهو مغاير أيضاً لما تحدثنا عنه من البدء بالأهم وتقديمه على المهم في عملية الاحتساب .. وكذلك فإنه لا يراد به ما سنتحدث عنه إن شاء الله في درجات الإنكار ومراتبه. وإنما نعني بذلك أنه إذا كان أمام المحتسب لإزالة المنكر أو الأمر بالمعروف طريقان أحدهما يحتاج إلى جهود وبلاء وعناء .. والآخر يحتاج إلى شيء أقل من ذلك فعليه أن يسلك الطريق الآخر إن كان يتحقق المطلوب به ولم يكن مشتملاً على مخالفة للشرع؛ ويمكن توضيح هذا الأمر بذكر بعض الأمثلة التي تبينه فنقول: قال الله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] فجعل الله عز وجل الإصلاح مقدماً في ذلك، ثم شرع استعمال القوة إن لم يثمر الإصلاح المطلوب؛ وبهذا يكون قد ترقى من الأرفق إلى الأغلظ في إزالة المنكر. ومثل ما سبق ما جاء في قوله تعالى: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء: 34] فأتي بالأمر على مراحل، وأحوال الناس تختلف في هذا .. فمنهم من يكفيه النظرة الدالة على الإنكار عليه .. ومنهم من يكفيه الإشاحة بالوجه .. ومنهم من تكفيه الموعظة .. ومنهم من يحتاج إلى الزجر والتعنيف .. ومنهم من لا يمتنع عن المنكر إلا بالحبس أو الضرب .. فمن كان يكفيه الإشاحة فلا حاجة لتعنيفه ولا لضربه وهكذا. (ثم عليك أن تعلم أن الدعوة إلى الله تكون بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة؛ أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريقة فبها ونعمت، وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعين طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده، وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: 25]. ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) (¬2) وهذا إنما يكون لأهله وهم الولاة كما هو معلوم وليس ذلك لآحاد الناس لما سنبين لك إن شاء الله تعالى. قال ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هي أَحْسَنُ [النحل: 125]: (جعل الله سبحانه وتعالى مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن) ا. هـ (¬3). وهذا يتطلب من المحتسبين معرفة أحوال المحتسب عليهم ولا شك، وسيأتي بيان شيء من ذلك في الكلام على المحتسب عليه. هذا واعلم أن الدفع بالأرفق والبدء به ليس على إطلاقه، قال الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله-: إذا صار الصائل على الحريم بفعل الفاحشة، ووجده على الفراش على المرأة، فإنه لو تكلم عليه ربما يهرب .. فوجده على هذه الحال هل يتكلم عليه حتى يهرب أو يقتله؟ المفهوم من السنة أن له قتله، ولا يصيح به ليهرب، بل يضربه في تلك الحالة، مع أن من فيه غيرة لا يمكن أن يصبر عن قتله .. وقصة سعد فيمن وجد رجلاً مع امرأته .. وفيه سرور النبي صلى الله عليه وسلم بسعد وغيرته وبين أنه أغير من سعد وأن الله أغير من النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن قد علم وتقرر ما في القصة التي وقعت للرجل لما وجد رجلاً بين فخذي امرأته فضربه فقتله فقال: (إنما ضربت بالسيف بين فخذيها ففتشوا فوجدوا فكان عذراً له؛ فيظهر من حديث هذا وحديث سعد أنها متى قامت البينة على هذه الحالة فليس بمضمون) ا. هـ (¬4). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 224 ¬

(¬1) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 280)، ((تفسير الرازي)) (8/ 168)، ((معالم القربة)) (ص: 22)، ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 428)، ((صفوة الآثار)) (4/ 272)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 505). (¬2) ما بين الأقواس من كتاب ((أضواء البيان)) (2/ 174 - 175) بتصرف. (¬3) ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 153)، وانظره في ((التفسير القيم)) (ص: 344). (¬4) فتاوى الشيخ ((محمد بن إبراهيم)) (12/ 166) بتصرف.

المطلب الثامن: مراعاة المصالح وتحقيقها ودرء المفاسد وتعطيلها انظر: ((المستصفى)) (1/ 284) فما بعدها، ((الفروق)) للقرافي (4/ 255)، ((قواعد الأحكام ومصالح الأنام)) (1/ 3) فما بعدها، ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 2 - 32)، ((الموافقات)) (2/ 5) فما بعدها، ((الاستصلاح)) للزرقاء، ((نظرية المصلحة في الفقه الإسلام)) د/ حسين حامد حسان، ((تعليل الأحكام)) لمحمد مصطفى شلبي.

تمهيد وهذا أصل عظيم جليل طلبه الشارع واعتبره قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] وقال: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] وقال: يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) (¬2). ومن مقررات الشريعة المتفق عليها: لزوم الدية في القتل على العامد والمخطئ، والعالم والجاهل، والصغير والكبير؛ وكذا غرام المتلفات على جميع هؤلاء تحقيقاً لمصالح العباد. وبعد تقدير المصالح وتمييزها والقدرة على الموازنة بينها وبين المفاسد من أدق المسائل المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكما كان المحتسب أقدر على معرفة ذلك وتمييزه كلما كان احتسابه أقوى وأثبت. ويكفي في بيان أهمية هذا الجانب أن مدار بعثة الرسل وإنزال الكتب والشرائع قائم عليه، فلم تبعث الرسل وتنزل الشرائع إلا لجلب المصالح وتحصيلها من عبادة الله وحده لا شريك له وظهور شرعه ودينه .. ودفع المفاسد وتعطيلها. وهذه هي حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا وأعلم أن أصل المصلحة: المنفعة، وهي في اصطلاح الشرع (جلب المنفعة ودفع المفسدة في نظر الشارع) فهي إما أن تكون نفعاً يجلب أو ضرراً يدفع. والمراد بالمنافع: اللذات والأفراح وأسبابها، وضدها المفاسد التي هي الآلام والغموم وأسبابها. وقد يعبر عنهما بالخير والشر والنفع والضر. وطريق تحديد المصلحة إنما هو الشرع، لا القانون أو العرف أو العقل أو الذوق .. فكل ما أمر به الشرع فهو مصلحة، وكل ما نهى عنه فهو مفسدة. ثم اعلم أن المصالح الشرعية دائمة أبدية تشمل الدنيا والآخرة، كما أنها شاملة، فلا تختص بالبعض دون غيرهم، أو فئة دون الأخرى، بل تخدم الأمة عامة وتعود على الناس بحفظ ضروراتهم وحاجياتهم وما كان لهم به نفع. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 228 ¬

(¬1) رواه مسلم (35). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه ابن ماجه (1909)، وأحمد (5/ 326) (22830)، والبيهقي (6/ 156) (12224). من حديث عبادة بن الصامت. قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (3/ 48): هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع. والحديث صححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). والحديث مشهور روي من طرق عن عبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة رضي الله عنهم جميعاً.

الفرع الأول: أقسام المصلحة من حيث اعتبار الشارع وعدمه انظر: ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 168 - 170).

الفرع الأول: أقسام المصلحة من حيث اعتبار الشارع وعدمه (¬1) تنقسم المصلحة من هذه الحيثية إلى ثلاثة أقسام وهي: 1 - ما نص الشارع على اعتبارها فهي الشرعية، كمصلحة حفظ الدين والتي تقوم بنشر العلم الشرعي النافع والدعوة إلى الدين علماً وعملاً بالقلم واللسان والسيف والسنان؛ وكذلك تحريم كل ما يضعفه أو يضاده من العلوم الرديئة والأعمال المنحرفة .. والمظاهر المخالفة .. ولذا جاء تحريم التصوير ولعن المصورين، كما حرم رفع القبور وتجصيصها والبناء عليها والكتابة فكل مأمورات الشرع داخلة في هذا وكذا نواهيه. 2 - ما قام الشارع بإلغائه وعدم اعتباره، كمصلحة المرأة في مساواتها بالرجل في الميراث .. ويدخل في هذا القسم كل ما علم أن الشارع ألغى اعتباره، وإن رأى الإنسان بعقله القاصر أنه مصلحة؛ فهو ليس كذلك لمصادمته الشرع أو إخلاله بمقصد من مقاصده، أو لكونه معارضاً لمصلحة أعظم. 3 - ما سكت عنه الشارع فلم يرد طلبه ولا إلغاؤه .. وهذا النوع هو ما يسمى بالمصالح المرسلة .. ولها شروط وضوابط وتفاصيل ليس هذا موضعها. ثم إن المصلحة الشرعية الدنيوية (وهي الواقعة في الحياة الدنيا) من عبادات ومعاملات .. لابد وأن يشوبها شيء من المفسدة .. للحوق المشقة بها سواء كانت على وجه التقدم عليها أو المقارنة أو التأخر عنها. فالمصلحة في هذه الدار راجحة غالبة لا خالصة، بخلاف الأخروية –وهي نعيم أهل الجنة- فإنها خالصة لا كدر فيها. وقد تعارض المصلحة الشرعية بمصلحة مرجوحة فتكون غالبة، وقد لا يعارضها غيرها فتكون راجحة كما سيأتي. ومقصود الشارع إنما هو المصلحة الراجحة – الواقعة في الدنيا – وكذلك الخالصة وهي الواقعة في الآخرة كما تقدم. ثم إن المصالح الشرعية تتفاوت قوة وضعفاً بحسب متعلقها ... فهي لا تخلو من أن تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية .. فالضرورية هي التي لابد من توفرها لقيام حياة الناس على الوجه المستقيم دون اضطراب كالمحافظة على الدين –وهو أعلاها- بتثبيت دعائمه ورفع ما يضاده .. وكالمحافظة على العقل وسلامته ومقاومة ما يفسده من مسكر ومخدر حسي أو معنوي؛ وكالمحافظة على الأعراض والأنساب ودفع كل ما يعترضها من فساد بأي صورة كان، سواء عن طريق مقارفة الفواحش، أو ما يجر إليها كالسفور والتبرج واللحن بالقول والخضوع فيه .. وكنشر الصور والمجلات الرديئة أو الأفلام والأغاني الماجنة؛ وكذا حفظ النفوس والمحافظة على سلامتها، ولذا حرم كل ما يضر البدن كالدخان والميتة وأنواع السموم ونحوها من الأمور الضارة. وكذا حفظ المال وبقائه بأن شرع أنواع العقود المباحة، وبين طرق أخذ المال وإنفاقه .. وحرم الربا وغيره من المحرمات المتعلقة بالمعاملات المالية .. كما تقدم. والمصالح الحاجية هي التي يفتقر إليها الناس لرفع الحرج والضيق عنهم؛ أما التحسينية فكالأخذ بمحاسن الأمور والجري على مكارم الأخلاق، ومن فروع ذلك خصال الفطرة كإعفاء اللحية وقص الشارب وكتحريم المستقذرات. فالأكل منه ما لابد منه في قيام حياة الإنسان فهو ضروري، ومنه ما لو ترك لوقع الإنسان في ضرر وحرج لكنه لا يلحق به العطب فهو حاجي، وما زاد فهو تحسيني. وعمل المحتسب يتعلق بجميع مراتب المصلحة وصورها الشرعية. هذا وقد تكون المصالح عامة لأغلب الناس أو جميعهم، وقد تكون خاصة وقاصرة على بعض الأفراد أو الجهات. وهي باعتبار التغير والثبات على قسمين: الأولى: ثابتة، كالواجبات الشرعية وتحريم المحرمات. الثانية: متغيرة حسب الأحوال زماناً ومكاناً، فتكون خاضعة للاجتهاد، كمقادير التعزيرات وكاتخاذ الدواوين .. ومن ذلك أيضاً اختلاف بعض أساليب الدعوة والتي لا يشوبها مخالفة للشرع كاتخاذ الكتب والمجلات والأشرطة والرحلات وغير ذلك من الأساليب المباحة بشرط عدم المخالفة. أما باعتبار الوقوع فهي قسمان: الأولى: قطعية الوقوع أو ما يقارب ذلك. الثانية: ظنية الوقوع وهي ما يكون وقوعها جائزاً أو كثيراً لكن لا يصل إلى درجة اليقين أو ما يقاربه. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 230 ¬

(¬1) انظر: ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 168 - 170).

الفرع الثاني: ذكر ضوابط المصلحة الشرعية

الفرع الثاني: ذكر ضوابط المصلحة الشرعية حتى تكون المصلحة معتبرة شرعاً لابد من توفر شرطين: الأول: ورود النص أو القياس بطلبها. الثاني: أن لا تكون معارضة بمصلحة أرجح منها أو مساوية، وطريق الترجيح بين المصالح لمعرفة مراتبها يكون كالآتي: 1 - تقدم الضرورية على الحاجية، كما تقدم الحاجية على التحسينية. ومن هنا يعلم أن قاعدة (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) ليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بأن تكون المصلحة والمفسدة في رتبة واحدة وحد مستو، أما إن لم يوجد التساوي فيرجح الأعلى. 2 - تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إن كانتا في رتبة واحدة. ومن هنا يعلم أن قاعدة المصلحة العامة على الخاصة ليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بأن تكون المصلحتان في رتبة واحدة ومستوى متماثل. 3 - إن كانتا ضروريتين وعامتين قدمت المصلحة المتعلقة بالدين على المتعلقة بالنفس ثم العقل ثم النسل ثم المال؛ فالمصلحة المتعلقة بالدين تقدم على غيرها من الضروريات الأخرى. قال تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191] وكذلك ما كان ذو مرتبة أعلى فإنه يقدم على ما دونه. توضيح ما سبق بالمثال: من مقررات أهل السنة وجوب الجهاد مع كل أمير برا كان أو فاجرا. فالجهاد به حفظ الدين وهو ضروري لارتفاع كلمة التوحيد .. أما كونه عادلاً فهو حاجي، فيقدم الجهاد مع البر والفاجر لكونه ضرورياً على ما كان مع العادل فقط لكون هذا الوصف في الإمام حاجي. ثم إن الجهاد به حفظ للدين بإزهاق النفس فقدمت مصلحة حفظ الأديان على حفظ النفوس والأبدان. ويمكن التمثيل على تقديم المصلحة العامة على الخاصة بالمنع من تلقي الركبان، فمصلحة أهل السوق عامة، وقدمت على مصلحة المتلقي الخاصة؛ وكالنهي عن الاغتسال بالماء الراكد مع كون المغتسل منتفعاً من ذلك لكنه يضر بالمصلحة العامة فيمنع منه لذلك. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 233

الفرع الثالث: بيان نظر الشارع للنتائج واعتباره لها ((التشريع الجنائي)) (1/ 497 - 498).

الفرع الثالث: بيان نظر الشارع للنتائج واعتباره لها (¬1) تقدم عند الكلام على الحكم والفوائد من مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكر إقامة الدين وظهور الشريعة .. وزوال الباطل أو التقليل منه .. وهذا ولا شك مطلب شرعي أصيل .. لابد للمحتسب من أن يضعه نصب عينيه وهو يؤدي هذه المهمة. أما إن كان الناتج عن الأمر والنهي في بعض الحالات زيادة في المنكر الذي أردنا إزالته، أو زوال للمعروف الذي أردنا تكثيره .. فإن الآمر أو الناهي في هذه الحال يكون سبباً في ازدياد الباطل وتقليل المعروف علم أو لم يعلم (¬2). ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما شرع لتحقيق ما يحبه الله ورسوله، فإذا ترتب على ذلك ما هو أنكر منه وأبغض إلى الشارع فإنه لا يسوغ إنكاره؛ وإن ترك الإنكار لا يعني إقرار المنكر. ومثاله: الإنكار على الولاة المسلمين بالخروج عليهم .. فإن ما يترتب عليه من المفاسد أكبر مما يجلب من المصالح .. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين قال في وصفهم: ((تعرفون وتنكرون)) فقال: ((لا ما صلوا، لا ما صلوا)) (¬3). ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات –كالأصنام- ولا يستطيع تغييرها .. ولما فتح مكة عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك –مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام. ولهذا لم يأذن بالإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من المفاسد. والحاصل أن ما يترتب على إنكار المنكر لا يخلو من أربع حالات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده من المعروف، كما إذا نصحت رجلاً يبيع الأغاني وينشرها، فقبل النصح، فاستبدل ذلك بالأشرطة الإسلامية. الثانية: أن يقل المنكر وإن لم يزل بجملته .. كما إذا نبهت بعض أصحاب المناهج المشتملة على بعض المخالفات أو البدع .. على مخالفته أو بدعته، فقبل منك، فترك بعض ما هو فيه من المنكر .. وكما إذا نصحت من يسب الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الدين، فانتهى إلى سب آحاد المؤمنين. الثالثة: أن يزول ويخلفه ما هو مثله .. كما إذا نصحت رجلاً عن سماع الأغاني الغربية، فانتقل منها إلى الأغاني العربية!! وكما إذا بينت لنصراني فساد عقيدة التثليث، فعرف فسادها، فانتقل إلى اليهودية مثلاً .. ! وكما إذا حاورت بعض المنتسبين إلى الدعوة إلى الإسلام، وهو ذو منهج تشوبه بعض البدع أو المخالفات، فانتقل إلى منهج في الدعوة يماثله في حجم الانحراف وقدره. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه .. كما يقع في بعض الأحيان في صفوف النشء المقبل على الإسلام –أكثر من غيرهم- إذا واجه النقد المتبادل بين أوساط العاملين للإسلام .. فيتخلى عن الجميع وينحرف تماماً. وكما إذا نصحت بعض أصحاب المهن بأن يتزين في لباسه إذا أراد المجيء إلى المسجد فيدع الصلاة فيه. فالأولان مشروعان، والثالث موضع اجتهاد (¬4) ونظر، والرابع محرم (¬5). قال ابن القيم –رحمه الله-: فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الشارع كسباق الخيل .. وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون فإذا نقلته عنها إلى كتب أهل البدع والضلال والسحر فدعه. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة .. وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم. ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع الأيدي في الغزو .. مع كون القطع حد من حدود الله تعالى .. فنهى عنه خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين. وقد نص أحمد وإسحاق والأوزاعي وغيرهم على أن الحدود لا تقام في أرض العدو (¬6). ا. هـ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( .. فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم) (¬7) ا. هـ. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 234 ¬

(¬1) ((التشريع الجنائي)) (1/ 497 - 498). (¬2) انظر: ((أصول الدعوة)) (187 - 188). (¬3) رواه مسلم (1854). من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (¬4) انظر: ((الكلام على تزاحم المفاسد)) (ص: 242)، وكذا ((الكلام على تساوي درجة المصلحة والمفسدة في حال التعارض)) (ص: 240). (¬5) انظر: ((إعلام الموقعين)) (3/ 4 - 7). (¬6) انظر: ((إعلام الموقعين)) (3/ 4/7) بتصرف. (¬7) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (17/ 18).

الفرع الرابع: العمل عند تعارض المصالح والمفاسد انظر: ((الإحياء)) (2/ 316)، ((مجموع الفتاوى)) (20/ 52)، ((الموافقات)) (2/ 372 - 373) ((أصول الدعوة)) (ص: 462، 463، 465).

الفرع الرابع: العمل عند تعارض المصالح والمفاسد (¬1) يجب أن يكون الاحتساب بفقه ونظر فيما يصلح من هذا العمل وما لا يصلح فإذا تعارضت المصالح والمفاسد فيما يأمر به أو ينهى عنه نظر: فإن كانت المصلحة راجحة والمفسدة مرجوحة، فإنه لا يعتبر المفسدة حينئذ، وعليه الاحتساب في هذه الحال. وهذا يكون مع مراعاة ما سبق من شرطية كون المتعارضين في مرتبة واحدة ونوعية واحدة كما تقدم بيانه، وإلا فإنه يرجح ما كان متعلقاً بالضروري على غيره، كما يرجح الحاجي على التحسيني. وهذا كمن يريد شرب الخمر ليزيل به عطشاً يشق عليه تحمله لكنه لا يؤدي به إلى الهلاك، فإنه يحرم عليه، لتعلق المفسدة بالضروري وهو حفظ العقل، وتعلق المصلحة بالحاجي وهو إزالة ذلك العطش .. بخلاف ما إذا كان العطش يؤدي به إلى الهلاك .. فإنه يشرب في هذه الحالة لتعلق ذلك بالضروري وهو حفظ النفس، ولتعلق شرب الخمر بالعقل وهو ضروري لكنه دونه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ما ملخصه: (الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذاك كانت مفسدته أكثر، فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً، أو يتركوهما جميعاً، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أمر به وإن استلزم ما دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف) اهـ (¬2). أما في حال كون المفسدة أرجح من المصلحة: كتعطيل الدعوة ونحو ذلك فحينئذ تفوت المصلحة وتدفع المفسدة .. بالشرط المتقدم. ومن صور هذه القاعدة: ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي وعدم قتله لئلا تأخذ الحمية قومه .. ولئلا يقول الناس: محمد يقتل أصحابه (¬3). ومن الأمثلة على ذلك إعراض المسلمات عن الدخول في مجالات الطب في جو المستشفيات المختلطة .. مع وجود مصلحة في ذلك إلا أن المفسدة فيه أكبر .. وكثيراً ما نسمع إيراد هذا الاعتراض على من رأى ما سبق (أترضى أن يطبب محارمك الرجال)؟. يورد هذا الاعتراض وكأنه هو الخيار الوحيد!! فلماذا لا يقال بالعمل على إيجاد مستشفيات إسلامية!! ولماذا لا يطالب الناس بذلك!!؟ ولو فرض عدم الإمكان لكان هناك أمر ثالث. وهو أن يطبب نساءنا هؤلاء اللاتي ضحين بحشمتهن وقرارهن في البيوت!! لا أن نزج بفتياتنا حيث يذهب ماء وجوههن لكثرة المخالطة مع الرجال والتحدث معهم .. ! ومن أمثلة هذا النوع القول بمنع ابتعاث الصغار وسائر من لا ينطبق عليه الشروط المعروفة للسفر إلى بلاد الكفار .. من اعتزاز بالدين ونحوه .. على ما في ذلك من المصلحة وهي تحصيل بعض العلم. ومن أمثلة ذلك منع التلقي من أصحاب البدع –المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة- في حال وجود غيرهم ممن يؤخذ عنه هذا العلم ولا يقع فيما وقعوا فيه. ومن الأمثلة أيضاً على ذلك منع دخول البرلمانات ونحوها في البلاد التي تحكم القوانين .. مع أنه قد يوجد شيء من مصلحة في ذلك ولكن المفسدة أعظم من وجوه كثيرة لا مجال لذكرها هنا. وقد حرمت الخمر لرجحان مفاسدها على منافعها .. أما إذا تساوت مقادير المصالح والمفاسد: في حال التعارض فإنه ينظر في مراتبهما من ضروري وحاجي –كما تقدم- فإن اتحدت عمل بقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وإلا فيقدم الأقوى منهما. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المنكر والمعروف متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة. وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً، وينهى عن المنكر مطلقاً، وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة: يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات معروف أكبر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استثبت المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية .. ) ا. هـ (¬4). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 238 ¬

(¬1) انظر: ((الإحياء)) (2/ 316)، ((مجموع الفتاوى)) (20/ 52)، ((الموافقات)) (2/ 372 - 373) ((أصول الدعوة)) (ص: 462، 463، 465). (¬2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/ 126، 129 - 134). (¬3) ((الاستقامة)) (2/ 219 - 220)، ((أضواء البيان)) (1/ 175) ((أصول الدعوة)) (ص: 465). (¬4) ((الاستقامة)) (2/ 218 - 219).

الفرع الخامس: العمل عند تزاحم المصالح

الفرع الخامس: العمل عند تزاحم المصالح إذا تزاحمت المصالح بحيث لا يمكن القيام إلا ببعضها وتفويت ما سواها .. ففي هذه الحالة ينظر فيما كانت مصلحته أرجح فيقدم .. سواء كان التفاضل والرجحان في المرتبة، كتقديم الضروري على الحاجي والحاجي على التحسيني .. وكتقديم ما يتعلق بحفظ الدين من الضروري على غيره، وتقديم ما يتعلق بالنفس من الضروري على ما تعلق بحفظ ما دونه؛ أو كان التفاضل واقعاً في صورة الحكم كالواجب مع المستحب. وهذه المسألة دقيقة جداً وكبيرة الأهمية، ذلك لسعة هذه الشريعة وشمولها، حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- شبهها بالشرائع المتنوعة .. فالواجبات أكبر من الأوقات وأوسع .. فينبغي تقديم ما هو أهم وآكد في مثل هذه الحال وأبلغ في التأثير والنفع في مجالات الدعوة المختلفة. ومن صور هذه المسألة .. ازدحام بعض مجالات الدعوة عند بعض المشتغلين بها، كمن لم يتمكن إلا من القيام بشيء محدود من ذلك .. فأيهما يقدم .. العناية بتربية النشء على الإسلام أو خوض المجالات العامة؟ ويجاب عن هذا بأن الجمع بين الأمرين هو الأصل وهو المطلوب، لكن من لم يتمكن إلا من واحد منهما فإنه ينظر في حاله وحال زمانه من حيث حال الدعوة وسيرها في هذين السبيلين وحاجتها إلى الأعوان في كل منهما .. فيرجح على هذا الأساس. ومن صور هذه المسألة تزاحم الأوقات بين الاشتغال بطلب العلم أو بنوافل العبادات وبين القيام بالدعوة .. فالمطلوب التوفيق بين هذه الأمور ومصلحة الدعوة من أهم المصالح فلا ينبغي إهمالها بل يوليها بعض اهتمامه ووقته حسب قدرته. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 241

الفرع السادس: العمل عند تزاحم المفاسد

الفرع السادس: العمل عند تزاحم المفاسد إذا ازدحمت المفسدتان ارتكب أيسرهما لدفع أشرهما .. هذا في حال التفاوت والذي يبنى على ما تقدم. قال في المراقي: (وارتكب الأخف من ضرين (¬1) ...... ومن صور هذه القاعدة: وجود هذه المراكز الإسلامية الصيفية للنساء فهو لا يخلو من مفاسد كتعود المرأة على الخروج من المنزل، وفتح الباب لأهل الشر لفتح مراكز شيطانية ونحو ذا من الأمور المحذورة!! ولكن في هذا العصر الذي دخل فيه الشر كل بيت –إلا من رحم الله- وتفنن فيه دعاة الفساد بشتى الأساليب .. وبقيت كثير من بنات المسلمين تحت تأثيرهم وما ينشرون من منكر وفساد .. فانشغال هؤلاء النساء بأمور خيرة خير من بقائهن فريسة لهؤلاء، فالأمر لم يعد كالسابق، إذ المرأة اليوم تشاهد التلفاز، وتقرأ الصحف والمجلات، وتخرج إلى العمل أو المدرسة .. فلابد وأن تعرف الشر وتشاهده. وحينما نقر أمثال تلك المراكز إنما ذلك بشروط وضوابط تلائم الحال والواقع .. كأن يكون الوقت معقولاً لا طول فيه .. وأن لا يكون في جميع الأيام بل في يومين أو ثلاثة من الأسبوع .. وأن تعلم فيه النساء القرآن وما يناسب حالهن من معرفة أمور الطهارة والحيض والصلاة والصوم والزكاة والحج. ويعلمن تربية الأولاد على وفق تعاليم الشرع ونحو ذلك من الأمور الهامة لهن .. وأن يكون الإشراف على هذه الأماكن من قبل ذوي الكفاءة والديانة. هذا لمن دعت الحاجة لمشاركتها في ذلك إما للحاجة إلى تعليمها وإرشادها، وإما لحاجتها هي بحيث لم يتوفر لها من يربيها على الإسلام ويعلمها ما تحتاج إليه، فتستغني عن مثل هذا الخروج. أما عدا هذين الصنفين من النساء فيبقين في بيوتهن. وهذا كله مخرج على قاعدة ارتكاب أخف الضررين، وإنما يكون ذلك إذا كان لابد من الوقوع في أحدهما لا محالة، أما إذا أمكن تلافيهما فالأمر يجري على قاعدتين هما: الأولى: (الضرر يزال). والثانية: (الضرر لا يزال بالضرر). فاقتحام النساء المسلمات مجالات الطب بحجة ارتكاب أخف الضررين غلط ظاهر، لأن هناك وسيلة ثالثة غير ما يظن البعض! ومثل هذا يقال في تعليم أهل الصلاح لهن وجهاً لوجه، بحجة ارتكاب أخف الضررين، لئلا يدرسهن رجل فاسق! فهذا غير صحيح، بل يفصل الجميع عنهن ويعلمن بأسلوب آخر دون رؤيته لهن. ومن صور ذلك إشغال من تعلق بالأغاني وسماعها بالقصائد التي تحمل المعاني الطيبة، حتى تنصرف نفسه عن ذلك الغناء، إن كان لا يتركه إلا بمثل هذا؛ مع أنه قد يشتغل بهذه القصائد عن قراءة القرآن أو الذكر. ومن صور ذلك دفع أشرطة (الفيديو) التي تحمل مواد طيبة لمن تعلق بالتلفاز تعلقاً ميؤوساً من مفارقته .. فيعطى أمثال تلك الأشرطة وإن كان المعطي يرى أن تلك الصور التي تظهر فيه من قبيل المحظور. ولا يحتج على هذا بقاعدة (الضرر لا يزال بالضرر) لأن القاعدة ليس هذا محلها فالضرر الأصل فيه قاعدة (الضرر يزال) وأنه (لا يزال بالضرر) هذا فيما إذا كانت إزالته بغيره ممكنة .. أما في مثل تلك الصور والتي لابد فيها من الوقوع في أحد المفسدتين فإن القاعدة التي يجب إعمالها هي (ارتكاب أخف الضررين لدفع أعظمهما). كما مر بك في الأمثلة السابقة. ومن صور هذه القاعدة: القول بالتحالف مع بعض أصحاب البدع أو المناهج الدعوية التي تحمل بعض المخالفات في سبيل مواجهة العدو الجاثم في البلاد أو المهاجم لها، مع استمرار النصح والتعليم، شريطة أن لا يصل أمر هؤلاء –أعني الذين نحالفهم- إلى الكفر كالإسماعيلية ومن كان على شاكلتهم من الروافض والعلمانيين. ¬

(¬1) انظر: ((مراقي السعود إلى مراقي السعود)) (ص: 117).

ومن صور هذه القاعدة الترخيص لمن عرض على السيف أن يتكلم بما يشعر السامع بالكفر .. بأن يتكلم بذلك شريطة أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان. ومن صورها ما فعله عبد الله بن حذافة السهمي –رضي الله عنه- حينما خير بين القتل وبين تقبيل رأس عظيم الروم .. فقبل ذلك عبد الله –أعني تقبيله- على أن يفك أسارى المسلمين. أما إذا تساوت المفاسد في القدر فإنه يخير بينها .. كما قال في المراقي: وارتكب الأخف من ضرين ... وخيرن لدى استوى هذين ذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- حول هاتين القاعدتين: قال ابن تيمية –رحمه الله-: فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمى هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء ... وهذا –باب التعارض- باب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يغنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء. فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها .. العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط؛ مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلاً لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعاً لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضرراً من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفاً أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر. فالعالم تارة يأمر وتارة ينهى وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر والنهي أو (الإباحة) .. فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه (¬1). ا. هـ. وقد نقلنا باقي كلامه فما تقدم فراجعه إن شئت. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 242 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (20/ 57 - 61).

الفرع السابع: العمل في حال اختلاط المعروف بالمنكر والمصلحة بالمفسدة انظر: ((أصول الدعوة)) (ص: 463).

الفرع السابع: العمل في حال اختلاط المعروف بالمنكر والمصلحة بالمفسدة (¬1) تفشت المنكرات في هذا العصر بشكل مخيف جداً .. حتى لم يسلم منها بيت من بيوت المسلمين .. ومن لم يقارف شيئاً منها فإنه يمر به صباح مساء .. بل إن كثيراً من المعروف قد اختلط به شيء من المنكر .. حتى المساجد لم تسلم من ذلك!! وقد آثرت في هذه المسألة أن أورد بعض كلام ابن تيمية –رحمه الله- حول هذه المشكلة فهو يقول: واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضاً شر من بدع وغيرها، فيكون ذلك العمل خيراً بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من أنواع المشروع، وشراً بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين، وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة، فعليك هنا بأدبين: أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً في خاصتك وخاصة من يطيعك. وأعرف المعروف وأنكر المنكر. والثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه؛ ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروها، والتاركون أيضاً لسنن مذمومون، فإن منها ما يكون واجباً على الإطلاق، ومنها ما يكون واجباً على التقييد كما أن الصلاة النافلة لا تجب ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها، وكما يجب على من أتى الذنوب من الكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية. وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به، ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وينهي عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم يترك العمل السيء أو الناقص .. –إلى أن قال- إنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار. أو نحو ذلك. فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة .. فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور؛ من كتب الأسمار أو الأشعار أو حكم فارس والروم. فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، أو جنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيراً. فأما مراتب المعروف والمنكر، ومراتب الدليل، بحيث يقدم عند التزاحم أعرف المعروفين، وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين. فالمراتب ثلاثة: أحدهما: العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه. الثاني: العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها، إما لحسن القصد، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع. ¬

(¬1) انظر: ((أصول الدعوة)) (ص: 463).

والثالث: ما ليس فيه صلاح أصلاً؛ إما لكونه تركاً للعمل الصالح مطلقاً، أو لكونه عملاً فاسداً محضاً. فأما الأول: فهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنها وظاهرها، قولها وعملها، في الأمور العلمية والعملية مطلقاً، فهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه والأمر به، وفعله على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب، والغالب على هذا الضرب هو أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وأما المرتبة الثانية: فهي كثيرة جداً في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ومن العامة أيضاً، وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملاً صالحاً مشروعاً ولا غير مشروع، أو من يكون عمله من جنس المحرم، كالكفر والكذب والخيانة والجهل، ويندرج في هذا أنواع كثيرة. فمن تعبد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة كالوصال في الصيام وترك جنس الشهوات ونحو ذلك، أو قصد إحياء ليالي لا خصوص لها كأول ليلة من رجب ونحو ذلك، قد يكون حاله خيراً من حال البطال الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته؛ بل كثير من هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء زاهدون في جنس عبادة الله من العلم النافع والعمل الصالح، أو في أحدهما – لا يحبونها ولا يرغبون فيها، لكن لا يمكنهم ذلك في المشروع فيصرفون قوتهم إلى هذه الأشياء، فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع، وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع، ومع هذا: فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ... (¬1) ا. هـ. كلام الشيخ –رحمه الله-. وقال في موضوع آخر: .. وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهي –وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له: فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به بل يكون محرماً، إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته. لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام. وعلى هذا إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما؛ بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوال فعل الحسنات. وإن كان المنكر أغلب نهي عنه. وإن استلزم فوات ما دونه من المعروف ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر، وسيعاً في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة. وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً. ¬

(¬1) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 616 - 621).

وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات معروف أكبر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه، وإذا اشتبه استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية .. (¬1) ا. هـ. وقال في موضع آخر: ... فأما المؤمنون فالصحو خير لهم، فإن السكر يصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، وكذلك العقل خير لهم لأنه يزيدهم إيماناً. وأما الكفار فزوال عقل الكافر خير له وللمسلمين؛ أما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة، بل يصده عن الكفر والفسوق؛ وأما للمسلمين فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء فيكون ذلك خيراً للمؤمنين، وليس هذا إباحة للخمر والسكر ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما. ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، بل عن الكفر والفساد في الأرض، ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وذلك مصلحة للمسلمين، فصحوهم شر من سكرهم، فلا خير في إعانتهم على الصحو بل يستحب – أو يجب – دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره. فهذا في حق الكفار، وفي الفساق والظلمة من إذا صحا كان في صحوه من ترك الواجبات وإعطاء الناس حقوقهم، ومن فعل المحرمات والاعتداء في النفوس والأموال ما هو أعظم من سكره، فإنه إذا كان يترك ذكر الله والصلاة في حال سكره ويفعل ما ذكرته في حال صحوه، لم يكن سكره شراً من صحوه، وإذا كان في حال صحوه يفعل حروباً وفتناً لم يكن في شربه ما هو أكثر من ذلك، ثم إذا كان في سكره يمتنع عن ظلم الخلق في النفوس والأموال والحريم، ويسمح ببذل أموال – تؤخذ على وجه فيه نوع من التحريم – ينتفع بها الناس كان ذلك أقل عذاباً ممن يصحو فيعتدي على الناس في النفوس والأموال والحريم، ويمنع الناس الحقوق التي يجب أداؤها .. فعليك بالموازنة في هذه الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة حتى يظهر لك التماثل والتفاضل، وتناسب أحوال أهل الأحوال الباطنة لذوي الأعمال الظاهرة، لا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة التي غلب فيها خلط الأعمال الصالحة بالسيئة في جميع الأصناف لنرجح عند الازدحام والتمانع خير الخيرين وندفع عند الاجتماع شر الشرين، ونقدم عند تلازم – تلازم الحسنات والسيئات – ما ترجح منها، فإن غالب رؤوس المتأخرين وغالب الأمة من الملوك والأمراء والمتكلمين والعلماء والعباد وأهل الأموال يقع غالباً فيهم ذلك .. (¬2) ا. هـ. هذا وقد أطلت في شرح هذا الأصل – أعني مراعاة المصالح ودفع المفاسد – لكون الحاجة ماسة إلى ذلك .. كما أنه من أدق وأجل مسائل هذا الباب. والله أعلم. ومن الجدير بالذكر أنه ليس كل من اشتغل بالحسبة يكون قادراً على التمييز بين المصالح والمفاسد والموازنة بينها .. وإنما ذلك يحتاج إلى فقه وعلم وعقل وحكمة. وعلى من قصر فهمه وذهنه عن الترجيح بينها أن يسأل غيره ويستشيره. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 175 ¬

(¬1) ((رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تيمية (ص: 20 - 22). (¬2) ((الاستقامة)) (2/ 165 - 168).

المبحث الثالث: الآداب المستحب توافرها في المحتسب

المطلب الأول: العمل على إيجاد البديل عن المنكر (¬1) إن الباطل يشغل حيزاً كبيراً في نفوس أصحابه .. لاسيما إذا صاحب ذلك إلف المنكر واعتياده .. فإنه من الصعوبة بمكان على صاحبه أن يفارقه ويتخلص منه .. بل إنه يشعر في بعض الأحيان أنه قد أصبح يمثل جزءاً من كيانه لا يتصور الاستغناء عنه بحال من الأحوال .. وهذا مشاهد وملموس في واقع الكثير من الناس. إذا عرفت هذا تبين لك جلياً مدى حاجة الناس إلى إيجاد بدائل تحل محل تلك المنكرات. وأنت إذا تأملت سير التشريع الرباني رأيت أنه لم يهمل هذا الجانب بل اهتم به. فحينما حرم الله عز وجل أعياد الجاهلية .. أبدل المسلمين عنها بعيدين عظيمين كريمين. كما أباح لهم أضرباً من اللهو المباح فيهما. ومن هذا الباب في القرآن قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ... [البقرة: 104] ومما يدخل تحته أيضاً قول الله تبارك وتعالى مخبراً عن قول لوط –عليه الصلاة والسلام- لقومه: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء: 165 - 166]. ومن السنة ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة –رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً)) (¬2). وقد أدرك أهل العلم أهمية هذا الجانب فظهر في بعض مقالاتهم وفتاواهم .. ومن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: يا ابن عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: (من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً، فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجهه. فقال: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح) (¬3). وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز –رحمهما الله- لأبيه: (يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني! إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه) (¬4). وقال –رحمه الله- أيضاً: (ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً) (¬5). وقال ابن كثير –رحمه الله- في حوادث سنة اثنتين وثلاثين وستمائة: (فيها خرب الملك الأشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقبية فيه خواطئ وخمور ومنكرات متعددة، فهدمه وأمر بعمارة جامع مكانه سمي جامع التوبة) (¬6) ا. هـ. ¬

(¬1) ((إعلام الموقعين)) (2/ 146 - 148)، ((إغاثة اللهفان)) (2/ 69 - 71)، ((زاد المعاد)) (4/ 134 - 135)، ((أصول الدعوة)) (ص: 446). (¬2) رواه البخاري (2201)، ومسلم (1593). (¬3) رواه البخاري (2225). (¬4) ((الزهد)) لأحمد (ص: 364)، ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال رقم (40) ((سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز)) (ص: 88). (¬5) ((سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز)) لابن الجوزي (ص: 88). (¬6) ((البداية والنهاية)) (13/ 143).

ونقل الحافظ في الفتح عن المبرد أن موضع ذي الخلصة (وهو صنم دوس في الجاهلية) صار مسجداً جامعاً لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم (¬1) ا. هـ. وفي إنباء العمر (في حوادث سنة ثمانين وسبعمائة) قال: الحافظ –رحمه الله-: (وفيها توجه شخص من أهل الصلاح يقال له: عبد الله الزيلعي إلى الجيزة، فبات بقرب أبو النمرس، فسمع حس الناقوس، فسأل عنه، فقيل له: إن بها كنيسة يعمل فيها ذلك كل ليلة؛ حتى ليلة الجمعة، وفي يومها والخطيب يخطب على المنبر فسعى عند جمال الدين المحتسب في هدمها فقام في ذلك قياماً تاماً إلى أن هدمها وصيرها مسجداً) (¬2) ا. هـ. ومما يحسن ذكره من الوقائع في هذا الجانب أن داراً تقع على النيل في مصر يجري فيها ألوان المنكرات حتى عرفت بدار الفاسقين، فاشتراها الأمير عز الدين ايدمر الخطيري وهدمها وبني مكانها جامعاً في سنة 737هـ وسماه جامع التوبة (¬3). وقد نقلت لك فيما سبق شيئاً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المتعلق بهذه المسألة فلأهميته أورد بعضه هنا فيقول: ( .. إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه .. وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به .. بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغنى عنه كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، وينهى عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم يترك العمل السيء أو الناقص .. ) (¬4) ا. هـ. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 254 ¬

(¬1) ((الفتح)) (8/ 71). (¬2) ((إنباء الغمر)) (1/ 271). (¬3) ((الخطط)) للمقريزي (2/ 312)، ((إنباء الغمر)) (هامش) (4/ 45). (¬4) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 616 - 617).

المطلب الثاني: تقليل العلائق مع الناس إن كانت المصلحة في ذلك

المطلب الثاني: تقليل العلائق مع الناس إن كانت المصلحة في ذلك وإنما طلب ذلك لئلا يكثر خوفه من انقطاعها .. ولكي يقطع طمعه من الخلائق البتة فلا يقع في المداهنة والمصانعة .. ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه .. فإن الدخول مع الناس ومخالطتهم والتعرف على أحوالهم سبب قوي جداً في إصلاحهم والاحتساب عليهم .. وإنما يطلب ذلك من بعض القائمين بالاحتساب –وقد نصبوا لذلك- إن كانت الروابط والعلائق مع الناس تؤدي بهم إلى السكوت عن هؤلاء المعارف مداهنة وما شاكلها .. كخوفهم من مقاطعتهم لهم. نقل عن بعض الشيوخ أنه كان له سنور، وكان يأخذ له كل يوم من قصاب شيئاً لغذائه، فرأى على القصاب منكراً، فدخل الدار وأخرج السنور ثم جاء واحتسب على القصاب فقال القصاب: لا أعطيك بعد اليوم للسنور شيئاً. فقال الشيخ: ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك (¬1). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 258 ¬

(¬1) ((معالم القربة)) (ص: 14).

المطلب الثالث: الإسرار بالنصح

المطلب الثالث: الإسرار بالنصح إن من طبيعة الإنسان كراهيته أن يعاب وأن يخطئ أمام الآخرين، فإذا احتسبت عليه أمامهم فقد يكون ذلك سبباً لتمسكه بما هو عليه من الخطأ والمخالفة. ويتأكد هذا الأدب خاصة إذا كان المحتسب عليه أكبر سناً من المحتسب، أو أعلى مكانة في العلم أو الجاه ونحو ذلك من الأمور .. كحال الطالب مع شيخه والابن مع أبيه. وقد أحسن الإمام الشافعي رحمه الله حينما قال: تعمدني بنصحك في انفرادي ... وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع ... من التوبيخ لا أرضى استماعه وإن خالفتني وعصيت قولي ... فلا تجزع إذا لم تعط طاعة (¬1) قال النووي –رحمه الله-: (فمن ترك التشهير والإعلان بالإنكار على المعين أمام الناس إن كان الأمر لا يتطلب ذلك، فينبغي أن يسر النصيحة إليه .. ليتحقق القبول. قال الشافعي: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه) ا. هـ (¬2). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 259 ¬

(¬1) ((ديوان الشافعي)) (ص: 56). (¬2) ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 2/24).

المطلب الرابع: قصد النصح لجميع الأمة

المطلب الرابع: قصد النصح لجميع الأمة ويستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر قصد نصح جميع الأمة ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، قصده نصح جميع الخلق، بأن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه. قال الله تعالى حكاية عن عبده ورسوله نوح: وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 62]، وعن نبيه هود – عليهما السلام -: ... وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف: 68] أي عرفت فيما بينكم بالنصح، فما حقي أن أتهم وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم (¬1). الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 393 وفي الصحيحين (¬2)، ومسند الإمام أحمد (¬3)، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي من حديث زياد بن علاقة. ((قال: سمعت جرير بن عبد الله رضي الله عنه يقول يوم مات المغيرة بن شعبة. قام فحمد الله وأثنى عليه. وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن. ثم قال: استعفوا لأميركم فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد فإني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أبايعك على الإسلام فشرط علي: والنصح لكل مسلم, فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لكم لناصح، ثم استغفر ونزل)) (¬4). هذه رواية البخاري. وأخرج مسلم (¬5) المسند منه. وفي رواية لهما. ((قال جرير: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)) (¬6). وفي أخرى لهما: قال: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقنني: فيما استطعت والنصح لكل مسلم)) (¬7). الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 394 وفي صحيح مسلم، ومسند أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬8). هذه رواية مسلم وأحمد. وفي رواية أبي داود: إن الدين النصيحة: قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله –عز وجل- ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬9). وعند النسائي بلفظ ((إنما الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬10). الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 396 ¬

(¬1) الآلوسي في ((روح المعاني))، الأعراف آية 68، (8/ 133). (¬2) رواه البخاري (58)، ومسلم (56) (¬3) رواه أحمد (4/ 357) (19175). وهو في الصحيحين. (¬4) رواه البخاري (58). (¬5) رواه مسلم (56). (¬6) رواه البخاري (57)، ومسلم (56). (¬7) رواه البخاري (7204)، ومسلم (56). (¬8) رواه مسلم (55)، وأحمد (4/ 102) (16982)، وأبو داود (4944)، والنسائي (7/ 156). (¬9) رواه أبو داود (4944). وسكت عنه. (¬10) رواه النسائي (7/ 156).

المطلب الخامس: قصد رحمة الخلق والشفقة عليهم

المطلب الخامس: قصد رحمة الخلق والشفقة عليهم ومما يستحب للآمر بالمعروف أن يكون قصده رحمة الخلق والشفقة عليهم ومما يستحب للآمر بالمعروف, والناهي عن المنكر القائم في حدود الله –أعانه الله تعالى- أن يكون قصده رحمة الخلق كلهم, والشفقة عليهم، بكف الناس عن المنكرات التي تسبب الدمار في الدنيا, والعقوبات في الآخرة. قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] غلاظ كالأسد على فريسته. قيل: المراد بـ وَالَّذِينَ مَعَهُ جميع المؤمنين، رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ أي يرحم بعضهم بعضاً. وقيل: (متعاطفون متوادون) (¬1). وفي الصحيحين من حديث – أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (¬2) في (الرحماء) يجوز الرفع والنصب. والله أعلم. الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 405 وليس من مقتضى رحمة أهل المعاصي ترك الإنكار عليهم واستيفاء الحدود منهم وغير ذلك، بل من كمال الرحمة بهم الإنكار عليهم وردهم إلى المنهج القويم والصراط المستقيم. وإذا انحرفت النفس من خلق الرحمة انحرفت إلى قسوة قلب، وإما إلى ضعف قلب وجبن، كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد ولا تأديب ولد، ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك. وقد ذبح أرحم الخلق بيده صلى الله عليه وسلم في موقف واحد وثلاثمائة وستين بدنة وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم. وكان أرحم الناس أجمعين على الإطلاق وأرأفهم. فالعبد المطيع لله إذا سمع بأسير من أسراء المسلمين في أرض العدو رحمه وبذل نفسه وماله في تخليصه، فمن باب الأولى أنه إذا رأى أخاه مأسوراً في نفسه وشيطانه وهما أعداء عدوه أن يجتهد في خلاصه. واستنقاذه منها، فإن أعراض عنه وتركوه وأسره كان ذلك من جهله بالله – تعالى – وبأموره. الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 410 ¬

(¬1) ((القرطبي تفسير الفتح، آية 29)) (16/ 293). (¬2) رواه البخاري (1284)، ومسلم (923).

المطلب السادس: ستر العورات والعيوب

المطلب السادس: ستر العورات والعيوب ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ستر العورات والعيوب ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ستر عورات المسلمين لأن سرت العيوب والتجاهل والتغافل عنها سمة أهل الدين. ويكفي تنبيهاً على كمال الرتبة في ستر القبيح وإظهار الجميل قول الله تعالى: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ ... [البقرة: 263]. الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 410 وفي الصحيحين، وجامع الترمذي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه, ولا يسلمه, ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً، ستره الله يوم القيامة)) (¬1). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر. وفي (صحيح مسلم) و (مسند أحمد)، و (سنن أبي داود) و (الترمذي) و (النسائي)، و (ابن ماجه)، و (صحيحي الحاكم وابن حبان) من حديث أبي هريرة مرفوعاً، ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) (¬2) مختصر. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)) (¬3). وفي رواية: ((لا يستر الله على عبد في الدنيا، إلا ستره يوم القيامة)) (¬4). وروى الإمام أحمد، والنسائي نحوه من حديث عروة، عن عائشة مرفوعاً – في حديث طويل – ((لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله في الآخرة)) (¬5). ومعنى ستره الله في الآخرة: أن يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف – كما تقدم قريباً – من حديث عمر. وفي (مسند أحمد) من حديث مسلمة بن مخلد الأنصاري مرفوعاً: ((من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله – عز وجل – في الدنيا الآخرة, ومن نجى مكروباً فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) (¬6). ورواه الطبراني ولفظه: ((من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (2442)، ومسلم (2564)، والترمذي (1426). (¬2) رواه مسلم (2699)، وأبو داود (4946)، والترمذي (1930)، وابن ماجه (185)، وأحمد (2/ 252) (7421)، والحاكم (4/ 425)، وابن حبان (2/ 292) (534). (¬3) رواه مسلم (2590). (¬4) رواه مسلم (2590). (¬5) رواه أحمد (6/ 145) (25164). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 4): إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 42): رواه أحمد ورجاله ثقات ورواه أبو يعلى أيضا. (¬6) رواه أحمد (4/ 104) (17000). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 249): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬7) رواه الطبراني (17/ 349) (14649). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 138): رجاله رجال الصحيح.

وفي (مسند الإمام أحمد) وغيره من حديث عن مسيب عن عمه. قال: بلغ رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة)) (¬1). فرحل إليه وهو بمصر فسأله عن الحديث. قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة. فقال: وأنا قد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي (سنن ابن ماجه) وغيرها من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه الله بها في بيته)) (¬2). الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 412 قال أبو زكريا النووي – رحمه الله – في شرح صحيح مسلم – عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) (¬3)، وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفاً بالأذى والفساد. وأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر، إن لم يخف من ذلك مفسدة, لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء, والفساد, وانتهاك المحرمات, وجسارة غيره على مثل فعله. وهذا كله في ستر معصية وقعت وانتقضت. أما مسألة معصية يراه عليها وهو متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه, ومنعه منها على من قدر على ذلك, ولا يحل تأخيرها. فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر، إذا لم تترتب على ذلك مفسدة – كما تقدم. ثم قال: وأما الرواة, والشهود, والأمناء على الصدقات, والأوقاف, والأيتام ونحوهم فيجب جرحهم عند الحاجة, ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم. وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة. وهذا مجمع عليه. الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 418 ¬

(¬1) رواه أحمد (5/ 375) (23233). قال محمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (2/ 591): له شواهد، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2341): رجال إسناده موثوقون ثم ذكر له شواهد كثيرة. (¬2) رواه ابن ماجه (2079). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 64): إسناده فيه مقال .. وله شاهد، وقال الهيتمي في ((الزواجر)) (2/ 126): إسناده حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).

المطلب السابع: الاغتمام بمعصية المسلم والتأسف لتعرضه لغضب الله

المطلب السابع: الاغتمام بمعصية المسلم والتأسف لتعرضه لغضب الله ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون مغتماً بمعصية أخيه المسلم وأن يكون آسفاً لتعرضه لعقاب الله ومما يستحب (للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر) أن يكون مغتماً مما ظهر من معصية أخيه المسلم وتعرضه لعقاب الله –تعالى- حتى يشغله الهم عن فرحه بأجر الأمر والنهي بحيث إنه لو خير بين أجره في أمره ونهيه وبين أن أخاه لم يصب ذلك الذنب لاختار أن لا يكون أصاب الذنب، وهو النصح لله في خلقه، وهو أعظم من أجر الآمر في أمره مع إثمه. فإذا اغتم بمعصيته وشره وأحب أن يكون الله –تعالى – عصمه – جمع الله أجره على عظته إياه، وأجره على اغتمامه بمعصيته وأجره على محبته عصمته. الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 419

المطلب الثامن: الغيرة على المسلمين

المطلب الثامن: الغيرة على المسلمين ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بل لكل مسلم أن يكون غيوراً على إخوانه المسلمين. قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف: 33]. وفي (الصحيحين)، و (مسند أحمد) و (جامع الترمذي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يغار وإن المؤمن يغار، وإن من غيرة الله تعالى أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) (¬1). ولمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يغار والله أشد غيراً)) (¬2). الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 421 ¬

(¬1) رواه البخاري (5223)، ومسلم (2761)، والترمذي (1168)، وأحمد (2/ 539) (10963). (¬2) رواه مسلم (2761).

المطلب التاسع: تواضع الآمر الناهي في أمره ونهيه

المطلب التاسع: تواضع الآمر الناهي في أمره ونهيه ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون متواضعاً في أمره ونهيه من غير افتخار ولا تعاظم، بل من حقوق المسلمين التواضع لهم. وسمي التواضع متواضعاً لأنه وضع شيئا من قدره الذي يستحقه – وذلك ملح العبادة – وغاية شرف الزاهدين، وسيما الناسكين. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54]. (أي متواضعين لهم بذل لين وانقياد، لا بذل هوان فيعاشروا المؤمنين برحمة وعطف وشفقة وإخبات وتواضع). وقوله: أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ. هو من عزة القوة والمنعة والغلبة. وقال (عطاء) (للمؤمنين كالوالد لولده. وعلى الكافرين كالسبع على فريسته) (¬1) كما في الآية الأخرى: أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. فالنفس إذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت إما إلى كبر وإما إلى ذل والعزة المحمودة بينهما، والله أعلم. وقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63] يعني سكينة ووقاراً متواضعين، غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين لأن الهون –بالفتح- الرفق واللين، وبالضم –الهوان. فالأول صفة أهل الإيمان، والثاني صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران (¬2). قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83]. الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 460 وفي (صحيح مسلم)، و (سنن أبي داود)، و (ابن ماجه) من حديث عياض بن حمار المجاشعي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفتخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) (¬3). قال أهل اللغة: (البغي التعدي والاستطالة). قال أبو العباس بن تيمية – في (اقتضاء الصراط المستقيم) – جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين نوعي الاستطالة. لأن المستطيل إن استطال بحق فهو المفتخر. وإن استطال بغير حق فهو الباغي فلا يحل لا هذا ولا هذا (¬4). الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 462 قال أبو حامد: فإن قلت كيف التواضع للفاسق والمبتدع وقد أمرت ببغضهما، والجمع بينهما متناقض (¬5)؟ فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس على أكثر الخلق، إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق بكبر النفس، والإذلال بالعلم والورع، فكم من عابد جاهل, وعالم مغرور إذا رأى فاسقاً جلس إلى جانبه أزعجه ذلك. وتنزه منه لكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه غاضب لله، وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شراً والحذر منه ممكن، والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله وهو خير، فإن الغضبان – أيضاً – يتكبر على من غضب عليه والمتكبر يغضب، وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه, وهما ممتزجان ملتبسان لا يميز بينهما إلا الموفقون. والذي يخلصك من هنا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع, أو الفاسق, أو عند أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور: أحدهما: التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك، ليصغر عند ذلك قدرك في عينك. والثاني: أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم, واعتقاد الحق, والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله – تعالى – وله المنة لا لك فترى ذلك منه حتى لا تعجب نفسك، وإذا لم تعجب لم تتكبر. والثالث: ملاحظة إيهام عاقبتك وعاقبته أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه. الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الرحمن بن أبي بكر بن داود– ص: 467 ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) تفسير المائدة آية 54. (¬2) ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 243). (¬3) رواه مسلم (2865)، وأبو داود (4895)، وابن ماجه (3387). (¬4) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية، فصل الفرق بين التشبيه بالكفار والشياطين والتشبه بالأعاجم، (ص: 148) ط دار الحديث. (¬5) ((الإحياء))، كتاب ذم الكبر والعجب، فضيلة التواضع (3/ 340).

المبحث الرابع: شروط إنكار المنكر

المطلب الأول: كونه منكراً المنكر كل أمر نهى عنه الشارع الحكيم سواء أكان هذا الأمر محرما أم مكروهاً وكل ما كان محذوراً في الشرع. وكلمة منكر أعم من قولنا معصية فتطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت عنه الشريعة. وإن كان لا يعتبر معصية في حق فاعله، إما لصغره، أو جنونه ولهذا إذا زنا المجنون أو هم بفعل الزنا أو شرب الصبي الخمر كان ما فعلاه منكراً يستحق الإنكار وإن لم يعتبر معصية في حقهما لفوات شرط التكليف وهو البلوغ في الأول والعقل في الثاني (¬1) بل إن الفعل الذي يخالف ما تعارف عليه المسلمون ولم يكن فيه نص صريح من حيث الكراهة والقبح يكون فيه الاحتساب؛ لأن عرف المسلمين يتفق –في الغالب- مع قواعد الشريعة فلو أن إنساناً جاء إلى المسجد للصلاة وقد لبس إزاراً من السرة إلى الركبة ووضع على عاتقه شيئاً يسيراً فقط فإن هذا ينكر عليه فعله ولو لم يكن محرماً؛ لأن فعله مخالف لعرف المسلمين؛ ولأن الطباع السليمة المسلمة تنفر من ذلك؛ ولأنه بفعله عرض نفسه لحديث الناس والوقوع في عرضه. وكذلك الحال لمن لبس من الرجال الثياب الضيقة أو الخفيفة التي تحدد العورة وتصف البشرة، أو إطالة الشعر لا لقصد السنة وإنما اقتداء بالغرب والمنحرفين فإن مثل ذلك يعتبر منكراً، لأن فيه نوعاً من التشبه بالفساق وأعداء الله. ويندرج في المنكر جميع المنكرات سواء أكانت من صغائر الذنوب أم من كبائرها، وسواء أكانت تتعلق بحق الله تعالى أم بحق الآدميين. ولكن يجب أن نعرف بأن الذي يملك الحكم عليه بأنه منكر أو غير منكر (الشرع). لأن هذا الوصف حكم شرعي. والحاكم حقيقة هو الله سبحانه إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [يوسف: 67] فليس هناك مجال للعواطف والأهواء والأغراض. ودور العلماء في ذلك هو استنباط الحكم الشرعي من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والقواعد المستوحاة منهما. ومن ثم الحكم على هذا الأمر بأنه منكر أو غير منكر (¬2). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 211 ¬

(¬1) انظر ((إحياء علوم الدين)) م3 (7/ 35، 36). وانظر ((أصول الدعوة)) عبد الكريم زيدان (ص: 179). (¬2) انظر: ((أصول الدعوة)) عبد الكريم زيدان (ص: 102).

المطلب الثاني: أن يكون موجودا في الحال

المطلب الثاني: أن يكون موجوداً في الحال وهذا الشرط له ثلاث أحوال: الحالة الأولى: أن يكون قد هم بفعل المنكر. الحالة الثانية: أن يكون متلبساً بالمنكر. الحالة الثالثة: أن يكون قد انتهى من فعل المنكر. تفصيل هذه الأحوال: الحالة الأولى: أن يكون قد هم بفعل المنكر: وذلك بأن توجد مقدمات وعلامات ومؤشرات تدل على وقوع المنكر مثل: أن يرى رجلاً يتردد مراراً في أسواق النساء ويصوب النظر إلى واحدة بعينها أو رأى شاباً يقف كل يوم عند باب مدرسة بنات ويصوب النظر إليهن. وليس له من حاجة غير ذلك. أو سمع رجلاً يتحدث بالهاتف –هاتف الشارع- بصوت مرتفع مع امرأة ويحاول أن يرتبط معها بموعد، أو رأى رجلاً يسأل بكثرة عن كيفية تصنيع الخمر، وطريقة تركيبه كل هذه الأمور تعتبر من المقدمات لفعل المنكر. فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذه الحالات الوعظ، والنصح، والإرشاد، والتخويف بالله سبحانه وتعالى، وبعقوبته والخوف من عذابه وبطشه. ويذكر له بعض النصوص القرآنية التي تبين أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه يسمع كلامه ويرى مكانه. مثل قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7]. ومثل قوله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19]. وليكن ذلك بأسلوب فيه لين وعطف وإشفاق وليس فيه تجريح أو رفع صوت أو تشهير فهذه الأمور ربما دفعته إلى حالة تأخذه فيها العزة بالإثم. وليس هناك أحسن من هذا الأسلوب في هذه الحالة. والعلم عند الله. الحالة الثانية: أن يكون متلبساً بالمنكر: ومعنى ذلك أن تكون المعصية وصاحبها مباشر لها وقت النهي والتغيير. كمن هو جالس وأمامه كأس الخمر يشرب منه أو كمن هو أدخل امرأة أجنبية إلى داره وأغلق الباب عليهما ونحو ذلك. ففي هذه الحال يجب على الآمر بالمعروف والناهي المنكر الإنكار عليه ومنعه من ذلك طالما أنه قادر على إزالة المنكر ولم يخف على نفسه ضرراً أو أذى. يقول القاضي عياض –رحمه الله- حق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه وينزع المغصوب ويرده إلى أصحابه (¬1). والإنكار عليه يكون بحسب فعل المنكر ومرتبة حكمه في الشرع. الحالة الثالثة: أن يكون فاعل المنكر قد فعله وانتهى منه ولم يبق إلا آثاره، كمن شرب الخمر وبقيت آثاره عليه أو من عرف أنه ساكن أعزب وخرجت من عنده امرأة أجنبية ونحو ذلك. ففي هذه الحال ليس هناك وقت للنهي أو التغيير وإنما هناك محل للعقاب والجزاء على فعل هذه المعصية، وهذا الأمر –في الغالب- ليس من شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر –المتطوع- وإنما هو شأن ولي الأمر أو نائبه فيرفع أمره للحاكم ليصدر فيه الحكم الموافق للشرع. يقول العلامة ابن نجيم ... وأما بعد الفراغ منها –المعصية- فليس ذلك لغير الحاكم (¬2). وللآمر بالمعروف أن يخوفه بالله ويحذره من الوقوع في مثل ذلك مستقبلاً، ويذكره بآثار المعاصي السيئة في الدنيا والآخرة. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 213 ¬

(¬1) انظر: ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (1/ 51). (¬2) انظر: ((البحر الرائق شرح كنز الدقائق)) (5/ 42).

المطلب الثالث: أن يكون المنكر ظاهرا من غير تجسس

المطلب الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسس لقد شمل الإسلام جميع جوانب الحياة للمسلم وأعطى كل جانب منها حقه وضمن للإنسان أن يعيش في المجتمع آمناً مطمئناً محترماً وموقراً طالما أنه سالك الطريق المستقيم، وأما إذا حاد عن الطريق فإن الإسلام جعل لكل أمر معوج ما يناسبه من التقويم. ومن الأمور التي شرعها الإسلام لاحترام الإنسان وأمنه النهي عن التجسس عليه. فلا يجوز لأحد أن يدخل عليه بيته إلا بإذنه يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور: 27] حتى تسلموا وتستأذنوا وذلك أن يقول أحدهم السلام عليكم أأدخل؟ وهو من المقدم الذي معناه التأخير إنما هو حتى تسلموا وتستأذنوا (¬1). ففي الآية نص من الله تعالى بتحريم الدخول إلى البيوت بغير إذن، بل إن الإسلام حرم أقل من ذلك وهو النظر إلى داخل البيت من أحد ثقوبه أو فتحاته. فأسقط الشارع الحكم حد القصاص والدية عمن فعل ذلك. حيث ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ((لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح)) (¬2). وما رخصت عين الجاني إلا لعظمة حرمة المسلم داخل بيته. وإذا كان الإسلام حرم الدخول إلى البيت والنظر إلى داخله بغير إذن. فإن الإسلام أيضاً حرم التجسس. يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا [الحجرات: 12] الآية. قال مجاهد –رحمه الله- خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله (¬3). وقال القرطبي –رحمه الله-: ومعنى الآية خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله (¬4). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً)) (¬5). وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا)) (¬6). ومعنى التحسس والتجسس قال بعض العلماء: الحسس بالحاء الاستماع لحديث القوم وبالجيم: البحث عن العورات، وقيل بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر. والجاسوس صاحب سر الشر، والناموس صاحب سر الخير، وقيل بالجيم أن تطلبه لغيرك وبالحاء أن تطلبه لنفسك قاله ثعلب. وقيل هما بمعنى وهو طلب معرفة الأخبار الغائبة والأحوال (¬7). وعلى كل فإنه إن كان وقع اختلاف في معنى التحسس والتجسس فإن العلماء متفقون على تحريم التجسس بنص الآية الكريمة ولا تجسسوا وبنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ولا تجسسوا)) وقد سبقت الإشارة إلى موضعها. ¬

(¬1) ((جامع البيان في تفسير القرآن)) ابن جرير الطبري م9 (18/ 88، 89). (¬2) رواه البخاري (6902)، ومسلم (2158). (¬3) ((تفسير مجاهد)) (2/ 608). (¬4) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي م18 (16/ 333). (¬5) رواه البخاري (6064)، ومسلم (2563). (¬6) رواه البخاري (6066)، ومسلم (2563). (¬7) انظر ((صحيح مسلم بشرح النووي) م16 (6/ 119).

وعن معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنك اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)) (¬1). فهذا نص صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن التجسس وتتبع عورات المسلمين من وسائل إفساد المجتمع وقد ورد في ذلك بعض الآثار التي تبين وقوف الصحابة رضي الله عنهم عند هذا الحد، فلم يقدموا عليه بل إذا ما وقع من أحدهم ذلك لاجتهاد ظنه أنكر عليه ذلك. من ذلك ما ورد عن عبد الرحمن بن عوف قال: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجافى على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط. فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى، قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه ولا تجسسوا وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم (¬2). وقال أبو قلابة: حدث عمر أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته فانطلق عمر حتى دخل عليه فإذا ليس عنده إلا رجل فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك. قد نهاك الله عن التجسس فخرج عمر وتركه (¬3) (¬4). فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر منهي عن التجسس إلا في حالات نادرة سنتحدث عنها في الفقرة التي تلي هذه، لأن من يفعل ذلك ينتهك عدة حقوق أساسية ثابتة شرعاً لمن تجسس عليه، منها: حقه في حرمته في مسكنه، وحقه في حرية شخصه باطلاعه على سره، هذا من جهة ومن جهة أخرى يكون المتجسس قد استباح وسيلة محرمة للوصول إلى غاية. وسواء أكانت هذه الغاية محرمة أم مباحة، فإن ذلك محظور؛ لأنها إن كانت محرمة فالوسيلة إليها محرمة، وأما إذا كانت الغاية مشروعة فلا يصح أن يسعى إليها بوسيلة محرمة؛ لأن الغاية تأخذ حكم الوسيلة (¬5). وجوب التستر: إن المسلم مأمور بأن يتستر ولا يظهر معصيته أياً كانت هذه المعصية سواء أكانت مرئية كأن يخرج عند بابه ويضع الفيديو إلى جواره وفيه أفلام خليعة، أو المسموعة كأن يضع بآلة التسجيل شريطاً به غناء غرامي وموسيقى خليعة ماجنة ونحو ذلك، أو المشمومة كأن يظهر رائحة الخمر والمسكر بحيث يشمها من هو خارج المنزل أو قريباً منه ويتكلم معه؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون قد أضاع الحق الذي أعطاه الإسلام له، ويكون بذلك عرض نفسه للإهانة والردع. ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين. وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويكشف ستر الله عنه)) (¬6). ¬

(¬1) رواه أبو داود (4888)، وابن حبان (13/ 72) (5760)، والطبراني (19/ 379) (16560)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/ 126)، والبيهقي (8/ 333) (18078). بلفظ: ((عورات الناس)) بدلاً من ((عورات المسلمين)). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال النووي في ((رياض الصالحين)) (508): صحيح، وصحح إسناده ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 300)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح. (¬2) رواه الطبراني في ((مسند الشاميين)) (3/ 61) (1806)، والحاكم (4/ 419)، والبيهقي (8/ 333) (18080). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، (¬3) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (10/ 232). (¬4) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي م18 (16/ 333). (¬5) انظر: ((حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في النظام الإسلامي والنظم المعاصرة)) د. عبد الوهاب الشيشاني (ص: 394، 395). (¬6) رواه البخاري (6069).

ومعنى (المجاهرين) المعلنون لفسقهم ومعاصيهم. قال القسطلاني: والمجاهرون بكسر الهاء المعلنون بالفسق؛ لاستخفافهم بحق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وصالحي المؤمنين وفيه ضرب من العناد (¬1). وقال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم. وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذل فاعلها من إقامة الحد عليه إن كان فيها حد، ومن التعزير إن لم توجب حداً، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة. والذي يجاهر يفوته جميع ذلك. وفي المجاهرة بالمعصية تحريك لرغبة الشر فيمن سمعه أو شهده (¬2). قلت: ومصداق كلام ابن بطال ما ورد عن صفوان بن محرز أن رجلاً سأل ابن عمر كيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: عملت كذا وكذا. فيقول: نعم. فيقول: عملت كذا وكذا. فيقول: نعم. فيقرره ثم يقول إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم)) (¬3). فالإسلام لا يقر المجاهرة بالمعصية أياً كانت صغيرة أم كبيرة. لما لها من الآثار السيئة الكبيرة ليس على فاعلها فقط وإنما على المجتمع. إذ في المجاهرة بالمعصية تشجيع الناس عليها، وإبعاد الحياء عنهم بفعلها وتسهيل ارتكابهم لها، فكأن المجاهر رسم طريقاً لمن أراد أن يفعل كفعله. موقف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا ظهرت علامات المنكر: عرفنا حكم الإسلام في التجسس وعرفنا أيضاً أنه لا يجوز للمسلم أن يجاهر بالمعصية. ولكن ما هو موقف الناهي عن المنكر. إذا ظهرت أمارات المنكر وهو داخل البيت. كأن تفوح رائحة الخمر، أو تسمع آلات الموسيقى والطرب أو تسمع أصوات المغنيات والمطربات ونحو ذلك؟ فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجب الإنكار في هذه الحال. قال في غذاء الألباب: وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة مثل: سفيان الثوري وغيره وهو داخل في التجسس المنهي عنه (¬4). وأما الماوردي فيقسم المنكر في هذه الحال إلى قسمين: الحالة الأولى: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها ففي هذه الحال يجوز للناهي أن يتجسس. الحالة الثانية: ما خرج عن هذا الحد وقصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه وكشف الأستار عنه (¬5). وقد استدل القائلون بعدم التجسس على أولئك بالأمر الوارد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- (أنه أتي إليه برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً. فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يُظهر لنا شيء نأخذ به) (¬6) وأيضاً عموم الآيات والأحاديث الواردة عن النهي عن ذلك وذهب بعض العلماء إلى أنه في هذه الحالة يجوز التجسس عليهم واقتحام البيت إذا تحققت تلك الأمارات. قال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون أن مثنى الأنباري حدثهم. قال: سمع أحمد بن حنبل حس طبل في جواره فقام إليهم ونهاهم. ¬

(¬1) انظر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) القسطلاني (9/ 49). (¬2) انظر: ((حاشية رياض الصالحين)) (ص: 125). تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد الدقاوي. (¬3) رواه البخاري (6070)، ومسلم (2768). (¬4) ((غذاء الألباب)) السفاريني (1/ 264). (¬5) ((الأحكام السلطانية)) (ص: 252). (¬6) رواه أبو داود (4890)، والبيهقي (8/ 334) (18081)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (10/ 232)، وابن أبي شيبة (9/ 86). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال النووي في ((رياض الصالحين)) (508): إسناده على شرط الشيخين، وصحح إسناده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

وقال أيضاً: أخبرني محمد بن علي الوراق أن محمداً بن أبي حرب حدثهم قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال: يأمره. قلت: فإن لم يقبل؟ قال يجمع عليه الجيران ويهول عليه. وقال أيضاً: أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد النسائي حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون. قال: هذا قد ظهر عليه أن ينهاهم (¬1). وقال الغزالي: إلا أن يظهر –المنكر- ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي، وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات بالمألوفة بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا إظهار موجب للحسبة (¬2). وقال ابن الجوزي: من تستر بالمعصية في داره وأغلق بابه لم يجز أن يتجسس عليه، إلا أن يظهر ما يعرفه كأصوات المزامير والعيدان فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي، وإن فاحت رائحة الخمر فالأظهر جواز الإنكار (¬3). والقول الثاني أرجح وهو جواز التجسس ووجوب الإنكار على من جاهر بالمعصية؛ لأن النصوص الواردة في النهي عن التجسس خاصة بمن لم يجاهر بمعصيته، وأما من جاهر بمعصيته فإنه لا يشمله هذا التكريم؛ لأن فعل المجاهر ينتج عنه أمور تخالف قواعد الشرع ونوضح المسألة بما يأتي: أولاً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتستر وقال: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) (¬4) فبفعله خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج من العافية. ثانياً: إنه بفعله هذا يكون قد نزع الحياء الذي شرعه الإسلام للمسلمين ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) (¬5) ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (¬6). ثالثاً: إن هذا المجاهر قد ينتج عن فعله هذا ترويج الفاحشة وفعل المنكرات في المجتمع المسلم، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بل المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة. رابعاً: وأما استدلالهم بخبر ابن مسعود -رضي الله عنه- (وأنه أتي برجل تقطر لحيته خمراً فقال: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) (¬7). فهذا الخبر مردود عليهم من وجهين: الوجه الأول: إن هذا الخبر يخالف صريح وصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم حيث حدث مثل هذه الصورة وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه. فقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر قال: (اضربوه) قال أبو هريرة: فمنا الضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاه الله. قال: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)) (¬8). فإذا كان هذا في حق من قد شرب الخمر فما هو شأن من تقطر لحيته خمراً؟ الوجه الثاني: إن هذا الخبر لا ينفي أن ابن مسعود -رضي الله عنه- أقام الحد عليه أو أمر بإقامته. فكان ابن مسعود يقول إننا لم نبحث عنه ولم نؤمر بالبحث عنه فلما أن ظهر لنا فعله فسوف نأخذ به. حيث قال ابن مسعود (ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) (¬9) وما أشد ظهور المنكر في هذه الصورة. فمن هنا نقول في مشروعية الاحتساب على من جاهر بالمعصية. والله أعلم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 216 ¬

(¬1) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) الخلال (ص: 61) تحقيق عبد القادر أحمد عطا. (¬2) ((إحياء علوم الدين)) (3 – 7/ 37). (¬3) ((غذاء الألباب)) السفاريني (1/ 262). (¬4) جزء من حديث رواه البخاري (6069). (¬5) رواه البخاري (6117)، ومسلم (37). من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (3484). من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه. (¬7) رواه أبو داود (4890)، والبيهقي (8/ 334) (18081)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (10/ 232)، وابن أبي شيبة (9/ 86). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال النووي في ((رياض الصالحين)) (508): إسناده على شرط الشيخين، وصحح إسناده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬8) رواه البخاري (6777). (¬9) رواه أبو داود (4890)، والبيهقي (8/ 334) (18081)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (10/ 232)، وابن أبي شيبة (9/ 86). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال النووي في ((رياض الصالحين)) (508): إسناده على شرط الشيخين، وصحح إسناده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

المطلب الرابع: ألا يكون المنكر من المسائل المختلف فيها

المطلب الرابع: ألا يكون المنكر من المسائل المختلف فيها يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ألا ينكر على الناس في المسائل المختلف فيها كأن تكون هذه المسألة جائزة عند بعض الأئمة وممنوعة عند بعضهم والفاعل لها مقلداً لإمامه المجيز لهذه المسألة مثلاً: يقول الغزالي: فكل ما هو محل اجتهاد فلا حسبة فيه فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد. نعم لو رأى الشافعي شافعياً يشرب النبيذ فهذا في محل نظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار إذ لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز أن يعمل بموجب اجتهاد غيره ولا أن الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقي من المذاهب أحبها عنده بل على كل مقلد اتباع مقلده في كل تفصيل (¬1). وقال أبو الحسن الماوردي: واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي هل يجوز له –المحتسب- أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟ على وجهين: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري أن له أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده، فعلى هذا يجب على المحتسب أن يكون عالماً من أهل الاجتهاد في أحكام الدين ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه. والوجه الثاني: ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده، ولا يقودهم إلى مذهبه لتسويغ الاجتهاد للكافة، وفيما اختلف فيه، فعلى هذا يجوز أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بالمنكرات المتفق عليها (¬2). وقال عبد الكريم زيدان: الواقع أن الخلاف إما أن يكون سائغاً وإما أن يكون غير سائغ ولكل حكمه: 1 - الخلاف السائغ يمنع من الاحتساب على رأي بعض الفقهاء وقال آخرون: يجوز للمحتسب أن ينكر على فاعل المنكر المختلف فيه بشرط أن يكون المحتسب مجتهداً. 2 - الخلاف غير السائغ وهو الخلاف الشاذ أو الباطل الذي لا يعتد به لعدم قيامه على أي دليل مقبول كالذي يخالف صريح القرآن والسنة الصحيحة المتواترة المشهورة أو إجماع الأمة أو ما علم من الدين بالضرورة فمثل هذا الخلاف لا قيمة له ولا يمنع المحتسب من الإنكار والاحتساب (¬3). ولعل الأرجح –والله أعلم- أنه ليس للمحتسب أن يحمل الناس على مذهبه إلا أن يكون مجتهداً وإذا كان مجتهداً فله ذلك. ولكن الأحرى أن لا ينتسب المجتهد إلى مذهب معين بل إنه يعمل بما ترجح لديه من الدليل. وإن كان يعمل بمعظم وبكثير من مسائل أحد المذاهب فعمله هذا على حسب ظهور الدليل له في هذه المسائل مثلاً. وأيضاً لا يشترط أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أهل الاجتهاد. لأننا لو شرطنا ذلك لتعطل الأمر والنهي ولعمت المنكرات لافتقار المجتهدين. والنصوص الشرعية خاطبت الأمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم تخاطب المجتهدين منهم فقط يقول تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران: 110]. ويقول صلى الله عليه وسلم ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬4). ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) م3 (7/ 37، 38). وانظر (ص: 38، 39) من المرجع نفسه. (¬2) ((الأحكام السلطانية)) الماوردي (ص: 241). (¬3) ((أصول الدعوة)) عبد الكريم زيدان (ص: 183). (¬4) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أحداً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعدم اجتهاده ولا عن الصحابة أنهم نهى بعضهم بعضاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعدم اجتهاده. فتخصيص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمجتهد يحتاج إلى مخصص. فتبين من ذلك أن للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يمارس ذلك ولو لم يكن من أهل الاجتهاد. والله أعلم. وقال الإمام أحمد في رواية المروذي: (لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم) (¬1) وله رواية أخرى خلاف ذلك. قال في رواية الميموني في الرجل يمر بالقوم يلعبون بالشطرنج ينهاهم ويعظهم. وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن رجل مر بقوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا فرمى به فقال: قد أحسن (¬2). فالإمام أحمد أقره على فعله بل أيده عليه مع الخلاف المذكور في الشطرنج. ولأحمد رواية ثالثة: لا ينكر على المجتهد بل على المقلد، روى إسحاق ابن إبراهيم عن الإمام أحمد أنه سئل عن الصلاة في جلود الثعالب، قال: إذا كان متأولاً أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلاً ينهى ويقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك (¬3). وقال الخلال: أخبرنا عصمة بن عصام حدثنا حنبل قال: قلت لأبي عبد الله: ترى الرجل إذا رأى الرجل لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا يقيم أمر صلاته ترى أن تأمره بالإعادة؟ قال: يحسن صلاته أو نمسك عنه. ثم قال: إن كان يظن أنه يقبل منه أمره، وقال له ووعظه حتى يحسن الصلاة فإن الصلاة من تمام الدين (¬4). وقال أيضاً: أخبرني الحسن بن عبد الوهاب، أن إسماعيل بن يوسف حدثهم. قال: حدثنا يعقوب حدثنا عبد الرحمن حدثنا محمد بن النضر قال: سأل رجل الأوزاعي قال: من آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؟ قال: من ترى أنه يقبل منك (¬5). وفي الغالب من على خلاف مذهبك لا يقبل منك. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصواب ما عليه جماهير المسلمين أن كل مسكر خمر يجلد شاربه ولو شرب قطرة واحدة لتداو أو غير تداو. وقال في كتاب بطلان التحليل: قولهم ومسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل. أما الأول فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً. وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل إذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار. كما ذكرنا من حديث شارب النبيذ المختلف فيه وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا اجتماع والاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً. وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد. كما اعتقد ذلك طوائف من الناس والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ إذا عدم ذلك الاجتهاد لتعارض الأدلة المقاربة أو لخفاء الأدلة فيها وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها مثل كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بوضع الحمل. وأن الجماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل. وقال أيضاً: من أصر على ترك الجماعة ينكر عليه ويقاتل عليه أيضاً في أحد الوجهين عن استحبابها، وأما من أوجبها فإنه عنده يقاتل ويفسق إذا قام الدليل عنده المبيح للمقاتلة والتفسيق كالبغاة بعد زوال الشبهة ... (¬6). وقال النووي –رحمه الله-: إن المختلف فيه لا إنكار فيه لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق (¬7). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 227 ¬

(¬1) ((الآداب الشرعية)) ابن مفلح (1/ 187). (¬2) ((الآداب الشرعية)) ابن مفلح (1/ 187). (¬3) ((الآداب الشرعية)) ابن مفلح (1/ 188). (¬4) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) الخلال (ص: 106، 107) دار الاعتصام. (¬5) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) الخلال (ص: 107). (¬6) انظر كتاب ((الآداب الشرعية)) ابن مفلح (7/ 89، 190). (¬7) انظر كتاب ((الآداب الشرعية)) ابن مفلح (7/ 190).

الفصل الثالث: درجات النهي عن المنكر

المطلب الأول: القدرة والاستطاعة إن من فضل الله تعالى على خلقه أن جعل دين الإسلام دين الواقعية، فهو لا يطالب المسلمين بأمور فوق طاقتهم لا يستطيعون فعلها أياً كان هذا المأمور به، فإما أن يسقط كلية أو يخفف إلى درجة تتناسب مع قدرات هذا الشخص. ولقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة موضحة ذلك أوضح بيان. يقول تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286]. ويقول تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]. ويقول تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]. ويقول صلى الله عليه وسلم ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (¬1). فهذه النصوص الشرعية تبين بوضوح أن الإنسان لا يكلف فوق طاقته في أي أمر من أمور الشرع، وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا جزء من أوامر الشرع. ومدار هذا البحث على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يقول فيه: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (¬2). فهذا نص صريح من المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن المغير للمنكر لا يلزمه إزالته بطريقة واحدة، بل عليه أن يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أقل الأحوال. يقول الجصاص حول قوله صلى الله عليه وسلم ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) (¬3) الحديث: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان، ودل على أنه إن لم يستطع تغييره بيده فعليه تغييره بلسانه، ثم إن لم يكن ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه (¬4). وقال النووي –رحمه الله-: وأما صفة النهي ومراتبه فقد قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: ((فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه)) (¬5) فقوله صلى الله عليه وسلم فبقلبه معناه فليكرهه بقلبه وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر ولكنه هو الذي وسعه. وقال عبد القادر عودة: ويشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون قادراً على الأمر والنهي وتغيير المنكر، فإن كان عاجزاً فلا وجوب عليه إلا بقلبه أي يكره المعاصي وينكرها ويقاطع فاعليها (¬6). ويدخل في عدم القدرة ما يلي: 1 - العجز الحسي. 2 - العجز المعنوي. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يماثل الجهاد والدعوة إلى الله أو هما معاً، لذا فإنه كلما تتوفر القدرة العلمية والجسمية فإن عطاءه ونفعه يكون أكثر، وكلما نقص لديه جانب من الجوانب ذات الصلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن نفعه يكون أقل. لذا اشترط العلماء لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القدرة الحسية والمعنوية. أولاً: العجز الحسي: فيشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر سلامة جسمه وقوته وكمال حواسه فلا يلزم الأخرس والأصم والأعمى بما لا يعلمون أنه منكر، أو لا يستطيعون إنكاره لفقد تلك الحواس أو بعضها. كذلك ضعيف الجسم وهزيله الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو لا يتحمل الأذى. وكذلك لا يلزم من يخشى على ماله وعرضه من النهب أو الانتهاك إذا أمر أو نهى أو نحو ذلك. ¬

(¬1) رواه البخاري (7288). (¬2) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) جزء من حديث رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) ((أحكام القرآن)) الجصاص (2/ 36). (¬5) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬6) ((التشريع الجنائي)) عبد القادر عودة (1/ 497).

وقد أفاض الغزالي القول في ذلك ونقتطف مما قال: الشرط الخامس: كونه قادراً، ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه، إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها. ثم قسم الاستطاعة إلى أحوال منها قوله: أحدها: أن يعلم أنه لا ينفع كلامه، وأنه يضرب إن تكلم، فلا تجب عليه الحسبة، بل ربما تحرم في بعض المواضع، نعم يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب .. الحالة الثانية: أن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ولا يقدر له على مكروه فيجب عليه الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة. الحالة الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره ولكنه لا يخاف مكروها فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها. ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بأمر الدين. الحالة الرابعة: أن يعلم أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق، بحجر فيكسرها ويريق الخمر .. ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه. فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب (¬1). ثانياً: الجانب المعنوي: فيشترط في المحتسب أن يكون عالماً عارفاً بأحكام الشرع وعالماً بالمنكرات، فيعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها. حيث إن الحسبة أمر بمعروف ونهي عن منكر، فلابد أن يعرف حدود المعروف وحدود المنكر فإذا كان عالماً فإنه يعرف مراتب كل منهما. يقول الشيرازي: لما أن كانت الحسبة أمراً بمعروف ونهياً عن منكر وإصلاحاً بين الناس وجب أن يكون المحتسب فقيهاً عارفاً بأحكام الشريعة؛ ليعلم ما يأمر به وينهى عنه. فإن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، ولا مدخل للعقول في معرفة المعروف والمنكر إلا بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ورب جاهل يستحسن بعقله ما قبحه الشرع، ويرتكب المحظور وهو غير عالم به .. (¬2). وقال الإمام النووي –رحمه الله-: إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها. وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء (¬3). إذاً فليس على العامي إنكار فيما يحتاج إلى علم أو اجتهاد بل يسقط عنه الأمر والنهي في هذه الحالة. ولكن يلزمه أن ينكر الأمور التي لا يعذر أحد بجهلها كترك الصلاة وفعل الزنا وشرب الخمر ونحو ذلك. يقول الغزالي: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليات المعلومة، كشرب الخمر، والزنا، وترك الصلاة، فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى الاجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه (¬4). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – بتصرف - ص 499 ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) الغزالي م3 (7/ 26) باختصار. (¬2) ((نهاية الرتبة في طلب الحسبة)) عبد الرحمن الشيرزي (ص: 6) تحقيق السيد الباز العريني – دار الثقافة بيروت 1365هـ. (¬3) ((شرح صحيح مسلم)) النووي (1/ 51). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) الغزالي م3 (7/ 28).

المطلب الثاني: ضابط الاستطاعة

المطلب الثاني: ضابط الاستطاعة لا شك أن ضابط الاستطاعة ليس له ميزان دقيق، فالأشخاص يختلفون، فهذا يقدر على أمور لا يستطيعها شخص آخر، وهذا قد أعطاه الله قوة في العلم والجسم وآخر قد فقدها أو أحدهما. فالضابط الحقيقي متروك لضمير الشخص نفسه. ولكن مع ذلك ينبغي أن يكون هناك حد أدنى يقف عنده الناس حتى لا يكون مبدأ عدم القدرة وسيلة لترك الأمر والنهي فهناك أمور يجب أن لا تصد الناس عن الأمر والنهي. فمثلاً الخوف من اللوم أو السب والشتم ونحو ذلك. فلا يعذر أحد من الناس بسبب ذلك لأنه بسيط وهو في ذات الله تعالى. ولقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الذين يجاهدون في سبيله ولا يخافون فيه لومة لائم. يقول تعالى: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [المائدة: 54]. يقول ابن كثير –رحمه الله-: أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله تعالى وإقامة الحدود وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل (¬1). وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم)) (¬2). وقال القرطبي: (أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا ينبغي أن يمنعه من تغييره) (¬3). ويقول الغزالي: ولو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه (¬4). فينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يلتفت لهذه الأمور الصغيرة فإنها تعد قشوراً بسيطة تصيبه في ذات الله وهو مع ذلك لا يعتبر قدم شيئاً يذكر، وكان الأولى له والأفضل أن يقدم نفسه رخيصة في سبيل الله. ويجب أن يعرف المسلم أن عذر الشارع في عدم النهي عن المنكر إذا خاف الإنسان على نفسه رخصة. وأما طريقة العزيمة والفضل فهو أن يقدم الإنسان نفسه وما يملك من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، دون أن يتراجع عن كلمة الحق مهما كلفته؛ لأن الشارع رغب في ذلك. وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنه تصيب أمتي في آخر الزمان من سلطانهم شدائد لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله فجاهد عليه بلسانه ويده وقلبه فذلك الذي سبقت له السوابق، ورجل عرف دين الله فصدق به، ورجل عرف دين الله فسكت عليه، فإن رأى من يعمل الخير أحبه عليه وإن رأى من يعمل بباطل أبغضه عليه فذلك ينجو على إبطانه كله)) (¬5). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) أو ((أمير جائر)) (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 70) دار الفكر. (¬2) رواه البخاري (7199)، ومسلم (1840). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) م2 (4/ 48). (¬4) ((إحياء علوم الدين)) م3 (7/ 33) باختصار. دار الفكر. (¬5) رواه أبو نعيم في ((أخبار أصبهان)) (1/ 81)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 95). قال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 244): غريب وإسناده منقطع، وضعفه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (6725). (¬6) رواه أبو داود (4344)، والترمذي (2174)، وابن ماجه (3256)، وأحمد (3/ 19) (11159). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسن إسناده ابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (19/ 180)، والعيني في ((عمدة القاري)) (15/ 228)، وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (ص: 169): حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).

وفي المسند عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في حديثه الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ((ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) (¬1). فهذه الأحاديث وغيرها تفيد أن الإنسان مأجور عندما يصدع بكلمة الحق ويأمر وينهى، ولو أدى ذلك إلى هلاكه وتعذيبه؛ لأن نتيجة الكلمة الصادقة عند السلطان الجائر معروفة. يقول العمري: لا شك أن التضحية بالنفس والنفيس في سبيل الجهر بكلمة الحق ليست بأمر سهل ترغب فيه النفوس فهي تطلب حباً قوياً وإخلاصاً عميقاً، وعزيمة صادقة وهمة بعيدة. ولكن مما لا شك فيه أيضاً أن أصحاب العزيمة وأهل الإخلاص هم أرفعهم عند الله درجة وأعلاهم مكانة. ثم يقول: هذه الأمة التي ألقى الله على كواهلها مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي عليها أن تصلح أمرها بنفسها لها تاريخ مشرق مجيد في الصدق والجرأة والشهامة والصدع بالحق، ولئن وجدت فيه من سكت عن المنكر وما قوي على إظهار المعروف لضعف إيمانه، فلا تستقل عدد أولي العزم وأصحاب الهمم الذين تصدوا للباطل وشهدوا بالحق في ظلال السيوف وذلك هو الذي ما زال يضمن للأمة، حياتها وبقاءها وإن فقدت كافة الأمة يوماً هذه الروح -روح التضحية والفداء والتفاني- كان أشأم يوم في تاريخها وانقطعت عنها رحمة الله ولم يحل بينها وبين هلاكها شيء وسقطت في الدرك الأسفل إلى هاوية الانحطاط (¬2). وجوب الأمر والنهي ولو خاف على نفسه: قد يكون الأمر والنهي واجباً ولو خاف على نفسه الهلاك، وذلك إذا كان يترتب على ذلك هداية طائفة من الناس إذا قال كلمة الحق، أو ضلالهم إذا سكت. فهنا يجب عليه أن يقول كلمة الحق ولو أدى ذلك إلى قتله. والدليل على ذلك قصة الغلام مع الملك التي رواها صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل وقد ذكرها أهل التفاسير عند تفسير سورة الحج (¬3). ورواها الترمذي في سننه وفيها: (( ... فقال الغلام للملك: إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول إذا رميتني بسم الله رب هذا الغلام. قال فأمر به فصلب ثم رماه فقال بسم الله رب هذا الغلام. قال فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات. فقال أناس لقد علم هذا الغلام علماً ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام ... )) (¬4). فهذا الغلام ضحى بنفسه لعلمه أنه سيهتدي بعده آلاف الناس وقصة الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- مشهورة. حيث ثبت على قوله الحق في أن القرآن منزل غير مخلوق لعلمه أن الناس سيقتدون به، ولو قال إنه مخلوق تورية لضل بذلك خلق كثير. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 507 ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 19) (11159)، والحاكم (4/ 551). وقال: هذا حديث تفرد بهذه السياقة علي بن زيد بن جدعان القرشي عن أبي نضرة، والشيخان رضي الله عنهما لم يحتجا بعلي بن زيد. وقال الذهبي: ابن جدعان صالح الحديث، والحديث حسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (ص: 169). (¬2) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) جلال الدين العربي (ص: 262، 263). (¬3) انظر: ((تفسير الطبري)) (24/ 339)، و ((تفسير البغوي)) (8/ 383)، و ((تفسير ابن كثير)) (8/ 366 - 367). (¬4) رواه الترمذي (3340)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (5/ 420). وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

المبحث الثاني: التغيير باليد أدلته وشروطه

المطلب الأول: تغيير المنكر باليد وأدلته ونقصد بذلك تغيير المنكر باليد ككسر الملاهي وإراقة الخمر وإتلاف آنيته إذا لم يمكن ذلك وخلع الحرير، وتكسير الأصنام وتمزيق الصور أو طمسها وإتلاف الكتب والمجلات المضللة ونحو ذلك. الأصل في تغيير المنكر باليد الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على ذلك. يقول تعالى حكاية عن إبراهيم –عليه السلام-: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 57 - 58] فإبراهيم –عليه السلام- كسر الأصنام بيده. وقال تعالى حكاية عن موسى –عليه السلام- وَانظُرْ إلى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [طه: 97]. فأخبر –سبحانه وتعالى- عن كليمه موسى –عليه السلام- أنه أحرق العجل الذي عبد من دون الله ونسفه في اليم. ويقول تعالى آمراً نبيه أن يقول: وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81]. وذلك حينما دخل مكة عام الفتح فأخذ يطعن الأصنام بعود بيده وهو يتلو هذه الآية. ورد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده. ويقول وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81])) (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)) (¬2) الحديث. فهذا نص صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر باليد. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)) (¬3). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ((كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي ابن كعب من فضيخ زهو تمر فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس فاهرقها فأهرقتها)) (¬4). وفي رواية لمسلم: ((فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت)) (¬5). وعن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-: قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد فخرجت معه فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخرت له فكان عن يمينه وكنت عن يساره فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر. قال ابن عمر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية، وما عرفت المدية إلا يومئذ، فأمر بالزقاق فشقت ثم قال لعنت الخمر وشاربها)) (¬6) الحديث. وفي رواية لابن عمر –أيضاً- قال: ((أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فأرهفت فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال: اغد علي بها ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق خمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق إلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقاً إلا شققته)) (¬7). فهذه الأحاديث دليل واضح بالقول والفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على تغيير المنكر باليد. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 511 ¬

(¬1) رواه البخاري (2478). (¬2) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وليس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (2222). (¬4) رواه البخاري (5582)، ومسلم (1980). (¬5) رواه مسلم (1980). (¬6) رواه أحمد (2/ 71) (5390)، والطبراني (10/ 92) (10076)، والبيهقي (8/ 287) (17798). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 56): رواه كله أحمد بإسنادين في أحدهما أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط، وفي الآخر أبو طعمة وقد وثقه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وضعفه مكحول، وبقية رجاله ثقات، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (7/ 206): إسناده صحيح. (¬7) رواه أحمد (2/ 132) (6165). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 56): رواه كله أحمد بإسنادين في أحدهما أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط، وفي الآخر أبو طعمة وقد وثقه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وضعفه مكحول، وبقية رجاله ثقات، وضعف إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (5/ 365).

المطلب الثاني: المنكرات التي يجوز إتلافها باليد وهل تضمن

الفرع الأول: المنكرات التي يجوز إتلافها باليد للناهي عن المنكر أن يتلف الأشياء العينية المحرمة مثل الأصنام المعبودة من دون الله بشتى أنواعها وأياً كانت مادتها من خشب أو ذهب أو نحاس. فله تكسيرها وإتلافها وكذلك آلات اللهو بشتى أنواعها من عود وآلات موسيقية ونحو ذلك أو الأشرطة التي سجل فيها أغاني خليعة وموسيقى ماجنة ونحو ذلك. أو الصور الخليعة المحرمة فله طمسها أو تمزيقها وإتلافها. كل ذلك يجوز له تغييره باليد وإتلافه لكن عليه أن ينظر إلى قواعد الشرع قبل الإقدام على ذلك ومراعاة المصلحة فلا يخلف ذلك منكراً أكبر منه ... قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن رجل كسر عوداً كان مع أمه لإنسان فهل يغرمه. أو يصلحه؟ قال: لا أرى عليه بأساً أن يكسره ولا يغرمه ولا يصلحه. قيل فطاعتها؟ قال: ليس لها طاعة في هذا. وقال أبو داود: سمعت أحمد يسأل عن قوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا، فأخذ الشطرنج فرمى بها. قال: قد أحسن. قيل: فليس عليه شيء. قال: لا، قيل له: وكذلك إن كسر عوداً أو طنبوراَ؟ قال: نعم. وقال عبد الله: سمعت أبي – في رجل يرى مثل الطنبور أو العود أو الطبل أو ما أشبه هذا ما يصنع به؟ قال: إذا كان مكشوفاً فاكسره. وقال المروزي: سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور الصغير يكون مع الصبي؟ قال يكسره أيضاً. قلت: أمر في السوق فأرى الطنبور تباع أأكسره؟ قال: ما أراك تقوى، إن قويت –أي فافعل- قلت أدعى لغسل الميت فأسمع صوت الطبل؟ قال إن قدرت على كسره وإلا فاخرج (¬1). وهذه الروايات عن الإمام أحمد –رحمه الله- تفيد إنكار المنكر باليد، وكسر مثل هذه المنكرات وإزالتها. وهذه مبنية على أصل الشرع. فعن أبي الهياج الأسدي -رضي الله عنه- قال: قال لي علي بن أبي طالب: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (¬2). وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال صلى الله عليه وسلم أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة)) (¬3) الحديث. وفي رواية لابن عباس –أيضاً- ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت)) (¬4) الحديث. فهذه الأحاديث وغيرها من النصوص تبين مشروعية إزالة المنكرات باليد، على أية صورة كانت الإزالة مما يناسب ذلك المنكر إما تغييراً كلياً أو جزئياً. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 514 ¬

(¬1) ذكر ذلك كله ابن القيم رحمه الله ((الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)) (ص: 278، 279). (¬2) رواه مسلم (969). (¬3) رواه البخاري (3351). (¬4) رواه البخاري (3352).

الفرع الثاني: هل يضمن المنكر ما أتلفه؟

الفرع الثاني: هل يضمن المنكر ما أتلفه؟ المسألة خلافية بين العلماء فبعضهم يقول لا يضمن ما أتلفه؛ لأن ما أتلفه منكر ومحرم فثمنه حرام فلا ضمان عليه. وبعضهم يقول ما يزول به المنكر لا ضمان فيه وأما الباقي فيضمنه. ذكر الخلال في كتابه بسنده عن أبي الحصين أن شريحاً أتي في طنبور فلم يقض فيه بشيء (¬1). وقال الخلال أخبرني محمد بن أبي هارون، أن يحيى بن يزدان أبا السفر حدثهم، أنه سأل أبا عبد الله عن رجل رأى في يد رجل عوداً، أو طنبوراً فكسره أصاب أو أخطأ وما عليه في كسره شيء؟ فقال قد أحسن وليس عليه في كسره شيء (¬2). وقال ابن قدامة: وإن كسر صليباً أو مزماراً أو طنبوراً أو صنماً لم يضمنه. وقال الشافعي: إن كان ذلك إذا فصل يصلح لنفع مباح، وإذا كسر لم يصلح لنفع مباح لزمه ما بين قيمته منفصلاً ومكسوراً. لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه. وقال أبو حنيفة: يضمن. ولنا أنه لا يحل بيعه فلم يضمنه كالميتة. والدليل على أنه لا يحل بيعه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) متفق عليه (¬3) .......... وقال ابن عبد القوي في منظومته: ولا غرم في دف الصنوج كسرته ... ولا صور أيضاً ولا آلة الدد وآلة تنجيم وسحر ونحوه ... وكتب حوت هذا وأشباهه أقدد وبيض وجوز للقمار بقدر ما ... يزيل عن المنكور مقصد مفسد ولا شق زق الخمر أو كسر دنه ... إذا عجز الإنكار دون التقدد وإن يتأتى دونه دفع منكر ... ضمنت الذي ينقي بتغسيليه قد (¬4) ورأي ابن عبد القوي في هذه المسألة التفصيل. ... والذي يظهر ... أن الاختلاف يتعلق بالمنكر نفسه فأحياناً يكون كله منكراً، وأحياناً يجمع بين المنكر والمعروف. فإذا كان كله منكراً كالعود –آلة الغناء- فهذا يكسر ولا ضمان فيه؛ لأنه مخصص لهذا الغرض فقط ولا يمكن الاستفادة منه بشيء آخر. وإن كان فيه من هذا وذاك فالأولى إزالة المنكر وترك ما عداه. فمثلاً: إذا كان فيه كتاب فيه فصول جيدة ولكن فيه فصل خبيث. فتمزق أوراق هذا الفصل ويترك الباقي. وكذلك الحال لو كان فيه مجلة فيها مقالات طيبة ولكن فيها صورة خليعة فتمزق هذه الصورة ويترك الباقي. ولكن ينبغي أن يعلم إذا كانت المصلحة تقتضي إتلاف الذي جمع بين المنكر والمعروف فإنه يتلف ولا ضمان. فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يزن هذه الأمور بميزان الشرع ثم يمضي لتنفيذ أمر الله تعالى. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – بتصرف – ص 516 ¬

(¬1) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) الخلال (ص: 129). (¬2) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) الخلال (ص: 129). (¬3) رواه البخاري (2236)، ومسلم (1581). (¬4) ((غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب)) (1/ 243 – 255).

المطلب الثالث: شروط تغيير المنكر باليد وضوابطه

المطلب الثالث: شروط تغيير المنكر باليد وضوابطه 1 - أن يكون تغييره للمنكر خالصاً لوجه الله تعالى وليس هدفه من ذلك هو ردود فعل أو الانتقام أو التشفي أو نحو ذلك من حظوظ النفس. 2 - أن يتحقق من هذا المنكر وأنه يستحق التغيير أو الإتلاف. 3 - أن لا يتجاوز الحد المشروع إن كان من المنكرات التي يمكن إتلاف بعضها وترك البعض الآخر. 4 - أن يباشر ذلك بنفسه إن تيسر ذلك أو يستعين بمن هو أهل لذلك. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 518 5 - القدرة وعدم ترتب مفسدة أكبر من جرائه، وفي مسألة التغيير للمنكر باليد خاصة إذا جعلنا ذلك لكل أحد وفي كل منكر فإن ذلك يجر من المفاسد الشيء الكثير جدا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه، مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد الشارب، ويقيم الحدود، لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد، لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك، فهذا ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر) هذا وقد نص غير واحد من أهل العلم على أنه إذا تطلب الأمر شهر سلاح فإن ذلك لا بد فيه من إذن السلطان لئلا يؤدي إلى فتنة فمسألة التغيير باليد مع وجود القدرة مشروطة بعدم ترتب مفسدة أكبر من جراء الاحتساب. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصوله وضوابطه وآدابه لخالد بن عثمان السبت ص 332

المبحث الثالث: التغيير باللسان ومراتبه

تمهيد من أهم وسائل تغيير المنكر تغييره باللسان وذلك بتعريف الناس بالحكم الشرعي بأن هذا محرم ومنهي عنه. فقد يرتكب المنكر لجهله به. فيمكن تغيير المنكر عن طريق الوعظ والإرشاد والنصح والتخويف وتغليظ القول والتقريع والتعنيف ونحو ذلك، فلعله يقلع عن المنكر بسبب ذلك. ولتغيير المنكر باللسان مراتب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يسلكها أولاً بأول؛ لأن الهدف الأساسي هو إصلاح الناس وليس إيذاؤهم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 519

المطلب الأول: التعريف

المطلب الأول: التعريف وذلك بأن يعرف مرتكب المنكر –إما بالمباشرة أو التعريض حسب الموقف- بأن هذا لا ينبغي أو حرام وأنت لست ممن يفعل ذلك بالقصد، فأنت أرفع من ذلك. ويبين له ذلك بالحكمة والرفق واللين حتى يقبل ولا ينفر. وقد ضرب الغزالي مثلاً لذلك قال فيه: (فإن المنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله، وإذا عرف أنه منكر تركه كالسوادي يصلي ولا يحسن الركوع والسجود، فيجب تعريفه باللطف من غير عنف؛ وذلك لأن في ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحمق والتجهيل إيذاء، وقلما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور ولاسيما بالشرع. ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب كيف أن تنكشف عورة جهله والطباع أحرص على ستر عورة الجهل. فنقول له إن الإنسان لا يولد عالماً ولقد كنا أيضاً جاهلين بأمور الصلاة فعلمنا العلماء، ولعل قريتك خالية عن أهل العلم، أو عالمها مقصر في شرح الصلاة. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء، فإيذاء المسلم محذور كما أن تقريره على المنكر محذور. وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول، ومن اجتنب محذور السكوت على المنكر واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه، فقد غسل الدم بالبول على التحقيق ... ) (¬1). ... ويختلف الأسلوب من شخص لآخر ومن وقت إلى وقت، فعلى الناهي عن المنكر أن يلبس لكل حالة لبوسها. ولابد في كل الحالات من عامل مشترك ألا وهو التعريف بالرفق واللين واللطف ولا سيما إذا كانت حال الواقع في المنكر مجهولة. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا علم شخصاً ما قد وقع في محظور فإنه يخطب ويعمم ولا يخصص. كل ذلك من أجل أن لا يجرح شعور ذلك الشخص. فقد ورد عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كره من إنسان شيئاً قال: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)) (¬2). وفي رواية ((إذا بلغه عن الرجل شيء)) الحديث (¬3). وروى الخلال بسنده قال أخبرني عصمة بن عصام قال: حدثنا حنبل أنه سمع أبا عبد الله يقول: والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق والردى فيجب عليك نهيه وإعلانه؛ لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة، فهذا لا حرمة له (¬4). وقال أيضاً: أخبرني محمد بن علي الوراق قال: حدثني مهنا قال: قال أحمد بن حنبل، كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون. يقولون مهلاً رحمكم الله (¬5). فهذه الآثار تبين طريقة السلف رضي الله عنهم في النهي عن المنكر. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 519 ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)). الغزالي م3 (7/ 45) باختصار. (¬2) لم أقف على لفظه من رواية عائشة رضي الله عنها، ولكن ذكره الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) (3/ 145)، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 179): أبو داود من حديث عائشة دون قوله: ((وكان لا يعيره)) ورجاله رجال الصحيح. (¬3) رواه أبو داود (4788). وسكت عنه، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود))، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1612): صحيح على شرط الشيخين. (¬4) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) الخلال (ص: 80). (¬5) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) الخلال (ص: 80).

المطلب الثاني: النهي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى

المطلب الثاني: النهي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى وهذه الدرجة تتعلق غالباً في مرتكب المنكر العارف بحكمه في الشرع بخلاف الدرجة الأولى فهي في الغالب تستعمل للجاهل في الحكم. فهذا يستعمل معه أسلوب الوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى ويذكر له آيات الترهيب والوعيد، ولكن بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة يقول تعالى: ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125]. ويقول تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [عمران: 159]. وحتى لو كان عارفاً لهذه النصوص فلها تأثيرها وهذا يعتبر ذكرى. والله يقول وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]. ويبين له ما أعد الله للطائعين، ويذكره بالموت وأنه ليس له وقت معين، بل يأتي بغتة، وربما جاء الإنسان وهو واقع في المعصية، فتكون خاتمته سيئة. ويبين له أن هدفه من نصحه وإرشاده حبه له وخوفه عليه من عذاب يوم القيامة وأنه ما فعل ذلك إلا إشفاقاً عليه، حتى يطمئن له وتنفتح نفسه لسماع الموعظة وربما أعقب ذلك الإقلاع عما هو واقع به. وينبغي أن يتدرج مع المنهي في الأحوال التالية: 1 - أن يذكر بعض النصوص من القرآن والسنة المخوفة للعاصين والمذنبين، وأقوال السلف في ذلك. ويختار من ذلك القصير شديد الوقع في النفس. 2 - تذكيره بالأمم والطوائف والأشخاص الذين وقعوا في المعصية وحل عليهم غضب الله وعذابه. والشواهد في الكتاب والسنة كثيرة جداً. 3 - أن يذكره أن للذنوب سلبيات كثيرة، وأن ما يصيب الإنسان في نفسه وأهله وماله بسبب الذنوب. ورد عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يزيد العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) (¬1). وقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30]. وغير ذلك من النصوص والآثار التي تبين عقوبة المعاصي في الدنيا والآخرة. 4 - محاولة ذكر الأدلة والشواهد الخصوصية إن كان يعرف ذنبه بشكل خاص. فإذا كان معروفاً بشرب الخمر ركز على عقوبة شارب الخمر والآثار الواردة في ذلك والعقوبات المترتبة عليه في الدنيا والآخرة. ثم ينتقل إلى الوعظ بشكل عام. وليحرص كل الحرص أن تكون الموعظة سراً بينه وبينه حتى لا تأخذه العزة بالإثم فيرفض قبولها، وحتى يعلم بحق أنه ليس للناهي هدف سوى النصيحة والإشفاق عليه فقط. ذكر ابن عبد البر في كتابه بهجة المجالس: عن مسعر بن كدام قال: (رحم الله من أهدى إلي عيوبي في ستر بيني وبينه فإن النصيحة في الملأ تقريع) (¬2). وروى الحافظ أبو نعيم في الحلية –بسنده- عن مرة بن شرحبيل قال: سئل سلمان بن ربيعة عن فريضة فخالفه عمرو بن شرحبيل. فغضب سلمان بن ربيعة ورفع صوته فقال عمرو بن شرحبيل: والله لكذلك أنزلها الله تعالى فأتيا أبا موسى الأشعري فقال: القول ما قاله أبو ميسرة. وقال لسلمان ينبغي لك أن لا تغضب إن أرشدك رجل. وقال لعمرو: قد كان ينبغي لك أن تساوره يعني تساوره ولا ترد عليه والناس يسمعون (¬3). فينبغي للناهي عن المنكر أن يستخدم السبل التي تعين صاحب المنكر على أن يقلع عن معصيته. والله أعلم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 521 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (3264)، وأحمد (5/ 277) (22440)، والحاكم (1/ 670). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسن إسناده البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (4/ 187)، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 289): إسناده صحيح، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 409): [رواته] كلهم ثقات، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) دون قوله: ((وإن الرجل)). (¬2) ((بهجة المجالس)) ابن عبد البر (1/ 47). (¬3) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) م2 (4/ 142، 143).

المطلب الثالث: الغلظة بالقول

المطلب الثالث: الغلظة بالقول وهذه المرتبة يلجأ إليها بعد استخدامه الأسلوب السهل اللين القريب. وبعد معرفته أن أسلوب اللين لم يجد عند ذلك يغلظ له القول ويشدد عليه ويزجره مع مراعاة قواعد الشرع في ذلك. فإذا أمن شره فإنه يقوم بذلك ولكن لا يقول إلا حقاً. وهذا الأسلوب قد استعمله أبو الأنبياء عليه وعليهم السلام. يقول الله تعالى حكاية عنه أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 67]. فيقول اتق الله أما تخاف الله أما تستحيي ألا تعرف أن فعلك هذا فعل الفساق والفجار، وهكذا، فلعله ينزجر. وينبغي للناهي أن لا يطلق لسانه في كل ما يرد عليه، بل يحاسب نفسه على كلمة ستخرج منه، وفي الوقت نفسه عليه أن لا يتعدى، فإذا علم أن صاحبه استجاب أو أقلع وقف. وشكره على استجابته كأن يقول: جزاك الله خيراً وبارك فيك. يقول الغزالي ولهذه الدرجة أدبان: أحدهما: أن لا يقدم عليها إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف. الثاني: أن لا ينطق إلا بالصدق ولا يسترسل فيه. فيطلق لسانه الطويل بما لا يحتاج إليه بل على قدر الحاجة .. (¬1). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 524 ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) الغزالي م3 (7/ 47).

المطلب الرابع: التهديد والتخويف

المطلب الرابع: التهديد والتخويف وهذه المرتبة هي آخر المحاولات لنهيه باللسان ويعقبها بعد ذلك إيقاع الفعل. فيقال له: ... لأخبرن بك السلطات لتسجنك وتعاقبك على فعلك. وهكذا يورد عليه بعض أساليب التخويف والتهديد ولكن ينبغي أن يكون هذا التهديد والتخويف في حدود المعقول عقلاً وشرعاً حتى يعرف أنك صادق في تهديدك؛ لأنك لو هددته بأمور غير جائزة شرعاً عرف أنك غير جاد؛ لأن الآمر يجب أن يكون أقرب الناس استجابة لشرع الله تعالى. فلا يقول له: إن لم تنته سوف أحرق بيتك بمن فيه وأسلب مالك وأفعل وأفعل. من أمور لا تجوز شرعاً. يقول الغزالي: ولا يهدد بوعيد لا يجوز له تحقيقه كقوله لأنهبن دارك أو لأضربن ولدك أو لأسبين زوجتك وما يجري مجراه بل إن ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام وإن قاله من غير عزم فهو كذب ... (¬1). هذه هي مراتب الإنكار باللسان فعلى الناهي أن يسلك هذه المراتب عند نهيه مرتبة مرتبة، ولا ينتقل من مرتبة قبل أختها؛ لأن المقصود إصلاح هذا المسلم الذي وقع في منكر، وليس المقصود الانتقام منه أو الانتصار عليه. فإن انتهى عند المرتبة الأولى فهو المطلوب وإلا انتقل للتي تليها وهكذا. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 524 ¬

(¬1) ((إحياء علوم الدين)) م3 (7/ 50).

المبحث الرابع: التغيير بالقلب أهميته وحقيقته وفوائده

المطلب الأول: أهمية التغيير بالقلب المنكر لا تقره الشريعة بأي حال من الأحوال، فلابد من تغييره ولكن تغييره على مراتب. ولما كان الناس يختلفون في قدراتهم الجسمية والعقلية وغير ذلك. فإن الشارع الحكيم رتب إنكار المنكر على حسب قدرة الشخص، ولكن لا يعذر أحد من المكلفين بترك الإنكار مهما يكن من أمر. فيجب عليه أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أقل الأحوال؛ لأن كل إنسان يستطيع ذلك ومن هو الذي لا يقدر على الإنكار بالقلب إلا رجل قد مرض قلبه وانتكس فهذا أمره أشد من قضية الإنكار بالقلب. والأصل في هذا الحكم. ما رواه الإمام مسلم بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬1). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) (¬2) الحديث. وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم كلام القاضي عياض –رحمه الله- فقال: هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر بنفسه. أو يأمر من يفعله، وينزع المغصوبات ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره. إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله. كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكراً أشد مما غيره لكون جانبه محمياً عن سطوة الظالم فإن غلب على ظنه أن تغييره يسبب منكراً أشد منه من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده، واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف. فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى. وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه هذا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين خلافاً لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال، وإن قتل ونيل منه كل أذى، هذا آخر كلام القاضي –رحمه الله- (¬3). ومن كان في قلبه حياة وليس في مقدوره أن يغير المنكر بيده ولا بلسانه فعليه أن يكره هذا المنكر ويعلم الله من قلبه الصدق والعزيمة على تمني زوال هذا المنكر ولولا المانع لأزاله. قيل لابن مسعود -رضي الله عنه-: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً (¬4). فالذي لا يأمر بالمعروف ولا ينكر المنكر بأدنى درجاته فهو ميت القلب. ¬

(¬1) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (50). (¬3) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) م1 (2/ 25). (¬4) ((الأمر بالمعروف)) لابن تيمية (ص: 18).

وعندما تكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهاد وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالت له امرأة: هذا واجب وضع عنا فقال: هبي أنه وضع عنكن سلاح اليد واللسان فلم يوضع عنكن سلاح القلب فقالت له صدقت جزاك الله خيراً (¬1). فإن سلاح اللسان لا يسقط عن المرأة فعليها أن تنكر على من تستطيع الإنكار عليه من أقاربها الرجال وأما النساء فعليها الإنكار عليهن بصفة عامة. ولهذا شواهد: ورد عن عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- أنها رأت امرأة بين الصفا والمروة عليها خميصة من صلب –أي ثوب عليه خطوط متصالبة- فقالت عائشة: ((انزعي هذا من ثوبك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه في ثوب قضبه)) (¬2). وأما بالنسبة للإنكار على الرجال: فقد ورد أن عائشة –رضي الله عنها- رأت أخاها عبد الرحمن يسرع في الوضوء ليدرك الصلاة على سعد بن أبي وقاص. فقالت: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ويل للأعقاب من النار)). ولا شك أن إنكار المرأة بقلبها على الرجال هو الغالب وعلى النساء في بعض الحالات بخلاف الرجل فإن إنكاره في قلبه مقيد بظروف معينة، وهي عدم مقدرته على الإنكار باليد واللسان فيجب على المسلم أن يعلم أنه لا يعذر بحال بترك الإنكار بقلبه عند عجزه عن الإنكار باليد واللسان. وإذا كان قلبه لا يتحرك عند رؤيته للمنكر فعليه أن يعلم أن قلبه مريض ويحتاج إلى علاج. وأما إذا علم صدق نيته بقلبه في بغضه للمنكر وتمني زواله فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه مثل أجر القادر عليه وعلى أسوأ الأحوال فإنه لا يأثم بتركه ذلك. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهته فينبغي أن تكون كاملة جازمة لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان. وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل .. (¬3). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 507 ¬

(¬1) ((إعلام الموقعين)) لابن القيم. (¬2) رواه أحمد (6/ 225) (25923). قال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن. (¬3) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ابن تيمية تحقيق صلاح الدين المنجد (ص: 23).

المطلب الثاني: حقيقة الإنكار بالقلب ((الآداب الشرعية)) (1/ 308)، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 106 - 109)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 497).

المطلب الثاني: حقيقة الإنكار بالقلب (¬1) يغلط البعض فيظن أنه ما دام كارهاً للمنكر فلا بأس عليه بمخالطة فاعله والجلوس معه حال مواقعته المنكر .. أو البقاء في مكان فيه منكر في الشرع وهذا مخالف لما دل عليه القرآن والسنة. قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [النساء: 140] وهذا نهي صريح عن مجالستهم حال مواقعتهم لهذا المنكر .. فما دام لا يقدر على الإنكار باليد أو اللسان فلا بد إذاً من مفارقته للمنكر .. هذا هو الصحيح (¬2). قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي –رحمه الله- عند هذه الآية: (وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده. ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي: غير الكفر بآيات الله ولا الاستهزاء بها. إِنَّكُمْ إِذًا أي إن قعدتم معهم في الحال المذكور (مثلهم) لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن من حضر مجلساً يعصى الله به فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها) (¬3). ا. هـ. وقال القرطبي –رحمه الله- عند هذه الآية: ( .. فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية .. وإذا ثبت تجنب أهل المعاصي فتجنب أهل البدع والأهواء أولى .. ) (¬4) ا. هـ. وقال البخاري –رحمه الله-: (باب: هل يرجع إذا رأى منكراً في الدعوة؟). ثم قال: ورأى ابن مسعود صورة في البيت فرجع (¬5). ¬

(¬1) ((الآداب الشرعية)) (1/ 308)، ((تنبيه الغافلين)) (ص: 106 - 109)، ((التشريع الجنائي)) (1/ 497). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 204، 221، 222، 239). (¬3) ((تفسير السعدي)) (2/ 93 - 94). (¬4) ((القرطبي)) (5/ 418)، وانظر ((القاسمي)) (5/ 524 - 527)، ((الظلال)) (5/ 261 - 262)، ((الحلال والحرام)) (ص: 73). (¬5) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث رقم (5181). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (9/ 249): كذا في رواية المستملي والأصيلي والقابسي وعبدوس، وفي رواية الباقين أبو مسعود والأول تصحيف فيما أظن فأنني لم أر الأثر المعلق إلا عن أبي مسعود عقبة بن عمرو وأخرجه البيهقي - (7/ 268) (14959) - من طريق عدي بن ثابت عن خالد بن سعد عن أبي مسعود: (أن رجلا صنع طعاماً فدعاه فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم؛ فأبى أن يدخل حتى تكسر الصورة). وسنده صحيح. وخالد بن سعد هو مولى أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري ولا أعرف له عن عبد الله بن مسعود رواية ويحتمل أن يكون ذلك وقع لعبد الله بن مسعود أيضاً لكن لم أقف عليه. اهـ. وانظر: ((تغليق التعليق)) (4/ 423 - 424).

ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت ستراً على الجدار. فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء. فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاماً. فرجع (¬1) (¬2). ((ثم ساق بسنده من حديث عائشة أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهة فقلت: يا رسول الله: أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال هذه النمرقة؟ قالت: فقلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة .. ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)) (¬3). وقال ابن ماجه: (باب إذا رأى الضيف منكراً رجع). وذكر حديث علي رضي الله عنه قال: (صنعت طعاماً فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع) (¬4). وأورده أيضاً من حديث سفينة، أبي عبد الرحمن، قال: ((إن رجلاً أضاف علي بن أبي طالب فصنع له طعاماً، فقالت فاطمة: لو دعونا النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معنا، فدعوه فجاء، فوضع يده على عضادتي الباب، فرأى قراماً في ناحية البيت فرجع. فقالت فاطمة لعلي: الحق، فقل له ما رجعك يا رسول الله؟ قال: إنه ليس لي أن أدخل بيتاً مزوقاً)) (¬5). وقد ذهب الإمام أحمد –رحمه الله- إلى أنه يخرج من الوليمة إذا وجد جدران البيت قد سترت، وكذا إذا استعمل صاحب الوليمة آنية الفضة أو الذهب، أو رأى في البيت شيئاً من ذلك المستعمل (¬6). قال المروذي: (قلت لأبي عبد الله: فالرجل يدعى فيرى مكحلة رأسها مفضض؟ قال: هذا يستعمل، وكل ما استعمل فاخرج منه .. ) (¬7). وقال المروذي: (سألت أبا عبد الله عن الرجل يدعى فيرى فرش ديباج، ترى أن يقعد عليه أو يقعد في بيت آخر؟! قال: يخرج، قد خرج أبو أيوب وحذيفة) (¬8). وجاء عن أبي مسلم الخولاني –رحمه الله- أنه انصرف إلى منزله فإذا هو بالبيت قد ستر، فقال: إن بيتكم هذا ليجد القر فأدفئوه، وإلا فلا أبرح حتى تنزعوه، فنزعوا الستور ثم دخل (¬9). قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان أتى بيتاً فرأى فيه حارستان، فيه أباريق الصفر والرصاص فلم يدخله وقال: من تشبه بقوم فهو منهم –وفي لفظ آخر: فرأى شيئاً من زي العجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم). ¬

(¬1) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث رقم (5181). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (9/ 249): وصله أحمد في كتاب ((الورع)) ومسدد في مسنده ومن طريقه الطبراني .. ووقع لنا من وجه آخر من طريق الليث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سالم بمعناه. اهـ. وانظر: ((تغليق التعليق)) (4/ 424 - 425). (¬2) ((نزهة الفضلاء)) (1/ 171). (¬3) رواه البخاري (2105)، ورواه مسلم (2107). (¬4) رواه ابن ماجه (2724). قال البزار في ((البحر الزخار)) (2/ 157): من أحسن إسناد يروى عن علي، وإسناده صحيح، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (6/ 331): إسناد رجاله رجال الصحيح وله شواهد، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬5) رواه أبو داود (3755)، وابن ماجه (2725)، وأحمد (5/ 221) (21976). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/ 293): إسناده جيد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 288) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬6) ((الورع)) (باب: أي شيء يخرج من الوليمة) (ص: 137). وفي ((كشاف القناع)) (5/ 170 - 171). (¬7) ((الورع)) (ص: 137). (¬8) ((الورع)) (ص: 138). (¬9) ((الورع)) (ص: 139).

وقال علي بن أبي صالح السواق: (كنا في وليمة، فجاء أحمد بن حنبل، فلما دخل نظر إلى كرسي في الدار عليه فضة، فخرج، فلحقه صاحب الدار، فنفض يده في وجهه وقال: زي المجوس، زي المجوس) (¬1). وقال في رواية صالح: (إذا كان في الدعوة مسكر أو شيء من آنية المجوس: الذهب والفضة، أو ستر الجدران بالثياب، خرج ولم يطعم) ا. هـ (¬2). وقال إبراهيم الحربي: (وكان –أي الإمام أحمد- إن رأى إناء فضة أو منكر خرج .. ) (¬3). وقال أبو محمد بن تميم الحنبلي –رحمه الله- عند ذكره لعقيدة الإمام أحمد: .. وكان يتحرج أن يدخل إلى دار فيها صور، أو دعوة فيها لهو أو غناء أو جنازة يتبعها نوح أو مزمار، فإذا حضرها لم يرجع عنها. (أي الجنازة) (¬4). وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن هشام بن عروة قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قوماً على شراب، فضربهم وفيهم صائم. فقالوا: إن هذا صائم فتلا: فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [النساء: 140] (¬5). وقال الحافظ عند شرحه لحديث عائشة –رضي الله عنها- في الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف بهم: (قال المهلب: في هذا الحديث أن من كثر سواد قوم في المعصية مختاراً أن العقوبة تلزمه معهم. قال: واستنبط منه مالك عقوبة من يجالس شربة الخمر وإن لم يشرب) (¬6). ا. هـ. وقال الإمام مالك –رحمه الله-: (لا ينبغي المقام بأرض يعمل فيها بغير الحق والسب للسلف الصالح، وأرض الله واسعة، لقد أنعم الله على عبد أدرك حقاً فعمل به) (¬7) (¬8). سئل الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله- عن وجوب الهجرة من بلاد المسلمين التي يحكم فيها بالقانون فأجاب: (البلد التي يحكم فيها بالقانون ليست بلد إسلام. تجب الهجرة منها، وكذلك إذا ظهرت الوثنية من غير نكير ولا غيرت فتجب الهجرة، فالكفر بفشو الكفر وظهوره هذه بلد كفر. أما إذا كان قد يحكم فيها بعض الأفراد أو وجود كفريات قليلة لا تظهر، فهي بلد الإسلام. ما الذي سلط الأعداء على المسلمين؟ إذا كان نفس الشيء الذي نقمه الرسول هو المقدم عندهم، واستغنوا باسم الإسلام وصلاة ونحو ذلك. إن في القرآن والسنة الشفاء والبيان. شيء واضح بينه القرآن ووضحه في عدة مواضع أن المشركين مقرين بالربوبية، ثم آيات أخر عينت الشيء الذي طلبوه، فهذا هو الذي أنكره القرآن عليهم من جهة العقيدة. ولعلك أن تقول: لو قال من حكم القانون: أنا أعتقد أنه باطل. فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان، وأعتقد أنها باطل. وإذا قدر على الهجرة من بلاد تقام فيها القوانين وجب ذلك) (¬9). وسئل أيضاً عن بلد يحل أهلها البغاء فقال: ( .. ينبغي الهجرة من بلد دون هذا، ويجب قتالهم حتى ينتهوا عن ذلك) (¬10). وله –رحمه الله-: (من محمد بن إبراهيم إلى المكرم سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد:- فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن إنسان اضطرته ظروف الحياة إلى الاجتماع بأناس لا يصلون الصلوات الخمس، وكان يسكن معهم في محلهم، يأكلون جميعاً ويشربون، ويبيتون. وتسأل عن حكمهم، وحكم من يسكن معهم؟ ¬

(¬1) هذه الرواية ذكرها شيخ الإسلام موجودة في ((طبقات الحنابلة)) (1/ 234). (¬2) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 318 - 319). (¬3) ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 226). (¬4) ((طبقات الحنابلة)) (2/ 278). (¬5) ((تفسير ابن جرير)) رقم (10709) (9/ 321)، ((الإبانة الكبرى)) رقم (515). (¬6) انظر: ((الفتح)) شرح الحديث رقم (2118) (4/ 241). (¬7) ((الجامع)) لابن أبي زيد (ص: 156). (¬8) انظر: الكلام في الهجرة من أرض المعاصي في كتاب ((الرفوع)) (6/ 196 - 198). (¬9) ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (6/ 188). (¬10) ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (6/ 189).

والجواب: لا حول ولا قوة إلا بالله. ما كنا نظن أن يوجد مثل هؤلاء بين ظهراني المسلمين .. والواجب عليهم الرجوع إلى الله والتوبة إليه، فإن التوبة تجب ما قبلها، وعلى جميع من يعلم بحالهم هذه أن ينصحهم ويكرر مناصحتهم، فإن لم يمتثلوا قام عليهم غيرة الله تعالى ورفع بأمرهم إلى ولاة الأمر، كما أن على ولاة الأمر القيام عليهم وإلزامهم بالصلاة وغيرها من شعائر الإسلام. وأما السكن معهم فلا يجوز للإنسان أن يسكن مع مثل هؤلاء، بل عليه أن يناصحهم فإن امتثلوا وإلا فيفارقهم ويلتمس رفقاء غيرهم .. ) (¬1). متى تجب مفارقة المنكر؟ لا شك أن مفارقة المنكر أمر واجب على المستطيع لكن فرق بعض الفقهاء (فيما يتعلق بمفارقة مكان المنكر) بين كون المنكر في مكان لا يلحق من فارقه حرج وضرر ظاهر كناحية في السوق، أو دار صاحب الوليمة إذا وجد فيها شيء من المنكرات – وبين كون المنكر واقع من جار له في المنزل إذا كان يلحقه من الخروج ضرر ظاهر، ككون الدار ملكاً له. فيجوز له البقاء فيه مع متابعة النصح له –والله أعلم- (¬2). أما من دعي إلى وليمة وهو يعلم أن فيها منكراً لكنه لم يره ولم يسمعه فهل له الجلوس والأكل؟ قال البهوتي –رحمه الله- (له الجلوس والأكل نصاً، لأن المحرم رؤية المنكر أو سماعه ولم يوجد. وله الانصراف. فيخير لإسقاط الداعي حرمة نفسه بإيجاد المنكر) (¬3). لكن قد يختلف الحكم إذا كان الرجل ممن يقتدى بمثله والمنكر في تلك الوليمة أو المناسبة مشتهر عند الناس ففي هذه الحالة قد لا يفهم الناس من جلوسه إلا الإقرار فعليه أن يفارق –والله أعلم-. هذا ولا يفهم من كون الإنكار بالقلب يقتضي مفارقة المنكر أن ندع بعض الأعمال المشروعة، أو قصد بعض ما يشرع قصده من الأماكن لوجود بعض المنكرات هناك .. فلا يهجر المسجد لكونه مزخرفاً مثلاً، أو كان أهله يسبلون ثيابهم. كما إذا اتبعت الجنازة، ثم جاء من يضرب بالدف، أو يظهر النياحة، فلا تدع ما أنت فيه لأجل هذا المنكر .. وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله- إذا حضر جنازة ثم ظهر هناك بعض المنكرات لم يرجع عنها ويقول كما قال الحسن لابن سيرين: لا ندع حقاً لباطل (¬4). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص: 335 ¬

(¬1) ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (6/ 189). (¬2) ((كشاف القناع)) (5/ 170). (¬3) ((كشاف القناع)) (5/ 170). (¬4) ((طبقات الحنابلة)) (1/ 278).

المطلب الثالث: فوائد الإنكار بالقلب وثمراته

المطلب الثالث: فوائد الإنكار بالقلب وثمراته 1 - أنه أقل درجات الإنكار المطلوبة وبه يسلم المرء من العقوبة. 2 - هذا الإنكار القلبي يدل على عدم الرضا بالمنكر وكراهيته والنفور منه، وقد جاء عن عرس بن عميرة الكندي –رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها – وفي رواية – فأنكرها – كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)) (¬1). وجاء في حديث أم سلمة –رضي الله عنها- مرفوعاً: ((ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع ... )) (¬2). 3 - حفظ حيوية القلب وصفائه، فإن القلب يتأثر بكثرة رؤية المنكرات، وقد يألفها إذا لم ينكرها، وتذهب حساسية القلب تجاهها فلا يصير يتألم لرؤيتها. 4 - أن هذا الإنكار القلبي يعني الرفض للمنكر والتربص به، فصاحبه –أي الإنكار بالقلب- عازم على تغييره بمجرد استطاعته. قال سيد – رحمه الله -: وليس هذا موقفاً سلبياً من المنكر – كما يلوح في بادئ الأمر – وتعبير الرسول – صلى الله عليه وسلم بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته. فإنكار المنكر بالقلب معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر .. إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به .. وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع (المعروف) في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة .. وهذا كله عمل إيجابي في التغيير .. وهو على كل حال أضعف الإيمان. فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان، أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع. ولأن له ضغطاً – قد يكون ساحقاً – فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان، هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل ا. هـ (¬3). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 343 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4345)، والطبراني (17/ 139) (14033). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 484) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 716)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. (¬2) رواه مسلم (1854). (¬3) ((الظلال)) (6/ 259).

المبحث الخامس: الإنكار بالهجر

المطلب الأول: تعريف الهجر لغةً وشرعاً قال الجوهري: الهجر: ضد الوصل. والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية. والتهاجر: التقاطع. والهجرتان: هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة (¬1). والهجر الشرعي نوعان: الأول: بمعنى الترك للمنكرات. ومنه قوله تعالى وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [النساء: 140]. قال ابن كثير: أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه (¬2). ومنه قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68]. قال القرطبي -رحمه الله-: والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه وهو الصحيح. فإن العلة سماع الخوض في آيات الله وذلك يشملهم وإياه .. ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكراً علم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه (¬3). وورد في حديث جابر بن عبد الله -الطويل- وفيه (( .. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر)) (¬4) الحديث. ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم –عليه السلام- فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت: 26]. قال القرطبي: وهو أول من هاجر من أرض الكفر (¬5). وقال القرطبي أيضاً حول قوله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [الأنفال: 25]. قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها. وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم .. وبهذا قال السلف رضي الله عنهم (¬6). الثاني: الهجر على وجه التأديب والعقوبة، وهو هجر أهل المعاصي والمنكرات والمخالفات وهو بمنزلة التعزير، ويفعله إذا رآه أقوى في نفسية الفاعل من التغيير باليد واللسان أو إذا عجز عن التغيير باليد واللسان. فإذا أظهر الإنسان المكلف معصيته أو عرف بها وأصر عليها سواء أكانت هذه المعصية فعلية أم قولية أم اعتقادية فمن السنة هجره، فالهاجر يثاب عليه؛ لأنه من أجل الله تعالى. ¬

(¬1) ((الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية)) الجوهري (2/ 851). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 566، 567). (¬3) ((الجامع لأحكام القرآن)) م4 (7/ 12). (¬4) رواه الترمذي (2801) بلفظ: ((يدار عليهم الخمر)) بدلاً من ((يشرب عليها الخمر))، وأحمد (3/ 339) (14692)، والدارمي (2/ 153) (2092)، والحاكم (4/ 320)، وأبو يعلى في ((المسند)) (3/ 435) (1925)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 69) (2510). قال الترمذي: حسن غريب [فيه] ليث بن أبي سليم كان يرفع أشياء لا يرفعها غيره فلذلك ضعفوه، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬5) ((الجامع لأحكام القرآن)) م7 (13/ 339). (¬6) ((الجامع لأحكام القرآن)) القرطبي م4 (7/ 392) باختصار.

وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعباً وصاحبيه وأمر الصحابة بهجرهم خمسين يوماً. وهجر نساءه شهراً. وهجرت عائشة –رضي الله عنها- ابن أختها عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- مدة. ورد عن كعب بن مالك –وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- ((أنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين غزوة العسرة وغزوة بدر. قال: فأجمعت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، وكان قلما يقدم من سفر سافره إلا ضحى. وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا. فاجتنب الناس كلامنا. فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلى من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت الرسول صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلى علي فأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة .. )) (¬1) الحديث. فهذا الحديث يثبت هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة والصحابة لهم. ومن ناحية أخرى يثبت كيف كان لهذا الهجر الأثر الكبير في تركهم للمعروف وفعلهم للمنكر في ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج معه. وورد أن عائشة –رضي الله عنها- حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: ((والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها. فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم. قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة. فقالت: والله لا أشفع فيه أبداً ولا أتحنث إلى نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث –وهما من بني زهرة- وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي. فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى اتسأذنا على عائشة فقالا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا قالوا: كلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلكم –ولا تعلم أن معهم ابن الزبير- فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا كلمته وقبلت منه. ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال. فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد. فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة. وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها)) (¬2). وروي عن الإمام أحمد قال: إذا علم أنه مقيم على معصيته وهو يعلم بذلك لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكراً ولا جفوة من صديق (¬3). وورد عن سفيان الثوري أنه قال لعلي بن الحسن السليمي: إياك وما يفسد عليك عملك وقلبك، فإنما يفسد عليك قلبك أهل الدنيا وأهل الحرص وإخوان الشياطين الذين ينفقون أموالهم في غير طاعة الله، وإياك وما يفسد عليك دينك فإنما يفسد عليك دينك مجالسة ذوي الألسن المكثرين للكلام، وإياك وما يفسد عليك معيشتك، فإنما يفسد عليك معيشتك أهل الحرص وأهل الشهوات، وإياك ومجالسة أهل الجفاء، ولا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي، ولا تصحب الفاجر ولا تجالسه ولا تجالس من يجالسه، ولا تؤاكله ولا تؤاكل من يؤاكله ولا تحب من يحبه، ولا تفشي إليه سرك ولا تبتسم في وجهه ولا توسع له في مجلسك فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد قطعت عرى الإسلام. وإياك وأبواب السلطان وأبواب من يأتي أبوابهم وأبواب من يهوى هواهم، فإن فتنتهم مثل فتنة الدجال ... (¬4). فمن خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار يتبين لنا مشروعية الهجر، وأنه سنة يثاب عليها الإنسان إذا كان ذلك لله تعالى. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة لعبد العزيز المسعود – ص 530 ¬

(¬1) رواه البخاري (4677). (¬2) رواه البخاري (6074). (¬3) ((الآداب الشرعية في المنح المرعية)). ابن مفلح (1/ 258). (¬4) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) م4 (7/ 47).

المطلب الثاني: أنواع الهجر

المطلب الثاني: أنواع الهجر النوع الأول: الهجر كلية. ويكون ذلك للكفار فلا يجالسهم ولا يسلم عليهم ولا يؤاكلهم ولا يشاربهم فلا علاقة معهم مطلقاً. يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [الممتحنة: 1]. ويقول تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22] الآية. وغير ذلك من النصوص التي تفيد وجوب هجر الكفار وتركهم وعدم محبتهم مهما كانوا، حتى ولو كانوا من الأقربين. النوع الثاني: هجر كلي لمدة مؤقتة كشهر أو شهرين أو أقل أو أكثر حسب ما تقتضيه مصلحة صلاحه. كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته مع الثلاثة الذين خلفوا. ولما ورد في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ [المائدة: 78 - 81] إلى قوله فاسقون)) (¬1). فهؤلاء ذمهم الله تعالى رغم أنهم أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ولكن لما أصروا على فعلهم لم يهجروهم بل آكلوهم وشاربوهم ولذلك عاتبهم الله. النوع الثالث: هجر جزئي كأن يهجره في بعض جوانب التعامل فقط. مثل هجر الزوجة في المنام فقط لتأديبها. يقول تعالى: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء: 34]. والهجر: أن يوليها ظهره فلا ينام معها في فراش أو تحت لحاف واحد (¬2). وفي المسند عن حكيم بن معاوية عن أبيه في حديثه الطويل قلت: ((ما حق زوجة أحدنا عليه قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت)) (¬3). الحديث. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة لعبد العزيز المسعود – ص 535 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4336)، ورواه الترمذي (3047)، وابن ماجه (799)، وأحمد (1/ 391) (3731). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن غريب، وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 194): إسناده ثقات، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه عندهم، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (5/ 268): إسناده ضعيف، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن أبو داود)). (¬2) انظر: ((الكشاف)) الزمخشري م1 (1/ 244). (¬3) رواه أبو داود (2142)، وابن ماجه (1850)، وأحمد (4/ 447) (20027)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 373) (9171). والحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه النووي في ((رياض الصالحين)) (149) وابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/ 301) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 277)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.

المطلب الثالث: أقسام الناس بالنسبة للهجر

المطلب الثالث: أقسام الناس بالنسبة للهجر تختلف منزلة الناس من حيث المعصية فبعضهم كافر أو يصل إلى درجة الكفر، وبعضهم مبتدع وبعضهم عاص أو مخالف، إلى غير ذلك من هذه الأنواع، فالمسلم يجب أن يكون موقفه منهم بحسب معصيتهم، وسوف نورد أقسام الناس من حيث المعصية على النحو التالي: القسم الأول: الكافر: فهذا يقاطع بالكلية وقد تحدثنا عن ذلك وذكرنا الأدلة عليه. القسم الثاني: مبتدع: والمبتدع ينقسم إلى قسمين: أ- مبتدع يدعو إلى بدعته، فهذا يجب هجره ومقاطعته. قال الإمام أحمد –رحمه الله-: ويجب هجر من كفر أو فسق ببدعة أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة على من عجز عن الرد عليه أو خاف الاغترار به دون غيره، وقيل: يجب هجره مطلقاً وهو ظاهر كلام الإمام أحمد -رضي الله عنه- السابق. وقطع ابن عقيل به في معتقده قال: ليكون ذلك كسراً له واستصلاحاً (¬1). وقال الخلال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري أن أبا عبد الله سئل عن رجل له جار رافضي يسلم عليه؟ قال: لا وإن سلم لا يرد عليه (¬2). وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار تفيد ذلك منهما: ما رواه جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله. إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم)) (¬3). وروى الإمام أحمد بسنده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)) (¬4). وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية)) (¬5). وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم وهم شيعة الدجال .. )) (¬6) الحديث. وفي رواية لأبي داود أيضاً ((وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) (¬7). فهذه الأحاديث تفيد مقاطعة أهل البدع والضلالات والأهواء الذين يدعون إليها ويصرون عليها. ¬

(¬1) ((الآداب الشرعية)) ابن مفلح (1/ 268). (¬2) ((الآداب الشرعية)) ابن مفلح (1/ 268). (¬3) رواه ابن ماجه (75)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (328)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 368) (4455). صححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) دون جملة التسليم. (¬4) رواه أحمد (1/ 30) (206)، والحديث رواه أبو داود (4710)، وابن حبان (1/ 280) (79). والحديث سكت عنه أبي داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 104) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 112)، وصححه الحكمي في ((معارج القبول)) (3/ 957). (¬5) رواه الترمذي (2149)، وابن ماجه (10). قال الترمذي: وهذا حديث غريب حسن صحيح، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (1/ 13): إسناده ضعيف، وقال ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 100): غريب، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)). (¬6) رواه أبو داود (4692)، وأحمد (5/ 406) (23503)، والبيهقي (10/ 203) (21392). والحديث سكت عنه أبو داود، وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع الصغير)) (4712). (¬7) رواها أبو داود (4691)، وأحمد (2/ 86) (5584)، والبيهقي (10/ 203) (21391). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (8/ 224): والراجح عندي أنه صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

ب- المبتدع العامي: وهو الجاهل بالبدعة التي اعتنقها فمثل هذا لا يقاطع بل يتابع ويبين له الحق ويوضح له بالسبل المناسبة لتفكيره فربما كانت عودته سهلة؛ لأن ميول الجاهل في الغالب عاطفية. وإن أصر للمرة الأولى والثانية فتواصل معه المحاولة فلعله يرجع وإن أصر بعد ذلك فيتبع بهم الهجر. قال الغزالي: المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به فأمره أهون فالأولى أن لا يقابح بالتغليظ والإهانة، بل يتلطف به في النصح فإن قلوب العوام سريعة التقلب. فإن لم ينفع النصح وكان الإعراض عنه تقبيحاً لبدعته، تأكد الاستحباب في الإعراض (¬1). 3 - القسم الثالث: مرتكب الكبيرة: فهذا يهجر حتى يدع تلك الكبيرة، ويكون هجره كلياً من قبل الشخص أو الأشخاص الذين يعلمون بفعله. 4 - القسم الرابع: مرتكب الصغيرة ويكون هجره جزئياً في بعض جوانب الحياة. 5 - القسم الخامس: هجر المجتهد المخطئ في اجتهاده كأن يفعل أمراً يعلم أنه مخطئ فيه ولكن خوفه من السلطان جعله يتأول أو يعرض وينجو من السلطان وقد هجر الإمام أحمد -رضي الله عنه- جماعة ممن أجابوا في المحنة مثل يحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما مع فخامة شأنهم (¬2). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة لعبد العزيز المسعود – ص 538 ¬

(¬1) انظر: ((إحياء علوم الدين)) الغزالي، مراتب الذين يبغضون في الله وكيفية معاملتهم (2/ 169، 170). (¬2) انظر: ((غذاء الألباب)) السفاريني (1/ 257، 258).

المطلب الرابع: الهجر المحرم

المطلب الرابع: الهجر المحرم الهجر من الأمور الكبيرة. لذلك لا يجوز لمسلم أن يهجر أخاه المسلم إلا إذا تبين بحق أنه يستحق الهجر. وأما إذا كان مسلماً عدلاً في اعتقاده وأقواله وأفعاله، فإنه لا يجوز هجره بحال. وقد جاء النهي عن ذلك صريحاً في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها: ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) (¬1). ورواه مسلم بنفس اللفظ وزاد في رواية ((فيصد هذا ويصد هذا)) (¬2) وفي رواية أخرى ((ثلاثة أيام)) (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا. أنظروا هذين حتى يصطلحا وفي رواية إلا المتهاجرين)) (¬4). فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في تحريم الهجر إذا لم يكن له مبرر شرعي. فعلى المسلمين أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر فيما يحل ويحرم. فباب الهجر عظيم. فهو الذي يبين قوة الإيمان من ضعفه. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص: 541 ¬

(¬1) رواه البخاري (6065)، ومسلم (2558). (¬2) رواه مسلم (2560). من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (2561). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (2565).

المبحث السادس: التغيير على الملوك والأمراء

تمهيد مما لا شك فيه أن في صلاح الراعي صلاحاً للرعية، حيث إن للراعي سلطة وقوة ونفوذاً ليست بيد أحد من أفراد الرعية. وإذا كان المسؤول عن معظم الطوائف والجماعات والفئات صالحاً انعكس صلاحه على من تحته فما بالك بالسلطان. لذا فإنه ينبغي أن لا يتولى أمور المسلمين إلا من هو أهل لذلك ممن يتصف بالتقوى والخوف من الله تعالى ومراقبته والقوة في الرأي والسداد والحكمة في المنطق، ولكن قد يتولى على المسلمين من ليس أهلاً لذلك فيذعن المسلمون له وللأمر الواقع نظراً لما يترتب على ذلك من جلب المصالح ودفع المفاسد. ولكن على أي الحالين فلابد أن يسعى العلماء والمصلحون إلى بذل جميع الأسباب إلى إصلاح الراعي وتذكيره ونصحه، والسعي لإصلاح من حوله. انطلاقاً من توجيهات الشرع. يقول صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة –ثلاثاً- قلنا لمن يا رسول الله قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)) (¬1). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 543 ¬

(¬1) رواه مسلم (55). من حديث تميم الداري رضي الله عنه.

المطلب الأول: أدلة الإنكار على السلطان

المطلب الأول: أدلة الإنكار على السلطان ورد عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم)) (¬1). وعن طارق بن شهاب أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز، أي الجهاد أفضل؟ قال: ((كلمة حق عند سلطان جائر)) (¬2). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يحقرن أحدكم نفسه، أن يرى أمر الله عليه فيه مقال ثم لا يقوله فيقول الله: ما منعك أن تقول فيه فيقول: رب خشيت الناس فيقول: وأنا أحق أن يخشى)) (¬3). فهذه النصوص وغيرها من الأحاديث تبين الوقوف أمام السلاطين، وقول كلمة الحق عندهم، وأنه إذا حصل لهم شيء يكرهونه بسبب هذا الأمر فهو في ذات الله وهم مأجورون عليه. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص: 548 ¬

(¬1) رواه البخاري (7199)، ومسلم (1840). (¬2) رواه النسائي (7/ 161)، وأحمد (4/ 315) (18850)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 93) (7582). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 229)، والنووي في ((رياض الصالحين)) (117)، والسفاريني الحنبلي في ((شرح كتاب الشهاب)) (559)، والشوكاني في ((الفتح الرباني)) (11/ 5446): إسناده صحيح. (¬3) رواه ابن ماجه (4008)، وأحمد (3/ 3) (11273)، والبيهقي (10/ 90) (19971). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (4/ 182): إسناده صحيح، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 231): رواته ثقات، وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (162)، وقال الشوكاني في ((الفتح الرباني)) (11/ 5448): رجال إسناده ثقات.

المطلب الثاني: كيفية الإنكار على السلطان

المطلب الثاني: كيفية الإنكار على السلطان إذا كان المحتسب عليه من الولاة الذين يحكمون بشرع الله فإن لأهل السنة منهجاً في التعامل معهم .. فلا يرون التشهير بهم على المنابر والمجامع العامة لما يوقع ذلك من الفتنة .. وقد قيل لأسامة بن زيد –رضي الله عنه- (ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟! فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم!! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه) (¬1). وفي لفظ للبخاري: (إنكم لترون أني لا أكلمه! إلا أسمعكم؟! إني أكلمه في السر ... ) (¬2). وقال ابن أبي عاصم (باب كيف نصيحة الرعية للولاة) ثم أخرج بسنده عن شريح بن عبيد قال: قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم: ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه وإلا كان قد أدى ما عليه)) (¬3). وأخرج أحمد بسنده عن سعيد بن جهمان قال: (أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه .. قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم. قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: ويحك يا ابن جهمان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه) (¬4) وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله- لا يحدث بالأحاديث التي توهم بجواز الخروج على الأئمة. وقال ابن القيم –رحمه الله-: (ومن دقيق الفطنة: أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ، وذلك خطأ ثان، ولكن تلطف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره) ا. هـ (¬5). وقال النووي عند كلامه على حديث أسامة: (يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان –رضي الله عنه- وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقوله الناس فيهم لينكفوا عنه. وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يكن الوعظ سراً والإنكار، فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق) (¬6) ا. هـ. ولا يفهم من هذا ترك إنكار المنكرات المتفشية .. رسمية كانت أو غير رسمية .. كما لا يعني هذا عدم فضح خطط الفساد والمفسدين .. وكشف أحابيلهم ومكائدهم. أما الولاة الذين لا يحكمون بالشرع ويحاربون الإسلام وأهله فإن لكل حالة لبوسا. ... إليك بعض النماذج مما حفظه لنا التاريخ من إنكار أهل العلم ومن سلك سبيلهم على ذوي النفوذ من السلاطين وأعوانهم: النموذج الأول: خبر أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- مع مروان حينما أراد مروان أن يخطب يوم العيد قبل الصلاة. والقصة مشهورة. النموذج الثاني: نقل ابن كثير –رحمه الله- أن الحجاج خطب يوماً فقال: (إن ابن الزبير غير كتاب الله. فقال ابن عمر: ما سلطه الله على ذلك، ولا أنت معه، ولو شئت أقول: كذبت لفعلت) (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم (2989). (¬2) رواه البخاري (3267). (¬3) رواه أحمد (3/ 403) (15369)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (3/ 102) (910)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (2/ 94) (977). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 232): رواه أحمد ورجاله ثقات، إلا أني لم أجد لشريح من عياض وهشام سماعاً وإن كان تابعياً، وصححه الألباني في ((تخريج كتاب السنة)). (¬4) رواه أحمد (4/ 382) (19434). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 235): رجال أحمد ثقات، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (542). (¬5) ((الطرق الحكمية)) (ص: 54). (¬6) ((النووي على مسلم)) (9/ 18/118). (¬7) ((البداية والنهاية)) (9/ 121)، ((نزهة الفضلاء)) (1/ 260).

النموذج الثالث: قام ابن عمر إلى الحجاج وهو يخطب فقال: يا عدو الله! استحل حرم الله، وخرب بيت الله، فقال: يا شيخاً قد خرف فلما صدر الناس أمر الحجاج بعض مسودته فأخذ حربة مسمومة وضرب بها رجل ابن عمر فمرض ومات منها ودخل عليه الحجاج عائداً فسلم فلم يرد عليه وكلمه فلم يجبه (¬1). النموذج الرابع: جاء في ((البداية والنهاية)): أن الحجاج أطال الخطبة، فجعل ابن عمر يقول: الصلاة الصلاة، مراراً. ثم قام فأقام الصلاة، فقام الناس، فصلى الحجاج بالناس، فلما انصرف قال لابن عمر: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنما نجيء للصلاة، فصل الصلاة لوقتها ثم تفتق ما شئت بعد من تفتقه (¬2). النموذج الخامس: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن يوسف بن ماهك قال: (كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي [الأحقاف: 17]. فقالت عائشة من وراء حجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري) (¬3). وقد جاءت مقالة عبد الرحمن مفسرة في بعض الروايات ففي بعضها: (ما هي إلا هرقلية) وفي رواية (سنة هرقل وقيصر) بعد أن قال مروان: (سنة أبي بكر وعمر) وفي رواية: (أجئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم؟) وفي رواية (هرقلية؟ إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا في أهل بيته .. ) قال ذلك بعد أن قال مروان: (إن يستخلف فقد استخلف أبو بكر وعمر) (¬4). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت - بتصرف– ص 279 ¬

(¬1) ((نزهة الفضلاء)) (1/ 259). (¬2) ((البداية والنهاية)) (9/ 121) ((نزهة الفضلاء)) (1/ 260). (¬3) رواه البخاري (4827). (¬4) انظر هذه الروايات في ((الفتح)) (8/ 577).

المبحث السابع: تغيير الابن على والده

المبحث السابع: تغيير الابن على والده لقد جعل الله سبحانه وتعالى للوالدين حقوقاً كثيرة وكبيرة فمهما عمل الولد تجاه والديه فإنه لا يعتبر موفياً حقوقهما بل ولا جزءاً منها. والدليل على ذلك أن الله –سبحانه وتعالى- قرن طاعته بطاعتهم قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23 - 24]. قال القرطبي –رحمه الله- أمر الله –سبحانه- بعبادته وتوحيده وجعل بر الوالدين مقروناً بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14] وقال: والبر بهما والإحسان إليهما أن لا يتعرض لسبهما ولا يعقهما فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف (¬1). وقد ورد في صحيح البخاري أن عبد الله سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ فقال: ((الصلاة على وقتها. قال ثم أي؟ قال: بر الوالدين)) (¬2) الحديث. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك)) (¬3). وعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله حرم عقوق الأمهات)) (¬4) الحديث. وعن أبي بكرة عن أبيه –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين .. )) (¬5) الحديث. فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على عظمة حقوق الوالدين، فقبل أن يقدم على أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر عليه أن يضع قاعدة طاعتهما وحقوقهما نصب عينيه. وكون لهما هذه الحقوق العظيمة فإن ذلك لا يعني ولا يمنع من أن يأمرهما بالمعروف وينهاهما عن المنكر، فهما من جملة من أمر الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، إلا أنه بناء على الحقوق التي جعلها الله لهما فإنه يجب أن يكون هناك أسلوب خاص عند أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص 556 فعلى المحتسب أن يراعي عند الاحتساب على الوالدين زيادة الرفق بهما والتلطف لهما .. وأن لا يتعدى ذلك إلى الشتم أو الضرب مثلاً (¬6). سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل له والدة تسيء الصلاة والوضوء؟ قال: يأمرها ويعلمها، قال: تأبى أن يعلمها، تقول: أنا أكبر منك تعلمني! قال فترى له أن يهجرها أو يضربها على ذلك؟ قال: لا، ولكن يعلمها ويقول لها، وجعل يأمره أن يأمرها بالرفق (¬7). هذا وإن على المحتسب على الوالدين ملاحظة أمرين: الأول: أن يفرق بين ما إذا كان المنكر متعلقاً بشخص أحد الوالدين فإنه ليس له ضربه ولا تقبيحه. الثاني: إن كان المنكر غير متعلق بشخصهما، وإنما كان تعلقه بالدار أو المال أو المركب، ففي هذه الحال عليه أن ينظر إلى نوع هذا المنكر وحجمه ومدى أثره وإثمه، بالإضافة إلى النظر إلى ما يترتب على إزالته له من سخط الوالد أو الوالدة .. فإن كان لا يترتب على إزالته مفسدة أعظم، أزاله وإلا فلا. ومثل هذا يقال في احتساب الزوجة على زوجها، والعبد مع سيده، بخلاف التلميذ مع شيخه فإنه يعامله بموجب علمه لأنه لا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه (¬8). وهذا الإحسان والرفق مطلوب حتى مع الأبوين الكافرين كما قال تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15]. مع مراعاة أصل الولاء والبراء. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص 274 ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) م5 (10/ 238). (¬2) رواه البخاري (527)، ورواه مسلم (85). (¬3) رواه البخاري (5971)، ومسلم (2548). (¬4) رواه البخاري (2408)، ومسلم (593). (¬5) رواه البخاري (5976)، ومسلم (87). (¬6) انظر: ((الآداب الشرعية)) (1/ 449 - 450)، ((الفروق)) للقرافي (4/ 256). (¬7) ((مسائل الإمام أحمد)) لأبي داود (ص: 279). (¬8) انظر: ((تنبيه الغافلين)) لابن النحاس (ص: 70 - 71).

المبحث الثامن: إنكار الوالدين على الولد

المطلب الأول: إنكار الوالد على أولاده أما إنكار الوالد على الولد فهو من الأمور التي نص عليها الشرع وأكد عليها. يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]. يقول الزمخشري: قوا أنفسكم بترك المعاصي وفعل الطاعات. بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم (¬1). ويقول سيد قطب –رحمه الله- حول هذه الآية: (إنها تبعة المؤمن في نفسه وفي أهله ثقيلة رهيبة. فالنار هناك وهو متعرض لها هو وأهله وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون هذه النار التي تنتظر هناك ... ) (¬2). فهذا أمر من الله تعالى يتضمن معنى النصيحة بأن يبذل الإنسان جهده في إصلاحه نفسه وأهله حتى يحول صلاحه نفسه وأهله دون النار. وورد في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (¬3). فهذا الحديث العظيم يبين مسؤولية الرجل تجاه أولاده بل تجاه أسرته. وورد عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع)) (¬4). وجاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن)) (¬5). وروى أبو داود في سننه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها)) (¬6). وفي رواية ((مروا أولادكم بالصلاة ... )) (¬7). فهذه الأحاديث كلها تبين مسؤولية الوالد تجاه أبنائه فعليه أن يتقي الله ويحسن تربيتهم، فهي أمانة في عنقه وعليه أن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ومن أهم المعروف ربطهم بالمساجد وحلق الذكر وتعليم القرآن وربطهم بالشباب الصالح الأتقياء الذين يدلونهم على كل خير ويحذرونهم من كل شر. وعليه أن ينهاهم عن المنكر. ومن أعظم المنكرات اتصالهم بالشباب الفاسد المنحرف الذين يدلونهم على كل شر ويبعدونهم من كل خير. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة لعبد العزيز المسعود – ص 560 ¬

(¬1) ((تفسير الكشاف)) م3 (6/ 130). (¬2) ((في ظلال القرآن)) (6/ 3618). (¬3) رواه البخاري (7138)، ومسلم (1829). (¬4) رواه الترمذي (1951)، وأحمد (5/ 96) (20938). قال الترمذي: غريب [فيه] ناصح أبو العلاء ليس عند أهل الحديث بالقوي، وقال ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 427): فيه ناصح الكوفي ضعيف، وضعفه المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (5/ 364)، والألباني في (ضعيف سنن الترمذي). (¬5) رواه الترمذي (1952)، والحاكم (4/ 292)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 398) (8651). قال الترمذي: غريب مرسل، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وخالفه الذهبي وقال: بل مرسل ضعيف، وقال ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 428)، والمباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (5/ 365): مرسل، وضعفه الألباني في ((ضعيف سنن الترمذي)). (¬6) رواه أبو داود (494). من حديث سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن رجب في ((فتح الباري)) (5/ 292): رويت من وجوه متعددة، أجودها، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح. (¬7) رواها أبو داود (495). عن جد عمرو بن شعيب رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال النووي في ((المجموع)) (3/ 10): إسناده حسن، وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (3/ 238)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن صحيح.

المطلب الثاني: إنكار الأم على أولادها

المطلب الثاني: إنكار الأم على أولادها ولا ننسى أن للمرأة دوراً كبيراً في تربية أولادها، وحتى مع وجود والدهم؛ لأن المرأة جالسة في البيت طيلة الوقت بخلاف الرجل فهي تعرف أموراً لا يعرفها الرجل، فعليها أن تتقي الله وتحسن تربية أولادها وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتنفذ خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي خاطبها به بقوله: ((والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم)) (¬1). فهذا نص صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن المرأة مسؤولة عن تربية أولادها وإصلاحهم. يقول أبو بكر الجصاص حول قول الله تعالى عن أم مريم –عليها السلام-: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران: 35]. يقول: يدل على أن للأم ضرباً من الولاية على الولد في تأديبه وتعليمه وإمساكه وتربيته، لو أنها لا تملك ذلك لما نذرت في ولدها (¬2). الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة لعبد العزيز المسعود – ص 562 ¬

(¬1) جزء من حديث رواه البخاري (7138)، ومسلم (1829). (¬2) ((أحكام القرآن)) (1/ 12).

المبحث التاسع: تغيير الزوجة على زوجها

المبحث التاسع: تغيير الزوجة على زوجها تغيير الزوج على الزوجة واضح الدلالة في الكتاب والسنة. وهو مقبول شرعاً وعقلاً للقوامة التي جعلها الله للرجل على المرأة. يقول تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء [النساء: 34]. يقول الجصاص: (قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة) (¬1). ولكن الذي يحتاج إلى توضيح هو (تغيير الزوجة على الزوج) فنقول: كثيراً من الزوجات تبلى بزوج غير صالح، فإما أن يكون من التاركين لصلاة الجماعة أو الصلاة كلية وقد يكون مبتلى بشرب المسكرات والمخدرات وغير ذلك. فما هو موقف الزوجة من ذلك؟ لا شك أن الزوجات يختلفن –أيضاً- كالرجال صلاحاً وفساداً قوة وضعفا، فبعض النساء تكون مستسلمة لزوجها العاصي وحتى لو كانت صالحة فهي ساكتة عنه تراه يفعل المنكرات صباح مساء ولا تنكر عليه، بل ربما كانت تهيئ له الجو لفعل ذلك. وبعضهن تنكر تارة وتسكت أخرى وتغضب تارة وترضى بعدها. والواجب على كل زوجة أن تتقي الله تعالى وتعرف أنها مسؤولة عن إصلاح زوجها بقدر المستطاع. فتنظر إلى المنكرات التي يفعلها زوجها فإن كانت صغائر أو غير مكفرة تحاول معه وتكثر المحاولة وتستخدم الأساليب الجيدة التي تراها تناسب زوجها وينقاد معها فيها وكل امرأة أعرف بظروف زوجها، وأما إذا كانت المنكرات مكفرة كترك الصلاة كلية فعليها أن تبين أحكام الصلاة له وحكم تاركها وتبين أن العلاقات الزوجية لا تصلح معه دون الصلاة وتحاول مرة بعد مرة فإن أصر استعانت بأهلها وأهله، فإن أصر على ذلك فلها الحق أن تطلب الطلاق. والشرع يطلقها منه ولو لم يرض إذا ثبت فعلاً أنه لا يصلي البتة. وفي الغالب إذا كانت المرأة حكيمة وقوية في نفس الوقت وقد ملأت قلب الرجل حباً في إخلاصها ووفائها وخوفها من ربها وطاعتها فإنه لا يعصي لها أمراً. فعليها أن تقوم بما يجب حياله حتى تكون مسموعة الكلمة. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص: 563 ¬

(¬1) ((أحكام القرآن)) (2/ 229).

المبحث العاشر: شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الشبهة الأولى: وجوب ترك الاحتساب بحجة تعارضه مع الحرية الشخصية يقول بعض الناس: يجب علينا أن نترك الناس وشأنهم ولا نتدخل في شؤونهم الخاصة بأمرهم بالمعروف الذي لا يرغبون في فعله، ونهيهم عن المنكر الذي يرغبون فيه، لأن هذا يتعارض مع (الحرية الشخصية الثابتة في الإسلام). ويستدل هؤلاء على صحة رأيهم بقوله عز وجل: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 256]. كشف النقاب عن حقيقة هذه الشبهة: سنبين بعون الله تعالى حقيقة هذه الشبهة ضمن العناوين التالية: 1 - عدم وجود (الحرية الشخصية) المزعومة. 2 - المفهوم الإسلامي للحرية الشخصية. 3 - الخطأ في فهم الآية: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. 4 - ثبوت وجوب الحسبة بنصوص الكتاب والسنة. 5 - قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بالاحتساب. 6 - تشريع الحدود والتعزيزات ينقض الشبهة. أولاً: عدم وجود (الحرية الشخصية) المزعومة: لنا أن نسأل أصحاب هذا القول: أين تلك (الحرية الشخصية) المزعومة؟. أفي مشارق الأرض أم في مغاربها؟ هل وجدتموها في أنظمة شرقية أم في أنظمة غربية؟ كلا، لا عند هؤلاء، ولا عند أولئك. يطالب المرء بالخضوع والامتثال لقواعد وأنظمة على رغم أنفه حيثما حل وارتحل. هل يسمح لأحد في الشرق أو الغرب أن يعبر التقاطع والإشارة حمراء؟ هل يعطي في الغرب لأحد حق بناء بيت بماله الذي اكتسبه بكد جبينه على الأرض التي اشتراها بخالص ماله كيفما شاء من غير مراعاة الضوابط التي وضعتها أمانة تلك المدينة التي هو فيها؟ والأمر في الشرق أدهى وأمر، ليس له أن يملك بيتا. ثانيا: المفهوم الإسلامي للحرية الشخصية: الحرية الشخصية التي منحها الإسلام للعباد هي أنه أخرج العباد من عبودية العباد، ولا يعني هذا إخراجهم من عبودية رب العباد. ما أحسن ما عبر القرآن الكريم عن هذا: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمر: 29]. فالمطلوب في الإسلام أن يتحرر العبد من كل من سوى الله ويصير عبداً منقاداً مطيعاً مستسلما لله الواحد الخالق المالك المدبر. وهذا ما عبر عنه سيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه مجيباً على سؤال رستم بقوله: (الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله) (¬1). ومن النصوص التي تدل على أن المؤمنين مطالبون بالاستسلام لله تعالى والعمل بجميع أوامره وترك جميع نواهيه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 208]. يقول الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: (يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك) (¬2). وبين المولى عز وجل أنه لا يبقى لمؤمن ولا مؤمنة أدنى خيار بعد مجيء أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36]. ¬

(¬1) انظر ((تاريخ الطبري)) (3/ 520)، و ((البداية والنهاية)) (7/ 39). (¬2) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (1/ 185).

وصور لنا السميع البصير مبادرة المؤمنين إلى امتثال أوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول عز من قائل: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [النور: 51]. فأين أصحاب (الحرية الشخصية) المزعومة من أولئك؟ ثالثا: الخطأ في فهم الآية: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ: ليس معنى الآية بأن للناس كلهم فعل ما يشاؤون وترك ما يشاؤون، وليس لأحد إلزامهم على فعل الخير الذي تركوه أو اجتناب الشر الذي فعلوه، بل المراد بالآية – والله أعلم بالصواب – كما يقول الحافظ ابن كثير: (أي لا تكرهوا أحد على الدخول في الإسلام) (¬1). وحتى هذا ليس لغير المسلمين كلهم بل رجح كثير من المفسرين بأن هذا الحكم خاص بأهل الكتاب ومن شابههم. وأما عبدة الأوثان من مشركي العرب ومن شابههم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال معهم. وفي هذا يقول الإمام ابن جرير الطبري بعد نقله أقوالاً مختلفة في تفسير الآية: (وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاص من الناس – وقال: عني بقوله تعالى ذكره: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ أهل الكتاب والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه) (¬2). ثم يقول مبينا سبب ترجيح هذا القول: (وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الإسلام قوماً فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبد الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه، وإقراره، على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم) (¬3). قد آن لنا أن نسأل أصحاب هذه الشبهة: أيهود أنتم أو نصارى، فيكتفى بقبول الجزية منكم، فلا يأمركم أحد بمعروف تتركونه ولا ينهاكم عن منكر تفعلونه؟ رابعاً: ثبوت وجوب الحسبة بنصوص الكتاب والسنة: إن هؤلاء أخذوا آية واحدة وحاولوا تأويلها وفق أهوائهم, وتجاهلوا تلك النصوص الكثيرة الصريحة الواضحة التي لا تترك مجالاً للشك والتردد في فرضية الحسبة. أين هؤلاء من تلك النصوص التي وردت فيها صيغة أمر للقيام بالاحتساب، وصيغة نهي للمنع عن تركه؟ وذلك مثل قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم)) (¬4). ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يمنعن رجلاً منكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه وعلمه)) (¬5). ¬

(¬1) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (1/ 231). (¬2) ((تفسير الطبري)) (5/ 414). (¬3) ((تفسير الطبري)) (5/ 414 - 415). (¬4) رواه ابن ماجه (3251) واللفظ له، وابن حبان (1/ 526) (290)، والبيهقي (10/ 93) (20695)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6/ 377) (6665). وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬5) رواه أحمد (3/ 44) (11421)، وأبو يعلى (2/ 419) (1212)، وابن حبان (1/ 509) (275)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 99). والحديث صحح إسناده ابن حجر على شرط مسلم في ((الأمالي المطلقة)) (163).

وكيف يؤول هؤلاء النصوص التي قرن الإيمان فيها بالاحتساب، فحكم فيها بقوة الإيمان وضعفه مع قوة الاحتساب وضعفه؟ وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (¬1). وبماذا يفسر هؤلاء تلك النصوص التي تجعل (التواصي بالحق) من شروط نيل الفوز والفلاح؟ وذلك مثل قوله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1 - 3]. وكيف يتجرأ هؤلاء على تحريف النصوص التي وعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهما بالعذاب على ترك الاحتساب؟ وذلك مثل قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ [الأنفال: 25]. ألا يستحي هؤلاء من تكذيب ما أخبر به من هو أكبر شيء شهادة وأصدق قيلاً عن نزول اللعنة على ترك الاحتساب؟ وذلك في قوله عز من قائل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة: 78 - 79]. أليس في هذا وذاك ما يمنع هؤلاء من القول: (إن الاحتساب يتعارض مع الحرية الشخصية الثابتة في الإسلام؟) فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ خامسا: قيام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالاحتساب: لنا أن نسأل أصحاب هذا القول: على من أنزلت الآية: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ؟ أعليكم أنزلت أم على سيد الأولين والآخرين, إمام الأنبياء وقائد المرسلين صلى الله عليه وسلم؟ أأنتم أعلم بمرادها أم هو الذي أسند إليه أمر بيان المنزل؟ يقول تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]. وهل أمر عليه الصلاة والسلام الناس بالمعروف, ونهاهم عن المنكر, أم تركهم وشأنهم مراعياً مبدأ الحرية الشخصية المخترعة؟ لقد قام صلى الله عليه وسلم بالاحتساب في البيت والشارع، وفي المسجد والسوق، وفي الحضر والسفر، وفي الحرب والسلم. ويغنينا في هذا المقام عن ذكر أمثلة احتسابه وصف أصدق القائلين اللطيف الخبير له بقوله: يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ [الأعراف: 157]. ونستفسر أصحاب هذه الشبهة أيضاً: أمرنا باقتداء من؟ أأمرنا باقتداء من اتخذ إلهه هواه؟ أم أمرنا بالتأسي بمن كان آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر؟ تعالوا، فلنقرأ جميعاً قول الباري سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. سادساً: تشريع الحدود والتعزيرات ينقض هذه الشبهة: ماذا سيكون موقف هؤلاء من الحدود والتعزيرات التي شرعت لمعاقبة مرتكبي بعض الجرائم؟ أيردون تلك النصوص الثابتة الصريحة التي جاء فيها بيانها؟ ومن تلك النصوص – على سبيل المثال – ما جاء فيها من عقوبة الزاني: ((البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)) (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (1690).

وما جاء فيها عمن تزوج امرأة أبيه عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه قال: ((بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أضرب عنقه، وأصفي ماله)) (¬1). وما جاء عمن عمل عمل قوم لوط عليه السلام: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) (¬2). وما بينه الناطق بالوحي الأمين الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن حكم من ارتد عن الإسلام بقوله: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (¬3). ولو كان لمبدأ الحرية الشخصية المختلفة أساس في الإسلام كما يدعي أولئك ما كان مرتكبو هذه الجرائم ليجلدوا ويغربوا, أو يجلدوا ويرجموا، أو يقتلوا، وكان لهم أن يحتجوا: (هذا ما يخصنا نحن، وليس لأحد حق التدخل في شؤوننا الخاصة). بهذا يتضح بعون الله تعالى بطلان رأي من قال بترك الاحتساب بحجة منافاته للحرية الشخصية. شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفضل إلهي– ص: 6 ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (2129). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 71): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. (¬2) رواه أبو داود (4462)، والترمذي (1456)، وابن ماجه (2091)، وأحمد (1/ 300) (2732). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (6/ 502): مسند مرفوع، وهو أحسن ما في الباب، وقال ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (130): إسناده على شرط البخاري. (¬3) رواه البخاري (3017). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

الشبهة الثانية: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث لا يضرنا ضلال الضالين

الشبهة الثانية: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث لا يضرنا ضلال الضالين يقول بعض الناس: لا يجب علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث أمرنا الله تعالى بالاهتمام بأنفسنا وبين أنه لا يضرنا ضلال الآخرين واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105]. تبيين حقيقة الشبهة من جانبين: 1 - من الآية نفسها. 2 - بالنصوص الأخرى الواردة في الكتاب والسنة. أولاً: كشف النقاب عن حقيقة الشبهة من الآية نفسها: لو تدبر أصحاب هذه الشبهة في الآية نفسها لما نطقوا بها. اشترط الله تعالى لعدم إصابة الضرر بسبب ضلال الآخرين أن يكون الشخص مهتديا حيث قال تعالى: لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ولا يصير الشخص مهتديا إلا إذا أدى ما أوجبه الله عليه. ومما أوجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فالذي لا يقوم بهذا لا يكون مهتديا لأن فوات الشرط يستلزم فوات المشروط. وقد بين هذا بعض الصحابة والتابعين وكثير من المفسرين والعلماء القدامى والمتأخرين. فعلى سبيل المثال فقد نقل الإمام ابن جرير الطبري عن حذيفة رضي الله عنه في تفسير هذه الآية أنه قال: (إذا أمرتم ونهيتم) (¬1). كما نقل الإمام الطبري عن سعيد بن المسيب في تفسير الآية أنه قال: (إذا أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، لا يضرك من ضل إذا اهتديت) (¬2). ويقول الإمام أبو بكر الجصاص في تفسير الآية: (ومن الاهتداء اتباع أمر الله في أنفسنا وفي غيرنا، فلا دلالة فيها إذا على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). ويقول الإمام النووي: وأما قول الله عز وجل: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فمعناه: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم. وإذا كان كذلك، فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول. والله أعلم (¬3). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد: (والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال) (¬4). إضافة إلى ذلك بين بعض العلماء أن قوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ احفظوها والزموا صلاحها بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينزه عن القبائح والسيئات (¬5). ثانيا: تفنيد الشبهة بالنصوص الأخرى: وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تبين أنه مما يجب على الصالحين تجاه أعمال الآخرين السيئة تذكيرهم ومنعهم عنها. وإن لم يفعلوا هذا يوشك أن ينزل عليهم غضب الله فيدعونه فلا يستجيب لهم. ومن تلك النصوص قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام: 68 - 69]. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (11/ 148). (¬2) ((تفسير الطبري)) (11/ 148). (¬3) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (2/ 22) بتصرف يسير واختصار. (¬4) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 17). (¬5) نقلا عن ((تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) (7/ 45). وانظر أيضاً قول الإمام الحاكم في هذا الصدد في ((تفسير القاسمي)) (6/ 406).

بين الله تعالى أنه لا يجب على المتقين بسبب خوض من يخوض في آيات الله إلا شيء واحد، وهو: تذكيرهم. يقول القاضي البيضاوي: (وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه، ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم من الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها) (¬1). وإذا كان تذكير هؤلاء الأشرار يجب على المتقين فكيف يتصور مهتديا عند تركه هذا الواجب. ولذا يقول الشيخ ثناء الله الأمرتسري: (ومن جملة اهتدائكم تذكيرهم لقوله تعالى: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (¬2). ومن تلك النصوص أيضا قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ [الأنفال: 25]. يقول الحافظ الكلبي الغرناطي في تفسير الآية: (أي لا تصيب الظالمين، بل تصيب معهم من لم يغير المنكر، ولم ينه عن الظلم، وإن كان لم يظلم) (¬3). وسبيل الاتقاء من العذاب هو الإنكار على ظلم الظالمين كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: (أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعقاب) (¬4). هذا وقد بين أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطأ المستدلين بهذه الآية على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما كان قد سمع من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هذه الآية, فقد روى الإمام أبو داود عن قيس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) (¬5). ¬

(¬1) ((تفسير البيضاوي)) (1/ 306). وانظر أيضا ((تفسير أبي السعود)) (3/ 47). (¬2) ((تفسير القرآن بكلام الرحمن)) (ص: 103). (¬3) ((كتاب التسهيل)) (2/ 116)، وانظر أيضاً ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/ 846)، و ((التفسير الكبير)) (15/ 149)، و ((تفسير القرطبي)) (7/ 293)، و ((تفسير الجلالين)) (ص: 237)، و ((تفسير روح المعاني)) (9/ 129)، و ((أضواء البيان)) (2/ 171). (¬4) ((تفسير الطبري)) (13/ 474)، (رقم الأثر 5909). ويقول الحافظ ابن كثير بعد ذكره: وهذا تفسير حسن جداً. ((مختصر تفسير ابن كثير)) (2/ 96)، وانظر أيضاً ((تفسير القرطبي)) (7/ 391)، و ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 135)، و ((تفسير الجلالين)) (ص: 237). (¬5) رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، وأحمد (1/ 7) (29، 30)، وابن حبان (1/ 539) (304). قال الترمذي، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 208): صحيح، وصحح إسناده النووي في ((الأذكار)) (ص: 412)، وابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 193)، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند (1/ 36)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

ولا يقف الأمر عند نزول العذاب بسبب ترك الناس الآخرين فيما هم فيه من المنكرات والمعاصي, بل إن الله تعالى لا يستجيب دعاءهم إذا دعوه لكشف العذاب عنهم. فقد روى الإمام الترمذي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده, فتدعونه فلا يستجيب لكم)) (¬1). كل هذا يؤكد أن قول القائل: (علينا أن نهتم بأنفسنا لأنه لا يضرنا ضلال الآخرين) يخالف نصوص الكتاب والسنة. احتجاج أصحاب الشبهة بحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه: قد يحتج محتج فيقول: إن ما فسرت به الآية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا يتفق مع ما جاء في تفسيرها في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه من سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد روى الإمام أبو داود عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة – رضي الله عنه – فقلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ قال: أما والله! لقد سألت عنها خبيراً. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك – يعني بنفسك – ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر. للعامل فيهم أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)). وزادني غيره قال: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين منكم)) (¬2). الرد على الاحتجاج: نرد بعون الله تعالى على احتجاج هؤلاء بحديث أبي ثعلبة رضي الله عنه من وجهين: أولا: تحدث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف عن الأحوال الاستثنائية التي يؤجر العامل فيها أجر خمسين رجلاً من الصحابة، وذلك لشدتها، ومن المعلوم أن للظروف والأحوال الطارئة أحكامها ورخصها، ولا تثبت بها معارضة ما ثبت لعامة الأحوال من الأحكام. وفي هذا الصدد يقول الإمام أبو بكر بن العربي بعد ذكر حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه: (وذلك لعدم الاستطاعة على معارضة الخلق، والخوف على النفس أو المال من القيام بالحق. وتلك رخصة من الله عز وجل يسرها علينا، وفضله العميم آتانا) (¬3). ثانياً: هذه الرخصة التي نجدها في الحديث الشريف لا تدل على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في الظروف الاستثنائية، وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درجات. فإذا تعذر للمسلم القيام به باليد واللسان فعليه أن يقوم به بالقلب، وهذا لا يسقط في حال من الأحوال. وفي هذا يقول الإمام أبو بكر الجصاص: (وهذا لا دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر، لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة، وفرض النهي عن المنكر في مثل هذه الحال إنكاره بالقلب كما قال عليه السلام: ((فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)) (¬4). فكذلك إذا صارت الحال إلى ما ذكر كان فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب للتقية ولتعذر تغييره. وقد يجوز إخفاء الإيمان وترك إظهاره تقية بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان، قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106] فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬5). فخلاصة الكلام أنه ليس في الآية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ولا في حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه ما يدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بل يجب على كل مسلم أن يقوم به على قدر استطاعته. شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفضل إلهي - بتصرف– ص: 13 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2169)، وأحمد (5/ 391) (23375). قال الترمذي: حسن، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (7/ 357): حسن إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمر، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 484) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 358): إسناده جيد، وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 715): إسناده صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، وابن ماجه (801). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 212). (¬3) ((أحكام القرآن)) (2/ 710). (¬4) رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬5) ((أحكام القرآن)) (2/ 487).

الشبهة الثالثة: (ترك الحسبة بسبب التقصير والنقص)

الشبهة الثالثة: (ترك الحسبة بسبب التقصير والنقص) يقول بعض الناس: (حيث لا نقوم بكل ما أمرنا به ولا نجتنب كل ما نهينا عنه، لذا يجب علينا أن نهتم بأنفسنا بدل أمر الآخرين بالمعروف ونهيهم عن المنكر). واحتج أصحاب هذا القول بالمنقول والمعقول. أما المنقول فقالوا: ذم الله تعالى من أمر الناس بالمعروف ونسي نفسه، وذلك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ. كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء عاقبة هؤلاء. فقد روى الإمام البخاري عن أسامة رضي الله عنه قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يجاء بالرجل فيطرح في النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان!، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله)) (¬1). وأما المعقول فقالوا: فاقد الشيء لا يعطيه. من يستجيب لمن يأمر بمعروف ولا يأتيه، وينهى عن منكر ويأتيه؟ الرد على هذه الشبهة: ... 1 - سبب الذم هو: ترك المعروف وليس الأمر بالمعروف. 2 - ترك أحد الواجبين ليس مبرراً لترك الواجب الثاني. 3 - الأخذ بهذا القول يؤدي إلى تعطيل الاحتساب. 4 - عدم جدوى احتساب غير الكامل ليس بأمر دائم. أولا: سبب الذم هو: ترك المعروف وليس الأمر بالمعروف: هناك واجبان: 1 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2 - فعل المعروف وترك المنكر. وإن النصوص التي احتج بها أصحاب هذه الشبهة ليس فيها ذم بسبب القيام بالواجب الأول بل ذم بسبب ترك القيام بالواجب الثاني. لم ينكر فيها بسبب أمر الناس بالبر، ونهيهم عن المنكر، والتلفظ بالقول الطيب، بل إنما أنكر فيها بسبب نسيان الأنفس، وترك المعروف وارتكاب المنكر، وعدم الفعل وفق القول الطيب. فعلى سبيل المثال هناك طالب نجح في مادة (التفسير) ورسب في مادة (الحديث) هل يعقل توجيه اللوم بسبب النجاح في مادة التفسير؟ إنما يلام بسبب رسوبه في مادة الحديث. هذا، وقد صرح كثير من المفسرين رحمهم الله تعالى أن التوبيخ في تلك النصوص بسبب ترك المعروف وليس بسبب الأمر بالمعروف. فعلى سبيل المثال يقول الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ ... [البقرة: 44] الآية: (اعلم وفقك الله أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر) (¬2). ويقول الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: (وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له) (¬3). ثانيا: ترك أحد الواجبين ليس مبرراً لترك الواجب الثاني: إن الواجبين اللذين ذكرناهما ليس أحدهما شرطا للثاني فيكون ترك أحدهما مبرراً لترك الثاني. وهذا أمر واضح ندركه في كثير من الأمور. هل نقول لمن يحافظ على الصلوات ولا يصوم أن تركه الصوم مبرر لتركه الصلوات؟ وقد بين كثير من العلماء هذا الأمر. فعلى سبيل المثال يقول الإمام أبو بكر الجصاص: (وجب أن لا يختلف في لزمه البر والفاجر، لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيره. ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات، فكذلك من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المناكير فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (3267)، ورواه مسلم (2989). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (1/ 366). (¬3) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (1/ 59)، وانظر أيضاً ((تفسير البيضاوي)) (1/ 59)، و ((تفسير أبي السعود)) (1/ 97)، و ((تفسير فتح القدير)) (1/ 77). (¬4) ((أحكام القرآن)) (2/ 33).

وبينه الإمام النووي بأسلوب آخر فقال: (قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلا بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا بما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخرة) (¬1). ثالثا: الأخذ بهذا القول يؤدي إلى تعطيل الاحتساب: لو اشترطنا للأمر والناهي أن يكون فاعلاً لكل ما أمر به ومجتنباً كل ما نهي عنه لن نجد من يقوم بالاحتساب، وبهذا يتعطل هذا الواجب العظيم. وقد نبه علماء الأمة –جزاهم الله تعالى خيرا- إلى هذا الأمر، فقد قال سعيد بن جبير: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف بمعروف ولا نهى عن منكر) (¬2). وقال الإمام مالك تعليقاً على قوله: (وصدق، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟) (¬3). وذكر القرطبي أن الحسن قال لمطرف بن عبد الله: (عظ أصحابك). فقال: (إني أخاف أن أقول ما لا أفعل)، قال: (يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر) (¬4). وبين هذا الإمام الطبري حيث يقول: (وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأولى فجيد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره) (¬5). رابعاً: عدم جدوى احتساب غير الكامل ليس بأمر دائم: لا شك أن دعوة الكامل أشد وقعاً في النفوس وأكثر استجابة من دعوة غير الملتزم لكن القول بأن دعوة غير الكامل أو احتسابه عديم الجدوى دائما غير صحيح. كم من أنبياء الله الكاملين الملتزمين لم تؤثر دعوتهم في أقرب أقاربهم. لم يستجب لنداء رسول الله نوح عليه السلام ابنه، كما لم يستفد من دعوة خليل الله إبراهيم عليه السلام أبوه، ولم تقبل قول نبي الله لوط عليه السلام زوجته، كما لم يحول نصح أكمل خلق الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم ووعظه عمه أبا طالب إلى الإسلام. وكم من أنبياء الله الكاملين دعوا أقوامهم فما آمن معهم إلا قليل، بل منهم من لم يؤمن به أحد. وعلى عكس هذا كم من أصحاب الدعوات الفاسدة – المخالفين لأقوالهم بأفعالهم – نرى لهم أتباعا كثيرين! وكم من دعاة حرمة الإنسان وحريته يجدون أنصاراً كثيرين مع أنهم من أشد الناس انتهاكاً لحرمته وحريته! وكم من حماة لحقوق العمال والشعوب – على حسب زعمهم – ولهم أتباع كثيرون رغم كونهم من أكثر الناس هضماً لحقوقهم! فخلاصة القول ليس لأحد أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أن احتسابه لا يفيد بسبب تقصيره فلربما يفيد المقصر حيث لا يفيد فيه من هو أحسن منه حالاً. تنبيه: لا يفهم بما ذكر بأننا لا نرى بأسا من ترك المعروف وفعل المنكر للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، بل نؤكد أنه يجب عليه فعل المعروف وترك المنكر، وأنه يعرض نفسه لغضب الله تعالى عند التساهل في هذا. ونقرر أيضاً بأنه ينبغي أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه كما كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. غاية ما في الأمر أن فعل المعروف وترك المنكر ليس شرطاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يقال لمن أمر بالمعروف ولم يفعله أو نهى عن المنكر وفعله: (لا تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر)، بل نقول له: (استمر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتق الله تعالى في نفسك فمرها بالمعروف وانهها عن المنكر). والله تعالى أعلم بالصواب. شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفضل إلهي- بتصرف– ص: 20 ¬

(¬1) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (2/ 23)، وانظر أيضاً ((التفسير الكبير)) (3/ 47)، و ((تفسير البيضاوي)) (1/ 150)، و ((تفسير أبي السعود)) (1/ 97)، و ((تفسير السراج المنير)) (1/ 55). (¬2) نقلا عن ((تفسير القرطبي)) (1/ 367 - 368). (¬3) نقلا عن ((تفسير القرطبي)) (1/ 368). (¬4) نقلا عن ((تفسير القرطبي)) (1/ 367). (¬5) نقلا عن ((فتح الباري)) (13/ 53).

الشبهة الرابعة: (ترك الاحتساب خشية الوقوع في الفتنة)

الشبهة الرابعة: (ترك الاحتساب خشية الوقوع في الفتنة) يقول بعض الناس: (لا نقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأننا نخشى الوقوع في الفتنة بسبب ذلك). كشف حقيقة هذه الشبهة: ... 1 - ترك الاحتساب هو الذي يعرض العبد للفتنة. 2 - مشابهة هذا القول بتعليل المنافق الجد بن قيس للتخلف عن الغزوة. 3 - تعارض هذا القول مع وصية النبي صلى الله عليه وسلم. 4 - منافاة هذا القول لسيرة الأنبياء والصالحين. 5 - تنبيه. أولا: ترك الاحتساب هو الذي يعرض العبد للفتنة: لنا أن نسأل أصحاب هذا القول: هل سلمتم من الفتنة بترككم الاحتساب أم أنكم وقعتم فيها؟ تؤكد نصوص الكتاب والسنة أن ترك الاحتساب يعرض العبد للفتنة. ومن تلك النصوص قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ [الأنفال: 25]. يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: (أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم) (¬1). ومنها ما رواه الإمام الطبراني عن العرس بن عميرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تعمل الخاصة بعمل تقدر العامة أن تغيره، ولا تغيره، فذاك حين يأذن الله في هلاك العامة والخاصة)) (¬2). ومنها ما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك أنت ظالم، فقد تودع منهم)) (¬3). يقول القاضي عياض في شرح الحديث: (أصله من التوديع، وهو الترك، وحاصله أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمارة الخذلان وغضب الرب). ولا يمكن الوقاية من هذه الفتنة إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول الشيخ جلال الدين المحلي في تفسير الآية: وَاتَّقُوا فِتْنَةً ... الآية. (واتقاؤها بإنكار موجبها من المنكر) (¬4). ثانياً: مشابهة هذا القول بتعليل المنافق الجد بن قيس للتخلف عن الغزوة: مما يؤكد شناعة هذا التعليل لترك الاحتساب أنه عين التعليل الذي علل به الجد بن قيس عند تخلفه عن غزوة تبوك، فكشف العليم الخبير حقيقة تعليله وذمه في آيات تتلى إلى الأبد. فقد ذكر الإمام الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذات يوم وهو في جهازه، للجد بن قيس أخي بني سلمة: ((هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله! أو تأذن لي ولا تفتني، فوالله! لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني. وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك)) (¬5). ¬

(¬1) ((تفسير البغوي)) المطبوع على هامش تفسير الخازن (3/ 23)، وانظر أيضاً ((تفسير الطبري)) (13/ 474). (¬2) رواه الطبراني (17/ 138) (14031). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 271): رجاله ثقات. (¬3) رواه أحمد (2/ 190) (6784)، والبزار (6/ 363) (2375)، والحاكم (4/ 108) والبيهقي (6/ 95 رقم 11296). قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبى، وقال الهيثمى (7/ 265): رواه أحمد، والبزار بإسنادين، ورجال أحد إسنادى البزار رجال الصحيح، وكذلك رجال أحمد، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (10/ 30). (¬4) ((تفسير الجلالين)) (1/ 151). (¬5) رواه الطبري في تفسيره (14/ 287)، وابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 1809)، والطبراني في المعجم الأوسط (5604) والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 225 وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 33): فيه يحيى الحماني وهو ضعيف. وقال الألباني: في ((فقه السيرة)) (ص406): ضعيف.

ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ [التوبة: 49]. ثم يقول الإمام الطبري في تفسير الآية: (أي: إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم) (¬1). وهكذا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة طلب السلامة من فتنة لم تقع بعد، قد وقع في فتنة كبرى، ألا وهي ترك ما أوجبه الله تعالى عليه من الاحتساب. ثالثاً: تعارض هذا القول مع وصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: يتنافى هذا القول مع ما أوصى به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه من قول الحق، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم، وأن لا يمنعهم خوف على النفس, أو الرزق من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن تلك الأحاديث – على سبيل المثال – ما روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يمنعن رجلاً منكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه وعلمه)) (¬2). وفي رواية أخرى: ((فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم)) (¬3). فأين أصحاب هذه الشبهة من هذا الحديث الشريف ومن الأحاديث الأخرى مثلها؟ رابعاً: منافاة هذا القول لسيرة الأنبياء والصالحين: أين أصحاب هذه الشبهة من سيرة الأنبياء والمرسلين والصالحين الذين عذبوا، وأخرجوا من ديارهم، وقوتلوا، وقتلوا بسبب قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أين هم من رجال هذه الأمة الذين تحققت فيهم – بفضل الله تعالى – بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب –رضي الله عنه- ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله؟)) (¬4). تنبيه: لا يفهم مما كتبنا أنه لا ينظر إلى ما يترتب على القيام بالاحتساب ولا يعبأ به، بل إن هذا سيحسب له حسابه. فإن كانت المفسدة المترتبة عليه أعظم من المصلحة المتوقعة لا يقوم المرء بالاحتساب آنذاك، وإن كانت المصلحة المرجوة أعظم من المفسدة يجب عليه أن يقوم بالاحتساب إذاً. وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكن مما أمر الله به، وإن كانت قد ترك واجب وفعل محرم) (¬5). لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد ليس بهوى الناس بل – كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – (هو بميزان الشريعة) (¬6). ولا يعني كلامنا أيضاً أن نفرط بأنفسنا في الاحتساب، وأن نلقي بأيدينا إلى التهلكة. إن الذي نقصده أن لا يكون الخوف على النفس أو الرزق مانعاً من الاحتساب، ولكن أخذ الحيطة والحذر أمر مطلوب مثل ما هو الحال في الجهاد بالسيف. وفي هذا يقول الشيخ محمد رشيد رضا: (ولا نترك الدعوة إلى الخير ولا الجهاد دونه خوفاً على أنفسنا حرصاً على الحياة الدنيا، ولا نفرط بأنفسنا في أثناء دعوتنا وجهادنا فيما لا تتوقف الدعوة ولا حمايتها عليه. وقد يكون أكثر ما يصيب الداعي إلى الخير من الأذى ناشئاً عن طريقة الدعوة وكيفية سوقها إلى المدعو، لاسيما إذا كان مسلماً، وكانت الدعوة مؤيدة بالكتاب والسنة) (¬7). والله أعلم بالصواب. شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفضل إلهي -بتصرف– ص: 25 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (14/ 287). (¬2) رواه أحمد (3/ 44) (11421)، وأبو يعلى (2/ 419) (1212)، وابن حبان (1/ 509) (275)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/ 99). والحديث صحح إسناده ابن حجر على شرط مسلم في ((الأمالي المطلقة)) (163). (¬3) رواه أبو يعلى (2/ 536) (1411)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 162) (2804). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 268): رواه الطبراني في ((الأوسط)) ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني، وقال في (7/ 275): رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (165): رجاله رجال مسلم لكن في سماع الحسن من أبي سعيد نظر. (¬4) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 215)، والخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد) (6/ 376). من حديث جابر رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (ص: 263): في إسناده حكيم بن زيد قال الأزدي: فيه نظر، وبقية رجاله ثقات، والحديث صححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (ص: 374). (¬5) كتاب ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 17) باختصار. (¬6) كتاب ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 21). (¬7) ((تفسير المنار)) (4/ 32 - 33).

الشبهة الخامسة: (ترك الاحتساب بسبب عدم استجابة الناس)

الشبهة الخامسة: (ترك الاحتساب بسبب عدم استجابة الناس) يقول بعض الناس: (ينبغي أن لا نضيع جهودنا وأوقاتنا في أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر حيث إنهم لا يستجيبون). بيان حقيقة هذه الشبهة: ... 1 - لا يشترط لوجوب الاحتساب قبول الناس. 2 - الحكم على الناس بعدم الاستجابة من الأمور الغيبية. 3 - وجوب التأسي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر. أولا: لا يشترط لوجوب الاحتساب قبول الناس: لم يشترط الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استجابة الناس، بل أوجب الله تعالى على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى أمته تبليغ الناس أوامره ونواهيه سواء استجابوا أم لم يستجيبوا. وقد وردت نصوص كثيرة تبين هذا. منها على سبيل المثال قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ [النور:54]. ومنها قوله تعالى: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ [آل عمران: 20]. ومنها قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ [المائدة: 92]. ومنها قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ المُبِينُ [النحل: 82]. ومنها قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ [التغابن: 12]. ومنها قوله تعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ [النحل: 35]. ومنها قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ [هود: 57]. ومنها قوله تعالى: وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ وَعَلَيْنَا الحِسَابُ [الرعد: 40]. ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]. ومنها قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21 - 22]. فمهمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهكذا مهمة أمته أن يبلغوا الناس أوامر الله تعالى ونواهيه ويذكروهم سواء استجابوا أم لم يستجيبوا ولا عذر لهم عند الله لترك هذه المهمة الجليلة بسبب إعراض الناس عنهم. وفي هذا الصدد يقول الإمام النووي: (وقال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين). وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال الله عز وجل: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ (¬1). ومما يؤكد هذا ما قصه الله تعالى عن أصحاب السبت حيث استمر الصالحون في نهي العصاة عن التحايل للصيد يوم السبت، ولم يتركوا الاحتساب بسبب عدم استجابة العصاة، بل صرحوا أنهم يقصدون من وراء احتسابهم أمرين: أ- أن يقبل عذرهم عند الله تعالى. ب- لعل العصاة يستجيبون فيتركون التحايل ويتوبون إلى الله تعالى. يقول سبحانه وتعالى عن قصتهم: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف: 164]. ¬

(¬1) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (2/ 22 - 23).

ويقول الإمام ابن العربي في تفسير الآية: (لما فعلوا هذا نهاهم كبراؤهم، ووعظهم أحبارهم فلم يقبلوا منهم فاستمروا في نهيهم لهم، ولم يمنع من التمادي على الوعظ والنهي عدم قبولهم لأنه فرض قبل أو لم يقبل، حتى قال لهم بعضهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ يعني في الدنيا أو مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قال لهم الناهون: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي نقوم بفرضنا ليثبت عذرنا عند ربنا) (¬1). ثانياً: الحكم على الناس بعدم الاستجابة من الأمور الغيبية: إن الحكم على الناس بأنهم لا يستفيدون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور الغيبية التي لا يعرفها إلا العليم الخبير. إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع رب العباد، يقلبها متى شاء وكيف ما شاء. وما أسهل على الله تقليبها. فقد روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث شاء)) (¬2). وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهولة تصريف قلوب العباد بتقليب ريشة بأرض فلاة. فقد روى الإمام ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل القلب مثل الريشة، تقلبها الرياح بفلاة)) (¬3). وكم من أشخاص يراهم الناس من أتقى الناس فيتحولون إلى أفسق الناس، وكم من أفسق الناس يأتيهم الموت وهم من أتقى الناس. هذه حقيقة نقرؤها في سير الناس، ونشاهدها في حياتنا اليومية، وبينها الصادق المصدوق الناطق بالوحي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن العبد ليعمل – فيما يرى الناس – عمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار، ويعمل – فيما يرى الناس – عمل أهل النار، وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيهما)) (¬4). فإذا كان البشر يجهل خواتيم الآخرين فكيف يسوغ له أن يفترض أنهم لا يستجيبون، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استناداً إلى هذا الافتراض؟ ثالثاً: وجوب التأسي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر: جعل الله تعالى في رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أسوة لنا حيث يقول عز من قائل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. قلنا أن نسأل أصحاب هذه الشبهة: هل ترك صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظراً لعدم استجابة الناس؟ كلا، بل استمر صلوات الله وسلامه عليه في ذلك في أشد الأحوال وأصعبها راجياً من الله هداية المخاطبين، بل هداية أجيالهم القادمة إن لم يستجب الجيل الموجود. وسيرته الطاهرة تدل على هذا. فقد روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ ¬

(¬1) ((أحكام القرآن)) (2/ 797) , وانظر ((تفسير القاسمي)) (7/ 797). (¬2) رواه مسلم (2654). من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬3) رواه ابن ماجه (71). وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬4) رواه البخاري (6607) بلفظ: ((الخواتيم)) ((بخواتيمها)).

فقال: ((لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني. فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك, وما ردوا عليك, وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً)) (¬1). هل يتوقع بعد ذلك ممن ينتسب إلى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الحريص على هداية الناس أن يقول: (ينبغي أن لا نضيع جهودنا وأوقاتنا في أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر حيث إنهم لا يستجيبون؟). احتجاج أصحاب الشبهة ببعض الآيات: يحتج أصحاب هذه الشبهة ببعض النصوص التي جاء فيها – على حسب زعمهم – الأمر بالتذكير مشروطاً بالنفع، أو مخصوصاً لمن خاف الوعيد، أو خشي الرحمن بالغيب، واتبع الذكر. ومن هذه النصوص: قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى: 9]. وقوله تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [فاطر: 18]. وقوله تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ [يس: 11]. وقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45]. قالوا: نجد في هذه الآيات بأن الله تعالى اشترط لأمره بالتذكير نفع الذكرى، كما أرشد نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أن يقتصر في إنذاره على (من يخاف الوعيد). (وخشي الرحمن بالغيب)، و (اتبع الذكرى). لذا لا داعي لبذل الجهود في أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر وهم لا يستجيبون. كشف النقاب عن حقيقة الاحتجاج: سنبين بتوفيق الله تعالى حقيقة احتجاجهم بالآيات من وجهين: 1 - النظر في سيرة من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم تلك الآيات. 2 - المراد بالآيات على ضوء تفسير المفسرين. أولاً: النظر في سيرة من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم تلك الآيات: أنزلت تلك الآيات على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يتلوها على المؤمنين، ويعلمهم إياها، وإليه أسندت مهمة بيانها، وكان صلى الله عليه وسلم صورة حية لما نزلت عليه من الآيات لنا أن نسأل هؤلاء هل ترك صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب إعراض الناس؟، كلا، فقد استمر في التذكير والإنذار رغم عناد الكفرة وتمردهم، والفهم الصحيح للآيات هو فهمه صلى الله عليه وسلم، وكل استنباط أو استدلال يعارض فهمه وعمله باطل ومردود على صاحبه. ثانياً: المراد بالآيات على ضوء تفسير المفسرين: بيَّن المفسرون المراد بتلك الآيات فأجادوا وأفادوا جزاهم الله تعالى عنا خير الجزاء، وسنذكر بعض ما ذكروا – بعون الله تعالى – في هذا المقام. أما قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى فنترك مجال تفسيره للإمام الرازي حيث يقول مثيراً بعض الأسئلة حوله: السؤال الأول: أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل فيجب عليه أن يذكرهم سواء نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم، فما المراد من تعليقه على الشرط في قوله: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى؟ الجواب: أن المعلق (بإن) على الشيء لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء، ويدل عليه الآيات، منها هذه الآية. ¬

(¬1) رواه مسلم (1795).

ومنها قوله تعالى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور: 33]. ومنها قوله: وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172]. ومنها قوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: 101] فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف. ومنها قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ [البقرة: 283]. والرهن جائز مع الكتابة. ومنها قوله: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ [البقرة: 230]. والمراجعة جائزة بدون هذا الظن (¬1). ويتابع الإمام الرازي كلامه ويقول: (إذا عرفت هذا ذكروا لذكر هذا الشرط فوائد: إحداها: أن من باشر فعلاً لغرض فلا شك أن الصورة التي علم فيها إفضاء تلك الوسيلة إلى ذلك الغرض، كان إلى ذلك الفعل أوجب من الصورة التي علم فيها عدم ذلك الإفضاء، فلذلك قال: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى. وثانيها: أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين ونبه على الأخرى كقوله: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ [النحل: 81] والتقدير فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى أو لم تنفع. وثالثها: أن المراد به البعث على انتفاع بالذكرى كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق: وقد أوضحت لك إن كنت تعقل. فيكون مراده البعث على القبول والانتفاع. ورابعها: أن هذا يجري مجرى تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا تنفعهم الذكرى كما يقال للرجل: ادع فلانا إن أجابك ما أراه يجبيك. وخامسها: أنه عليه السلام دعا إلى الله كثيراً، وكلما كانت دعوته أكثر كان عتوهم أكثر، وكان عليه السلام يحترق حسرة على ذلك، فقيل له: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] إذ التذكير العام واجب في أول الأمر فأما التكرير فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط) (¬2). وأما قوله تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ [فاطر: 18]. فبين المفسرون رحمهم الله تعالى بأن المنتفعين بالإنذار هم أولئك، وليس المعنى بأن غيرهم لا يذكر ولا ينذر. يقول أبو القاسم الغرناطي: (المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم، وليس المعنى اختصاصهم بالإنذار) (¬3). وأما قوله تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ [يس: 11] فالمراد به – كما بين المفسرون – مثل المقصود بالآية السابقة. يقول أبو القاسم الغرناطي في تفسيره: (معناه كقوله: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وقد ذكرناه في فاطر) (¬4). وأما قوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] فهو – كما يقول أبو القاسم الغرناطي – كقوله: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ لأنه لا ينفع التذكير إلا من يخاف (¬5). فخلاصة القول أن الاستدلال بتلك الآيات على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب عدم استجابة الناس غير صحيح. شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفضل إلهي- بتصرف– ص: 30 ¬

(¬1) ((التفسير الكبير)) (31/ 143 - 144). (¬2) ((التفسير الكبير)) (31/ 144). (¬3) ((كتاب التسهيل)) (3/ 342). (¬4) كتاب ((التسهيل)) (3/ 352). وانظر أيضاً: ((زاد المسير)) (7/ 8)، و ((تفسير القاسمي)) (14/ 62). (¬5) انظر كتاب ((التسهيل)) (3/ 119).

الباب الرابع: الولاية وكرامات الأولياء

المطلب الأول: تعريف الولاية والولي لغة الولي بفتح فسكون: القرب والدنو، وحصول ثان بعد أول من غير فصل يقال: تباعد بعد ولى، وكل مما يليك أي يقاربك. ويقال سقط الولي وهو المطر يلي الوسمي ويحصل بعده. والمطر الولي يقال أيضاً بوزن فعيل. والولاء بالفتح: القرابة والنصرة يقال بينهما ولاء. وبالكسر الموالاة والمتابعة تقول أفعل هذه الأشياء على الولاء وتوالى عليه شهران. والموالاة بين شخصين تكون أيضاً مضادة للمعاداة. والولاية بالكسر السلطان يقال وليت الأمر إليه فأنا وال. ونحن ولاة وبالفتح النصرة يقال هم على ولاية إذا اجتمعوا على النصرة. وتكون الولاية بالكسر على هذا المعنى عند الجمهور، وجعلها سيبويه اسماً لما توليته وقمت به. والمولى ابن العم، والعاصب، والحليف والناصر، والجار. والولي وزان فعيل ضد العدو من وليه إذا قام به يكون بمعنى فاعل وبمعنى مفعول فمن الأول الله ولي الذين آمنوا، ومن الثاني المؤمن ولي الله للمطيع له. وكل من ولى أمر غيره فهو وليه. ويطلق على ابن العم والناصر والصديق والمحب. تقول توليته إذا جعلته ولياً. ومنه: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم). كل هذا من الصحاح والقاموس والأساس والمصباح. رسالة الشرك ومظاهره لمبارك بن محمد الميلي– ص: 112

المطلب الثاني: تعريف الولاية والولي اصطلاحا

المطلب الثاني: تعريف الولاية والولي اصطلاحا وأما تعريف الولي في الاصطلاح: فقد عرفه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (وقد قيل إن الولي سمي ولياً من موالاته للطاعات أي متابعته لها ويقابل الولي العدو على أساس من القرب والبعد) (¬1). وقال الإمام الشوكاني في تفسيره: (والمراد بأولياء الله خلقه المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله: الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 63] أي يؤمنون بما يجب الإيمان به ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه) (¬2). وقال الدكتور إبراهيم هلال: (وهذا المعنى الذي يدور بين الحب والقرب هو الذي أراده القرآن الكريم من كلمة ولي ومشتقاتها في كل موضع أتى بها فيه سواء في جانب أولياء الله أو في جانب أولياء أعداء الله وأعداء الشيطان) (¬3). وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس وللشيطان أولياء ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فقد قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 62 - 64]. وقال تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 257]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]. وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 98 - 100]. وقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76]. وقال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. وعلى هذا فالتقسيم الصحيح للناس في هذه الحياة الدنيا هو أنهم ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما وهو أن أي أحد من الإنس أو الجن في هذه الحياة إما أن يكون وليا لله وإما أن يكون عدواً لله وليست الولاية محصورة في أشخاص معينين كما يزعم الصوفية ذلك بل ما نعتقده هو أن أي مسلم يؤمن بالله وبرسوله وينفذ أوامر الله ويجتنب نواهيه فهو ولي من أولياء الله سبحانه وتعالى. ¬

(¬1) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 6). (¬2) ((فتح القدير)) (2/ 457). (¬3) ((ولاية الله والطريق إليها)) لإبراهيم هلال (ص: 71).

ثم إن من شرط ولاية الله سبحانه وتعالى هو أن يؤمن الإنسان بالله وبرسوله وأن يتبع الرسول في الظاهر والباطن وكل من يدعي محبة الله وولايته بدون متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كاذب مفتر دجال وليس من أولياء الله بل هو من أولياء الشيطان قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: 31] قال الحسن البصري رحمه الله: (ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله. فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان معهم بل يدعون أنهم أبناؤه وأحباؤه. وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت وكانوا يستكبرون على غيرهم) (¬1). ولكن الصوفية خصصوا لولاية الله سبحانه وتعالى أعداداً معينة في حدود الأربعين أو الثلاثمائة أو غيرها من الأعداد التي يذكرها المتصوفة لمن يطلقون عليهم أنهم أولياء الله وأصبحوا يصفونهم بأوصاف لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى حيث ادعوا بأن الأولياء يعلمون الغيب ويتصرفون في الكون تصرفاً مطلقاً ويدعون ويستغاث بهم من دون الله وهذه كلها معتقدات فاسدة دخيلة على الإسلام جلبها المتصوفة من الطوائف الوثنية الضالة التي تعبد البشر من دون الله. مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية وأثرها السيء على الأمة الإسلامية لإدريس محمود إدريس– 2/ 548 (وولاية الله موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض وتكره ما يكره وتسخط ما يسخط وتوالي من يوالي وتعادي من يعادي) (¬2). (والمراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته) (¬3). وقال ابن القيم رحمه الله: (فالولاية هي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه) (¬4). وقال أيضاً رحمه الله: (فولي الله هو القريب منه المختص به) (¬5). وقال ابن تيمية رحمه الله: (والولاية هي الإيمان والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل) (¬6). وقال أيضاً رحمه الله: (فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضاته وتقرب إليه بما أمر به من طاعته) (¬7). وقال السيوطي رحمه الله: (وهو العارف بالله حسب ما يمكن، المواظب على الطاعات المجتنب للمعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات) (¬8). التعريفات الاعتقادية لسعد بن محمد بن علي آل عبد اللطيف– ص: 322 ¬

(¬1) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 9). (¬2) ((الاستقامة)) (2/ 128) لابن تيمية. (¬3) ((فتح الباري)) (10/ 350) لابن حجر. (¬4) ((الجواب الكافي)) (ص: 137)، وانظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: 705). (¬5) ((بدائع الفوائد)) (3/ 106). (¬6) ((مجمود الفوائد)) (10/ 440). (¬7) ((مجمود الفوائد)) (11/ 62). (¬8) ((إتمام الدراية)) (ص: 7)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/ 373)، (11/ 161)، و ((تفسير الخازن)) (2/ 451).

المطلب الثالث: اجتماع الولاية والعداوة

المطلب الثالث: اجتماع الولاية والعداوة وتجتمع في المؤمن ولاية من وجه، وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان. وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع، كما تقدم في الإيمان. ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى - أولى من موافقته في المعنى وحده، قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف: 106]. وقال تعالى: قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، الآية. وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين. وقال صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) وفي رواية: ((وإذا ائتمن خان))، بدل: ((وإذا وعد أخلف)). أخرجاه في الصحيحين (¬1). وحديث شعب الإيمان ... وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (¬2). فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق، فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار. فالطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي من شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، ورأس شعب الإيمان التصديق. وأما ما يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله، لا هم يدرون به، ولا هو يدري بنفسه)) -: فلا أصل له، وهو كلام باطل، فإن الجماعة قد يكونون كفارا، وقد يكونون فساقا يموتون على الفسق. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز- 2/ 507 ¬

(¬1) رواه البخاري (34) (2459) ومسلم (58/ 106) من حديث عبد الله بن عمرو. (¬2) رواه البخاري (7510)، ومسلم (193). من حديث أنس رضي الله عنه.

المبحث الثاني: شروط الولي

المبحث الثاني: شروط الولي لا يكون وليا لله إلا من آمن بالرسول وبما جاء به واتبعه باطنا وظاهرا ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله؛ بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] قال الحسن البصري رحمه الله ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه. قال تعالى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ الآية [المائدة: 18]. وقال تعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ إلى قوله وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 111، 112]. وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [المؤمنون:66، 67] وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ إلى قوله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ [الأنفال:30 - 34] فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون. وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا من غير سر: ((إن آل فلان ليسوا لي بأولياء - يعني طائفة من أقاربه - إنما وليي الله وصالح المؤمنين)) (¬1) وهذا موافق لقوله تعالى فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين الآية. وصالح المؤمنين هو من كان صالحا من المؤمنين وهم المؤمنون المتقون أولياء الله. ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفا وأربعمائة وكلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)) (¬2) ومثل هذا الحديث الآخر: ((إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا)) (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم (215/ 366). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. (¬2) [14158])) رواه أبو داود (4653) , والترمذي (3860) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 464) , وابن حبان (11/ 127) , وأحمد (3/ 350) (14820) , من حديث جابر رضي الله عنه, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي حسن صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)). (¬3) رواه الإمام أحمد (5/ 235) والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (10/ 232) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال الهيثمي (10/ 234): إسناده جيد وقال الألباني في ((فقه السيرة)) (453): صحيح.

كما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله وليس وليا لله؛ بل عدو له فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه مرسل إلى جميع الإنس؛ بل إلى الثقلين الإنس والجن ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك مثل ألا يقروا في الباطن بأنه رسول الله وإنما كان ملكا مطاعا ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ولا يحتاجون إليه؛ بل لهم طريق إلى الله من غير جهته كما كان الخضر مع موسى أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها وأما الحقائق الباطنة فلم يرسل بها أو لم يكن يعرفها أو هم أعرف بها منه أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته ... والمقصود هنا أن فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر من يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقا وهو يدعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما عنادا وإما جهلا كما أن كثيرا من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله وأن محمدا رسول الله؛ ولكن يقولون إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب وأنه لا يجب علينا اتباعه لأنه أرسل إلينا رسلا قبله فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله وإنما أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63].

ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بكل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله فلا بد في الإيمان من أن تؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن؛ فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين؛ ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء:150 - 152] ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه. ووعده ووعيده وحلاله وحرامه؛ فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان ... وفي أصناف المشركين من مشركي العرب ومشركي الهند والترك واليونان وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة؛ ولكن ليس بمتبع للرسل ولا يؤمن بما جاءوا به ولا يصدقهم بما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا أولياء لله وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم فيكاشفون الناس ببعض الأمور ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين. قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:221 - 223]. وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات إذا لم يكونوا متبعين للرسل فلا بد أن يكذبوا وتكذبهم شياطينهم. ولا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة؛ ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن. قال الله تعالى: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين [الزخرف:36] وذكر الرحمن هو الذكر الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم مثل القرآن فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به ... الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – ص57 بتصرف يسير

وإذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا لقوله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62 - 63] وفي صحيح البخاري الحديث المشهور - وقد تقدم - يقول الله تبارك وتعالى فيه: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) (¬1) ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض فيكون من الأبرار أهل اليمين ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله. وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة - وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسول - فلا يكونون من أولياء الله إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين؛ فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات لم يكن من أولياء الله. وكذلك المجانين والأطفال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم. وعن النائم حتى يستيقظ)). وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما (¬2). واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول. لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء. وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء. ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات؛ بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة. فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا ولا تصح عقوده باتفاق العلماء. فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته. ولا غير ذلك من أقواله بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي ولا ثواب ولا عقاب. بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع وفي مواضع فيها نزاع. وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل وامتنع أن يكون وليا فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله؛ لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه أو نوع من تصرف مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع؛ فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين - من المشركين وأهل الكتاب - لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا؛ بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة. أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم السلام. أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق أو هم على قدوة العامة دون الخاصة ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان. فضلا عن ولاية الله عز وجل. فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على ولايتهم كان أضل من اليهود والنصارى. وإن كان له في حال إفاقته فيه كفر أو نفاق أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق. ¬

(¬1) رواه البخاري (6502). (¬2) رواه أبو داود (4398) والنسائي (3432) وابن ماجه (2041) من حديث عائشة، ورواه أبو داود (4401، 4402، 4403) والترمذي (1423) النسائي في الكبرى (5625) من حديث علي.

وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحا ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحا كما قيل: كم من صديق في قباء وكم من زنديق في عباء؛ بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم ويوجدون في أهل الجهاد والسيف ويوجدون في التجار والصناع والزراع. وقد ذكر الله أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20] ....... وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ؛ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ...... ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي لله لئلا يكون نبيا؛ بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا للشرع وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق؛ بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف؟ توقف فيه. والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف طرفان ووسط؛ فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله وافقه في كل ما يظن أنه حدث به قلبه عن ربه وسلم إليه جميع ما يفعله ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدا مخطئا وخيار الأمور أوساطها وهو أن لا يجعل معصوما ولا مأثوما إذا كان مجتهدا مخطئا فلا يتبع في كل ما يقوله ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده. والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف ويقول هذا خالف الشرع ........

وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به؛ بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به؛ بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله وما خالف الكتاب والسنة كان مردودا وإن كان صاحبه من أولياء الله وكان مجتهدا معذورا فيما قاله له أجر على اجتهاده. لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئا وكان من الخطإ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع؛ فإن الله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ......... وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل من خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله باتباعهم؛ بل إما أن يكون كافرا وإما أن يكون مفرطا في الجهل. وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبي سليمان الداراني: إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة. وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال: لا يقتدى به. وقال أبو عثمان النيسابوري من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54] وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة فيوافق ذلك الشخص له ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه وبين أهل الجنة وأهل النار وبين السعداء والأشقياء فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين؛ ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال وآخرا إلى الكفر والنفاق الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – ص: 121

المبحث الثالث: أقسام الأولياء والتفاضل بينهم

المطلب الأول: أقسام الأولياء أولياء الله على طبقتين سابقون مقربون وأصحاب يمين مقتصدون. ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان؛ والمطففين وفي سورة فاطر فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها وذكر القيامة الصغرى في آخرها فقال في أولها إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثّاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ [الواقعة:1 - 14] فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع. ثم قال تعالى في آخر السورة: فَلَوْلَا أي: فهلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:83 - 96] ....... وأولياء الله تعالى على نوعين: مقربون وأصحاب يمين كما تقدم. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء فقال ((يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها)) (¬1). فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات؛ ولا الكف عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تاما كما قال تعالى: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) يعني الحب المطلق كقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة:6، 7] أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفا كما عملوا له صرفا والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه فلم يشربوا صرفا؛ بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا ...... ¬

(¬1) رواه البخاري (6502).

وقد ذكر الله تعالى أولياءه المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر32 - 35] لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الآية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]. وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة وليس ذلك مختصا بحفاظ القرآن؛ بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء وقسمهم إلى ظالم لنفسه ومقتصد وسابق؛ بخلاف الآيات التي في الواقعة والمطففين والانفطار فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ومؤمنهم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية - ص92

المطلب الثاني: التفاضل في ولاية الله

تمهيد إذا كان أولياء الله هم المؤمنين المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى فمن كان أكمل إيمانا وتقوى كان أكمل ولاية لله. فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق قال الله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة 124،125] وقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37] وقال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17] وقال تعالى في المنافقين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة:10]. فبين سبحانه وتعالى أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه؛ وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه. وقال تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً [المدثر:31] وقال تعالى لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]. الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – ص113 ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانا مجملا وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك فيؤمن بما بلغه عن الرسل وما لم يبلغه لم يعرفه ولو بلغه لآمن به؛ ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانا مجملا فهذا إذا عمل بما علم أن الله أمره به مع إيمانه وتقواه فهو من أولياء الله تعالى له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه وما لم تقم عليه الحجة فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته والإيمان المفصل به فلا يعذبه على تركه؛ لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك فمن علم بما جاء به الرسل وآمن به إيمانا مفصلا وعمل به فهو أكمل إيمانا وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ولم يعمل به؛ وكلاهما ولي لله تعالى. والجنة درجات متفاضلة تفاضلا عظيما وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم. الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – ص 116

مسألة: من أفضل الأولياء؟

مسألة: من أفضل الأولياء؟ وأفضل أولياء الله الأنبياء وأفضل الأنبياء المرسلون منهم وأفضل المرسلين أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13] وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً [الأحزاب:7 - 8]. وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وصاحب لواء الحمد وصاحب الحوض المورود وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم وهم آخر الأمم خلقا وأول الأمم بعثا ... وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية- ص55

وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب فقال تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69] .... وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وقال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند ((أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) (¬1) وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال ((خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه (¬2). وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (¬3). والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة قال تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ والسابقون الأولون الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والمراد بالفتح صلح الحديبية فإنه كان أول فتح مكة وفيه أنزل الله تعالى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فقالوا يا رسول الله أوفتح هو؟ قال: ((نعم)) (¬4). وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الأربعة وأفضلهم أبو بكر ثم عمر وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به فهو أفضل أولياء الله إذ كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه. وقد ظن طائفة غالطة أن خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي فإنه صنف مصنفا غلط فيه في مواضع ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته كما يزعم ذلك ابن عربي صاحب كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن. ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء فكيف يكون الأنبياء كلهم؟ والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم؛ فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – ص186 ¬

(¬1) [14163])) رواه أحمد 5/ 3 قال ابن تيمية: ((الجواب الصحيح)) (2/ 232): جيد. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 400): رجاله ثقات. (¬2) [14164])) ينظر البخاري (2651، 2652،) ومسلم (2533، 2535، 2534). (¬3) [14165])) رواه البخاري (3673) ومسلم (2540). (¬4) [14166])) رواه مسلم (1785) من حديث سهل بن حنيف.

المبحث الرابع: الشهادة لمعين بالولاية

المبحث الرابع: الشهادة لمعين بالولاية وأما الشهادة للشخص معين بالولاية ففيها ثلاثة أقوال كما بين ذلك ابن تيمية رحمه الله: الأول: قيل لا يشهد بذلك لغير النبي، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي وعلي بن المديني وغيرهم. الثاني: وقيل يشهد به لمن جاء به نص إن كان خبرا صحيحا كمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فقط، وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم. الثالث: وقيل يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهما، وكان أبو ثور يشهد لأحمد بن حنبل بالجنة قال: وفي الحديث الذي في المسند: ((يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار. قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال بالثناء الحسن والثناء السيئ)) (¬1). وفي الصحيحين: ((أن النبي مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت، وجبت، ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت، وجبت فقيل يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها الخير فقلت وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض)) (¬2). ثم قال: والتحقيق أن هذا قد يعلم بأسباب، وقد يعلم على الظن، ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم. ¬

(¬1) [14167])) رواه ابن ماجه (4221)، وأحمد (6/ 466) (27686)، والطبراني (20/ 178) (382)، والحاكم (1/ 207)، والبيهقي (10/ 123) (20177). من حديث أبي زهير الثقفي رضي الله عنه. قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (4/ 241): إسناده صحيح ورجاله ثقات، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (4/ 77): إسناده حسن غريب، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 193) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬2) رواه البخاري (1367)، ومسلم (949). من حديث أنس رضي الله عنه.

ولهذا لما قالت أم العلاء الأنصارية ((لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم فصار لنا عثمان بن مظعون في السكنى فمرض فمرضناه ثم توفي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فقلت رحمة الله عليك أبا السائب. فشهادتي أن قد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله قد أكرمه؟ قالت: لا والله لا أدري، فقال النبي: أما هو فقد أتاه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري- وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم، قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا)) (¬1) انتهى كلام ابن تيمية (¬2) وإن من الناس من يظهر منه صلاح وورع وكانت حاله بينه وبين الله على العكس من ذلك. فإذا خلا بمحارم الله انتهكها كما في حديث ثوبان عن النبي أنه قال: ((لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة. بيضا فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) (¬3). ولما أثنى رجل على آخر عند رسول الله انتهره قائلا ((ويحك قطعت عنق صاحبك. ثم قال: إن كان أحدكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا ولا أزكي على الله أحدا، حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك)) (¬4). وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عمن كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه أنه ((يؤتى به يوم القيامة ويدور كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه)) (¬5). وكذلك رأى الصحابة رجلا من المسلمين يقاتل المشركين بقوة حتى أعمل فيهم القتل فأعجبوا لشجاعته وأثنوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا من أهل النار فتعجب الصحابة حتى قالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فتبعه رجل من الصحابة فوجده قد جرح فاستعجل الموت ووضع نصاب سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فجاء الرجل إلى النبي وقال: أشهد أنك رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ فأخبره بخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)) (¬6). وكذلك قتل رجل في خيبر فقيل: ((هنيئا له الجنة؛ فقال رسول الله: كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها من المغانم- لم تصبها المقاسم- لتشتعل عليه نارا)) (¬7). فها قد خفيت حقيقة هؤلاء الرجال على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم أعظم أولياء الله؛ بل هم أعظم ولاية عند الله من أولياء اليوم والغد. فلماذا لم ينكشف لهم ما يزعم أدعياء الولاية اليوم مكاشفته، أم أن الله فضل أولياء اليوم على سلفنا الصالح وكشف لهم ما أخفاه عن أولئك! ولقد نهانا الله تعالى عن أن يزكي الواحد منا نفسه مع كون الواحد منا أعلم بنفسه من غيره فقال فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 33]. فكيف نستطيع أن نحكم على غيرنا بولايته وتقواه، وبصدق ظاهره وباطنه سره وعلانيته مع الله!. أولياء الله بين المفهوم الصوفي والمنهج السني السلفي لعبد الرحمن دمشقية ¬

(¬1) [14169])) رواه البخاري (7018). (¬2) [14170])) ((النبوات)) (ص: 10 - 11). (¬3) [14171])) رواه ابن ماجه (4245)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5/ 46) (4632)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 242). وقال: رواته ثقات، وقال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (4/ 246): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وقال الهيتمي في ((الزواجر)) (2/ 128): رواته ثقات، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬4) [14172])) رواه البخاري (2662)، ومسلم (3000). من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (¬5) [14173])) رواه مسلم (2989). من أنس رضي الله عنه. (¬6) [14174])) رواه البخاري (4207). من سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. (¬7) [14175])) رواه البخاري (6707). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الفصل الثاني: الكرامات

المطلب الأول: تعريف الكرامة لغة كرم الشيء بضم الراء كرماً بفتحتين، وكرامة إذا نفس وعز فهو كريم، وله علي كرامة أي عزازة. وكل شيء شرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، ولا يقال في الإنسان كريم حتى تظهر منه أخلاق وأفعال محمودة. وكرمته تكريماً، وأكرمته إكراما. عظمته ونزهته، والمكرمة بضم الراء: اسم من الكرم، والتكريم. تقول: فعل الخير مكرمة، أي سبب للكرم، أو التكريم. وتكون الكرامة اسماً أيضاً من الإكرام، والتكريم. تقول: نعم وحباً وكرامة. وليس ذلك لهم ولا كرامة. والإكرام والتكريم، أن يوصل إلى الإنسان إكرام أي نفع لا يلحقه فيه غضاضة، أو أن يجعل ما يوصل إليه شيئاً كريماً، أي شريفاً. هذا كله من الصحاح والقاموس والمصباح ومفردات الراغب. وقابل الشاعر الكرامة بالمساءة فقال: جزاني الزهدمان جزاء سوء ... وكنت المرء يجزى بالكرامة @ رسالة الشرك ومظاهره لمبارك بن محمد الميلى– ص: 127

المطلب الثاني: تعريف الكرامة اصطلاحا

المطلب الثاني: تعريف الكرامة اصطلاحا أما الكرامات، فهي جمع كرامة، والكرامة: أمر خارق للعادة، يجريه الله تعالى على يد ولي، تأييدا له، أو إعانة، أو تثبيتا، أو نصرا للدين. مجموع فتاوى ابن عثيمين 8/ 626 وعرفها بعضهم بأنها أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا هو مقدمة لها تظهر على يد عبد ظاهر الصلاح مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح. فقولنا: أمر خارق للعادة: أخرج ما كان على وفق العادة من أعمال. وغير مقرون بدعوى النبوة: أخرج معجزات الأنبياء. ولا هو مقدمة لها: أخرج الإرهاص وهو كل خارق تقَدم النبوة. ويظهر على يد عبد ظاهر الصلاح .. : أخرج ما يجري على أيدي السحرة والكهان فهو سحر وشعبذة. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة – لنخبة من العلماء ص: 202

المبحث الثاني: الأدلة على وقوع الكرامات

المطلب الأول: ما جاء في الكتاب والسنة فأما الكتاب: فقوله تعالى في قصة مريم عليها السلام: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 37] فروي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: وجد عندها الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة عند أحد فكان زكريا يقول: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (¬1). وروي عنه قال: عنبا في مكتل في غير حينه (¬2). وعن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وإبراهيم النخعي وقتادة والربيع بن أنس وعطية والسدي وسفيان الثوري: فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء (¬3). وقال تبارك وتعالى في قصة سارة زوجة إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 71 - 73] وقال تبارك وتعالى: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل: 40] عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا ثلاثة نفر فيمن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: يا هؤلاء والله لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم الله أنه قد صدق فيه. قال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان أجير لي عمل على فرق من أرز فذهب وتركه فزرعته فكان من أمره أني اشتريت من ذلك الفرق بقرا، ثم أتاني يطلب أجره فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال إنما لي عندك فرق من أرز، فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها فإنها من ذلك فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك فافرج عنا فانساحت عنهم الصخرة. وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهم كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهم ذات ليلة فرقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما من رقدتهما وكرهت أن أرجع فيستيقظا لشربتهما فلم أزل أنتظرهما حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي فإني راودتها عن نفسها فأبت علي إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت عليها فجئت بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فقمت عنها وتركت لها المائة دينار. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. ففرج الله تعالى عنهم فخرجوا)) أخرجه البخاري ومسلم (¬4). ¬

(¬1) [14176])) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/ 640). (¬2) [14177])) ((تفسير الطبري)) (6/ 354). (¬3) [14178])) ((تفسير الطبري)) (6/ 353 - 356). (¬4) [14179])) رواه البخاري (3465)، ومسلم (2743).

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل بأرض فلاة فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان. فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فانتهى إلى الحرة فإذا هي أذناب شراج وإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت الماء. فتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته. فقال له: يا عبد الله ما اسمك قال فلان الاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لم سألتني عن اسمي؟! إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان باسمك فما تصنع فيها؟ قال: إن قلت هذا فإني أنظر إلى ما خرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثه وأرد فيها ثلثه) لفظ يعقوب أخرجه مسلم (¬1). عن أبي هريرة قال: ((كان جريج يتعبد في صومعته فأتته أمه فقالت يا جريج أنا أمك كلمني) قال أبو رافع قال أبو هريرة: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف لنا صفتها فقالت هكذا وضعت يدها على وجهها أنا أمك كلمني فصادفته يصلي فقال اللهم أمي وصلاتي فاختار صلاته. ثم جاءته الثانية فقالت: يا جريج أنا أمك كلمني فصادفته يصلي. فقالت: اللهم هذا جريج وإنه ابني وإني قد كلمته فلم يكلمني اللهم لا تمته حتى تريه المومسات. قال ولو دعت عليه أن يفتن لافتتن. قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى دير فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاما فقيل لها ممن هذا قالت: من صاحب الصومعة. قال: فأقبلوا إليه بفئوسهم ومساحيهم فصوتوا به فصادفوه يصلي فلم يكلمهم فأخذوا يهدمون ديره فلما رأى ذلك نزل إليهم فقالوا له سل هذه قال فتبسم ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ فقال: أبي راعي الضأن فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني لك ما هدمنا بالذهب والفضة قال لا ولكن أعيدوه ترابا. ثم علاه)) واللفظ لحديث أبي النضر أخرجه مسلم (¬2). عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله عز وجل قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت من أحسن الناس فقال لها إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي وإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم اليوم مسلما غيري وغيرك فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال لقد دخل أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك فأرسل إليها فأتي بها وقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما أن دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها وتقبضت يده قبضة شديدة فقال لها سلي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فانطلقت يده فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فقال لها سلي الله أن يطلق يدي ولا أضرك فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأوليين فقال سلي الله أن يطلق يدي ولك الله علي أن لا أضرك ففعلت فانطلقت يده فدعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فلما رآها إبراهيم قال لهم مهيم قالت خير كف الله يد الفاجر وأخدمني هاجر. قال أبو هريرة فتلك أمكم يا بني ماء السماء) أخرجه البخاري ومسلم (¬3) ¬

(¬1) [14180])) رواه مسلم (2984). (¬2) [14181])) رواه مسلم (2550). (¬3) [14182])) رواه البخاري (3358)، ومسلم (2371).

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج قال بينا رجل يسوق بقرة له فأعيا فركبها فالتفتت إليه فقالت: إني لم أخلق لهذا إنما خلقت لحراثة الأرض. فقال من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله سبحان الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني آمنت به وأبو بكر وعمر وليسا في المجلس. فقال من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا آمنا بما آمن به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: بينا رجل يسوق غنما له عدا الذئب على شاة منها فأخذها فاتبعه فطلبه فالتفت الذئب فقال: من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري. فقال من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله سبحان الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني آمنت به وأبو بكر وعمر وليسا في المجلس. فقال القوم: فإنا آمنا بما آمن به رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخرجه البخاري ومسلم من حديث سعد بن إبراهيم وأبي الزناد عن أبي سلمة وليس في حديثهما في بني إسرائيل (¬1). عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أراد الله تعالى أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك قال لون حسن وجلد حسن قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال أي المال أحب إليك قال الإبل أو قال البقر شك ابن أبي طلحة إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر فأعطي ناقة عشراء قال فقال يبارك لك فيها فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك فقال شعر حسن ويذهب عني هذا قد قذرني الناس فمسحه فذهب عنه وأعطى شعرا حسنا قال فأي المال أحب إليك قال البقر قال فأعطي بقرة حاملا وقال يبارك لك فيها ثم أتى الأعمى فقال أي شيء أحب إليك قال أن يرد الله بصري فأبصر به الناس فمسحه فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك قال الغنم قال فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم ثم أتى الأبرص في صورته وهيئته وقال رجل مسكين قد تقطعت بي الحبال فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري قال إن الحقوق كثيرة قال كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فتبرأ فأعطاك الله تعالى قال لقد ورثت هذا المال كابرا عن كابر قال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ذلك فرد عليه مثل ما رد عليه هذا ثم أتى الأعمى في صورته وهيئته فقال رجل مسكين وابن سبيل تقطعت بي الحبال في سفري قال كنت أعمى فرد الله إلي بصري وفقيرا فأغناني فخذ ما شئت فوالله لا أمنعك اليوم شيئا أخذته لله عز وجل قال أمسك مالك إنما ابتليتم قد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك) أخرجه البخاري ومسلم (¬2). عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بشهداء أشهدهم فقال كفى بالله شهيدا فقال ائتني بكفيل. فقال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى. فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه لأجله الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها الدنانير وصحيفة منه إلى صاحبه ثم سد موضعها ثم أتى بها البحر فقال اللهم إنك تعلم أني تسلفت من فلان ألف دينار فسألني كفيلا فقلت كفى بالله كفيلا ورضي بك وسألني شهودا فرضي بك وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أجد مركبا وإني أستودعكها فرمى بها في البحر حتى ولجت ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه رجاء أن يكون مركب قد جاء بماله فإذا تلك الخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار ثم قال والله مازلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي جئت فيه فقال له هل كنت بعثت إلي بشيء قال إني أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه قال إن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة فانصرف بمالك راشدا) استشهد به البخاري قال الليث حدثني جعفر بن ربيعة (¬3). كرامات الأولياء لللالكائي باختصار – ص: 70 ¬

(¬1) [14183])) رواه البخاري (3471)، ومسلم (2388). (¬2) [14184])) رواه البخاري (3464)، ومسلم (2964). (¬3) [14185])) رواه البخاري (2291).

المطلب الثاني: ما جاء في كرامات الصحابة والتابعين

المطلب الثاني: ما جاء في كرامات الصحابة والتابعين وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدا: مثل ما كان (أسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته) (¬1)، وكانت (الملائكة تسلم على عمران بن حصين) (¬2)، وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما. رواه البخاري وغيره (¬3). وقصة الصديق في الصحيحين (لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربى من أسفلها أكثر منها فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا) (¬4). وخبيب بن عدي كان أسيرا عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة (¬5). وعامر بن فهيرة قتل شهيدا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع وقال عروة: فيرون الملائكة رفعته (¬6). وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها (¬7). وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده (¬8). (والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه، وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء أقسم على ربك فيقول: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم فيهزم العدو فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا) (¬9). وخالد بن الوليد حاصر حصنا منيعا، فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم فشربه فلم يضره (¬10). ¬

(¬1) [14186])) رواه البخاري (5018) وذكر سورة البقرة بدلاً من الكهف، ومسلم (796). (¬2) [14187])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (4/ 289). (¬3) [14188])) رواه البخاري (465). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬4) [14189])) رواه البخاري (602)، ومسلم (2057). من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه. (¬5) [14190])) رواه البخاري (3045). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) [14191])) رواه البخاري (4093). من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه. (¬7) [14192])) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8/ 224)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (6/ 125). (¬8) [14193])) رواه الحاكم (2/ 675)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 369). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬9) [14194])) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 7)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 331) بنحوه. من حديث أنس رضي الله عنه. وروى الترمذي أوله (3854) وقال: صحيح حسن من هذا الوجه. (¬10) [14195])) حديث شرب خالد بن الوليد رضي الله عنه السم رواه أبو يعلى (13/ 109) (7186)، والطبراني (4/ 105) (3809) بلفظ: ((نزل خالد بن الوليد الحيرة على أمر بني المرازبة فقالوا له: احذر السم لا يسقيكه الأعاجم فقال: ائتوني به فأتي به فأخذه بيده ثم اقتحمه وقال: بسم الله فلم يضره شيئاً)) .. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 353): رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح وهو متصل ورجالهما ثقات إلا أن أبا السفر وأبا بردة بن أبي موسى لم يسمعا من خالد والله أعلم.

وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له (¬1) وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق. وعمر بن الخطاب لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى سارية فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر (يا سارية الجبل يا سارية الجبل فقدم رسول الجيش فسأل فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا فإذا بصائح: يا سارية الجبل يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله) (¬2). ولما عذبت الزبيرة على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها؛ قال المشركون: أصاب بصرها اللات والعزى. قالت: كلا والله فرد الله عليها بصرها. ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت الحكم فأعمي بصرها لما كذبت عليه فقال: (اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت) (¬3). والعلاء بن الحضرمي كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم فيستجاب له ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء والإسقاء لما بعدهم فأجيب ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم؛ ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد (¬4). وجرى مثل ذلك لأبي مسلم الخولاني الذي ألقي في النار (فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمى بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال: تفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله عز وجل فيه فقال بعضهم: فقدت مخلاة فقال اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها) (¬5). (وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له: أتشهد أني رسول الله. قال ما أسمع قال أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال نعم فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما؛ وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله) (¬6). ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره. وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها. وكان عامر بن عبد قيس يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه وما يلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها. ¬

(¬1) [14196])) حديث استجابة رب العالمين لسعد رواه الترمذي (3751)، وابن حبان (15/ 450) (6990)، والحاكم (3/ 570). بلفظ: ((اللهم استجب لسعد إذا دعاك)). قال الحاكم: صحيح الإسناد. وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) [14197])) رواه اللالكائى في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (7/ 1330)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (6/ 370)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (20/ 24). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 135): إسناده جيد حسن، وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (2/ 3): إسناده حسن. (¬3) [14198])) رواه أبو يعلى (2/ 255) (962)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/ 97). (¬4) [14199])) رواه الطبراني (18/ 95) (14877). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 379): رواه الطبراني في الثلاثة وفيه إبراهيم بن معمر الهروي ولد إسماعيل ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. (¬5) [14200])) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 121). (¬6) [14201])) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/ 128)، واللالكائي في ((كرامات الأولياء)) (ص: 182)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (27/ 200).

ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه وقال: إنما أنت كلب من كلاب الرحمن وإني أستحي أن أخاف شيئا غيره ومرت القافلة. ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء فكان يؤتى بالماء له بخار. ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه. وتغيب الحسن البصري عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه. ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتا. وصلة بن أشيم (مات فرسه وهو في الغزو فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية فأخذ سرجه فمات الفرس). وجاع مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زمانا. وجاء الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل فلما سلم قال له اطلب الرزق من غير هذا الموضع فولى الأسد وله زئير. وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره. (ورجل من النخع كان له حمار فمات في الطريق فقال له أصحابه هلم نتوزع متاعك على رحالنا فقال لهم: أمهلوني هنيهة ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره فحمل عليه متاعه) (¬1). ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفانا لم تكن معه قبل ووجدوا له قبرا محفورا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه وكفنوه في تلك الأثواب. وكان عمرو بن عقبة بن فرقد يصلي يوماً في شدة الحر فأظلته غمامة وكان السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم. وكان مطرف بن عبد الله بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه آنيته وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط. (ولما مات الأحنف بن قيس وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر) (¬2). وكان إبراهيم التيمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا وخرج يمتار لأهله طعاما فلم يقدر عليه فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله ففتحها فإذا هي حنطة حمراء فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا. (وكان عتبة الغلام سأل ربه ثلاث خصال صوتا حسنا ودمعا غزيرا وطعاما من غير تكلف. فكان إذا قرأ بكى وأبكى ودموعه جارية دهره وكان يأوي إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدري من أين يأتيه) (¬3). (وكان عبد الواحد بن زيد أصابه الفالج فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده) (¬4). مجموع الفتاوى لابن تيمية - 11/ 276 - 282 ¬

(¬1) [14202])) رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (6/ 49). (¬2) [14203])) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (24/ 356). (¬3) [14204])) رواه اللالكائي في ((كرامات الأولياء)) (ص: 225). (¬4) [14205])) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/ 155)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (37/ 226).

المبحث الثالث: أنواع الخوارق

المطلب الأول: أنواع الخوارق من ناحية القدرة والتأثير وأما القدرة والتأثير فإما أن يكون في العالم العلوي أو ما دونه، وما دونه إما بسيط أو مركب، والبسيط إما الجو وإما الأرض، والمركب إما حيوان وإما نبات وإما معدن. والحيوان إما ناطق وإما بهيم، فالعلوي كانشقاق القمر ورد الشمس ليوشع بن نون، وكذلك ردها لما فاتت عليا الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في حجره – إن صح الحديث – فمن الناس من صححه كالطحاوي والقاضي عياض. ومنهم من جعله موقوفاً كأبي الفرج بن الجوزي، وهذا أصح. وكذلك معراجه إلى السماوات. وأما الجو فاستسقاؤه واستصحاؤه غير مرة، كحديث الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما، وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره، وكذلك إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وأما الأرض والماء فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء في عين تبوك وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة. وأما المركبات فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق من حديث جابر وحديث أبي طلحة، وفي أسفاره، وجراب أبي هريرة، ونخل جابر بن عبد الله، وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير واحد من الأرض كعين أبي قتادة. وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته بخصوصه وإنما الغرض التمثيل. وكذلك من باب القدرة عصا موسى صلى الله عليه وسلم وفلق البحر والقمل والضفادع والدم، وناقة صالح، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، كما أن من باب العلم إخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وفي الجملة لم يكن المقصود هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها، وإنما الغرض التمثيل بها. وأما المعجزات التي لغير الأنبياء من باب الكشف والعلم فمثل قول عمر في قصة سارية، وإخبار أبي بكر بان ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلاً. وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام، والقدرة مثل قصة الذي عنده علم من الكتاب. وقصة أهل الكهف، وقصة مريم، وقصة خالد بن الوليد وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها. فإن تعداد هذا مثل المطر. وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس. وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله فمثل نصر الله لمن ينصره وإهلاكه لمن يشتمه. مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية – 5/ 156

المطلب الثاني: أنواع الخوارق من ناحية كونها نعمة أو نقمة

المطلب الثاني: أنواع الخوارق من ناحية كونها نعمة أو نقمة الخارق يكون نعمة من الله، ويكون سبباً للعذاب: الخارق كشفاً كان أو تأثيراً إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها ديناً وشرعاً، إما واجب وإما مستحب. وأن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكراً، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه كان سبباً للعذاب أو البغض، كقصة الذي أوتي الآيات فانسلخ منها: بلعام بن باعوراء، لكن قد يكون صاحبها معذوراً لاجتهاد أو تقليد أو نقص عقل أو علم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة فيكون من جنس برح العابد، والنهي قد يعود إلى سبب الخارق وقد يعود إلى مقصوده فالأول: مثل أن يدعو الله دعاء منهيا عنه اعتداء عليه. وقد قال تعالى ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ [الأعراف: 55] ومثل الأعمال المنهي عنها إذا أورثت كشفاً أو تأثيراً. (والثاني): أن يدعو على غيره بما لا يستحقه، أو يدعو للظالم بالإعانة ويعينه بهمته، كخفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال. فإن كان صاحبه من عقلاء المجانين والمغلوبين غلبة بحيث يعذرون والناقصين نقصاً لا يلامون عليه كانوا برحية. وقد بينت في غير هذا الموضع ما يعذرون فيه وما لا يعذرون فيه، وإن كانوا عالمين قادرين كانوا بلعامية، فإن من أتى بخارق على وجه منهي عنه أو المقصود منهي عنه فأما أن يكون معذوراً معفواً عنه كبرح أو يكون متعمداً للكذب كبلعام.

المطلب الثالث: أنواع الخوارق من ناحية المدح أو الذم أو الإباحة

المطلب الثالث: أنواع الخوارق من ناحية المدح أو الذم أو الإباحة فتخلص أن الخارق ثلاثة أقسام: محمود في الدين، ومذموم في الدين، ومباح لا محمود ولا مذموم في الدين. فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة وإن لم يكن فيه منفعة كان كسائر المباحات التي لا منفعة فيها كاللعب والعبث. اطلب الاستقامة لا الكرامة: قال أبو علي الجوزجاني: كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية – 5/ 157

المطلب الرابع: أنواع الخوارق من ناحية كونها كمالا أو نقصا

المطلب الرابع: أنواع الخوارق من ناحية كونها كمالا أو نقصا ما يكون من الخوارق كمالاً وما يكون نقصاً: وأما القسم الأول هو المتعلق بالدين فقط فقد يكون منه ما لا يحتاج إلى الثاني ولا له فيه منفعة، كحال كثير من الصحابة والتابعين وصالحي المسلمين وعلمائهم وعبادهم، مع أنه لابد أن يكون لهم شخصاً أو نوعاً بشيء من الخوارق، وقد يكون منهم من لا يستعمل أسباب الكونيات ولا عمل بها، فانتفاء الخارق الكوني في حقه إما لانتفاء سببه وإما لانتفاء فائدته، وانتفاؤه لانتفاء فائدته لا يكون نقصاً، وأما انتفاؤه لانتفاء سببه فقد يكون نقصاً وقد لا يكون نقصاً، فإن كان لإخلاله بفعل واجب وترك محرم كان عدم الخارق نقصاً وهو سبب الضرر، وإن كان لإخلاله بالمستحبات فهو نقص عن رتبة المقربين السابقين وليس هو نقصاً عن رتبة أصحاب اليمين المقتصدين، وإن لم يكن كذلك بل لعدم اشتغاله بسبب بالكونيات التي لا يكون عدمها ناقصاً لثواب لم يكن ذلك نقصاً، مثل من يمرض ولده ويذهب ماله فلا يدعو ليعافى أو يجيء ماله، أو يظلمه ظالم فلا يتوجه عليه لينتصر عليه. وأما القسم الثاني وهو صاحب الكشف والتأثير الكوني فقد تقدم أنه تارة يكون زيادة في دينه، وتارة يكون نقصاً، وتارة لا له ولا عليه، وهذا غالب حال أهل الاستعانة، كما أن الأول غالب حال أهل العبادة، وهذا الثاني بمنزلة الملك والسلطان الذي قد يكون صاحبه خليفة نبيا، فيكون خير أهل الأرض، وقد يكون ظالماً من شر الناس، وقد يكون ملكاً عادلاً فيكون من أوساط الناس فإن العلم بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالعلم بأحوالها والتأثير فيها بالملك وأسبابه، فسلطان الحال والقلب كسلطان الملك واليد، إلا أن أسباب هذا باطنه روحانية، وأسباب هذا ظاهرة جثمانية. وبهذا تبين لك أن القسم الأول إذا صح فهو أفضل من هذا القسم، وخير عند الله وعند رسوله وعباده الصالحين المؤمنين العقلاء وذلك من وجوه: الكشف والتأثير الروحاني قد يكونان مفاسد في الدين والدنيا: (أحدها) أن علم الدين طالباً وخبراً لا ينال إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسل وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس، فلا ينال علمه إلا هم وأتباعهم، ولا يعلمه إلا هم وأتباعهم. (الثاني) أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله وصفوته وأحباؤه وأولياؤه ولا يأمر به إلا هم. وأما التأثير الكوني فقد يقع من كافر ومنافق وفاجر، تأثيره في نفسه وفي غيره كالأحوال الفاسدة والعين والسحر، وكالملوك والجبابرة المسلطين والسلاطين الجبابرة، وما كان من العلم مختصاً بالصالحين أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون. (الثالث) أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه في الآخرة ولا يضره. وأما الكشف والتأثير فقد لا ينفع في الآخرة قد يضره كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 103].

(الرابع) أن الكشف والتأثير إما أن يكون فيه فائدة أو لا يكون، فإن لم يكن فيه فائدة كالإطلاع على سيئات العباد وركوب السباع لغير حاجة والاجتماع بالجن لغير فائدة والمشي على المائع مع إمكان العبور على الجسر فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب وإنما يستعظم هذا من لم ينله وهو تحت القدرة والسلطان في الكون مثل من يستعظم الملك أو طاعة الملوك لشخص وقيام الحالة عند الناس بلا فائدة، فهو يستعظمه من جهة سببه لا من جهة منفعته كالمال والرياسة، ودفع مضرة كالعدو والمرض، فهذه المنفعة تنال غالباً بغير الخوارق أكثر مما تنال بالخوارق، ولا يحصل بالخوارق منها إلا القليل، ولا تدوم إلا بأسباب أخرى. وأما الآخر أيضاً فلا يحصل بالخوارق إلا مع الدين، والدين وحده موجب للآخرة بلا خارق، بل الخوارق الدينية الكونية أبلغ من تحصيل الآخرة، كحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك المال والرياسة التي تحصل لأهل الدين بالخوارق، إنما هو مع الدين وإلا فالخوارق وحدها لا تؤثر في الدنيا إلا أثراً ضعيفاً. فإن قيل: مجرد الخوارق أن لم تحصل بنفسها منفعة لا في الدين ولا في الدنيا فهي علامة طاعة النفوس له، فهو موجب الرياسة والسلطان، ثم يتوسط ذلك فتجتلب المنافع الدينية والدنيوية، وتدفع المضار الدينية والدنيوية. المنافع الدينية والدنيوية بأسبابهما أعم وأعظم منها بالخوارق: قلت: نحن لم نتكلم إلا في منفعة الدين أو الخارج في نفسه من غير فعل الناس. وأما إن تكلمنا فيما يحصل بسببها من فعل الناس فنقول، أولاً: الدين الصحيح أوجب لطاعة النفوس وحصول الرياسة من الخارق المجرد كما هو الواقع، فإنه لا نسبة لطاعة من أطيع لدينه إلى طاعة من أطيع لتأثيره، إذ طاعة الأول أعم وأكثر، والمطيع بها خيار بني آدم عقلا ودينا، وأما الثانية فلا تدوم ولا تكثر ولا يدخل فيها الاجهال الناس، كأصحاب مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ونحوهم وأهل البوادي والجبال ونحوهم ممن لا عقل له ولا دين. ثم نقول ثانيا: لو كان صاحب الخارق يناله من الرياسة والمال أكثر من صاحب الدين لكان غايته أن يكون ملكاً من الملوك، بل ملكه أن لم يقرنه بالدين فهو كفرعون وكمقدمي الإسماعيلية ونحوهم، وقد قدمنا أن رياسة الدنيا التي ينالها الملوك بسياستهم وشجاعتهم وإعطائهم أعظم من الرياسة بالخارق المجرد، فإن هذه أكثر ما يكون مدة قريبة. أسباب الكشف والتأثير الخارق للعادة ومضارهما: (الخامس) أن الدين ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير أن يحتاج معه إلى كشف أو تأثير.

وأما الكشف أو التأثير فإن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك المحرمات، وأما في الدنيا فإن الخوارج هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال، فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه، وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن أجسامها، كما يفعله مولهو الأحمدية – فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته، وأشقى نفسه شقاء لا مزيد عليه، وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات، وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم فقد عرض نفسه لعقوبتهم ومحاربتهم، بل لو لم يكن الخارق إلا دلالة صاحب المال المسروق والضال على ماله أو شفاء المريض أو دفع العدو من السلطان والمحاربين – فهذا القدر إذا فعله الإنسان مع الناس ولم يكن عمله ديناً يتقرب به إلى الله كان كأنه قهرمان للناس يحفظ أموالهم، أو طبيب أو صيدلي يعالج أمراضهم، أو أعوان سلطان يقاتلون عنه، إذ عمله من جنس عمل أولئك سواء. ومعلوم أن من سلك هذا المسلك على غير الوجه الديني فإنه يحابي بذلك أقواماً ولا يعدل بينهم، وربما أعان الظلمة بذلك كفعل بلعام وطوائف من هذه الأمة وغيرهم. وهذا يوجب له عداوة الناس التي هي من أكثر أسباب مضرة الدنيا، ولا يجوز أن يحتمل المرء ذلك إلا إذا أمر الله به ورسوله لأن ما أمر الله به ورسوله وإن كان فيه مضرة فمنفعته غالبة على مضرته والعاقبة للتقوى. (السادس) أن الدين علماً وعملاً إذا صح فلابد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه. قال الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2 - 3] وقال تعالى إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29] وقال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَبِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68]. وقال تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس: 62 - 64] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله – ثم قرأ قوله تعالى – إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)) رواه الترمذي وحسنه من رواية أبي سعيد. وقال الله تعالى فيما روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه)) فهذا فيه محاربة الله لمن حارب وليه، وفيه أن محبوب هبه يعلم سمعا وبصراً، وبه يعمل بطشاً وسعياً، وفيه أن يجيبه إلى ما يطلبه منه من المنافع، ويصرف عنه ما يستعيذ به من المضار. وهذا باب واسع. مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية – 5/ 162

المبحث الرابع: الفرق بين الكرامة والأحوال الشيطانية

المبحث الرابع: الفرق بين الكرامة والأحوال الشيطانية وبين كرامات الأولياء وبين ما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة: منها أن كرامات الأولياء سببها الايمان والتقوى والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله. وقد قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون [الأعراف:33] فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية. ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار فإذا حضر رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت سواء كان ذلك المخلوق مسلما أو نصرانيا أو مشركا فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك تصور على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم المشركين. ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت ويقضي الديون ويرد الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت ويدخل إلى زوجته ويذهب وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحدا يغسلني فأن أجيء وأغسل نفسي فلما مات رأى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك الداخل غسله أي غسل الميت غاب وكان ذلك شيطانا وكان قد أضل الميت وقال: إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك ومنهم من يرى عرشا في الهواء وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجروه واستعاذ بالله منه فيزول ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين وقد جرى هذا لغير واحد (وهؤلاء منهم من يرى ذلك عند قبر الذي يزوره فيرى القبر قد انشق وخرج إليه صورة فيعتقدها الميت وإنما هو جني تصور بتلك الصورة ومنهم من يرى فارسا قد خرج من قبره أو دخل في قبره ويكون ذلك شيطانا وكل من قال: أنه رأى نبيا بعين رأسه فما رأى إلا خيالا)

ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر إما الصديق رضي الله عنه أوغيره قد قص شعره أوحلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر إنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وعلى مذهبهم والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطىء فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أويقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر وقد يأتونه بمن يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت والجبت: السحر والطاغوت: الشياطين والأصنام وإن كان الرجل مطيعا لله ورسوله باطنا وظاهرا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب - أقرب إلى الأحوال الشيطانية الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – ص327 من ضوابط الحكم على خرق العادة النظر في سيرة واستقامة من خرقت له: وأما تمييز الولي الصادق الذي قد تجري على يديه الكرامات من الدعي الكاذب الذي يموه على الناس ويخدعهم، فإنما يكون ذلك بحسب صلاحه وتقواه، من قيامه بالفرائض والنوافل، واتقائه الكبائر، والصغائر، واتصافه بالصفات الكريمة، واستدامته عليها، فإن اتصف شخص بكل هذه الصفات الطيبة، وعرفت عنه، ثم حدث على يديه شيء من الخوارق فيما لا يخالف الشرع، فيجوز أن يطلق على ذلك الخارق اسم (كرامة). أما إن كان الرجل على خلاف ذلك، مشتهرا بالفسق والفساد والضلال، وغير ذلك، فإن كل ما يجري على يديه لا يعتد به بالغا ما بلغ، والله أعلم (¬1). من شروط الكرامة: قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (ومن الفوائد في هذا الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته؛ فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل؛ فغير صحيحة، وإن ظهر ببادئ الرأي أنها كرامة؛ إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة، بل منها ما يكون كذلك، ومنها ما لا يكون كذلك. ¬

(¬1) انظر: ((موقف ابن تيمية من التصوف والصوفية)) (ص: 236 - 237)، ((شبهات التصوف)) (ص: 138).

وبيان ذلك بالمثال أن أرباب التصريف بالهمم والتقربات بالصناعة الفلكية، والأحكام النجومية، قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة، وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض، ليس لها في الصحة مدخل، ولا يوجد لها من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم منبع؛ لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على تلك النسبة، ولا تجري فيه تلك الهيئة، ولا اعتمد على قران في الكواكب، ولا التمس سعودها أو نحوسها، بل تحرى مجرد الاعتماد على من إليه يرجع الأمر كله، والتجأ إليه، معرضاً عن الكواكب، وناهياً عن الاستناد إليها؛ إذ قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر)) ... الحديث (¬1) وإن تحرى وقتاً، أو دعا إلى تحريه، فلسبب بريء من هذا كله؛ كحديث التنزل، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار، وأشباه ذلك) إلى أن قال رحمه الله: (وهذا الموضع مزلة قدم للعوام، ولكثير من الخواص؛ فلتتنبه له) (¬2). خرق العادة بمجرده لا يدل على الولاية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول، مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولي لله، فإنه بنى أمره على أنه ولي الله، وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله؛ كأكابر الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه قد صدر عنه مكاشفه في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة؛ مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب، أو يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه، فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض، أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي الله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافقته لأمره ونهيه. وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة -وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله- فقد يكون عدوا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار، والمشركين، وأهل الكتاب، والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي الله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم، وأفعالهم، وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة. مثال ذلك: أن الأمور المذكورة وأمثالها، قد توجد في أشخاص، ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمامات، والقمامين، والمقابر، والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف ... ) (¬3). اهـ. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: ¬

(¬1) رواه البخاري (846)، ومسلم (71). (¬2) ((الموافقات)) (2/ 444 - 446). (¬3) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 61 - 62)، وانظر: ((ولاية الله والطريق إليها)) (ص: 252 - 254).

(ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك فهي صحيحة مقبولة في موضعها، وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام؛ فإنه لا نظر فيها لأحد؛ لأنها واقعة على الصحة قطعاً؛ فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه، وقال له ابنه: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات: 102]، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم. وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة من مجاري العادات، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا، ساغت في نفسها، وإلا فلا؛ كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة، بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه، وإن لم يكن مقصوداً له، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها، أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية؛ بحيث يقع بصره على بشرتها، أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له: (أنا ربك)، أو يرى ويسمع من يقول له: (قد أحللت لك المحرمات)، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يقبلها الحكم الشرعي على حال، ويقاس على ذلك ما سواه، وبالله التوفيق) (¬1). اهـ. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع للصديق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة) (¬2). وقال العلامة الشوكاني رحمه الله: (ولا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من الله سبحانه، فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره. بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة، فإن كانت موافقة لها، فهي حق، وصدق، وكرامة من الله سبحانه، وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك؛ فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان؛ فلبس عليه) (¬3). اهـ. وقال الدكتور تقي الدين الهلالي شيخ التوحيد والسنة في بلاد المغرب – بل في كثير من بلاد العالم الإسلامي – رحمه الله تعالى -: ( .. ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق، وما في عالم الغيب – ليس دليلاً على صلاح من ظهرت له تلك الخوارق، ولا على ولايته لله البتة؛ فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان، وقد سمعنا وقرأنا أن العباد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام) (¬4). اهـ. (إذن، فيجب على كل مسلم التحقق من ذلك، ولا يجوز القطع بولاية كل من فعل خارقاً من خوارق العادات؛ لأن الغاية من خرق العادة عند المشعوذين: التلبيس على المسلمين في دينهم، كما كانت الشياطين تخدع المشركين، فتدخل في أجواف الأصنام وتصدر أصواتاً، يظنون أن أصنامهم تتحدث إليهم، أو تحركها الشياطين من مكانها، فيظنوا أنها تتحرك من تلقاء نفسها. ولقد ذكر الشعراني أن الشيطان كان يدخل في أجواف الأصنام، والغربان، والعصافير، ويتكلم على ألسنتها بما شاء، حتى عبدت من دون الله) (¬5). من القادر على التمييز بين (الأحوال الرحمانية) و (الأحوال الشيطانية)؟ ¬

(¬1) ((الموافقات)) (2/ 481 - 482) بتصرف، وانظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 48 - 49). (¬2) ((فتح الباري)) (12/ 385). (¬3) ((ولاية الله والطريق إليها)) (ص: 249). (¬4) نقله عنه في ((الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة)) (ص: 466). (¬5) ((الرفاعية)) (ص: 94 - 95).

يتمكن إبليس من الإنسان على قدر حظه من العلم، فكلما قل علمه اشتد تمكن إبليس منه، وكلما كثر العلم قل تمكنه منه؛ ولذلك لا تشتبه (الكرامة الرحمانية) بالحال (الشيطانية) إلا عند الجهال، وأهل الأهواء، بخلاف أهل العلم والبصيرة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبي الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول الله رب العالمين، وموسى، والمسيح، وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطلحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وباباه الرومي، وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين، وأولياء الشيطان الضالين) (¬1). اهـ. وقال ابن الجوزي رحمه الله: (ومن العباد من يرى ضوءاً أو نوراً في السماء، فإن كان في رمضان قال: رأيت ليلة القدر، وإن كان في غيره قال: فتحت لي أبواب السماء، وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه، فيظن ذلك كرامة، وربما كان اختباراً، وربما كان من خدع إبليس، والعاقل لا يساكن شيئاً من هذا، ولو كان كرامة) (¬2). كان أبو ميسرة فقيه المغرب يختم كل ليلة في مسجده، فرأى ليلة نورا قد خرج من الحائط، وقال: تمل من وجهي؛ فأنا ربك، فبصق في وجهه، وقال: (اذهب يا ملعون) (¬3)، فطفئ النور (¬4). (وكم اغتر قوم بما يشبه الكرامات، فقد روينا بإسناد عن حسن عن أبي عمران قال: قال لي فرقد: (يا أبا عمران، قد أصبحت اليوم وأنا مهتم بضريبتي، وهي ستة دراهم، وقد أهل الهلال وليست عندي، فدعوت، فبينما أنا أمشي على شط الفرات إذا أنا بستة دراهم، فأخذتها فوزنتها، فإذا هي ستة لا تزيد ولا تنقص)، فقال: (لا تصدق بها، فإنها ليست لك)، قلت: -أبو عمران هو إبراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة- فانظروا إلى كلام الفقهاء، وبعد الاغترار عنهم، وكيف أخبره أنها لقطة، ولم يلتفت إلى ما يشبه الكرامة، وإنما لم يأمره بتعريفها لأن مذهب الكوفيين أنه لا يجب التعريف لما دون الدينار، وكأنه إنما أمره بالتصدق بها لئلا يظن أنه قد أكرم بأخذها وإنفاقها. وبإسناد عن إبراهيم الخراساني أنه قال: احتجت يوماً إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة، رأسه ألين من الخز، فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما وانصرفت. قلت: في هذه الحكاية من لا يوثق بروايته، فإن صحت دلت على قلة علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز، ولكن قل علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، والله تعالى لا يكرم بما يمنع استعماله شرعاً، إلا إن أظهر له ذلك على سبيل الامتحان) (¬5). قال القشيري: (قال إبراهيم الخواص: طلبت الحلال في كل شيء حتى طلبته في صيد السمك، فأخذت قصبة، وجعلت فيها شعرا، وجلست على الماء، فألقيت الشص، فخرجت سمكة، فطرحتها على الأرض، وألقيت ثانية، فخرجت لي سمكة. إذ من ورائي لطمة لا أدري من يد من هي، ولا رأيت أحداً وسمعت قائلاً يقول: أنت لم تصب رزقاً في شيء إلا أن تعمد إلي من يذكرنا فتقتله. قال إبراهيم: فقطعت الشعر، وكسرت القصبة، وانصرفت) (¬6). ¬

(¬1) ((الفرقان)) (ص: 66). (¬2) ((تلبيس إبليس)) (ص: 529). (¬3) لأن الله تعالى لا يرى في الدنيا، ونور الله تعالى لا يقوم له شيء، ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ الجبل وتدكدك، انظر: ((مدارج السالكين)) (3/ 229). (¬4) ((سير أعلام النبلاء)) (15/ 396). (¬5) ((تلبيس إبليس)) (ص: 533). (¬6) ((الرسالة القشيرية)) (ص: 84).

ولو أن هذا الصوفي تدبر قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة: 96]، لجزم قاطعا بأن اللاطم لم يكن سوى إبليس؛ إذ الله لا يعاقب على صيد ما أباحه، ولا يحرم صيد الأسماك؛ لأنها تذكر الله عز وجل؛ فإنه ما من شيء إلا يسبح بحمده ويذكره، ولو تركنا ذبح الأنعام –وهي تذكر الله- تعالى-أيضا، لم يكن لنا ما يقيم قوى الأبدان. وذكر محمد بن أبي الفضل الهمداني المؤرخ قال: حدثني أبي قال: كان السرمقاني المقرئ يقرأ على ابن العلاف، وكان يأوي إلى المسجد بدرب الزعفراني، واتفق أن ابن العلاف رآه ذات يوم في وقت مجاعة، وقد نزل إلى دجلة، وأخذ منه أوراق الخس مما يرمي به أصحابه، وجعل يأكله، فشق ذلك عليه، وأتى إلى رئيس الرؤساء، فأخبره بحاله، فتقدم إلى غلام بالقرب إلى المسجد الذي يأوي إليه السرمقاني أن يعمل لبابه مفتاحاً من غير أن يعلمه، ففعل وتقدم إليه أن يحمل كل يوم ثلاثة أرطال خبزاً سميداً، ومعها دجاجة، وحلوى سكرا، ففعل الغلام ذلك، وكان يحمله على الدوام، فأتى السرمقاني في أول يوم فرأى ذلك مطروحاً في القبلة، ورأى الباب مغلقاً فتعجب، وقال في نفسه: هذا من الجنة، ويجب كتمانه، وأن لا أتحدث به، فإن من شروط الكرامة كتمانها، وأنشدني: من أطلعوه على سر فباح به ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا فلما استوى حاله، وأخصب جسمه، سأله ابن العلاف عن سبب ذلك، وهو عارف به، وقصد المزاح معه، فأخذ يوري ولا يصرح، ويكني ولا يفصح، ولم يزل ابن العلاف يستخبره حتى أخبره أن الذي يجده في المسجد كرامة؛ إذ لا طريق لمخلوق عليه، فقال له ابن العلاف: (يجب أن تدعو لابن المسلمة، فإنه هو الذي فعل ذلك)، فنغص عيشه بإخباره، وبانت عليه شواهد الانكسار (¬1). اهـ. أمثلة من الأحوال الشيطانية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شأن أصحاب الأحوال الشيطانية: (وهؤلاء تقترن بهم الشياطين، وتنزل عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين، قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221 - 223]، وهؤلاء جميعاً ينتسبون على المكاشفات، وخوارق العادات، إذا لم يكونوا متبعين للرسل، فلابد أن يكذبوا، وتكذبهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور؛ مثل نوع من الشرك، أو الظلم، أو الفواحش، أو الغلو، أو البدع في العبادة. ولهذا تنزلت عليهم الشياطين، واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن؛ قال الله تعالى: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36]). ¬

(¬1) ((تلبيس إبليس)) (ص: 533 - 534).

ومن الأحوال الشيطانية حال (عبد الله بن صياد)، الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد خبأت لك خبئا)) قال: ((الدخ الدخ))، وقد كان خبأ له سورة الدخان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((اخسأ فلن تعدو قدرك)) (¬1)، يعني إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، كما هو في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الملائكة تنزل في العنان – وهو السحاب – فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مئة كذبة من عند أنفسهم)) (¬2). وهذا المسيح الدجال الذي هو أعظم فتنة تمر على البشرية في تاريخها، حتى حذر جميع الأنبياء منه أممهم، وحتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: فيما رواه أبو داود عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: ((من سمع الدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه؛ مما يبعث به من الشبهات)) (¬3)، وسوف يأتي بأعظم الخوارق: فمنها: ما رواه حذيفة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار)) (¬4). ومنها: أنه يستعين بالشياطين؛ فقد روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ((وإن من فتنته أن يقول لأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني اتبعه؛ فإنه ربك)) (¬5). ومن فتنته أنه يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويدعو البهائم فتتبعه، ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها المدفونة فتستجيب. ومن فتنته أنه يقتل ذلك الشاب المؤمن فيما يظهر للناس، ثم يدعي أنه أحياه، فيقول ذلك الشاب: ((والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم)) (¬6). يقول شيخ الإسلام في شأن أصحاب الأحوال الشيطانية: (وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم، وتتمثل لهم، وهي جن وشياطين، فيظنونها ملائكة؛ كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام. وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الإسلام: المختار بن أبي عبيد الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في (صحيحه) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيكون في ثقيف كذاب ومبير)) (¬7)، وكان الكذاب: المختار بن أبي عبيد. والمبير: الحجاج بن يوسف، فقيل لابن عمر وابن عباس: إن المختار يزعم أنه ينزل إليه، فقالا: صدق، قال الله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء: 221 - 222]. ¬

(¬1) [14222])) رواه البخاري (1354) , ومسلم (2930) , من حديث عبد الله بن عمر. (¬2) رواه البخاري (3210). (¬3) رواه أبو داود (4319) سكت عنه [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح] وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4319). (¬4) رواه مسلم (2934). (¬5) رواه ابن ماجه (4077) قال ابن كثير ((تفسير القرآن)) (2/ 411): غريب جداً من هذا الوجه. وضعفه الألباني في ((ضعيف ابن ماجه)) (814). (¬6) رواه البخاري (7132) , ومسلم (2938). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬7) رواه مسلم (2545) والترمذي (2220) والإمام أحمد 1/ 220.

وقال الآخر: وقيل له: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام: 121] (¬1). (والأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته، لما تبين لها كفره، فقتلوه. وكذلك مسيلمة الكذاب، كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور. وأمثال هؤلاء كثيرون؛ مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة، وكانت الشياطين تخرج رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يري الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء، ويقول: هي الملائكة، وإنما كانوا جنا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك: إنك لم تسم الله، فسمى الله، فطعنه فقتله (¬2). وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها؛ مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر، فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة، وهو يمسكه فيتوب فيطلقه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل أسيرك البارحة؟))، فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: ((كذبك وإنه سيعود))، فلما كان في المرة الثانية، قال: دعني حتى أعلمك ما ينفعك: إذا أويت إلى فراشك فاقرآ آية الكرسي: اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] ... إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صدقك وهو كذوب)) (¬3)، وأخبره أنه شيطان. ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها؛ مثل من يدخل النار بحال شيطاني، أو يحضر سماع المكاء والتصدية، فتنزل عليه الشياطين، وتتكلم على لسانه كلاماً لا يعلم، وربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة؛ كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك، بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولبسه، وتكلم على لسانه، فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال) (¬4). اهـ. المهدي وفقه أشراط الساعة لمحمد أحمد إسماعيل المقدم– ص: 237 من الخوارق ما لا يكون بتسبب شيطاني مباشر، وإنما يكون بطريق التعلم والحيلة، كما يفعله النصارى كثيراً، وكما كان يفعل ابن تومرت (¬5)، وكما روي عن الحلاج، من أنه (كان يدفن شيئاً من الخبز، والشواء، والحلوى في موضع من البرية، ويطلع بعض أصحابه على ذلك، فإذا أصبح قال لأصحابه: (إن رأيتم أن نخرج على وجه السياحة)، فيقوم، ويمشي الناس معه، فإذا جاءوا إلى ذلك المكان، قال له صاحبه الذي أطلعه على ذلك: (نشتهي الآن كذا وكذا)، فيتركهم الحلاج، وينزوي عنهم إلى ذلك المكان، فيصلي ركعتين، ويأتيهم بذلك، وكان يمد يده إلى الهواء، ويطرح الذهب في أيدي الناس ويمخرق، وقد قال له بعض الحاضرين يوما: (هذه الدراهم معروفة، ولكن أؤمن بك إذا أعطيتني درهما عليه اسمك واسم أبيك)، وما زال يمخرق إلى وقت صلبه) (¬6). ومن ذلك ما ذكره بعض أصحاب ابن الشباس قال: (حضرنا يوماً عنده، فأخرج جدياً مشوياً، فأمرنا بأكله، وأن نكسر عظمه ولا نهشمها، فلما فرغنا أمر بردها إلى التنور، وترك على التنور طبقا، ثم رفعه بعد ساعة، فوجدنا جديا حيا يرعى حشيشا، ولم نر للنار أثرا، ولا للرماد ولا للعظام خبرا، قال: فتلطفت حتى عرفت ذلك، وذلك أن التنور يفضي إلى سرداب، وبينهما طبق نحاس بلولب، فإذا أراد إزالة النار عنه فركه فينزل عليه فيسده وينفتح السرداب، وإذا أراد أن يظهر النار أعاد الطبق إلى فم السرداب فتراءى للناس). قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: (وقد رأينا في زماننا من يشير إلى الملائكة ويقول: هؤلاء ضيف مكرمون، يوهم أن الملائكة قد حضرت، ويقول لهم: تقدموا إلي. وأخذ رجل في زماننا إبريقا جديداً فترك فيه عسلا، فتشرب في الخزف طعم العسل، واستصحب الإبريق في سفره، فكان إذا غرف به الماء من النهر، وسقى أصحابه وجدوا طعم العسل، وما في هؤلاء من يعرف الله، ولا يخاف في الله لومة لائم، نعوذ بالله من الخذلان) (¬7). المهدي وفقه أشراط الساعة لمحمد أحمد إسماعيل المقدم– ص: 256 ¬

(¬1) ((الفرقان)) (ص: 86). (¬2) انظر تفصيل خبره في ((تلبيس إبليس)) (ص: 529 - 533). (¬3) رواه البخاري (2311). (¬4) ((الفرقان)) (ص: 134 - 135). (¬5) انظر: ((حيل ودجل ابن تومرت)) (ص: 394، 401). (¬6) ((تلبيس إبليس)) (ص: 539). (¬7) ((تلبيس إبليس)) (ص: 541 - 542)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 445، 610)، و ((البداية والنهاية)) (14/ 36).

المبحث الخامس: الفرق بين المعجزة والكرامة

المبحث الخامس: الفرق بين المعجزة والكرامة الفرق بين المعجزة والكرامة: أن المعجزة تكون مقرونة بدعوى النبوة. بخلاف الكرامة فإن صاحبها لا يدعي النبوة وإنما حصلت له الكرامة باتباع النبي والاستقامة على شرعه. فالمعجزة للنبي والكرامة للولي. وجماعهما الأمر الخارق للعادة. وذهب بعض الأئمة من العلماء: إلى أن كرامات الأولياء في الحقيقة تدخل في معجزات الأنبياء لأن الكرامات إنما حصلت للولي باتباع الرسول، فكل كرامة لولي هي من معجزات رسوله الذي يعبد الله بشرعه. ومن هذا يتبين أن إطلاق المعجزة على خوارق الأنبياء والكرامة على خوارق الأولياء معنيان اصطلاحيان ليسا موجودين في الكتاب والسنة وإنما اصطلح عليهما العلماء فيما بعد وإن كانا في مدلولهما يرجعان إلى ما تقرر في النصوص من الحق. أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لنخبة من العلماء ص203 مما يتعلق بتمييز الكرامة عن غيرها من خوارق العادات؛ التمييز بين الولي الذي يجوز أن تحدث له الكرامة، وبين من هو أعلى منه منزلة؛ وهو النبي، أو من يدعي مثل منزلته كذباً وبهتاناً، وهو المشعوذ والساحر وغيرهم. فأما الفرق بين النبي والولي من جهة الخارق الذي يجري على يد كل منهما، فقد علمنا أن النبي تجري على يده المعجزات، وهي نوعان، سماها ابن تيمية معجزات كبرى، وهي دليل صدقه، ونوع من التوابع والنوافل سماها معجزات صغرى. والولي تحدث على يده الكرامات، وقد تشتبه بالمعجزات الصغرى، أو تماثلها، ولكن النبي يختص بالعصمة دون الولي، فالمعجزة للنبي دليل على عصمته من الخطإ فيما أرسل من أجله؛ وهو التشريع. أما الولي فكرامته إنما تدل على صدق النبي الذي آمن به هذا الولي، واتبعه في شريعته، ولا تدل بحال على عصمته هو من أن يخطئ في بعض أعماله أو عباداته أو توجيهاته لأنه لم يرسل ويصطف من الله –عز وجل- لهذا الغرض كالنبي، وإنما هو مجتهد فيه، أما النبي فقد اصطفاه الله من عباده لهذا الغرض (¬1). الكرامة تدل على الولاية، لكنها لا تدل على العصمة: ومن هنا وجبت طاعة النبي مطلقا، بينما لا تجب طاعة الولي مطلقاً، إلا فيما عليه دليل شرعي واضح، وفارق آخر بين المعجزة والكرامة؛ هو أن الكرامة تحدث بحسب حاجة الولي، فإذا احتاج إليها لتقوية إيمانه؛ جاءه منها ما يكفيه لتقوية إيمانه، أو احتاج إليها لفك ضيق عليه، أو على من يدعو له؛ جاءه من ذلك ما يفرج كربته ويجيب دعاءه، بخلاف المعجزات؛ فإنها لا تكون إلا لحاجة الخلق وهدايتهم. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه: (وكرامات الصالحين تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسول، ولا تدل على أن الولي معصوم، ولا على أنه يجب طاعته في كل ما يقوله. ومن هنا، ضل كثير من الناس من النصارى وغيرهم؛ فإن الحواريين –مثلاً- كانت لهم كرامات، كما تكون الكرامات لصالحي هذه الأمة فظنوا أن ذلك يستلزم عصمتهم، كما يستلزم عصمة الأنبياء فصاروا يوجبون موافقتهم في كل ما يقولون وهذا غلط). والحقيقة أن كثيراً من المسلمين –أيضا- قد وقع فيما وقع فيه النصارى من الخطإ الذي ذكره ابن تيمية، فبمجرد أن يشتهر شخص بشيء من الكرامات ترتفع درجة الثقة في أقواله، وتوجيهاته، وأوامره، ونواهيه، إلى حد أن أكثر الناس لا يقبل فيها جدلاً البتة (¬2). المهدي وفقه أشراط الساعة لمحمد أحمد إسماعيل المقدم– ص: 236 ¬

(¬1) انظر: ((شبهات التصوف)) (ص: 136). (¬2) انظر: ((شبهات التصوف)) (ص: 126 - 137).

الباب الخامس: المسائل الفقهية الواردة في كتب العقيدة

الفصل الأول: المسح على الخفين من أقدم الأئمة الذين قرروا تلك المسألة: الإمام سفيان الثوري في عقيدته حيث قال مخاطباً من سأله عن معتقده: (يا شعيب بن حرب، لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قدميك) (¬1). بل قال سفيان الثوري: (من لم يمسح على الخفين فاتهموه على دينكم) (¬2). وعد سهل بن عبد الله التستري المسح على الخفين من خصال أهل السنة (¬3). كما قرر ذلك أبو حنيفة (¬4) وأبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة) (¬5)، والطحاوي في (عقيدته) (¬6)، وابن بطة في (الإبانة الصغرى) (¬7)، والبربهاري في (شرح السنة) (¬8)، وابن خفيف في (عقيدته) (¬9)، وأبو عمرو الداني في (الرسالة الوافية) (¬10). ووجه إيراد مسألة المسح على الخفين ضمن كتب الاعتقاد: مخالفة الروافض والخوارج الذين لا يجيزون المسح على الخفين، وكما قال الإمام محمد بن نصر المروزي: (وقد أنكر طوائف من أهل الأهواء والبدع من الخوارج والروافض المسح على الخفين) (¬11). وقال الإمام النووي: (أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر سواء كان لحاجة أو لغيرها ... وإنما أنكرته الشيعة والخوارج ولا يعتد بخلافهم) (¬12). وجاء عن الإمام الشعبي أنه قال: (واليهود لا يرون المسح على الخفين، وكذلك الرافضة) (¬13). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: (وقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين، وبغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة، كما تخالف الخوارج نحو ذلك) (¬14). وقال في موضع آخر: (وكان سفيان الثوري يذكر من السنة المسح على الخفين؛ لأن هذا كان شعاراً للرافضة) (¬15). مسائل الفروع الواردة في مصنفات العقيدة جمعاً ودراسة لعبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف– ص: 4 يقول العلامة الطحاوي: (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ). يريد بذلك أَنَّ أهل السنة والجماعة المتبعين للآثار لا يُعَارِضُون الآثار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام بالأقْيِسَةْ أو بالدِّلالات العقلية، وإنما يجعلونها مُقَدَّمَةً على ما هو دونها من القياس والدلالة العقلية ونحو ذلك؛ لأنَّ منهج الاستدلال عندهم أنْ يُؤْخَذَ بما جاء في الكتاب والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في القرآن حق وما جاءت به السنة حق، والحق يعضد الحق ولا يعارضه أو يناقضه؛ بل هذا يدل على هذا كما السنة تدل على القرآن وتُبَيِّنُهْ. ¬

(¬1) أخرجه اللالكائي في ((أصول السنة)) (1/ 154)، وأنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/ 151). (¬2) أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) (7/ 32). (¬3) انظر: ((السنة للالكائي)) (1/ 33). (¬4) انظر: ((الفقه الأكبر)) (ص: 4). (¬5) انظر: ((الإبانة)) (ص: 61). (¬6) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 552). (¬7) انظر: ((الإبانة الصغرى)) (ص: 287). (¬8) ((شرح السنة)) (ص: 30). (¬9) انظر: ((الفتوى الحموية)) لابن تيمية (ص: 443). (¬10) انظر: ((الرسالة الوافية)) (ص: 145). (¬11) ((السنة)) (ص: 104)، وانظر ((المجموع)) للنووي (1/ 500)، و ((المغني)) لابن قدامة (1/ 360)، و ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/ 161)، و ((فقه الإمامية)) للسالوس (ص: 112). (¬12) ((صحيح مسلم بالنووي)) (3/ 160). (¬13) ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 33). (¬14) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 174). (¬15) ((مجموع الفتاوى)) (22/ 423) = باختصار.

وهذه المسألة كما هو ظاهر مسألة المسح على الخفين هي من مسائل الفقه لا من مسائل العقيدة؛ ولكن أُدْخِلَتْ في مسائل الاعتقاد لأجل أنَّ أهل السنة تميَّزُوا عن عدد من الفرق بأنَّهُمْ يرون المسح على الخفين، والمخالف في ذلك هم الخوارج -أعني طائفةً منهم- والرافضة وعدد من الناس مختلفون في أماكنهم لا يُنْسَبُونَ إلى فرقة من الفرق. فلأجل مخالفة تلك الفرق صارت المسألة من المسائل العقدية؛ لأنَّهَا تُمَيِّزْ أهل العقيدة الحقة من الفرق الباطلة، فصارت هذه المسألة وهي المسح على الخفين صارت عَلَمَاً يُفَرَّقُ به ما بين السني وما بين الرافضي والخارجي ونحوهما. ولهذا فإنَّ مسائل الاعتقاد أعني المسائل التي تُذْكَرْ في العقيدة في مصنفات أهل السنة في الماضي وفي الحاضر على أقسام منها: القسم الأول: ما هو في بيان الأركان الستة. القسم الثاني: ما تميَّز به أهل السنة عن غيرهم في مسائل المعاملة؛ معاملة ولاة الأمر أو معاملة المبتدع أو معاملة العصاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو التعامل مع صحابة رسول الله? وزوجاته? وهكذا. وأمَّا المسح على الجوارب فليس كذلك؛ لأنَّهُ نُقِلَ عن نحو سبعة أو ثمانية من الصحابة أو أكثر بقليل، ولهذا المسح على الجوربين فيه خلافٌ فقهي معروف عند أهل السنة. أما المسح على الخفين فهو أصل من الأصول العظيمة في العمل؛ لأنَّ النبي تواتَرَ عنه المسح وفَعَلَهُ صحابته وتواتر عنهم ونقلوه نقلاً قولياً وعملياً. والآثار في مسحه على الخفين في أسفاره وفي الحضر أيضاً، كما قال ((يمسح المقيم يوما وليلة، ويمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن)) (¬1)، فهذا معنى قوله في السفر والحضر؛ لأنَّ السُّنَّةَ ماضية في هذا وهذا. المسألة الثالثة: مما أُسْتُدِلَّ به على المسح على الخفين من القرآن قوله: في آية الوضوء يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، اسْتُدِلَّ به على أنَّ المسح هنا -مسح الأرجل- يُرَادُ به المسح على الخفين، والقراءة هكذا بالجر هي أحد القراءتين السبعيَّتَين، هاهنا قراءتان: القراءة الأولى وَأَرْجُلَكُمْ بنصب الأرْجُل عطفاً على المغسولات. والثانية وَأَرْجُلِكُمْ عَطْفَاً على الرأس عند أصحاب هذا القول؛ يعني فتكون مجرورة. وهذا الاستدلال فيه نظر، وإن كان محلُّهُ كتب الفقه؛ لكن من باب الاستطراد نذكره، فيه نظر لأنَّ المسح على الخفين لا يكون إلى الكعبين، وإنما يَمْسَحُ ظاهر الخف على ظاهر القدم، وليست السُّنَّة أن تُسْتَوعَبْ الرجل مسحاً إلى الكعبين، ولهذا صار القول الظاهر في الآية على قراءة الجر أنَّ لها توجيهين: (التوجيه الأول: أن يكون هذا الجر لأجل المجاورة، والجر بالمجاورة أسلوب عربي معروف كثير الاستعمال، ومنه قول الله إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: 26]، مع أنَّ الألم وصف للعذاب، وأما اليوم فهو ظرف ولا يُوصف اليوم بأنه مؤلم أو ليس بمؤلم، ولهذا صار الظاهر هنا في هذه الآية أنَّ معناها إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم، يعني عذاباً أليماً في يوم، كما هو القول الأظهر من قولي العلماء هنا. وجُرَّ هنا لأجل المجاورة فهي أسهل في اللفظ ولأجل الختام قال عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، وأما في لغة العرب فهو كثير معروف ومنه قول الشاعر: فظلّ طُهَاةُ اللحم ما بين مُنْضِجٍ خفيفاً شواءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ (ما بين منضج خفيفاً شواء)؛ لأنها مفعول لاسم الفاعل. ¬

(¬1) [14253])) رواه مسلم (276) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(خفيف شواء) فجر شواء لأنها مضاف إليه. ثم قال (أو قديرٍ) مع أنَّ حقها أن يقول أو قديراً لأنها معطوفة على ما يُنْضَجْ لكنه جَرَّهَا بالمجاورة. (التوجيه الثاني: أنَّ قراءة الجر إذا كانت معطوفة على الرأس فإنه يكون المسح هنا بأنَّ العطف في مقام تسليط الفعل الأول على الجملة الثانية أو على الاسم الثاني. فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين. والمسح هنا لما جَعَلَ له غاية وهي أنه إلى الكعبين دلَّ على دخول الكعبين في المسح، وهذا يدل على أنَّ المسح المراد به هنا الغسل الخفيف؛ لأنَّ العرب تُطْلِقُ على الغسل مسحاً لأنَّهُ إمرارٌ خفيف وهو موجودٌ في اللغة، ومنه قوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ [ص: 33] يعني مَرَّ عليها قتلاً على خفة. فالمسح يكون بمرورٍ على خِفَّة، فالمسح الذي هو من الغَسْلْ هو غسل خفيف وهو مستعمل عندهم حيث يقولون مثلاً: تَمَسَّحْتُ للصلاة إذا أراد أن يكون وضوؤه خفيفاً. المسألة الرابعة: قراءة الجر هذه بأبْعَدَ من أن تكون دليلاً على المسح على الخفين؛ قيل إنَّهَا دليلٌ على إبطال المسح على الخفين، وهذا هو الذي يتوجه إليه من يتكلم على الآية وذَكَرَهُ عندكم الشارح والرَّدُّ بَأَوْجَهْ أن يكون بالوجهين السالفين. شرح العقيدة الطحاوية لصالح آل الشيخ الحكم الجليل الذي به فرق بين أهل السنة وأهل البدع وهو المسح على الخفين لا ينكره إلا مخذول أو مبتدع خارج عن جماعة المسلمين أهل الفقه والأثر لا خلاف بينهم في ذلك بالحجاز والعراق والشام وسائر البلدان إلا قوما ابتدعوا فأنكروا المسح على الخفين وقالوا إنه خلاف القرآن وعسى القرآن نسخه ومعاذ الله أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الله بل بين مراد الله منه كما أمره الله عز وجل في قوله: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. [النحل: 44] وقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية [النساء: 65]. والقائلون بالمسح جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين قديما وحديثا وكيف يتوهم أن هؤلاء جاز عليهم جهل معنى القرآن أعاذنا الله من الخذلان. روى ابن عيينة والثوري وشعبة وأبو معاوية وغيرهم عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال: ((رأيت جريرا يتوضأ من مطهرة ومسح على خفيه فقيل له أتفعل هذا فقال وما يمنعني أن أفعله وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله)). قال إبراهيم: فكانوا يعني أصحاب عبد الله وغيرهم يعجبهم هذا الحديث ويستبشرون به لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وعن ... جرير بن عبد الله قال: ((وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على خفيه بعد ما أنزلت سورة المائدة)) ..... عن همام بن الحارث قال: ((رأيت جرير بن عبد الله يتوضأ من مطهرة ومسح على خفيه فقالوا أتمسح على خفيك فقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه)) وكان هذا الحديث يعجب أصحاب عبد الله يقولون إنما كان إسلامه بعد نزول المائدة. عن إبراهيم عن همام قال: ((بال جرير بن عبد الله ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له أتفعل هذا وقد بلت فقال نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه)) قال إبراهيم: وكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول سورة المائدة. وعن إبراهيم عن همام بن الحارث ((عن جرير أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه وصلى فسئل عن ذلك فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا)). وكان يعجبهم هذا الحديث من أجل أن جريرا كان من آخر من أسلم.

عن بكير بن عامر بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن جريرا بال ثم توضأ ومسح على الخفين فقيل له في ذلك فقال ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح قالوا إنما كان ذلك قبل نزول المائدة قال ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين نحو أربعين من الصحابة واستفاض وتواتر وأتت به الفرق إلا أن بعضهم زعم أنه كان قبل نزول المائدة وهذه دعوى لا وجه لها ولا معنى. وقد روي عن الحسن البصري رحمه الله قال أدركت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يمسح على خفيه. وعمل بالمسح على الخفين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بدر والحديبية وغيرهم من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين أجمعين وفقهاء المسلمين في جميع الأمصار وجماعة أهل الفقه والأثر كلهم يجيز المسح على الخفين في الحضر والسفر للرجال والنساء ....... ممن روينا عنه أنه مسح على الخفين وأمر بالمسح عليهما في الحضر والسفر بالطرق الحسان من مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن مسعود وأنس بن مالك والبراء بن عازب وحذيفة بن اليمان والمغيرة وسليمان وبلال وخزيمة بن ثابت وعمرو بن أبي أمية وعبد الله بن الحارث بن جرير الزبيري وأبو أيوب وجرير وأبو موسى وعمار وسهل بن سعد وأبو هريرة. ولم يرو عن غيرهم منهم خلاف إلا شيء لا يثبت عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة. التمهيد لابن عبد البر - بتصرف -11/ 134

الفصل الثاني: مسائل فقهية أخرى

الفصل الثاني: مسائل فقهية أخرى 1 - الطهارة: - إذا كان الإسلام وسطاً بين الملل، فإن أهل السنة وسط بين النحل؛ ففي الطهارة كان الإسلام وسطاً بين تشدد اليهود وتفريط النصارى، كما أن أهل السنة وسط بين الإفراد والتفريط في هذا الباب. يبين شيخ الإسلام وسطية الإسلام في باب الطهارة قائلاً: (فإن التشديد في النجاسات جنساً وقدراً هو دين اليهود، والتساهل هو دين النصارى، ودين الإسلام هو الوسط) (¬1). ويقول في موضع آخر: (ومن تدبر حال اليهود والنصارى مع المسلمين، وجد اليهود والنصارى متقابلين: هؤلاء في طرف، وهؤلاء في طرف يقابله، والمسلمون هم الوسط ... إلى أن قال: فالنصارى حللوا الخنزير وغيره من الخبائث. كما أسقطوا الختان وغيره، وأنواع الطهارة من الغسل وإزالة النجاسة وغير ذلك. واليهود بالغوا في اجتناب النجاسات) (¬2). وأما عن وسطية أهل السنة بين الإفراط والتفريط الواقع عند طوائف المبتدعة، فأهل السنة مجانبون للتشدد والإفراط، فيأمرون بالصلاة في النعال مخالفة لليهود (¬3)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) (¬4). وقال ابن القيم: (ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين: الصلاة في النعال، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلاً منه وأمراً) (¬5). ويجيز أهل السنة الصلاة في السراويل خلافاً للخوارج. قال البربهاري: (ولا بأس بالصلاة في السراويل) (¬6). وقال الملطي: (ومن شذوذ الحرورية في الفروع إذا تطهر منهم الرجل لا يبرح ولا يمشي حتى يصلي في مكانه؛ لأنه إذا مشى تحرك شرجه، ولا يصلون في السراويل) (¬7). وجانب أهل السنة تعنت الرافضة الذين زعموا أن سؤر الكافر نجس، بل قالوا بتنجيس المائعات التي يباشرها أهل السنة، وكل ذلك تأثراً باليهود السامرة التي تحرم وتنجس ما باشره غيرهم من المائعات (¬8). ومن تشدد الرافضة: إيجابهم الابتداء باليمين في اليدين والرجلين عند الوضوء (¬9)، ولذا قال الإمام النووي: (وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة، ولو خالفها فاته الفضل وصح الوضوء، وقال الشيعة هو واجب، ولا اعتداد بخلاف الشيعة) (¬10). كما جانب أهل السنة أيضاً التفريط في باب الطهارة؛ فالرافضة – مثلا- خالفوا الأدلة في اعتبار المذي من موجبات الوضوء، فحكم الرافضة بطهارة المذي وعدم انتقاض الوضوء بخروج المذي (¬11). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 18، 19)، وانظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 188). (¬2) ((الجواب الصحيح)) (2/ 52، 53) = باختصار، وانظر: ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 171). (¬3) انظر: ((اقتضاد الصراط المستقيم)) (1/ 181)، و ((مجموع الفتاوى)) (22/ 166). (¬4) [14257])) رواه أبو داود (652) , والحاكم (1/ 391) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/ 432) , من حديث شداد بن أوس, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (2/ 131): لا مطعن في إسناده, وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬5) ((إغاثة اللهفان)) (1/ 230، 231). (¬6) ((شرح السنة)) (ص: 27). (¬7) ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (3/ 160). (¬8) انظر تفصيل ذلك في ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 37، 5/ 174)، و ((فقه الشيعة الإمامية)) لعلي السالوس (ص: 77). (¬9) انظر: ((فقه الإمامة)) لعلي السالوس (ص: 94). (¬10) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (3/ 160). (¬11) انظر: ((مختصر التحفة الإثني عشرية)) للآلوسي (ص: 212)، و ((فقه الإمامية)) للسالوس (ص: 90).

وأوجب الشيعة مسح الرجلين ببقية البلل إلا في حال التقية (¬1)، وقال بعض طوائف المعتزلة بالتخيير بين مسح الرجلين وبين غسلهما. قال النووي: (أجمع العلماء على وجوب غسل الوجه واليدين والرجلين، وانفردت الرافضة عن العلماء، فقالوا: الواجب في الرجلين المسح، وهذا خطأ منهم؛ فقد تظاهرت النصوص بإيجاب غسلهما) (¬2). وقال شيخ الإسلام: (ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن، ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع إمكان الغسل) (¬3). وقال في موطن آخر: (فالقدم كثيراً ما يفرط المتوضئ بترك استيعابها، حتى قد اعتقد كثير من أهل الضلال أنها لا تغسل، بل فرضها مسح ظاهرها عند طائفة من الشيعة، والتخيير بينه وبين الغسل عند طائفة من المعتزلة) (¬4). 2 - الصلاة: أ- ومن ذلك ترك الجهر بالبسملة – في الصلاة الجهرية – حيث قال الإمام سفيان الثوري في اعتقاده: (وإخفاء البسملة أفضل من الجهر) (¬5). وقال ابن بطة: (من السنة ألا تجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) (¬6). وذلك مخالفة للرافضة الذين يستحبون الجهر بالبسملة في مواضع الإخفات (¬7)، وكان سفيان الثوري إمام أهل الكوفة، وقد ظهر فيهم الرفض، حتى قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: (لا تأخذوا عن أهل الكوفة في الرفض شيئاً)، ولذا أظهر سفيان مخالفتهم بترك الجهر بالبسملة، لاسيما أن الرافضة قد وضعوا أحاديث في الجهر بالبسملة (¬8) وهذه المسألة خلافية بين أهل السنة أنفسهم؛ فمنهم من استحب الجهر بالبسملة محتجاً بأدلة، ومنهم من استحب إخفاءها لأدلة (¬9). والمقصود من إيرادها بيان ما كان عليه أئمة السلف من مجانبة المبتدعة والحذر من موافقتهم؛ ففي هذه الحالة تكون مصلحة مخالفتهم والتمييز عنهم بترك الجهر بالبسملة آكد من مصلحة هذا المستحب – أي الجهر بالبسملة – كما حقق ذلك شيخ الإسلام تحقيقاً دقيقاً فقال: (الذي عليه أئمة الإسلام أن ما كان مشروعاً لم يترك لمجرد فعل أهل البدع (¬10)، لا الرافضة ولا غيرهم وأصول الأئمة كلهم توافق هذا. إلى أن قال: فالجهر بالبسملة هو مذهب الرافضة، وبعض الناس تكلم في الشافعي بسببها، ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية؛ لأن المعروف في العراق أن الجهر كان من شعار الرافضة، حتى إن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة؛ لأنه كان عندهم من شعار الرافضة .. ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول الرافضة. ¬

(¬1) انظر: ((فقه الإمامية)) للسالوس (ص: 101). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (3/ 107)، وانظر: (3/ 129، 133). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 134). (¬4) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 136). (¬5) أخرجه اللالكائي في ((أصول السنة)) (1/ 152). (¬6) ((الإبانة الصغرى)) (ص: 288)، وانظر: ((الإبانة الكبرى)) (ت الوابل) (2/ 287). (¬7) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/ 423)، و ((فقه الأمامية)) للسالوس (ص: 181). (¬8) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/ 423). (¬9) انظر: ((المجموع)) للنووي (3/ 298)، و ((المغني)) (2/ 149). (¬10) وقدر قرر ذلك الإمام النووي. انظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (5/ 264).

ثم قال: إنه إذا كان في فعل مستحب مفسدة راجحة لم يصر مستحباً، ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم، فإنه لم يترك واجباً بذلك، لكن قال في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميز السني من الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب، وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك المستحب، لكن هذا أمر عارض لا يقتضي أن يجعل المشروع ليس بمشروع دائماً) (¬1). ومما يؤكد هذا التحقيق أن المروي عن الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – أن الجهر بالبسملة غير مسنون (¬2)، ومع ذلك استحب الجهر بها لمصلحة راجحة، حتى إنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها؛ لأن أهل المدينة كانوا ينكرون على من يجهر بها (¬3). ب- ومن مسائل الصلاة: المبادرة بصلاة المغرب إذا دخل وقتها. قال ابن بطة: (ومن السنة المبادرة بصلاة المغرب إذا غاب حاجب الشمس قبل ظهور النجوم) (¬4). وذلك مخالفة لليهود ومن تأثر بهم من الرافضة كما في مقالة الإمام الشعبي –رحمه الله-: (واليهود لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم .. وكذلك الرافضة) (¬5). قال النووي: (قد ذكرنا إجماعهم على أن أول وقتها غروب الشمس، وحكى الماوردي وغيره عن الشيعة أنهم قالوا: لا يدخل وقتها حتى تشتبك النجوم، والشيعة لا يعتد بخلافهم) (¬6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- عن الرافضة: (فلهذا تجد فيما انفردوا به عن الجماعة أقوالاً في غاية الفساد، مثل تأخيرهم صلاة المغرب حتى يطلع الكوكب مضاهاة لليهود، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل المغرب) (¬7). وقال في موضع آخر: (وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال أمتي بخير –أو على الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم)) ورواه ابن ماجة من حديث العباس (¬8)، ورواه الإمام أحمد من حديث السائب بن يزيد (¬9). وقد جاء مفسراً تعليله: (لا يزالون بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى طلوع النجم، مضاهاة لليهود ... ) قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الصلت بن بهرام، عن الحارث بن وهب، عن أبي عبد الرحمن الصنابحي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية)) (¬10). ¬

(¬1) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 149، 150، 154) = باختصار. (¬2) انظر: ((المغني)) (2/ 149). (¬3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/ 407). (¬4) ((الإبانة الصغرى)) (ص: 287). (¬5) ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 31). (¬6) ((المجموع)) (3/ 38). (¬7) ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 173). (¬8) [14282])) رواه الإمام أحمد 3/ 449. قال الخطيب البغدادي ((تاريخ بغداد)) (14/ 15): غريب وقال ابن عبد الهادي ((تنقيح تحقيق التعليق)) (1/ 255) [فيه] عبد الله بن الأسود القرشي قال أبو حاتم شيخ. (¬9) [14283])) رواه ابن ماجه (689) , والطبراني في ((الأوسط)) (2/ 214) و ((الصغير)) (1/ 56) , والحاكم (1/ 304) , من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه, قال النووي في ((المجموع شرح المهذب)) (3/ 35): إسناده جيد, وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (11/ 142): [فيه] عمر وهو تالف, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬10) [14284])) رواه أحمد (4/ 349) (19090) , والطبراني (8/ 80) , قال ابن رجب في ((فتح الباري لابن رجب)) (3/ 240): مرسل, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 316): رجاله ثقات.

ومما يحسن إلحاقه بهذه المسألة: ما قرره ابن تيمية من مشروعية الفصل بين الفرض والنفل في صلاة الجمعة، لما جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ((نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام)) (¬1) ثم علل ابن تيمية ذلك بقوله: (فإن كثيراً من أهل البدع لا ينوون الجمعة بل ينوون الظهر، ويظهرون أنهم سلموا، وما سلموا، فيصلون ظهراً، ويظن الظان أنهم يصلون السنة، فإذا حصل التمييز بين الفرض والنفل كان في هذا منع لهذه البدعة) (¬2). د- يقرر أهل السنة مشروعية إقامة صلاة التراويح – كما هو مبسوط في موضعه– خلافاً للروافض القائلين بأنها بدعة حدثت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬3). قال الإمام أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر: (والتراويح في ليالي شهر رمضان سنة) (¬4). وقال الملا علي قاري في شرحه للفقه الأكبر: (وفيه رد على الروافض) (¬5). وقال أبو عبد الله محمد بن خفيف في (عقيدته): (والتراويح سنة) (¬6). وقال قوام السنة الأصفهاني: (ومن السنة صلاة التراويح في شهر رمضان في الجماعة) (¬7). ولما سئل ابن تيمية عمن يصلي التراويح قبل العشاء الآخرة، كان من جوابه: (ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح؛ فإذا صلوا قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح .. فمن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة) (¬8). وإذا تقرر – عند أهل السنة – استحباب صلاة التراويح خلافاً للرافضة، فإن أهل السنة وسط في هذا الباب بين غلاة المتعبدة الذين أوجبوا قيام الليل، وبين الروافض الجفاة، كما بين ذلك ابن تيمية بقوله: (وغلاة العباد يوجبون على أصحابهم صلاة الضحى والوتر وقيام الليل، فتصير الصلاة عندهم سبعاً، وهو دين النصارى، والرافضة لا تصلي جمعة ولا جماعة، لا خلف أصحابهم ولا غير أصحابهم، ولا يصلون إلا خلف المعصوم، ولا معصوم عندهم) (¬9). هـ- ومسائل الصلاة التي قررها أهل السنة في كتب العقيدة كثيرة يتعسر حصرها، لكن أشير في خاتمة هذا المبحث إلى بعضها على سبيل الاختصار: - قرر أهل السنة مشروعية قصر الصلاة في السفر – كما جاءت به السنة – وكما قال الإمام المزني – في عقيدته: (وإقصار الصلاة في الأسفار) (¬10). كما قرر ذلك البربهاري (¬11)، وقوام السنة الأصفهاني (¬12)، خلافاً لبعض الخوارج الذين لا يجيزون القصر إلا مع الخوف (¬13). - توسط أهل الحديث في مسألة القنوت بين من كره القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها (¬14)، وبين من استحبها عند النوازل وغيرها، كما حكاه ابن القيم (¬15). قال ابن بطة: (ومن السنة ألا تجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا تقنت في الفجر إلا أن يدهم المسلمين أمر من عدوهم، فيقنت الإمام فيتبعه) (¬16). ¬

(¬1) رواه مسلم (883). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (24/ 203). (¬3) انظر: ((بحار الأنوار)) (8/ 284)، و ((فقه الشيعة الإمامية)) للسالوس (ص: 221). (¬4) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 106). (¬5) ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 106). (¬6) ((الفتوى الحموية)) (ص: 444). (¬7) ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 409). (¬8) ((مجموع الفتاوى)) (23/ 120، 121)، وانظر: ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 81). (¬9) ((منهاج السنة)) (5/ 175). (¬10) ((شرح السنة)) للمزني (ص: 89). (¬11) انظر: ((شرح السنة)) (ص: 27). (¬12) انظر: ((الحجة)) (2/ 477). (¬13) انظر: ((مجموع الفتاوى))؛ لابن تيمية (24/ 22)، و ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 72). (¬14) كالإباضية فهم لا يرون القنوت. انظر: ((تهذيب الآثار)) لابن جرير (2/ 28). (¬15) انظر: ((زاد المعاد)) (4/ 375). (¬16) ((الإبانة الصغرى)) (ص: 488).

- ومن المسائل التي يمكن إلحاقها ها هنا: أن لا يفرد بالصلاة على أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله خلافاً للروافض. وقد قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: (لا أعلم صلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقد قاله لما ظهرت الشيعة وصارت تظهر الصلاة على علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فهذا مكروه منهي عنه (¬1). ولذا قال البربهاري: (ولا تفرد بالصلاة على أحد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آهل فقط) (¬2). ومما سطره ابن القيم أثناء تحريره مسألة (الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأزواجه) ما يلي: (وإن كان شخصاً معيناً أو طائفة معينة كره أن يتخذ الصلاة عليه شعاراً لا يخل به، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه، ولاسيما إذا جعلها شعاراً له، ومنع منها نظيره أو من هو خير منه، وهذا كما تفعل الرافضة بعلي رضي الله عنه؛ فإنه حيث ذكره قالوا: عليه الصلاة والسلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه، فهذا ممنوع لا سيما إذا اتخذ شعاراً لا يخل به، فتركه حينئذ متعين) (¬3). 3 - الجنازة: أ- قرر أهل السنة مشروعية الصلاة على من مات من أهل القبلة. كما قال الإمام الطحاوي: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم) (¬4). وقال البربهاري: (والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة) (¬5). وقرر قوام السنة الأصفهاني هذه المسألة بقوله: (فمن مذهبهم الصلاة على من مات من أهل القبلة) (¬6). وإذا تقرر مشروعية الصلاة على من مات من أهل القبلة، ففي ذلك رد على الخوارج – ومن تبعهم الذين يكفرون مرتكب الكبيرة فلا يصلون عليه، كما أن في هذا التقرير إجراء لأحكام الإسلام على أهل القبلة باعتبار ظواهرهم والله عز وجل يتولى سرائرهم. ب- ومما قرره علماء أهل السنة في هذا المقام أن الأموات – من المسلمين- ينتفعون بدعاء الأحياء وصدقاتهم كما جاءت بذلك الأدلة الصحيحة. قال الأشعري: (ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم، ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك) (¬7). وقال الطحاوي: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات) (¬8). وفي هذا التقرير رد على المبتدعة الذين ينكرون ذلك، وكما قال النووي: (وأما ما حكاه الماوردي في كتابه الحاوي عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب فهو مذهب باطل قطعاً وخطأ بين مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة فلا التفات إليه ولا تعريج عليه) (¬9). وقال ابن أبي العز الحنفي: (وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء ألبتة لا الدعاء ولا غيره) (¬10). وصرح الشوكاني بأنهم المعتزلة (¬11). 4 - الحج: قرر أئمة أهل السنة أن متعة الحج سنة ثابتة، فتوسطوا بين من أوجبها وحرم ما عداها – كالشيعة - وبين من حرم المتعة – كالناصبة. قال قوام السنة الأصفهاني: (ومتعة الحج سنة ثابتة) (¬12). ¬

(¬1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/ 73)، و ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 302). (¬2) ((شرح السنة)) (ص: 58). (¬3) ((جلاء الأفهام)) (ص: 290)، وانظر: ((المجموع)) للنووي (6/ 146)، و ((فتح الباري)) (11/ 170). (¬4) ((شرح الطحاوية)) (2/ 529). (¬5) ((شرح السنة)) (ص: 31)، وانظر: ((الواضحة)) لابن الحنبلي (ص: 1085). (¬6) ((الحجة)) (2/ 477). (¬7) ((الإبانة)) (ص: 62). (¬8) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 663). (¬9) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (1/ 90). (¬10) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (2/ 663). (¬11) انظر: ((نيل الأوطار)) (5/ 114). (¬12) ((الحجة)) (2/ 266).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك؛ فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ما عداها، ومن الناصبة من يحرم المتعة ولا يبيحها بحال) (¬1). وما ظهر للإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- استحباب متعة الحج قرر ذلك وأظهره (حتى قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! قويت قلوب الرافضة لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة، فقال: يا سلمة! كان يبلغني عنك أنك أحمق، وكنت أدفع عنك، والآن، فقد ثبت عندي أنك أحمق، عندي أحد عشر حديثاً صحاحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أتركها لقولك؟) (¬2). فالأصل أن ما كان مشروعاً لم يترك لمجرد فعل أهل البدع، لكن إن كان في فعل المستحب مفسدة راجحة مثل مشابهة المبتدعة، فإن مصلحة التميز عنهم آكد من مصلحة هذا المستحب (¬3)، كما سبق تقريره. 5 - النكاح: توسط أهل السنة في هذا الباب بين من أحل ما حرم الله تعالى؛ كمن أباح نكاح المتعة، وأشنع من ذلك من أباح نكاح التحليل، وبين من حرم ما أحل الله تعالى؛ كمن حرم نكاح المحصنات من أهل الكتاب، فأحل أهل السنة ما أحل الله تعالى ورسوله وحرموا ما حرم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقرر أهل السنة في عقائدهم حرمة نكاح التحليل والمتعة؛ حيث قال ابن بطة: (ومن السنة أن يعلم أن المتعة حرام إلى يوم القيامة) (¬4). وقال البربهاري: (واعلم أن المتعة – متعة النساء- والاستحلال حرام إلى يوم القيامة) (¬5). وقال قوام السنة الأصفهاني: (ومتعة النساء حرام إلى يوم القيامة) (¬6). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه صلى الله عليه وسلم حرم المتعة بعد إحلالها) (¬7). وتحدث شيخ الإسلام عن شناعة نكاح التحليل، فكان مما قاله: (يوجد في نكاح التحليل من الفساد أعظم مما يوجد في نكاح المتعة (¬8)؛ إذ المتمتع قاصد للنكاح إلى وقت، والمحلل لا غرض له في ذلك؛ فكل فساد نهى عنه المتمتع فهو في التحليل وزيادة؛ ولهذا تنكر قلوب الناس التحليل أعظم مما تنكر المتعة، والمتعة أبيحت أول الإسلام، وتنازع السلف في بقاء الحل، ونكاح التحليل لم يبح قط، ولا تنازع السلف في تحريمه. ومن شنع على الشيعة بإباحة المتعة مع إباحته للتحليل فقد سلطهم على القدح في السنة، كما تسلطت النصارى على القدح في الإسلام بمثل إباحة التحليل، حتى قالوا: إن هؤلاء قال لهم نبيهم: إذا طلق أحدكم امرأته لم تحل له حتى تزني؛ وذلك أن نكاح التحليل سفاح كما سماه الصحابة بذلك) (¬9). وبسط ابن القيم الحديث عن قبائح التحليل ومفاسده، فكان مما قاله: (وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها مفسدة التحليل، وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين، وشجى في حلوق المؤمنين، من قبائح تشمت أعداء الدين به، وتمنع كثيراً ممن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدونها من أفضح الفضائح، وقد قلبت من الدين رسمه، وغيرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل. ¬

(¬1) ((مجموعة الفتاوى)) (22/ 368). (¬2) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 152). (¬3) انظر: ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 149، 154). (¬4) ((الإبانة الصغرى)) (ص: 295). (¬5) ((شرح السنة)) (ص: 41). (¬6) ((الحجة)) (2/ 438) = باختصار، وانظر (2/ 266). (¬7) ((منهاج السنة النبوية)) (4/ 190). (¬8) ذكر شيخ الإسلام أن نكاح التحليل أعظم فساداً من نكاح المتعة من عشرة أوجه. انظر: ((إغاثة اللهفان)) (1/ 417 - 421). (¬9) ((مجموع الفتاوى)) (30/ 223، 224)، وانظر: (32/ 156، 33/ 39).

إلى أن قال: ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس: كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان، وكان بعلها منفرداً بوطئها، فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان، فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء، وألقاها بين براثن العشراء، ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها ... ) (¬1). وجاء تقرير حرمة نكاح المتعة خلافاً للروافض الذين يزعمون أن (متعة النساء خير العبادات وأفضل القربات، ويوردون في فضائلها أخباراً كثيرة موضوعة ومفتراة) (¬2). وقد حكى الإجماع على تحريم نكاح المتعة غير واحد من الأئمة، كما بينه الحافظ ابن حجر بقوله: (قال ابن المنذر: لا أعلم اليوم أحداً يجيزها إلا بعض الروافض، ولا معتمد لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض. وقال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته؛ فقد صح عن علي أنها نسخت، ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة، فقال: هي الزنا بعينه. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض) (¬3). وأباح جمهور السلف الصالح نكاح المحصنات من أهل الكتاب، كما جاء في قوله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5] وحرم الرافضة ما أحل الله فمنعوا نكاح الكتابيات (¬4). قال ابن تيمية عن أولئك الروافض: (هؤلاء يحرمون نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، وهذا ليس من أقوال أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا، ولا من أقوال أتباعهم، وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم) (¬5). 6 - الأطعمة والأشربة: أ- عني أهل السنة بأكل الحلال تقريراً وتحقيقاً، فأثبتوه في عقائدهم، حتى قال الفضيل بن عياض: (إن لله عباداً يحيي بهم البلاد والعباد، وهم أصحاب سنة، من كان يعقل ما يدخل جوفه من حله كان في حزب الله تعالى) (¬6). وقال سهل بن عبد الله التستري: (أصولنا ستة: التمسك بالقرآن، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق) (¬7). ووصف شيخ الإسلام الصابوني أهل الحديث أنهم يتواصون بالتعفف في المآكل والمشارب والمنكح والملبس (¬8). وقال قوام السنة الأصفهاني: (ومن مذهب أهل السنة التورع في المآكل والمشارب والمناكح) (¬9). ¬

(¬1) ((إعلام الموقعين)) (3/ 41، 43). (¬2) ((مختصر التحفة الإثني عشرية)) (ص: 227). (¬3) ((فتح الباري)) (9/ 173). (¬4) ومع أن الرافضة حرموا نكاح الكتابيات، إلا أنهم غلب عليهم الإباحية والفجور، فقارفوا عارية الفرج والزنا – باسم المتعة – وأباحوا وطء الناس النساء في أدبارهن كما هو مقرر في كتبهم. انظر: ((أصول الشيعة)) للقفاري (3/ 1234، 1237). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 213)، وانظر: (32/ 181). (¬6) أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) (8/ 104)، واللالكائي (1/ 65). (¬7) أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) (10/ 190)، وانظر ((الحلية)) (9/ 310). (¬8) انظر: ((عقيدة السلف)) للصابوني (ص: 297). (¬9) ((الحجة)) (2/ 528).

ب- ومع تحرز أهل السنة في الأطعمة والأشربة وحرصهم على أكل الحلال .. إلا أنهم لم يتشددوا في ذلك فلم يحرموا ما أحل الله تعالى؛ كما وقع فيه بعض أهل البدع، بل كانوا وسطاً بين أهل الفجور والشهوات، وبين أصحاب الرهبانية والتشدد الذين حرموا ما أحل الله من الطيبات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: 87 - 88]. قال شيخ الإسلام: (نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات، وعن الاعتداء في تناولها، وهو مجاوزة الحد، وقد فسر الاعتداء في الزهد والعبادة بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم، فيكونوا قد تجاوزوا الحد وأسرفوا، وقيل لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس، فإن آكل الطيبات والشهوات المعتدي فيها لابد أن يقع في الحرام لأجل الإسراف في ذلك) (¬1). ج- رد أهل السنة على الذين حرموا ما أحل الله تعالى، فقرروا أن البيع والشراء حلال، وكذا سائر المباحات من أنواع المكاسب والمطاعم، كما ردوا على ما ادعاه بعضهم من إطباق الحرام وخلو الأرض من الحلال. ولما غلب على طوائف من المتصوفة تحريم الحلال وترك المكاسب المباحة (¬2)، قام بالرد عليهم المشتغلون بعقائد الصوفية الأوائل. ومن ذلك ما قرره ابن خفيف بقوله: (ومما نعتقده أن الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم الله الغش والظلم، وأن من قال بتحريم المكاسب فهو ضال مضل مبتدع .. وإنما حرم الله ورسوله الفساد لا الكسب والتجارة، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة. وأن مما نعتقده أن الله لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقد أن الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقلبون في الحرام فهو مبتدع ضال، إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع، لا أنه مفقود من الأرض) (¬3). وقال الكلاباذي: (أجمعوا على إباحة المكاسب من الحرف والتجارات والحرث، وغير ذلك مما أباحته الشريعة عن تيقظ وتثبت وتحرز من الشبهات) (¬4). وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل نقل عن بعض السلف من الفقهاء أنه قال: أكل الحلال متعذر لا يمكن وجوده في هذا الزمان. فكان من جوابه: (هذا القائل الذي قال: أكل الحلال متعذر، لا يمكن وجوده في هذا الزمان. غالط مخطئ في قوله باتفاق أئمة الإسلام، فإن مثل هذه المقالة كان يقولها بعض أهل البدع، وبعض أهل الفقه الفاسد، وبعض أهل النسك الفاسد، فأنكر الأئمة ذلك، حتى الإمام أحمد في ورعه المشهور كان ينكر مثل هذه المقالة (¬5). إلى أن قال: ومثل هذا كان يقوله بعض المنتسبين إلى العلم من أهل العصر، وبناء على هذه الشبهة الفاسدة، وهو أن الحرام قد غلب على الأموال لكثرة الغصوب والعقود الفاسدة ولم يتميز الحلال من الحرام. ووقعت مثل هذه الشبهة عند طائفة من مصنفي الفقهاء، فأفتوا بأن الإنسان لا يتناول إلا مقدار الضرورة، وطائفة لما رأت مثل هذا الحرج سدت باب الورع ... ) (¬6). ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (14/ 457، 458). (¬2) انظر تفصيل ذلك مع الرد عليهم في كتاب ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (الباب العاشر). (¬3) ((الفتوى الحموية)) لابن تيمية (ص: 458). (¬4) ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) (ص: 102، 103). (¬5) انظر تفصيل ذلك في كتاب ((الحث على التجارة)) للخلال. (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (29/ 311، 312) = باختصار، وانظر: (29/ 593).

د- قرر أهل السنة – في عقائدهم – إباحة المكاسب والطيبات، خلافاً لليهود ومن سلك سبيلهم من الرافضة والمعتزلة. يقول البربهاري: (واعلم أن الشراء والبيع حلال، ما بيع في أسواق المسلمين حلال، ما بيع على حكم الكتاب والسنة من غير أن يدخله تغيير أو ظلم) (¬1). وقال ابن بطة: (ولا تحرم شيئاً مما أحله الله فإن فاعل ذلك مفتر على الله، راد لقوله معتد ظالم ... ثم إن الروافض تشبهت باليهود في تحريم ما أحل الله ... وحرموا الجري (ضرب من السمك لا يأكله اليهود) ولحم الجزور) (¬2). وقال أبو عمرو الداني: (وأكل الحلال فريضة، لقوله تعالى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون: 51] وتجنب الشبهات واتقاؤها من كمال الورع، وفي ذلك السلامة من الحرام لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) (¬3)، والحلال موجود وغير معدوم، قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] وقال: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [البقرة: 188]، والتجارة رزق الله، وحلال من حلال الله تعالى، ولو كان الحلال معدوماً على ما يزعمه بعض المعتزلة لصار الحرام مباحاً للضرورة) (¬4). وقال قوام السنة الأصفهاني: (والشراء والبيع حلال إلى يوم القيامة على حكم الكتاب والسنة) (¬5). هـ- قرر جمهور أهل السنة أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام. سواء كان من العنب أو غيره، خلافاً لأهل الكوفة الذين فرقوا بين ماء العنب وغيره، فلم يحرموا من غيره إلا القدر المسكر خاصة، وأما القليل الذي لا يسكر فلا يحرم عندهم (¬6). (وأظهر الإمام أحمد بن حنبل مذهب أهل الحديث ومخالفة الكوفيين فيما خالفوا فيه السنة، وصنف كتاب الأشربة، وكان يقرؤه على الناس، لكثرة من يشرب المسكر هناك، حتى كان يدخل الرجل بغداد – مع أنها كانت أعظم مدائن الإسلام – فيقول: هل فيها من يحرم النبيذ؟ - يعني المختلف فيه – يقولون: لا، إلا أحمد بن حنبل، كما ذكر ذلك الخلال) (¬7). وعقد الإمام البخاري – في كتاب الأشربة – باباً بعنوان: (باب الخمر من العنب وغيره) ومراده الرد على الكوفيين الذين فرقوا بين ماء العنب وغيره .. كما قاله ابن المنير (¬8). وجاء هذا التحريم مقرراً في كتب الاعتقاد كما قال أبو عمرو الداني: (وكل شراب من عنب أو زبيب أو تمر أو تين أو عسل أو حنطة أسكر كثيره فقليله حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن البتع –وهو شراب يصنع من العسل-: ((كل شراب أسكر كثيره فهو حرام)).) (¬9). وقال شيخ الإسلام الصابوني: (ويحرم أصحاب الحديث المسكر من الأشربة: المتخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الذرة، أو غير ذلك مما يسكر، يحرمون قليله وكثيره) (¬10). وقال قوام السنة الأصفهاني: (وكل شراب يسكر كثيره فقليله حرام) (¬11). 8 - الحدود: ¬

(¬1) ((شرح السنة)) (ص: 96)، وانظر: (ص: 112، 113). (¬2) ((الإبانة الصغرى)) (ص: 292). (¬3) رواه البخاري (52) ومسلم (1599). (¬4) ((الرسالة الوافية)) (ص: 145، 146). (¬5) ((الحجة)) (2/ 266). (¬6) انظر: ((المغني)) لابن قدامة (12/ 495)، و ((مجموع الفتاوى)) (34/ 186). (¬7) ((نظرية العقد)) لابن تيمية (ص: 84، 85) = بتصرف يسير. (¬8) انظر: ((فتح الباري)) (10/ 35). (¬9) ((الرسالة الوافية)) (ص: 146) والحديث أخرجه أبو داود (3683) والترمذي (1985) والنسائي (5625) وابن ماجه (3518) سكت عنه أبو داود [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح] وقال الترمذي: حسن غريب. وصححه الألباني ((صحيح سنن أبي داود)) (3681) (¬10) ((عقيدة السلف)) (ص: 297). (¬11) ((الحجة)) (2/ 266).

قرر أهل السنة حد الرجم – في حق الزاني المحصن – في عقائدهم كما جاءت بذلك الأدلة الثابتة، خلافاً للحرورية وبعض المعتزلة المنكرين للرجم. قال الإمام أحمد بن حنبل في اعتقاده: (والرجم حق على من زنا وقد أحصن إذا اعترف أو قامت عليه البينة) (¬1). وقال البربهاري: (والرجم حق) (¬2). وقال ابن بطال: (أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامداً عالماً مختاراً فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربي عن طائفة من أهل المغرب لقيهم وهم من بقايا الخوارج) (¬3). وقال ابن قدامة: (وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفاً إلا الخوارج) (¬4). نخلص من خلال استقراء هذه الفروع الواردة في كتب الاعتقاد إلى النتائج الآتية: أولاً: ساق أئمة السلف جملة من الفروع والعبادات في ثنايا مصنفاتهم في العقيدة باعتبار أن دين الله تعالى يشمل الأصول والفروع، والاعتقادات والأعمال، كما جاء في مثل قوله تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ... الآية [البقرة: 177]. وكما جاء في مثل حديث عمرو بن عبسة –رضي الله عنه- حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأي شيء أرسلك؟ فقال رسول الله: ((أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأصنام، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء)) (¬5). وإذا كان اسم الدين يشمل العقائد والأعمال، فكذلك اسم الشريعة ينتظم كل ما شرعه الله من العقائد والأعمال – كما هو اصطلاح غالب أهل الحديث -، كما أن (السنة)، كذلك فتستوعب كل ما سن الرسول وما شرعه في العقائد والأعمال (¬6). وإذا تقرر ذلك فلا إشكال في إيراد مسائل الفروع ضمن مصنفات لأهل السنة التي تسمى (السنة) أو (الشريعة) ونحوهما، وإن كانوا قد يطلقون (السنة) أو (الشريعة). على ما يتعلق بمسائل الاعتقاد فقط. ثانياً: يظهر من خلال الفروع الواردة وسطية أهل السنة في باب الفروع، كما كانوا وسطاً في باب الاعتقاد، فسلموا من الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء. يقول شيخ الإسلام – في هذا الصدد-: (وقد تأملت ما شاء الله من المسائل التي يتباين فيها النزاع نفياً وإثباتاً حتى تصير مشابهة لمسائل الأهواء ... فوجدت كثيراً منها يعود بالصواب فيه إلى الوسط .. وكذلك هو الأصل المعتمد في المسائل الخبرية العلمية التي تسمى أصول الدين) (¬7). ويقول –في موضع آخر-: (الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور في أغلب الناس) (¬8). ¬

(¬1) أخرجه اللالكائي (1/ 162)، وانظر: ((اعتقاد ابن المديني)) كما جاء في اللالكائي (1/ 168). (¬2) ((شرح السنة)) (ص: 27). (¬3) ((فتح الباري)) (12/ 118)، وانظر: (12/ 148). (¬4) ((المغني)) (12/ 309)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/ 339). (¬5) رواه مسلم (832). (¬6) انظر تفصيل ذلك في: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/ 134، 306)، و ((الاستقامة)) (2/ 310، 311)، و ((النبوات)) (1/ 329)، و ((كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة)) لابن رجب (ص: 20). (¬7) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 141) = باختصار. (¬8) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 359)، وانظر: ((مدارج السالكين)) (2/ 308)، و ((الموافقات)) (2/ 167).

ثالثاً: يتبين من خلال النظر في الفروع المذكورة أن الإفراط والتشديد يفضي إلى التفريط والتساهل، وأن تحريم الحلال يؤول إلى ارتكاب الحرام. كما وضحه ابن تيمية بقوله: (وهكذا من غلا في الزهد والورع حتى خرج عن الحد الشرعي، ينتهي أمره إلى الرغبة الفاسدة وانتهاك المحارم كما قد رئي ذلك وجرب) (¬1). فالرافضة – مثلاً – حرمت نكاح المحصنات من أهل الكتاب، فاستحلت الزنا والفواحش باسم المتعة، وقد أشار ابن بطة إلى ذلك بقوله: (ثم إن الروافض تشبهت باليهود في تحريم ما أحل الله، وردوا على الله قوله ... ولعل الأكثر منهم ممن يحرم هذا يزني ويشرب الخمر) (¬2). كما آل أهل الورع الفاسد – الذين زعموا أن أكل الحلال متعذر – إلى الإباحية، فصار الحلال ما حل بأيديهم والحرام ما حرموا، وسبب ذلك كما بينه ابن تيمية بقوله عنهم: (لأنهم ظنوا مثل هذا الظن الفاسد وهو أن الحرام قد طبق الأرض، ورأوا أنه لابد للإنسان من الطعام والكسوة، فصاروا يتناولون ذلك من حيث أمكنهم، فلينظر العاقل عاقبة ذلك الورع الفاسد، كيف أورث الانحلال من دين الإسلام) (¬3). رابعاً: نلحظ من خلال إيراد تلك الفروع ما كان عليه السلف الصالح من تعظيم السنة وتوقيرها، وذلك بإظهارها ونشرها لاسيما عند خفائها واندراسها. ومن ذلك أن الإمام سفيان الثوري كان يقول: (إذا كنت بالشام فاذكر مناقب علي، وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر) (¬4). وكما مر آنفاً أن الإمام أحمد بن حنبل أظهر في بغداد تحريم النبيذ – من غير العنب مما يسكر كثيره – فألف كتاب الأشربة، حتى إن الرجل يدخل بغداد فيقول: هل فيها من يحرم النبيذ؟ فيقولون: لا، إلا أحمد بن حنبل. ومما يحسن ذكره هاهنا ما سطره ابن تيمية قائلاً: (وأعظم ما نقمه الناس على بني أمية شيئان: أحدهما: تكلمهم في علي، والثاني: تأخير الصلاة عن وقتها. ولهذا رئي عمر بن مرة الجملي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر له بمحافظتي على الصلوات في مواقيتها، وحبي علي بن أبي طالب، فهذا حافظ على هاتين السنتين حين ظهر خلافهما، فغفر الله له بذلك، وهكذا شأن من تمسك بالسنة إذا ظهرت البدعة، مثل من تمسك بحب الخلفاء الثلاثة حيث يظهر خلاف ذلك وما أشبهه) (¬5). خامساً: يتمثل من خلال الفروع المذكورة شذة حرص السلف الصالح على إظهار مخالفة الكفار والمبتدعة، وأن إظهار مجانبة سبيل الكافرين والمبتدعين أمر مقصود سواء كان في العقائد أو الفروع. ومن ذلك أن مقالة ابن عباس رضي الله عنهما: لا أعلم صلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنما قالها لما ظهرت الشيعة وصارت تظهر الصلاة على علي دون غيره، كما سبق إيراده. وكان أئمة السلف يذكرون ما يتميزون به في عقائدهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من شأن المصنفين في العقائد المختصرة على مذهب أهل السنة والجماعة أن يذكروا ما يتميز به أهل السنة عن الكفار والمبتدعين) (¬6). فإن كان هؤلاء الأئمة يذكرون تميزهم في الاعتقاد، فكذلك يذكرون تميزهم في الفروع عن المخالفين من المبتدعة والكافرين. ¬

(¬1) ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 400). (¬2) ((الإبانة الصغرى)) (ص: 293) = باختصار، وكما قال عنهم الملطي: (اعلموا أن في الرافضة اللواط والأبنة والحمق والزنا ... ) ((التنبيه)) (ص: 44). (¬3) ((مجموع الفتاوى)) (29/ 312). (¬4) أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)) (7/ 260)، وانظر: (7/ 26). (¬5) ((منهاج السنة النبوية)) (8/ 239). (¬6) ((شرح الأصفهانية)) (ص: 14)، وانظر: ((الحجة لقوام السنة)) الأصفهاني (2/ 473).

لاسيما وأن الأدلة الشرعية تذم عموم الابتداع في الدين سواء كان في العقائد أو غيرها كما حرره الشاطبي (¬1). كما أن ظهور البدع سبب في خفاء السنة وانطماسها، كما في حديث غضيف بن الحارث– رضي الله عنه – قال: بعث إلى عبد الملك بن مروان فقال: إنا قد جمعنا على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة، وعلى القصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها. فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة)) (¬2). قال الحافظ ابن حجر معلقاً على القصة: (وإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة، فما ظنك بما لا أصل له فيها. فكيف بما يشتمل على ما يخالفها؟) (¬3). سادساً: وكما حذر السلف من مخالفة الكفار والمبتدعين، حذروا أيضاً من أرباب الأقوال الإمام الأوزاعي: (من أخذ بقول أهل الكوفة في النبيذ، وبقول أهل مكة في الصرف، وبقول أهل المدينة في الغناء، فقد جمع الشر كله) (¬4). وكما قال عبد الله بن المبارك: (لا تأخذوا عن أهل مكة في الصرف شيئاً، ولا عن أهل المدينة في الغناء شيئاً) (¬5). وذلك أن أهل الكوفة عرفوا بإباحة النبيذ – من غير العنب مما يسكر كثيره – كما أن أهل مكة أجازوا الصرف، حيث نسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه أجاز ربا الفضل (¬6). كما عرف بعض أهل المدينة بالترخص في الغناء (¬7). فهذه الرخصة – كما يقول ابن القيم – (تتبعها حرام، ويوهن الطلب، ويرجع بالمترخص إلى غثاثة الرخص) (¬8). سابعاً: نلحظ من خلال النظر في تلك الفروع – المذكورة في كتب الاعتقاد – تفاوتها كما ونوعاً، وتنوعها حسب تباين هذه الكتب زماناً ومكاناً وحالاً، فمن الفروع ما يكثر إيراده دون غيره، ومن الفروع ما يذكر في مصنف دون مصنف آخر، فهذا التفاوت والتباين حسب الأحوال والملابسات التي تصاحب تأليف هذه المصنفات. ثامناً: يبدو– من خلال تتبع الأمثلة المذكورة في الفروع – أن أعظم طوائف المبتدعة انحرافاً في الأصول والاعتقاد هم أعظم انحرافاً في الفروع؛ فالرافضة – مثلاً – أشد ضلالاً من الخوارج والمعتزلة في الاعتقاد، ومن ثم كانت مخالفتهم وشذوذهم في المسائل الفقهية سواء في العبادات أو المعاملات أكثر وأظهر. تاسعاً: يظهر من خلال بعض الفروع الواردة – ما كان عليه السلف الصالح من ذم الحيل المفضية إلى الحرام وما فيها من المخادعة والاستخفاف بشرع الله تعالى، والصد عن سبيل الله تعالى، وشماتة أعداء الإسلام وتسلطهم، كما هو ظاهر في نكاح التحليل، كما يظهر أيضاً عناية السلف الصالح بقاعدة سد الذرائع علماً وتحقيقاً. قال الشاطبي: (سد الذرائع مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع) (¬9). ¬

(¬1) انظر: ((الاعتصام)) (2/ 198). (¬2) رواه أحمد 4/ 105 قال الشوكاني ((نيل الأوطار)) (3/ 333): في إسناده ابن أبي مريم وهو ضعيف وبقية وهو مدلس. وقال الألباني ((ضعيف الترغيب)) (37): ضعيف (¬3) ((فتح الباري)) (13/ 253، 254). (¬4) ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/ 274). (¬5) ((شرح السنة)) للبربهاري (ص: 52). (¬6) قال ابن قدامة: (والمشهور أن ابن عباس رجع إلى قول الجماعة) ((المغني)) (6/ 52). (¬7) ولما سئل الإمام مالك عن ذلك الترخص قال: إنما يفعله عندنا الفاسق. انظر: ((الاستقامة)) (1/ 274). (¬8) ((مدارج السالكين)) (2/ 58). (¬9) ((الموافقات)) (3/ 61).

وقال ابن القيم: (وإذا تدبرت الشريع وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس فتح باب الحيل الموصلة إليها، فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حرم الذرائع، وإن لم يقصد بها المحرم، لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه؟) (¬1). وحذر ابن القيم من التوثب على محارم الله تعالى باسم الحيل فقال: (فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يوماً تنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتبلى فيه السرائر، ويصير الباطن فيه ظاهراً، ويحصل ويبدو ما في الصدور، كما يبعثر ويخرج ما في القبور، وتجري أحكام الرب تعالى هنالك على القصود والنيات، كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات، يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة لله ورسوله وكتابه، وما فيها من البر والصدق والإخلاص للكبير المتعال، وتسود وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغش والكذب والمكر والاحتيال، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يعلبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) (¬2). مسائل الفروع الواردة في مصنفات العقيدة جمعاً ودراسة لعبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف– ص: 4 ¬

(¬1) ((إغاثة اللهفان)) (1/ 531). (¬2) ((إعلام الموقعين)) (3/ 163، 164) = باختصار يسير.

الباب السادس: الإيمان بالجن

المبحث الأول: تعريف الجن في اللغة الجن بالكسر: اسم جنس جمعي واحده جني، وهو مأخوذ من الاجتنان، وهو التستر والاستخفاء. وقد سموا بذلك لاجتنانهم من الناس فلا يرون، والجمع جنان وهم الجنة (¬1). وعلى هذا فهم ضد الإنس، لأن الإنس سمي بذلك لظهوره, وإدراك البصر إياه، فيقال: آنست الشيء: إذا أبصرته. ويقال: لا جنَّ بهذا الأمر: أي لا خفاء به ولا ستر. والمجن بالكسر: هو الترس، لأن المقاتل يستتر به من الرامي والطاعن وغير ذلك. وكل شيء وقيت به نفسك واستترت به فهو جنة (¬2). ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( .. والصيام جنة)) (¬3). أي وقاية، لأنه يقي صاحبه من المعاصي. وجن الرجل جنوناً وأجنه الله فهو مجنون: إذا خفي عقله واستتر، وجن الرجل كذلك: أعجب بنفسه حتى يصير كالمجنون من شدة إعجابه. وقال القتيبي: وأحسب قول الشنفري من هذا: فلو جن إنسان من الحسن جنت (¬4) .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص3 أسماء الجن في لغة العرب: قال ابن عبد البر: (الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان على مراتب: 1 - فإذا ذكروا الجن خالصاً قالوا جني. 2 - فإذا أرادوا أنه مما يسكن مع الناس، قالوا: عامر والجمع عمار. 3 - فإن كان مما يعرض للصبيان قالوا: أرواح. 4 - فإن خبث وتعرض قالوا: شيطان. 5 - فإن زاد أمره على ذلك وقوي أمره قالوا: عفريت عالم الجن والشياطين لعم سليمان الأشقر – ص: 12 ¬

(¬1) ((لسان العرب)) (13/ 95) بتصرف. ((كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية)) (2/ 172). (¬2) ((كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية)) (2/ 172). (¬3) رواه البخاري (1904)، ومسلم (1151). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) ((لسان العرب)) (13/ 97) باختصار.

المبحث الثاني: تعريف الجن اصطلاحا

المبحث الثاني: تعريف الجن اصطلاحا ورد لفظ الجن في القرآن الكريم في آيات كثيرة, وسميت باسمهم سورة هي سورة الجن، وورد في السنة المطهرة كذلك ذكر الجن في مواضع متعددة، وكل ذلك إنما يدل على أهمية هذا المخلوق، إذ أنه يشاطر الإنس في التكليف، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وعلى هذا فما هو هذا المخلوق؟. يستخلص من التعريفات المتعددة للجن: بأنهم نوع من الأرواح العاقلة, المريدة, المكلفة على نحو ما عليه الإنسان، مجردون عن المادة، مستترون عن الحواس، لا يرون على طبيعتهم, ولا بصورتهم الحقيقية، ولهم قدرة على التشكل، يأكلون, ويشربون, ويتناكحون, ولهم ذرية، محاسبون على أعمالهم في الآخرة. وهذا التعريف يعطي الصفات البارزة لهذا العالم الذي نجهل الكثير عن طبيعة حياته، لأنه غائب عن حواسنا، ... وبناء على ما تقدم فإن الجن خلق يغاير طبيعة البشر من حيث الشكل وأصل المادة التي خلقوا منها، إذ أنهم مخلوقون من النار، بعكس الإنسان الذي خلق من الطين قال تعالى: خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ [الرحمن: 14 - 15]. وكذلك فإن هذا المخلوق له حياته الخاصة من حيث الطعام والشراب، يختلف فيها عن الإنسان، وغير ذلك مما يختص به من الصفات .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص8

الفصل الثاني: الإيمان بوجود الجن

المبحث الأول: الأدلة السمعية على وجود الجن أفاض القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم في مواضع كثيرة, فقد ورد ذكرهم في القرآن في مواضع متعددة تقرب من أربعين موضعاً عدا عن الآيات التي تحدثت عن الشيطان وهي كثيرة، وانفردت سورة كاملة للحديث عن أحوال النفر الذين استمعوا للقرآن من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو بمكة هي سورة الجن، إذ ورد في مطلعها إخبار الله لنبيه باستماع هذا النفر للقرآن, قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1 - 2]. واعتبرهم القرآن نوعاً آخر يشترك مع الإنسان في التكليف وإن اختلف عنهم في الصفات, فجاءت كثير من خطابات التكليف شاملة للجن والإنس قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. وقال: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام: 130]، ورتب القرآن الجزاء لهم حسب أعمالهم في الدنيا فقال: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13]، وقال في معرض الحديث عن نعيم الجنة: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 56]. وتحدى الله الجن والإنس أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88]، واستنكر القرآن المزاعم التي تقول بأن الجن يعلمون الغيب فقال في معرض الحديث عن موت سليمان عليه السلام: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: 14]. وغير ذلك من الآيات التي تحدثت عن أحوال هذا المخلوق. ومعلوم أن القرآن الكريم قد ثبتت صحته، لأنه منقول إلينا بالتواتر، فعلى هذا الأساس لا مجال لإنكار هذا النوع من المخلوقات متى كان الخبر صادقاً، وإنكارهم يكون تكذيباً لخبر الله عنهم دون حجة أو برهان، وذلك لا يكون إلا من سمات الجاهلين أو الكافرين، ووجودهم بشكل قاطع لا يحتمل التأويل بأي شكل من الأشكال (¬1). وأما السنة النبوية فقد ورد ذكرهم في أحاديث كثيرة، وهذه الأحاديث بمجملها تبين أحوال هذا المخلوق، من حيث المادة التي خلقوا منها، ومن حيث طعامهم وشرابهم وتناسلهم ومطالبتهم بالتكاليف الشرعية، ومحاسبتهم في الآخرة، بالإضافة إلى الأحاديث التي تبين إمكانية رؤيتهم بمختلف الصور التي يتشكلون فيها، وغيرها من الأحاديث التي تشرح أحوالهم، قال الدميري: (واعلم أن الأحاديث في وجود الجن والشياطين لا تحصى، وكذلك أشعار العرب وأخبارها، فالنزاع في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر) (¬2). ¬

(¬1) ((العقيدة الإسلامية وأسسها)) (2/ 23). (¬2) ((حياة الحيوان الكبرى)) (1/ 206).

فمن حيث بيان أصل المادة التي خلقوا منها، فقد أورد الإمام مسلم في صحيحه من حديث عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلقت الملائكة من نور, وخلق الجان من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم)) (¬1). وما ورد من الأحاديث في تكليم الرسول صلى الله عليه وسلم الجن وقراءته القرآن عليهم ودعوتهم إلى الله في أكثر من مرة، وقد كان ابن مسعود رفيقاً للرسول عليه السلام في كثير منها ... وهذه الأحاديث في كثير منها أحاديث صحيحة، رواها الثقات من الصحابة والتابعين عن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فلا مجال لتكذيبها أو تأويلها تأويلاً فاسداً يخرج عن المقصود منها. وقد فصلت هذه الأحاديث كثيراً من أحوال الجن وصفاتهم، ومتى ثبتت صحتها، فإن المكذب بها يكون مكذباً للقرآن، الذي نص على وجوب الإيمان بما أخبر به عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن: 8]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 136]. تنبيه: على أن هذه الأدلة السمعية الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في وجود الجن، لها في نفس الوقت دلالات حسية كذلك على وجودهم، إذ قد ثبت رؤيتهم له عليه السلام ولنفر من أصحابة الذين رافقوه عند ذهابه لتكليم الجن وقراءة القرآن عليهم، ومثل هذا قد حصل لأبي هريرة عندما جاءه الشيطان في صورة رجل فقير فجعل يحثو من مال الصدقة ... وكما ورد عن ابن عباس ((أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا به جنون، وأنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا، فثع ثعة، وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى)) (¬2). فهذه قصة سمعية من جهة، حسية من جهة أخرى، حيث دلت على رؤية الحاضرين للجني على شكل جرو أسود يسعى، وما حصل ذلك من أخذ الرسول عليه السلام للشيطان وخنقه إياه عندما جاءه ليقطع صلاته، حتى وجد برد لعابه على يديه الشريفتين. وغير ذلك من الروايات التي تحمل دلالات حسية على رؤية الجن مما لا يجعل مجالاً للشك في وجودهم. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 79 ¬

(¬1) رواه مسلم (2996). (¬2) رواه أحمد (1/ 254) (2288)، والطبراني (12/ 57) (12490). قال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 167): (فيه) فرقد السنجي رجل صالح ولكنه سيء الحفظ وقد روى عن شعبة وغير واحد واحتمل حديثه، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 347).

المبحث الثاني: الأدلة العقلية

المبحث الثاني: الأدلة العقلية إن العقل لا يمنع من وجود عوالم غائبة عن حِسِّنا، لأنه قد ثبت وجود أشياء كثيرة في هذا الكون لا يراها الإنسان ولكنه يحس بوجودها، وعدم رؤية الإنسان لشيء من الأشياء لا يستلزم عدم وجوده، والقاعدة العلمية تقول: عدم العلم بوجود شيء لا يستلزم عدم وجوده. أي عدم رؤيتك للشيء الذي تبحث عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقوداً، إذ أن الموجودات أعظم من المشاهدات، أي ليس كل الموجودات خاضعة لحاسة الرؤية، أو لمطلق الحواس، وإلا لوجب على الإنسان أن يؤمن بوجود السيارة مثلاً ما دامت واقفة أمامه، فإذا ما سار بها قائدها وابتعدت حتى خرجت عن سلطان المشاهدة والحواس وجب إنكار وجودها، ... فإذا ظهر لك برهان علمي قاطع يجزم بأحد طرفي وجود ذلك الشيء أو عدمه، فإن من العبث أن تقارع ذلك البرهان القاطع بجهلك السابق (¬1). وقد ثبت عن طريق القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن طريق السنة الصحيحة وجود عالم يختلف عن الإنسان يسمى عالم الجن، وهذا القرآن ليس من تأليف الرسول عليه السلام, أو من تأليف أحد من البشر على الإطلاق، فعندئذ وجب التصديق بهذا الإخبار الصحيح عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا اعتبار بجهل الإنسان بهذا العالم ما دام المخبر صادقاً. ولا يدعي إنسان عاقل على الإطلاق أنه رأى الميكروبات بالعين المجردة التي لا ترى إلا بالمجهر بعد تكبيرها آلاف المرات، لأن السبب في عدم رؤيتها أن حاسة البصر عند الإنسان غير مؤهلة لهذه الرؤية، ما دامت الرؤية لهذا البصر محدودة في مجال العالم المشهود للإنسان، قال محمد رشيد رضا: (ولو كان الاستدلال بعدم رؤية الشيء على عدم وجوده صحيحاً وأصلاً ينبغي للعقلاء الاعتماد عليه، لما بحث عاقل في الدنيا عما في الوجود من المواد والقوى المجهولة، ولما كشفت هذه الميكروبات التي ارتقت بها علوم الطب والجراحة إلى الدرجة التي وصلت إليها، ولا تزال قابلة للارتقاء بكشف أمثالها، ولما عرفت الكهرباء التي أحدث كشفها هذا التأثير العظيم في الحضارة، ولولم تكشف الميكروبات – وأخبر أمثالهم بها في القرون الخالية – لعدوه مجنوناً، وجزموا باستحالة وجود أحياء لا ترى، إذ يوجد في نقطة الماء ألوف الألوف منها، وأنها تدخل في الأبدان من خرطوم البعوضة أو البرغوث .. الخ، كما أن ما يجزم به علماء الكهرباء من تأثيرها في تكوين العوالم، وما تعرفه الشعوب الكثيرة الآن من تخاطب الناس بها من البلاد البعيدة بآلات التلغراف والتليفون اللاسكلية – كله مما لم يكن يتصوره عقل، وقد وقع بالفعل) (¬2). ويقول أيضاً: (ويعجبني قول الدكتور (فانديك) في كلامه عن الحواس الخمس إذ يقول: لو كانت لنا حواس أخر فوق الخمس التي لنا، لربما توصلنا بها إلى معرفة أشياء كثيرة لا نقدر على إدراكها بالحواس الخمسة التي نملكها، ولو كانت حواسنا الموجودة أحدَّ مما عليه لربما أفادتنا أكثر مما تفيدنا وهي على حالتنا الحاضرة، ولو كان سمعنا أحدَّ لربما سمعنا أصواتاً تأتينا من عالم غير هذا الذي نحن فيه) (¬3)، ولكن حكمة الله اقتضت أن تكون حواسنا كما هي عليه الآن. وقد أثبتت التجارب وجود أشياء كثيرة في هذا الكون مع أن الإنسان لا يراها، فالكهرب الذي يسري في السلك موجود ولكننا لا نراه، والموجات الصوتية التي تنتقل عبر الأثير نحس بها ونلمس آثارها، خاصة في هذا العصر الذي ارتقت فيه المعارف والعلوم ارتقاء عجيباً ... وباسم المنهج التجريبي في البحث أنكر كثير من المنتسبين له وجود مخلوقات تسمى بالملائكة والجن، ولم يكن لهم حجة يلجأون إليها في إنكار ذلك إلا أنهم لم يشاهدوها ولم يضعوها تحت المجهر أو في أنابيب الاختبار، ليجروا عليها التجارب، في الوقت الذي يتحدثون فيه للبشرية عن وجود الجاذبية والمغناطيسية والكهرب، وغيرها من الأشياء التي تغيب عن حواسنا، ولقد أخطأت الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات المادية عندما آمنت بالعقل وجحدت ما سواه, وعاشت تحت ظلال وثنية عقلية، هي أخطر ألوان الوثنيات وأشدها إذلالاً وإهدارا للقيم الإنسانية العليا، وهذا العقل الذي عبدته هذه الحضارة شيء عظيم حقاً في عالم الحس والمشاهدة، لأنهما يخضعان لهذا العقل في مجال التجربة والاختبار، أما ما وراء الحس والمشاهدة، فلا مجال للعقل أن يحكم على ذلك بالظنون والتخرصات، وفي الوقت الذي نجد فيه إبداع هذه الحضارة المادية في مجال الماديات، نجدها في الجانب الآخر قد تعثرت تعثرا مضحكاً في المعنويات والأخلاقيات والعبادات، وفي كافة ما يتصل بأمور الغيب كالروح والإلهام والوحي، لأنها أمور فوق الحس والمشاهدة (¬4) .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبيدات – ص: 82 ¬

(¬1) ((كبرى اليقينيات الكونية)) (ص: 300). (¬2) ((تفسير المنار)) (8/ 366). (¬3) ((فتاوى الإمام محمد رشيد رضا)) (1/ 252). (¬4) ((التصوف الإسلامي والإمام الشعراني)) (ص: 151).

المبحث الثالث: عقائد الناس في الجن

المبحث الثالث: عقائد الناس في الجن انقسم الناس قديماً وحديثاً في أمر الجن إلى مذاهب شتى، فما بين مثبت لوجودهم، أو منكر، أو مؤول لهم بشتى التأويلات الفاسدة، أو مغالٍ في قدرتهم وسلطانهم في الأرض، إلى غير ذلك من المذاهب والتصريفات المختلفة في شأن هذا المخلوق. ويمكن إجمال هذه المذاهب فيما يلي: ... 1 - مذهب أهل السنة والجماعة: الذي عليه أهل السنة والجماعة من المسلمين وهو إثبات وجود مخلوقات غائبة عن حواسنا تسمى الجن، وأنها لا تظهر إلا أذا تشكلت في صور غير صورها في بعض الأحوال ولبعض الناس، وأنها مخلوقات عاقلة مكلفة بالتكاليف الشرعية على نحو ما عليه البشر، وأنهم يأكلون, ويشربون, ويتناكحون ولهم ذرية، قال ابن حزم: (لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحلية للطبائع بنص الله عز وجل وعلى وجود الجن في العالم، وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم، وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة، متعبدة، موعودة متوعدة، متناسلة، يموتون. وأجمع المسلمون كلهم على ذلك) (¬1). ويقول ابن تيمية: (لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم .. إلى أن يقول: وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضاً قائمة بلإنسان أو غيره كما يزعم بعض الملاحدة) (¬2). ويقول ابن حجر الهيتمي: (وأما الجان فأهل السنة والجماعة يؤمنون بوجودهم) (¬3). وقد تقدم كثير من الأدلة التي يستند إليها أهل السنة والجماعة في إثبات وجود الجن، سواء كانت هذه الأدلة مأخوذة من القرآن أو السنة، بالإضافة إلى دلالة الإجماع على ذلك ... 2 - مذهب جمهور الكفار: كعامة أهل الكتاب والمجوس، وجمهور الكنعانيين, واليونانيين, والرومان, والهنود القدماء, وعامة مشركي العرب: الإقرار بوجود الجن، مع انحراف في تصورهم عن هذا المخلوق. هذه الطوائف المختلفة أقرت بوجود الجن، ولكن إقرارهم هذا صاحبه تصورات فاسدة ومنحرفة، فمنهم من اعتبر أن الجن شركاء لله في الخلق والتدبير، ومنهم من اعتبر أن للجن سلطاناً في الأرض, وأنهم يعلمون الغيب، ومنهم من أثبت أخوة بين الله وإبليس - تعالى الله عن ذلك- إلى غير ذلك من التصورات المنحرفة .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص90 3 - مذهب أكثر الفلاسفة والأطباء وجماعة من القدرية: والمعتزلة والجهمية، وكافة الزنادقة قديماً وحديثاً: إنكار الجن، بالإضافة إلى نفر قد أولوا النصوص الدالة على وجود الجن تأويلاً يدل على إنكارهم، كما سيأتي: قال الإمام القرطبي: (وقد أنكر جماع من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم) (¬4) وقال ابن تيمية: (وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين, وإن وجد فيهم من ينكر ذلك، وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك، كما يوجد في طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك) (¬5). والملاحدة والمتفلسفة يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة (¬6) ... ¬

(¬1) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (5/ 12). (¬2) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 9). (¬3) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 123). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (19/ 6). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) (19/ 10) و ((ايضاح الدلالة في عموم الرسالة)) (4). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 346).

وقد أنكرت جماهير القدرية وكافة الزنادقة الجن كما ذكر الجويني إمام الحرمين حيث يقول: (وكثير من الفلاسفة, وجماهير القدرية, وكافة الزنادقة أنكروا الجن والشياطين رأساً، ولا يبعد لو أنكر ذلك من لا يتدبر ولا يتشبث بالشريعة، وإنما العجب من إنكار القدرية مع نصوص القرآن وتواتر الأخبار واستفاضة الآثار) (¬1). والذي يظهر أن المتأخرين من القدرية هم الذين ينكرون وجود الجن مع اعتراف متقدميهم بذلك، قال أبو بكر الباقلاني: (وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديماً وينفون وجودهم الآن، ومنه من يزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فيها، ومنهم من قال: إنما لا يرون لأنهم لا ألوان لهم) (¬2). وأما المعتزلة فالمشهور عن أكثر العلماء أن الكثيرين منهم ينكرون وجود الجن، يقول الجويني: (وقد أنكرهم معظم المعتزلة، ودل إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم, وركاكة ديانتهم، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الدين أن يثبت ما قضى العقل بجوازه, ونص الشرع على ثبوته) (¬3). وقال ابن حجر الهيتمي: (وإنكار المعتزلة لوجودهم فيه مخالفة للكتاب والسنة والإجماع، بل ألزموا به كفراً لأن فيه تكذيب النصوص القطعية بوجودهم) (¬4). وقال الدميري: (فإذا قيل: ما تقول فيما حكى عن بعض المعتزلة أنه ينكر وجود الجن؟ قلنا: عجيب أن يثبت ذلك عمن يصدق بالقرآن وهو ناطق بوجودهم) (¬5). ... وقد ذكر محمد رشيد رضا أن الزمخشري وشيعته لم يكونوا من المنكرين لوجود الجن، وإنما الجن – كما يقولون – من عالم الغيب، لا نصدق من خبرهم إلا ما أثبته الشرع، أو ما هو في قوته من دليل الحس أو العقل، ولم يثبت شرعاً, ولا عقلاً, ولا اختباراً, أن شياطين الجن تأكل الناس, ولا أنها تظهر لهم في الفيافي كما كانت تزعم العرب، وغير ذلك في طور الجهل والخرافات (¬6) ... أما الزنادقة قديماً وحديثاً كالدهرية والملحدين من الشيوعيين وغيرهم فإنهم ينكرون الغيبيات بشكل عام، ويعتبرون أن الكون وجد هكذا صدفة، وعلى هذا فهم يحاربون الأديان ويعتبرونها أفيون الشعوب، وذلك كما تفعل الشيوعية في الوقت الحاضر. وليس لهؤلاء حجة في إنكار الغيبيات – والجن من بينهم – إلا عدم الإيمان بما لا يقع عليه الحس، ولا يعرف بالتجربة والمشاهدة، وهي حجة ساقطة من أساسها، لا تقوى على الوقوف أمام الأدلة الكثيرة الناطقة بوجودهم ... شبه المنكرين لوجود الجن والرد عليها: وجملة الشبه التي يتمسك بها المنكرون للجن تتلخص فيما يلي: 1 - أن الجن لو كانوا موجودين لوجب أن يكونوا أجساماً كثيفة أو لطيفة، ولو كانوا أجساماً كثيفة لرآهم كل إنسان سليم الحس، ولو كانوا أجساماً لطيفة لتمزقوا عند هبوب الرياح والعواصف، وللزم أن لا يكون لهم قدرة على الأعمال الشاقة كما يقول مثبتو الجن على حد قولهم (¬7). والجواب على هذه الشبهة: أن الجن مجردون عن المادة والجسمية التي نشاهدها في الأمور المحسوسة أمامنا كالبشر, والدواب, والأشجار وغير ذلك، ولكن هذا لا يمنع أن يجعل الله فيهم خاصية القدرة على التشكل بالأشكال المختلفة: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في تشكلهم بمختلف الصور، فمعارضة هذه النصوص بالظن إنما هو تحكم بالباطل. ¬

(¬1) ((إيضاح الدلالة في عموم الرسالة)) (4) الهامش. (¬2) ((إيضاح الدلالة في عموم الرسالة)) (5) الهامش. (¬3) ((كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة)) (323). (¬4) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 123). (¬5) ((حياة الحيوان الكبرى)) (1/ 206). (¬6) ((تفسير المنار)) (7/ 528). (¬7) ((التفسير الكبير)) (1/ 76).

أما قولهم: إنهم لو كانوا أجساماً لطيفة لتمزقوا عند هبوب الرياح والعواصف فجوابه: لقد ثبت عند الفلاسفة أن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر، فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة؟!، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها, فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها (¬1) وقد ثبت تسخيرهم للنبي سليمان عليه السلام بصريح القرآن، وقد كان يراهم على صورهم الأصلية كما دل عليه ظاهر القرآن. 2 - أن هذه الأشخاص المسماة بالجن لو كانوا حاضرين في هذا العالم، مخالطين للبشر، فالظاهر الغالب أن يحصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة, وإما عداوة، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضاد بسبب تلك العداوة، إلا أننا لا نرى أثراً لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة (¬2). والجواب على هذه الشبهة: أنه لا يشترط أن يحصل للإنسان من مصاحبة أحد صداقة أو عداوة يترتب عليهما المنافع والمضار، ومع ذلك فإن الوقائع الصحيحة التي وردت في السنة تدل على أن بعض الجن قد حصل منهم إيذاء لبعض من يكرهونه من الأنس، وقد ثبت علاج الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض من صرعتهم الجن، وقد ثبت كذلك نفع الجن لبعض الإنس كما حصل مع أبي هريرة عندما جاءه الشيطان فجعل يحثو من الطعام وقد تكرر مجيئه ثلاث مرات، وكان يزعم أنه لا يعود، حتى همَّ أبو هريرة أن يرفع أمره للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الشيطان عند ذلك: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، فعلمه آية الكرسي وقال له: اقرأها فإنه لا يقربك شيطان (¬3) , وغير ذلك مما قد ثبت في نفع الجن لبعض الناس وإضرارهم لبعض منهم. 3 - إن الطريق إلى معرفة الجن إما الحس وإما المشاهدة وإما الدليل، ولم يثبت لنا بالحس وجودهم ورؤيتهم، والذين يقولون إنا أبصرناهم وسمعنا أصواتهم طائفة من المجانين يتخيلون ذلك، وليست في الحقيقة كذلك، وأما الخبر بواسطة الأنبياء عليهم السلام فباطل، لأن ذلك يؤدي إلى إبطال نبوتهم، ولجاز أن يقال إن كل ما أتى به الأنبياء من المعجزات إنما هو بإعانة الجن والشياطين، فإذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال: إن حنين الجذع إنما كان لأن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين؟ ولم لا يجوز أن يقال: إن الناقة تكلمت مع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان دخل في باطنها فتكلمت؟ وأما الدليل والنظر فهو متعذر، لأنا لا نعرف دليلاً عقلياً يدل على وجود الجن والشياطين (¬4). والجواب على هذه الشبهة: أن الدليل الحسي قد دل على وجود الجن، حيث رآهم الرسول عليه الصلاة والسلام وهو نبي معصوم من الخطأ والكذب، ورآهم ابن مسعود عندما ذهب معه ليلة تكليم الجن، ورآهم أبو هريرة عندما جاءه الشيطان في صورة رجل فقير، فأخذ يحثو من مال الصدقة، وقد حدث مثل ذلك لنفر من الصحابة، وغير ذلك من الوقائع التي تدل على رؤية الجن من قبل هؤلاء، وهم صحابة أجلاء وليسوا من المجانين كما يزعم المنكرون لوجود الجن، بل هم من العقلاء الموثوق بهم. ¬

(¬1) ((التفسير الكبير)) (1/ 80). (¬2) ((التفسير الكبير)) (1/ 77). (¬3) رواه البخاري (2311). (¬4) ((التفسير الكبير)) (1/ 77).

وأما الخبر فقد جاءت نصوص القرآن مخبرة عن أحوال الجن في مواضع متعددة من القرآن، وليس هناك من سبيل للطعن بكتاب الله – المنقول بالتواتر – بأي حال من الأحوال، ودل على وجودهم السنة المتواترة التي تقطع الشك وترفع العذر في إنكار وجودهم أو تأويلهم. والقول أن في الاعتراف بهم إبطالاً لنبوة الأنبياء غير صحيح، لأنه قد ثبت لنا وجودهم عن طريق هؤلاء الأنبياء كذلك، فالشك في وجودهم يوجب الطعن في نبوتهم أيضاً. وأما أن الإقرار بوجودهم يوجب إنكار معجزات الأنبياء فغير مسلم، لأن المعجزة إنما هي تأييد من الله لأنبيائه حتى يظهر للناس صدق نبوتهم، والرسل معصومون من تلبيس الجن والشياطين، فلا يمكن أن يكون حنين الجذع وتكليم الناقة للرسول عليه السلام من قبيل هذه التلبيسات. أما الذين ينكرون وجود الجن بحجة عدم رؤيتهم، أمثال الزنادقة والماديين، فهؤلاء ينكرون كل ما لا يقع عليه الحس، ... وأنه لم يدل دليل عقلي على نفي وجودهم، ولا يمنع العقل من وجودهم، في الوقت الذي دل فيه العقل على وجود أشياء كثيرة غائبة من الحس، وهو أمر لا تحيله الطباع ولا تنكره العقول، ثم إن العقل لم يدع أنه توصل إلى معرفة جميع الأشياء، وأن ما وصل إليه علم الإنسان غيض من فيض. فثبت بهذا بطلان شبهات منكري الجن. موقف المنكرين لوجود الجن من النصوص الدالة على إثبات وجودهم: وفي الوقت الذي يقرر الإسلام وجود الجن وأنهم مخلوقات عاقلة مكلفة خلقوا من النار، يأتي المنكرون للجن من الملاحدة والفلاسفة وغيرهم فيؤولون النصوص الدالة على وجود الجن والملائكة تأويلاً يبعد عن مقصد القرآن والسنة، وهو تأويل لا يعتمد على دليل يؤيده بل هو من تحريف الكلم عن مواضعه، تضليلاً للناس وصدا لهم عن سبيل الله، وهي تأويلات معلومة الفساد بالضرورة من دين الإسلام، وقد أدى تأويل هذا النفر من الناس إلى إنكار الجن بالكلية، وبهذا يتفقون مع المنكرين في الغاية والهدف. وقد تجلت هذه النظرة عند القدامى والمحدثين: أما عند القدامى فيقول ابن تيمية: (وقد زعم الملاحدة والمتفلسفة بأن الملائكة هم قوى النفس الصالحة, والشياطين هم قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل، ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من القرامطة الباطنية، ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة، وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه) (¬1). ويوضح هذه النظرة التي ذكرها ابن تيمية عن هذه الطوائف فخر الدين الرازي في تفسيره، حيث يبين موقف الطوائف المختلفة من الجن، وقد ذكر عن هؤلاء الفلاسفة قولهم: (النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد تكون خيرة وقد تكون شريرة، فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية، ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث، وتصير تلك النفس المفارقة، معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها، فإن كانت النفسان من النفوس الطاهرة المشرقة الخيرة، كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاماً، وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة، كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة) (¬2). وقال ابن حزم: (وذهب القائلون بتناسخ الأرواح أمثال أحمد بن خابط, وأبو مسلم الخراساني, والرازي الطبيب المعروف وغيرهم أن الشياطين هي أرواح الشريرين من الناس، والملائكة هي أرواح الخيرين منهم) (¬3)، وذكر نحو هذا البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق حيث يقول: (والباطنية يتأولون الملائكة على دعاتهم إلى بدعتهم، ويتأولون الشياطين والأبالسة على مخالفيهم) (¬4). وما تقدم من تأويل الجن والملائكة هذا التأويل الفاسد إنما سببه الانحراف والزيغ عن منهج الحق، حيث ضلت هذه الفرق عن الإسلام، وتأولت آيات القرآن تأويلاً باطلا يوافق أهواءهم وما انتحلوه من إنكار هذه العوالم، فجمعوا بين إنكار الحق الثابت وتحريف النصوص. وتأويل بعض هؤلاء الجن, والملائكة, بالأرواح المفارقة للأبدان ... هو من القول بالتناسخ أو يشابهه، ولا شك أن مذهب التناسخ مذهب باطل كما هو مقرر في الإسلام، فإن الأرواح لا تنتقل إلى أبدان أخر بعد الموت، بل تبقى في مستقرها في دار البرزخ منعمة أو معذبة. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات- بتصرف - ص108 ¬

(¬1) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 346). (¬2) ((التفسير الكبير)) (1/ 78) و ((تفسير روح المعاني)) (29/ 82). (¬3) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (1/ 90). (¬4) ((الفرق بين الفرق)) (279).

الفصل الثالث: خلق الجن وصفاتهم وأصنافهم

المبحث الأول: المادة التي خلق منها الجن صرح القرآن الكريم والسنة النبوية بذكر المادة التي خلق منها الجن، فقد ورد في القرآن قوله تعالى: وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ [الحجر: 27]. في مقابل الحديث عن خلق الإنسان من الطين، وفي قوله: خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ [الرحمن: 14 - 15]. وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عن إباء إبليس من السجود لآدم عليه السلام كقوله تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف: 12]. أما في السنة النبوية فقد ورد في صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم)) (¬1) .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 13 ¬

(¬1) رواه مسلم (2996).

المبحث الثاني: صفات الجن وما يعجزون عنه

أولا: قدرتهم على التشكل الذي تشير إليه الآيات القرآنية, والأحاديث النبوية أن الجن يتشكلون بالصور المختلفة. قال ابن تيمية: (والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل, والبقر, والغنم, والخيل, والبغال, والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم) (¬1). ولا يمنع خلقهم من النار تشكلهم في الصور المختلفة، يقول الباقلاني: (لسنا ننكر مع كون أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها، ويخلق لهم أغراضاً تزيد على ما في النار، فيخرجون عن كونهم ناراً، ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة) (¬2). الأدلة على تشكل الجن ورؤيتهم: أما من القرآن فقوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 48]. قال الطبري في تفسير هذه الآية: (عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشيطان، معه رايته، في صورة رجل من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ [الأنفال: 48]، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب، فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه – وكانت يده في يد رجل من المشركين – انتزع إبليس يده، فولى مدبراً هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة: تزعم أنك جار لنا؟ قال: إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 48] وذلك حين رأى الملائكة) (¬3). ¬

(¬1) ((إيضاح الدلالة في عموم الرسالة)) (ص: 32). (¬2) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 65). (¬3) رواه الطبري في تفسيره (13/ 7)، وابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 1715).

ومن الأدلة التاريخية التي تصلح في هذا المقام: ما ورد أن الشيطان تصور في صورة شيخ نجدي، عندما اجتمعت قريش بدار الندوة، لتمكر بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30]. وذلك أن قريشاً اجتمعت بدار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ نجدي عليه بتٌّ، فلما رأوه واقفاً على الباب قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من نجد، سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم رأياً ونصحاً، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم، فأشار بعضهم فقال: نحبسه في الحديد، ونغلق عليه الباب حتى يموت، فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون، ليخرجن أمره من وراء الباب إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من بين أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا غيره، فأشار بعضهم بنفيه من البلاد، فقال الشيخ النجدي: ما هذا لكم برأي، ألم تروا إلى حسن حديثه وغلبته على قلوب الرجال؟ حيث يقدر على تأليف القلوب حوله، أديروا فيه رأياً غير هذا. حتى أشار أبو جهل برأيه الذي استقر عليه الأمر بأخذ شاب من كل قبيلة، فيدخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام فيقتلوه جميعاً، فيتفرق دمه على القبائل. فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي ولا رأي غيره، فتفرق القوم وهم مجتمعون على هذا (¬1). نلاحظ مما تقدم أن الشيطان قد جاء المشركين في صورة رجل، فرأوه وعاينوه. وقد يظهر الشيطان لبعض الناس في صورة بعض الأموات، وأكبر ما يقع ذلك من المشركين، يقول ابن تيمية: (وقد وقع هذا كثيراً، حتى أنه يتصور لمن يعظم شخصاً في صورته، فإذا استغاث به فيظن ذلك الشخص أنه شيخه الميت) (¬2). ويقول في موطن آخر: (وكذلك يأتي كثيراً من الناس في مواضع ويقول إنه الخضر، وإنما كان جنياً من الجن) (¬3). وغير هذا كثير مما يقع من أتباع الشيطان مع شياطينهم، حيث يتصورون لهم في صور عديدة، ليوهموهم ويستدرجوهم. الأدلة من السنة: ورد في السنة المطهرة أحاديث عديدة تدل على تشكل الجن ورؤيتهم، نجتزئ بعضها للاستدلال على ذلك: 1 - ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عفريتا من الجن جعل يفتك عليَّ البارحة، ليقطع عليَّ الصلاة، وأن الله أمكنني منه فذعته، فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد، حتى تنظرون إليه أجمعون -أوكلكم -. ثم ذكرت قول أخي سليمان: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [ص: 35] فرده الله خاسئاً)) (¬4). وقد جاء في روايات أخرى أن الشيطان جاء بشعلة من نار ليحرق بها وجه الرسول صلى الله عليه وسلم, فأخذه حتى وجد برد لسانه على يده الشريفة. ¬

(¬1) ((سيرة ابن هشام)) (2/ 95) باختصار. (¬2) ((النبوات)) (ص: 290). (¬3) ((النبوات)) (ص: 290). (¬4) رواه البخاري (461)، ومسلم (541).

فعن أبي سعيد الخدري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال: لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين: الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد، يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد؛ فليفعل)) (¬1). وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال: ((قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك, ثم قال: ألعنك بلعنة الله. ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً. فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله, قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً، لم نسمعك تقوله قبل ذلك. ورأيناك بسطت يدك؟ قال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي. فقلت: أعوذ بالله منك. ثلاث مرات. ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر. ثلاث مرات. ثم أردت أخذه. والله! لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة)) (¬2). فهذه الروايات تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان، ومعه شعلة من نار ليحرق بها وجهه، فأخذه، ولولا دعوة النبي سليمان عليه السلام لربطه في أحد سواري المسجد لينظر إليه الناس. 2 - عن أبي عبد الله الجدلي عن ابن مسعود قال: ((استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فانطلقت معه حتى بلغنا أعلى مكة، فخط لي خطاً وقال: لا تبرح، ثم انصاع في أجبال الجن، فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤوس الجبال حتى حالوا بيني وبينه، فاخترطت السيف وقلت: لأضربن حتى استعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك، فلم أزل كذلك حتى أضاء الفجر .. )). الحديث (¬3) فقوله في الحديث: (فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤوس الجبال) فيه دليل على أنهم ظهروا لابن مسعود في صورة الرجال، حتى خاف على الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، فهم بسيفه ليقاتلهم. ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 82) (11797). قال ابن رجب في ((فتح الباري)) (6/ 397): إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 90): رجاله ثقات، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3251): إسناده جيد رجاله ثقات. (¬2) رواه مسلم (542). (¬3) رواه الطبراني (10/ 67) (9989). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 317): رواه الطبراني وفيه يحيى بن يعلى الأسلمي وهو ضعيف.

3 - ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج, وعلي عيال, ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، فقال: أما إنه قد كذبك، وسيعود. فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود. فرصدته، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج, وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك، وسيعود. فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة. قال: لا، قال: ذاك شيطان)) (¬1). وقد جاء هذا الحديث من عدة روايات، كما ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني، فقد قال: (قوله: فأخذته زاد في رواية أبي المتوكل ((أن أبا هريرة شكى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، فقال له: إن أردت أن تأخذه فقل: سبحان من سخرك لمحمد، قال: فقلتها، فإذا أنا به قائم بين يدي فأخذته)).) وقال ابن حجر: (وفي رواية الروياني: ((فأخذته فالتفت يدي على وسطه, فقلت: يا عدو الله: وثبت إلى تمر الصدقة فأخذته، وكانوا أحق به منك، لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفضحك)) وفي رواية الروياني: ((ما أدخلك بيتي تأكل التمر؟ قال: أنا شيخ كبير فقير ذو عيال، ما أتيتك إلا من نصيبين)) (¬2). وقد ورد في حديث معاذ بن جبل قوله: ((ضم إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر الصدقة، فكنت أجد فيه كل يوم نقصاناً، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: هو عمل الشيطان فارصده، فرصدته، فأقبل في صورة فيل، فلما انتهى إلى خلل الباب، دخل من خلل الباب في غير صورته، فدنا من التمر فجعل يلتقمه، فشددت عليّ ثيابي فتوسطته)) (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (2311). (¬2) ((فتح الباري)) (4/ 488) ذكر هذه الرواية الهيثمي في ((مجمع الزائد)) (6/ 321 - 322). (¬3) رواه الطبراني (20/ 51) (16846). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/ 324): رواه الطبراني عن شيخه يحيى بن عثمان بن صالح وهو صدوق إن شاء الله كما قال الذهبي قال ابن أبي حاتم: وقد تكلموا فيه وبقية رجاله وثقوا، وقال السيوطي في ((الخصائص الكبرى)) (2/ 95): إسناده رجاله موثقون.

وقد بين ابن حجر أن اختلاف هذه الروايات محمول على التعدد، فقد جاء الشيطان مرة في صورة رجل فقير يطلب الصدقة، ومرة أخرى في صورة فيل، وفي روايات أخرى ذكرها ابن حجر أنه جاء في صورة دابة تشبه الغلام المحتلم، فعن أبي بن كعب: ((أن أباه أخبره أنه كان لهم جرن فيه تمر، وكان مما يتعاهده فيجده ينقص، فحرسه ذات ليلة، فإذا هو بدابة كهيأة الغلام المحتلم، قال: فسلمت فرد السلام، فقلت: ما أنت: جن أم أنس؟ فقال: جن، فقلت: ناولني يدك, فإذا يد كلب وشعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن؟ فقال: لقد علمت الجن أنه ما فيهم من أحد هو أشد مني، فقلت: ما يحملك على ما صنعت؟ قال: بلغني إنك رجل تحب الصدقة، فأحببت أن أصيب من طعامك، قلت: فما الذي يحرزنا منكم؟ فقال: هذه الآية، آية الكرسي, قال: فتركته، وغدا أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الخبيث)) (¬1). إلى غير ذلك. وهذه الروايات بمجموعها تدل على تشكل الجن ورؤيتهم في صورهم التي تشكلوا بها. 4 - روى مسلم في صحيحه ((أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجده يصلي، قال: فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته. فسمعت تحريكاٍ في عراجين في ناحية البيت. فالتفت فإذا حية. فوثبت لأقتلها. فأشار إليّ: أن أجلس. فجلست. فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار. فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم. فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس. قال فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق. فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله. فاستأذنه يوماً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك. فإني أخشى عليك قريظة. فأخذ الرجل سلاحه. ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة. فأهوى إليها الرمح ليطعنها به. وأصابته غيرة. فقالت له: اكفف عليك رمحك، وأدخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش. فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به. ثم خرج فركزه في الدار. فاضطربت عليه. فما يدري أيهما كان أسرع موتاً. الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له. وقلنا: ادع الله يحييه لنا. فقال: استغفروا لصاحبكم. ثم قال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا. فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام. فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه. فإنما هو شيطان)) (¬2). ففي هذا الحديث دلالة على أن الجن يتشكلون في صورة الحيات، وقد كانت تلك الحية التي دخلت البيت عبارة عن جن في صورة حية، صرع الفتى بسببها، ولذا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل حيات البيوت قبل استئذانها ثلاثة أيام، لئلا تكون تلك الحية جناً مسلمين. فعن عمر بن نافع قال: (كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يوماً عند هدم, فرأى وبيص جان فقال: اتبعوا هذا الجان فاقتلوه، فقال أبو لبابة الأنصاري: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر, وذا الطفيتين، فإنهما اللذان يخطفان البصر, ويتبعان ما في بطون النساء) (¬3). وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتلوا ذا الطفيتين، فإنه يطمس البصر, ويصيب الحبل)) (¬4). ¬

(¬1) رواه النسائي في ((عمل اليوم والليلة)) (960)، وابن حبان (3/ 63) (784)، وأبو نعيم في ((دلائل النبوة)) (ص:525)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (7/ 108)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 317). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/ 738): صحيح ثابت. (¬2) رواه مسلم (2236). (¬3) رواه مسلم (2233). (¬4) رواه البخاري (3308).

والنهي عن قتل حيات البيوت لكون الجان يتمثل بصورة الحيات، قال ابن حجر الهيتمي: (إن استثناء هذين – يقصد الأبتر وذا الطفيتين - يقتضي أن الجني لا يتصور بصورتهما، فيسن قتلهما مطلقاً، ثم رأيت الزركشي نقل ذلك عن الماوردي فقال: إنما أمر بقتلهما لأن الجن لا تتمثل بهما، وإنما نهى عن ذوات البيوت لأن الجني يتمثل بهما) (¬1). ثم قال ابن حجر: (وما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه مما يقتضي عدم قتله مطلقاً يحمل على ما إذا لم ينذر، وأن الإنذار يتأكد فيه، لأنه أقرب إلى صورة الجن من غيره، وكذلك يحمل على هذا حديث مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجان إلا الأبتر وذو الطفيتين) (¬2). وأخرج أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((اقتلوا الحيات كلها إلا الجان الأبيض، الذي كأنه قضيب فضة)). وذلك لتمثل الجان في صورة الحيات البيضاء قال أبو داود: (فقال لي إنسان: الجان لا يعرج في مشيته، فإذا كان هذا صحيحاً كانت علامة فيه إن شاء الله) (¬3) وفائدة الإنذار أن الجني الذي يظهر بصورة حية إذا كان مسلماً يخرج بسماعه للإنذار، وإذا لم يخرج فهو جن كافر أو حية، وكل منهما يقتل شرعاً. والجن يتصور بصورة الكلاب كذلك قال ابن تيمية: (والجن تتصور بصورة الكلب الأسود, وكذلك بصورة القط الأسود, لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة). فعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها وقال: ((عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان)) (¬4)). وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة، فعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل. فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار, والمرأة, والكلب الأسود. قلت: يا أبا ذر: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي! سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان)) (¬5). فعلل بأنه شيطان، والجن تتشكل بالصور المختلفة للحيوانات سواء كانت كلاباً أو غيره. وهكذا يظهر لنا مما تقدم أن الجن يتشكلون في الصور المختلفة، وعندئذ يمكن رؤيتهم، وهذا هو الذي عليه جمهور الفقهاء من المسلمين، لما ورد من الآثار الكثيرة في تشكيلهم ورؤيتهم، وقد مر معنا قسم منها. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص 19 ¬

(¬1) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 22). (¬2) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 24). (¬3) رواه أبو داود (5261) وسكت عنه، وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (16/ 30): غريب حسن، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 133). (¬4) رواه مسلم (1572). (¬5) رواه مسلم (510).

ثانيا: مدى إمكانية رؤيتهم

ثانيا: مدى إمكانية رؤيتهم ويحسن بنا في هذا المقام أن نبين آراء الفقهاء في مسألة رؤية الجن وتشكلهم. 1 - رأي الجمهور: أن الجن يرون إذا تشكلوا في غير صورهم الأصلية، في بعض الأوقات، ولبعض الناس. 2 - الفريق الثاني: يرى أن رؤية الجن مختصة بالأنبياء – عليهم السلام – فقط. وممن قال بذلك: الشافعي وابن حزم والنحاس والقشيري وبعض المحدثين. 3 - الفريق الثالث: ينكر رؤية البشر للجن، سواء كانوا أنبياء أو غير أنبياء، وهو قول لبعض المحدثين. 4 - الفريق الرابع: يتوسع في دائرة الرؤية، فيثبت رؤية الجن بصورهم الأصلية للأنبياء, ولمن اختصه الله بذلك من غير الأنبياء من البشر, وهو قول الألوسي, وابن العربي، على تفصيل سيأتي فيما بعد. وإليك تفصيل هذه الآراء مع أدلتها: 1 - رأي الجمهور من الفقهاء: الذين قالوا بأن الجن يرون إذا تشكلوا في غير صورهم الأصلية، في بعض الأوقات ولبعض الناس. قال محمد رشيد رضا: (والجمهور على أن الجن تتشكل) (¬1)، وقال في موطن آخر: (واختلفت فرق المسلمين في تشكله في الصور. فالجمهور يثبتونه) (¬2) وقال المجلسي: (لا خلاف بين المسلمين في أن الجن والشياطين أجسام لطيفة، يرون في بعض الأحيان، ولا يرون في بعضها .. وقد جعل الله لهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة وصور متنوعة، كما هو الأظهر من الأخبار والآثار) (¬3). ويقول محمد رشيد رضا مبيناً إمكانية رؤية الجن: (فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة البشر أو غيرهم، أمكن للبشر أن يروه، ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته الأصلية بحسب العادة، وسنة الله في خلق عالمه وعالمها) (¬4). ويقول الإمام القرطبي: (وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة، فمنها حديث أبي هريرة الذي وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان – وذكر قصة طويلة – وفيها: أن الشيطان كان يأتيه على صورة رجل فقير، يحثو من الطعام، حتى رفع أمره إلى الرسول وأخبره أن الذي يأتيه إنما هو شيطان) (¬5) (¬6). وقد رأى ابن مسعود الجن على غير صورهم الأصلية، حين ذهب عليه الصلاة والسلام لتكليم الجن. فقد روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أتلو القرآن على الجن، فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون، عند شعب أبي دب، فخط علي خطاً فقال: لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون، فانحدر عليه أمثال الحجل، يحدرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت: فأوحى إليّ بيده أن أجلس، فتلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إليّ قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فسألوني الزاد، فزودتهم العظم والبعر، فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر)) (¬7). ¬

(¬1) ((تفسير المنار)) (7/ 525). (¬2) ((تفسير المنار)) (7/ 525). (¬3) ((المؤمنون في القرآن)) (1/ 145). (¬4) ((تفسير المنار)) (7/ 525). (¬5) رواه البخاري (2311). (¬6) ((تفسير القرطبي)) (7/ 187). (¬7) ((تفسير الماوردي)) (6/ 108)، ((تفسير القرطبي)) (19/ 4)، ((تفسير الرازي)) (30/ 135).

وقد جاء من طرق هذا الحديث: ((ثم انطلق – أي ابن مسعود – حتى قام عليَّ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطاً وغمغمة، حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبي صلى الله عليه وسلم مع الفجر فقال: أنمت؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس، حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول: اجلسوا، فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم، ثم قال: هل رأيت شيئاً؟ قلت: نعم رأيت رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض، فقال: أولئك جن نصيبين، سألوني المتاع، والمتاع الزاد .. )) الحديث (¬1). وفي إحدى الروايات عن ابن مسعود جاء فيها: ( ... فلما أصبحت قلت: لأعلمن علماً حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذهبت، فرأيت موضع مبرك ستين بعيراً)، وذلك حين ذهب الرسول ليكلم نفراً من الجن. وفي هذا دلالة على أن الجن الذين كلمهم عليه الصلاة والسلام لهم أجسام، بحيث يمكن مشاهدتهم، فقد تركوا أثرا يدل على تشكلهم، وهي آثار مقاعدهم عندما كانوا مجتمعين حول الرسول عليه الصلاة والسلام. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة؟ فأسكت القوم فلم يتكلم منهم أحد, قال ذلك ثلاثاً فمر بي يمشي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى خنست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض براز, فإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستثفري ثيابهم من بين أرجلهم, فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفرق, فلما دنونا منهم خط لي رسول الله بإبهام رجله في الأرض خطاً فقال لي اقعد في وسطه فلما جلست ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة, ومضى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينهم فتلا قرآناً رفيعاً حتى طلع الفجر ثم أقبل حين مر بي فقال لي: الحق، فجعلت أمشي معه فمضينا غير بعيد فقال لي: التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد فقلت: يا رسول الله أرى سواداً كثيراً, فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى الأرض, فنظم عظماً بروثة ثم رمى به إليهم, ثم قال: رشد أولئك من وفد قوم هم وفد نصيبين, سألوني الزاد فجعلت لهم كل عظم وروثة, قال الزبير: فلا يحل لأحد أن يستنجي بعظم ولا روثة أبداً)) (¬2). وعندما قدم ابن مسعود الكوفة، رأى شيوخاً شمطاً من الزط فراعوه، قال: (من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء نفر من الأعاجم، قال: ما رأيت للذين قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام من الجن شبهاً أدنى من هؤلاء) (¬3). فهذه الروايات تدعم قول القائلين بإمكانية رؤية الجن، فقد ظهروا لابن مسعود وغيره مرة في صورة النسور، ومرة في صورة الحجل، ومرة في صورة رجال سود، عليهم ثياب بيض. ورآهم ابن مسعود يجتمعون حول الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرعهم بعصاه، ثم يتلو عليهم القرآن، ويطلبون منه الزاد فيزودهم العظم لهم، والروث لدوابهم. وقد تكررت وفادات الجن على الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر الألوسي أنه كان للجن ست وفادات. وهذه الوفادات تدل على رؤية الجن من قبل ابن مسعود وغيره عند تكليم الرسول صلى الله عليه وسلم للجن ودعوتهم إلى الله. ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره (22/ 137)، وأورده البغوي في تفسيره (7/ 267). (¬2) رواه الطبراني (1/ 125) (252). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 214): إسناده حسن. (¬3) ((تفسير الطبري)) (22/ 136).

أما حديث ابن عباس الذي يقول فيه: (ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم. انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء. وأرسلت عليهم الشهب. فرجعت الشياطين إلى قومهم. فقالوا: مالكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء. وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة -وهو بنخل، عامدين إلى سوق عكاظ. وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر- فلما سمعوا القرآن استمعوا له. وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا! إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به. ولن نشرك بربنا أحداً. فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ) (¬1). هذا الحديث الذي يبين فيه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى الجن، يقول فيه ابن العربي: (وابن مسعود الذي يثبت رؤية الرسول للجن - في الحديث المتقدم – أعرف من ابن عباس لأنه شاهده، وابن عباس سمعه، وليس الخبر كالمعاينة) (¬2)، ويقول السبكي: (ويقدم قول ابن مسعود لأنه إثبات وقول ابن عباس نفي، والإثبات مقدم على النفي، لاسيما وقصة الجن كانت بمكة، وكان ابن عباس إذ ذاك طفلاً، أولم يولد بالكلية، فهو إنما يرويها عن غيره، وابن مسعود يرويها مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالأولى أن يجعل كلام ابن عباس غير معارض لكلام ابن مسعود، وأن يكونا مرتين: إحداهما التي ذكرها ابن عباس، وهي التي أشار إليها القرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن، إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قصدهم, ولا شعر بهم, ولا رآهم, ولا قرأ عليهم قصداً، بل سمعوا قراءته وآمنوا به كما نطق بذلك الكتاب العزيز، وثبوتها من حيث الجملة قطعي) (¬3)، وهذه المرة كانت بنخلة، والثانية التي تثبت رؤية الرسول للجن وهي بمكة (¬4). وأما قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27]. حكاية عن إبليس وقبيله من الشياطين، فقد قال الإمام الشوكاني: (وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشياطين غير ممكنة، وليس في الآية ما يدل على ذلك، وغاية ما فيها أنه – أي إبليس – يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنا لا نراه أبداً، فإن انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً) (¬5). ثم إن المقصود من الآية عدم رؤيتنا لهم على صورتهم الأصلية التي خلقهم الله عليها، وليس معناها انتفاء رؤيتنا لهم في حالة تشكلهم بمختلف الصور، التي ثبت تشكلهم بها، لورود الأحاديث الصحيحة في ذلك. قال الحافظ ابن حجر: (إن الشيطان قد يتصور ببعض الصور، فتمكن رؤيته، وأن قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها، .. وأنهم يظهرون للإنس بالشرط المذكور) (¬6)، يقصد إذا تشكلوا بغير صورهم. ¬

(¬1) رواه مسلم (449). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (19/ 2). (¬3) ((فتاوى السبكي)) (2/ 599). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (19/ 3). (¬5) ((تفسير فتح القدير)) (2/ 197). (¬6) ((فتح الباري)) (4/ 489).

وكذلك يحمل قول الإمام الشافعي كما حملت هذه الآية على امتناع رؤيتهم بصورهم الأصلية. فقد روى البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع: (سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، إلا أن يكون نبياً) (¬1). يقول الباقلاني: (لسنا ننكر مع كون أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها ويخلق لهم أعراضاً تزيد على ما في النار، فيخرجون عن كونهم ناراً، ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة) (¬2). ويقول في موضع آخر: (إنما رآهم من رآهم لأنهم أجساد مؤلفة وجثث) (¬3). على أن القاضي أبي يعلى الحنبلي يعتبر أن قدرة الجن على التشكل بالصور المختلفة، ليست من خصائصهم التي أودعها الله فيهم، وإنما قدرتهم على التشكل إنما هي بتعليم الله للجن كلمات وضرباً من ضروب الأفعال، إذا قالها وفعلها، نقله الله من صورته إلى صورة الحيوان الذي تشكل به. يقول بهذا الصدد: (ولا قدرة للملائكة والشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور، وإنما يجوز أن يعلمه الله تعالى كلمات وضرباً من ضروب الأفعال، إذا فعله وتكلم به، نقله الله تعالى من صورة إلى صورة, فيقال إنه قادر على التصور والتمثيل، على معنى أنه قادر على قول إذا قاله أو فعله نقله الله تعالى من صورته إلى صورة أخرى بجري العادة، فأما أن يصور نفسه فذلك محال، لأن انتقالها من صورة إلى صورة، إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجزاء، فإذا انتقضت بطلت الحياة، واستحال وقوع الفعل من الجملة، فكيف تنقل نفسها؟. والذي روي أن إبليس تصور في صورة سراقة بن مالك، وأن جبريل تمثل في صورة دحية الكلبي، وقوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم: 17] محمول على ما ذكرنا، وهو أنه أقدره على قول قاله، نقله الله تعالى عن صورته إلى صورة أخرى) (¬4). وقول أبي يعلى دعوى تفتقر إلى دليل، ولا دليل عليها، بل خاصية التشكل للجن من الخصائص التي أودعها الله فيهم، وجعل لهم القدرة على ذلك فلا يكونون بذلك خارجين عن قدرة الله، بل تصرفوا في حدود ما منحهم الله إياه من القدرة على التشكل. 2 - الفريق الثاني: الذين يرون بأن رؤية الجن إنما هي مختصة بالأنبياء، كما ورد في تسخير الجن للنبي سليمان عليه السلام، وذلك قوله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 36 - 39] فالجن كانوا مرئيين وظاهرين لسليمان عليه السلام بمعجزة. وكما نعلم أن المعجزة أمر خارق للعادة، وأمر تجري حوادثه خلافاً للأمور التي تجرى تبعاً للسنن الكونية (¬5). وكما حدث للرسول محمد عليه الصلاة والسلام من رؤيته للجن في مواضع كثيرة، ... ومجيء الشيطان إليه بشعلة من نار ليحرق بها وجهه، فقال له: ألعنك بلعنة الله ثلاثاً، ولولا دعوة أخيه سليمان عليه لأخذه وربطه في سارية من سواري المسجد، حتى يلعب به ولدان أهل المدينة. وغير ذلك من الأحاديث التي تثبت رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام للجن. ... فالبشر لا يرون الجن عند هذا الفريق إلا أن يكون ذلك نبياً، فقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يرى أن رؤيتهم من الخوارق الخاصة بالأنبياء ... وقول الإمام الشافعي المتقدم محمول على رؤيتهم بصورتهم الأصلية كما مر معنا. ¬

(¬1) ((تفسير المنار)) (7/ 526). (¬2) ((الفتاوى الحديثية)) (65). (¬3) ((الفتاوى الحديثية)) (65). (¬4) ((كتاب المعتمد في أصول الدين)) (ص: 174). (¬5) ((سألوني)) (1/ 250).

وبمثل قول الشافعي قال النحاس. ففي تفسير قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27]. قال القرطبي: (قال النحاس: مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الجن لا يرون إلا في وقت نبي، ليكون ذلك دلالة على نبوته، لأن الله جل وعز خلقهم خلقاً لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم، وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) (¬1). وقال القرطبي: (قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم) (¬2). ومن قال بالمنع ابن حزم الظاهري، فقد قال: (وهم يروننا ولا نراهم، قال الله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27] .. وإذ أخبرنا الله عز وجل أنا لا نراهم، فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب، إلا أن يكون نبياً من الأنبياء عليهم السلام، فذلك معجزة لهم، كما نص النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته .. )) (¬3)). ثم يقول: (ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه) (¬4). وقول ابن حزم إنما هو محمول على رؤيتهم بصورهم الأصلية، كما حمل قول الإمام الشافعي من قبل. وروي عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رؤية الجن ليست حقيقة، وإنما هي من باب التخييل. فعن أسيد بن عمرو قال: (ذكرنا عند عمر الغيلان فقال: إنه لا يستطيع شيء أن يتحول عن خلق الله الذي خلقه، ولكن فيهم سحرة كسحرتكم، فإذا أحسستم من ذلك شيئاً فأذِّنوا) (¬5). وعلى قول عمر فإن ظهور الجن بالصور المختلفة ليس حقيقة، وإنما هو من باب التخييل، كتخييل السحرة على الرائين. ولكن الأدلة الصحيحة تثبت رؤيتهم حقيقة وليس تخييلاً، كما حصل مع أبي هريرة في الحديث المتقدم الذي أخرجه البخاري، عندما جاءه الشيطان على صورة رجل فقير ذي عيال، وغير ذلك من الأحاديث التي تثبت رؤيتهم حقيقة. 3 - الفريق الثالث: الذي ينكر حتى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن، فقد قال عبد الله النوري في جوابه على سؤال وجه إليه عن رؤية الرسول عليه السلام للجن: (لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بعينيه، وإنما أوحي إليه أن نفراً من الجن استمع إليه، قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن: 1]). وهو لا يثبت الرؤية إلا للنبي سليمان عليه السلام، كما ورد في الآيات التي تبين تسخير الجن له. وعلى هذا فهو يخالف كل الآراء التي تجمع على رؤية النبي عليه السلام للجن، وأما بالنسبة للآية التي ذكرها، فقد كانت إخباراً من الله لنبيه بأن نفراً من الجن استمعوا إليه، وهي تشعر بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرهم في هذه المرة، ولكن وفادات الجن على الرسول عليه السلام قد تكررت عدة مرات، رآهم فيها، ... ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (7/ 186). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (7/ 186). (¬3) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (5/ 12). (¬4) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (5/ 13). (¬5) رواه عبدالرزاق (5/ 162)، وابن أبي شيبة (6/ 94). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/ 396): إسناده صحيح.

وأما أن هذه خصوصية للنبي سليمان عليه السلام ومعجزة دالة على رسالته ـ كما قال صاحب الدعوى عبد الله النوري ـ فهي دعوى لا تمنع من تسخيرهم ورؤيتهم بعده. يقول البهي الخولي: (وإذا كان ذلك التسخير خصوصية لا تنبغي لأحد بعد سليمان فإن سر تلك الخصوصية لم ينقطع بعده) (¬1) واختصاص سليمان عليه السلام بذلك إنما هو على جهة تسخيرهم في الأعمال, وبناء القصور, والقلاع وغير ذلك، وهذا لم يقل به أحد من الناس، وأنه ممكن للبشر بعده، أما أن يختص سليمان برؤيتهم دون غيره فهذا ما ترده الشواهد الدالة على إمكانية رؤية الأنبياء وغيرهم للجن. بل إن تسخيرهم لنبينا عليه الصلاة والسلام كان ممكناً عندما قال: ((فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم)) (¬2) الحديث، لكن الذي منعه هو تذكره لدعوة أخيه سليمان عليه السلام: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص: 35]. وإلا فالتسخير كان ممكناً لمحمد عليه السلام، فكيف لا تكون الرؤية للجن جائزة في حقه صلى الله عليه وسلام؟. وبمثل هذا القول قالت القدرية بانتفاء رؤيتهم مطلقاً للأنبياء وغيرهم، يقول الباقلاني: (ومن يقر بوجودهم من القدرية يزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع منها ... ، ومن العلماء من قال: أنهم لا يرون، لأنهم لا ألوان لهم) (¬3). 4 - الفريق الرابع: الذي يتوسع في دائرة الرؤية، فيثبت رؤية الجن بخلقتهم الأصلية للأنبياء، ولمن اختصه الله بذلك من غير الأنبياء. قال ابن العربي: (وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة) (¬4). ويقول الألوسي: (وقد ترى - أي الجن - بصور غير صورها الأصلية، بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام، وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، ومن شاء الله تعالى من خواص عباده عز وجل) (¬5). وأما رؤية الجن في صورتهم الأصلية لغير الأنبياء فقد روى البيهقي في الدلائل عن الحسن: أن عمار بن ياسر قال: (قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس، فسئل عن قتال الجن فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر أستقي منها، فرأيت الشيطان في صورته، فصارعني فصرعته، ثم جعلت أدمي أنفه بفهر كان معي أو حجر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إن عمار لقي الشيطان عند البئر فقاتله)) , فلما رجعت سألني فأخبرته الأمر، فكان أبي هريرة رضي الله عنه يقول: إن عمار بن ياسر أجاره الله من الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬6). ومما تقدم لنا من الأقوال في مسألة رؤية الجن يتبين لنا أن الحق مع الفريق الذي قال بوقوع رؤيتهم للأنبياء مطلقاً ولغيرهم عند تمثلهم، وهو ما عليه الأكثرية من العلماء، وهو القول الذي تدعمه النصوص الثابتة من السنة النبوية، وهو الذي تشهد له التجربة مع كثير من الناس. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 29 ¬

(¬1) ((آدم عليه السلام)) (88). (¬2) رواه البخاري (3423). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((الجن بين الحقائق والأساطير)) (1/ 49). (¬4) ((أحكام القرآن)) (4/ 1864). (¬5) ((تفسير روح المعاني)) (29/ 82). (¬6) رواه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (7/ 124).

المطلب الثاني: الجن يتناكحون ويتناسلون

المطلب الثاني: الجن يتناكحون ويتناسلون والجن يتناكحون ويتناسلون ولهم ذرية، يقول ابن حجر الهيتمي: (واستدلوا لتناكح الجن فيما بينهم بقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف: 50]. فهذا يدل على أنهم يتناكحون لأجل الذرية). (¬1) ويقول الألوسي: (والظاهر أن المراد بالذرية: الأولاد، فتكون الآية دالة على أن له أولاداً، وبذلك قال جماعة، وقد روي عن ابن زيد أن الله تعالى قال لإبليس: إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس يولد لآدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن به. وعن قتادة: أنه ينكح وينسل كما ينكح وينسل بنو آدم) (¬2) وبمثل قول قتادة قال الحسن البصري (¬3). والذي يدل على ما رواه ابن زيد ما رواه ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)) (¬4). ومن الأدلة على تناكحهم وتناسلهم قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]. يقول ابن حجر الهيتمي: (وهذا يدل على أنه يتأتى منهم الطمث وهو الجماع والافتضاض) (¬5)، ويقول الفخر الرازي في الآية المتقدمة: (ما الفائدة في ذكر الجان مع أن الجان لا يجامع؟ نقول: ليس كذلك، بل الجن لهم أولاد وذريات، وإنما الخلاف في أنهم هل يواقعون الأنس أم لا؟ والمشهور أنهم يواقعون) (¬6). ولو كان الجن لا يتوالدون لانقرضوا وما بقي منهم أحد، لأنه قد ثبت موتهم بكثير من الأدلة، كما هو الشأن عند البشر، فلو كان البشر لا يتوالدون لانقرضوا. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (إن الله جزَّأ الإنس والجن عشرة أجزاء، فتسعة منهم الجن، والإنس جزء واحد، فلا يولد من الإنس ولد إلا ولد من الجن تسعة) (¬7). وقال الشعبي: (سألني رجل: هل لإبليس زوجة؟ فقلت إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي [الكهف:50]. فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم) (¬8). ومن الأدلة على أن الجن يتناكحون ولهم ذرية ما ورد في سورة الجن، من أن للجن رجالاً، قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6]، ومتى كان فيهم رجال ففيهم إناث، وذلك يقتضي التناسل (¬9). ومن الأدلة ما جاء في تفسير الخبث والخبائث في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد العزيز بن صهيب قال: () سمعت أنساً يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) (¬10). قال ابن حجر العسقلاني: (والخبث جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة، يريد: ذكران الشياطين وإناثهم، قاله الخطابي وابن حبان وغيرهما) (¬11). فقد دل هذا التفسير للحديث على أنه يوجد في الجن ذكران وإناث، وهو يقتضي الجماع والتناسل. وفي قوله تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف: 31]- إخباراً عن النفر الذين استمعوا إلى القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم - ما يفيد تناكح الجن وتناسلهم، قال ابن منظور: (والقوم: الجماعة من الرجال والنساء جميعاً، وقيل هو للرجال خاصة دون النساء). وقال: (وقوم كل رجل شيعته وقرابته). وعلى هذا الأساس فإن في الجن رجالاً ونساء وذلك يقتضي التناسل. وقد ذكر نفر بأنهم لا يتوالدون، والمراد من الذرية قي قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي [الكهف: 50]. "بأنهم الأتباع من الشياطين، وعبر عنهم بذلك مجازاً تشبيهاً لهم بالأولاد (¬12). قال الألوسي: (وقيل - ولعله الحق - أن له أولاداً وأتباعاً ويجوز أن يراد من الذرية مجموعهما معا على التغليب، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يراه، أو عموم المجاز) (¬13). والصحيح أن الجن يتناكحون ويتوالدون ... ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله سبحانه. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات -بتصرف- ص 42 ¬

(¬1) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 68). (¬2) ((تفسير روح المعاني)) (15/ 294). (¬3) ((تفسير الطبري)) (1/ 226). (¬4) رواه مسلم (2814). (¬5) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 68). (¬6) ((التفسير الكبير)) (29/ 130). (¬7) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (ص: 2387). (¬8) ((أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن)) (4/ 122). (¬9) ((العقيدة الإسلامية وأسسها)) (2/ 27). (¬10) رواه البخاري (142)، ومسلم (375). (¬11) ((فتح الباري)) (1/ 243). (¬12) ((تفسير روح المعاني)) (15/ 295). (¬13) ((تفسير روح المعاني)) (15/ 295).

المطلب الثالث: الجن يأكلون ويشربون

المطلب الثالث: الجن يأكلون ويشربون اختلف العلماء في أن الجن هل يأكلون ويشربون أم لا؟ للعلماء في هذه المسالة ثلاثة أقوال: أولاً: أن جميع الجن يأكلون ويشربون. ثانياً: أن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون. ثالثاً: أن قسماً منهم يأكل ويشرب, والقسم الآخر لا يأكل ولا يشرب. وقد اعتمد القائلون على أن قسماً من الجن لا يأكلون ولا يشربون على بعض الأحاديث، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب)) (¬1). قال السهيلي: (ولعل الصنف الثاني هو الذي لا يأكل ولا يشرب، إن صح أن الجن لا تأكل ولا تشرب) (¬2). ويقول القاضي بدر الدين الشبلي: (عن عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وسئل عن الجن ما هم، وهل يأكلون ويشربون ويتناكحون؟ فقال: هم أجناس، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون، ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون، منهم السعالي والقطرب وأشباه ذلك) (¬3). ويقول ابن حجر الهيتمي: (قال الإمام فخر الدين الرازي: اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون, ولا يشربون, ولا يتناكحون، وأما الجن فإنهم يأكلون, ويشربون, وينكحون, ويتوالدون) (¬4). والذي تدل عليه النصوص أن الجن يأكلون ويشربون، دون تخصيص بعضهم بذلك دون بعض، ففي حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن, قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم, وآثار نيرانهم, وسألوه الزاد, فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً, وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله صلى الله عليه: فلا تستنجوا بها فإنها طعام إخوانكم)) (¬5). وأخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال: (قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد: إنْهَ أمتك أن يستنجوا بعظم, أو روثة, أو حممة، فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) (¬6). وقد ذكر عماد الدين العامري أن العظم الذي ذكر اسم الله عليه هو طعام المؤمنين من الجن، وأما الكافرون منهم فإنما طعامهم فيما لم يذكر اسم الله عليه (¬7). وقد ورد في الحديث الصحيح أن الشيطان يأكل ويشرب، فعن ابن عمر رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله)). وكذلك ما ورد من أن الشيطان يدخل هو وأتباعه على البيوت التي لا يذكر أصحابها اسم الله عز وجل، فيأكلون ويبيتون معهم، فعن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء)) (¬8). ¬

(¬1) رواه الحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (1/ 205)، وأبو الشيخ في ((العظمة)) (5/ 1639) (10811)، وابن أبي الدنيا في ((الهواتف)) (156). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال ابن حبان في ((المجروحين)) (2/ 458): (فيه) يزيد بن سنان يخطئ كثيرا حتى يروي عن الثقات مالا يشبه حديث الأثبات لا يعجبني الاحتجاج بخبره، وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (4/ 428): (فيه يزيد بن سنان ذكر من جرحه). (¬2) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 65). (¬3) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 29). (¬4) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 65). (¬5) رواه البخاري (3859)، ومسلم (450). (¬6) رواه أبو داود (39). (¬7) ((بهجة المحافل وبغية الأماثل)) (1/ 124). (¬8) رواه مسلم (2018).

وقد ورد كذلك أن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، فعن حذيفة قال: ((كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده, وأنَّا حضرنا معه مرة طعاماً، فجاءت جارية كأنها تدفع. فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها. ثم جاء أعرابي كأنما يدفع. فأخذ بيده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه. وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها. فأخذت بيدها. فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به. فأخذت بيده. والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع يدها)) (¬1). ففي الحديث دلالة على أن الشيطان يستحل الطعام بالأكل منه إذا لم يذكر اسم الله عليه، وقد كان الشيطان وراء تلك الجارية والأعرابي، يدفعهما بسرعة إلى الطعام، بحيث لا يذكرون اسم الله عليه، فبذلك يأكل الشيطان معهما من الطعام، ولذلك نزع عليه الصلاة والسلام أيديهما من الطعام، وذكر اسم الله، ثم أكل. وأما القول الثاني الذي يقول: إن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون، فهو قول لا دليل عليه، وهو مخالف للأحاديث الصريحة، الدالة على أكل الجن وشربهم، يقول القاضي بدر الدين الشبلي: (فالقائلون أن الجن لا تأكل ولا تشرب، إن أرادوا أن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون، فهذا قول ساقط، لمصادمته الأحاديث الصحيحة، وإن أرادوا أن صنفاً منهم لا يأكلون ولا يشربون، فهو محتمل، غير أن العمومات تقتضي أن الكل يأكلون ويشربون) (¬2). ولكنه قد حصل خلاف بين العلماء في كيفية أكلهم وشربهم. فقال بعضهم: (إن أكلهم وشربهم تشمم واسترواح، لا مضغ وبلع). وقال آخرون: (إن أكلهم وشربهم مضع وبلع) (¬3)، والذي تشهد له الأحاديث أن أكل الجن وشربهم مضغ وبلع، لا تشمم واسترواح كما قال بعضهم، فقد روى أبو داود عن أمية بن مخشي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يأكل، فلم يسم حتى إذا لم يبق من طعامه إلا لقمة فلما رفعها إلى فيه قال: بسم الله أوله وآخره, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ما زال الشيطان يأكل معه، فلما ذكر اسم الله عز وجل استقاء ما في بطنه)) (¬4). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن وفداً من نصيبين سألوني الزاد، فلا تستنجوا بعظم ولا روثة، فإنهما طعام إخوانك من الجن، فقالوا: وما يغني ذلك عنهم؟ قال: لا يمرون بعظم إلا وجدوا عليه عرقة، ولا يمرون بروثة إلا وجدوا عليها طُعماً)) (¬5). ولو كان أكلهم تشمماً واسترواحاً لما سألوه الزاد ولاكتفوا بالعظم وحده. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تدل على أنهم يأكلون ويشربون حقيقة، والله أعلم. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص 46 ¬

(¬1) رواه مسلم (2017). (¬2) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 35). (¬3) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 28). (¬4) رواه أبو داود (3768)، وأحمد (4/ 336) (18983)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4/ 174) (6758)، والطبراني (1/ 291) (855)، والحاكم (4/ 121). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 152). (¬5) الحديث من زيادات رزين. وينظر جامع الأصول7/ 146. والحديث أخرجه مسلم (450) من حديث ابن مسعود بنحوه.

المطلب الرابع: يتميزون بسرعة الحركة والقدرة على الأعمال الشاقة

المطلب الرابع: يتميزون بسرعة الحركة والقدرة على الأعمال الشاقة خص الله الجن عن الإنس بأن جعل لهم قدرات ومهارات عظيمة، فقد سخر الله الجن للنبي سليمان عليه السلام، فكانوا يبنون له القصور والمحاريب، ويصنعون التماثيل، ويعملون الجفان الواسعة للطعام، وحياض الماء الكبيرة، قال تعالى في وصف ذلك: وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13]. فقد وصف الله هذه القدور بأنها راسيات. أي ثابتات لا تنتقل لضخامتها، وفي وصف الجفان بهذه الضخامة والاتساع، ووصف القدور بهذه الأحجام العظيمة دليل على قدرتهم العظيمة. وفي حديث القرآن عن عفريت أحد الجان - الذي تعهد بإحضار عرش بلقيس ملكة سبأ قبل قيام سليمان عليه السلام من مجلسه - دليل على حركتهم السريعة في التنقل، قال تعالى: قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل: 39]. وما ورد من ارتيادهم للفضاء، كما ورد في القرآن الكريم، في معرض الحديث عن استراق الجن لأخبار السماء ورميهم بالشهب، قال تعالى حكاية عنهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: 9]. ففي كل من هذه الآيات دليل على قدرتهم على الأعمال الشاقة، وسرعة تنقلهم بين الأماكن البعيدة، ولا غرابة في ذلك، فهم مخلوقات عنصرهم النار، التي تتميز بالخفة، فسبحان من أبدع كل شيء صنعاً. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص 50

المطلب الخامس: الجن يموتون ويبعثون بعد الموت

المطلب الخامس: الجن يموتون ويبعثون بعد الموت والجن مخلوقات تموت كما يموت الإنس، فمن الأدلة القرآنية على موتهم قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف: 18]. قال الألوسي: (واستدل بقوله عز وجل: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ [الأحقاف: 18]. الآية على أن الجن يموتون قرناً بعد قرن كالأنس) (¬1). وروي عن الحسن في بعض مجالسه: أن الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت (¬2). ويقول ابن حجر الهيتمي معلقاً على قول الحسن هذا: (الآية دليل على أنهم يموتون، فإن أراد الحسن أنهم لا يموتون مثلنا، بل ينظرون مع إبليس، فإذا مات ماتوا معه، قلنا: إن أراد ذلك في بعضهم كشياطين إبليس وأعوانه فهو محتمل، وإن أراد ذلك نافاه ما ورد من الوقائع الكثيرة في موتهم) (¬3). قال القاضي بدر الدين الشبلي: (ومعنى قول الحسن أن الجن لا يموتون أنهم منظرون مع إبليس، فإذا مات ماتوا معه, وظاهر القرآن يدل على أن إبليس غير مخصوص بالانظار إلى يوم القيامة، أما ولده وقبيله فلم يقم دليل على أنهم منظرون معه وظاهر قوله تعالى: قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ [الأعراف: 15]. يدل على أن ثمَّ منظرين غير إبليس، وليس في القرآن ما يدل على أن المنظرين هم الجن كلهم، فيحتمل أن يكون بعض الجن منظرين، أما كلهم فلا دليل عليه) (¬4). وسئل ابن حجر عن موت الجن فقال: (كل الحيوانات يموتون، وكذلك سائر العالم، لقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن: 26]. مع قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]). وأما الدليل من السنة على موتهم: فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)) (¬5). وهو أصرح الأحاديث الدالة على موت الجن ... وأخرج عن ابن جرير عن ابن عباس قال: (وكل ملك الموت بقبض أرواح المؤمنين والملائكة, وملك بالجن، وملك بالشياطين، وملك بالطير والوحوش والسباع والحيات، فهم أربعة أملاك) (¬6). ... حديث الفتى الذي صرعه الجني، وفيه دليل على أن الجن يموتون، فقد ورد في الحديث: ((فما يدرى أيهما أسرع موتاً الحية أم الفتى)) (¬7). وقد كانت تلك الحية من الجن الذين يسكنون المدينة، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: ((إن في المدينة جناً قد أسلموا .. )) (¬8). وأما عن بعثهم بعد الموت فإن كثيراً من الآيات القرآنية التي توعدت العصاة والكفرة، قد دلت على بعثهم بعد الموت ومحاسبتهم على أعمالهم، قال الله تعالى في سؤال الكفرة من الجنسين في الآخرة: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بلى [الأنعام: 130]. وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119]. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات -بتصرف - ص 52 ¬

(¬1) ((تفسير روح المعاني)) (26/ 21). (¬2) ((تفسير روح المعاني)) (26/ 21). (¬3) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 71). (¬4) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 152). (¬5) رواه البخاري (7383)، ومسلم (2717). (¬6) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 71). (¬7) رواه مسلم (2236). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬8) رواه مسلم (2236). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

المطلب السادس: ما تعجز عنه الجن

المطلب السادس: ما تعجز عنه الجن عجزهم عن الاتيان بالمعجزات: لا تستطيع الجن الاتيان بمثل المعجزات التي جاءت بها الرسل تدليلاً على صدق ما جاءت به. فعندما زعم بعض الكفرة أن القرآن من صنع الشياطين قال تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 210 - 212]. وتحدى الله بالقرآن الإنس والجن: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88]. لا يتمثلون بالرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا: والشياطين تعجز عن التمثل في صورة الرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا: ففي الحديث الذي يرويه الترمذي في سننه بإسناد صحيح: ((من رآني فإني أنا هو، فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي)) (¬1). وهو في الصحيحين بلفظ: ((من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتزيا بي)) (¬2). والظاهر من الأحاديث أن الشيطان لا يتزيا بصورة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقية، ولا يمنعه هذا من التمثل في غير صورة الرسول صلى الله عليه وسلم والزعم بأنه رسول الله. ولذلك فلا يجوز أن يحتج بهذا الحديث على أن كل من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام أنه رآه حقاً، إلا إذا كانت صفته هي الصفة التي روتها لنا كتب الحديث. وإلا فكثير من الناس يزعم أنه رآه على صورة مخالفة للصورة المروية في كتب الثقات. لا يستطيعون أن يتجاوزوا حدوداً معينة في أجواز الفضاء: قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [الرحمن: 33 - 35]. فمع قدراتهم وسرعة حركتهم لهم مجالات لا يستطيعون أن يتعدوها، وإلا فإنهم هالكون. لا يستطيعون فتح باب أغلق وذكر اسم الله عليه: أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((أجيفوا الأبواب، واذكروا اسم الله عليها، فإن الشيطان لا يفتح باباً أجيف عليه)) رواه أبو داود، وأحمد، وابن حبان، والحاكم (¬3). وفي الحديث المتفق عليه: ((فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوكوا قربكم، واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم، واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم)) (¬4). وفي مسند أحمد: ((أغلقوا أبوابكم، وخمروا آنيتكم، وأوكوا أسقيتكم، وأطفئوا سرجكم، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، ولا يكشف غطاء، ولا يحل وكاء)) (¬5) .. عالم الجن والشياطين لعمر سليمان الأشقر - ص37 ¬

(¬1) رواه الترمذي (2280). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬2) رواه البخاري (6996)، ومسلم (2267). من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه. (¬3) رواه أبو داود (5103، 5104)، وأحمد (3/ 306) (14322)، وأبو يعلى (4/ 210) (2327)، وابن حبان (12/ 326) (5517)، والحاكم (4/ 316) (7762). وقال: صحيح على شرط مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 189) كما قال ذلك في المقدمة، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (620). (¬4) رواه البخاري (5623)، ومسلم (2012). من حديث جابر رضي الله عنه. (¬5) رواه أحمد (3/ 301) (14266). قال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح غير فطر - وهو ابن خليفة - فقد روى له البخاري مقرونا بغيره وأصحاب السنن وهو ثقة.

المبحث الثالث: الأماكن التي يسكنها الجن

المبحث الثالث: الأماكن التي يسكنها الجن والجن يسكنون هذه الأرض كما يسكن عليها الإنسان، والدليل على ذلك قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة: 36]. وذلك بعدما خالف آدم وزوجه عليهما السلام أمر ربهما بعدم الأكل من الشجرة التي نهاهم الله بالأكل منها. قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: (والخطاب لآدم وحواء, والحية, والشيطان في قول ابن عباس. وقال الحسن: لآدم وحواء والوسوسة. وقال مجاهد والحسن أيضاً: بنو آدم, وبنو إبليس. والهبوط: النزول من فوق إلى أسفل) (¬1). وقال الإمام القرطبي في الآية: (وقد دل على هذا أن هبوط آدم وزوجته وعدوهما إبليس كان في وقت واحد، بجمع الله إياهم في الخبر عن إهباطهم بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبب إبليس ذلك لهما على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم) (¬2). ويقول القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن: 10]: (وعن ابن عباس قال: الأنام: الناس، وقال الحسن: الأنام: الجن والإنس، وعن الضحاك: الأنام: كل ما دب على وجه الأرض، وهذا عام) (¬3). وقال ابن كثير: (قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الأنام: الخلق) (¬4)، وهذا يشمل الجن والإنس وغيرهما. ومما يرجح أن الخطاب في الآية السابقة للجن والإنس قوله تعالى بعد ذكر كل نعمة من نعمه: فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، والمقصود به الجن والإنس. إلا أن وجود الجن أكثر ما يكون في الأماكن المهجورة كالمغارات, والكهوف, والحمامات, والمزابل, والمقابر, والجبال. فعن بلال بن الحارث قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فخرج لحاجته, وكان إذا خرج لحاجته يبعد, فأتيته بأداوة من ماء, فانطلق فسمعت عنده خصومة رجال ولغطاً لم أسمع مثلها, فجاء فقال: بلال؟ فقلت: بلال, قال: أمعك ماء؟ قلت: نعم, قال: أصبت. فأخذه مني فتوضأ قلت: يا رسول الله, سمعت عندك خصومة رجال ولغطاً ما سمعت أحدَّ من ألسنتهم, قال اختصم عندي الجن المسلمون والجن المشركون, فسألوني أن أسكنهم, فأسكنت المسلمين الجلس, وأسكنت المشركين الغور))، قال الراوي عبد الله بن كثير: (قلت لكثير: ما الجلس؟ وما الغور؟ قال: الجلس: القرى والجبال، والغور: ما بين الجبال والبحار، وهي يقال لها: الجنوب، قال كثير: ما رأينا أحداً أصيب بالجلس إلا سلم, ولا أصيب أحد بالغور إلا لم يكد يسلم) (¬5). وهناك نفر من الجن يعيشون في البيوت مع الناس، وهم ما يسمون بجنان البيوت، وهي الحيات التي يشكل الجن بصورتها، وقد تقدم حديث الفتى الذي صرعه الجني في بيته، ولذلك نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن قتل حيات البيوت قبل إنذارها، لوجود الجن المؤمنين فيها. ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (1/ 319). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (1/ 319). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (17/ 155). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 270). (¬5) رواه الطبراني (1/ 371) (1143). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 208): فيه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وقد أجمعوا على ضعفه وقد حسن الترمذي حديثه.

ومن الأماكن التي يسكنها الجن مواضع النجاسات فعن زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)) (¬1)، وذلك ليدفع شر الشياطين التي تكون في هذه الأماكن. بالإضافة إلى هذا فقد ورد النهي عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في أعطان الإبل, والحمامات, وعلَّلَ النهي أنها مأوى الشياطين. ويكثر وجودهم في الأسواق لفتنة الناس، وهم إبليس وذريته، ولذلك نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن المكث فيها، فقد قال موصياً سلمان رضي الله عنه: ((لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق, ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته)) (¬2). وذلك لأن الأسواق فيها من أنواع الباطل كالغش, والخداع, والأيمان الكاذبة، والعقود الفاسدة، والنظر المحرم إلى العورات، وغير ذلك مما هو من تحريض إبليس وأعوانه ... وهذه الصفات التي مرت – كما نلاحظ – صفات تشبه صفات الإنس من حيث الإجمال، ولكنها تختلف عن صفات الإنس في الأبعاد والكيفية، وذلك أنهم عالم مخلوق من النار، وللنار صفات تتميز بها عن الطين الذي خلق منه الإنسان. ونلاحظ مما تقدم أن هذا العالم يشارك الإنسان في كثير من الصفات كالأكل, والشرب, والتناسل، بالإضافة إلى أنهم مكلفون بالتكاليف الشرعية، التي يستحقون الثواب بسبب قيامهم بها، والعقاب إذا قصروا فيها، تماماً كما هو الشأن في الإنسان .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - بتصرف –ص: 54 ¬

(¬1) رواه أبو داود (6)، وابن ماجه (244)، وأحمد (4/ 369) (19305)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 23) (9903)، وأبو يعلى (13/ 180) (7218)، وابن خزيمة (1/ 38) (69)، وابن حبان (4/ 252) (1406)، والطبراني (5/ 205) (5100)، والحاكم (1/ 298). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: من شرط الصحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 432): اختلف في إسناده، والذي أسنده ثقة. (¬2) رواه مسلم (2451).

المبحث الرابع: أصناف الجن

تمهيد الجن أصناف مختلفة، فهم أصناف من حيث خلقتهم العامة، يختلف فيها كل صنف عن الآخر، وهم قبائل متعددة، وفيهم الذكور والإناث. وهم بعد ذلك مختلفون في الاعتقاد، ففيهم المؤمن والكافر، والصالح والطالح، وهم فرق وشيع مختلفة، إلى غير ذلك مما يتعلق بأصنافهم. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات –ص: 59

المطلب الأول: أصناف الجن من حيث أصل خلقتهم, وقوتهم

المطلب الأول: أصناف الجن من حيث أصل خلقتهم, وقوتهم الجن مختلفون من حيث أصل خلقتهم التي خلقهم الله عليها، فصنف منهم يشبهون الحيات والكلاب وبقية الحيوانات، وصنف يطير في الهواء، وثالث يقيم ويرتحل، فقد روى جبير بن نفير عن أبي ثعلبة الخشني - واسمه جرثوم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجن على ثلاثة: فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وثلث حيات وكلاب، وثلث يحلون ويظعنون)) (¬1). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف كبني آدم، عليهم الحساب والعقاب)) (¬2). فالجن على هذا الأساس متباينون في أصل خلقتهم التي خلقوا عليها، فهم على صور شتى، ولكن هذه الأصناف جميعاً لا تخرج في الدائرة العامة عن كونها مخلوقة من النار، لإخبار القرآن بذلك، قال تعالى: وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ [الحجر: 27]. وقد ذكر أن هناك صنفاً من الجن يقال له الحِنُّ - بالحاء -، قال ابن منظور: (والجن بالكسر: حي من الجن يقال بأن منهم الكلاب السود البهم، وقيل بأن الحن ضرب من الجن وأنشد: يلعبن أحوالي من حن وجن وقيل بأنهم سفلة الجن وضعفاؤهم، وأشد مهاصر بن المحل: أبيت أهوى في شياطين ترن ... مختلف نجواهم جن وحن) وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الكلاب من الحن، وهي ضعفة الجن، فإذا غشيتكم عند طعامكم فألقوا لهن، فإن لهن أنفساً) جمع نفس، أي أنها تصيب بأعينها. وقد قيل بأنهم سموا بالحِنِّ لأنهم كانوا يعيشون في الظلمة فحنوا إلى سطح الأرض. وأطلقت بعض الأوصاف على الجن لمناسبتها لبعض أصنافهم، وهي في مجملها أوصاف تدور حول المكر والدهاء، والقوة والتبدل من صورة إلى أخرى. فمن هذه الأوصاف: أ - العفريت: ¬

(¬1) رواه الطبراني (22/ 214) (573)، وابن حبان (14/ 26) (6156)، والحاكم (2/ 495). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 139): رواه الطبراني ورجاله وثقوا وفي بعضهم خلاف، وقال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (7/ 536): إسناده جيد رواته أئمة ثقات. (¬2) رواه الحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (1/ 205)، وأبو الشيخ في ((العظمة)) (5/ 1639) (10811)، وابن أبي الدنيا في ((الهواتف)) (156). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال ابن حبان في ((المجروحين)) (2/ 458): (فيه) يزيد بن سنان يخطئ كثيرا حتى يروي عن الثقات مالا يشبه حديث الأثبات لا يعجبني الاحتجاج بخبره، وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (4/ 428): (فيه يزيد بن سنان ذكر من جرحه).

قال تعالى إخباراً عن جن سليمان عليه السلام: قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل: 39]. قال ابن منظور: (العفريت من الرجال: النافذ في الأمر، المبالغ فيه مع خبث ودهاء، والعفريت من الشيء: المبالغ، يقال فلان عفريت نفريت، وعفرية نفرية، وفي الحديث: ((إن الله يبغض العفرية النفرية، الذي لا يرزأ في أهل ولا مال)) (¬1). قيل هو الداهي الخبيث الشرير) (¬2). ومن هذا ما رواه أبو عبيدة بن الجراح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول دينكم نبوءة ورحمة ثم ملك أعفر)) (¬3)، أي ملك يساس بالدهاء والمكر. وعلى هذا فإن العفريت في الآية يراد به القوي الداهية، الذي يقدر على إحضار عرش بلقيس من اليمن إلى أرض فلسطين بقوته ودهائه. وقد تقدم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي .. )) (¬4). وهذا الوصف إنما يطلق على بعض الجن، إذا أنهم ليسوا جميعاً في مرتبة واحدة، بل فيهم الضعيف كذلك، فعن ابن مسعود قال: (لقي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن، فصارعه فصرعه الإنس، فقال له الجني: عاودني، فعاوده، فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شحيباً، كأن ذريعتيك ذريعتا كلب. فكذلك أنتم معاشر الجن – أو أنت منهم كذلك -؟ قال: لا والله إني منهم لضليع، ولكن عاودني الثالثة، فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك، فعاوده، فصرعه فقال: هات علمني، قال: هل تقرأ آية الكرسي؟ قال نعم، قال: إنك لن تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار، لا يدخله حتى يصبح، قال رجل من القوم: يا أبا عبد الرحمن من ذاك الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال فعبس عبد الله وأقبل عليه وقال: من يكون هو إلا عمر رضي الله عنه) (¬5). ب – الخبل: وهم الذين يخبلون الناس ويؤونهم، ويقال: رجل مخبل: إذا كان به مس من الجن (¬6)، وسيأتي الحديث عن هذا عند الحديث عن صرع الجن للإنس. ج- الغول: ¬

(¬1) أورده ابن منظور في ((لسان العرب)) (4/ 583). (¬2) ((لسان العرب)) (4/ 583). (¬3) رواه بنحوه الطيالسي (ص: 31)، وأبو يعلى (2/ 177) (873)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (5/ 192)، والبيهقي (8/ 159) (16407). قال محمد المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (4/ 443): إسناده جيد، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)): فيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة ولكنه مدلس وبقية رجاله ثقات، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 84). (¬4) رواه البخاري (461)، ومسلم (541). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه الطبراني (9/ 166) (8826). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 73): رجاله رجال الصحيح إلا أن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود ولكنه أدركه. (¬6) ((كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية)) (2/ 190).

وقد قيل إنه ساحر الجن، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان) (¬1)، يعني: إذا ضلوا وشبهت عليهم الغول الطريق أذَّنوا فذهبت الغيلان، وتغولت: صارت غولاً، وذلك لأنها تتصور بصور كثيرة، فمرة تتصور في صورة امرأة جميلة، وأخرى في صورة امرأة قبيحة، ومرة قصيرة، وأخرى طويلة، ومرة كالإنس، وأخرى كالدواب، وهكذا لتفزع الناس، فهي متبدلة باستمرار، قال كعب بن زهير: فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول ويقال: غاله الدهر: أي غير حاله، كما يتغول الغول، فيتغير في كل صورة. فقد أخرج الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال: ((كان لي نخل في سهوة لي، فجعلت أراه ينقص منه، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنك ستجد فيه غدا هرة فقل: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد وجدت فيه هرة فقلت: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحولت عجوزاً وقالت: أذكرك الله لما تركتني فإني غير عائدة فتركتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل الرجل وأسره؟ فأخبرته خبرها فقال: كذبت، هي عائدة، فقل لها، أجيبي رسول الله، فتحولت عجوزاً، فقالت: أذكرك الله يا أبا أيوب لما تركتني هذه المرة فإني غير عائدة، فتركتها ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي كما قال لي، فقلت ذلك ثلاث مرات، فقال لي في الثالثة، أذكرك الله يا أبا أيوب لما تركتني حتى أعلمك شيئاً لا يسمعه شيطان فيدخل ذلك البيت، فقلت ما هو؟ فقالت: آية الكرسي، لا يسمعها شيطان إلا ذهب، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت وإن كانت كذوباً)) (¬2). نلاحظ مما تقدم أن الجن أصناف مختلفة من حيث قوتهم, ومكرهم, وتنقلهم في الصور المختلفة, وتخبطهم للإنسان وإيذائهم له، وهي أوصاف تتناسب مع طبيعتهم النارية، مع ما أعطاهم الله من القدرة على التشكل والتبدل في الصور المختلفة. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات -ص: 59 ¬

(¬1) رواه أبو داود (2570) مختصراً، وأحمد (3/ 305) (14316)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 236) (10791)، وأبو يعلى (4/ 153) (2219). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 216): رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (5/ 161): رجاله ثقات إلا أن الحسن الراوي عن جابر من طريقه لم يسمع منه عند الأكثر. (¬2) رواه الطبراني (4/ 162) (4012).

المطلب الثاني: أصناف الجن من حيث إنتسابهم إلى قبائل وأماكن

المطلب الثاني: أصناف الجن من حيث إنتسابهم إلى قبائل وأماكن في الجن قبائل وأقوام كما هو الأمر عند الإنس، فقد أخبر القرآن أن للجن أقواماً، قال تعالى إخباراً عن النفر الذين استمعوا للقرآن من الرسول عليه الصلاة والسلام ثم ولوا إلى قومهم منذرين: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 31]. قال ابن منظور: (والقوم الجماعة من الرجال والنساء جميعاً، وقيل: هو للرجال خاصة دون النساء، ويقوي ذلك قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ [الحجرات: 11] أي رجال من رجال، ولا نساء من نساء ... ) وقال: (وقوم كل رجل: شيعته وعشيرته .. وفي الحديث: ((إن نسَّاني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح القوم, وليصفق النساء)) (¬1). قال ابن الأثير: القوم في الأصل مصدر قام، ثم غلب على الرجال دون النساء، ولذلك قابلهن به، وسموا بذلك، لأنهم قوامون على النساء بالأمور التي ليس للنساء أن يقمن بها وقال الجوهري: القوم: الرجال دون النساء لا واحد له من لفظه، قال: وربما دخل النساء فيه على سبيل التبع، لأن قوم كل نبي، رجال ونساء) (¬2). وعلى هذا فإن قول النفر من الجن: (يا قومنا) يفيد أن لكل نفر من الجن قوماً ينتسبون إليه، فإن هؤلاء النفر من الجن انطلقوا إلى شيعتهم وعشيرتهم ينذرونهم، وأولى الناس بالإنذار الأهل والعشيرة، كما قال تعالى لنبيه عليه السلام: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]. وفي رواية عن ابن مسعود في خبر الجن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد، أنه ((قام إليه عليه السلام رجلان من الجن، فسألاه المتاع، فقال: ألم آمر لكما ولقومكما بما يصلحكم؟ قالوا: بلى، ولكننا أحببنا أن يشهد بعضنا معك الصلاة، فقال: ممن أنتما؟ قالا: نحن من أهل نصيبين، قال: قد أفلح هذان وأفلح قومهما، فأمر لهما بالروث والعظام طعاماً ولحماً)) (¬3). فقوله عليه الصلاة والسلام: ((أفلح هذان وأفلح قومهما)) فيه دليل على أن لكل منهما قوماً ينتسب إليه. وفي رواية عن ابن مسعود قال: ((استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الجن خمسة عشر، بني أخوة, وبني عم, يأتونني الليلة، فأقرأ عليهم القرآن، فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخط لي خطاً وأجلسني فيه)) الحديث. (¬4) فقد دل الحديث على أن الذين أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا أقرباء لبعضهم بعضاً، تماماً كما هو الأمر عند الإنس. ¬

(¬1) رواه أبو داود (2174)، وأحمد (2/ 540) (10990). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده ضعيف لجهالة الطفاوي وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين ولبعض قطع هذا الحديث طرق وشواهد تقويه. (¬2) ((لسان العرب)) (12/ 496). (¬3) رواه الطبراني (10/ 63) (9962). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 317): رواه الطبراني وفيه أبو زيد وقيس بن الربيع أيضا وقد ضعفه جماعة. (¬4) رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (9/ 17) (8995). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 215): فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث وبقية رجاله رجال الصحيح.

وورد عن قصة النفر الذين قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم لاستماع القرآن أن فيهم زوبعة، فعن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال: (هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ – إلى - ضَلالٍ مُّبِينٍ [الأحقاف: 29]) (¬1).، قال القرطبي: (قال الثمالي: بلغني أنهم من بني الشيصبان، وهم أكثر الجن عدداً وأقواهم شوكة، وهم عامة جنود إبليس) (¬2)، وكلمة: بني، في اللغة، إنما تدل على قرابة الرجل من أبنائه، قال ابن منظور: (وإذا قيل: بنو فلان، رهط فلان، فهو قرابته الأدنون، ورهط الرجل: قومه وقبيلته) (¬3). ففيما تقدم دلالة على وجود القوم والعشيرة والقرابة عند الجن، تماماً كما هو الشأن عند الإنس، ولا عجب في ذلك، إذ أنهم يتناكحون ويتناسلون، ولا شك أن هذا يستدعي أن يكون عندهم هذه الأصول والفروع. وكما أن الجن ينتسبون إلى أقوام، فإنهم ينتسبون إلى أماكن وأوطان كذلك، فقد ذكر أن النفر الذين قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاءوا إليه من نصيبين، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه ((كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إدواة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة، فقال: أبغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتيني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت معه فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين – ونعم الجن – فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعماً)) (¬4). ونصيبين هذه قيل: إنها مدينة بالشام، وجنها سادات الجن، وقيل: إنها قرية باليمن غير التي في العراق، وقيل: إنهم من نينوى، وأن جن نصيبين أتوه بعد ذلك بمكة (¬5)، وذكر ابن حجر أن نصيبين منطقة بين الشام والعراق (¬6)، وذكر القرطبي أن الجن الذين قدموا على الرسول وهو بمكة كانوا سبعة نفر: ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى (¬7). وفي رواية عند مسلم عن الشعبي أن وفد الجن الذي قدم على الرسول وهو بمكة إنما كان من جن الجزيرة (¬8). فقد دلت هذه الأحاديث على أن الجن ينتسبون إلى أوطان، فمنهم جن الجزيرة، ومنهم جن نينوى، ومنهم جن نصيبين، ومنهم جن حران إلى غير ذلك من الأوطان والأماكن التي يسكنها الجن وينتسبون إليها، كما ذكر القرطبي عن الضحاك (¬9). عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات –ص: 64 ¬

(¬1) رواه البزار (5/ 234) (1846)، والحاكم (2/ 495). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 235) وقال: رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((الإصابة)) (1/ 556): إسناده جيد، وحسنه الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (ص: 49). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (19/ 2). (¬3) ((لسان العرب)) (7/ 305). (¬4) رواه البخاري (3860). (¬5) ((بهجة المحافل وبغية الأماثل)) (1/ 123). (¬6) ((فتح الباري)) (7/ 172). (¬7) ((تفسير القرطبي)) (19/ 2). (¬8) ((فتاوى السبكي)) (2/ 600). (¬9) ((تفسير القرطبي)) (19/ 2).

المطلب الثالث: أصناف الجن من حيث الإيمان والكفر, والصلاح والفساد

المطلب الثالث: أصناف الجن من حيث الإيمان والكفر, والصلاح والفساد كما أن الجن قبائل مختلفة، فهم كذلك أصحاب ملل ونحل متباينة، وفيهم المؤمن والكافر، والعادل والظالم، يقول سيد سابق: (والجن طوائف: فمنهم الكامل في الاستقامة وعمل الخير، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم البله المغفلون، ومنهم الكفرة وهم الكثرة الكاثرة) (¬1)، قال تعالى: إخباراً عنهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن: 11]. يقول القرطبي: (هذا من قول الجن، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم: وأنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون، وقيل: ومنا دون ذلك، أي ومن دون الصالحين في الصلاح) (¬2). وقوله تعالى: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11] أي فرقاً شتى، قاله السدي، وقال الضحاك: أدياناً مختلفة، وقال قتادة: أهواء متباينة (¬3)، ومنه قول الشاعر: القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد والمعنى: أي لم يكن كل الجن كفاراً، بل كانوا مختلفين، منهم كفار ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء (¬4). وقال مجاهد: يعنون مسلمين وكافرين، وقال الحسن والسدي: في الجن أمثالكم، فمنهم قدرية, ومرجئة, ورافضة، وخوارج وشيعة, وسنة، وقال سعيد بن جبير: ألواناً شتى. وقال ابن كيسان: شيعاً وفرقاً، ومعنى الكلام أصنافاً مختلفة ومذاهب متفرقة (¬5)، وقال سعيد بن المسيب: كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس) (¬6). وذكر بعض العلماء أن هذه المذاهب المختلفة في الجن إنما هي بعد مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام واستماعهم للقرآن منه، يقول الإمام القرطبي في قوله تعالى إخباراً عن الجن: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11] (وقال قوم: أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، منا المؤمنون ومنا الكافرون، والأول أحسن – يقصد أنهم كانوا مؤمنين وكافرين قبل استماعهم للقرآن، بعد مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام – لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى. وقد أخبر عنهم أنهم قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30]، وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوارة، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان (¬7).) قال السبكي: (لا شك أنهم مكلفون في الأمم الماضية كهذه الملة، إما بسماعهم من الرسول، أو من صادق عنه، وكونه إنسياً أو جنياً لا قاطع به) (¬8). وظاهر القرآن يشهد للقرطبي من أنهم كانوا فرقاً شتى قبل استماعهم للقرآن، مسلمين وكفاراً وغير ذلك، لأن النفر الذين انطلقوا إلى قومهم بعد سماع القرآن، قالوا مخبرين عن أنفسهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن: 11]. فقد عبروا عن حالتهم السابقة قبل استماع القرآن بلفظ الماضي. ¬

(¬1) ((العقائد الإسلامية)) (ص: 134). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (19/ 15). (¬3) ((تفسير الطبري)) (23/ 659) (¬4) ((تفسير القرطبي)) (19/ 15). (¬5) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (1/ 414) بتصرف. (¬6) ((تفسير القرطبي)) (19/ 15). (¬7) ((تفسير القرطبي)) (19/ 15). (¬8) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 66).

وفي إخبار القرآن عن النفر من الجن الذين استمعوا للرسول بمكة ما يدل على أنهم كانوا عالمين بموسى عليه السلام ورسالته، قال تعالى: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30]، والنص يوحي أن هذا النفر كان من قوم عنده صلاح واستقامة، ومطالبة الجن بالإيمان غالباً ما ينشأ عنه استجابة لذلك الرسول من قبل بعضهم، أو رفضاً لدعوته من قبل البعض الآخر، وفي النهاية يدل على أنهم فرق شتى. وأخبر القرآن عن أحوالهم أيضاً بقوله: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا [الجن: 14]، قال ابن القيم: (فالمسلمون الذين آمنوا بالله ورسوله منهم، والقاسطون الجائرون العادلون عن الحق. قال ابن عباس: هم الذين جعلوا لله أنداداً، يقال: أقسط الرجل: إذا عدل فهو مقسط، ومنه: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9]. وقسط: إذا جار فهو قاسط، قال تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 15]). يقول ابن القيم تعليقاً على هذه الآيات التي تبين أحوال الجن وأصنافهم، وأنهم كأحوال الإنس في الإيمان والكفر, والصلاح والفساد: (وقد تضمنت هذه الآيات انقسامهم إلى ثلاث طبقات: صالحين، ودون الصالحين، وكفار. وهذه الطبقات بإزاء طبقات بني آدم، فإنها ثلاثة: أبرار، ومقتصدون، وكفار، فالصالحون بإزاء الأبرار ومن دونهم بإزاء المقتصدين، والقاسطون بإزاء الكفار، وهذا كما قسم سبحانه بني إسرائيل إلى هذه الأقسام الثلاثة في قوله: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 168]، فهؤلاء الناجون منهم، ثم ذكر الظالمين وهم خلف السوء الذين خلفوا بعدهم. ولما كان الإنس أكمل من الجن وأتم عقولاً، ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أخر، ليس شيء منها للجن وهم: الرسل, والأنبياء, والمقربون، فليس في الجن صنف من هؤلاء بل حليتهم الصلاح (¬1) .. ). عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات –ص: 67 هل يسلم الشيطان؟ يظهر من الحديث أن الشيطان يمكن أن يسلم بدليل أن شيطان الرسول صلى الله عليه وسلم أسلم، إلا أن بعض العلماء يرفض ذلك ويقول: الشيطان لا يكون مؤمناً، منهم شارح الطحاوية - ص439 - ووجه قوله: ((فأسلم)) أي فانقاد واستسلم. وبعض العلماء يرى أن الرواية ((فأسلم)) برفع الميم، أي فأنا أسلم منه، ومع أن شارح الطحاوية يرى أن رواية الرفع تحريف للفظ, إلا أن النووي في شرحه على مسلم قال: (هما روايتان مشهورتان) وعزى إلى الخطابي أنه رجح رواية الضم (¬2). وممن يرى أن الشيطان يمكن أن يسلم ابن حبان، قال معلقاً على الحديث: (في هذا الخبر دليل على أن شيطان المصطفى صلى الله عليه وسلم أسلم حتى أنه لم يكن يأمره إلا بخير، إلا أنه كان يسلم منه وإن كان كافراً) (¬3). وما ذهب إليه شارح الطحاوية من أن الشيطان لا يكون إلا كافراً فيه نظر، فإن كان يرى أن الشيطان لا يطلق إلا على كافر الجن فهذا صحيح، وإن كان يرى أن الشيطان لا يمكن أن يتحول إلى الإسلام فهو بعيد جداً، والحديث حجة عليه (¬4) .. عالم الجن والشياطين لعمر سليمان الأشقر – ص: 49 ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (1/ 416). (¬2) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (17/ 157). (¬3) ((صحيح ابن حبان)) (14/ 327). (¬4) الحديث رواه مسلم (2814).

المبحث الخامس: الشيطان إبليس صفاته وجنسه

المطلب الأول: تعريف إبليس والشيطان لغة واصطلاحاً أولا: تعريف إبليس والشيطان لغة: ذكر بعض العلماء أن إبليس اسم عربي، على وزن إفعيل، مشتق من الإبلاس، وهو الإبعاد من الخير، أو اليأس من رحمة الله (¬1). وقال الأكثرون: إن إبليس اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية، وقد ذكر ابن الأنباري أن إبليس لو كان اسماً عربياًلم يصرف كإكليل وإحليل (¬2)، قال أبو إسحاق: أن إبليس أعجمي معرفة، وذكر الزبيدي أن إبليس لا يصح أن يشتق وإن وافق معنى إبليس لفظاً ومعنى، وقد غلط العلماء الذين قالوا باشتقاقه. وذكر الطبري بأنه: (لم يصرف استثقالاً، إذ كان اسماً لا نظير له من أسماء العرب، فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التي لا تجري كما في إسحاق حيث لم يجروه، وهو مشتق من أسحقه الله إسحاقاً، إذ وقع ابتداء اسماً لغير العرب التي تسمت به العرب، فجري مجراه، وهو من أسماء العجم في الإعراب فلم يصرف، وكذلك أيوب إنما هو من آب يئوب) (¬3). قال ابن حجر: (وقد تعقب بأنه لو كان اسماً عربياً مشتقاً من الإبلاس لكان قد سمي به بعد يأسه من رحمة الله بطرده ولعنه) (¬4)، وظاهر القرآن أنه كان يسمى بذلك قبل ذلك، وكذا قيل، ولا دلالة فيه، لجواز أن يسمى بذلك باعتبار ما سيقع له، نعم روى الطبري عن ابن عباس قال: (كان اسم إبليس حيث كان مع الملائكة عزازيل ثم إبليس بعد (¬5)، وهذا يؤيد القول. والله أعلم) (¬6). عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبيدات - ص459 تعريف الشيطان لغة: ذكر جماعة من أهل اللغة أن الشيطان نونه أصلية على وزن فيعال مشتق من شطن: أي بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وشيطن وتشيطن، صار كالشيطان وفعل فعله، قال أمية بن أبي الصلت يصف سليمان بن داود عليهما السلام: أيما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأغلال فقال: أيما شاطن، ولم يقل: أيما شائط. وذكر جماعة أن الشيطان نونه زائدة على وزن فعلان فهو من شاط يشيط: إذا احترق غضباً، وعلى هذا الأساس يكون ممنوعاً من الصرف (¬7). وذكر ابن الأثير أن نون الشيطان إذا جعلت أصلية كان من الشطن وهو: البعد عن الخير, أو الحبل الطويل، كأنه طال في الشر، وإن جعلت زائدة كان من شاط يشيط: إذا هلك، أو من استشاط غضباً، إذا احتد في غضبه والتهب، قال: والأول أصح (¬8)، وذكر ابن كثير أن من العلماء من صحح المعنيين مع قولهم بأن الأول أصح (¬9). والشطن: البعد، ومنه شطنت داره، أي بعدت، ويقال: نوى شطون أي بعيدة، وبئر شطون: أي بعيدة القعر، ويقال للحبل شطن سمي بذلك لطوله، وجمعه أشطان، وفي الحديث: كل هوى شاطن في النار (¬10) قال ابن قتيبة: (الشاطن البعيد عن الحق) (¬11). قال محمد بن إسحاق: (إنما سمي شيطاناً لأنه شطن عن أمر ربه، والشطون البعيد النازح) (¬12). وقال أبو عبيد: (الشيطان كل عات متمرد من إنس, أو جن) (¬13)، أو دابة قال جرير: أيام يدعونني الشيطان من غزلي ... وهن يهوينني إذ كنت شيطانا ¬

(¬1) انظر: ((لسان العرب)) (6/ 29)، ((تفسير الطبري)) (1/ 509)، و ((تفسير روح المعاني)) (1/ 229). (¬2) انظر: ((تفسير روح المعاني)) (1/ 229)، ((فتح الباري)) (6/ 339). (¬3) ((تفسير الطبري)) (1/ 227). (¬4) ((فتح الباري)) (1/ 339). (¬5) ((تفسير الطبري)) (1/ 224). (¬6) ((فتح الباري)) (6/ 339). (¬7) ((لسان العرب)) (13/ 237)، و ((القاموس المحيط)) (ص: 871). (¬8) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (2/ 1160). (¬9) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 15). (¬10) ((لسان العرب)) (13/ 237). (¬11) ((غريب الحديث)) (3/ 759). (¬12) ((الزينة في الكلمات الإسلامية العربية)) (2/ 179). (¬13) انظر: ((بحر العلوم)) للسمرقندي (1/ 277).

ويدل على ذلك قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 112]. وكذا قوله: وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ [البقرة: 14]. أي أصحابهم من الجن والإنس، وقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ [الأنعام: 121]. وقوله: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة: 102]. قيل مردة الجن وقيل مردة الإنس (¬1). عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 462 ثانيا: تعريف إبليس والشيطان في الاصطلاح: تردد لفظ إبليس والشيطان في مواضع متعددة من القرآن الكريم، فقد ورد لفظ إبليس في أحد عشر موضعاً، ولم يرد هذا اللفظ إلا مفرداً في هذه المواضع جميعاً. أما لفظ الشيطان فقد جاء مفرداً ومجموعاً، فقد ورد مفرداً في سبعين موضعاً، وأما بلفظ الجمع فقد ورد في ثمانية عشر موضعاً، عدا من المواضيع التي ورد فيها لفظ الجن والجِنَّة، التي يراد في كثير منها الشيطان مفرداً ومجموعاً. وعلى هذا الأساس فما المراد بإبليس والشيطان في هذه المواضع؟ إبليس هو ذلك المخلوق من النار، والذي كان يجالس الملائكة ويتعبد معهم، وليس من جنسهم كما سيأتي، فلما أمر الله ملائكته بالسجود لآدم خالف أمر ربه بتكبره على آدم لادعائه أن النار التي خلق منها خير من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام، فكان جزاء هذه المخالفة أن طرده الله عن باب رحمته, ومحل أنسه, وحضرة قدسه, وسماه إبليس إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة، وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً إلى الأرض، فسأل الله النظرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى (¬2)، وقال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82 - 83]. وكما قال عز وجل عنه: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 62]. وهؤلاء هم المستثنون في قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [الإسراء: 65]. وإبليس واحد من الجن، وهو أبو الشياطين والمحرك لهم لفتنة الناس وإغوائهم، وقد ذكره الله في قصة امتناعه من السجود لآدم وذلك كقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]. وقد أطلق عليه القرآن اسم الشيطان في مواضع، منها قوله تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف: 20]. وقوله: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27]. الآية. ¬

(¬1) ((مفردات غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 261). (¬2) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (3/ 209).

فالشيطان في هذه الآيات مراد به إبليس، لأن القرآن يتحدث عن قصة إغوائه لآدم وحواء عليهما السلام. والذي يتأمل القرآن يرى أن إطلاق لفظ إبليس لم يرد إلا في معرض الحديث عن إباء إبليس من السجود لآدم، ولم يرد هذا الإطلاق خارج الحديث عن إبائه من السجود إلا في موضعين: الأول: في سورة الشعراء وهو قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشعراء: 94 - 95]. وفي هذا الموضع يكون مراداً به جمع إبليس وجنوده من الجن والإنس في نار جهنم، باعتبار الرئيس والأتباع. الثاني: في سورة سبأ في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20]. وهذا هو الموضع الوحيد الذي ورد فيه لفظ إبليس في معرض الحديث عن ممارسة غوايته وإفساده للناس. وأما لفظ الشيطان فقد يراد به إبليس خاصة، كما في قصة آدم وإبليس كقوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [البقرة: 36]. وقوله: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا [الأعراف: 20]. وقد يراد بالشيطان كل شرير مفسد داع للغي والفساد من الجن والإنس، كما في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 112]. وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال: يا نبي الله، وهل للإنس شياطين؟ قال: نعم: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112].)). وقد يطلق لفظ الشيطان كذلك على المتميز بالخبث والأذى من الحيوان، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: (ركب عمر برذوناً, فجعل يتبختر به، فضربه فلم يزدد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان، لقد أنكرت نفسي) (¬1). وعلى هذا فإن الشيطان إذا أريد به الجنس فله معنيان: معنى خاص, ومعنى عام. فأما الخاص فيراد به إبليس وذريته المخلوقون من النار، والذين لهم القدرة على التشكل، وهم يتناكحون, ويتناسلون, ويأكلون, ويشربون، وهم محاسبون على أعمالهم في الآخرة، مطبوعون بفطرتهم على الوسوسة والإغواء، وهم بهذا عاملون على التفريق والخراب، جاهدون لفصل ما أمر الله به أن يوصل، ووصل ما أمر الله به أن يفصل، وإبرام ما يجب فصمه، وفصم ما يجب إبرامه، فهم والملائكة على طرفي نقيض (¬2). وأما المعنى العام فيراد به كل مخلوق عات متمرد من الإنس, والجن, والدواب, فأما من جانب الجن والإنس فهو التمرد والعصيان لأمر الله, ومحاولة بذر الفساد في الأرض بشتى صوره وأشكاله قال تعالى: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 112]. وأما من جانب الدواب فهو الخبث والأذى الذي تميزت به عن جنسها .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص465 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (1/ 111)، ((تفسير ابن كثير)) (1/ 31) وقال: إسناده صحيح. (¬2) انظر دائرة معارف القرن العشرين (2/ 332).

المطلب الثاني: أوصاف إبليس

المطلب الثاني: أوصاف إبليس • 1 - الرجيم:. • 2 - المارد:. • 3 - الوسواس الخناس:.

1 - الرجيم:

1 - الرجيم: وقد ورد هذا الوصف في مواضع متعددة من القرآن، قال تعالى عن إبليس بعد رفض السجود لآدم: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34]. وقال: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]. وقال: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [التكوير: 25]. قال ابن منظور: (الرجم: الرمي بالحجارة)، وقال: (والرجم: اللعن، ومنه الشيطان الرجيم، أي المرجوم بالكواكب، وقيل رجيم: ملعون، مرجوم باللعنة، مبعد مطرود، وهو قول أهل التفسير، قال: ويكون الرجيم بمعنى المشؤم المسبوب من قوله تعالى: لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46].: أي لأسبنك. وقد ورد الرجم بمعنى الهجران, والطرد, والظن. والرجوم: النجوم التي يرمى بها، قال تعالى في الشهب: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ [الملك: 5]. أي جعلناها مرامي لهم). وعلى هذا فإن إطلاق صفة الرجيم على الشيطان لأنه مطرود عن رحمة الله, مبعد عنها بسبب عصيانه وتمرده وإغوائه لآدم وذريته، ولأن الشياطين مرجومة بالشهب حيث يرمون بها عندما يحاول أحدهم استراق أخبار السماء. وقد ورد في القرآن اللعن الذي يفيد الطرد، وذلك في قوله تعالى حكاية عن إبليس: لَّعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [النساء: 118]. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [الحجر: 35]. واللعن هو الطرد، وسمي إبليس ملعوناً لأن الله طرده وأبعده من رحمته, وأخرجه من جواره (¬1)، جزاء عصيانه أمر ربه عندما توجه إليه الخطاب مع الملائكة بالسجود لآدم. ¬

(¬1) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (1/ 438).

2 - المارد:

2 - المارد: وقد ورد هذا الوصف للشيطان في مواضع من القرآن وهي قوله تعالى: وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ [الصافات: 7]. وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ [الحج: 3]. وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا [النساء: 117]. والمارد من الرجال: العاتي الشديد، وأصله من مردة الجن والشياطين، ومنه حديث رمضان: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن)) (¬1) وقال ابن الأعرابي: (المرد التطاول بالكبر والمعاصي ومنه قوله: مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ [التوبة: 101]- أي تطاولوا-) والمريد: من شياطين الإنس والجن، وقد تمرد علينا أي عتا، ومرد على الشر وتمرد أي عتا وطغى، والمريد الخبيث الشريد. فالمارد إذن: هو العاتي الخارج عن الطاعة المنسلخ منها (¬2). وسمي الشيطان بذلك لأنه تمرد على أمر ربه وخرج عن طاعته بمخالفته بعدم السجود لآدم عليه السلام، وأصبح هذا الوصف يطلق على جنس الشياطين لأنهم خارجون على طاعة الله وامتثال أمره. ¬

(¬1) رواه الترمذي (682)، والنسائي (4/ 126)، وابن ماجه (1642). قال الترمذي: غريب. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (2/ 312) - كما أشار لذلك في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح. (¬2) ((تفسير فتح القدير)) (4/ 387) و ((كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية)) (2/ 182).

3 - الوسواس الخناس:

3 - الوسواس الخناس: قال تعالى في وصف الشياطين: مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:4 - 6]. والوسواس الخناس صفة للشيطان الذي يوسوس بالشر للإنسان في كل حال، ويخنس عند ذكر العبد ربه، فعن ابن عباس قال: (ما من مولود إلا على قلبه الوسواس، فإذا تذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس). قال (فذلك قوله: الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) (¬1). وعن ابن ثور عن أبيه قال: (ذكر لي أن الشيطان – أو قال الوسواس – ينفث في قلب الإنسان عند الحزن وعند الفرح، وإذا ذكر الله خنس) (¬2)، وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول في قوله: مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ (الذي يوسوس بالدعاء إلى طاعته في صدور الناس حتى يستجاب له إلى ما دعا إليه من طاعته، فإذا استجيب له إلى ذلك خنس (¬3)). قال الطبري: (والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به من شر شيطان يوسوس مرة ويخنس أخرى، ولم يخص وسوسته على نوع من أنواعها، ولا خنوسه على وجه بدون وجه، وقد يوسوس بالدعاء إلى معصية الله، فإذا أطيع فيها خنس، وقد يوسوس بالنهي عن طاعة الله، فإذا ذكر العبد أمر ربه فأطاعه فيه وعصى الشيطان خنس، فهو في كل حالتيه وسواس خناس، وهذه الصفة صفته) (¬4). والوسوسة هذه تحصل من شياطين الإنس والجن فإن قوله: مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ لبيان وجه الوسواس الخناس، وهو أنه إما أن يكون إنساناً, أو شيطاناً, من عالم الإنس أو عالم الجن (¬5) وقال ابن تيمية: (والوسواس الخناس يتناول وسوسة الجِنَّة ووسوسة الناس، وإلا أي معنى للاستعاذة من وسوسة الجِنَّة فقط، مع أن وسوسة نفسه وشياطين الإنس هي ما تضره، وقد تكون أضر عليه من وسوسة الجن) (¬6).؟!. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص469 ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (30/ 355). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (24/ 710). (¬3) ((تفسير الطبري)) (30/ 355). (¬4) ((تفسير الطبري)) (24/ 710). (¬5) ((التفسير القرآني للقرآن)) (14/ 1750). (¬6) ((مجموعة الرسائل الكبرى)) (2/ 202).

المطلب الثالث: الجنس الذي منه إبليس

المطلب الثالث: الجنس الذي منه إبليس اختلف العلماء في جنس إبليس هل هو من الملائكة أم من الجن؟ وذلك لورود الآيات القرآنية باستثنائه من الملائكة في مواضع من القرآن عند التعرض لسجود الملائكة لآدم عليه السلام قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]. وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف: 11]. وقال: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [ص: 73 - 74]. وغير ذلك من الآيات، وهي تدل على استثنائه من الملائكة. وقد جاءت آية سورة الكهف مصرحة بأن إبليس من الجن، قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [الكهف: 50]. وإزاء هذه الآيات فقد انقسم العلماء في هذه المسألة إلى فريقين: الفريق الأول: ويرى أن إبليس من الملائكة، والاستثناء الوارد في الآيات إنما هو استثناء متصل. قال القرطبي: (وهو قول جمهور العلماء كابن عباس, وابن مسعود, وابن جريج, وسعيد بن المسيب, وقتادة وغيرهم، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن الأشعري, والشيخ موفق الدين بن قدامة, وأئمة المالكية، ورجحه الطبري)، وقال البغوي: (هذا قول أكثر المفسرين (¬1) وهو ظاهر قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [ص: 74]). 2 - الفريق الثاني: ويرى أن إبليس لم يكن من الملائكة وإنما هو من الجن، والاستثناء في الآيات إنما هو استثناء منقطع. والقائلون بهذا: ابن عباس في رواية، والحسن البصري، واختاره الزمخشري, وأبو البقاء العكبري, والكواشي في تفسيره، وذكره الفخر الرازي عن بعض المتكلمين كالمعتزلة، وغيرهم من العلماء، ورجحه الشيخ الشنقيطي وغيره. أدلة الفريقين: وقد انتصر كل من الفريقين لقوله بعدة أدلة، وإليك تفصيل أدلة كل فريق: أ- أدلة الفريق الأول: اعتمد هذا الفريق فيما ذهب إليه على أن الاستثناء في قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [ص: 74]. إنما هو استثناء متصل، وقد تكرر هذا الاستثناء في القرآن الكريم، فإخراج إبليس بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم، وذكر بعضهم أن الظاهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص، ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع (¬2) قال الطبري: (ثم استثنى من جميع الملائكة إبليس، فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أمر بالسجود معهم، ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عن الملائكة أنهم فعلوه من السجود لآدم، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره، ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم) (¬3). وأما بالنسبة لقوله تعالى في سورة الكهف: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50]. فقد أجاب الجمهور عنه بما يلي: ¬

(¬1) ((تفسير البغوي)) (1/ 81). (¬2) ((أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن)) (4/ 120). (¬3) ((تفسير الطبري)) (1/ 224).

1 - أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم، وخلقت الملائكة من نور، غير هذا الحي، وكان من خزان الجنة، وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا، وكان له سلطانها وسلطان الأرض، وكان اسمه قبل أن يركب المعصية عزازيل، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وعلماً، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفاً عظيماً، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى، فمسخه الله شيطاناً رجيماً. وبهذا قال ابن عباس وجماعة من الصحابة (¬1). 2 - أنه لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصياً، ولما استحق الخزي والنكال، كما ورد ذلك في القرآن، قال: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف: 12]. فقد دلت الآية على أنه أمر بالسجود، والأمر بالسجود لم يتوجه إلا إلى الملائكة، فدل هذا على أنه واحد منهم، وكان قتادة يقول: جن عن طاعة ربه (¬2). 3 - أن الملائكة يطلق عليهم اسم الجن، كما في قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات: 158]. حيث إن المراد بالجنة في الآية الملائكة، حيث زعمت قريش أن الملائكة بنات الله، وقد جعلوا بين الله وإبليس نسباً – تعالى الله عما يقولون – وإطلاق لفظ الجن على الملائكة هو ما دلت عليه لغة العرب، حيث يقول أعشى بن قيس يذكر ما أعطاه الله للنبي سليمان بن داود عليهما السلام: وسخر من جن الملائك تسعة ... قياماً لديه يعملون بلا أجر فقد أطلق على الملائكة اسم الجن، وقال الطبري: (فأبت العرب في لغتها إلا أن الجن كل ما اجتن، وما سمى الله الجن إلا لأنهم اجتنوا فلم يروا، وما سمى بنو آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا، فما ظهر فهو إنس، وما اجتن فلم ير فهو جن) (¬3). 4 - وذكر الشيخ محمد عبده في تفسير المنار بأنه ليس هناك ثمة دليل يفرق بين الملائكة والجن تفريقاً جوهرياً، وإنما هو اختلاف أصناف عندما تختلف أوصاف كما ترشد إليه الآيات، فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة (¬4). ب- أدلة الفريق الثاني: وقد استدل القائلون بأن إبليس من الجن وليس من الملائكة بأدلة هي: 1 - أن قوله تعالى في سورة الكهف: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50]. صريح في أن إبليس من الجن وليس من الملائكة، والجن غير الملائكة، وغير جائز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه، وذكر الطبري عن قتادة قال: (كان الحسن يقول في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ إلجاء إلى نسبه، وما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس) (¬5). وممن قال بأن إبليس أبو الجن أيضاً ابن زيد وقتادة كما ذكر ذلك القرطبي (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (1/ 224) و ((تفسير القرطبي)) (1/ 294). (¬2) ((تفسير الطبري)) (1/ 225). (¬3) ((تفسير الطبري)) (1/ 225) و ((أضواء البيان)) (4/ 120). (¬4) ((تفسير المنار)) (1/ 265). (¬5) ((تفسير الطبري)) (1/ 226). (¬6) ((تفسير القرطبي)) (1/ 294).

2 - أن إبليس لو كان من الملائكة لما عصى الله عندما توجه إليه بالأمر بالسجود لآدم، لقوله تعالى عن الملائكة: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. قال الزمخشري في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ: كلام مستأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين، كأن قائلاً قال: ما له لم يسجد؟ فقيل: كان من الجن, فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ والفاء للتسبيب، أيضاً جعل كونه من الجن سبباً في فسقه، لأنه لو كان ملكاً كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر ربه، لأن الملائكة معصومون البتة، لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس (¬1). وقال الشيخ الشنقيطي في قوله تعالى: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن، وقد تقرر في الأصول في مسلك النص وفي مسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل كقولهم: سرق فقطعت يده، أي لأجل سرقته، وسها فسجد، أي لأجل سهوه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38]. أي لعلة سرقتهما، وكذلك قوله هنا: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ أي لعلة كينونته من الجن لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة، لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو) (¬2). 3 - أن الله أخبر أنه خلق إبليس من النار, ولم يخبر أنه خلق الملائكة من شيء من ذلك، بل ورد في الحديث المروي عن عائشة قوله عليه الصلاة والسلام: ((خلقت الملائكة من نور, وخلق الجان من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم)) (¬3). وفي هذا دليل على أن الملائكة مخلوقة من نور لا من نار. وقد ورد التصريح في القرآن على لسان إبليس بأن الذي دعاه إلى عدم السجود لآدم هو أنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين، قال تعالى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف: 12]. فالذي دعا إبليس لعدم السجود هو ظنه الفاسد أن النار أشرف من الطين (¬4)، وأن المخلوق منها أشرف من المخلوق من الطين. 4 - أن الله أخبر أن إبليس له نسل وذرية قال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف: 50]. فإبليس وذريته يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، كما قال الحسن (¬5) ويأكلون, ويشربون، والملائكة لا يتوالدون, ولا يأكلون, ولا يشربون، فدل هذا على أن إبليس من الجن وليس من الملائكة. وقد أجاب القائلون بأن إبليس من الجن عن قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]. ونحوها من الآيات بما يلي: ¬

(¬1) ((تفسير الكشاف)) (1/ 487). (¬2) ((أضواء البيان)) (4/ 119). (¬3) رواه مسلم (2996). (¬4) ((تفسير روح المعاني)) (1/ 120) و ((تفسير القاسمي)) (2/ 113). (¬5) ((تفسير الطبري)) (1/ 526).

أولاً: أن الاستثناء في هذه الآيات إنما هو استثناء منقطع، قال ابن حجر الهيتمي: (ومن الواضح أن دلالة كان من الجن لأن كونه منهم أظهر من دلالة الاستثناء على كونه من الملائكة، لأنه يأتي منقطعاً كثيراً، قال تعالى: مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء: 157]) (¬1). وقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 77]. فرب العالمين ليس من الأول، وكقولنا: جاء بنو فلان إلا أحمد، وليس منهم إنما هو عشيرهم. ثانياً: ... قال ابن كثير: (إن الله لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم، لأنه وإن لم يكن من عنصرهم، إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذم في مخالفته الأمر) (¬2). وقال الزمخشري: (إنما تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة لأن إبليس كان في صحبتهم, وكان يعبد الله تعالى عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له، كان الجِنِّي الذي معهم أجدر بأن يتواضع) (¬3). ثالثاً: وذكر بعضهم أنه يمكن أن يقال: إن الجن من جنس الملائكة من حيث لطافة الجسم، وعدم رؤية البشر له، فيكون الاستثناء متصلاً مع كون إبليس من عنصر الجن حقيقة، لدلالة قوله تعالى: خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف: 12]. رابعاً: وذكر بعضهم أن الجن كانوا مأمورين بالسجود مع الملائكة، ولكنه استغنى بذكر الملائكة لمزيد شرفهم عن ذكر الجن (¬4) .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص475 القول الراجح وبعد هذا العرض لأدلة الفريقين وأجوبة كل فريق على أدلة الفريق الآخر يتبين لنا رجحان القول الثاني، بأن إبليس من الجن وليس من الملائكة، وذلك للأسباب التالية: 1 - صراحة ما اعتمدوا عليه من آية سورة الكهف في أن إبليس كان من الجن في قوله تعالى: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، قال الشيخ الشنقيطي: (وأظهر الحجج في المسألة حجة من قال إنه غير ملك لقوله تعالى: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ الآية، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي، والعلم عند الله تعالى) (¬5). 2 - أن ما ورد في الكتاب والسنة من وصف إبليس بالعصيان، وأن له ذرية، وأنه مخلوق من النار، وأنه يأكل ويشرب، يدل دلالة ظاهرة على أنه من الجن، لأن هذه الصفات من صفات الجن دون الملائكة. 3 - أن الاستثناء المنقطع يأتي في القرآن وفي كلام العرب كثيراً كما تقدم من الأمثلة. 4 - استقامة توجيههم استثناء إبليس من الملائكة من جهة المعنى في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]. وغير ذلك من الآيات التي اعتمد عليها الجمهور في قولهم بأن إبليس من الملائكة وليس من الجن، وذلك لأن الآيات التي استثنته من الملائكة توحي بأنه كان يتعبد الله معهم لاختلاف صفاته عن صفاتهم، فبمقتضى الأمر أن يتوجه إليه الخطاب بالسجود مع الملائكة، لأنه أصبح واحداً يعيش معهم، ولكنه لم يخرج عن أصله بأنه من الجن. ¬

(¬1) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 91). (¬2) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (1/ 53). (¬3) ((الكشاف)) (3/ 91). (¬4) ((تفسير روح المعاني)) (1/ 120). (¬5) ((أضواء البيان)) (4/ 121).

5 - وأما صرف الجمهور لقوله تعالى: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ عن ظاهره بأنه كان من حي من أحياء الملائكة خلقوا من نار السموم، فلم يثبت لنا أن من الملائكة من خلق من النار، بل ورد ما يناقض ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها من أن الملائكة خلقت من نور, وخلق الجان من مارج من نار. وما ذكره البيضاوي في تفسيره من أن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك – غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان، محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة، ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف – غير مسلم به، إذ الفرق بين النار والنور أشمل من ذلك، فليس شرطاً أن يكون كل جسم مضيء محرقاً كما أسلفنا. وما زعمه الشيخ محمد عبده من أنه ليس هناك ثمة دليل يفرق بين الملائكة والجن تفريقاً جوهرياً، وإنما هو اختلاف أصناف عندما تختلف أوصاف, فترده الأدلة من القرآن والسنة، فالفرق بينهما واضح في أصل المادة التي خلق كل واحد منهما منها، وفي صفات كل منهما كذلك كما تقدم. وعدم ورود آية في القرآن تدل على المادة التي خلقت منها الملائكة لا يعتبر مسوغاً لاعتبار إبليس واحداً من الملائكة، اعتماداً على الآيات التي تستثني إبليس منهم. 6 - وأما ما أجاب به القائلون بأن إبليس من الملائكة على قوله تعالى: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ بما ورد من روايات عن بعض السلف كابن عباس وغيره – بما تقدم – فيجيب على ذلك الشيخ الشنقيطي حيث يقول: (وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره – من أنه (أي إبليس) كان من أشراف الملائكة, ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأن اسمه عزازيل – كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها) (¬1). وذكر ابن كثير رواية عن ابن جرير الطبري بإسناده عن ابن عباس أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة خلقوا من نار السموم يسمون جِنًّا في أثر طويل، قال ابن كثير تعليقاً عليها: (وهذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها) (¬2). وذكر الفخر الرازي أن تعليل الجمهور لقوله تعالى: كَانَ مِنَ الْجِنِّ بأنه – أي إبليس – كان خازناً للجنة تعليل غير جائز، لأن قوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ يشعر بتعليل تركه للسجود لكونه جنياً، ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازناً للجنة (¬3). ومن ذكر أن معنى قوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ يحتمل أن يكون بمعنى صار، فقد قال الفخر الرازي أيضاً: (هذا خلاف الظاهر، ولا يصار إليه إلا عند الضرورة) (¬4) وذكر ابن فورك أن هذا مما ترده الأصول (¬5) .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص486 ¬

(¬1) ((أضواء البيان)) (4/ 121). (¬2) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 76). (¬3) ((التفسير الكبير)) (2/ 214). (¬4) ((التفسير الكبير)) (2/ 214). (¬5) ((تفسير روح المعاني)) (1/ 212).

الفصل الرابع: تكليف الجن وجزاؤهم والرسل المرسلة إليهم

تمهيد نصت كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن الجن مكلفون بالتكاليف الشرعية، وأنهم مأمورون بفعل الطاعات والقيام بالعبادات، وأنهم منهيون عن ارتكاب المعاصي والمحرمات، وأنهم مختارون لهذا الأمر والنهي، وهذا ما عليه جمهور أهل الإسلام. وهم بهذا كالبشر الذين كلفهم الله بالتكاليف الشرعية أمراً ونهياً (¬1). وذهب قوم إلى أن الجن مضطرون، أي أنهم غير قادرين على فعل الطاعات أو ارتكاب المنهيات، وعلى هذا الأساس فهم غير مكلفين، وهذا يقتضي عدم الجزاء بالثواب على فعل الطاعات، وعدم الجزاء بالعقاب على ارتكاب المنهيات (¬2). وقد نقل القاضي عبد الجبار الهمداني هذا القول عن زرقان الذي حكاه عن بعض الحشوية على ما ذكره ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (¬3). والصواب الذي لا ريب فيه أن الجن مكلفون أمراً ونهياً، مختارون لهذا التكليف، قال ابن القيم: (الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام أنهم مأمورون منهيون، مكلفون بالشريعة الإسلامية، وأدلة القرآن والسنة على ذلك أكثر من أن تحصر، وإضافة القول إلى المعتزلة بتكليفهم، بمنزلة أن يقال: ذهب المعتزلة إلى القول بمعاد الأبدان، ونحو ذلك مما هو من أقوال سائر أهل الإسلام) (¬4). وقال الإمام القرطبي: (إن سورة الرحمن, والأحقاف, وقل أوحي دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون، مأمورون منهيون، معاقبون كالإنس سواء بسواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك) (¬5). وقال الفخر الرازي: (وأطبق المحققون على أن الجن مكلفون) (¬6). ونقل مثل هذا القول ابن حجر العسقلاني عن القاضي عبد الجبار الهمداني (¬7) , ورجح القاضي عبد الجبار قول الجماعة بعد أن ذكر عن بعض الحشوية قولهم: بأن الجن مضطرون إلى أفعالهم وليسوا مكلفين، ثم قال: (والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين والتحرز من شرهم، وما أعد لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر وارتكب النهي، مع تمكنه من أن لا يفعل، والآيات والأخبار الدالة على تكليفهم كثيرة جداً) (¬8). عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 175 ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 418) بتصرف، ((تفسير القرطبي)) (17/ 169). (¬2) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 34). (¬3) ((فتح الباري)) (6/ 344). (¬4) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 418) بتصرف، ((مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)) (2/ 127). (¬5) ((تفسير القرطبي)) (17/ 169). (¬6) ((التفسير الكبير)) (28/ 313). (¬7) ((فتح الباري)) (6/ 344). (¬8) ((فتح الباري)) (6/ 344).

المطلب الأول: الأدلة من القرآن على تكليف الجن

المطلب الأول: الأدلة من القرآن على تكليف الجن وردت آيات كثيرة تدل على تكليف الجن، وهي على أنواع مختلفة هي: 1 - ما جاء من التصريح في الحكمة من خلق الجن والإنس. وذلك في قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ [الذاريات: 56 - 57]. فالآية صريحة في أن الله قد خلق الجن والإنس للعبادة، وعلى هذا وردت أقوال العلماء: قال ابن عباس: (إِلا لِيَعْبُدُونِ أي: إلا ليقروا بعبادتي، طوعاً أو كرهاً)، وهذا اختيار ابن جرير الطبري (¬1). وورد عن علي بن أبي طالب, وابن جريج, والربيع بن أنس أن معنى قوله تعالى: إِلا لِيَعْبُدُونِ أي إلا لآمرهم بالعبادة، وهو اختيار الزجاج (¬2). ويدل على ما تقدم قوله تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: 31] وهي عامة في الجن والإنس. قال ابن كثير: (ومعنى الآية: أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم) (¬3). 2 - ما ورد عن صرف الجن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واستماعهم للقرآن منه. أ- قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 29 - 31]. فقد أخبر القرآن الكريم أن الله قد صرف الجن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لاستماع القرآن منه، وسواء كان حضورهم إلى مكة – حيث كان الرسول عليه السلام يقرأ القرآن، بعد منعهم من استراق أخبار السماء – أو كان حضورهم بتوفيق من الله هداية لهم، على ما ذكره الإمام الماوردي (¬4). فإن في ذلك دلالة على استماعهم للقرآن منه عليه السلام, وانصاتهم لسماعه. قال ابن القيم: وقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29]. الآية، تدل على تكليف الجن من عدة وجوه: أحدها: أن الله تعالى صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن ليؤمنوا به، ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه. الثاني: أنهم أخبروا أنهم سمعوا القرآن وعقلوه وفهموه، وأنه يهدي إلى الحق، وهذا القول منهم يدل على أنهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزل عليه، وأن القرآن مصدق له، وأنه هاد إلى صراط مستقيم، وهذا يدل على تمكنهم من العلم الذي تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه، والتكليف إنما يستلزم العلم والقدرة. الثالث: أنهم قالوا لقومهم: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ [الأحقاف: 30]. والآية صريحة في أنهم مكلفون، مأمورون بإجابة الرسول، وهو تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر (¬5) اهـ. وقال الألوسي في قوله تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ (وهذا ونحوه يدل على أن الجن مكلفون) (¬6). ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (27/ 8) ط1 1328هـ. (¬2) ((تفسير القرطبي)) (17/ 55) ((تفسير فتح القدير)) (5/ 92). (¬3) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (3/ 387). (¬4) ((أعلام النبوة)) (ص: 143). (¬5) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 421). (¬6) ((تفسير روح المعاني)) (26/ 32).

وقال ابن كثير: (وفي هذا دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين: الجن والإنس، حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين, وتكليفهم, ووعدهم, ووعيدهم, وهي سورة الرحمن، ولهذا قال: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) (¬1). ب- قوله تعالى في سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا – إلى قوله -: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 1 - 15]. وقد جاءت هذه الآيات إخباراً للرسول عليه الصلاة والسلام باستماع نفر من الجن إليه وهو يقرأ القرآن بأصحابه، وذلك بعد أن منع الجن من استراق أخبار السماء، فعرفوا أن هذا المنع ما حصل إلا لشيء قد حدث في الأرض، فجابوا الأرض، فكان النفر الذين أخذوا نحو تهامة في بلاد الحجاز قد مروا على الرسول عليه السلام وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم منذرين، فأنزل الله تعالى إلى نبيه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ [الجن: 1] (¬2) الآية ولم يكن يعلم باستماعهم إليه على الراجح من الروايات في ذلك، وظاهر القرآن يدل عليه. وقد دلت هذه الآيات على إيمانهم بالقرآن وأخذهم عهداً على أنفسهم أن لا يشركوا بالله، وذلك في قوله تعالى عنهم: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن: 1 - 2]، وقوله عنهم: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ [الجن:12]. ففي إيمانهم بالقرآن، ووصفهم له بأنه يهدي إلى الرشد، وعدم إشراكهم بالله، دلالة على أنهم مكلفون، وكذلك مسارعتهم لاستماعه، وذلك في قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]. أي: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقرأ القرآن اجتمع الجن عليه متلبدين متراكمين، حرصاً على ما جاء به من الهدى (¬3). فقد كانوا فرحين حريصين متأملين عند سماعهم للقرآن، وفي هذا دلالة على كمال عقولهم, وهو يقتضي التكليف، وقد وردت آيات كثيرة تخاطب العقل كقوله تعالى: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ , وقوله: أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ , وقوله: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2]. وفي هذا دلالة على توجه الخطاب للعاقل، وقد تقدم أن الجن مخلوقات عاقلة مريدة مختارة، عندها القدرة على التمييز بين الحق والباطل. 3 - ما يتضمن التصريح بإرسال رسل إليهم: قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام: 130]. ¬

(¬1) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (3/ 387). (¬2) الحديث رواه البخاري (773). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) ((تفسير كلام المنان)) (7/ 494).

ففي هذه الآية خطاب للجن والإنس يوم القيامة، وهذا الخطاب فيه تقرير من الله في أنه قد بعث رسلاً إلى الجن والإنس حيث يسألهم وهو أعلم: هل بلغتهم الرسل رسالاته؟ (¬1)، وبذلك يزول العذر وتنقطع الحجة لأي واحد من الجن والإنس، إذ بعث الله رسلاً يوضحون الطريق ويأمرون بعبادة الله, وينهون عن معصيته، ولا شك أن أمر الرسل ونهيهم للجن والإنس هو محض التكليف، قال ابن القيم: (وهذه الآية تدل على أن الجن كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، لكن دعوة أولئك الرسل كانت مقصورة على بعض الإنس والجن، أما رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام فهي عامة لجميع الجن والإنس) (¬2). 4 - ما يتضمن خطاب الجن والإنس معاً: وذلك في سورة الرحمن في قوله تعالى بعد الحديث عن نعمه على عباده: فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 13]، حيث ورد هذا الخطاب في واحد وثلاثين موضعاً من سورة الرحمن، وفيه خطاب للجن والإنس معاً، وفي هذه المواضع امتنان من الله على عباده بهذه النعم التي لا يجحدها إلا كافر. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كلما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)) (¬3) قال ابن القيم: (وهذا يدل على ذكائهم, وفطنتهم, ومعرفتهم بمؤنة الخطاب وعلمهم أنهم مقصودون به) (¬4) ويقول: (وقد دلت سورة الرحمن على تكليفهم بالشرائع كما كلف الإنس، ولهذا يقول في إثر كل آية: فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ , فدل على أن السورة خطاب للثقلين معاً، ولهذا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن قراءة تبليغ، وأخبر أصحابه أنهم كانوا أحسن رداً منهم، فإنهم جعلوا يقولون كلما قرأ عليهم فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ: لا نكذب بشيء من آلائك ربنا فلك الحمد) (¬5). 5 - ما يتضمن تحدي الثقلين بالإتيان بمثل القرآن: وذلك في قوله تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88]. فهو تحد للإنس والجن معاً في أن يقدروا على الإتيان بمثل هذا القرآن، ولكنهم لن يستطيعوا ذلك وتوجه الخطاب بالتحدي للإنس والجن من دون الخلائق دليل على أنهم هم المعنيون بأمر هذا القرآن وما اشتمل عليه من أنواع الإعجاز المختلفة، وفي هذا دليل على تكليف الجن كالإنس. 6 - ما يتضمن بشارة المؤمنين من الجن بالثواب على أعمالهم, وتحذير الكافرين والعصاة منهم بالعقاب على كفرهم ومعصيتهم في الآخرة: وقد وردت البشارة بالتحذير في مواضع متعددة من القرآن منها: ¬

(¬1) ((تفسير ابن كثير)) (1/ 619). (¬2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 421) بتصرف. (¬3) رواه الترمذي (3291). وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد، وقال المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (8/ 276): في الحديث ضعف لكن له شاهد، وصححه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 824) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬4) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 422). (¬5) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 422).

أ- قوله تعالى في سورة الأحقاف: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأحقاف: 18 - 19]. فقد أخبر الله في هذه الآيات أن في الجن من حق عليه القول، أي: وجب عليه العذاب مع أمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس، وفي هذا أبين دليل على تكليف الثقلين، وتعلق الأمر والنهي بهم، ثم قال بعد ذلك: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا أي في الخير والشر يوفونها ولا يظلمون شيئاً من أعمالهم، فدل ذلك لا محالة أنهم كانوا مأمورين بالشرائع، متعبدين بها في الدنيا، ولذلك استحقوا الدرجات بأعمالهم في الآخرة في الخير والشر (¬1). وقوله تعالى كذلك: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ [الأحقاف: 29]. والإنذار هو الإعلام بالخوف بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنهم منذرون لهم بالنار إن عصوا الرسول عليه الصلاة والسلام (¬2). ثم ما جاء من أمر هذا النفر من الجن لقولهم بإجابة دعوة الرسول عليه السلام المستجابة لمغفرة الله لذنوب الجن ونجاتهم من العذاب، وذلك في قوله تعالى عن هؤلاء النفر: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 31]. والذنب هو مخالفة الأمر وارتكاب النهي، وقوله: وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وهذا يدل على أن من لا يستجب منهم لداعي الله لم يجره من العذاب الأليم، وفيه بشارة لمن آمن بالرسول واستجاب لدعوته، وإنذار لمن كذب وعصى، وهذا صريح في تعلق الشريعة الإسلامية بهم (¬3). ثم عقب تعالى على ذلك بقوله عنهم: وَمَن لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [الأحقاف: 32]. وهذا تهديد شديد لمن تخلف عن إجابة داعي الله منهم، قال الإمام الطبري: (يقول تعالى مخبراً عن قيل هؤلاء النفر لقومهم: ومن لا يجب أيها القوم رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم وداعيه إلى ما بعثه بالدعاء إليه، وهو توحيده والعمل بطاعته، فليس بمعجز ربه بهربه إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه إلى الإسلام وتركه تصديقه، وإن ذهب في الأرض هارباً، لأنه حيث كان فهو في سلطانه وقبضته، وليس لمن لم يجب داعي الله من دون ربه نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه ربه على كفره به وتكذيبه داعيه) (¬4). ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 419). (¬2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 421). (¬3) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 421). (¬4) ((تفسير الطبري)) (26/ 34).

ب- قوله تعالى في سورة الأنعام: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ [الأنعام: 128]. ثم قوله بعد ذلك: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [الأنعام: 130] فهذه الآيات تتحدث عن الجن والإنس وموقفهم من بعضهم بعضاً، واستذكارهم لاستمتاعهم ببعضهم في الدنيا سواء كان بطاعة الإنس للجن فيما يأمرون به من الشهوات، أو التجاء الإنس بالجن عند النزول في واد أو قفر موحش لا أنيس به، وتلذذ بهذه الطاعة من قبل الإنس، التي تشعر بسيادة الجن على الإنس (¬1) فكان من نتيجة هذا الاستمتاع البعد عن طاعة الله، الذي ترتب عليه الخلود في النار كما نصت عليه الآية الكريمة. وقوله: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ [الأنعام: 128] فيه خطاب للصنفين، وهو صريح في اشتراكهم في العذاب واشتراكهم في العذاب يدل على اشتراكهم في التكليف. وقوله في الآية الأخرى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا فيه إنذار لهم بالخوف من عذاب ربهم على لسان الرسل الذين بعثوا إليهم، إذ هم تنكبوا الطريق ولم يمتثلوا لهذا الإنذار. ج - قوله تعالى في سورة سبأ إخباراً عن سليمان عليه السلام: وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ: 12]. ففي هذه الآية تهديد للجن بالعذاب إذا هم خالفوا أمره تعالى في طاعة نبيه سليمان عليه السلام فيما يسخرهم به من القيام بشتى الأعمال التي يأمرهم بها، وهو يدل على تكليفهم، وإلا لما استحقوا العذاب على هذه المخالفة. د – ما جاء في سورة الرحمن من التهديد للجن والإنس في قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 31 - 40]. ¬

(¬1) ((التفسير الكبير)) (13/ 191).

فقد جاءت هذه الآيات بعد الحديث عن خلق النوعين: الإنس والجن في قوله تعالى: خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 15]. ثم خاطب الله النوعين بالخطاب المتضمن لاستدعاء الإيمان منهم، وإنكار تكذيبهم بآياته، وترغيبهم في وعده، وتخويفهم من وعيده، وتهديده بقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ وتخويفهم من عواقب ذنوبهم وأنه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام، بل يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن: 41]. ثم ذكر عقاب الصنفين وثوابهم، وهذا كله صريح في أنهم هم المكلفون المنهيون المثابون المعاقبون (¬1). وقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (وعيد للصنفين المكلفين بالشرائع، قال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها, ومجيء الآخرة والجزاء فيها، والله سبحانه لا يشغله شيء عن شيء، والفراغ في اللغة على وجهين: فراغ من الشغل، وفراغ بمعنى القصد، وهو في هذا الموضع بالمعنى الثاني، وقد قصد لمجازاتهم بأعمالهم يوم الجزاء (¬2)). أما قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ [الرحمن: 33]. فعلى الراجح من أقوال المفسرين أن هذا خطاب للجن والإنس في الآخرة (¬3) عندما يجتمعون في صعيد واحد للحساب، حيث تكون الملائكة قد أحاطت بأقطار الأرض, وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً، كما قال تعالى: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر: 32 - 33]. قال مجاهد: (فارين غير معجزين) (¬4). وقال الضحاك: (إذا سمعوا زفير النار ندُّوا هرباً، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله تعالى: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17])، وعلى هذا فيكون المعنى: يا معشر الجن والإنس إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم في الآخرة فافعلوا. وقوله تعالى بعد ذلك: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39]. فيه دليل على إضافة الذنوب إلى الثقلين، وهذا دليل على أنهما سوياً في التكليف (¬5). وكذلك ما ورد من الآيات في ذم الشياطين ولعنهم, والتحرز من غوائلهم وشرهم، وذكر ما أعد الله لهم من العذاب، وهذه الخصال لا يفعلها الله تعالى إلا لمن خالف الأمر والنهي، وارتكب الكبائر وهتك المحارم مع تمكنه أن لا يفعل ذلك، وقدرته على فعل خلافه، وهذا كله يدل على أنهم مكلفون (¬6). ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 422). (¬2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 422). (¬3) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (3/ 419) ((تفسير القرطبي)) (17/ 169). (¬4) رواه الطبري في تفسيره (21/ 382). (¬5) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 423). (¬6) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 34).

هـ - ما جاء في سورة الجن من إخبار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام من استماع نفر من الجن إليه بقوله عنهم: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 13 - 17]. ثم التعقيب في أواخر السورة بقوله: إِلا بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن: 23]. فهو الجزاء من الله للمؤمنين من الجن والإنس على أعمالهم، فإن الله لا يبخس أحداً من عباده على عمل عمله في الدنيا، بالإضافة إلى أن الله لن يحمله في الدنيا أكثر مما يستطيع، أما في الآخرة فإن الله أعد للمسلمين نعيماً مقيماً، لأنهم تحروا الصواب واختاروه عن معرفة وقصد، بعد تبين ووضوح. وأما القاسطون وهم الجائرون الظالمون المجانبون للعدل والصلاح، فهم حطب جهنم جزاء أعمالهم، ولو استقام هؤلاء النفر من الجن والإنس على الإسلام لأسقيناهم ماء موفوراً نغدقه عليهم، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء، لنفتنهم فيه ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون (¬1). وقد دلت هذه الآيات على أن الجن يجزون بأعمالهم خيراً أو شراً، وأنهم لا يعذبون في النار، وهذا مترتب على تكليفهم في الدنيا بفعل الطاعات وترك المعاصي، وإلا لما كان هذا العذاب للعصاة منهم، والثواب للطائعين منهم كذلك. ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن الجن مكلفون بنص القرآن، وأنهم هم والإنس في ذلك سواء، وأنهم سيحاسبون على هذا التكليف في الآخرة، فإن أحسنوا فلهم الجنة، وإن أساءوا فالنار مثواهم جزاء عادلاً من الله سبحانه. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 176 ¬

(¬1) ((في ظلال القرآن)) (29/ 330).

المطلب الثاني: الأدلة من السنة

المطلب الثاني: الأدلة من السنة وردت كثير من الأحاديث التي تثبت تكليف الجن، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأ عليهم القرآن، وأنهم مكلفون بالإيمان برسالته، فمن هذه الأحاديث: 1 - أخرج مسلم في صحيحه من حديث عامر قال: ((سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ففقدناه. فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير أواغتيل. قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه. فقرأت عليهم القرآن، فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وسألوه الزاد. فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون لحماً. وكل بعرة علف لدوابكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم)) (¬1). فقد دل هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاه داعي الجن في إحدى الليالي، فذهب معه، وقرأ عليهم القرآن. وقراءته – عليه السلام – القرآن على الجن تدل على أنهم مكلفون بهذا الكتاب كما كلف به الإنس. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء. وأرسلت عليهم الشهب. فرجعت الشياطين إلى قومهم. فقالوا: مالكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء. وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ. وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له. وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن: 1 - 2]. فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1]) (¬2). فقد دل هذا الحديث على استماع الجن للقرآن وتعجبهم منه. ثم انطلاقهم إلى قومهم منذرين بهذا القرآن، ولا شك أن هذا يدل على تكليفهم، وإلا لما انطلقوا إلى أقوامهم محذرين من عدم الإيمان به، وهو ظاهر في تعلق الشريعة بهم. ¬

(¬1) رواه مسلم (450). (¬2) رواه البخاري (773)، ومسلم (449).

3 - روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أتلو القرآن على الجن، فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون، عند شعب أبي دب، فخط عليَّ خطاً فقال: لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون، فانحدر عليه أمثال الحجل، يحدرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت: فأوحى إليّ بيده أن أجلس، فتلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إليّ قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فسألوني الزاد، فزودتهم العظم والبعر، فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر)) (¬1) فقوله عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أتلو القرآن على الجن)) فيه دليل على تكليف الجن، حيث أمره الله سبحانه بقراءته عليهم، ثم قوله في الحديث: ((هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين)) فيه دليل على تكليفهم كذلك، بعد استماعهم للقرآن انطلقوا منذرين محذرين من الأعراض عن كتاب الله، ولا يكون هذا إلا فيمن كلفهم الله بالإيمان به والتبليغ لدينه. 4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم. ونصرت بالرعب. وأحلت لي الغنائم. وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً. وأرسلت إلى الخلق كافة. وختم بي النبيون)) (¬2). قال السبكي: (ومحل الاستدلال قوله: ((وأرسلت إلى الخلق كافة)) فإنه يشمل الجن والإنس، وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل، فلا يجوز) (¬3). ثم يقول: (حديث مسلم الذي استدللنا به أصرح الأحاديث الدالة على شمول الرسالة للجن والإنس) (¬4). وجاء من طرق هذا الحديث ما ورد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أرسلت إلى الجن والإنس، وإلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم دون الأنبياء، وجعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً)) (¬5). قال السبكي: (وهذا الحديث أصرح من حديث مسلم، لكنه ليس في الصحة مثله) (¬6). هذا وقد تكررت وفادات الجن على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الألوسي أنها ست وفادات كما تقدم. وفي إحدى المرات التي قرأ الرسول عليه السلام القرآن عليهم تبعه رجلان منهم وهو يصلي بأصحابه، فصليا بصلاته، وهذا صريح في تكليفهم. والأحاديث الواردة في قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن على الجن، تفيد أنهم مكلفون بالتكاليف الشرعية، ومحاسبون على أفعالهم، واجتماع هذه الروايات مع بعضها آكد في دلالتها على تكليف الجن من دلالتها على تكليفهم في حال انفرادها .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبيدات – ص: 188 ¬

(¬1) ((تفسير الماوردي)) (6/ 108)، ((تفسير القرطبي)) (19/ 4)، ((تفسير الرازي)) (30/ 135). (¬2) رواه مسلم (523). (¬3) ((فتاوى السبكي)) (5/ 67). (¬4) ((فتاوى السبكي)) (5/ 69). (¬5) رواه مسلم (521). (¬6) ((فتاوى السبكي)) (5/ 69).

المبحث الثاني: جنس الرسل المبعوثة إلى الجن

المبحث الثاني: جنس الرسل المبعوثة إلى الجن هل بعث إلى الجن رسل منهم، أم أن الرسل المبعوثين إليهم من الإنس فقط؟. اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: الأول: أن رسل الجن هم من البشر، ولم يبعث إلى الجن رسول منهم، وهو رأي الجمهور من العلماء (¬1). الثاني: أنه ليس في الجن رسل ولكن منهم نذر عن الرسل، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج وأبو عبيد (¬2). الثالث: أنه قد بعث إلى الجن رسل منهم، وهو رأي مقاتل والضحاك (¬3) وابن حزم الأندلسي (¬4). والذي ينبغي أن يعلم في هذا المقام أن الجمهور والضحاك ومن معه متفقون على أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن والإنس معاً، وإنما الاختلاف بينهم في أنه هل بعث إلى الجن رسل من جنسهم قبل مبعث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أم لا؟ فالضحاك ومن معه يقولون: بأنه قد بعث إلى الجن رسل منهم قبل نبينا عليه السلام، والجمهور على خلافه، قال السبكي: (ومن نقل عن الضحاك مطلقاً أن رسل الجن منهم فهو محمول على هذا التقييد -أي قبل نبينا عليه السلام- ولم ينقل أحد عنه أن ذلك في هذه المسألة، وإن توهم أحد ذلك عليه فقد أخطأ، ويجب عليه النزوع وعدم اعتقاده، وأن لا ينسب إلى رجل عالم ما يخالف الإجماع، فيكون قد جنى عليه جناية يطالبه بها بين يدي الله تعالى) (¬5) وقال: (ولم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك في هذه الملة، وإنما محل الخلاف في ذلك في الملل المتقدمة خاصة، وأما في هذه الملة فمحمد صلى الله عليه وسلم هو المرسل إليهم وإلى غيرهم، والاستدلال بالإجماع في ذلك صحيح) (¬6). وإليك تفصيل هذه الأقوال مع ذكر أدلتها: القول الأول: وهو قول الجمهور بأن رسل الجن هم من البشر وليسوا من الجن. قال السبكي: (كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الإنس والجن كافة، وأن رسالته شاملة للثقلين، فلا أعلم فيه خلافاً، ونقل جماعة الإجماع عليه) (¬7). وقال ابن نجيم: ¬

(¬1) ((فتاوى السبكي)) (2/ 618)، ((الأشباه والنظائر)) (2/ 330)، ((التفسير الكبير)) (13/ 195)، ((الفتاوى الحديثية)) (69). (¬2) ((تفسير الطبري)) (26/ 31)، ((تفسير القرطبي)) (7/ 86)، ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (1/ 416)، ((فتاوى السبكي)) (2/ 618). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (7/ 86)، ((تفسير روح المعاني)) (8/ 28)، ((التفسير الكبير)) (13/ 195). (¬4) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/ 264). (¬5) ((فتاوى السبكي)) (2/ 619). (¬6) ((فتاوى السبكي)) (2/ 609). (¬7) ((فتاوى السبكي)) (2/ 594).

(الجمهور على أنه لم يكن من الجن نبي) (¬1) , وقال ابن حجر الهيتمي: (وجمهور الخلف والسلف أنه لم يكن فيهم رسول ولا نبي خلافاً للضحاك) (¬2). وقال في موضع آخر: (ولم يبعث إليهم نبي قبل نبينا قطعاً على ما قاله ابن حزم) (¬3). وإيمان الجن بالتوراة كما يدل عليه أواخر سورة الأحقاف كان تبرعاً كإيمان بعض العرب من قريش وغيرهم بالإنجيل، إذ لم يثبت أن موسى أرسل لغير بني إسرائيل والقبط، ولا أن عيسى أرسل لغير بني إسرائيل (¬4). وقال القاضي بدر الدين الشبلي: (وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً على أنه لم يكن من الجن قط رسول، ولم تكن الرسل إلا من الإنس، ونقل معنى هذا عن ابن عباس, وابن جريج, ومجاهد, والكلبي, وأبي عبيد, والواحدي) (¬5). وقال ابن مفلح الحنبلي: (وليس منهم رسول، ذكر القاضي، وابن عقيل وغيرهما) (¬6) وقال ابن القيم: (ولما كان الإنس أكمل من الجن وأتم عقولاً ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أخر ليس شيء منها للجن وهم: الرسل, والأنبياء, والمقربون، فليس في الجن صنف من هؤلاء بل حليتهم الصلاح) (¬7). أدلة الجمهور: استدل الجمهور بالكتاب والسنة والإجماع: أولاً: الأدلة من الكتاب: ومنها: 1 - قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بلى [الأنعام: 130]. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال: مِّنكُمْ وإن كانت الرسل من الإنس، وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث، وفي التنزيل: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 22]، أي من أحدهما، وإنما يخرج من الملح دون العذاب، فكذلك الرسل من الإنس دون الجن، فمعنى: (منكم) أي: من أحدكم، وكان هذا جائزا، لأن ذكرها سبق. وقيل: إنما صير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرصة القيامة، والحساب عليهم دون الخلق، فلما صاروا في تلك العرصة في حساب واحد، في شأن الثواب والعقاب – خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة، كأنهم جماعة واحدة، لأن بدء خلقهم للعبودية، والثواب والعقاب على العبودية، ولأن الجن أصلهم من مارج من نار وأصلنا من تراب، وخلقهم غير خلقنا، فمنهم مؤمن وكافر، وعدونا إبليس عدو لهم يعادي مؤمنهم ويوالي كافرهم، وففيهم أهواء: شيعة, وقدرية, ومرجئة, يتلون كتابنا) (¬8). وقال الألوسي: (ومنكم أي من جملتكم، لكن لا على أن يأتي كل رسول كل واحدة من الأمم، ولا على أن أولئك الرسل عليهم السلام من جنس الفريقين معاً، بل على أن يأتي كل أمة رسول خاص بها، وعلى أن تكون من الإنس خاصة، إذ المشهور أنه ليس من الجن رسل وأنبياء، ونظيره في هذا قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 22]، فإنهما إنما يخرجان من الملح فقط. والفراء قدر مضافاً لذلك: أي من أحدكم) (¬9). وهذا هو تأويل الآية عند فريق من الجمهور، وهو منقول عن الكلبي وطائفة من السلف (¬10). 2 - قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109]. ¬

(¬1) ((الأشباه والنظائر)) (2/ 330). (¬2) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 66). (¬3) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/ 264). (¬4) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 123). (¬5) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 34)، ((فتاوى السبكي)) (2/ 618). (¬6) ((كتاب الفروع)) (1/ 603). (¬7) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (1/ 416). (¬8) ((تفسير القرطبي)) (7/ 86). (¬9) ((تفسير روح المعاني)) (8/ 28). (¬10) ((فتاوى السبكي)) (2/ 619).

قال القرطبي: (وهذا رد على القائلين: وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: 8]. أي: أرسلنا رجالاً ليس فيهم امرأة, ولا جني, ولا ملك .. قال الحسن: لم يبعث الله نبياً من أهل البادية قط, ولا من النساء, ولا من الجن .. قال العلماء: من شرط الرسول أن يكون آدميا مدنياً، وإنما قالوا آدمياً تحرزاً من قوله: يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6]. والله أعلم) (¬1). وقال ابن القيم في الآية: (فهذا يدل على أنه لم يرسل جنياً, ولا امرأة, ولا بدوياً، وأما تسميته تعالى الجن رجالاً في قوله: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6]. فلم يطلق عليهم الرجال، بل هي تسمية مقيدة بقوله: مِّنَ الْجِنِّ فهم رجال من الجن، ولا يستلزم دخولهم في الرجال عند الإطلاق، كما تقول: رجال من حجارة, ورجال من خشب ونحوه) (¬2). 3 - قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [النساء: 163]. وقوله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27]. وذلك إخباراً عن إسماعيل عليه السلام. فهذه الآيات قد أخبرت أن الله قد جعل النبوة في الرجال من البشر، ولو كان في الجن رسل وأنبياء لأخبر القرآن بذلك، والآيات السالفة إخبار من الله عن إبراهيم عليه السلام أن الله قد جعل النبوة في ذريته من بعده، قال القرطبي: (فلم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا من صلبه) (¬3). 4 - قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان: 20]. فقد أخبر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن الرسل الذين بعثهم قبله كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، والمقصود بذلك أنهم بشر، وليس في الآية ما يدل على بعث الرسل من خلاف الإنس. 5 - قوله تعالى: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33]. قال الفخر الرازي: (وأجمعوا على أن المراد بهذا الاصطفاء إنما هو النبوة، فوجب كون النبوة مخصوصة بهؤلاء فقط) (¬4)، فلا يدخل فيه الجن أو غيرهم من البشر. ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (9/ 274). (¬2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (1/ 416). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (13/ 340). (¬4) ((التفسير الكبير)) (13/ 195).

6 - مجموع الأدلة التي دلت على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى الجن، وهي كثيرة جداً، وقد تقدمت، وهذه الأدلة تفيد أن الرسل المبعوثين إلى الجن هم من البشر، كما هو الشأن في رسالة نبينا إلى الثقلين، حيث كانت دعوته عليه السلام شاملة للإنس والجن جميعاً، قال ابن تيمية: (يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين: الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته .. وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الإنس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى، كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول، وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، وسائر طوائف المسلمين: أهل السنة والجماعة وغيرهم رضي الله عنهم، لم يخالف أحد من طوائف المسلمون في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم) (¬1). وقال أيضاً: (والآيات التي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن، إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب نزول الآيات ما كان موجوداً في العرب، فليس شيء من الآيات مختصاً بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين) (¬2) وقال ابن حجر الهيتمي: (وقد تساهل من قال: بأن رسالته صلى الله عليه وسلم – إلى الجن – اشتهرت اشتهاراً قريباً من الضروري بآيات القرآن، وشهرة عموم رسالته تدل على ذلك كمنكر الإجماع، وفي كفره خلاف مذكور في الأصول) (¬3). والأدلة على إرسال نبينا عليه الصلاة والسلام إلى الجن إنما تفيد أن الرسل من البشر، ولو كان رسل الجن منهم لما كلف نبيه بقراءة القرآن عليهم وتبليغهم وإنذارهم، ولكانت هذه من مهمة رسول الجن إليهم. 7 - قوله تعالى: إخباراً عن النفر من الجن الذين ولوا إلى قومهم منذرين بعد سماعهم القرآن من الرسول عليه السلام: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30]. والذي نفهمه من هذه الآية أن هذا النفر من الجن كان منهم من آمن بموسى عليه السلام، مما يدل على أنه مرسل إليهم، قال القرطبي: (عن ابن عباس: أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى، فلذلك قالت: أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى .. قال مقاتل: ولم يبعث الله نبياً إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم) (¬4) وفي هذا دليل على أنه لم يبعث إلى الجن رسولاً منهم. ثانياً: الأدلة من السنة: أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود .. )) الحديث (¬5). فإخباره عليه الصلاة والسلام أن كل نبي من الأنبياء السابقين كان يبعث إلى قومه خاصة فيه دليل على أن الجن لم يبعث إليهم رسول منهم، وذلك أن القوم في اللغة: هم جماعة الرجل من الرجال والنساء، فتخصيص الحديث بعث الرسل السابقين إلى أقوامهم بقوله: ((إلى قومه)) فيه دليل على أنهم جماعة ذلك النبي من الناس دون الجن، إذ لم يعهد في اللغة إطلاق لفظ القوم على جماعة الرجل من الجن. ¬

(¬1) ((إيضاح الدلالة في عموم الرسالة)) (ص: 3). (¬2) ((إيضاح الدلالة في عموم الرسالة)) (ص: 3). (¬3) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 69). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (16/ 217). (¬5) رواه مسلم (521).

وقوله عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: ((وبعثت إلى كل أحمر وأسود)) فيه مزيد بيان لما قلناه، حيث إن رسالة من قبله من الأنبياء كانت لأقوامهم من البشر خاصة، وامتاز نبينا عليه الصلاة والسلام على غيره من الأنبياء بأنه قد بعث إلى الجن والإنس جميعاً، كما نص على ذلك الحديث المتقدم، وفي هذا دلالة على أنه لم يكن في الجن رسل منهم. وأما من ذكر بأن الرسل السابقين قبل نبينا عليه الصلاة والسلام كانوا يبعثون إلى الإنس والجن جميعاً – كما ذكر الكلبي – فإن ذلك معارض بالحديث المتقدم، حيث اختص الرسول عليه السلام على غيره من الأنبياء بأنه بعث إلى الجن والإنس جميعاً، ولم يحصل هذا لغير نبينا عليه الصلاة والسلام. ثالثاً: الإجماع: قال الألوسي: (وادعى بعض قيام الإجماع على أنه لم يرسل إلى الجن رسل منهم، وإنما أرسل إليهم من الإنس) (¬1). ولكن الفخر الرازي اعترض على هذا الإدعاء فقال: (وما رأيت في تقرير هذا القول حجة إلا ادعاء الإجماع وهو بعيد، لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف) (¬2)؟ القول الثاني: بأن في الجن نذراً، وليس منهم رسل، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهم من السلف ... قال القرطبي: (وقال ابن عباس: رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي كما قال: وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ) ثم قال: (وقال مجاهد: الرسل من الإنس والنذر من الجن ثم قرأ: إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ) يقول القرطبي: (وهو – أي قول مجاهد – معنى قول ابن عباس، وهو الصحيح) (¬3) وقال ابن القيم: (قال غير واحد من السلف: الرسل من الإنس، وأما الجن ففيهم النذر) (¬4) وقال الإمام الطبري: (عن ابن عباس وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29]، قال كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم) (¬5). وقال السبكي: (والذين خالفوا الضحاك في تمسكه بظاهر قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ [الأنعام: 130]. إنما يؤلون هذه الآية، فقد قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج وأبو عبيد: معناه: أن رسل الإنس رسل من الله إليهم، ورسل الجن قوم من الجن ليسوا رسلاً عن الله، ولكن بثهم الله في الأرض، فسمعوا كلام رسل الله، الذين هم من بني آدم، وجاءوا إلى قومهم من الجن فأخبروهم، كما اتفق للذين صرفهم الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، فهم رسل عن الرسل، لا رسل عن الله تعالى، ويسمون نذراً، ويجوز تسميتهم رسلاً، لتسمية رسل عيسى رسلاً في قوله تعالى: إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ [يس: 14] وجاء قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ على ذلك، فالرسل على الإطلاق من الإنس، وهم رسل الله، والنذر من الجن، وهم رسل الرسل ويجوز تسميتهم رسلاً) (¬6). وهذا القول هو التوجيه الآخر لفريق من الجمهور لقوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ وعلى هذا الأساس فهو لا يخالف رأي الجمهور، بل يؤيده ويدعمه. وبناء على ما تقدم فإن القولين معناهما واحد، وهو أنه لم يبعث إلى الجن رسل منهم إلى الرسل من الإنس فقط، وأدلة الفريق الثاني هي نفس أدلة الفريق الأول. ¬

(¬1) ((تفسير روح المعاني)) (8/ 28). (¬2) ((التفسير الكبير)) (13/ 195). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (7/ 86). (¬4) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (1/ 416). (¬5) ((تفسير الطبري)) (26/ 31). (¬6) ((فتاوى السبكي)) (2/ 618).

القول الثالث: القائلون بأن في الجن رسلاً منهم، وهو قول الضحاك، وذكر القرطبي ذلك عن مقاتل رحمه الله فقال: (وقال مقاتل والضحاك: أرسل الله رسلاً من الجن كما أرسل من الإنس) (¬1). وذكر الإمام الطبري أنه يوجد غير الضحاك من القائلين بهذا القول فقال: (وأما الذين قالوا بقول الضحاك فإنهم قالوا: إن الله أخبر أن من الجن رسلاً أرسلوا إليهم، كما أخبر أن من الإنس رسلاً أرسلوا إليهم) (¬2). فلعل ابن جرير قصد مقاتلاً رحمه الله. ونقل الألوسي أن الذين ذكروا بأن من الجن أنبياء منهم قد صرحوا بأن رسولاً منهم يسمى يوسف (¬3). وقال ابن حزم: (ولم يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه ليس الجن من قوم إنسي، وباليقين ندري أنهم قد أنذروا، فصح أنه جاءهم أنبياء منهم قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) (¬4). أدلة هذا الفريق: استدل هذا الفريق على ما ذهب إليه بما يلي: 1 - قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ. قال الشوكاني: (وظاهره أن الله بعث في الدنيا إلى الجن رسلاً منهم، كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم) (¬5). وقال ابن حجر الهيتمي: (وظاهر القرآن يشهد للضحاك، والأكثرون في خلافه) (¬6). وقال الألوسي: (وظاهر الآية يقتضي إرسال الرسل إلى كل من المعشرين من جنسهم) (¬7). ووجه استدلال الضحاك بهذه الآية: أن الله خاطب الجن والإنس بأنه قد بعث إليهم رسلاً منهما، بدليل قوله تعالى: مِّنكُمْ وهو يقتضي بعث الرسل إلى الجن منهم وبعث الرسل إلى الإنس منهم كذلك. 2 - وذكر الفخر الرازي أن الضحاك احتج بقوله بإرسال الرسل إلى الجن منهم بقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24]. ويقول: (ويمكن أن يحتج الضحاك بوجه آخر وهو قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9]. قال المفسرون: السبب في استئناس الإنسان بالإنسان أكمل من استئناسه بالملك، فوجب في حكمة الله تعالى أن يجعل رسول الإنس من الإنس ليكمل هذا الاستئناس، إذا ثبت هذا المعنى فهذا السبب حاصل في الجن، فوجب أن يكون رسول الجن من الجن) (¬8). 3 - قال ابن حجر الهيتمي: (وما يدل لما قاله الضحاك ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12]. قال: سبع أرضين، في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى) (¬9) (¬10). 4 - ذكر ابن نجيم أن الضحاك وابن حزم احتجا على أنه كان من الجن نبي بقوله عليه الصلاة والسلام: ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة)) (¬11) الحديث. قال: (وليس الجن من قومه، ولا شك أنهم أنذروا، فصح أنه جاءهم أنبياء منهم) (¬12). القول الراجح: يتبين لنا مما تقدم من أدلة الفريقين أن قول الجمهور هو القول الراجح، وذلك للأدلة التي اعتمدوا عليها .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 209 ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (7/ 86). (¬2) ((تفسير الطبري)) (8/ 36). (¬3) ((تفسير روح المعاني)) (8/ 28). (¬4) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/ 264). (¬5) ((تفسير فتح القدير)) (2/ 163). (¬6) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 66). (¬7) ((تفسير روح المعاني)) (8/ 28). (¬8) ((التفسير الكبير)) (13/ 195). (¬9) رواه الحاكم (2/ 535). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬10) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 66). (¬11) رواه البخاري (335)، ومسلم (521). (¬12) ((الأشباه والنظائر)) (ص: 330).

المبحث الثالث: جزاء الجن في الآخرة

تمهيد وإذا كان الجن مكلفين بالإيمان بالله وطاعته فلا شك أن مؤمنهم يستحق الثواب، وأن كافرهم يستحق العقاب، جزاء لكل منهم حسب عمله. وقد تحدثت آيات القرآن الكريم عن ثواب الجن وعقابهم في مواضع متعددة، جامعة بينهم وبين الإنس: قال تعالى مخاطباً الجن والإنس: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 46]. وقال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 56 - 57]. وقال: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 31]. وقال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119]. وقال: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشعراء: 94 - 95]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ثواب الجن وعقابهم بحسب أعمالهم. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 235

المطلب الأول: جزاء كافرهم في الآخرة

المطلب الأول: جزاء كافرهم في الآخرة قد اتفق الجمهور على أن كفارهم يعذبون في النار قال ابن القيم: (وقد اتفق المسلمون على أن كفار الجن في النار، وقد دل على ذلك القرآن في غير موضع كقوله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13]، وقوله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85]، فملؤها منه – أي إبليس به وبكفار ذريته. وقال تعالى: قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ [الأعراف: 38]). إلى أن يقول: (وبالجملة فهذا أمر معلوم بالاضطرار في دين الإسلام) (¬1). وقال: (ولما كان أبوهم – أي إبليس – هو أول من دعا إلى معصية الله، وعلى يده حصل كل كفر وفسوق وعصيان فهو الداعي إلى النار، وكان أول من يكسى حلة من النار يوم القيامة، يسحبها وينادي: واثبوراه، فأتباعه من أولاده وغيرهم خلفه ينادون: واثبوراه، حتى قيل: إن كل عذاب يقسم على أهل النار يبدأ به فيه ثم يصير إليهم) (¬2). وقال ابن حجر الهيتمي: (واعلم أن العلماء اتفقوا على أن كافرهم يعذب في الآخرة) (¬3)، قال الألوسي في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات: 158]. (أي: والله لقد علمت الشياطين – أي جنسهم – أن الله تعالى يحضرهم، ولابد من النار ويعذبهم بها، ولو كانوا مناسبين له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه) (¬4). وقال الإمام الطبري في تفسيره لقوله تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [فصلت: 25]. (عن السدي: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: وحق على هؤلاء الذين قيضنا لهم قرناء من الشياطين، فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم العذاب في أمم قد مضت قبلهم من ضربائهم، حق عليهم من عذابنا مثل الذي حق على هؤلاء: بعضهم من الجن، وبعضهم من الإنس إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ أن تلك الأمم الذين حق عليهم عذابنا من الجن والإنس كانوا مغبونين ببيعهم رضا الله ورحمته، بسخطه وعذابه) (¬5). عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 235 ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 417). (¬2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 417). (¬3) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 70). (¬4) ((تفسير روح المعاني)) (23/ 151). (¬5) ((تفسير الطبري)) (24/ 11).

المطلب الثاني: جزاء مؤمنهم في الآخرة

المطلب الثاني: جزاء مؤمنهم في الآخرة وأما بالنسبة لثواب مؤمنيهم في الآخرة: فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: أنه لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم: كونوا تراباً مثل البهائم. وهو قول أبي حنيفة، وحكاه سفيان الثوري عن الليث بن أبي سليم، وهو رواية عن مجاهد، وبه قال الحسن البصري. قال ابن القيم: (وحكى عن أبي حنيفة وغيره أن ثوابهم نجاتهم من النار) (¬1). وقال الماوردي: (وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصاً منها، ثم يقال لهم: كونوا تراباً كالبهائم) (¬2). وقال القرطبي: (وقال أبو حنيفة: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم كونوا تراباً كالبهائم) (¬3). وذكر الشوكاني عن أبي الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: (مسلمو الجن لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن أخرج أباهم من الجنة، فلا يعيده ولا يعيد ولده) (¬4). وقال ابن نجيم: (واختلف العلماء في حكم مؤمن الجن: فقال قوم: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله) (¬5). وعن الليث: (ثوابهم أن يجاروا من النار ثم يقال لهم: كونوا تراباً كالبهائم، وعن أبي الزناد كذلك) (¬6). وقال الحسن: (ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار) (¬7) وذكر القرطبي في رواية عن مجاهد أن الجن لا يدخلون الجنة وإن صرفوا عن النار (¬8). أدلة هذا الفريق: استدل هذا الفريق بقوله تعالى إخباراً عن النفر من الجن الذين استمعوا القرآن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 31]. ووجه استدلالهم بها: أن المغفرة للذنوب لا تستلزم الإثابة لأنه ستر، والإثابة بالوعد فضل (¬9). وقال ابن القيم: (واحتج هؤلاء بهذه الآية فجعل غاية ثوابهم إجارتهم من العذاب الأليم) (¬10). والآية قد دلت على إجارتهم من النار ولم تذكر دخولهم الجنة، أو الثواب على أعمالهم. القول الثاني: أنهم يثابون على الطاعة بدخول الجنة، على خلاف في حالهم فيها، نقله ابن حزم عن الجمهور، وممن قال به الضحاك وابن عباس، وهو قول الخليفة عمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب الأئمة: مالك, والشافعي, وأحمد, وأصحابهم (¬11). وابن أبي ليلى, والأوزاعي، ورجحه القرطبي، وهو قول أكثر المفسرين. القول الثالث: التوقف في المسألة. قال الألوسي: (قال الكردي: وهو في أكثر الروايات. وفي فتاوى أبي إسحاق الصفار أن الإمام – أبا حنيفة – يقول: لا يكونون في الجنة ولكن في معلوم الله تعالى، لأنه لا استحقاق للعبد على الله تعالى، ولم يقل بطريق الوعد في حقهم إلا المغفرة والإجارة من العذاب، أما نعيم الجنة فموقوف على الدليل) (¬12). وقال القشيري: (والصحيح أن هذا – أي دخولهم الجنة – مما لم يقطع فيه بشيء والله أعلم) (¬13). لكن الجمهور من المسلمين القائلين بثواب المؤمنين من الجن في الآخرة اختلفوا في كيفية الثواب؟: 1 - فقد ذهب الأكثرون منهم إلى أنهم في الجنة ويصيبون من نعيمها (¬14). ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 418). (¬2) ((أعلام النبوة)) (ص: 145). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (16/ 217). (¬4) ((تفسير فتح القدير)) (2/ 164). (¬5) ((الأشباه والنظائر)) (ص: 330). (¬6) ((الأشباه والنظائر)) (ص: 330). (¬7) ((تفسير القرطبي)) (16/ 217). (¬8) ((تفسير القرطبي)) (19/ 5). (¬9) ((الأشباه والنظائر)) (ص: 326). (¬10) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 427). (¬11) ((مجموع الفتاوى)) (4/ 233). (¬12) ((تفسير روح المعاني)) (27/ 12، 26/ 32). (¬13) ((تفسير القرطبي)) (16/ 217). (¬14) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 418).

2 - ونقل عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أنهم يكونون في ربض الجنة، وذكره الألوسي عن الإمام مالك وطائفة من العلماء (¬1). وقال ابن تيمية: (وروي في حديث رواه الطبراني: أنهم يكونون في ربض الجنة، يراهم الإنس من حيث لا يرونهم) (¬2). وذكر ابن القيم أن سهل بن عبد الله قال: بأنهم يكونون في ربض الجنة، يراهم المؤمنون من حيث لا يرونهم (¬3). - وقال جماعة: أنهم على الأعراف بين الجنة والنار، ذكره الألوسي (¬4) ومقتضى هذا القول أنهم يدخلون الجنة فيما بعد، إذ أن هذا هو نهاية أصحاب الأعراف. - وفي رواية ذكرها ابن نجيم عن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر، فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة (¬5). ولكن ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم أن الضحاك قال بأن الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون (¬6). وهو ما نقله الفخر الرازي عنه إذ يقول: (قال الضحاك: يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، والدليل على صحة هذا القول: أن كل دليل دل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن) (¬7) وعقب الفخر الرازي على ذلك بقوله: (والفرق بين البابين بعيد) (¬8) أي ثواب الإنس وثواب الجن. وقال القرطبي: (واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان: أحدهما: وهو قول الحسن: يدخلونها. الثاني: وهو رواية مجاهد: لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار، حكاه الماوردي) (¬9). القول الراجح مما تقدم: والراجح – والله أعلم – أن الجن يثابون على أعمالهم, ويدخلون الجنة, ويصيبون من نعيمها، وذلك لأن ظواهر الآيات الواردة في جزاء الجن في الآخرة تقتضي ذلك. لأنها جاءت عامة في استحقاق المحسنين لجزاء أعمالهم، ولم يرد دليل يخصصها، فتبقى على عمومها، وهو مذهب أكثر الفقهاء. ¬

(¬1) ((تفسير روح المعاني)) (27/ 120)، ((الأشباه والنظائر)) (2/ 330). (¬2) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/ 233). ولم أقف على حديث الطبراني هذا. (¬3) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 418). (¬4) ((تفسير روح المعاني)) (27/ 120). (¬5) ((الأشباه والنظائر)) (2/ 330). (¬6) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (4/ 169). (¬7) ((التفسير الكبير)) (28/ 33). (¬8) ((التفسير الكبير)) (28/ 33). (¬9) ((تفسير الماوردي)) (6/ 109).

قال الفخر الرازي: (والصحيح أنهم في حكم بني آدم، فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وهذا القول قول ابن أبي ليلى ومالك، وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة) (¬1). وقال الألوسي: (وعموميات الآيات تدل على الثواب) (¬2). وقال ابن حجر الهيتمي: (والصحيح الذي قاله ابن أبي ليل, والأوزاعي, ومالك, والشافعي, وأحمد, وأصحابهم رضي الله عنهم، أنهم يثابون على طاعتهم) (¬3). وقال الشوكاني: (وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: الخلق أربعة: فخلق في الجنة كلهم، وخلقان في الجنة والنار، فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجن، لهم الثواب, وعليهم العقاب) (¬4). وقال النووي في شرح صحيح مسلم: (والصحيح أنهم يدخلونها ويتنعمون فيها بالأكل والشرب وغيرها، وهذا قول الحسن البصري, والضحاك, ومالك بن أنس, وابن أبي ليلى وغيرهم) (¬5). وقال ابن القيم: (وأما الجمهور فقالوا: مؤمنهم في الجنة كما أن كافرهم في النار) (¬6). وأيضا فقد تقدم القول بتكليفهم فيكون الواجب عليهم كالواجب علينا وهو ما فيه ثواب، ولا ثواب في الآخرة إلا الجنة. وأما القول: بأنه لا جزاء لهم إلا الجنة محتجاً بقوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 31]. فمن الواضح أنه لا يلزم من الاقتصار على ذكر المغفرة والنجاة من العذاب نفي ثوابهم، كيف وقد ثبت بالأدلة المتعددة ثوابهم وتنعمهم بالجنة كما سيأتي. وأما من قال بأنهم على الأعراف: بين الجنة والنار فهو قول لا دليل عليه، ثم إن وقوف أصحاب الأعراف عقاب من الله يعقبه دخول الجنة كما قال تعالى: لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف: 46]. ولذلك قال بعض السلف: ما أطمعهم إلا ليدخلهم، والحديث في مؤمني الجن الذين لا عقاب عليهم (¬7). وأما من قال بالتوقف في كيفية ثوابهم فهو بعيد، إذ لا موجب له مع شهادة النصوص بدخولهم الجنة (¬8). وأما من قال بأنهم في ربض الجنة، أو أنهم يلهمون التسبيح فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من النعيم، فأنها أقوال لا دليل عليها. قال محمد رشيد رضا في هذه الأقوال: (وشذ من قال أن مسلمي الجن لا يدخلون الجنة، إذ ليس لهم ثواب، وأشد منه شذوذاً من زعم أنهم لا يدخلون الجنة ولا النار، نقل ذلك السيوطي عن ليث بن أبي سليم، وهو مخالف لنصوص القرآن، وليث هذا مضطرب الحديث وإن روى عنه مسلم، وقد اختلط عقله في آخر عمره، ولعله قال هذا القول وغيره مما أنكر عليه بعد اختلاطه) (¬9). الأدلة على ذلك: 1 - قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا. ¬

(¬1) ((التفسير الكبير)) (28/ 33). (¬2) ((تفسير روح المعاني)) (26/ 32). (¬3) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 70). (¬4) ((تفسير فتح القدير)) (2/ 164). (¬5) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (4/ 169). (¬6) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (418). (¬7) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 123). (¬8) ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 123). (¬9) ((تفسير المنار)) (8/ 112). وانظر ترجمة ليث بن أبي سليم في ((المجروحين)) لابن حبان (2/ 231)، ((ميزان الاعتدال)) (5/ 509).

قال ابن القيم: (أي ولكل درجات في الخير والشر يوفونها ولا يظلمون شيئاً من أعمالهم، وهو ظاهر جداً في ثوابهم وعقابهم، وأن مسيئهم يستحق العذاب باساءته، ومحسنهم يستحق الدرجات بإحسانه) (¬1). وقال محمد رشيد رضا: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا (أي ولكل من معشري الجن والإنس الذين بلغتهم دعوة الرسل درجات ومنازل من جزاء أعمالهم، تتفاوت بتفاوتهم فيها) (¬2). وقال بدر الدين الشبلي: (وقال ابن الصلاح في بعض تعاليقه: حكي عن ابن عبد الحكم أنه سئل عن الجن: هل لهم جزاء في الآخرة على أعمالهم؟ فقال: نعم، والقرآن يدل على ذلك، قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا (¬3). الآية). 2 - قوله تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 15]. قال سيد قطب: (ودل هذا على أن الجن يعذبون بالنار، ومفهومه أنهم كذلك ينعمون بالجنة، هكذا يوحي النص القرآني، وهو الذي نستمد منه تصورنا، فليس لقائل بعد هذا أن يقول شيئاً يستند فيه إلى تصور غير قرآني عن طبيعة الجن وطبيعة النار أو الجنة، فسيكون ما قاله الله حقاً بلا جدال) (¬4). 3 - قوله تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 31]. قال الألوسي: (وهذا ونحوه يدل على أن الجن مكلفون، ولم ينص ههنا على ثوابهم إذا أطاعوا، وعموميات الآيات تدل على الثواب، وعن ابن عباس: لهم ثواب وعليهم عقاب، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها، ولعل الاقتصار هنا على ما ذكر لما فيه من التذكير بالذنوب، والمقام مقام الإنذار، فلذا لم يذكر فيه شيء من الثواب) (¬5). وقال ابن القيم: (وقد ثبت أنهم إذا أجابوا داعي الله غفر لهم وأجارهم من عذابه، وكل من غفر له دخل الجنة ولابد، وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنة والنجاة من النار) (¬6). وقال القرطبي في الآية السالفة: (هذه الآي تدل على أن الجن كالإنس في الأمر والنهي والثواب والعقاب) (¬7). والله سبحانه وهو أعدل العادلين إذا كان يعذب عاصيهم فعدله يقتضي أن يكافئ طائعهم بالثواب على عمله، قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه: 112]. أي لا يخاف زيادة سيئاته ولا نقصان حسناته، وإذا كان المؤمنون ينادون يوم القيامة لاستلام جوائزهم فكيف لا ينادى مؤمنو الجن لاستلام هذه الجوائز؟!، وذلك جزاء عادلاً من الله على عملهم في الدنيا، ورحمة منه لعباده المؤمنين. وقد ذكر الإمام البخاري في (صحيحه) بابا سماه: باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم (¬8) وفي هذا دلالة على ثوابهم بنعيم الجنة يوم القيامة. 4 - قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا. قال ابن القيم: (وبهذه الحجة احتج البخاري، ووجه الاحتجاج بها: أن البخس المنفي هو نقصان الثواب، والرهق: الزيادة في العقوبة على ما عمل، فلا ينقص من ثواب حسناته، ولا يزداد في سيئاته) (¬9). 5 - قوله تعالى في سورة الرحمن: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 56]. ¬

(¬1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 149). (¬2) ((تفسير المنار)) (8/ 111). (¬3) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 56). (¬4) ((في ظلال القرآن)) (29/ 156). (¬5) ((تفسير روح المعاني)) (26/ 32). (¬6) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 427). (¬7) ((تفسير القرطبي)) (16/ 217). (¬8) ((صحيح البخاري)) (4/ 176). (¬9) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 424).

قال الشوكاني: (وفي هذه الآية – بل في كثير من آيات هذه السورة دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه وعملوا بفرائضه وانتهوا عن مناهيه) (¬1). وفي هذه الآية دليل على أن الجن ينالهم نصيبهم من الحور العين كالإنس، قال الإمام القرطبي: (في هذه الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس وتدخل الجنة، ويكون لهم فيها جنيات، قال ضمرة: للمؤمنين منهم أزواج من الحور العين، فالإنسيات للإنس والجنيات للجن) (¬2). وقال النسفي: (وهذا دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس) (¬3). وقال الألوسي: (ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعاً واحداً، ويعطي الجن منهن، لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة، ويقال: ما يعطاه الإنسي منهن، لم يطمثها إنسي قبله، وما يعطاه الجني لم يطمثها جني قبله، وبهذا فسر البلخي الآية. وقال الشعبي والكلبي: تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسهن منذ أنشئن النشأة الآخرة خلق قبل، والذي يعطاه الإنسي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا، ويعطى غيرها من نسائها المؤمنات أيضاً، وكذا الجني يعطى زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا من الجن، ويعطى غيرها من نساء الجن المؤمنات أيضاً، ويبعد أن يعطى الجني من نساء الدنيا الإنسانيات في الآخرة, والذي يغلب على الظن أن الإنسي يعطى من الإنسيات والحور، والجن يعطى من الجنيات والحور، ولا يعطى إنسي جنية, ولا جني إنسية، وما يعطاه المؤمن إنسياً كان أو جنياً من الحور شيء يليق به وتشتهيه نفسه، وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال) (¬4). ثم قال الألوسي: (واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجنة ويجامعون فيها كالإنس، فهم باقون فيها منعمين، كبقاء المعذبين منهم في النار، وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى والأوزاعي، وعليه الأكثر كما ذكره العيني في شرح البخاري من أنهم يثابون على الطاعة, ويعاقبون على المعصية, ويدخلون الجنة، فإن ظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة) (¬5). وقد استدل ابن القيم بقوله تعالى في سورة الرحمن: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ إلى قوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 46 - 56]. قال ابن القيم: وهذا يدل على أن ثواب محسنهم الجنة من عدة وجوه: أ- أن (من) من صيغ العموم، فتتناول كل خائف. ب- أنه رتب الجزاء المذكور على خوف مقامه تعالى، فدل على استحقاقه به. ج- قوله عقيب هذا الوعد: فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 47]. د- أنه ذكر في وصف نسائهم أنهن: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ وهذا والله أعلم معناه: أنه لم يطمث نساء الإنس إنس قبلهم ولا نساء الجن جن قبلهم (¬6). وقال ابن كثير في قوله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]. (وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا) (¬7). إلى غير ذلك من آيات هذه السورة – أي سورة الرحمن – الدالة على ثواب الجن في الآخرة وتنعمهم بالجنة. قال ابن القيم: (وقد ثبت أن منهم المؤمنين فيدخلون في العموم، كما أن كافرهم يدخل في الكافرين المستحقين للوعيد، ودخول مؤمنهم في آيات الوعد أولى من دخول كافرهم في آيات الوعيد، فإن الوعد فضله، والوعيد عدله، وفضله من رحمته، وهي تغلب غضبه. وأيضا فإن دخول عاصيهم النار إنما كان لمخالفته أمر الله، فإذا أطاع الله أدخل الجنة، وأيضا فإنه لا دار للمكلفين سوى الجنة أو النار، وكل من لم يدخل النار من المكلفين فالجنة مثواه) (¬8) .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص237 ¬

(¬1) ((تفسير فتح القدير)) (5/ 141). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (17/ 181). (¬3) ((تفسير النسفي)) (5/ 133) المكتبة الأموية/بيروت/دمشق. (¬4) ((تفسير روح المعاني)) (27/ 119) و ((تفسير القرطبي)) (17/ 181). (¬5) ((تفسير روح المعاني)) (27/ 119) و ((عمدة القارى شرح صحيح البخاري للعيني)) (15/ 184). (¬6) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 425). (¬7) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (3/ 421). (¬8) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 426).

الفصل الخامس: أهداف الشيطان وأساليبه في إغواء الناس ومدى سلطانه عليهم

المبحث الأول: أهداف الشيطان الهدف البعيد: هناك هدف وحيد يسعى الشيطان لتحقيقه في نهاية الأمر، هو أن يلقى الإنسان في الجحيم، ويحرمه الجنة، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]. الأهداف القريبة ذلك هو هدف الشيطان البعيد، أما الأهداف فهي: 1 - إيقاع العباد في الشرك والكفر: وذلك بدعوتهم إلى عبادة غير الله والكفر بالله وشريعته: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر: 16]. وروى مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم، فقال في خطبته: ((يا أيها الناس، إن الله تعالى أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا، إن كل ما منحته عبدي فهو له حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فأتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)) (¬1). 2 - إذا لم يستطع تكفيرهم فيوقعهم في الذنوب: فإذا لم يستطع إيقاعهم في الشرك والكفر، فإنه لا ييئس، ويرضى بما دون ذلك من إيقاعهم في الذنوب والمعاصي، وغرس العداوة والبغضاء في صفوفهم، ففي سنن الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن: ((ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة في بعض ما تحقرون من أعمالكم، فيرضى بها)) (¬2). وفي صحيح البخاري وغيره: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) (¬3). أي بإيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وإغراء بعضهم ببعض، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [المائدة: 91]. وهو يأمر بكل شر إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة: 169]. وخلاصة الأمر فكل عبادة محبوبة لله فهي بغيضة إلى الشيطان، وكل معصية مكروهة للرحمن فهي محبوبة للشيطان. 3 - صده العباد عن طاعة الله: ¬

(¬1) رواه مسلم (2865). (¬2) رواه الترمذي (3087)، وابن ماجه (2497)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (2/ 444) (4100). من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه مسلم (2812) من حديث جابر رضي الله عنه. ولم أجده في البخاري.

وهو لا يكتفي بدعوة الناس إلى الكفر والذنوب والمعاصي بل يصدهم عن فعل الخير، فلا يترك سبيلاً من سبل الخير يسلكه عبد من عباد الله إلا قعد فيه، يصدهم ويميل بهم، ففي الحديث: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول (الطول: الحبل الطويل، يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره، والطرف الآخر في يد الفرس ليدور فيه، ويرعى ولا يذهب لوجهه). فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال, فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟! قال: فعصاه فجاهد: فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخل الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخل الجنة)) (¬1). ومصداق ذلك في كتاب الله ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال لرب العزة: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16 - 17]. وقوله لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ: أي على صراطك، فهو منصوب بنزع الخافض أوهو منصوب بفعل مضمر، أي لألزمن صراطك، أو لأرصدنه، أو لأعوجنه. وعبارات السلف في تفسير الصراط متقاربة، فقد فسره ابن عباس بأنه الدين الواضح، وابن مسعود بأنه كتاب الله، وقال جابر: (هو الإسلام)، وقال مجاهد: (هو الحق) (¬2). فالشيطان لا يدع سبيلاً من سبل الخير إلا قعد فيه يصد الناس عنه. 4 - إفساد الطاعات: إذا لم يستطع الشيطان أن يصدهم عن الطاعات، فإنه يجتهد في إفساد العبادة والطاعة، كي يحرمهم الأجر والثواب، فقد جاء أحد الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: ((إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها عليَّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه. واتفل على يسارك ثلاثاً. قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني)) (¬3). فإذا دخل العبد في صلاته أجلب عليه الشيطان يوسوس له, ويشغله عن طاعة الله, ويذكره بأمور الدنيا، ففي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة، أحال له ضراط، حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة، ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس)) (¬4). وفي رواية: ((فإذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر من قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى)) (¬5). عالم الجن والشياطين لعمر سليمان الأشقر – ص: 55 5 - الإيذاء البدني والنفسي: كما يهدف الشيطان إلى إضلال الإنسان بالكفر والذنوب، فإنه يهدف إلى إيذاء المسلم في بدنه ونفسه، ونحن نسوق بعض ما نعرفه من هذا الإيذاء. أ- مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) رواه النسائي (6/ 21)، وأحمد (3/ 483) (16000)، وابن حبان (10/ 453) (4593)، والطبراني (7/ 117) (6558)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/ 21) (4246). من حديث سبرة بن أبي فاكه رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((الإصابة)) (2/ 14): إسناده حسن إلا أن في إسناده اختلاف، وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)). (¬2) رواه الطبري في تفسيره (12/ 336). (¬3) رواه مسلم (2203). من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه. (¬4) رواه مسلم (389). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬5) رواه البخاري (608)، ومسلم (389). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وذلك كما في الحديث الذي يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بمهاجمة الشيطان له، ومجيء الشيطان بشهاب من نار ليرميه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم. ب – الحلم من الشيطان: للشيطان القدرة على أن يرى الإنسان في منامه أحلاماً تزعجه وتضايقه بهدف إحزانه وإيلامه. فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرؤى التي يراها المرء في منامه ثلاثة: رؤيا من الرحمن، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا حديث نفس (¬1) وفي صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره)) (¬2). ج- إحراق المنازل بالنار: وذلك بواسطة بعض الحيوانات التي يغريها بذلك، ففي سنن أبي داود وصحيح ابن حبان بإسناد صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نمتم فأطفئوا سرجكم، فإن الشيطان يدل مثل هذه الفأرة على هذا السراج فيحرقكم)) (¬3). د- تخبط الشيطان للإنسان عند الموت: وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ذلك فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من التردي, والهدم, والغرق, والحرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً)) (¬4). هـ- إيذاؤه الوليد حين يولد: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها)) (¬5). وفي صحيح البخاري: ((كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن، فطعن في الحجاب)) (¬6). وفي البخاري أيضاً: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها)) (¬7). والسبب في حماية مريم وابنها من الشيطان استجابة الله دعاء أم مريم حين ولدتها: وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36]. فلما كانت صادقة في طلبها استجاب الله لها فأجار مريم وابنها من الشيطان الرجيم، وممن أجاره الله أيضاً عمار بن ياسر، ففي صحيح البخاري أن أبا الدرداء قال: (أفيكم الذي أجاره الشيطان على لسان نبيه، قال المغيرة: الذي أجاره الشيطان على لسان نبيه يعني عماراً) (¬8). ومرض الطاعون من الجن: ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري (7017)، ومسلم (2263). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (7045). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) رواه أبو داود (5247)، وابن حبان (12/ 327) (5519). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (3/ 540): رجاله رجال مسلم، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 191) كما قال ذلك في المقدمة. (¬4) رواه أبو داود (1552)، والنسائي (8/ 283)، وأحمد (3/ 427) (15562). من حديث أبي اليسر رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن حجر في ((بذل الماعون)) (ص: 199): ثابت، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬5) رواه البخاري (4548)، ومسلم (2366). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) رواه البخاري (3286). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) رواه البخاري (3431). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬8) رواه البخاري (3287). من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن فناء أمته ((بالطعن والطاعون؛ وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهادة)) (¬1). وفي مستدرك الحاكم: ((الطاعون وخز أعدائكم من الجن، وهو له شهادة)) (¬2). ولعل ما أصاب نبي الله أيوب كان بسبب الجن كما قال: وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [ص: 41]. ز- بعض الأمراض الأخرى: قال صلى الله عليه وسلم للمرأة المستحاضة: ((إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان)) (¬3). ح – مشاركته لبني آدم في طعامهم وشرابهم ومساكنهم: ومن الأذى الذي يجلبه الشيطان للإنسان أنه يعتدي على طعامه وشرابه فيشركه فيهما، ويشركه في المبيت في منزله، يكون ذلك منه إذا خالف العبد هدى الرحمن، أو غفل عن ذكره، أما إذا كان ملتزماً بالهدى الذي هدانا الله إليه، لا يغفل عن ذكر الله، فإن الشيطان لا يجد سبيلاً إلى أموالنا وبيوتنا. فالشيطان لا يستحل الطعام إلا إذا تناول منه أحد بدون أن يسمي، فإذا ذكر اسم الله عليه، فإنه يحرم على الشيطان، روى مسلم في صحيحه عن حذيفة قال: ((كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا، حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع يده. وإنا حضرنا معه مرة طعاماً. فجاءت جارية كأنها تدفع, فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها. ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه, وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها, فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده. والذي نفسي بيده! إن يده في يدي مع يدها)) (¬4). وقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نحفظ أموالنا من الشيطان وذلك بإغلاق الأبواب، وتخمير الآنية، وذكر اسم الله، فإن ذلك حرز لها من الشيطان، يقول صلى الله عليه وسلم: ((أغلقوا الأبواب, واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأوكوا قربكم، واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً، وأطفئوا مصابيحكم)) (¬5). ¬

(¬1) رواه أحمد (4/ 395) (19546) والبزار (8/ 16)، وأبو يعلى (13/ 194) (7226)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3/ 367) (3422). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 293)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/ 314): رواه أحمد بأسانيد أحدها صحيح، وحسنه ابن حجر في ((بذل الماعون)) (53). (¬2) رواه الحاكم (1/ 114). وقال: صحيح على شرط مسلم. (¬3) رواه أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (627)، وأحمد (6/ 439) (27514)، والحاكم (1/ 279). من حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها. قال البخاري في ((تنقيح تحقيق التعليق)) (1/ 237): حسن، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: (له) شواهد، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 422). (¬4) رواه مسلم (2017). (¬5) رواه البخاري (5623)، ومسلم (2012). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

ويأكل الشيطان ويشرب مع الإنسان إذا أكل أو شرب بشماله، وكذلك إذا شرب واقفاً، ففي مسند أحمد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أكل بشماله أكل معه الشيطان، ومن شرب بشماله شرب معه الشيطان)) (¬1). وفي المسند أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائماً فقال له: قه، قال: لم؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: فإنه قد شرب معك من هو شر منه, الشيطان)) (¬2). وكي تطرد الشياطين من المنزل لا تنس أن تذكر اسم الله عند دخول المنزل، وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك، حيث يقول: ((إذا دخل الرجل بيته، فذكر اسم الله حين يدخل وحين يطعم، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء ههنا، وإن دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر اسم الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)) (¬3). عالم الجن والشياطين لعمر سليمان الأشقر بتصرف – ص: 59 والشيء الذي نخلص إليه أن الشيطان يأمر بكل شر، ويحث عليه، وينهي عن كل خير، ويخوف منه؛ كي يرتكب الأول، ويترك الثاني. كما قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268]. وتخويفه إيانا الفقر بأن يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم، والفحشاء التي يأمرنا بها: هي كل فعلة فاحشة خبيثة من البخل والزنا وغير ذلك. عالم الجن والشياطين لعمر سليمان الأشقر – ص: 58 ¬

(¬1) رواه أحمد (6/ 77) (24523)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/ 96) (292). قال الهيثمي (5/ 28): رواه أحمد والطبراني في ((الأوسط)) وفي إسناد أحمد رشدين بن سعد وهو ضعيف وقد وثق وفي الآخر ابن لهيعة وحديثه حسن، وحسن إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (9/ 433)، والعيني في ((عمدة القاري)) (21/ 44). (¬2) رواه أحمد (2/ 301) (7990)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/ 109) (5981). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 82): رجاله ثقات، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 85): صحيح بمجموع طرقه، وقال السخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (1/ 224): رجاله ثقات. (¬3) رواه مسلم (2018). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

المبحث الثاني: أساليب الشياطين في إغواء الناس

المبحث الثاني: أساليب الشياطين في إغواء الناس إذا نسي الإنسان ربه واستسلم للشيطان، فإن الشيطان يستدرجه بأساليبه المختلفة حتى يخرجه عن دائرة العقل والإنسانية، ويسيره في دروب الهلاك، قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج: 4]. فمن تلبيسات الشياطين وأساليبهم في تضليل عابديهم أنهم يتمثلون لهم بأشكال مختلفة حسب معتقدهم، فتارة يظهرون لهم بصورة شيخ كما يحصل عند جهلة الصوفية الذين يقدسون شيوخهم ويجعلونهم في مرتبة قريبة من مرتبة الإله، وتارة يخاطبونهم من داخل الهياكل والأصنام كما يقع للمشركين عباد الأوثان، كمن يستغيث بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم، فتخاطبهم الشياطين على سبيل المكاشفة، وقد تقضي بعض حوائجهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الذي يعظمه هو الذي خاطبه وقضى حاجته (¬1). وقد تصعد الشياطين بأتباعها من البشر في الهواء، ويدخلون المدن والحصون بالليل والأبواب مغلقة، وقد تحملهم الشياطين إلى أماكن بعيدة كمكة، فيطوفون بهم ويقفون على جبل عرفات، ولكنهم في الحقيقة لم يحجوا الحج الذي أمر الله به، ونحن نسمع بين الحين والحين عن أناس يكونون في مكان ما ثم ما نلبث أن نسمع أن آخرين قد شاهدوهم في أماكن أخرى بعيدة، في فترة زمنية بسيطة جداً، لا يمكن لهم كبشر التنقل خلالها، ولا عجب في ذلك لأن الشياطين التي أطاعوها وانقادوا لها هي التي تحملهم إلى هذه المسافات البعيدة، حتى توهم الناس أنه من أولياء الله، ولكنه في الواقع من أولياء الشيطان (¬2). ومنهم من كانت الشياطين تخرج رجليه من القيد وتمنع السلاح أن ينفذ به، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده كالحارث الدمشقي الذي خرج بالشام في زمن عبد الملك بن مروان، وكان يرى الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ويقول: هي الملائكة، وإنما كانوا جناً، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك: إنك لم تسم الله، فسمى الله فطعنه فقتله (¬3). ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحدا يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي، فلما مات رأى خادمه شخصاً في صورته، فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله – أي غسل الميت - غاب، وكان ذلك شيطاناً، وكان قد أضل الميت وقال: إنك تجيء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضاً في صورته ليغوي بعض الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك. ومنهم من يرى عرشاً في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول (¬4). إلى غير ذلك من تلاعب الشياطين بأتباعها. ¬

(¬1) ((انظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 149). (¬2) ((انظر النبوات لابن تيمية)) (ص: 283). (¬3) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 89). (¬4) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 92).

وهكذا فإن الشياطين لا تقوم بهذه الأمور لهؤلاء من الناس إلا إذا خرجوا عن الكتاب والسنة، وتكون إعانة الشياطين لهم بحسب قربهم أو بعدهم من الإسلام، فإذا وافق هؤلاء الإنس الجن على ما تختاره الجن من الكفر – كالإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، أو يكتبون القرآن بالنجاسات وما شابه ذلك – فإنهم يغورون له الماء وينقلونه إلى أماكن بعيدة، بسبب ما يرضيهم من الكفر، وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي، أو يسرقون له بعض الأموال، وغير ذلك من أنواع الخدمة، وهذه لا تكون إلا بعد فساد عقائد هؤلاء, وكفرهم بالله, وطاعتهم للشياطين فيما يأمرونهم به (¬1). ومن هؤلاء الناس من يستغيث بصالح أو بقبر فينزل عليه من الهواء طعام, أو نفقة, أو سلاح أو غير ذلك، فيظنه كرامة، وإنما ذلك كله من الشياطين. ومن المشركين من كان يعبد الأصنام فيتخذها على صورة الأنبياء والصالحين، كما حصل مع قوم نوح من بعده، عندما أوحى إليهم الشيطان أن يصنعوا تماثيل لبعض الصالحين منهم – ممن توفاهم الله – ليتذكروهم، ثم مع مرور الأيام استدرجهم الشيطان فعبدوا هذه التماثيل (¬2)، قال الله تعالى عنهم: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا [نوح: 23 - 24]. ومنهم من جعل التماثيل لأجل الملائكة والجن، وفي واقع الأمر أنهم إنما يعبدون الشيطان، لأنه هو الذي زين لهم عبادتها، قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ: 40 - 41] .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات – ص: 387 والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق ففي صحيح البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)) (¬3)، وفي الصحيحين عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني - يردني-، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله!! يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو قال: شيئاً.)) (¬4) عالم الجن والشياطين لعمر سليمان الأشقر – ص: 27 ¬

(¬1) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 92). (¬2) ((انظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 150 - 151). (¬3) رواه مسلم (2174). ولم أجده عن أنس في البخاري. (¬4) رواه البخاري (2038)، ومسلم (2175).

المبحث الثالث: مدى سلطان الشيطان على الإنسان

المبحث الثالث: مدى سلطان الشيطان على الإنسان بعض الناس يتصورون أن للشيطان تلك القدرة التي يستطيع بها أن يجبر الإنسان على ترك الطاعات وفعل المعاصي، ومن ثم فلا ذنب على الإنسان إذا قصر في طاعة الله أو فعل معصية من المعاصي، وهذا التصور إنما سببه الجهل بالقرآن الذي بين حقيقة الشيطان وأنه ليس له سلطان بقهر الإنسان على فعل المعصية أو يثبطه عن القيام بالطاعة، لأنه في هذا التصور يكون مشاركاً لله في القدرة على قهر العباد وجبرهم على ما يشاء, وهذا هو عين الشرك في الربوبية، ولو كان للشيطان مثل هذه السلطة لكان في ذلك مناقضة لتكليف الله للبشر, وفي ذلك مناقضة صريحة لما في القرآن الكريم, لأن التكليف مبني على قدرة الإنسان في اختيار الخير أو الشر, وإذا انتفى الاختيار عند الإنسان - بسبب إجبار الشيطان له على فعل المعاصي وترك الواجبات – لكان في ذلك بطلان التكليف من قبل الله للإنسان، وهذا الكلام لا يقول به إلا كافر أو جاهل، لأن بعث الله للرسل على مدار التاريخ إنما جاء لاختبار هذه الإرادة عند الإنسان، فإما أن يستجيب هذا الإنسان لداعي الله، وإما أن يستجيب لداعي الشيطان الذي يوسوس للإنسان ويزين له المعاصي، وعلى أساس هذه الاستجابة أو عدمها يكون جزاء الإنسان بالجنة أو النار. ولقد نفى القرآن أن يكون للشيطان سلطان على الكافرين فضلا عن المؤمنين يقهرهم أو بالحجة لما يدعوهم إليه، وبين القرآن حدود سلطان الشيطان على الكافرين، وأنه مجرد دعوة للكفر والمعاصي، واستجابة منهم له في ذلك. يقول الله عز وجل في هذا الشأن حاكياً عن الشيطان: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22]. فهذا هو الشيطان في الآخرة يعلن في صغار وانكسار تخليه عن أتباعه الذين أطاعوه فيما زين لهم من المعاصي، ويوضح لهم أنه لم يكن له سلطان يجبر هؤلاء على ما كان سبباً في دخولهم جهنم. قال الإمام الشوكاني في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ الآية. (أي وما كان لي تسلط عليكم بإظهار حجة على ما وعدتكم به وزينته لكم إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي: أي إلا مجرد دعائي لكم إلى الغواية والضلال بلا حجة ولا برهان .. ، وقيل: المراد بالسلطان هنا: القهر، أي: ما كان لي عليكم من قهر يضطركم إلى إجابتي، وقيل: هذا الاستثناء هو من باب: تحية بينهم ضرب وجيع، مبالغة في نفيه للسلطان عن نفسه، كأنه قال: إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرد الدعاء من السلطان، وليس منه قطع) (¬1). وهذه الأقوال بمجملها تدل على انتفاء السلطان من قبل الشيطان على أتباعه في الدنيا، وأن وظيفته كانت منحصرة في الدعوة إلى الغواية والضلال، وهذه الدعوة البراقة معراة عن الحجة والبرهان من جهة، وبعيدة عن القهر والسلطان من جهة أخرى، وإذا انتفى الأمران انتفت معهما دواعي الاستجابة لهذه الدعوة من قبل الشيطان، وبناء على ذلك فلا لوم ولا عتاب. ¬

(¬1) ((تفسير فتح القدير)) (3/ 103).

قال الشوكاني: (فَلاَ تَلُومُونِي بما وقعتم فيه بسبب وعدي لكم بالباطل وإخلافي لهذا الموعد. وَلُومُواْ أَنفُسَكُم باستجابتكم لي بمجرد الدعوة التي لا سلطان عليها ولا حجة، فإن من قبل المواعيد الباطلة والدعاوى الزائفة عن طريق الحق فعلى نفسه جنى ولمآربه قطع، ولا سيما ودعوتي هذه الباطلة وموعدي الفاسد وقعا معارضين لوعد الله لكم وعد الحق, ودعوته لكم إلى دار السلام، مع قيام الحجة التي لا تخفى على عاقل ولا تلتبس إلا على مخذول. مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ .. ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب, وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه، وفيه إرشاد لهم إلى أن الشيطان في تلك الحالة مبتلى بما ابتلوا به من العذاب، محتاج إلى من يغيثه ويخلصه مما هو فيه، فكيف يطمعون في إغاثة من هو محتاج إلى من يغيثه؟ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ لما كشف لهم القناع بأنه كافر بإشراكهم له مع الله من قبل هذا الوقت الذي قال لهم الشيطان فيه هذه المقالة، وهو ما كان منهم في الدنيا من جعله شريكاً، ولقد قام لهم الشيطان في هذا اليوم مقاماً يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم، فأوضح لهم: أولاً: أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة، معارضة لوعد الحق من الله سبحانه، وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد، ولم يف لهم بشيء منها. ثانياً: أنه أوضح لهم بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول ولا يتفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لابد للعاقل منها في قبول قول غيره. ثالثاً: أنه أوضح: بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان، الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء. رابعاً: أنه نعى عليهم ما وقعوا فيه، ودفع لومهم له، وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم، لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يتلبس بطلانه على من له أدنى عقل. خامساً: أنه أوضح لهم: بأنه لا نصرة عنده ولا إغاثة، ولا يستطيع لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضراً، بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة. سادساً: بأنه صرح لهم بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له، فتضاعفت عليهم الحسرات، وتوالت عليهم المصائب) (¬1). وبهذا يتبين أن الله لم يجعل للشيطان سلطاناً على بني آدم، لتكون إرادة الناس حرة في اختيارها طريق الخير أو الشر، ومن ثم فليس له سلطان على الإنس في عقائدهم وتوجيه إرادتهم للأعمال السيئة، فإن ذلك مما لا سبيل له إليه. وإذا كان الشيطان قد أعلن بأنه لا سلطان له في إجبار الناس على المعاصي، ولا حجة له عليهم فيما يدعوهم إليه – وإنما يتحدد سلطانه في دعوتهم إلى الباطل وتزيينه لهم، حباً للفساد, وكيداً للإنسان، لعمق عداوته له منذ استكبر عن السجود لآدم – فمع من تثمر هذه الدعوة إذن بقبولها، ومن هم الذين يرفضونها في مقابل ذلك؟ لقد أجابنا القرآن الكريم على هذا السؤال في كثير من الآيات الكريمة قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99 - 100]. وقال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ: 20 - 21]. ¬

(¬1) ((تفسير فتح القدير)) (3/ 103).

وقال تعالى عن إبليس عليه اللعنة: قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 39 - 42]. وقال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [الإسراء: 65]. إن هذه الآيات التي سقناها تبين لنا أن دعوة الشيطان للضلال والفساد إنما تثمر مع الذين يعرضون عن ذكر الله, ويتركون السلاح الذي أمر الله بالتسلح به ضد وساوس الشيطان ومراوغاته التي لا تهدأ لجر هذا الإنسان إلى الهاوية، أما المؤمنون فقد عرفوا السلاح الذي به يقاومون هذا التسلط، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف: 201]. وقال: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200]. والطائف هو الوسوسة أو مبدؤها، وهو إذا مس المؤمنين تذكروا فإذا هم مبصرون، فلا يقعون في فخ طاعته، قال محمد رشيد رضا: (والنفس الزكية الفطرة، المستقيمة لله تعالى بهداية الكتاب والسنة لا يكاد الشيطان يصلها، وإذا طاف بها طائف من وسوسته في حال الغفلة كان هو المذكر لها، فإذا هي مبصرة قائمة بما يجب عليها، فمثلها في عدم تأثير الوسوسة فيها أو عدم إفسادها لها كمثل البدن القوي في عدم استعداده لفتك جراثيم الأمراض به، كما أن النفس الفاسدة الفطرة بالشرك أو النفاق والمعاصي وسوء الأخلاق تكون مستعدة لطاعة الشيطان، كاستعداد البدن الضعيف والمزاج الفاسد لتأثير ميكروبات الأمراض، ومن الأرواح والأبدان ما ليس في منتهى القوة ولا غاية الضعف، فكل منها يتأثر بقدر استعداده، وتكون عاقبة السلامة إن كان أقرب إلى الصحة والقوة، والهلاك إن كان بضد ذلك) (¬1). فكلما قوي الإيمان كلما ازداد الشيطان بعداً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((إيها يا ابن الخطاب: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجك)) (¬2) .. وقال أيضاً: ((إن الشيطان ليفرق منك يا عمر)) (¬3) وقال: ((إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس فروا من عمر)) (¬4). ¬

(¬1) ((تفسير المنار)) (7/ 514). (¬2) رواه البخاري (3683). من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. (¬3) رواه الترمذي (3690)، وأحمد (5/ 353) (23039)، وابن حبان (15/ 315) (6892)، والبيهقي (10/ 77) (19888). من حديث بريدة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصحح إسناده عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (845) كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وصححه ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/ 252). (¬4) رواه الترمذي (3691)، والنسائي (5/ 309). من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال ابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (3/ 493): (فيه) خارجة بن عبد الله بن سليمان وهو عندي لا بأس به وبرواياته، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

وليس ذلك خاصاً بعمر، فإن من قوي إيمانه يقهر شيطانه ويذله كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر)) (¬1). ثم إن بعض الذنوب التي يقع بها بعض المؤمنين لا تعتبر من قبيل تسلط الشيطان عليهم، لأنهم لا يستمرون على ذلك كما ذكرت الآيات القرآنية السالفة، قال الشوكاني في قوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] (المراد: أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء ونحوهما، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة عنه، وقد استثنى سبحانه من عباده هؤلاء المتبعون لإبليس من الغاوين، الذي استسلموا لغواية الشيطان وإضلاله، وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله تعالى: وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 42]). وقال القرطبي في الآية المتقدمة إِنَّ عِبَادِي: (قال العلماء: يعني على قلوبهم، وقال ابن عيينة: أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم، وهؤلاء الذين هداهم الله, واجتباهم, واختارهم, واصطفاهم. قلت: ولعل قائلاً يقول: قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله: فأزلهما الشيطان [البقرة: 36]. وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ [آل عمران: 155].؟ فالجواب ما ذكر، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول، بل تزيله التوبة وتمحوه الأوبة). ثم إن قوله سبحانه: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ يحتمل أن يكون خاصاً فيمن حفظه الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات والأحوال، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة، كما فعل ببلال، إذ أتاه يهدِّيه كما يهدَّي الصبي حتى نام، ونام صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس وفزعوا وقالوا: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس في النوم تفريط، ففرج عنهم)) (¬2). إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ أي الضالين المشركين، أي سلطانه على هؤلاء دليله: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99 - 100]. ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 380) (8927)، والحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (1/ 132)، وابن أبي الدنيا في ((مكايد الشيطان)) (ص: 20). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الهيثمي (1/ 121): فيه ابن لهيعة، وحسن إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3586). (¬2) رواه البخاري (595)، ومسلم (681). من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه.

ومما تقدم يظهر لنا أن الذنوب التي تحصل من المؤمنين لا تحدث بسبب أن للشيطان سلطاناً عليهم، لأنها ذنوب يتبعها التوبة والاستغفار، فيعودون أقوى مما كانوا عليه من الإيمان، وسلطان الشيطان على الكافرين إنما يكون بسب استمرارهم على فعل المعاصي، حيث قد جعلوا للشيطان سبيلاً إلى قلوبهم، فلا يقلعون من معصية إلا عادوا لها أو أشد قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83]. وقال: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة: 19]. وقال: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36]. وقال: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [فصلت: 25]. وغير ذلك من الآيات. فهذه الآيات قد دلت على أن الشياطين إنما تتسلط على الكافرين بسبب متابعتهم لها فيما تزين لهم من المعاصي، لأنهم لم يلجأوا إلى الله في دفعها عنهم، فخلى الله بينهم وبينها، فأزعجتهم إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية، وأغرتهم إغراء بالشر، فلا يفترون قائلين لهم: امضوا في هذه المعاصي، حتى توقعهم في النار، فهؤلاء هم القرناء من الشياطين الذين تحدثت عنهم الآيات القرآنية كقوله تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت: 25]. قال الطبري: (أي بعثنا لهم نظراء من الشياطين فجلعناهم قرناء قرناهم بهم يزينون لهم قبائح أعمالهم، فزينوا لهم ذلك) (¬1). وهؤلاء القرناء يصاحبون أصحاب المعاصي في الدنيا فيمنعونهم من فعل الطاعات، ويحضونهم على فعل المعاصي، ثم يصاحبونهم عندما يقومون من قبورهم في الآخرة، كما ذكر الإمام القرطبي (¬2). فهؤلاء الكفرة هم الذين استحوذ عليهم الشيطان فغلبهم وقوى عليهم وأحاط بهم، فلا يستطيعون التفلت منه بعد أن سلموا أنفسهم له يتصرف بها كيفما يريد، فلا عذر لهم في متابعتهم له، لأنه ليس له عليهم أي سلطان يجبرهم على طاعته، إنما الخور في نفوسهم هو الذي جعلهم يقعون في شراك وسوسته، كما حصل مع الذي انسلخ من آيات الله في قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 175 - 176]. ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (24/ 111). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (16/ 89).

وقد ذكر بعض المفسرين أنه بلعم بن باعوراء رجل من بني إسرائيل كان قد أوتي النبوة، وكان مستجاب الدعوة، فلا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، وذكر بعضهم أنه أمية بن أبي الصلت، كان قد قرأ كتب أهل الكتاب التي تبشر بمجيء الرسول عليه الصلاة والسلام، فكفر به عندما بعث، وغير ذلك من الأقوال في شأن هذا الرجل (¬1). قال الإمام الطبري: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله – تعالى ذكره – أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبر رجل كان آتاه حججه وأدلته وهي الآيات .. وجائز أن يكون الذي أتاه الله ذلك بلعم، وجائز أن يكون أمية) (¬2). لكن هذا الرجل خرج من الآيات التي آتاه إياها فلم يعد له صلة بها، فأتبعه الشيطان، أي: صيره تابعاً وقريناً له ينتهي أمره في معصية الله، ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن، فأصبح من المتمكنين في الغواية وهم الكفار، ولو شاء الله لرفعه بهذه الآيات التي أعطيها منزلة عظيمة، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنه مال إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة، واتبع ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله، فأصبح كالكلب يلهث في كل أحواله: في الصحة والمرض، والراحة والتعب، فهذا الرجل لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ, وذكره المذكر, وزجره الزاجر، أو لم يقع شيء من ذلك فهو مستديم على فعل المعصية بتركه لآيات الله واتباعه للشيطان (¬3). فهذا المثل ضربه الله لكل من يتلو القرآن أن يعتبر بهذا الرجل الذي انسلخ من آيات الله، فصار أمره إلى ما صار من اتباع الشيطان له، فإن كل من يعرض عن آيات الله يؤول مصيره إلى مثل ما صار إليه ذلك الرجل، وفي ذلك دلالة على تخلي الله عن المكذبين بآياته وتركهم فريسة للشيطان يوجههم كيف شاء كما في قوله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 71]. فالذين يعرضون عن الله تستهويهم الشياطين، فيسارعون إليها في معصيتهم لله، فيصبحون حيارى تائهين في الأرض (¬4)، وهي صورة بليغة رسمها القرآن لكل معرض عن هدى الله سبحانه وتعالى. وهكذا يتبين لنا أنه لا سلطان للشيطان على الناس، وإنما استجاب له بعضهم بمجرد دعوته إياهم، جرياً وراء أهوائهم وأغراضهم وشهواتهم، فهم الذين أعانوا على أنفسهم ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته، فلما أعطوا ما بأيديهم واستأسروا له، سلط عليهم عقوبة لهم، وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه: وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141]، فالآية على عمومها وظاهرها، وإنما المؤمنون يصدر منهم المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته، والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سبيلاً حتى جعل له العبد سبيلاً إليه بطاعته والشرك به، فحينئذ له عليهم تسليط وقهر، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه، والشرك وفروعه توجب سلطانه، والجميع بقضاء من الله ومردها إليه (¬5). الأنبياء وعصمتهم من الشياطين: ¬

(¬1) ((تفسير الطبري)) (13/ 253). (¬2) ((تفسير الطبري)) (13/ 253). (¬3) ((تفسير الطبري)) (13/ 259) و ((تفسير فتح القدير)) (2/ 265). (¬4) ((تفسير الشوكاني)) (2/ 130). (¬5) ((مختصر إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان)) (ص: 97).

وإذا لم يكن للشيطان سلطان على المؤمنين لأخذهم بالأسباب التي تدفع كيده ووسوته فمن باب أولى أن لا يكون له تسلط على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم أكمل الناس إيماناً، وأبعدهم عن طاعة الشيطان، وهم الذين عصمهم الله من ذلك، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي: إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)) (¬1). فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن مع كل إنسان قريناً من الملائكة وقريناً من الجن، فالقرين من الملائكة يأمر بالخير، والقرين من الجن يأمر بالشر ولكن قرين الرسول عليه الصلاة والسلام من الجن أسلم إسلاماً حقيقياً كما عليه أكثر العلماء، فلا يأمره إلا بخير، وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من فتنة الشيطان وتسلطه، لأن تسليط الشيطان عليهم يناقض ما تقتضيه النبوة من كونهم قدوة للعالمين وأئمة للمهتدين. وأما ما ورد خطاباً لنبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68]. فإن هذا النسيان الذي حصل بسبب إنساء الشيطان له لا يعتبر من قبيل التسلط على الناس واستحواذه عليه بالإغواء والإضلال الذي نفاه الله عن أنبيائه وعن عباده المخلصين .. ، وقد ينسي الإنسان خيراً باشتغال فكره بخير آخر (¬2). وقد قيل: إن هذا الخطاب وإن كان ظاهراً للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد التعريض لأمته، لتنزهه عن أن ينسيه الشيطان. وقيل: لا وجه لهذا، فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)) (¬3). وهذا النسيان كما تقدم ليس مما يكون به للشيطان سلطان. وكذلك ما ورد من إنساء الشيطان للنبي يوسف عليه السلام وهو في السجن في قوله تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف: 42]. فأنساه الشيطان ذكر ربه، إذ أمر الناجي من صاحبيه في السجن بذكره عند الملك ابتغاء الفرج من عنده على أحد القولين، فكان نتيجة ذلك أن لبث في السجن بضع سنين، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قوله عن يوسف: (ولولا الكلمة لما لبث في السجن طول ما لبث، حيث يبتغي الفرج من عند غير الله عز وجل) (¬4). فنسيان يوسف عليه السلام ذكر ربه في السجن ليس من جنس تسلط الشيطان على أنبيائه، لأنهم معصومون من ذلك، وما يقع منهم من نسيان لا يستمرون عليه، بل يتذكرون ويستغفرون كما في قوله تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [24: ص]. وفي قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [34: ص]. وأما وقوع النسيان من الأنبياء عليهم السلام بغير وسوسة من الشيطان فلا وجه للخلاف في جوازه، قال تعالى لخاتم رسله: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف: 24]. ¬

(¬1) رواه مسلم (2814). (¬2) ((تفسير المنار)) (7/ 508). (¬3) رواه البخاري (401)، ومسلم (572). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬4) رواه الطبراني (11/ 249) (11640). وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3984).

وأما قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو هريرة: ((ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها))، ثم يقول أبو هريرة: (واقرءوا إن شئتم: وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36]) (¬1). فإنه لا يفيد تسلط الشيطان على الإنسان وإغواؤه له، قال ابن حجر العسقلاني: (والذي يقتضيه لفظ الحديث لا إشكال في معناه، ولا مخالفة لما ثبت من عصمة الأنبياء، بل ظاهر الخبر أن إبليس ممكن من مس كل مولود عند ولادته، ولكن من كان من عباد الله المخلصين لم يضره ذلك المس أصلاً، واستثنى من المخلصين مريم وابنها، فإنه ذهب يمس على عادته فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص، ولا يلزم منه تسلط على غيرهما من المخلصين (¬2)). ولو قدر الشيطان على المولود بأكثر من المس عند الولادة إلى الإفساد والغواية معه لفعل ذلك، ولكنه يعلم أن المولود لا يعرف الخير والشر أصلاً، فاكتفى بمسه عند الولادة. وقال القرطبي: (ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواءه، فإن ذلك ظن فاسد، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء, ومع ذلك عصمهم الله مما يرومه الشيطان كما قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر: 42]. هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لهما ومقارنته والله أعلم) (¬3). وبناء على ما تقدم يظهر لنا أن عمل الشيطان إنما ينحصر بالوسوسة والدعوة إلى الضلال، فالأنبياء والمؤمنون قد أخذوا بالأسباب التي ترد وسوسته كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف: 201]. فإذا هم منتبهون حذرون من وسوسته وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [الأعراف: 202]. وإما إخوان الشياطين وهم الفجار من ضلال الإنس، فإن الشياطين تمدهم في الغي وتكون مدداً لهم، وهي لا تقصر في مد الكفرة بهذا الغي والضلال، وفي التعبير بإخوانهم في الآية ما يشير إلى أن هؤلاء الكفرة والعصاة بمتابعتهم للشياطين فيما تزين لهم من المعاصي قد أصبحوا إخواناً لها) (¬4) فنسأل الله السلامة والعافية .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص391 ¬

(¬1) رواه البخاري (4548)، ومسلم (2366). (¬2) ((فتح الباري)) (8/ 212). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (4/ 68). (¬4) ((فتح الباري)) (8/ 212).

الفصل السادس: الجن وعلم الغيب

المبحث الأول: استراق الجن لأخبار السماء كان الجن قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم يسترقون أخباء السماء، وهو ما يوحيه الله لملائكته، وأصل ذلك قوله تعالى إخباراً عنهم: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: 9]. قال القرطبي: (كان الجن يقعدون مقاعد لاستماع أخبار السماء، وهم المردة من الجن، كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة، فحرسها الله بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) (¬1). ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في حديثه الذي رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الملائكة تتحدث في العنان - والعنان الغمام - بالأمر يكون في الأرض، فتستمع الشياطين فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القاروة، فيزيدون معها مائة كذبة)) (¬2). ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري قال: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان، حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا: يوم كذا، كذا وكذا! فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء)) (¬3). وفي رواية عند مسلم في صحيحه: ((تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة, فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة)) (¬4). وهكذا فإن الجن كان يستمعون لأخبار السماء، ثم يلقون ذلك إلى الكهان من الإنس، فيزيدون على الكلمة مائة كذبة من عندهم، فيصدق الناس ذلك، قال الماوردي: (فأما استراقهم للسمع فقد كانوا في الجاهلية قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم يسترقونه، ولذلك كانت الكهانة في الإنس لإلقاء الجن إليهم ما استرقوه من السمع في مقاعد لهم، كانوا يقربون فيها من السماء كما قال تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: 9]) (¬5). وقال ابن جزى الكلبي في تفسير قوله تعالى: إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 10]. (والمعنى: لا تسمع الشياطين أخبار السماء، إلا الشيطان الذي خطف الخطفة) (¬6). وقد اختلف العلماء في استراق الجن للسمع بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم: 1 - فقال قوم: إن استراق الجن لأخبار السماء قد زال بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك زالت الكهانة. 2 - وقال آخرون: إن استراقهم باق بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام (¬7). واختلفوا كذلك في أن الجن هل كانوا يرمون بالشهب قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ¬

(¬1) ((تفسير القرطبي)) (19/ 12). (¬2) رواه البخاري (3288). (¬3) رواه البخاري (4800). (¬4) رواه البخاري (6213)، ومسلم (2228). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) ((أعلام النبوة للماوردي)) (ص: 145). (¬6) ((كتاب التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي)) (3/ 368). (¬7) ((أعلام النبوة)) (ص: 145).

أ- فقال قوم: لم تكن ترمى الجن قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام. وقد نسب النسفي هذا القول للجمهور فقال: (والجمهور على أن ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم) (¬1). قال القرطبي: (وقال الكلبي وقوم: لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث منعوا من السموات كلها وحرست بالملائكة والشهب، ومنعت من الدنو من السماء، وبه قال عطية العوفي عن ابن عباس، وهذا قول عبد الله بن سابور. وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب) (¬2). ومما يؤيد هذا القول ما ورد عن ابن عباس قال: (كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً، فأما الكلمة فتكون حقاً، وأما ما زادوه فيكون باطلاً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس – ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك – فقال لهم إبليس: ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين – أراه قال: بمكة – فلقوه فأخبروه فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض) (¬3). وذكر القرطبي وجها آخر عن ابن عباس قال: (وقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء، فكانوا يدخلونها ويلقون أخبارها على الكهنة، فيزيدون عليها تسعاً، فيحدثون بها أهل الأرض، الكلمة حق والتسع باطل، فإذا أرادوا شيئاً مما قالوه صدقوهم مما جاءوا به، فلما ولد عيسى بن مريم عليهما السلام منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب) (¬4). وفي هذا دليل على أن الشياطين لم تكن ترمى بالشهب قبل بعثته عليه الصلاة والسلام. وتمسك من قال بأن الشهب لم يكن يرمى بها أيضاً قبل بعثة الرسول عليه السلام بظاهر قوله تعالى: فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: 9]. إذ قد دل على أن الجن لم تكن ترمى قبل المبعث حيث رتب الرمي على الاستماع بعد المبعث. وقد أنكر الجاحظ الرمي قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم, وأنكر كل شعر ورد في الرمي فقال: (كل شعر روي فيه فهو مصنوع) (¬5). ب- وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال، فلما بعث منعوا من ذلك أصلاً. فعلى هذا القول يكون حمل الجن على الضرب في الأرض وطلب السبب –أي السبب الذي من أجله منعوا من استراق السمع – إنما كان لكثرة الرجم، ومنعهم عن الاستراق بالكلية (¬6). وقيل: إنما زاد الرمي إنذاراً بمبعث الرسول عليه الصلاة والسلام (¬7). قال القرطبي: (وقال أوس بن حجر – وهو جاهلي: فأنقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا (¬8)) ¬

(¬1) ((تفسير النسفي)) (5/ 272). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (19/ 12). (¬3) رواه الترمذي (3324)، وأبو يعلى (4/ 382) (2502)، والطبراني (12/ 46) (12431). قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (10/ 10). (¬5) ((تفسير القرطبي)) (19/ 13). (¬6) ((تفسير الخازن)) (4/ 317) ((تفسير فتح القدير)) (5/ 306). (¬7) ((تفسير القرطبي)) (19/ 13). (¬8) ((تفسير القرطبي)) (19/ 13).

قال بدر الدين الشبلي: (وقال السهيلي: ولكن القذف في النجوم كان قديما، وذلك موجود في أشعار القدماء من الجاهلية .. وذكر عبد الرزاق عن ابن شهاب أنه سئل عن هذا الرمي بالنجوم أكان في الجاهلية؟ قال: نعم ولكنه لما جاء الإسلام غلظ وشدد (¬1)). وقال ابن إسحاق: (حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث: " أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم – حين رمي بها – هذا الحي من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج، قال: وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا، فقالوا له: يا عمرو: ألم تر إلى ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟ قال: بلى، فانظروا: فإن كانت معالم النجوم – التي يهتدى به في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس معايشهم – هي التي يرمى بها فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوما غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو؟) (¬2). وما ذكره ابن إسحاق فيه دليل على أن النجوم لم يكن يرمى بها قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إن ثقيفاً استغربت الأمر، وخافت أن يكون قد اقتربت نهاية العالم، حتى ذهبوا إلى عمرو بن أمية يخبرهم الأمر. القول الراجح: والراجح أن الرمي كان قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يكن في الشدة مثلما كان بعد مبعثه تمسكاً بحديث ابن عباس الآتي في كلام القرطبي، وهو ما رجحه ابن كثير والقرطبي وغيرهم. قال ابن كثير: (وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك) (¬3). وذكر أن ما ورد من استغراب الإنس والجن للرمي بعد المبعث فإنما كان لكثرة الشهب في السماء والرمي بها، حيث ظنوا أن ذلك لخراب العالم (¬4). وقال القرطبي: (والقول بالرمي أصح لقوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن: 8]. وهذا إخبار عن الجن أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت منا ومنهم. ولما روي عن ابن عباس قال: ((أخبرني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم. ومات رجل عظيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته. ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه، إذا قضى أمراً سبح حملة العرش. ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا. ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال. قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً به. حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا. فما جاءوا به على وجهه فهو حق. ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون)) (¬5). وهذا يدل على أن الرجم قبل المبعث، واشتدت الحراسة بعد المبعث، فمنعوا من ذلك أصلاً) (¬6). وقال بدر الدين الشبلي في قوله سبحانه: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن: 8]: (ولم يقل: حرست، دليل على أنه - أي الرمي - قد كان منه شيء، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ملئت حرساً شديداً وشهباً، وذلك لينحسم أمر الشياطين وتخليطهم، ولتكون الآية أبين، والحجة أقطع) (¬7). ¬

(¬1) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 124). (¬2) ((سيرة ابن هشام)) (1/ 224). (¬3) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (3/ 557). (¬4) ((مختصر تفسير ابن كثير)) (3/ 558). (¬5) رواه مسلم (2229). (¬6) ((تفسير القرطبي)) (19/ 13). (¬7) ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 124).

وأما قوله تعالى: فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [الجن: 9]. فإنما يحمل على التشديد في حراسة السماء، فكل من يحاول من الشياطين استراق السمع بعد المبعث، فإن له شهاباً رصداً يرمى به، وذلك صيانة للوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أن يصل الشياطين إلى شيء منه. وعلى هذا يحمل قول ابن إسحاق المتقدم كذلك، فإن استغراب الحي من ثقيف وفزعهم للرمي إنما كان لكثرته وشدته. واختلف العلماء: هل كانت الشهب تأخذ الجن قبل استراق السمع أم بعد استراقهم؟ 1 - فذهب بعضهم إلى أن الشهب تأخذهم قبل استراق السمع حتى لا يصل إليهم لانقطاع الكهانة بهم، وتكون الشهب منعاً من استراقه (¬1). 2 - وذهب آخرون منهم إلى أن الشهب تأخذهم بعد استراقه، وتكون الشهب عقاباً على استراقه (¬2). وبناء على ما تقدم: هل يقتل الشهاب الجني عند رميه به أم لا يقتله؟ أ- فقال ابن عباس: (الشهاب يجرح, ويحرق, ويخبل, ولا يقتل، ولذلك عادوا لاستراق السمع بعد الإحراق، ولولا بقاؤهم لانقطع الاستراق بعد الاحتراق، ويكون ما يلقونه من السمع إلى الجن دون الإنس لانقطاع الكهانة عن الإنس) (¬3). ب- وقال الحسن وطائفة: (الشهاب يقتل بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن)، قال الشوكاني: (ذكره الماوردي ثم قال: والقول الأول أصح) (¬4). وظاهر القرآن أن الرمي يكون بعد الاستراق لعطفه عليه بالفاء الدالة على التعقيب في قوله تعالى: إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ [الحجر: 18]. وقوله: إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 10] .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص343 ¬

(¬1) ((أعلام النبوة)) (ص: 145). (¬2) ((أعلام النبوة)) (ص: 145). (¬3) ((تفسير فتح القدير)) (3/ 125) ((أعلام النبوة)) (ص: 145). (¬4) ((تفسير فتح القدير)) (3/ 125).

المبحث الثاني: ما تلقيه الجن إلى الإنس

المبحث الثاني: ما تلقيه الجن إلى الإنس إن العلوم والأخبار التي يلقيها الجن إلى الإنس يمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول: ما يتعلق بالأمور الغيبية. القسم الثاني: ما يتعلق بالعلوم والأخبار التي تتعلق بالأمور المشهودة, أو الإخبار عن الوقائع الماضية. أما بالنسبة للقسم الأول فيمكن تقسيمه إلى قسمين: أ- أن تكون من الغيبيات التي استأثر الله بعلمها. ب- أن تكون من المغيبات التي قضى الله أمرها في السماء وأصبحت معلومة لذوي الاختصاص من الملائكة أو من البشر، مما يطلع الله عليه من شاء من رسله. أما بالنسبة للقسم الأول: ... أنه من اختصاص الله، ولا يمكن لأي مخلوق في هذا العالم أن يعرف عنه شيئاً، سواء كان في ذلك الملائكة أو الجن أو الإنس، لأن الآيات القرآنية قد أخبرت أن علم ذلك لله وحده دون سواه، ولا يكون التحدث عن شيء من هذا الغيب إلا من قبيل الافتراء على الله، وهو يناقض الإيمان، ومدعيه كافر، لمعارضته الآيات القرآنية الدالة على اختصاص الله بذلك قال تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام: 59] وقال: قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]. أما بالنسبة للثاني: وهو المغيبات التي قضى الله أمرها في السماء، وأصبحت معلومة لذوي الاختصاصات من الملائكة أو من البشر ... إلخ. فقد تقدمت فيه الأحاديث من أن الله إذا قضى الأمر في السماء، بأن يتكلم بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراده، فيلخص هذا القول ويمضي في الملائكة حتى يفزعوا منه، فيعلمون أن الله لا يقول إلا الحق، فيسمع مسترق السمع من الجن الكلمة، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقي الكلمة، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها الكاهن مائة كذبة (¬1). وفي الأحاديث الواردة بهذا الصدد دليل على أن الجن يسترقون السمع من الملائكة، وكانوا يقذفون بالشهب خصوصاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فما تسمعه الملائكة بعد إلقاء الأمر إلى جبريل قد خرج عن الغيب الذي اختص به الله، إذ علمت به الملائكة، فعندئذ تحاول الجن استماع ذلك، فربما يسمعون كلمة، وربما لا يسمعون، لأن الشهب لهم بالمرصاد. وأما قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [الجن: 26]. فقد قال القرطبي: (اختص الله بعلم الغيب فهو له وحده، إلا ما شاء الله من اطلاع بعض الرسل، لأنهم مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات، وقال العلماء رحمهم الله تعالى: لما تمدح الله سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم, ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه، ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه) (¬2). والآية لا تناقض ما تقدم من الأحاديث الدالة على استراق للسمع بعد أن يلقي الله كلامه إلى جبريل، لأن الجن قد منعوا من استراق السمع أصلاً، وما يستمعونه عندئذ لا يعتبر غيباً بالنسبة للملائكة ولمسترق السمع، كما حصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن صياد المتقدم. ¬

(¬1) ((فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)) (ص: 197). (¬2) ((تفسير القرطبي)) (19/ 28).

ومضمون الاستدلال في الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين كذب ابن صياد وأن ما يقوله هو من الكهانة، بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد خبأ له سورة الدخان (¬1) فأخبره شيطانه الذي يأتيه ببعض حروفها، لأنه لم يقدر أن يستطلع إلا ذلك، ولن يقدر على أكثر منه، لأن الله قد حفظ رسله من الشياطين بما أرصده لهم من الملائكة الذين يحرسونهم من الشياطين عن أن يتشبهوا بصور الملك، فإذا جاء أحدهم شيطان في صورة ملك قالوا: هذا شيطان فاحذره، وان جاء الملك قالوا: هذا رسول ربك (¬2). دلالة موت النبي سليمان عليه السلام على عدم معرفة الجن علم الغيب. قصه موت النبي سليمان عليه السلام فيها دليل على أن الجن لا يعلمون الغيب، كما أخبر القرآن بذلك، قال تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: 14]. قال القرطبي في تفسير الآية: (أي: فلما حكمنا على سليمان بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه ووقع به الموت, وذلك أنه كان متكئاً على عصا فانكسرت به بسبب أكل الأرضة لها – وهي دابة صغيرة تأكل الخشب – فوقع ميتا – فعلم موته بذلك، فكانت الأرضة دالة على موته، وكان قد سأل الله تعالى أن لا تعلم الجن بموته حتى تمضي عليه سنة) (¬3). وقد ذكر المفسرون أوجهاً لسبب طلب سليمان عليه السلام من ربه أن يعمي موته على الجن: فقال جماعة منهم: إنه طلب ذلك حتى يري الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، بخلاف ما كانوا يظنونه من أن الجن تعلم ذلك، وقد كانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد. وقال آخرون: إن طلبه ذلك إنما كان لأن داود عليه السلام قد أسس بيت المقدس، فمات ولم يتمه، فأوصى سليمان بإتمام بنائه، فأمر سليمان الجن باتمام بنائه، فلما دنا أجله قال لأهله: لا تخبروهم بموتي حتى يتموا بناء المسجد، وكان قد بقي لاتمامه سنة، فلبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي، واتكأ على عصاه فمات، ولم تعلم الجن إلى أن مضت سنة وتم بناء المسجد (¬4). واستنكر بعض المفسرين أن يمكن سليمان عليه السلام هذه المدة الطويلة – وهي سنة – دون أن يعلم به أحد من رعيته، وهو أمر لا يمكن أن يحدث مع إنسان عادي، فكيف يكون بنبي يكون له هذا الملك الواسع!. ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد (5/ 148) (21357)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8/ 242) (8520). من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 5): رواه أحمد والبزار والطبراني في ((الأوسط))، ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وهو ثقة. (¬2) ((تفسير القرطبي)) (19/ 30). (¬3) ((تفسير القرطبي)) (14/ 278). (¬4) ((تفسير القرطبي)) (14/ 281) و ((تفسير فتح القدير)) (4/ 318).

وبناء عليه فقد اعتبر هذا النفر أن معنى الآية: أن سليمان حين حان أجله وقضى الله عليه الموت – أي أوجب عليه الموت حين جاء وقته، كان سليمان حين مات قائماً بين الجن وهم بين يديه يعملون له – لم يعلموا بموته، وظلوا يعملون فيما أمرهم به، لم يدلهم على أنه قد مات إلا دابة الأرض التي كانت تأكل منسأته – أي عصاه – التي كان يتكئ عليه. فلما عبثت دابة الأرض بالعصا، زايلت موضعها وسقطت على الأرض، وخر سليمان على الأرض كذلك، وهنا علم الجن أن سليمان قد مات، فأخلوا مكانهم ومضوا إلى حيث يشاءون، ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أن سليمان قد مات ولو كان بعيداً عنهم، فكيف وهو تحت سلطانهم وبصرهم؟! (¬1). وربما كان السوس مسلطاً على العصا التي يحملها وهو لا يدري، فكان متكئاً عليها في مجلس من مجالسه، لم تتحمل طول اتكائه عليها، فانكسرت به حين مات، وثقل جسمه كما هو الشأن في كل ميت، وكانت الجن تمر عليه فتحسبه أنه في غفوة أو في سنة من النوم (¬2). وبناء على هذا القول في تفسير الآية فإن سليمان عليه السلام ما كان ليمكث هذه المدة الطويلة لا يعلم به أحد من رعيته، حتى تكون الأرضة هي التي كشفت ذلك بأكلها للعصا التي كان يتكئ عليها, وقد كان ميتاً قبل سقوطه بزمن طويل. وعلى الرغم من اختلاف الأقوال في المدة التي أمضاها سليمان ميتاً قبل علم الجن به، إلا أنها تتفق جميعاً على أن موته كان برهاناً على أن الجن مع ما لهم من القدرة على التنقل السريع بين أماكن نائية والانطلاق في آفاق فسيحة، فإنهم لا يعلمون الغيب، وذلك من خلال موت سليمان عليه السلام، بخلاف ما كانت تظن الجن ويظن الإنس كذلك، أنهم أقدر من الإنسان على النظر البعيد الذي يكشف ما سيأتي به الغد بالنسبة للإنسان، فعلم الغيب لله وحده. القسم الثاني: وهو ما يتعلق بالعلوم والأخبار التي تتعلق بالأمور المشهودة, أو الإخبار عن الوقائع الماضية. بالنسبة لهذا القسم فإن الجن يمكن أن تخبر به الإنس، لأن الجن عندهم القدرة على الانطلاق في آفاق فسيحة, والتنقل بين الأماكن البعيدة، لما ميزهم الله بذلك عن الإنسان، فمثلاً: قد يسافر رجل من بلد إلى بد آخر, ويحمل بعض الأغراض معه، فإن الجن بحكم تنقلهم السريع يمكن أن يخبروا شخصاً آخر ممن يتصلون به عن الساعة التي تحرك فيها، وفي أي شيء يركب، وما هي الأغراض التي يحملها فيكون هذا بالنسبة للإنسان غيباً من الغيوب لكونه لم يشاهده، ولم يبلغه بطريق من طرق العلم المعتادة، وأما بالنسبة للجن فهو واقع محسوس، وهو في واقع الأمر ليس من علم الغيب، وإنما هو مشاهدة، حيث كان عن واقع محسوس يراه الجن رأي العين، فهو حضور بالنسبة للجن, ولكنه غيب بالنسبة للإنسان البعيد عن موقع الحدث، حيث يرى الجن – ولا نرى نحن البشر – ما وراء الأبواب الموصدة أو الجدر القائمة ونحوها (¬3). وقد يخبرون الإنس عن الوقائع الماضية بحكم أعمارهم الطويلة التي تزيد على أعمار الإنس، فقد يخبرون شخصاً يعيش اليوم عن حدث وقع قبل مائة عام أو أكثر، وقد يموت الميت ويبقى قرينه من الجن، فيخبرون عن أحوال الميت، وقد حصل من ذلك الكثير كما ذكر ابن تيمية (¬4). وهذا الإخبار من قبل الجن للإنس عن الأحوال الماضية والأمور المغيبة عن الإنسان قد يكون الجني فيها صادقاً وقد يكون كاذباً، إذ أن في الجن من يشبهون الإنس في الصدق والكذب، بل إن صفاتهم بشكل عام تفوق صفات الإنس سوءا. ¬

(¬1) ((التفسير القرآني للقرآن للخطيب)) (11/ 792). (¬2) ((التفسير القرآني للقرآن للخطيب)) (11/ 794). (¬3) ((التفسير القرآني للقرآن للخطيب)) (11/ 794). (¬4) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (17/ 523).

ومن جهة أخرى فإنه لا يصح الوثوق بشيء من أخبارهم لانعدام مقاييس تحديد الصادقين والكاذبين منهم بالنسبة إلينا، لكونه عالماً مغيباً عنا، ولفجور من تلقي إليهم الجن بهذه الأخبار، فيذيعونها بدورهم بين الناس، مع ما يصطنعونه من قبل أنفسهم من الكذب. وكثير من الناس في الجاهلية من كانت الجن تخبرهم ببعض الأمور التي تغيب عن الإنس. قال ابن تيمية: (والأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه، وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات, ويعينه على بعض الأمور. وأمثال هؤلاء كثيرون) (¬1). وقال في موضع آخر: (والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته من فمن عبد الشمس والكواكب، كما يفعل أهل دعوة الكواكب، فإنه ينزل عليه الشيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور، ويسمون ذلك: روحانية الكواكب وهو شيطان. والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضر أضعاف ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر، إلا أن يتوب الله عليه، وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، وكذلك من استغاث بميت أو غائب) (¬2). ومن هذا القبيل ما يخبر به بعض من يتصلون بالجن في الوقت الحاضر، حيث تخبرهم الجن عن بعض الوقائع التي تجري في أماكن بعيدة لا يراها الإنس، أو قد يخبرون عن اسم الشخص وما يتعلق بأحواله مما لا يعلمه إلا هو أو بعض المقربين له، فيخبره بهذه الأمور الجني الذي يأتيه، ثم يقوم الشخص بدوره بإخبار ذلك إلى بعض من يدخلون عليه، فيدهش الإنسان لهذه الأمور، وإنما هي في الواقع غيب بالنسبة له، ولمن لا يعلم ذلك من بني جنسه من الإنس الذي لا يعلمون مثل ذلك، ولكنها أمور مشهودة بالنسبة للجن، ووظيفتهم في هذه الحالة نقل هذه الأمور إلى من يخدمونهم من الإنس مقابل طاعتهم لهم، ولذلك فإنك تجد أكثر الذين يتعاملون من الجن مع الإنس تاركين للصلاة والعبادات الأخرى، مهينين للقرآن الكريم، كأن يكتبوه بنجاسة، أو يقلبون بعض الآيات القرآنية، أو يقرأون ويكتبون بعض الطلاسم والأدعية غير مفهومة المعنى، مما يرضاه الجن الكفرة مقابل جلب سحر، أو منع شخص عن زوجته، وغير ذلك مما هو واقع ومشاهد في كل عصر. ومن هؤلاء من يشترط على الداخل عليهم من الإنس أن لا يقرأ القرآن ولا يذكر اسم الله تعالى، وذلك لأن الشياطين التي يتعاملون معها تهرب عند قراءة القرآن أو سماع ذكر الله، قال ابن تيمية: (ولهذا من يكون إخباره عن شيطان فإنه لا يكاشف أهل الإيمان والتوحيد وأهل القلوب المنورة بنور الله، بل يهرب منهم, ويعترف أنه لا يكاشف هؤلاء وأمثالهم، وتعترف الجن والإنس – الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم – أنهم لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الإيمان والقرآن, ويقولون: أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة، وإنما تظهر عند الكفار والفجار، وهذا لأن أولئك أولياء الشيطان, ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين, ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانية) (¬3). فليحذر المسلم الدخول على أمثال هؤلاء، وليعلم أن الذي يخبرون به ليس من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وإنما هو من الأمور المشهودة للجن والغائبة عن الإنس. ¬

(¬1) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 78). (¬2) ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 82). (¬3) ((النبوات لابن تيمية)) (ص: 281).

وإذا كانت الشياطين تخبر الكهان – وأمثالهم ممن يتصلون بالجن ويتعاملون معهم – ببعض الأمور، وقد يكون ذلك صادقاً أو كاذباً، فإنه لا يجوز تصديقهم أو إتيانهم ... وينبغي أن يعلم أن ما تخبر به الأنبياء من الأمور المشهود ليس مما تقدر عليه الشياطين، وإن قدر أنه من جنس ما تقدر الشياطين عليه، فالمميز في هذه الحال بين النبي والكاهن اختلاف حاليهما قولاً وعملاً. وكذلك بالنسبة للإخبار بالأمور المشهودة، قد تخبر الأنبياء به مالا تقدر الشياطين على الإخبار به كما قال تعالى عن عيسى عليه السلام: وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 49]. قال أبو السعود في تفسيره: (أي أخبركم بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها) (¬1). وقال ابن تيمية: (وبالنسبة للإخبار بالأمور المشهودة والوقائع الماضية فإن الأنبياء عليهم السلام يخبرون منه بما لا يمكن للشياطين أن تخبر به، كما في إخبار المسيح في قوله تعالى: وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: 49]، فإن الجن قد يخبرون بما يأكله بعض الإنس وبما يدخرونه، لكن الشياطين إنما تتسلط على ما لم يذكر اسم الله عليه، كما إذا دخل الإنسان بيته فإنهم يدخلون معه، وإذا أكل ولم يسم فإنهم يأكلون معه، أو قد يدخر الإنسان شيئاً ولا يذكر اسم الله عليه، فإن الجن تعرفه، وقد تسرق الجن بعض الأموال أو المتاع مما لم يذكر اسم الله عليه. وأما من ذكر اسم الله على ما تقدم فإنه لا سلطان للجن على ذلك بسرقته أو معرفة مكانه، والمسيح عليه السلام كان يخبر المؤمنين بما يأكلون ويدخرون مما ذكر اسم الله عليه والجن لا تعلم به) (¬2) .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات -بتصرف - ص367 ¬

(¬1) ((تفسير أبي السعود)) (2/ 39). (¬2) ((النبوات)) (ص: 281).

الفصل السابع: الجن ودعوى تحضير الأرواح

تمهيد طالما سمعنا في هذا القرن عن تحضير الأرواح، حيث ملأت هذه الفكرة الدنيا بضجيجها، وانتشرت انتشاراً سريعاً في الشرق والغرب، وعقدت لها المجالس والمحاضرات والندوات، وألفت فيها كثير من الكتب والمجلات، وأنشئت لها المدارس والجامعات، وآمن بها الكثير في الشرق والغرب من المسلمين وغيرهم، وخاض أنصارها معارك كلامية، ودافعوا فيها عن فكرتهم أمام المنكرين، ومازلنا نعيش آثارها في أيامنا هذه، ونقرأ الكثير عنها. فكرة مجملة عن تحضير الأرواح: كانت بداية نشأة هذه الفكرة في أمريكا، حيث حصل سنة 1846م أن رجلاً اسمه فيكمان يسكن في قرية هيد سفيل من مقاطعة نيويورك قد سمع ذات ليلة طرقات متعددة على أرض بيته، فذهب ليكتشف الفاعل، فأعيته الحيلة، فصبر على مضض، ولكنه قام ذات ليلة منذعراً من صراخ ابنة صغيرة له، فسألها عما نابها، فزعمت أنها أحست بيد مرت على جسمها وهي في سريرها، فلم ير الرجل بداً من هجر منزله، فخلفه فيه رجل متنور يقال له جون فوكس، فحصل لعائلته ما حصل لسابقتها من الأصوات التي لا تجعل للنوم مساغاً من الجفون، فكانت زوجة جون فوكس تنادي جيرانها، وتستعين في البحث عن الفاعل، فلم يهتدوا إليه، فتجاسرت هذه المرأة ذات ليلة وقالت لذلك الطارق: أحدث عشر طرقات، ففعل، فقالت له: كم عمر ابنتي كاترينه؟ فطرق طرقات على قدر سني عمرها، ثم قالت له: إن كنت روحاً فأحدث طرقتين أيضاً، فأحدثهما، ولم تزل به المرأة حتى علمت بواسطة الطرق أنها روح رجل كان ساكناً في ذلك البيت، فقتله جاره ليسرق ماله ودفنه فيه، فلم يسع زوجة فوكس، إلا استحضار الجيران واستجواب الروح أمامهم، فأجابت بما جعلهم مندهشين مقتنعين في آن واحد، فكان الحال كما أخبرت الروح. وقد ضبطت الحكومة الأمريكية هذه الواقعة، وأجرتها مجراها القانوني وكلفت لجنة بدراسة هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر التي كانت تحدث بين وقت وآخر، وبحثها القانوني الشهير أدمون، فاعتقد صحتها وألف فيها كتاباً ضخماً سنة 1865، وتبعه الأستاذ مايس أستاذ الكيمياء في المجمع العلمي الأمريكي، فنسب حصولها لأرواح الموتى. ولكن الأمر الذي أحدث الدوي الكبير هو اعتقاد الأستاذ روبيرهار بهذا المذهب، وتأليفه فيه كتاباً سماه الأبحاث التجريبية على الظواهر الروحية، فانتشب الصراع من ذلك اليوم بين المصدقين والمكذبين، ولم يبق عالم ولا كاتب ولا كاهن، إلا وألقى بنفسه في تلك المعمعة، فانتقل هذا المذهب بعد ذلك إلى إنجلترا، ووجد له أنصاراً يدافعون عنه، وعلى رأس هؤلاء أحد رؤساء الجمعية الملكية الانجليزية كروركس، ثم أخذ المذهب بالانتشار إلى أقطار العالم، وأصبح له ملايين من الأتباع وأكثر من مائتي مجلة تدافع عنه وتنشره (¬1) .. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص425 ¬

(¬1) ((دائرة معارف القرن العشرين)) (1/ 248) باختصار وتصرف، وانظر كتاب ((الإنسان روح لا جسد)) (1/ 102).

المبحث الأول: علاقة الجن بتحضير الأرواح

المبحث الأول: علاقة الجن بتحضير الأرواح لقد كانت الشياطين تنزل على الكهنة فتخبرهم بالكلمة من الحق فيكذبون معها مائة كذبة، وكانوا يتراءون لهم في صور مختلفة كما تقدم معنا، ومن صفات الجن التشكل في الصور المختلفة، وبإمكانهم أن يظهروا للإنسان في صورة أشخاص يكون للشخص معرفة مسبقة بهم قبل موتهم، ولقد تمثل الشيطان للمشركين يوم وقعة بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وحرضهم على قتال الرسول عليه السلام ثم تولى عنهم بعد ذلك عندما عاين الملائكة، وتمثل الشيطان كذلك لأبي هريرة في صورة شيخ يريد السرقة، ولقد شاهدهم ابن مسعود في صور مختلفة، وفي إحدى الليالي التي كلم فيها عليه الصلاة والسلام الجن، رأى ابن مسعود الجن يتقطعون مثل قطع السحاب، ومرة رآهم يتحدرون على الرسول كأمثال النسور والحجل، وغير ذلك مما هو من صفات الجن، ولقد ثبت وجودهم واتصالهم ببني آدم اتصالاً وثيقاً وأنهم يعيشون معهم على الأرض، وأحياناً يدخلون في أجسامهم ويتسلطون عليهم بكيفية لا يعلمها إلا الله. وبناء على ذلك فإن الجن يمكن أن يتشبهوا بالرياح, والأنوار مختلفة الألوان, وبالسحاب, والدخان, والشخصيات العظيمة، كما يمكن للجن تقليد أي شخصية حية أو ميتة بعد موتها، فأعمارها تزيد على أعمار بني آدم كما في بعض الآثار، كما أن تكليم الجني للإنسان على لسان إنسان أخر أمر ثابت كما تقدم معنا، وتحريك الجني لقلم ليكتب, أوسلسلة ترسم بواسطة قلم أو أثاث حجرة أو غير ذلك مما نسمع عنه أمر ممكن وواقع (¬1). فلم لا يكون ما يزعمه دعاة استحضار الأرواح من عبث مردة الجن الذين همهم السخرية ببعض البشر الذين يوافقونهم في أعمالهم؟!. عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة لعبد الكريم عبيدات - ص447 ¬

(¬1) ((مع رسل الله وكتبه واليوم الآخر)) (ص: 155).

المبحث الثاني: حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح

المبحث الثاني: حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح لقد شاع بين كثيرٍ من الناس من الكتّاب وغيرهم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح، وزعموا أنهم يستحضرون أرواح الموتى بطريقة اخترعها المشتغلون بهذه الشعوذة، يسألونها عن أخبار الموتى من نعيم وعذاب، وغير ذلك من الشئون التي يظن أن عند الموتى علماً بها في حياتهم. ولقد تأملت هذا الموضوع كثيراً فاتضح لي أنه علم باطل، وأنه شعوذة شيطانية يراد منها إفساد العقائد والأخلاق والتلبيس على المسلمين، والتوصل إلى دعوى علم الغيب في أشياء كثيرة. ولهذا رأيت أن أكتب في ذلك كلمة موجزة لإيضاح الحق والنصح للأمة وكشف التلبيس عن الناس، فأقول: لا ريب أن هذه المسألة مثل جميع المسائل يجب ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أثبتاه أو أحدهما أثبتناه، وما نفياه أو أحدهما نفيناه، كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]. ومسألة (الروح) من الأمور الغيبية التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها ومعرفة كنهها، فلا يصح الخوض فيها إلا بدليل شرعي، قال الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 27]، وقال سبحانه في سورة النمل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ الآية [النمل:65]. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بالروح في قوله تعالى في سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا [الإسراء: 85]، فقال بعضهم: إنه الروح الذي في الأبدان وعلى هذا فالآية دليل على أن الروح أمر من أمر الله لا يعلم الناس عنه شيئاً إلا ما علمهم الله إياه؛ لأن ذلك أمر من الأمور التي اختص الله سبحانه بعلمها وحجب ذلك عن الخلق، وقد دل القران الكريم والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أرواح الموتى تبقى بعد موت الأبدان، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .. الآية [الزمر: 42] وثبت: ((أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نراه انطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمدٍ بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا)) (¬1). ¬

(¬1) [14830])) رواه البخاري (3976) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم ((إن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه)) (¬1). قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به). ونقل ابن القيم أن ابن عباس رضي الله عنهما قال في تفسير قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 42]. (بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها). ثم قال ابن القيم رحمه الله: (وقد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبر). فهذا هو الذي عليه السلف من أن أرواح الأموات باقية إلى ما شاء الله وتسمع، ولكن لم يثبت أنها تتصل بالأحياء في غير المنام، كما أنه لا صحة لما يدعيه المشعوذون من قدرتهم على تحضير أرواح من يشاءون من الأموات ويكلمونها ويسألونها فهذه ادعاءات باطلة ليس لها ما يؤيدها من النقل ولا من العقل، بل إن الله سبحانه وتعالى هو العالم بهذه الأرواح والمتصرف فيها وهو القادر على ردها إلى أجسامها متى شاء ذلك، فهو المتصرف وحده في ملكه وخلقه لا ينازعه منازع. أما من يدعي غير ذلك فهو يدعي ما ليس له به علم، ويكذب على الناس فيما يروجه من أخبار الأرواح؛ إما لكسب مال، أو لإثبات قدرته على ما لا يقدر عليه غيره، أو للتلبيس على الناس لإفساد الدين والعقيدة. ¬

(¬1) رواه البخاري (1374)، ومسلم (2870).

وما يدعيه هؤلاء الدجالون من تحضير الأرواح إنما هي أرواح شياطين يخدمها بعبادتها وتحقيق مطالبها، وتخدمه بما يطلب منها كذباً وزوراً في انتحالها أسماء من يدعونه من الأموات، كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:112 - 113]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128]، وذكر علماء التفسير أن استمتاع الجن بالإنس بعبادتهم إياهم بالذبائح والنذور والدعاء، وأن استمتاع الإنس بالجن قضاء حوائجهم التي يطلبونها منهم، وإخبارهم ببعض المغيبات التي يطلع عليها الجن في بعض الجهات النائية، أو يسترقونها من السمع، أو يكذبونه وهو الأكثر، ولو فرضنا أن هؤلاء الإنس لا يتقربون إلى الأرواح التي يستحضرونها بشيء من العبادة فإن ذلك لا يوجب حل ذلك وإباحته؛ لأن سؤال الشياطين والعرافين والكهنة والمنجمين ممنوع شرعاً، وتصديقهم فما يخبرون به أعظم تحريماً وأكبر إثماً بل هو من شعب الكفر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) (¬1)، وفي مسند أحمد والسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (¬2). ¬

(¬1) [14832])) رواه مسلم (2230). (¬2) [14833])) رواه أبو داود (3904) , وزاد (أو أتى امرأتا حائضا أو أتى امرأتا في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (135) , وابن ماجه (639) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5/ 323) (9017) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (1/ 49) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/ 227): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)). وفي رواية: لأبي داود (3904) وأحمد (2/ 408) (9279) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول .... فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). والحديث سكت عنه أبو داود, وقال البخاري في ((التاريخ الكبير)) (3/ 17): لا يتابع عليه (حكيم الأثرم) ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/ 198): له متابعة, وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)).

وقد جاء في هذا المعنى أحاديث وآثار كثيرة، ولا شك أن هذه الأرواح التي يستحضرونها بزعمهم داخلة فيما منع منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها من جنس الأرواح التي تقترن بالكهان والعرافين من أصناف الشياطين فيكون لها حكمها، فلا يجوز سؤالها ولا استحضارها ولا تصديقها، بل كل ذلك محرم ومنكر بل وباطل، لما سمعت من الأحاديث والآثار في ذلك، ولأن ما ينقلونه عن هذه الأرواح يعتبر من علم الغيب، وقد قال الله سبحانه: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل: 65]. وقد تكون هذه الأرواح هي الشياطين المقترنة بالأموات الذين طلبوا أرواحهم فتخبر بما تعلمه من حال الميت في حياته مدعية أنها روح الميت الذي كانت مقترنة به، فلا يجوز تصديقها ولا استحضارها ولا سؤالها كما تقدم الدليل على ذلك. وما يحضِّره ليس إلا الشياطين والجن يستخدمهم مقابل ما يتقرب به إليهم من العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله، فيصل بذلك إلى حد الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة - نعوذ بالله من ذلك -. ولقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في دار الإفتاء السعودية فتوى عن التنويم المغناطيسي الذي هو أحد أنواع تحضير الأرواح هذا نصها: (التنويم المغناطيسي ضرب من ضروب الكهانة باستخدام جني يسلطه المنوِّم على المنوَّم، فيتكلم بلسانه ويكسبه قوةً على بعض الأعمال بسيطرته عليه إن صدق مع المنوم وكان طوعاً له، مقابل ما يتقرب به المنوِّم إليه، ويجعل ذلك الجني المنوَّم طوع إرادة المنوِّم يقوم بما يطلبه منه من الأعمال بمساعدة الجني له إن صدق ذلك الجني مع المنوم، وعلى ذلك يكون استغلال التنويم المغناطيسي واتخاذه طريقاً أو وسيلة للدلالة على مكان سرقة أو ضالة أو علاج مريض، أو القيام بأي عملٍ آخر بواسطة المنوِّم غير جائز بل هو شرك لما تقدم، ولأنه التجاء إلى غير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية التي جعلها الله سبحانه إلى المخلوقات وأباحها لهم) انتهى كلام اللجنة. وممن كشف حقيقة هذه الدعوى الباطلة الدكتور محمد محمد حسين في كتابه (الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها) وكان ممن خدع بهذه الشعوذة زمناً طويلاً، ثم هداه الله إلى الحق وكشف زيف تلك الدعوى بعد أن توغل فيها ولم يجد فيها سوى الخرافات والدجل، وقد ذكر أن المشتغلين بتحضير الأرواح يسلكون طرقاً مختلفة، منهم المبتدئون الذين يعتمدون على كوب صغير أو فنجان يتنقل بين حروف قد رسمت فوق منضدة، وتتكون إجابات الأرواح المستحضرة - حسب زعمهم - من مجموع الحروف بحسب ترتيب تنقله فيها، ومنهم من يعتمد على طريقة السلة يوضع في طرفها قلم يكتب الإجابات على أسئلة السائلين، ومنهم من يعتمد على وسيط كوسيط التنويم المغناطيسي. وذكر أنه يشك في مدعي تحضير الأرواح وأن وراءهم من يدفعهم بدليل الدعاية التي عملت لهم، فتسابقت إلى تتبع أخبارهم ونشر ادعاءاتهم صحف ومجلات لم تكن من قبل تنشط لشيء يمس الروح أو الحياة الآخرة، ولم تكن في يوم من الأيام داعية إلى الدين أو الإيمان بالله. وذكر أنهم يهتمون بإحياء الدعوة الفرعونية وغيرها من الدعوات الجاهلية، كما ذكر أن الذين روجوا لأصل هذه الفكرة هم أناس فقدوا عزيزاً عليهم فيعزون أنفسهم بالأوهام، وأن أشهر من روج لهذه البدعة السيد أوليفر لودج الذي فقد ابنه في الحرب العالمية الأولى، ومثله مؤسس الروحية في مصر أحمد فهمي أبو الخير الذي مات ابنه عام (1937 م)، وكان رزق به بعد طول انتظار.

وذكر الدكتور محمد محمد حسين أنه مارس هذه البدعة فبدأ بطريقة الفنجان والمنضدة فلم يجد فيها ما يبعث على الاقتناع، وانتهى إلى مرحلة الوسيط، وحاول مشاهدة ما يدعونه من تجسيد الروح أو الصوت المباشر ويرونه دليل دعواهم فلم ينجح هو ولا غيره؛ لأنه لا وجود لذلك في حقيقة الأمر، وإنما هي ألاعيب محكمة تقوم على حيل خفية بارعة ترمي إلى هدم الأديان. وأصبحت الصهيونية العالمية الهدامة ليست بعيدة عنها. ولما لم يقتنع بتلك الأفكار الفاسدة وكشف حقيقتها انسحب منها وعزم على توضيح الحقيقة للناس ويقول: (إن هؤلاء المنحرفين لا يزالون بالناس حتى يستلوا من صدورهم الإيمان وما استقر في نفوسهم من عقيدة ويسلمونهم إلى خليط مضطرب من الظنون والأوهام. ومدعو تحضير الأرواح لا يثبتون للرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلا صفة الوساطة الروحية، كما قال زعيمهم أرثر فندلاي في كتابه (على حافة العالم الأثري) عن الأنبياء هم: وسطاء في درجة عالية من درجات الوساطة، والمعجزات التي جرت على أيديهم ليست إلا ظواهر روحية كالظواهر التي تحدث في حجرة تحضير الأرواح). ويقول الدكتور حسين: (إنهم إذا فشلوا في تحضير الأرواح قالوا: الوسيط غير ناجح أو مجهد أو إن شهود الجلسة غير متوافقين، أو إن بينهم من حضر إلى الاجتماع شاكاً أو متحدياً). ومن بين مزاعمهم الباطلة أنهم زعموا أن جبريل عليه السلام يحضر جلساتهم ويباركها - قبحهم الله - انتهى المقصود من كلام الدكتور محمد محمد حسين. ومما ذكرناه في أول الجواب وما ذكرته اللجنة والدكتور محمد محمد حسين في التنويم المغناطيسي يتضح بطلان ما يدعيه محادثوا الأرواح من كونهم يحضرون أرواح الموتى ويسألونهم عما أرادوه، ويعلم أن هذه كلها أعمال شيطانية وشعوذة باطلة داخلة فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الكهنة والعرافين وأصحاب التنجيم ونحوهم، والواجب على المسئولين في الدول الإسلامية منع هذا الباطل والقضاء عليه وعقوبة من يتعاطاه حتى يكف عنه، كما أن الواجب على رؤساء تحرير الصحف الإسلامية أن لا ينقلوا هذا الباطل وأن لا يدنسوا به صحفهم، وإذا كان لابد من نقل فليكن نقل الرد والتزييف والإبطال والتحذير من ألاعيب الشياطين من الإنس والجن ومكرهم وخداعهم وتلبيسهم على الناس، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو المسئول سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، ويمنحهم الفقه في الدين، ويعيذهم من خداع المجرمين وتلبيس أولياء الشياطين إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز - 3/ 309 - 316

الفصل الثامن: دخول الجني في الإنسي

الفصل الثامن: دخول الجني في الإنسي قد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة على جواز دخول الجني بالإنسي وصرعه إياه .... وأنا أذكر لك أيها القارئ ما تيسر من كلام أهل العلم في ذلك إن شاء الله. بيان كلام المفسرين رحمهم الله في قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275]، قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، ما نصه: (يعني بذلك يخبله الشيطان في الدنيا وهو الذي يخنقه فيصرعه من المس يعني: من الجنون)، وقال البغوي رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه: لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، (أي: الجنون. يقال: مُس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنوناً) اهـ. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، (أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً). وقال ابن عباس رضي الله عنه: (آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق) رواه ابن أبي حاتم (¬1). قال: وروي عن عوف ابن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله. وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره على قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، (في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس). اهـ. وكلام المفسرين في هذا المعنى كثير من أراده وجده. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين) الموجود في مجموع الفتاوى (19/ 9 - 65) ما نصه بعد كلام سبق: (ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك. ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: أن الجني يدخل في بدن المصروع، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275]، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: (قلت: لأبي إن قوماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه وهذا مبسوط في موضعه). ¬

(¬1) [14834])) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/ 341). وصحح إسناده السيوطي في ((البدور السافرة)) (ص: 64). وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/ 330).

وقال أيضاً رحمه الله في (24/ من الفتاوى ص 276 - 277) ما نصه: (وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) (¬1). وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: (قلت لأبي إن أقواماً يقولون: إن الجني لا يدخل بدن المصروع، فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه)، وهذا الذي قاله أمر مشهور، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضرباً عظيماً لو ضرب به جمل لأثر به أثراً عظيماً، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع غير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول الآلات وينقل من مكانٍ إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علماً ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان، وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك). أهـ. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) (4/ 66 - 69) ما نصه: (الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع وقال: (هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج. وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها). إلى أن قال: (وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم. وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع: يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً، وأن يكون الساعد قوياً فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعاً! ويكون القلب خراباً من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له. ¬

(¬1) [14835])) رواه البخاري (2039).

والثاني من جهة المعالج: بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً، حتى أن من المعالجين من يكتفي بقوله: (اخرج منه) أو يقول: (بسم الله) أو يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اخرج عدو الله أنا رسول الله)) (¬1). وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه. ويقول قال لك الشيخ: اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه وربما كانت الروح ماردةً فيخرجها بالضرب. فيفيق المصروع ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً ... ) إلى أن قال: (وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه، وربما كان عرياناً فيؤثر فيه هذا .. ). انتهى المقصود من كلامه رحمه الله. وبما ذكرناه من الأدلة الشرعية وإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على جواز دخول الجني بالإنسي، يتبين للقراء بطلان قول من أنكر ذلك، وخطأ فضيلة الشيخ علي الطنطاوي في إنكاره ذلك. وقد وعد في كلمته أنه يرجع إلى الحق متى أرشد إليه فلعله يرجع إلى الصواب بعد قراءته ما ذكرنا، نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق. ومما ذكرنا أيضاً يعلم أن ما نقلته صحيفة (الندوة) في عددها الصادر في (14/ 10/ 1407 هـ) (ص: 8) عن الدكتور محمد عرفان من أن كلمة جنون اختفت من القاموس الطبي، وزعمه أن دخول الجني في الإنسي ونطقه على لسانه أنه مفهوم علمي خاطئ مائة في المائة. كل ذلك باطل نشأ عن قلة العلم بالأمور الشرعية وبما قرره أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وإذا خفي هذا الأمر على كثير من الأطباء لم يكن ذلك حجة على عدم وجوده، بل يدل ذلك على جهلهم العظيم بما علمه غيرهم من العلماء المعروفين بالصدق والأمانة والبصيرة بأمر الدين، بل هو إجماع من أهل السنة والجماعة، كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عن جميع أهل العلم، ونقل عن أبي الحسن الأشعري أنه نقل ذلك عن أهل السنة والجماعة، ونقل ذلك أيضاً عن أبي الحسن الأشعري العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي المتوفي سنة (799 هـ) في كتابه (آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان) في الباب الحادي والخمسين من كتابه المذكور. وقد سبق في كلام ابن القيم رحمه الله أن أئمة الأطباء وعقلاءهم يعترفون به ولا يدفعونه، وإنما أنكر ذلك جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم وزنادقتهم. فاعلم ذلك أيها القارئ وتمسك بما ذكرناه من الحق ولا تغتر بجهلة الأطباء وغيرهم، ولا بمن يتكلم في هذا الأمر بغير علم ولا بصيرة، بل بالتقليد لجهلة الأطباء وبعض أهل البدع من المعتزلة وغيرهم، والله المستعان .. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز 3/ 302 ¬

(¬1) [14836])) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (17584). قال البخاري في ((دلائل النبوة)) (6/ 22): أصح [يعني من رواية يعلى عن أبيه]. وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (6/ 146): طريقه جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/ 9): رجاله رجال الصحيح.

الباب السابع: وجوب لزوم الجماعة والاعتصام بالكتاب والسنة وذم البدع

المطلب الأول: الأدلة من الكتاب على لزوم الجماعة لقد وردت في كتاب الله الكريم، آيات تأمر المؤمنين وتحثهم على لزوم الجماعة، والائتلاف، وتبين لهم أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وهي حقيقة جاء تأكيدها في أكثر من موضع في القرآن الكريم. ولكن لابد لهذا الأصل العظيم من شروط يجب تحقيقها، وضوابط يجب مراعاتها، ولا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية الجليلة إلا باعتبار تلك الشروط والضوابط. لذلك جاءت آيات أخرى مبينة للشروط، وموضحة للضوابط، ومن أمثلة ذلك الأمر بإقامة الدين كله، بتوحيد الله تبارك وتعالى، واجتناب الشرك بكافة أنواعه وفروعه. ومن ذلك أيضاً الحث على الأخوة الإيمانية، والأمر بالتعاون على البر والتقوى. وقد استنبط العلماء –رحمهم الله- من هذه الآيات، المقومات الصحيحة لاجتماع المسلمين وتآلفهم. وفيما يلي ذكر أهم الأدلة من القرآن الكريم على وجوب لزوم الجماعة: (الدليل الأول) قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 102 - 103]. ذكر ابن جرير –رحمه الله- بأسانيده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا. قال: الجماعة (¬1). وذكر بأسانيده أقوالاً أخرى عن السلف في تفسير معنى (حبل الله) منها: القرآن، والإخلاص لله وحده، والإسلام (¬2). وهذه الأقوال مؤداها واحد، ونتيجتها واحدة، فإن الاعتصام بالقرآن، والإخلاص لله وحده، والتمسك بالإسلام الصحيح الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها مما ينتج عنه تآلف المسلمين واجتماعهم وترابطهم وترابطهم وتماسك مجتمعهم. وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله) (¬3). وقال ابن كثير رحمه الله: (وقوله وَلاَ تَفَرَّقُواْ أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة .. وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف). إلى أن قال: (وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً. وخيف عليهم الافتراق والاختلاف فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) (¬4). وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: عن عبد الله بن مسعود وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ. قال: الجماعة، روي عنه وعن غيره من وجوه، والمعنى كله متقارب متداخل فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة. ورحم الله ابن المبارك حيث قال: إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا (¬5) ¬

(¬1) ((جامع البيان عن تأويل القرآن)) (4/ 30 - 31)، ط الحلبي الثالثة (1388هـ). (¬2) ((جامع البيان عن تأويل القرآن)) (4/ 30 - 31)، ط الحلبي الثالثة (1388هـ). (¬3) ((جامع البيان)) (4/ 30). (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 389) ط- الحلبي. (¬5) ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/ 159)، ط دار الكاتب العربي – الثالثة 1387هـ.

وقال الشوكاني –رحمه الله-: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا. الحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية، وهو إما تمثيل أو استعارة. أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين) (¬1). وتبين لنا من كلام هؤلاء العلماء الأجلاء المنهج الصحيح الذي يؤدي إلى اجتماع كلمة المسلمين وتآلفهم. فإننا نلاحظ العبارة الدقيقة التي استعملها الطبري رحمه الله حيث قال: (والاجتماع على كلمة الحق). فإنه بدون هذا الضابط لا يكون الاجتماع صحيحا. فلابد من أن يكون أساس الاجتماع هو الحق وكلمة الحق، وهذه الكلمة غالباً ما تطلق على كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ولازمتها (محمد رسول الله) وذلك على فهم السلف الصالح لها بمراعاة شروطها، ولوازمها، وحقيقتها، ومعناها الصحيح مع معرفة نواقضها للاحتراز منها. ثم نلاحظ أن ابن كثير رحمه الله بعد ذكره للاختلاف والفرقة التي حصلت في هذه الأمة، جعل مناط النجاة والفوز أن يكون المسلم متمسكاً بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم فيكون بذلك من الفرقة الناجية وذلك لما ورد في حديث الافتراق الصحيح الذي سيأتي تخريجه في الفضل القادم. ويقول الشوكاني رحمه الله: (أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن). إذن فهي العودة الصحيحة إلى الينابيع التي قام عليها هذا الدين وهي الكتاب والسنة وما كان عليه سلفنا الصالح. أما حقيقة الاعتصام بكتاب الله فيوجزها ابن القيم رحمه الله (وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم وكشوفاتهم، ومواجيدهم. فمن لم يكن كذلك فهو منسل من هذا الاعتصام. فالدين كله في الاعتصام به وبحبله، علماً وعملاً، وإخلاصاً واستعانة، ومتابعة، واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة) (¬2). وأما قوله تعالى في آخر الآية: وَلاَ تَفَرَّقُواْ ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى أمره (¬3). ثم ذكر بسنده عن قتادة في قوله تعالى: وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ. أنه قال: (إن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة وقدم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة، والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله) (¬4). وقال القرطبي رحمه الله في شأن ما يستنبط من الآية من الأحكام: (الثانية قوله تعالى: وَلاَ تَفَرَّقُواْ يعني في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم. ¬

(¬1) ((فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير)) (1/ 367) ط الحلبي – الثانية سنة 1382هـ. (¬2) ((مدار السالكين)) (3/ 323) ط دار الكتب العلمية – بيروت 1392هـ. (¬3) ((جامع البيان)) (4/ 32). (¬4) ((جامع البيان)) (4/ 32).

عن ابن مسعود وغيره: ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخواناً، فيكون ذلك منعاً لهم عن التقاطع والتدابر، ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع، فإن ذلك ليس اختلافاً إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، ومازالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون) (¬1). وقال القرطبي رحمه الله: (وقال ابن عباس لسماك الحنفي: يا حنفي الجماعة الجماعة!! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله عز وجل يقول: واعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ). إلى أن قال: (فأوجب تعالى علينا التمس بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقاداً وعملاً، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين) (¬2). الذي يتأمل في كلام القرطبي رحمه الله وخاصة قوله: (وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقاداً وعملاً، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات) يدرك تماماً أن هذه هي الركيزة والقاعدة الأساسية في اجتماع كلمة المسلمين، وحصول تآلفهم، وأن هذا هو الحل الصحيح لمأساة الفرقة التي وقعت بين المسلمين، وأن أي حل تلفيقي آخر لن ينجح لحل مأساة فرقة المسلمين، مثل محاولة التقريب بين المذاهب العقدية التي طرحها بعض الناس في عصرنا. وهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران هي الآية الجامعة في هذا الباب، وكفى بها آية عظيمة استطاع المفسرون وعلماء الإسلام أن يستنبطوا منها مقومات الألفة والترابط التي تكفل اجتماع المسلمين وائتلافهم، وتقضي على أسباب الفرقة والاختلاف. الدليل الثاني: قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الحجرات: 10]. نصت هذه الآية الكريمة على مبدأ عظيم من مبادئ دين الإسلام ألا وهو التآخي في الله والتحابب فيه. وقد أولى الإسلام هذا الجانب عناية كبيرة، ويعتبر من الدعائم الرئيسية التي تقوم عليها وحدة المسلمين وائتلافهم واجتماعهم. لذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان من أول الأعمال العظيمة التي قام بها بعد هجرته إلى المدينة المنورة، هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. وقد كان لهذا التآخي عظيم الأثر في وحدة المجتمع المسلم وفي تماسكه وترابطه. يقول الشيخ محمد الصادق عرجون رحمه الله: "وبهذه المؤاخاة الاجتماعية في الارتفاق والمناصرة، والتعاون والتساعد والتعاضد، والحب في الله ولله الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم، أساساً لهذه المؤاخاة بقوله لأصحابه من المهاجرين والأنصار: "تآخوا في الله، أخوين، أخوين" تم تصحيح تركيب المجتمع المسلم. والتآخي في الله هو الثمرة الجنية العملية للحب في الله الذي اتخذته الوحدة الإيمانية عنواناً على وجودها في واقع حياة المجتمع المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث البخاري: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)) (¬3). ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/ 159). (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/ 164). (¬3) رواه البخاري (13)، ومسلم (45). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وتصحيح تركيب المجتمع المسلم على أساس الحب في الله ولله جعل من هذا المجتمع يداً واحدة، وكلمة واحدة، وعملاً واحداً، وذمة واحدة، ودما واحدا، وفكرا واحدا، ونظاماً واحداً في سياسته ووسائل حياته وتربيته وسلوكه وأخلاقياته، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح الثابت: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)) اهـ (¬1). (¬2). ولقد عد النبي صلى الله عليه وسلم، الحب في الله من أوثق عرى الإيمان فقال في الحديث الصحيح الذي يرويه عنه ابن عباس رضي الله عنهما: ((أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله)) (¬3). وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم، الحب في الله من الأسباب التي يجد بها المؤمن حلاوة الإيمان، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وعد منهم: ((رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) (¬5). وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في. المتحابون في على منابر من نور، يغبطهم بمكانهما النبيون والصديقون والشهداء)). (¬6) وهكذا نلاحظ أن الأخوة في الله كما أن فضلها عظيم فهي من ركائز الإيمان التي ينبغي لكل مسلم أن يعنى بها. والناظر في حياة المسلمين اليوم يرى أن هذا المبدأ العظيم قد اعتراه الوهن والضعف وذلك لتفريط المسلمين في حقه وعدم اعتنائهم به أفراداً وجماعات. فنجد على مستوى الأفراد عدم مراعاة حق الجوار حتى إن الجار قد لا يعرف جاره، وعلى مستوى الجماعات حصول القطيعة بين الجماعات التي تسلك طريق الدعوة إلى الله وتنادي بجمع كلمة المسلمين، وهم أولى بجمع كلمتهم وتآلفهم ليكونوا بذلك قدوة لمجتمعاتهم الإسلامية. الدليل الثالث: قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة: 71]. ¬

(¬1) ((محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (3/ 151) ط دار القلم – دمشق – الأولى سنة 1405هـ. (¬2) رواه أبو داود (4530)، والنسائي (4734)، بلفظ: (المؤمنون ..... ). والحديث سكت عنه أبي داود. وقال البزار في ((البحر الزخار)) (2/ 291): روي من غير وجه، وإسناده أحسن إسناداً يروى في ذلك وأصحه. وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 159). كما اشار عبد الحق الأشبيلي في مقدمة ((الأحكام الصغرى)) (597) إلى أنه صحيح الإسناد. (¬3) رواه الطبراني (11/ 215) (11537)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 70) (9513) وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (4/ 440) كما أشار إلى ذلك في المقدمة. (¬4) رواه البخاري (16)، ومسلم (43). (¬5) رواه البخاري (660)، ومسلم (1031). (¬6) رواه أحمد في (5/ 236) (22117)، وابن أبي الدنيا في ((الأخوان)) (ص: 9).

تقرر هذه الآية الكريمة مبدأ (الولاء) بين المؤمنين والمؤمنات، وهو مبدأ أوسع من المبدأ السابق الذي هو (التآخي). وما التآخي إلا جزء من الولاء، قال الشيخ محمد بن سعيد القحطاني في تعريف الولاء: (الولاية هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً) (¬1). وإن كان رابط التآخي قد وهن بين المسلمين فهذا الموضوع -وهو الولاء- قد وهن وضعف من باب أولى وذلك لأسباب أهمها: الأول: تفرق المسلمين إلى فرق وشيع وأحزاب حيث أصبح مبدأ الولاء مرتبطاً بالحزب والجماعة لا بالإسلام وهذا غبش في التصور. يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: (وإن الحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف من أعظم العوائق عن العلم، والتفريق عن الجماعة، فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي وغشيت المسلمين بسببها الغواشي) (¬2). الثاني: تكالب المسلمين على الدنيا وتنافسهم عليها مما سبب بينهم الأحقاد والحسد فأصبحت علاقات الناس مبنية على أمور الدنيا ومصالحها الزائلة وهذا انقلاب في المفاهيم. ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم، أمته من التنافس على الدنيا وعلل ذلك بأنه سبب للهلاك، وأخبر بأن هذا الأمر قد وقع في الأمم السابقة. ففي الحديث الذي رواه عمرو بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((أبشروا، وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) (¬3). وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) (¬4). وقد علق الشيخ محمد القحطاني على هذا الأثر –المنقول عن ابن عباس- بقوله: (وفي عصرنا الحاضر عصر المادة والدنيا قد أصبحت محبة الناس في الأغلب على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً. ولن تقوم للأمة الإسلامية قائمة إلا بالرجوع إلى الله والاجتماع على الحب فيه والبغض فيه والولاء وله والبراء ممن أمرنا الله بالبراء منه، وعندئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) (¬5). إذن فعلاج الوهن الذي أصاب هذا المبدأ الإسلامي العظيم إنما يكون بالرجوع إلى الجماعة وترك الفرقة، وبتحكيم الكتاب والسنة وتدبرهما وفهمهما وبالعودة إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم. الدليل الرابع: قول تعالى: فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال: 1]. وقال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9]. فقد حث سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمات على إصلاح ذات البين، وعلى الإصلاح بين المؤمنين إذا حصل بينهم ما يفرق جماعتهم، وما يكدر عليهم صفو ألفتهم، وما ذلك إلا ليبقى المجتمع المسلم مترابطاً متحاباً متآلفاً. ¬

(¬1) ((الولاء والبراء في الإسلام)) (ص: 90) ط أولى. دار طيبة، الرياض. (¬2) ((حلية طالب العلم)) (ص: 62) ط أولى سنة 1408هـ دار الراية، الرياض. (¬3) رواه البخاري (4015) ومسلم (2961). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (8/ 196). بلفظ: (أحب في الله ووال في الله وعاد في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، لا يجد رجل طعم الايمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك). (¬5) ((الولاء والبراء)) (ص: 92).

وإذا كان فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، فإن إصلاح ذات البين هو من أعظم القربات إلى الله عز وجل، لكن قد ينتبه المسلمون إلى إصلاح ذات البين في الأمور الدنيوية، من نكاح وبيوع وميراث وما إلى ذلك، ويغفلون عن إصلاح ذات البين فيما هو أعظم وأهم ألا وهو الاختلاف فيما لا يجوز الاختلاف فيه بحال وهو أمر الدين نفسه من عقائد وسلوك وعبادات والتي مبناها على النص والتوقيف. موقف السلف الصالح من إصلاح ذات البين في العقائد والسلوك والعبادة: إذا نظرنا إلى سيرة سلفنا الصالح في هذا الموضوع نجد نماذج كثيرة من العلماء الأعلام الذين كانت لهم جهود موفقة في رد أهل البدع والمخالفين لأهل السنة إلى الحق. فها هو ابن عباس رضي الله عنهما يذهب إلى الخوارج في عقر دارهم، ويناظرهم، ويزيل شبهاتهم، فيرجع منهم من شاء الله له الهداية والسلامة، ويبقى القليل فقط على بدعتهم لسيطرة أهوائهم عليهم. وها هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يثبت في الميدان وحده، ويعلن عقيدة السلف ويظهرها في أحلك الظروف وأصعبها، ويناظر خصومه بالكتاب والسنة دون أن يخشى في الله لومة لائم، حتى لو كان الرأي المخالف لأهل السنة يتبناه السلطان، ويفرض على المسلمين فرضا بالقوة (¬1). وها هو عبد العزيز الكناني رحمه الله لا يصبر لحظة واحدة عندما يسمع بخبر ظهور بدعة بشر المريسي ومن معه في العراق فيسافر من مكة إلى هناك بعد أن استخار الله ولجأ إليه بالدعاء أن يوفقه إلى إظهار الحق وقمع البدعة، وإقامة الحجة على خلقه، وفور وصوله إلى العراق قام بمناظرة المبتدعة جميعاً وهو وحده، فأقام عليهم الحجة، وأظهره الله عز وجل عليهم، مع أنه كان معرضاً نفسه للقتل إذا لم يستطع إقناع الأمير وإفحام الخصوم. وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يناظر المبتدعة بكل طوائفهم وفرقهم جماعات وأفراداً، كمناقشته لفرقة البطائحية (¬2)، وكمناقشته للبكري، فأفحمهم، وأقام الحجة عليهم، وأظهره الله على خصومه، والتزم السنة خلق كثير، وظهرت السنة وسطع نورها فاستبانت لكل ذي بصيرة، وانتشرت بين الناس، ولازالت مناظراته، وعلمه، ونصرته للسنة يجني المسلمون ثمارها إلى يومنا هذا. وكم من الأمثلة الكثيرة في تاريخ سلفنا الصالح المضيء لهذه المسألة المهمة ألا وهي إقامة الحجة على الناس ونشر العلم النافع، ونصر السنة، وقمع البدعة، وإصلاح ذات البين إصلاحاً علمياً صحيحاً لا كما ينادي به بعض المصلحين في عصرنا من الإصلاحات التلفيقية العاطفية. لقد قام العلماء الأجلاء من سلفنا الصالح بواجبهم خير قيام، ونصروا دين الله عز وجل وأظهروا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحاربوا البدع والضلالات. حتى وصل الأمر بهؤلاء العلماء الأفاضل أن جعلوا إظهار السنة ومحاربة البدعة أفضل من التنسك والنوافل من صيام وقيام وما إلى ذلك، وعللوا ذلك بأن التنسك والصيام والقيام يعود نفعه على الشخص نفسه فقط ولا يتعداه إلى غيره، أما نصرة دين الله وإظهار سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقمع البدع فيعود نفعها ويعم خيرها المسلمين جميعاً. ¬

(¬1) انظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 232 - 265) ط مؤسسة الرسالة – بيروت – الرابعة 1406هـ. (¬2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 445 - 476).

وما قام به علماء أهل السنة من نصرة لدين الله يعتبر علماً من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمته بخبر يفرح له كل من كان متابعاً لسنته وسائراً على هديه صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله)) (¬1). ولنا عبرة عظيمة وعظة بليغة في سيرة سلفنا الصالح ومنهجهم النبوي القويم في الدعوة إلى الله وإبلاغه إلى الناس، وفيما يلي بعض العبر والعظات: الأولى: يجب على من أنعم الله عليهم باقتفاء أثر السلف الصالح، والسير على منهج النبوة، ونور الله أفهامهم وبصائرهم، ورزقهم العلم النافع المستقى من مشكاة النبوة ومن النبع الصافي أن يسعوا في إصلاح ذات بين المسلمين الذين مزقتهم الفرق الضالة المبتدعة، ومزقت صفوفهم الحزبيات الضيقة والانتماءات الطائفية. الثانية: إن من أوجب الواجبات على العلماء وطلبة العلم في وقتنا هذا وفي كل وقت الدعوة إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة وإظهار دين الله عز وجل، وتبصير المسلمين بدينهم، وحثهم على العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحذيرهم من البدع والانحرافات والضلالات، وإزالة الشبهات التي زرعها أولئك المبتدعة الضالون بين أفراد المسلمين ومجتمعاتهم، وفي ذلك اقتفاء للأثر وائتساء بمن مضى من خير البشر. الثالثة: يجب على العلماء وطلبة العلم إخلاص دعوتهم لله ومن مقتضيات ذلك ولوازمه أن لا يحزبوا الناس حولهم، بل يكون ربطهم للناس بالكتاب والسنة والعقيدة الصحيحة والمنهج السليم، ويكون تعبيد الناس لله رب العالمين. ولا ينبغي ولا يجوز بحال أن تكون الدعوة إلى حزب أو طائفة أو شيخ معين، فلا معبود بحق إلا الله، ولا متبوع إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا انتماء إلا إلى الإسلام، ولا سبيل إلا السنة، ولا منهج إلا منهج أهل السنة والجماعة. الرابعة: ليثبت كل من كان على الطريق الصحيح والمنهج القويم على ما هو عليه متكلاً على الله، مخلصاً له الدين، مرتقياً في درجات الكمال والتقى فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق لجمال أحمد بادي- ص: 19 ¬

(¬1) رواه البخاري (7311)، ومسلم (1921). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

المطلب الثاني: الأدلة من السنة في الحث على الجماعة والأمر بلزومها

المطلب الثاني: الأدلة من السنة في الحث على الجماعة والأمر بلزومها الحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)) (¬1). يقول النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث العظيم: (وأما الاعتصام بحبل الله فهو التمسك بعهده, وهو اتباع كتابه العزيز, وحدوده والتأدب بأدبه. والحبل يطلق على العهد, وعلى الأمان, وعلى الوصلة, وعلى السبب, وأصله من استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم, ويوصلون بها المتفرق, فاستعير اسم الحبل لهذه الأمور. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تفرقوا)) فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين, وتآلف بعضهم ببعض وهذه إحدى قواعد الإسلام) (¬2). لقد اعتبر النووي رحمه الله لزوم جماعة المسلمين وتآلف المسلمين فيما بينهم إحدى قواعد الإسلام، وهذه القاعدة التي يؤصلها النووي بناء على ما جاء في الحديث الصحيح، هي قول علماء السلف قاطبة، وسيأتي ذكر بعض النقولات عنهم مما يبين ذلك ويؤكده. الحديث الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي هذه فحملها, فرب حامل الفقه فيه غير فقيه، ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم، إخلاص العمل لله عز وجل, ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين, فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) (¬3). الحديث الثالث: خطب عمر رضي الله عنه بالشام فقال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقامي فيكم. فقال: استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم, ثم الذين لونهم, ثم يفشوا الكذب حتى يعجل الرجل بالشهادة قبل أن يسألها, وباليمين قبل أن يسألها, فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة, فإن الشيطان مع الواحد ومن الاثنين أبعد، فمن سرته حسنته, وساءته سيئته فهو مؤمن)) (¬4). ففي هذين الحديثين الأمر الصريح بلزوم جماعة المسلمين، ولقد وقفت على كلام نفيس للإمام الشافعي رحمه الله يبين فيه معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بلزوم جماعة المسلمين. فبعد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله لحديث عمر السابق قال: (قال: فما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟ - قلت: لا معنى له إلا واحد. - قال: فكيف لا يحتمل إلا واحداً؟ - قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئاً، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما. ¬

(¬1) رواه مسلم (1715). (¬2) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (12/ 11). (¬3) [14865])) رواه ابن ماجه (194)، أحمد (3/ 225) (13374)، والطبراني (9/ 170) (9444). قال الجورقاني في ((الأباطيل والمناكير)) (1/ 236): مشهور حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬4) رواه الترمذي (2165)، وأحمد (1/ 18) (114)، والحاكم (1/ 198). قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 26): حسن صحيح، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 401): له طرق وهو حديث مشهور جداً، وصحح إسناده ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 388).

1320 - ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها) (¬1). ونستخلص من كلام الشافعي رحمه الله أن المقصود بلزوم جماعة المسلمين أن يتحقق في الشخص أمران: الأول: أن يتبع ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم. وهذا خاص بأمر الأحكام والمعاملات. الثاني: أن يقول بما تقول به جماعتهم. وهذا خاص بأمر الاعتقاد. والله أعلم. والمقصود هنا الكلام على المراد بمعنى لزوم جماعة المسلمين. أما من هي الجماعة المراد لزومها فسيأتي له مزيد بيان وتفصيل في الفصل القادم من هذا البحث إن شاء الله تعالى. الحديث الرابع: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي – تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم, من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا, ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها, ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬2). قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث ((دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)) (قال العلماء: هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج, والقرامطة, وأصحاب المحنة, وفي حديث حذيفة هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم, ووجوب طاعته وإن فسق, وعمل المعاصي) (¬3). ونلاحظ أن النووي رحمه الله قد أورد هذا الحديث تحت باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال, وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة (¬4). وقال ابن حجر رحمه الله في ثنايا شرحه لهذا الحديث: (قال ابن بطال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين, وترك الخروج على أئمة الجور) (¬5). ثم ذكر قول الطبري بأن الأمر هنا في الحديث للوجوب، وساق ما ذكره الطبري من أقوال في المراد بالجماعة، إلى أن قال: (قال: وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً فلا يتبع أحداً في الفرقة, ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر) (¬6). ويتبين لنا من كلام العلماء في شرحهم لحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أمور: الأول: وجوب ملازمة جماعة المسلمين. الثاني: عدم الخروج على أئمة الجور. الثالث: اعتزال الفرق عندما لا يكون للمسلمين إمام ولا جماعة. الحديث الخامس: ¬

(¬1) ((الرسالة)) للإمام الشافعي بتحقيق أحمد شاكر (ص: 474 - 476). (¬2) رواه البخاري (3606)، ومسلم (1847). (¬3) ((صحيح مسلم بشرح البخاري)) (12/ 237). (¬4) ((صحيح مسلم بشرح البخاري)) (12/ 237). (¬5) ((فتح الباري)) (13/ 37) ط دار الفكر. (¬6) ((فتح الباري)) (13/ 37) ط دار الفكر.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ إلى النار)) (¬1). الحديث السادس: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً – قال- يد الله على الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذَّ شذَّ في النار)) (¬2). الحديث السابع: عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((يد الله على الجماعة, فإذا شذَّ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الشاة ذئب الغنم)) (¬3). الحديث الثامن: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة, فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم)) (¬4). الحديث التاسع: عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((اثنان خير من واحد، وثلاث خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة فإن الله عز وجل لن يجمع أمتي إلا على هدى)) (¬5). الحديث العاشر: عن كعب بن عاصم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن الله تعالى قد أجار لي على أمتي من ثلاث: لا يجوعوا، ولا يجتمعوا على ضلالة، ولا يستباح بيضة المسلمين)) (¬6). نلاحظ أن الأحاديث الستة السابقة متقاربة الألفاظ، وقد جعلت التعليق عليها جميعها بعد سردها لهذا السبب، وهي تدل على أمور منها: الأول: أنَّ أمة الإسلام لا تجتمع على ضلالة، والمراد هنا هو إجماع العلماء خاصة. يقول المباركفوري رحمه الله عند شرحه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: (الحديث يدل على أن اجتماع المسلمين حق, والمراد إجماع العلماء, ولا عبرة بإجماع العوام لأنه لا يكون عن علم). الثاني: حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم، أمته على الجماعة، وعلى اعتبار أن المراد باجتماع الأمة هو إجماع العلماء، فإن العوام تبع لهم في ذلك, وعليهم متابعة العلماء, وعدم الخروج عما أجمعوا عليه من أمور الدين. الثالث: ¬

(¬1) رواه الترمذي (2166) مختصراً، والحاكم (1/ 202)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (702). قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: لا أدعي صحته ولا أحكم بتوهينه بل يلزمني ذكره، وقال ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/ 114): رجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن ميمون فإنهما لم يخرجا له، وقد وقع لي من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري لكن موقوفاً، وحسنه السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (315). (¬2) [14874])) رواه الترمذي (2167)، والحاكم (1/ 200). قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 27): وإن لم يكن لفظه صحيحاً فإن معناه صحيح. (¬3) رواه الطبراني (1/ 186) (492). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/ 221): فيه عبد الأعلى بن أبي المساور وهو ضعيف. (¬4) رواه ابن ماجه (788). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 272)، وابن كثير في ((تحفة الطالب)) (ص: 122): إسناده ضعيف، وقال العراقي في ((تخريج مختصر المنهاج)) (ص: 49): فيه نظر. (¬5) رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على ((المسند)) (5/ 145) (21331). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 182): فيه البختري بن عبيد بن سلمان وهو ضعيف، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) (1797): موضوع. (¬6) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (ص: 92) وحسنه الألباني.

الوعيد الشديد لمن فارق الجماعة، ويفهم هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن شذَّ شذَّ في النار)) (¬1). الرابع: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم)) (¬2). الخامس: وفي الأحاديث بشرى لمن امتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن لزم الجماعة، ويفهم هذا من وجهين: الوجه الأول: بصريح العبارة حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((يد الله مع الجماعة)) (¬3) الوجه الثاني: بمفهوم المخالفة حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((ومن شذَّ شذَّ في النار)) (¬4). فدل هذا على أن من لزم الجماعة فهو في الجنة, وقد جاء التصريح بهذه البشرى في حديث عمر رضي الله عنه حيث جاء فيه: ((من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)) (¬5). الحديث الحادي عشر: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجماعة رحمة, والفرقة عذاب)) (¬6). وهذا الأمر العظيم الذي قرره الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث الشريف هو من الأصول الإعتقادية لأهل السنة والجماعة, حيث أدرجه الإمام الطحاوي رحمه الله ضمن بيان عقيدة أهل السنة والجماعة بقوله: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً) (¬7). الحديث الثاني عشر: عن الحارث الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات ... )). فذكر الحديث بطوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس كلمات أمرني الله بهن: الجماعة، والسمع والطاعة, والهجرة والجهاد في سبيل الله, فمن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع)) (¬8). ¬

(¬1) [14879])) رواه الترمذي (2167). وقال: غريب من هذا الوجه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 27): وإن لم يكن لفظه صحيحاً فإن معناه صحيح. (¬2) رواه ابن ماجه (788). قال البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (2/ 272)، وابن كثير في ((تحفة الطالب)) (ص: 122): إسناده ضعيف، وقال العراقي في ((تخريج مختصر المنهاج)) (ص: 49): فيه نظر. (¬3) [14881])) رواه الترمذي (2167). وقال: غريب من هذا الوجه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 27): وإن لم يكن لفظه صحيحاً فإن معناه صحيح. (¬4) [14882])) رواه الترمذي (2167). وقال: غريب من هذا الوجه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 27): وإن لم يكن لفظه صحيحاً فإن معناه صحيح. (¬5) رواه الترمذي (2165)، وأحمد (1/ 18) (114)، والحاكم (1/ 198). قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/ 26): حسن صحيح، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 401): له طرق وهو حديث مشهور جداً، وصحح إسناده ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (5/ 388). (¬6) رواه عبد الله بن أحمد فى زوائد المسند (4/ 375) (19370)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) (5/ 220)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 516)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 103). وقال: إسناده لا بأس به، وحسنه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 332)، وقال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني ورجالهما ثقات. (¬7) انظر ((متن الطحاوية)) (ص: 15) فقرة 102 ط المكتب الإسلامي، و ((شرح الطحاوية)) (ص: 512) ط 8 المكتب الإسلامي. (¬8) رواه الترمذي (2863)، وأحمد (4/ 130) (17209)، وابن حبان (14/ 124) (6233)، والحاكم (1/ 582). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (5/ 304): حسن غريب، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (8/ 6).

فالأمر بالجماعة والائتلاف هو أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين، وأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأمته، والأمر للوجوب كما هو معلوم ومقرر في علم الأصول، وعلى قدر امتثال المؤمنين لهذا الأمر تكون سعادتهم في الدنيا، وحسن العاقبة في الآخرة. وتوجد أحاديث أخرى في الباب تعاضد الأحاديث السابقة وتدل إجمالاً على ما دلت عليه. فمنها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) (¬1). ومنها حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم, وتراحمهم, وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬2). ومن الأحاديث التي رويت مرفوعة بسند ضعيف وصحت موقوفة على ابن مسعود رضي الله عنه ما رواه اللالكائي بسنده عن ثابت بن قطبة قال: (سمعت ابن مسعود وهو يخطب. وهو يقول: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما السبيل في الأصل إلى حبل الله الذي أمر به, وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة) (¬3). وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق لجمال بن أحمد بادي – ص: 65 ¬

(¬1) رواه البخاري (481)، ومسلم (2585). (¬2) رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586). (¬3) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 108)، ورواه الطبراني (9/ 198) (8971)، والحاكم (4/ 598). وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 331): رواه الطبراني بأسانيد وفيه مجالد وقد وثق وفيه خلاف وبقية رجال إحدى الطرق ثقات.

المبحث الثاني: ذم التفرق والاختلاف

الفرع الأول الأدلة من الكتاب على ذم التفرق والتحذير منه يلاحظ الباحث في آيات القرآن الكريم أن الآيات التي جاءت في ذم الفرقة أكثر عدداً من الآيات التي جاءت في الحث على الجماعة، ولا غرابة في ذلك لأن الجماعة هي الأصل وملازمتها هو الواجب والمطلوب، أما مفارقة الجماعة فأمر طارئ وحادث وهو مع ذلك أمر خطير وشنيع، فلذلك جاءت الآيات الكثيرة التي تحذر منه وتحمل في ثناياها الوعيد الشديد لمن ترك الجماعة وفارقها. وفيما يلي ذكر هذه الأدلة: الدليل الأول: قوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران: 105 - 107]. قال ابن جرير رحمه الله يعني بذلك جل ثناؤه: (ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا كالذين تفرقوا من أهل الكتاب، واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه، من بعد ما جاءهم البينات، من حجج الله، فيما اختلفوا فيه، وعلموا الحق فيه، فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمر الله، ونقضوا عهده وميثاقه، جرأة على الله، وأولئك لهم يعني ولهؤلاء الذين تفرقوا، واختلفوا من أهل الكتاب، من بعد ما جاءهم عذاب من عند الله عظيم، يقول جل ثناؤه: "فلا تفرقوا يا معشر المؤمنين في دينكم تفرق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم) (¬1). ثم ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: (قوله: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ [آل عمران: 105]: ونحو هذا في القرآن أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله) (¬2). وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيات السابقة: (ينهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم) (¬3). ثم ساق الإمام ابن كثير رحمه الله حديث الافتراق الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله ثم قال: (وقد ورد هذا الحديث من طرق) وذلك إشارة إلى توثيقه وتقويته. وقال القرطبي رحمه الله: (فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طرداً وإبعاداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع، كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والخبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وقد قال ابن القاسم: وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء. وكان يقول: تمام الإخلاص تجنب المعاصي) (¬4). ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (4/ 39). (¬2) ((جامع البيان)) (4/ 39). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 390). (¬4) ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/ 168).

وقال الشوكاني رحمه الله في تفسير الآية: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ: (هم اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين، وقيل: هم المبتدعة من هذه الأمة، وقيل: الحرورية، والظاهر الأول، والبينات الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة لعدم الاختلاف) (¬1). أما قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. فقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: (يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة – قاله ابن عباس رضي الله عنهما) (¬2). والقول الذي ذكره ابن كثير رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما منقول عن الإمام مالك رحمه الله كما نص على ذلك الشاطبي بقوله: (وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: ما آية من كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ إلى قوله بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. قال مالك: فأي كلام أبين من هذا؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء. ورواه ابن القاسم وزاد: قال مالك: إنما هذه الآية لأهل القبلة) (¬3). وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق – جمال بن أحمد بادي – ص: 29 الدليل الثاني: قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]. قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس في هاتين الآيتين من قوله: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 151]. وأمركم بالوفاء به، هو صراطه، يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده (مستقيماً) يعني: قويماً لا أعوجاج به عن الحق (فاتبعوه). يقول: فاعملوا به، واجعلوه لأنفسكم منهاجاً تسلكونه فاتبعوه (ولا تتبعوا السبل) يقول: ولا تسلكوا طريقاً سواه، ولا تركبوا منهاجاً غيره، ولا تبغوا ديناً خلافه من اليهودية والنصرانية والمجوسية، وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل، فإنها بدع وضلالات (فتفرق بكم عن سبيله) يقول: فيشتت بكم إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق، ولا أديان أتباعكم إياها (عن سبيله)، يعني عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه، وهو الإسلام الذي وصى به الأنبياء وأمر به الأمم قبلكم) (¬4). ثم ذكر ابن جرير رحمه الله بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً. فقال: هذا سبيل الله، ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطاً، فقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. ثم ذكر بسنده أيضاً أن رجلاً قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم، في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ... الآية) (¬5). ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (1/ 370). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 390). (¬3) ((الاعتصام)) (2/ 290). (¬4) ((جامع البيان)) (8/ 87 - 88). (¬5) ((جامع البيان)) (8/ 88 - 89).

وقال ابن كثير رحمه الله: (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. وفي قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13]. ونحو هذا في القرآن قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا. قاله مجاهد وغير واحد) (¬1). ثم ساق ابن كثير رحمه الله حديث ابن مسعود وذكر تخريجه. وقال الشوكاني رحمه الله في تفسير الآية: (قال ابن عطية: وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية، والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد) (¬2). إلى أن قال رحمه الله: "وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا: قُلْ تَعَالَوْاْ إلى ثلاث آيات، ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه)) (¬3). وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق – جمال بن أحمد بادي – ص: 33 الدليل الثالث: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159]. ذكر ابن جرير رحمه الله أن علي بن أبي طالب قرأ: (فارقوا دينهم) (¬4). قال: "وكأن عليا ذهب بقوله (فارقوا دينهم) خرجوا فارتدوا عنه من المفارقة، وأما الجمهور فقرأوا (فرقوا) (¬5). ثم قال: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان، قد قرأت بكل واحدة منهما أئمة من القراء، وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه، وذلك أن كل ضال فلدينه مفارق) (¬6). ثم ذكر بعد ذلك الأقوال عن السلف في المقصودين بتلك الآية. فقال بعضهم: عنى بذلك اليهود والنصارى (¬7). ثم ذكر بأسانيده من قال بذلك القول (¬8) ثم قال: (وقال آخرون: عنى بذلك: أهل البدع من هذه الأمة الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه) (¬9). ثم ذكر بأسانيده من قال بذلك القول (¬10). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 190). (¬2) ((فتح القدير)) (2/ 178). (¬3) ((فتح القدير)) (2/ 178). (¬4) ((جامع البيان)) (8/ 104 - 105). (¬5) ((جامع البيان)) (8/ 104 - 105). (¬6) ((جامع البيان)) (8/ 104 - 105). (¬7) ((جامع البيان)) (8/ 104 - 105). (¬8) ((جامع البيان)) (8/ 104 - 105). (¬9) ((جامع البيان)) (8/ 104 - 105). (¬10) ((جامع البيان)) (8/ 104 - 105).

ثم قال ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية: (فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم، من مشرك ووثني ويهودي ونصراني ومتحنف مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضل به عن الصراط المستقيم والدين القيم، ملة إبراهيم المسلم، فهو برئ من محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد نه برئ، وهو داخل في عموم قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (¬1). إلى أن قال: (وأما قوله: إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ فإنه يقول: أنا الذي إلي أمر هؤلاء المشركين الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً، والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك دونك، ودون كل أحد إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم، وفرقتهم دينهم فأهلكهم بها، وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم) (¬2). وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق فمن اختلف فيه (وكانوا شيعاً) أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما هم فيه وهذه الآية كقوله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى: 13] الآية. وفي الحديث: ((نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد)) فهذا هو الصراط المستقيم هو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له والتمسك بشريعة الرسول المتأخر وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء والرسل برءآء منها كما قال الله تعالى: لَّسْتَ مِنْهُمْ) (¬3). وقال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية: (قوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ. قرأ حمزة والكسائي: (فارقوا) بالألف هنا وفي سورة الروم، أي خرجوا من دينهم وتركوه وقرأ الآخرون: (فَرَّقُواْ) مشدداً، أي جعلوا دين الله وهو واحد، دين إبراهيم عليه السلام الحنيفية، أدياناً مختلفة فتهود قوم وتنصر قوم يدل عليه قوله عم وجل: وَكَانُواْ شِيَعًا. أي: صاروا فرقاً مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي، وقيل: هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة) (¬4). ثم استشهد بحديث العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا موعظة بليغة رفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، وقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا: فقال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإن من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)). ثم ذكر حديث الافتراق. ثم قال: "قوله عز وجل: لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ. قيل: لست من قتالهم في شيء نسختها آية القتال، وهذا على قول من يقول: المراد منه اليهود والنصارى، ومن قال أراد بالآية أهل الأهواء قال: المراد من قوله لست منهم في شيء أي أنت بريء منهم وهم منك براء، تقول العرب إن فعلت كذا فلست مني ولست منك أي: كل واحد منا بريء من صاحبه، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ يعني: في الجزاء والمكافأت، ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ. إذا ردوا للقيامة" (¬5). ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (8/ 106). (¬2) ((جامع البيان)) (8/ 107). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 196). (¬4) ((معالم التنزيل)) (2/ 145)، ط دار المعرفة -بيروت- الأولى سنة 1406هـ. (¬5) ((معالم التنزيل للبغوي)) (2/ 145).

وقال الشوكاني رحمه الله: (قرأ حمزة والكسائيس (فارقوا دينهم) وهي قراءة علي بن أبي طالب، أي تركوا دينهم خرجوا عنه، وقرأ الباقون فرقوا بالتشديد إلا النخعي فإنه قرأ بالتخفيف. والمعنى: أنهم جعلوا ينهم تفرقاً فأخذوا ببعضه وتركوا بعضه، قيل المراد بهم اليهود والنصارى، وقد ورد في معنى هذا، في اليهود قوله تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 4]. وقيل المراد بهم المشركون عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة، وقيل الآية عامة في جميع الكفار وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله، وهذا هو الصواب لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب وطوائف المشركين وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام، ومعنى شيعاً فرقاً وأحزاباً، فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً، ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ويباين الحق) (¬1). وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: (يتوعد تعالى، الذين فرقوا دينهم، أي شتتوه وتفرقوا فيه، وكل أخذ لنفسه نصيباً من الأسماء، التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئاً، كاليهودية والنصرانية، والمجوسية، أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئاً، ويجعله دينه، ويدع مثله. أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة، من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة. ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أصل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية) (¬2). وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق – جمال بن أحمد بادي – ص: 39 الدليل الرابع: قال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118 - 119]. قال ابن جرير رحمه الله: يقول تعالى ذكره: "ولو شاء ربك يا محمد لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة، ودين واحد". كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً. يقول: لجعلهم مسلمين كلهم. وقوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. يقول تعالى ذكره: (ولا يزال الناس مختلفين إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. ثم اختلف أهل التأويل في الاختلاف الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به، فقال بعضهم: هو الاختلاف في الأديان، فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء، ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتى من بين يهودي ونصراني ومجوسي، ونحو ذلك. وقال قائلوا هذه المقالة: استثنى الله من ذلك من رحمهم، وهم أهل الإيمان) (¬3). ثم ذكر بأسانيده من قال بذلك القول، فذكر عن عطاء والحسن أقوالهم في ذلك. ثم قال: (وعن مجاهد وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ قال: أهل الباطل. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. قال: أهل الحق) (¬4). ثم ذكر ابن جرير رحمه الله بسنده عن قتادة: (قوله وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. فأهل رحمة الله أهل جماعة وإن تفرقت دورهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم) (¬5). ¬

(¬1) ((فتح القدير)) (2/ 183). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (2/ 510)، ط الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية. (¬3) ((جامع البيان)) (12/ 141). (¬4) ((جامع البيان)) (12/ 141). (¬5) ((جامع البيان)) (12/ 142 - 143).

ثم قال ابن جرير رحمه الله: (وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يزالون مختلفين في الرزق، فهذا فقير، وهذا غني) (¬1). ونسب هذا القول إلى الحسن البصري رحمه الله. ثم قال ابن جرير: -أيضا- (وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. فآمن بالله، وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله، وما جاءهم من عند الله. وإنما قلت: ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119]. ففي ذلك دليل واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو خبر عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبراً عن اختلافهم في الرزق لم يعقب ذلك بالخبر عن عقابهم وعذابهم) (¬2). وقال ابن جرير رحمه الله: (وأما قوله: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ. فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: وللاختلاف خلقهم) (¬3) ثم ذكر بأسانيده من قال بهذا القول. وذكر بسنده عن الحسن البصري رحمه الله قال: (خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه) (¬4). وذكر عن الحسن أيضاً: (قال وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، قال: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافاً يضرهم) (¬5). وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: (قوله: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قال: خلقهم فريقين. فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم يختلف، وذلك قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105]) (¬6). وذكر عن عطاء رحمه الله في قوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. قال: يهود نصارى ومجوس إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. قال: من جعله على الإسلام وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قال: مؤمن وكافر (¬7). وذكر عن أشهب أنه قال: سئل مالك عن قوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير (¬8). ثم قال ابن جرير رحمه الله: (وقال آخرون: بل معنى ذلك: وللرحمة خلقهم) (¬9). ثم ذكر بأسانيده من قال بذلك القول. ومنهم مجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة وابن عباس (¬10). ثم قال ابن جرير: (وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، لأن الله جل ذكره، ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل. والآخر أهل حق ثم عقب ذلك بقوله وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ فعم بقوله وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له) (¬11). ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (12/ 142 - 143). (¬2) ((جامع البيان)) (12/ 141 - 143). (¬3) ((جامع البيان)) (12/ 143). (¬4) ((جامع البيان)) (12/ 143). (¬5) ((جامع البيان)) (12/ 143). (¬6) ((جامع البيان)) (12/ 143). (¬7) ((جامع البيان)) (12/ 143). (¬8) ((جامع البيان)) (12/ 143). (¬9) ((جامع البيان)) (12/ 143). (¬10) ((جامع البيان)) (12/ 143 - 144). (¬11) ((جامع البيان)) (12/ 144).

ثم رد على شبهة الجبرية بقوله: (فإن قال قائل: فإن كل تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفين غير ملومين على اختلافهم، إذ كان لذلك خلقهم ربهم، وأن يكون المتمتعون هم الملومين؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت. وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. فهداه للحق، ولعلمه، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد خلقهم، فمعنى اللام في قوله وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ بمعنى (على) كقولك للرجل. أكرمتك على برك بي، وأكرمتك لبرك بي) (¬1). وقال ابن كثير رحمه الله: (وقوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم، قال عكرمة مختلفين في الهدى، قال الحسن البصري مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضاً، والمشهور الصحيح الأول. وقوله: إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. أي المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين، أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه وآزروه ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضاً) (¬2). ثم ساق حديث الافتراق، وسيأتي ذكر طرقه وتخريجه في الفصل الثالث من هذا البحث إن شاء الله تعالى. ثم ذكر الأثر التالي عن طاوس: (عن ابن أبي نجيح عن طاوس أن رجلين اختصما إليه فأكثروا فقال طاوس: اختلفتما وأكثرتما فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا فقال طاووس: كذبت. فقال: أليس الله يقول: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ؟ قال لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة) (¬3). وقال القرطبي رحمه الله: (وقيل: الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشار بـ (ذلك) إلى شيئين متضادين، كقوله تعالى: لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة: 68]. ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]. وقال: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء: 110] وكذلك قوله: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [يونس: 58]. وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى، لأنه يعم، أي ولما ذكر خلقهم) (¬4). وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: (يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء. ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالون مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما قاله، والضلال في قول غيره. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. فهداهم على العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية، والتوفيق الإلهي. وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم. ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (12/ 144). (¬2) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 465). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 465). (¬4) ((الجامع لأحكام القرآن)) (9/ 114 - 115).

وقوله: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليه الضلالة. ليتبين للعباد عدله، وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات، التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء) (¬1). وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق - جمال بن أحمد بادي - ص: 45 الدليل الخامس: قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 30 - 32]. يقول ابن جرير رحمه الله: (وقوله مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا. يقول: ولا تكونوا من المشركين الذين بدلوا دينهم، وخالفوه ففارقوه وَكَانُوا شِيَعًا يقول: وكانوا أحزاباً فرقاً كاليهود والنصارى) (¬2). ويقول ابن كثير رحمه الله: (فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة. وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء وهذه الأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة وهم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل صلى الله عليه وسلم، عن الفرقة الناجية منهم فقال: ((من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي))) (¬3). وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ مع أن الدين واحد، وهو إخلاص العبادة لله وحده وهؤلاء المشركون، فرقوه. منهم من يعبد الأوثان والأصنام، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم يهود، ومنهم نصارى. ولهذا قال: وَكَانُواْ شِيَعًا. أي: كل فرقة، تحزبت وتعصبت، على نصر ما معها من الباطل، ومنابذة غيرهم ومحاربتهم كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. من العلوم المخالفة لعلوم الرسل فَرِحُونَ به، ويحكمون لأنفسهم بأنه الحق، وأن غيرهم على باطل. وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقاً، كل فريق يتعصب لما معه من حق وباطل، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين، في التفرق، بل الدين واحد، والرسول واحد، والإله واحد. وأكثر الأمور الدينية وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمة، والأخوة الإيمانية قد عقدها الله وربطها أتم ربط. فما بال ذلك كله يلغى ويبنى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية، أو فروع خلافية، يضلل بها بعضهم بعضاً، ويتميز بها بعضهم على بعض؟ فهل هذا إلا من أكبر نزغات الشيطان، وأعظم مقاصده، التي كاد بها المسلمين؟ وهل السعي في جمع كلمتهم، وإزالة ما بينهم من الشقاق، المبني على ذلك الأصل الباطل، إلا من أفضل الجهاد في سبيل الله، وأفضل الأعمال المقربة إلى الله؟) (¬4). وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق - جمال بن أحمد بادي - ص: 52 الدليل السادس: ¬

(¬1) ((تيسير الكريم الرحمن)) (3/ 470). (¬2) ((جامع البيان)) (21 - 42). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 433). (¬4) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنام)) (6/ 128).

قوله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13]. قال ابن جرير رحمه الله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض) (¬1) إلى أن قال: (وقوله وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ يقول: ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتم بالقيام به، كما اختلف الأحزاب من قبلكم) (¬2). ثم ذكر بسنده عن قتادة (قوله وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ تعلموا أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة) (¬3). وقال ابن كثير رحمه الله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي: وصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالأئتلاف والجماعة ونهاهم عن الإفتراق والاختلاف) (¬4). وقال البغوي رحمه الله: (بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة) (¬5). وقال الشوكاني رحمه الله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي: توحيد الله والإيمان به وطاعة رسله وقبول شرائعه) (¬6). إلى أن قال رحمه الله: (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي: لا تختلفوا في التوحيد والإيمان بالله وطاعة رسله وقبول شرائعه، فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع وتوافقت فيها الأديان، فلا ينبغي الخلاف في مثلها وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة، وتتعارض فيها الأمارات وتتباين فيها الأفهام، فإنها من مطارح الاجتهاد ومواطن الخلاف) (¬7). وقال الشيخ السعدي رحمه الله: (قال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي: أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي: ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل، وتحزبكم أحزاباً وشيعاً، يعادي بعضكم بعضاً، مع اتفاقكم على أصل دينكم) (¬8). وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق – جمال بن أحمد بادي – ص: 55 ¬

(¬1) ((جامع البيان)) (25/ 15). (¬2) ((جامع البيان)) (25/ 15). (¬3) ((جامع البيان)) (25/ 15). (¬4) ((تفسير ابن كثير)) (4/ 109). (¬5) ((معالم التنزيل)) (4/ 122). (¬6) ((فتح القدير)) (4/ 530). (¬7) ((فتح القدير)) (4/ 530). (¬8) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (6/ 599).

الفرع الثاني: الأدلة من السنة على ذم التفرق والتحذير منه

الفرع الثاني: الأدلة من السنة على ذم التفرق والتحذير منه الحديث الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فارق الجماعة شبراً فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه)). الحديث الثاني: وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن الله أمرني بالجماعة وأنه من خرج من الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)). الحديث الثالث: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((من فارق الجماعة، فإنه يموت ميتة جاهلية)). المقصود بمفارقة الجماعة هنا، الجماعة التي لها إمام منتصب، فلا يجوز الخروج على هذا الإمام ولا نكث بيعته، ويؤيد هذا أن هذه الأحاديث الثلاثة قد وردت بألفاظ أخرى متقاربة وفيها: ((من خرج من السلطان شبراً)) بدل ((من خرج من الجماعة شبراً)). والحديث مروي عن ابن عباس نفسه رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)). وفي رواية عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية)). قال ابن حجر رحمه الله: (وقوله (شبراً) بكسر المعجمة وسكون الموحدة وهي كناية عن معصيته السلطان ومحاربته، قال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق) (¬1). إلى أن قال: (والمراد بالميتة الجاهلية وهي بكسر الميم حالة الموت كموت أهل الجاهلية على ضلال وليس له إمام مطاع، لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافراً بل يموت عاصياً) (¬2). وقال أيضاً: (في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها) (¬3). الحديث الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة – وفي رواية (ويغضب لعصبته ويقاتل لعصبته وينصر عصبته) فقتل فقتله جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه)). وهذا الحديث مثل الأحاديث السابقة في الدلالة. قال النووي رحمه الله في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: ((مات ميتة جاهلية)): (هي بكسر الميم أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم) (¬4). وقال أيضاً: (قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن قاتل تحت راية عمية)) هي بضم العين وكسرها لغتان مشهورتان والميم مكسورة مشددة والياء مشددة أيضاً، قالوا هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور قال إسحاق بن راهويه هذا كتقاتل القوم للعصبية) (¬5). ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (13/ 6 - 7). (¬2) ((فتح الباري)) (13/ 17). (¬3) ((فتح الباري)) (13/ 17). (¬4) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (12/ 238). (¬5) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (12/ 238).

وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة)). قال النووي رحمه الله: (ومعناه إنما يقاتل عصبية لقومه وهواه) (¬1). وحول معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها)). قال النووي: (ومعناه لا يكترث بما يفعله فيها ولا يخاف وباله) (¬2). الحديث الخامس: عن عرفجة بن شريح الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: ((إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان)). وفي رواية (فاقتلوه). وفي رواية للنسائي عن أسامة بن شريك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه)). قال النووي رحمه الله في شرح الحديث: (فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك وينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتل كان هدراً، فقوله صلى الله عليه وسلم، فاضربوه بالسيف وفي الرواية الأخرى فاقتلوه معناه: إذا لم يندفع إلا بذلك) (¬3). الحديث السادس: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك الجماعة)). قال النووي رحمه الله: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((والتار لدينه المفارق للجماعة)) فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام قال العلماء ويتناول أيضاً كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما وكذا الخوارج والله أعلم) (¬4). وقال ابن حجر رحمه الله: (والمراد بالجماعة جماعة المسلمين أي فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة مستقلة وإلا لكانت الخصال أربعاً) (¬5). قلت: وهذا الذي ذكره العلماء وقع في تاريخ سلفنا الصالح ما يؤيده كقتال أبو بكر رضي الله عنه للمرتدين ومانعي الزكاة، وكقتال علي رضي الله عنه للخوارج، وللذين غالوا فيه والهوه وكقتل بعض الأئمة للمبتدعة: كقتل الجعد بن درهم بن صفوان. الحديث السابع: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)) قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)). وفي بعض الروايات: ((هي الجماعة)). ¬

(¬1) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (12/ 239) (¬2) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (12/ 239) (¬3) ((صحيح مسلم بشري النووي)) (12/ 241 - 242). (¬4) ((صحيح مسلم بشرح النووي)) (11/ 165). (¬5) ((فتح الباري)) (12/ 201 - 202).

قال المباركفوري رحمه الله عند شرحه للحديث: (قال العلقمي: قال شيخنا: ألف الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي في شرح هذا الحديث كتاباً قال فيه: قد علم أصحاب المقالات أنه صلى الله عليه وسلم، لم يرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد وفي تقدير الخير والشر، وفي شروط النبوة والرسالة وفي موالاة الصحابة، وما جرى مجرى هذه الأبواب، لأن المختلفين فيها قد كفر بعضهم بعضاً، بخلاف النوع الأول فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تفسيق للمخالف فيه، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الاختلاف. وقد حدث في آخر أيام الصحابة خلاف القدرية من معبد الجهني وأتباعه، ثم حدث الخلاف بعد ذلك شيئاً فشيئاً إلى أن تكاملت الفرق الضالة اثنتين وسبعين فرقة والثالثة والسبعون هم: أهل السنة والجماعة وهي الفرقة الناجية. انتهى باختصار يسير) (¬1). وقال ابن أبي العز الحنفي في تعليقه على حديث الافتراق في (شرح الطحاوية): (فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة) (¬2). وهذا ما عليه جمهور علماء السلف من أن المقصود بالفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة. وأما الفرقة المخالفة لأهل السنة والجماعة فحكمهم مبني على مسألة (تكفير أهل البدع)، ولعلماء أهل السنة تفصيل طويل في هذه المسألة (¬3) وخلاصته: 1 - أن البدع ليست على درجة واحدة، فمنها البدع المكفرة التي تخرج صاحبها من دائرة الإسلام، ومنها البدع التي هي أقل درجة، ولا تخرج صاحبها عن دائرة الإسلام. 2 - ونتيجة للتفريق السابق، فإن المحققين من أهل العلم لا يدخلون غلاة أهل البدع الذين بدعهم مكفرة ضمن الثنتين والسبعين فرقة، ويجعلون حكم الثنتين والسبعين فرقة – بناء على ذلك – حكم أهل الوعيد من أهل الكبائر والمعاصي من هذه الأمة الذين لهم حكم الإسلام في الدنيا، ويدخلون تحت مشيئة الله تعالى في الآخرة، فإن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم ثم مآلهم إلى الجنة. وهذا هو أمثل الأقوال في هذه المسألة، والله أعلم. وفي حديث الافتراق فوائد عظيمة أشير إلى بعض منها: الأولى: دل الحديث على أهمية أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به، والتمسك بسنته، والتزام طريقته، فالابتداع في الدين خطره عظيم، ومخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ضررها جسيم. ولذلك كان من أهم الضوابط التي وضعها الإسلام للزوم الجماعة: الحث على ملازمة السنة والتمسك بها، والنهي عن البدعة والتحذير منها. وقد بين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في حديث الافتراق أمرين: أولهما: البشرى بالجنة لمن اتبع سبيله، وكان على ما كان عليه هو صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين. الثاني: الوعيد الشديد لمن خالف هديه وسنته. الثانية: ¬

(¬1) ((تحفة الأحوذي) لمباركفوري (7/ 398). وانظر: ((عون العبود للعظيم آبادي (12/ 340، 341) ط – المكتبة السلفية. (¬2) انظر: ((شرح الطحاوية)) (ص: 383 - 512)، ط الثامنة، المكتب الإسلامي، وانظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 127). (¬3) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/ 348 - 354)، (7/ 217 - 218)، و ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 192 - 206، 246 – 249، 256 - 258).

يستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم، (إلا واحدة) أن الحق واحد لا يتعدد. وهذه المسألة موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من يرى بأن كل مجتهد مصيب، وهم الذين يطلق عليهم اسم (المصوبة)، ومنهم من يرى بأن الحق واحد لا يتعدد، وهم الذين يطلق عليهم اسم (المخطئة) ولاشك أن الأدلة مع الفريق الثاني، ويعتبر حديث الافتراق من الأدلة القوية التي تؤيد ما ذهبوا إليه. قال الشاطبي: (إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا واحدة) قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف، إذ لو كان للحق فرق أيضاً لم يقل (إلا واحدة) ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق، لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59]. إذ رد التنازع إلى الشريعة، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة) (¬1). الحديث الثاني: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: ((كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعليقاً على الحديث السابق: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق، لأن كلا القارئين كان حسناً فيما قرأه، وعلل ذلك: بأن من كان قلنا اختلفوا فهلكوا) (¬2). إلى أن قال: (واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة، الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيباً فيما يثبته، أو في بعضه، مخطئاً في نفي ما عليه الآخر) (¬3). وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم، أن الاختلاف في الكتاب سبب هلاك من كان قبلنا، فعن عبد الله بن عمرو قال: (هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرف في وجهه الغضب، فقال: ((إنما أهلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب)). وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو: أن نفرا كانوا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: ((أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم. أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما ههنا في شيء. انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه)). وتوجد أحاديث أخرى كثيرة في ذم الفرقة والتحذير منها، وفيما يلي أسرد بعضاً منها إجمالاً: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ذئب ابن آدم كذئب الغنم يأتي إليها فيأخذ الشاذة والقاصية والناحية)). وعن زكريا بن سلام يحدث عن أبيه عن رجل قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: ((يا أيها الناس عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة ثلاث مرات)). قالها إسحاق (أحد الرواة)). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل لله في الجماعة فأصاب تقبل الله منه وإن أخطأ غفر الله له، ومن عمل لله في الفرقة فإن أصاب لم يقبل الله منه وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار)). ¬

(¬1) ((الاعتصام)) (2/ 249). (¬2) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 123)، ط المحققة. (¬3) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 124).

وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: دخلت مع ابن عمر رضي الله عنهما على عبد الله بن مطيع فقال: مرحباً بأبي عبد الرحمن ضعوا له وسادة فقال: إنما جئتك لأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((من نزع يداً من طاعة الله فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية)). وعن فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامة ومات عاصياً، وأمة أو عبد فمات، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ترك السنة الخروج من الجماعة)). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((سألت ربي عز وجل ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألت أن لا يبتلي أمتي بالسنين ففعل. وسألت أن لا يظهر عليهم عدوهم، ففعل. وسألت أن لا يلبسهم شيعاً فأبى علي)). وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله أخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوماً خطا ثم قال: ((هذا سبيل الله)). ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)). ثم تلا قول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. وعن مجاهد: ((ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)) قال: (البدع والشبهات) (¬1). وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران بينهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا. وفي رواية (ولا تتفرقوا)، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد إنسان فتح شيء من تلك الأبواب قال له: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والستور حدود الله عز وجل، والأبواب محارم الله تعالى، والداعي على الصراط كتاب الله جل وعلا، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله تبارك وتعالى في قلب كل مسلم)). وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق لجمال بن أحمد بادي – ص: 74 ¬

(¬1) رواه ابن بطة في ((الإبانة)) (ح: 134) (1/ 298).

الفصل الثاني: الاعتصام بالكتاب والسنة

تمهيد: حيث إن الكتاب والسنة هما المصدر الأساسي للحق، والنبع الصافي لدين الإسلام، وهما المنهج الكامل لحياة البشر، وهما الميزان الصحيح الذي توزن به الأقوال والأفعال، جاءت الأدلة في الحث على أتباعهما، والعمل بهما، والاعتصام بهما، والرد إليهما عند التنازع والاختلاف. ولا يكون للمسلمين شأن، ولا عز ولا نصر، ولا فلاح في الدنيا، ولا نجاة في الآخرة، إلا بامتثال أوامر الله تعالى وطاعته، وطاعة رسوله، صلى الله عليه وسلم، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم. والأدلة في هذا الموضوع كثيرة جداً، وفيا يلي ذكر لبعضها.

المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم

المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم جاءت آيات كثيرة بالأمر بطاعة الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بأسلوب الترغيب تارة، نحو قوله تعالى: وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132]. وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]. وبأسلوب الترهيب تارة أخرى، نحو قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 32]. وقوله تعالى: وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [المائدة: 92]. كما جاءت آيات تمدح المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع البشرى العظيمة لهم بالفوز والفلاح، نحو قوله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51]. وأمر سبحانه عباده المؤمنين بالتحاكم إلى الكتاب والسنة عند التنازع، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (قال مجاهد وغير واحد من السلف: أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة) (¬1). وقال القرطبي في المقصود بالرد إلى الله والرسول: (أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم, هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة، وهو الصحيح) (¬2). وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (أمر برد كل ما تنازع الناس فيه، من أصول الدين وفروعه، على الله والرسول، أي إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما، أو عمومهما، أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى، يقاس عليه ما أشبهه. لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما فالرد إليهما شرط في الإيمان) (¬3). بل نجد من الآيات التي تنفي الاختيار عن كل مؤمن ومؤمنة، إذا حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أمر ما من الأمور. يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا [الأحزاب: 36]. وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه فامتنعت ثم أجابت، إلا أنها خطاب لكل مؤمن ومؤمنة، وعامة في كل الأمور. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ههنا، ولا رأي ولا قول) (¬4). ¬

(¬1) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 518). (¬2) ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/ 261). (¬3) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (2/ 89 - 90). (¬4) ((تفسير القرآن العظيم)) (3/ 490).

واستدل القرطبي بهذه الآية على أن صيغة افعل للوجوب في أصل وضعها، قال: (لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلف عند سماع أمره وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علق على المعصية بذلك الضلال، فلزم حمل الأمر على الوجوب. والله أعلم) (¬1). وقال الشيخ السعدي: (أي: لا ينبغي ولا يليق، من اتصف بالإيمان، إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما) (¬2). ونهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتقدموا بين يدي الله رسوله. فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1]. وقد ذكر ابن كثير أقوالاً عن السلف الصالح في معنى قوله تعالى: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. منها (¬3): عن ابن عباس قال: (لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة) (¬4). وعن الضحاك: (لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم) (¬5). وقال سفيان الثوري: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. بقول ولا فعل) (¬6). وقال الشيخ السعدي في بيان ما يستنبط من الآية الكريمة: (هذا متضمن للأدب مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعظيم والاحترام له، وإكرامه. فأمر الله عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان بالله ورسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أمورهم. وأن لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، فلا يقولوا حتى يقول، ولا يأمروا حتى يأمر. فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب، مع الله ورسوله، وهو: عنوان سعادة العبد وفلاحه, وبفواته تفوته السعادة الأبدية، والنعيم السرمدي) (¬7). ¬

(¬1) ((الجامع لأحكام القرآن)) (14/ 188). (¬2) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) (6/ 22 - 223). (¬3) ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 205). (¬4) رواه الطبري (22/ 272)، وابن أبي حاتم (ص: 3247). (¬5) رواه بنحوه الطبري (22/ 276). (¬6) ((تفسير ابن كثير)) (7/ 264). (¬7) ((تيسير الكريم الرحمن)) (7/ 126).

المبحث الثاني: الأدلة من السنة النبوية

المبحث الثاني: الأدلة من السنة النبوية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي)) (¬1). وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظتنا موعظة مودِّع، فاعهد إلينا بعهد. فقال: عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، وسترون بعدي اختلافاً شديداً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة)) (¬2). فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بوقوع الاختلاف وحصوله في أمته، فأوصى أصحابه رضوان الله عليهم – ويدخل في الخطاب كافة الأمة- بالتمسك بسنته، وسنة الخلفاء الراشدين عند وقوع الاختلاف. فالتزام السنة هو الحل عند وقوع البدع، لذلك نرى من فقه الإمام مالك رحمه الله أنه ذكر حديث الاعتصام بالكتاب والسنة في باب النهي عن القول بالقدر. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) (¬3). يقول ابن حجر في أثناء كلامه على هذا الحديث: (وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل، ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي دونوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف, واجتنب ما أحدثه الخلف) (¬4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم, واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)) (¬5). ¬

(¬1) رواه الحاكم (1/ 171)، والبيهقي (10/ 114) (20123)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 61). قال الحاكم: سائر رواته متفق عليهم وهذا الحديث لخطبة النبي صلى الله عليه وسلم متفق على إخراجه في الصحيح ... وله شاهد، وقال ابن حزم في ((أصول الأحكام)) (2/ 251)، والألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)): صحيح. (¬2) رواه أبو داود (4607) , والترمذي (2676) , وابن ماجه (42)، وأحمد (4/ 126) (17184). والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164): ثابت صحيح, وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181) , وصححه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (20/ 309) , وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/ 582) , والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬3) رواه مسلم (867). (¬4) ((فتح الباري)) (13/ 253). (¬5) رواه البخاري (7288).

قال ابن حجر في شرح الحديث: (فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله، ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به، ثم يتشاغل بالعمل به, فإن كان من العلميات يتشاغل بتصديقه, واعتقاد حقيته، وإن كان من العمليات بذل وسعه في القيام به فعلاً وتركاً) (¬1). هذا هو الموقف الصحيح الذي يجب على كل مسلم أن يتخذه مع كتاب ربه عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, التعليم والفهم، ثم التصديق, والعمل, والامتثال. فبهذا المسلك والمنهج نال السابقون رضوان الله عنهم، وجزاهم ربهم تبارك وتعالى بذلك التوفيق والنصر، والعز في الدنيا، والجنة والنعيم المقيم في الآخرة. وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله)) (¬2). قال الخطابي رحمه الله في شرح الحديث: (يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما ليس له في القرآن ذكر، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض، فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن، وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب، فتحيروا وضلوا) (¬3). وقال ابن بطة رحمه الله محذراً المسلمين من شر هؤلاء المنكرين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم: (وليعلم المؤمنون من أهل العقل والعلم أن قوماً يريدون إبطال الشريعة, ودروس آثار العلم والسنة، فهم يموهون على من قل علمه، وضعف قلبه، بأنهم يدعون إلى كتاب الله، ويعملون به، وهم من كتاب الله يهربون، وعنه يدبرون، وله يخالفون، وذلك أنهم إذا سمعوا سنة رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها الأكابر عن الأكابر، ونقلها أهل العدالة والأمانة، ومن كان موضع القدوة والأمانة، وأجمع أئمة المسلمين على صحتها، أو حكم فقهاؤهم بها، عارضوا تلك السنة بالخلاف عليها، وتلقوها بالردِّ لها. وقالوا لمن رواها عندهم: تجد هذا في كتاب الله؟ وهل نزل هذا في القرآن؟ وائتوني بآية من كتاب الله حتى أصدق بهذا) (¬4). فحكم عليهم بخبث النية وسوء الطويَّة، وأنهم يريدون هدم دين الإسلام، وإبطال الشريعة. قال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8]. ¬

(¬1) ((فتح الباري)) (13/ 263). (¬2) رواه أبو داود (4604) بلفظ: (الكتاب) بدلاً من: (القرآن)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وأحمد (4/ 130) (17213)، و (4/ 132) (17233). والحديث حسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 129) - كما أشار لهذا في مقدمته -. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): صحيح. (¬3) ((معالم السنن)) (7/ 8) ط – دار المعرفة – بيروت. (¬4) ((الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية)) (1/ 223).

قال الإمام الشافعي رحمه الله: (لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم، يخالف في أن فرض الله عز وجل أتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه بأن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا أتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, واحد لا يختلف في أن الفرض الواجب قبول الخبر عن الرسول إلا فرقة (¬1) سأصف قولها إن شاء الله). وفي الحديث السابق إثبات لحجية السنة، وأنها واجبة الأتباع على كل مسلم. وفيه ردٌّ صريح على الذين أنكروا حجية السنة قديماً كالرافضة، والمعتزلة وغيرهم، وحديثاً كالقرآنيين، والمستشرقين، وتلاميذهم كأمثال: أبي رية, ورشاد خليفة، وغيرهما. السنة من الوحي: تعتبر السنة النبوية جزء من الوحي، قال الله تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4]. وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]. وعن حسان بن عطية: قال: (كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل القرآن عليه يعلمه إياها كما يعلمه القرآن) (¬2). وقال ابن حزم رحمه الله: (لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع، نظرنا فيه، فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووجدناه عز وجل يقول واصفاً لرسوله: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3 - 4]. فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين: أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفاً معجز النظام وهو القرآن. الثاني: وحي مروي منقول, غير مؤلف, ولا معجز النظام, ولا متلو، لكنه مقروء. وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا) (¬3). فالقرآن الكريم، والسنة النبوية من مشكاة واحدة، وهي داخلة في ذلك الوعد الصادق بالحفظ والضمان الأكيد، حيث قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وكان من مظاهر ذلك الحفظ ما نراه ونلمسه من جهود جهابذة السنة الذين بذلوا جهوداً عظيمة لحفظها، والذب عنها, وغربلتها، وتمييز صحيحها من سقيمها، والتأليف في العلوم التي تخدمها. فكان من آثار هؤلاء الجهابذة ما تزخر به المكتبات الإسلامية – على مدى العصور – من مؤلفات قيمة في السنة وعلومها وشروحها (¬4). ¬

(¬1) لم يبين الشافعي اسم الفرقة التي رد عليها، وقد استظهر الخضري أنه يعني بذلك المعتزلة. انظر: ((تاريخ التشريع الإسلامي)) للخضري (ص: 197). وانظر: كتاب ((جماع العلم)) للشافعي حاشية (ص: 11). (¬2) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (1/ 83 - 84)، وأبو داود في ((المراسيل)) (538). (¬3) ((الإحكام في أصول الأحكام)) (ص: 87). (¬4) انظر مقدمة محقق كتاب ((النكت على كتاب ابن الصلاح)) (ص: 8، 9) تحقيق الدكتور ربيع بن هادي المدخلي طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1404هـ.

المبحث الثالث: الأدلة من أقوال السلف الصالح

المبحث الثالث: الأدلة من أقوال السلف الصالح عن محمد بن سيرين قال: (كانوا لا يختلفون عن ابن مسعود في خمس: أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير السنة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وأن أكيس الكيس التقى، وأن أحمق الحمق الفجور) (¬1). وعن عثمان بن حاضر الأزدي، قال: (قلت لابن عباس: أوصني، قال: عليك بالاستقامة، واتباع الأثر، وإياك والتبدع (¬2)). وعن مالك بن أنس قال: (كان عمر بن عبد العزيز يقول: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من اهتدى بها مهتدي، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً) (¬3). وعن الزهري قال: (كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة) (¬4). وهكذا نرى توافر الأدلة على هذا الأصل العظيم، فلا يستقيم دين امرئ مسلم إلا إذا تمسك بهذا الأصل، واتخذه منهاجاً يسير عليه، ويثبت عليه حتى الممات. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنة كثيرة، وترجم عليه أهل العلم في الكتب كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، كما ترجم عليه البخاري, والبغوي وغيرهما، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين) (¬5). وقد كان هذا الأصل من الأصول التي اتفق عليها سلف هذه الأمة، فكان ذلك من أعظم نعم الله عليهم، يقول شيخ الإسلام: (وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم، اعتصامهم بالكتاب، والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه, ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات, والآيات البيانات أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم) (¬6). وقد عبر اللالكائي عن هذه الحقيقة الناصعة في أول كتابه أصول السنة بقوله: (أما بعد: فإن أوجب ما على المرء معرفة اعتقاد الدين، وما كلف الله عباده من فهم توحيده وصفاته، وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها، والاستدلال عليها بالحجج والبراهين، وكان من أعظم مقول، وأوضح حجة ومعقول، كتاب الله الحق المبين. ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار والمتقين، ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون، ثم التمسك بمجموعها والمقام عليها إلى يوم الدين، ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إليها مما أحدثها المضلون. فهذه الوصايا الموروثة المتبوعة، والآثار المحفوظة المنقولة، وطرائق الحق المسلوكة والدلائل اللائحة المشهورة، والحجج الباهرة المنصورة التي عملت عليها الصحابة والتابعون، ومن بعدهم من خاصة الناس وعامتهم من المسلمين. واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين. ثم من اقتدى بهم من الأئمة المهتدين، واقتفى آثارهم من المتبعين، واجتهد في سلوك سبيل المتقين, وكان من الذين اتقوا والذين هم محسنون. فمن أخذ في مثل هذه المحجة, وداوم بهذه الحجج على منهاج الشريعة أحسن في دينه التبعة، في العاجلة والآجلة. وتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها) (¬7). فيجب على كل مسلم أن يحرص كل الحرص على الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بما أجمع عليه السلف الصالح، وأن يجعل ذلك ميزاناً يزن به ما اختلف فيه الناس بعد القرون الفاضلة من الأقوال والأفعال والمعتقدات وغيرها. وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق لجمال بن أحمد بادي - ص 299 ¬

(¬1) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (ص: 850)، وابن وضاح في ((البدع والنهي عنها)) (ص: 24)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص: 241)، وابن بطة في ((الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية)) (1/ 324 - 325 ح: 170). (¬2) رواه ابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (ص: 177). (¬3) رواه عبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1/ 357)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: 46)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 94). (¬4) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 56). (¬5) ((مجموع الفتاوى)) ((11/ 623). (¬6) ((مجموع الفتاوى)) (13/ 28). وانظر: (16/ 471 - 472). (¬7) ((صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام)) للسيوطي (ص: 101 - 102) ط دار الكتب العلمية – بيروت.

الفصل الثالث: ذم البدع

المطلب الأول: البدعة لغة وأصل مادة بَدَعَ للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى: بَدِيعُ السَّموَاتِ والأرْضِ [البقرة: 117] أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدم، وقوله تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِن الرُّسُل [الأحقاف: 9]، أي ما كنت أوَّل من جاءَ بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنَّه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه. ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة: فمن هذا المعنى سُمِّيَ العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة (¬1). مختصر كتاب الإعتصام للشاطبي لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص 7 ¬

(¬1) [14994])) ((لسان العرب)) (8/ 6)، ((تاج العروس)) (20/ 307). مادة (بدع).

المطلب الثاني: البدعة اصطلاحا

المطلب الثاني: البدعة اصطلاحاً البدعة .. عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنَّما يخصها بالعبادات، وأمَّا على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد. فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنَّما قُيِّدت بالدين لأنَّها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم. ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم، فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها، خُصَّ منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع، إذ البدعة إنَّما خاصَّتها أنَّها خارجة عما رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كلِّ ما ظهر لبادي الرأْي أنَّه مخترع مما هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأُصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنَّها وإن لم توجد في الزمان الأوَّل فأُصولها موجودة في الشرع. (فإن قيل): فإنَّ تصنيفها على ذلك الوجه مخترع. (فالجواب): أنَّ له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سُلِّم أنَّه ليس في ذلك دليل على الخصوص، فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال في أنَّ كلَّ علم خادم للشريعة داخلٌ تحت أدلته التي ليست بمأْخوذة من جزئي واحد؛ فليست ببدعة البتَّة. وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة، لأنَّ كلَّ بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء الله. ويلزم من ذلك أن يكون كَتْبُ المصحف وجَمْعُ القرآن قبيحاً، وهو باطل بالإجماع فليس إذاً ببدعة. ويلزم أن يكون دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة. وإذا ثبت جزئيٌ في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة. فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة، بدعة أصلاً. وقوله في الحد تضاهي الشرعية يعني: أنَّها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة: منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة. ومنها: التزام الكيفيات والهَيْئَات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، وما أشبه ذلك. ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته. وثَمَّ أوجهٌ تضاهي بها البدعةُ الأمورَ المشروعة، فلو كانت لا تضاهي الأمورَ المشروعة لم تكن بدعة، لأنَّها تصير من باب الأفعال العادية. وقوله: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها. وذلك أنَّ أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك. لأنَّ الله تعالى يقول: وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، فكأنَّ المبتدع رأى أنَّ المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أنَّ ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ. وقد تبين بهذا القيد أنَّ البدع لا تدخل في العادات. فكل ما اختُرِع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية. وأمَّا الحد على الطريقة الأُخرى (¬1) فقد تبين معناه إلا قوله: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية. ومعناه أنَّ الشريعة إنَّما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأْتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته. لأنَّ البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلَّقت بالعبادات فإنَّما أراد بها أن يأتي تعبُّده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه. وإن تعلقت بالعادات فكذلك، لأنَّه إنَّما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها. وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله (¬2). مختصر كتاب الإعتصام للشاطبي لعلوي بن عبد القادر السقاف – ص: 7 ¬

(¬1) [14995])) أي: طريقة من يُدخل العادات في معنى البدع. (¬2) [14996])) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 37 - 42).

المبحث الثاني: ذم البدع

المطلب الأول: الأدلة من النظر على ذمِّ البدع أمَّا النظر فمن وجوه: (أحدها) أنَّه قد عُلِمَ بالتجارب والخبرة، أنَّ العقول غير مستقلة بمصالحها، استجلاباً لها، أو مفاسدها، استدفاعاً لها. لأنَّها إما دنيوية أو أُخروية. فأمَّا الدنيوية فلا يستقل باستدراكها على التفصيل البتَّة لا في ابتداء وضعها أوَّلاً، ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها، إما في السوابق، وإما في اللواحق، لأنَّ وضعها أوَّلاً لم يكن إلا بتعليم الله تعالى. فلولا أنْ منَّ الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأوَّلين والآخرين. وأمَّا المصالح الأُخرويَّة، فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها، وهي العبادات مثلاً. فإنَّ العقل لا يشعر بها على الجملة، فضلاً عن العلم بها على التفصيل. فعلى الجملة، العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي. فالابتداع مضادٌ لهذا الأصل، لأنَّه ليس (له) مستندٌ شرعيٌ بالفرض، فلا يبقى إلا ما ادَّعوه من العقل. فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها، ما رام تحصيله من جهتها، فصارت كالعبث. (الثاني) أنَّ الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، لأن الله تعالى قال فيها: الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكَمُ الإسلامَ دِيناً [المائدة: 3]. وفي حديث العِرباض بن سارية: ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إنَّ هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) الحديث (¬1). فالمبتدع إنَّما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إنَّ الشريعة لم تتم، وأنَّه بقي منها أشياءُ يجب أو يستحب استدراكها، لأنَّه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كلِّ وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم. قال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأنَّ الله يقول: اليوم أكملتُ لكم دينكم فما لم يكن يومئذٍ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً. (الثالث) أنَّ المبتدع معاندٌ للشرع ومشاقٌّ له، لأنَّ الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقَصَرَ الخَلْقَ عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أنَّ الخير فيها، وأنَّ الشر في تعدِّيها ـ إلى غير ذلك، لأنَّ الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنَّه إنَّما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. فالمبتدع رادٌ لهذا كله، فإنَّه يزعم أنَّ ثمَّ طُرُقاً أُخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عيَّنَه بمتعيّن، كأنَّ الشارع يعلم، ونحن أيضاً نعلم. بل ربما يُفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنَّه علم ما لم يعلمه الشارع. وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفرٌ بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال مبين. ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (43) واللفظ له، وأحمد (4/ 126) (17182). من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، والحديث حسنه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 68). وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (937): إسناده صحيح.

(الرابع) أنَّ المبتدع قد نَزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع، لأنَّ الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك، لأنَّه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون. وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس. ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام. هذا الذي ابتدع في دين الله قد صيَّر نفسه نظيراً ومضاهياً (لله) حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف باباً؛ ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع. (الخامس) أنَّه اتباع للهوى لأنَّ العقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة؛ وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنَّه ضلال مبين. ألا ترى قول الله تعالى: يا داودُ إنَّا جعلناكَ خليفةً في الأرضِ فاحكمْ بينَ النَّاسِ بالحقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عن سبيلِ الله، إنَّ الَّذينَ يَضِلُّونَ عن سبيلِ الله لهم عذابٌ شديدٌ بما نَسُوا يومَ الحِساب [ص: 26] فَحَصَرَ الحكمَ في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجرداً إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك. وقال ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف: 28] فجعل الأمر محصوراً بين أمرين، اتباع الذكر، واتباع الهوى، وقال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ الله [القصص: 50] وهي مثل ما قبلها. وتأملوا هذه الآية فإنَّها صريحة في أنَّ من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه، فلا أحد أضل منه. وهذا شأْن المبتدع، فإنَّه اتبع هواه بغير هدى من الله. وهدى الله هو القرآن. وما بينته الشريعة وبينته الآية أنَّ اتباع الهوى على ضربين: أحدهما، أن يكون تابعاً للأمر والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال. والآخرُ أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأوَّل، والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى الله فكان أضل الناس وهو يظن أنَّه على هدى. وهنا معنى يتأكد التنبيه عليه، وهو أنَّ الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين: أحدهما: الشريعة، ولا مِرْية في أنَّها علم وحق وهدى؛ والآخر الهوى، وهو المذموم، لأنَّه لم يذكر في القرآن إلا في سياق الذم، ولم يجعل ثمَّ طريقاً ثالثاً. ومن تتبع الآيات، ألفى ذلك كذلك (¬1). مختصر كتاب الإعتصام للشاطبي لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص 15 ¬

(¬1) [14998])) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 46 - 52).

المطلب الثاني: الأدلة من النقل على ذم البدع

المطلب الثاني: الأدلة من النقل على ذم البدع وأمَّا النقل فمن وجوه: (أحدها) ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة. فمن ذلك: 1 - قول الله تعالى: وأنَّ هذا صِراطِي مُسْتقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السُّنَّة، والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع. وليس المراد سبل المعاصي، لأنَّ المعاصي من حيث هي معاصٍ لم يضعها أحد طريقاً تُسْلك دائماً على مضاهاة التشريع. وإنَّما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات. ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدَّثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال: ((خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً طويلاً، وخطَّ لنا سليمان خطاً طويلاً، وخطَّ عن يمينه وعن يساره فقال: هذا سبيلُ الله. ثم خطَّ لنا خطوطاً عن يمينه ويساره وقال: هذه سُبُل، وعلى كلِّ سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم تلا هذه الآية: وأنَّ هذا صِراطِي مُستَقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ -يعني الخطوط- فَتَفَرَّقَ بِكمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153])) (¬1). قال بكر بن العلاء: أحسبُه أراد شيطاناً من الإنس وهي البدع والله أعلم. وعن مجاهد في قوله: ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، قال: (البدع والشبهات) (¬2). 2 - قول الله تعالى: وعلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ ومِنْها جائِرٌ ولَوْ شَاءَ لهَداكُمْ أجْمَعِينَ [النحل: 9] فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائرٌ عن الحق؛ أي عادلٌ عنه، وهي طرق البدع والضلالات، أعاذنا الله من سلوكها بفضله. وكفى بالجائر أن يحذَّر منه. فالمساق يدل على التحذير والنهي. عن التستري: قصد السبيل طريق السُّنَّة، ومنها جائرٌ يعني إلى النار، وذلك الملل والبدع. وعن مجاهد (قصد السبيل) أي: المقتصد منها بين الغلو والتقصير، وذلك يفيد أنَّ الجائر هو الغالي أو المقصِّر، وكلاهما من أوصاف البدع. 3 - إنَّ الَّذِين فَرَّقوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْىءٍ إنَّما أَمْرُهُمْ إلىَ الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159]. قال ابن عطيَّة: (هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوءِ المعتقد) (¬3) قال القاضي (إسماعيل): ظاهر القرآن يدل على أنَّ كلَّ من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية؛ لأنَّهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعاً. (الثاني): ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة تكاد تفوق الحصر، إلا أنَّا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقي ونتحرى في ذلك - بحول الله- ما هو أقرب إلى الصحة. فمن ذلك: ¬

(¬1) [14999])) رواه أحمد (1/ 435) (4142)، والدارمي (1/ 232) (208) والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/ 343) (11174)، وابن حبان (1/ 180) (6)، والحاكم (2/ 348) بدون لفظة ((وخط لنا سليمان خطاً طويلاً)). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 25): فيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/ 131) كما قال ذلك في المقدمة. (¬2) [15000])) رواه الطبري في تفسيره (12/ 229). (¬3) [15001])) ((تفسير ابن عطية)) (2/ 427).

1 - ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ)) (¬1) وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ)) (¬2) وهذا الحديث عدَّه العلماءُ ثلث الإسلام، لأنَّه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام. ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية. 2 - وخرَّج مسلمٌ عن جابر بن عبدالله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: ((أمَّا بعد فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأُمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة)) (¬3). وفي رواية قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: ((من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلِ الله فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأُمور محدثاتها وكل محدثة بدعة)) (¬4). 3 - وفي الصحيح من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أُجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) (¬5). 4 - وروى الترمذي وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله؟ كأنَّ هذا موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: ((أُوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبداً حبشياً. فإنَّه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأُمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) (¬6) 5 - وفي الصحيح عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال: ((يا رسول الله! هل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي. قال فقلت: هل بعد ذلك الشر من شر؟ قال: نعم دعاة على نار جهنم من أجابهم قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صِفْهم لنا. قال: نعم هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأْمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن إمام ولا جماعة؟ قال: فاعتزل تلك الفِرقَ كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) (17). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7350) كتاب: الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ. ومسلم (1718) (18). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) [15004])) رواه مسلم (867). (¬4) [15005])) رواه مسلم (867). (¬5) رواه مسلم (2674). (¬6) رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) وأحمد (4/ 126) (17184)، والحاكم (1/ 176). والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)): ثابت صحيح, (2/ 1164) وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181)، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). (¬7) [15008])) رواه البخاري (3606، 7084) ومسلم (1847) ولفظه أقرب إليه، وقد أسقط المؤلف أول الحديث.

6 - ومما جاء في هذا الباب أيضاً ما خرَّج ابنُ وضاح ونحوه لابن وهب عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيكون في أُمتي دجالون كذَّابون يأْتونكم بِبِدْعٍ من الحديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يفتنونكم)) (¬1). (الثالث): ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم في ذمِّ البدع وأهلها وهو كثير. 1 - عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: (اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كُفِيتم) (¬2). 2 - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنَّه قال يوماً: (إنَّ مِن ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيه القرآن، حتى يأْخذه المؤمن والمنافق، والرجل، والمرأة، والصغير، والكبير، والعبد، والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأْت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، وإياكم وما ابتدع فإنَّ ما ابتدع ضلالة، وأُحذِّركم زَيْغَةَ الحكيم فإنَّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال الراوي: قلت لمعاذ: وما يدريني يرحمك الله أنَّ الحكيم قد يقول كلمة ضلالة، وأنَّ المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى! اجتنب من كلام الحكيم غير المشتهرات التي يقال فيها: ما هذه؟ ولا يثنينَّك ذلك عنه، فإنَّه لعله أن يراجع وتلقَّ الحقَّ إذا سمعته فإنَّ على الحق نوراً) (¬3). ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم: 1 - عن أبي إدريس الخولاني أنَّه قال: (لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها) (¬4). 2 - وعن الفضيل بن عياض: (اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإيَّاك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين). 1 - وعن ابن المبارك قال: (اعلم أي أخي! إنَّ الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السُّنَّة، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وَحْشَتَنَا وذهابَ الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع. وإلى الله نشكو عظيم ما حَلَّ بهذه الأُمة من ذهاب العلماء وأهل السُّنَّة، وظهور البدع) (¬5). مختصر كتاب الإعتصام للشاطبي لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص 20 ¬

(¬1) [15009])) رواه مسلم (7) بلفظ ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم ولا يضلونكم ولا يفتنونكم)). (¬2) [15010])) رواه الطبرانى (9/ 154) (8770)، والدارمي (1/ 80) (205)، والبيهقى في ((شعب الإيمان)) (2/ 407). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 186): رواه الطبراني في ((الكبير)) ورجاله رجال الصحيح. (¬3) [15011])) رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (1/ 88). (¬4) [15012])) رواه المروزي في ((السنة)) (99). (¬5) [15013])) رواه ابن وضاح في ((البدع والنهي عنها)) (ص: 23).

المبحث الثالث: خطورة البدعة وآثارها السيئة

المبحث الثالث: خطورة البدعة وآثارها السيئة البدعة لا يُقْبَلُ معها عمل: كبدعة القدرية حيث قال فيها عبدالله بن عمر رضي الله عنه: (إذا لقيت أُولئك فأخبرهم أنِّي بريءٌ منهم، وأنَّهم بُرَءَاءُ مني، فوالذي يحلف به عبدالله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أُحُدٍ ذهباً فأنفقه ما تَقَبَّله الله منه حتى يؤمن بالقدر) (¬1). ومثله حديث الخوارج وقوله فيه: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية - بعد قوله - تَحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم)) الحديث (¬2). وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعته فكل مبتدع يُخاف عليه مثل من ذُكِر، فإنَّ كون المبتدع لا يقبل منه عمل، إما أن يراد أنَّه لا يُقبل له بإطلاق على أي وجه وقع، من وِفاق سنة أو خلافِها، وإما أن (يراد) أنَّه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه. فأمَّا الأوَّل: فيمكن على أحد أوجهٍ ثلاثة: 1 - أن يكون على ظاهره من أنَّ كلَّ مبتدع أي بدعة كانت؛ فأعماله لا تقبل معها - داخلتها تلك البدعة أم لا-. 2 - أن تكون بدعته أصلاً يتفرع عليه سائر الأعمال، كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق، فإنَّ عامة التكليف مبنيٌ عليه، لأنَّ الأمر إنَّما يَرِد على المُكلَّف من كتاب الله أو من سنة رسوله. وما تَفَرَّع منهما راجع إليهما. 3 - أنَّ صاحب البدعة في بعض الأُمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يُصيِّر اعتقاده في الشريعة ضعيفاً، وذلك يبطل عليه جميع عمله. بيان ذلك أمثلة: - منها أن يُشْرِكَ العقلَ مع الشرع في التشريع، وإنَّما يأتي الشرع كاشفاً لما اقتضاه العقل، فيا ليت شعري هل حكَّم هؤلاء في التعبد لله شَرْعَه أم عقولَهم؟ بل صار الشرع في نِحْلَتِهم كالتابع المعين لا حاكماً متبعاً، وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة، فكلُ ما عمل هذا العامل مبنياً على ما اقتضاه عقله، وإن شَرَّك الشرع فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع. - ومنها أنَّ المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعدُ، فلا يكون لقوله تعالى: الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] معنى يعتبر به عندهم. وأمَّا الثاني: وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضاً، وعليه يَدُلُّ الحديث المتقدِّم ((كلُّ عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ)) (¬3) والجميع من قوله: ((كل بدعة ضلالة)) (¬4). أي أنَّ صاحبها ليس على الصراط المستقيم، وهو معنى عدم القبول، وفاق قول الله: وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153]، وصاحبُ البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام، ولا على الصيام دون الزكاة، ولا على الزكاة دون الحج، ولا على الحج دون الجهاد، إلى غير ذلك من الأعمال، لأنَّ الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع، وهو الهوى والجهل بشريعة الله. ¬

(¬1) [15014])) رواه مسلم (8). (¬2) [15015])) رواه البخاري (5058)، ومسلم (1064). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7350) كتاب: الاعتصام، باب: إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ. ومسلم (1718) (18). من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) [15017])) رواه مسلم (867). من حديث جابر رضي الله عنه.

صاحب البدعة تُنْزَع منه العصمة ويوكل إلى نفسه، فإنَّ الله تعالى بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلاً، ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلاً، ولا من مصالحنا الأُخروية قليلاً ولا كثيراً، حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم لزوال الريب والالتباس، وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس، فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة، والعطايا الجزيلة، وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلاً، فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة؟ وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه، فهو حقيق بالبعد عن الرحمة. قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، بعد قوله: اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: 102] فأشعرَ أنَّ الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقاً، وأنَّ ما سوى ذلك تفرقة، لقوله: وَلاَ تَفَرَّقُوا والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة، لأنَّه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام. الماشي إليه والموقِّر له مُعين على هدم الإسلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) الحديث (¬1) فإنَّ الإيواء بجامع التوقير، ووجه ذلك ظاهر لأنَّ المشي إليه والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته والشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا، كالضرب والقتل، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام، وإقبالاً على ما يضاده وينافيه، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما ينافيه. وأيضاً فإنَّ توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم: إحداهما: التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنَّه أفضل الناس، وأنَّ ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السُّنَّة على سنتهم. والثانية: أنَّه إذا وُقِّرَ من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المُحرِّض له على إنشاء الابتداع في كلِّ شيءٍ. فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه، وعلى ذلك دلَّ النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار، لأنَّ الباطل إذا عُمِل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس، لأنَّ المحلَّ الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين. صاحبها ملعون على لسان الشريعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) (¬2) وعد من الإحداث، الاستنان بسنة سوء لم تكن. يزداد من الله بعداً. لما رُوِيَ عن الحسن أنَّه قال: صاحب البدعة ما يزداد لله اجتهاداً، صياماً وصلاة، إلا ازداد من الله بعداً. وعن أيوب السِّخْتِياني قال: (ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً) (¬3). ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج ((يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إلى أن قال ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة)) (¬4) فبين أوَّلاً اجتهادهم ثم بيَّن آخراً بُعْدهُمْ من الله تعالى. البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام. لأنَّها تقتضي التفرق شِيَعاً. ¬

(¬1) [15018])) رواه البخاري (1870) ومسلم (1370) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) [15019])) رواه البخاري (1870) ومسلم (1370) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬3) [15020])) رواه ابن وضاح في ((البدع والنهي عنها)) (ص: 16). (¬4) [15021])) رواه البخاري (3610)، ومسلم (1064). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 103]، وقوله: إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ [الأنعام: 159]، وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى. وقد بيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ فساد ذات البيْنِ هي الحالقة وأنَّها تحلق الدين، هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع. وأوَّل شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم وَيَدَعُون الكفار. ثم يليهم كل من كان له صَوْلة منهم بقرب الملوك فإنَّهم تناولوا أهل السُّنَّةِ بكل نَكالٍ وعذاب وقتل. ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإنَّ من شأْنهم أن يُثَبِّطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم. وأيضاً فإنَّ أهل السُّنَّةِ مأْمورون بعداوة أهل البدع وقد حذَّر العلماءُ من مصاحبتهم ومجالستهم، وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء. لكن الدرك فيها على من تسبب في الخروج عن الجماعة مما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقاً. كيف ونحن مأْمورون بمعاداتهم وهم مأْمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة؟ وأما أنها مانعة من شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لما في الصحيح قال: ((أوَّل من يُكسى يوم القيامة إبراهيم، وإنَّه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله ـ فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم)) الحديث (¬1)، ففيه أنَّه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر من أوَّل الحديث أنَّ ذلك الارتداد لم يكن ارتداد كفرٍ لقوله: ((وإنَّه سيؤتى برجال من أمتي)) ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لما نُسبوا إلى أُمته، ولأنَّه عليه السلام أتى بالآية وفيها: وَإنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118]، ولو علم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهم خارجون عن الإسلام جملة لما ذكرها، لأنَّ من مات على الكفر لا غفران له البتة، وإنَّما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عملُه عن الإسلام لقول الله تعالى: إنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 116]. وأمَّا أنَّ على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة؛ فلقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ولما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: ((من سَنَّ سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها)) الحديث (¬2). وأمَّا أنَّ صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الله حَجَرَ التوبة على كلِّ صاحب بدعة)) (¬3) ¬

(¬1) [15022])) رواه البخاري (6526) ومسلم (2860) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) [15023])) رواه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه. (¬3) [15024])) رواه أبو الشيخ في ((طبقات المحدثين بأصبهان)) (3/ 609)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (37)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4/ 281) (4202)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 59)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (6/ 73) (2055). من حديث أنس رضي الله عنه. قال الهيثمي (10/ 192): رجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي، وهو ثقة، وحسن إسناده السفاريني في ((لوائح الأنوار السنية)) (1/ 203)، وصححه الألباني في كتاب ((السنة لابن أبي عاصم)).

ويدل على ذلك أيضاً حديث الفِرَق إذ قال فيه: ((وإنَّه سيخرج في أُمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواءُ، كما يتجارى الكَلَبُ (¬1) بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) (¬2) وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق، ولكنه قد يحمل على العموم العادي، إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق، كما نُقِل عن عبدالله بن الحسن العنبري، وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على عليّ رضي الله عنه، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم. ولكن الغالب في الواقع الإصرار. ومن هنا قلنا: يبعد أن يتوب بعضهم لأنَّ الحديث يقتضي العموم بظاهره. وسبب بعده عن التوبة: أنَّ الدخول تحت تكاليف الشريعة صعبٌ على النفس لأنَّه أمرٌ مخالف للهوى، وصادٌ عن سبيل الشهوات، فيثقل عليها جداً لأنَّ الحق ثقيل، والنفس إنَّما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل، لأنَّها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع، والمبتدع لا بد له من تعلُّقٍ بشبهةِ دليل ينسبها إلى الشارع، ويدَّعِي أنَّ ما ذكره هو مقصود الشارع، فصار هواه مقصوداً بدليل شرعي في زعمه، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة. المبتدع يُلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى. لقوله تعالى: إنَّ الذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَينَالهُمْ غَضَبٌ مِن رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ في الحياةِ الدُّنْيا وكذلِك نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف: 152] قال الله تعالى: وَكذلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم، من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى: قَدْ خَسِر الَّذِينَ قتَلُوا أولاَدهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْم وحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ الله افْتِراءً علَى الله [الأنعام: 140] فإذاً كلُّ من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته، وإن ظهر لبادي الرأي في عِزِّهِ وجَبَرِيَّتِهِ فهم في أنفسهم أذلاء، وأيضاً فإنَّ الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال. ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين، وفيما بعد ذلك؟ حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا، ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور، وعمل بأعمالها على التَّقِيَّة. البعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم: لحديث البخاري عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((أنا على حوضي أنتظر من يرد عليَّ، فيؤخذ بناسٍ من دوني، فأقول: أمتي، فيقال: إنَّك لا تدري، مشوا القهقرى)) (¬3). ¬

(¬1) [15025])) الكَلَبُ: داءٌ معروف يعرض للكلْب، فمن عضَّه قتله. انظر: ((لسان العرب)) (14/ 139). (¬2) رواه أبو داود (4597) , وأحمد (4/ 102) (16979) , والحاكم (1/ 218) , والطبراني ((19/ 376). من حديث معاوية رضي الله عنه. قال الحاكم: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث, وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 137): محفوظ من حديث صفوان بن عمرو, وقال الألباني في ((كتاب السنة)) (2): صحيح لغيره. (¬3) [15027])) رواه البخاري (7048) ومسلم (2293).

الخوف عليه من أن يكون كافراً. لأنَّ العلماء من السلف الأوَّل وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم، ودل على ذلك ظاهر قوله تعالى: إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شَيْءٍ [الأنعام: 159]، وقوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106]. وقد حكم العلماءُ بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم، والعلماءُ إذا اختلفوا في أمر: هل هو كفر أم لا؟ فكل عاقل يربأُ بنفسه أن يُنسب إلى خطة خسف كهذه بحيث يقال له: إنَّ العلماءَ اختلفوا: هل أنت كافر أم ضال غير كافر؟ أو يقال: إنَّ جماعة من أهل العلم قالوا بكفرِك وأنت حلال الدم. يُخافُ على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله. لأنَّ صاحبها مرتكبٌ إثماً، وعاصٍ لله تعالى حتماً، ومن مات مُصِرَّاً على المعصية فيخاف عليه. لأنَّ المبتدع مع كونه مُصِرَّاً على ما نُهِيَ عنه يزيد على المُصِرِّ بأنه معارضٌ للشريعة بعقله، غير مُسَلِّمٍ لها في تحصيل أمرِه، معتقداً في المعصية أنها طاعة، حيث حسَّن ما قبَّحه الشارع، وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمة نظره، فهو قد قبَّح ما حسَّنه الشارع، ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله. اسوداد الوجه في الآخرة، لقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجوهٌ [آل عمران: 106]. البراءَةُ منه في قوله: إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شَيْءٍ [الأنعام: 159] وقال ابن عمر رضي الله عنه في أهل القدر: (إذا لقيت أُولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم بُرَآءُ مني) (¬1). والآثار في ذلك كثيرة. ويعضدها ما رُوِيَ عنه عليه السلام أنه قال: ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) (¬2). ووجه ذلك ظاهر. يخشى عليه الفتنة لما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال: سألت مالكاً عمن أحرم من المدينة وراءَ الميقات؟ فقال: هذا مخالف لله ورسوله، أخشى عليه الفتنة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة. أما سمعت قوله تعالى: فلْيَحْذَرِ الَّذِين يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ [النور: 63]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُهلَّ من المواقيت. مختصر كتاب الإعتصام للشاطبي لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص 29 بتصرف ¬

(¬1) [15028])) رواه مسلم (8). (¬2) [15029])) رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وأحمد (2/ 334) (8398)، والحاكم (4/ 188). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (6/ 470): حسن غريب، وصحح إسناده النووي في ((رياض الصالحين)) (ص: 177).

المبحث الرابع: أنواع البدع

المبحث الرابع: أنواع البدع • المطلب الأول: تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية. • المطلب الثاني: انقسام البدعة إلى فعلية وتركية. • المطلب الثالث: انقسام البدعة إلى اعتقادية وعملية. • المطلب الرابع: تقسيم البدعة إلى كلية وجزئية. • المطلب الخامس: تقسيم البدعة إلى بسيطة ومركبة. • المطلب السادس: تقسيم البدعة إلى صغيرة وكبيرة. • المطلب السابع: انقسام البدعة إلى عبادية وعادية.

المطلب الأول: تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية

المطلب الأول: تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية قسم الشاطبي البدعة إلى قسمين: حقيقية, وإضافية. وعرف الحقيقية بأنها ما لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب, ولا من سنة, ولا من إجماع, ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل (¬1). وإن ادعى مبتدعها ومن تابعه أنها داخلة فيما استنبط من الأدلة، لأن ما استند إليه شبه واهية لا قيمة لها. فكأنها هي البدعة حقيقة وما عداها على المجاز (¬2). ومن أمثلتها: أولا: تحريم الحلال, أو تحليل الحرام استناداً إلى شبه واهية, وبدون عذر شرعي, أو قصد صحيح، روى الترمذي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي. فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيِّبًا [المائدة: 87 - 88]) (¬3)). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك, فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثواب ثم قرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه: (فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد, ولا يستظل, ولا يتكلم, ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم, وليستظل, وليقعد, وليتم صومه)) (¬5). وقد تبين من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لفت نظره هذا المنظر أثناء خطبته والناس قعود. رجل قائم في الشمس, فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك المنافي لرفق ويسر الشريعة السمحة، فأمر بتقويمه وقال: مروه فليتكلم، وليستظل, وليقعد, وليتم صومه. فالله غني عن مشقة هذا التي لا فائدة وراءها، وأقره على ما فيه فائدة ولا مشقة معه وهو الصوم. يقول ابن حجر في الحديث من الفوائد: (إن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة, كالمشي حافياً, والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله. فلا ينعقد به النذر, فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره, وهو محمول على أنه لا يشق عليه, وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل) (¬6). وروى البخاري بسنده: عن قيس بن أبي حازم قال: (دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم. فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل. هذا من عمل الجاهلية. فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين) (¬7). وفي ذلك ما يفيد أن تحريم الحلال مخالف للشرع, بل من عمل الجاهلية, فإحداثه على أنه مما يقرب إلى الله من البدع. وسواء في ذلك أكان التحريم مؤكداً بيمين أم لا. ومما تقدم من الأحاديث نستنتج الأمور الآتية: 1 - إن البدع قد بدأت بوادرها في عهد النبوة كما تبين من تحريم أناس بعض ما أحل الله. فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك. ¬

(¬1) ((الاعتصام)) (1/ 286). (¬2) ((الاعتصام)) (1/ 286). (¬3) رواه الترمذي (3054)، والطبراني (11/ 350) (12009). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)). (¬4) رواه البخاري (4615)، ومسلم (1404). (¬5) رواه البخاري (6704). (¬6) ((فتح الباري)) (11/ 590). (¬7) رواه البخاري (3834).

2 - إن هذه البدع قد فعلها أصحابها بدافع التقرب إلى الله, فلم يقرهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بدعة محدثة. 3 - إن ذلك كان في مجال العبادة فعلوها للتزود من الخير, ولكن ليس كل مريد للخير يسلك الطريق الصحيح الموصل إليه. 4 - إن الرسول صلى الله عليه وسلم قاوم هذا الاتجاه وقوم هذه المغالاة. (5) إن ذلك الإحداث والغلو كان منحصراً في أفراد لا جماعات, بخلاف ما وصل إليه حال المسلمين في هذا الزمان، فإن البدع أصبحت تشكل جماعات وأحزاباً مختلفة كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53]. أما تحليل الحرام فيتمثل في تلك الآراء الفاسدة التي تحلل الربا بشبه واهية، أو تفتي بعدم جواز قتل المرتد، مع ورود الأحاديث الصحيحة في ذلك، استناداً إلى ما لا يجوز الاستناد إليه كما فعل صاحب كتاب الحرية الدينية في الإسلام. ثانياً: ومن البدع الحقيقية اختراع عبادة ما أنزل الله بها من سلطان, كصلاة سادسة مثلاً بركوعين في كل ركعة أو بغير طهارة. ثالثاً: ومنها إنكار الاحتجاج بالسنة، أو تقديم العقل على النقل, وجعله أصلاً والشرع تابع له. رابعاً: ومنها القول بارتفاع التكاليف عند الوصول إلى مرحلة معينة مع بقاء العقل وشروط التكليف، فلا تجب عند ذلك طاعات, ولا تحرم محرمات, بل يصير الأمر على حسب الهوى والرغبات. خامساً: ومن هذه البدع تخصيص مكان كبئر, أو شجرة, أو نحوها بخصوصية معينة من اعتقاد جلب خير, أو دفع ضر, بلا استناد إلى خبر صحيح. أما البدعة الإضافية فقد عرفها الشاطبي بأنها ما لها شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة. والأخرى: ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، أي أنها بالنسبة لأحدى الجهتين سنة لاستنادها إلى دليل، وبالنسبة للجهة الأخرى بدعة، لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، أو لأنها غير مستندة إلى شيء. وسميت إضافية لأنها لم تخلص لأحد الطرفين، لا بالمخالفة الصريحة ولا بالموافقة الصريحة. والفرق بين البدعة الحقيقية والإضافية من جهة المعنى أن الدليل على الإضافية من جهة الأصل قائم, ومن جهة الكيفيات, أو الأحوال, أو التفاصيل لم يقم عليها. مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة (¬1). ومن أمثلتها: ذكر الله تبارك وتعالى على هيئة الاجتماع بصوت واحد. فالذكر مشروع بل واجب, لكن أداؤه على هذه الكيفية غير مشروع, بل هو بدعة مخالفة للسنة, وعليه يحمل قول ابن مسعود للجماعة الذين كانوا يجتمعون في المسجد وفي أيديهم حصى, فيسبحون ويكبرون بأعداد معينة حيث قال لهم: (والله لقد جئتم ببدعة ظلماً, أو فضلتم أصحاب نبيكم علماً) (¬2). ومن أمثلته أيضاً: تخصيص يوم النصف من شعبان بصيام, وليلته بقيام، وإفراد شهر رجب بالصوم أو عبادة أخرى. فالعبادات مشروعة, ومنها الصوم, لكن يأتي الابتداع من تخصيص الزمان أو المكان إذا لم يأت تخصيص ذلك في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والبدعة الإضافية أشد خطورة من الحقيقية من حيث الشبه التي يستند إليها المبتدع في فعلها، فإنك إذا سألته عن دليل ذلك قال: إنه يذكر الله, ويصوم لله, فهل الذكر والصيام محرمان؟ ومن ثم يستمرئها, ويداوم عليها, وقد لا يتوب منها في الغالب، ذلك أن الشبهات أخطر الأمور على الدين, فهي أخطر من الشهوات وإن كان الجميع خطيراً، لأن إبليس اللعين لما يئس من تضليل المسلمين بالمعاصي دخل عليهم من باب العبادة, فزين لهم البدع بحجة التقرب إلى الله. وهنا مكمن الخطر. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذه المداخل الشيطانية قد جلَّاها ووضحها ابن الجوزي رحمه الله في كتابه تلبيس إبليس فليراجع. تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي - ص 93 ¬

(¬1) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 286 - 287). (¬2) رواه الطبراني (9/ 125) (8649)، وعبد الرزاق (3/ 221). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 186): فيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط.

المطلب الثاني: انقسام البدعة إلى فعلية وتركية

المطلب الثاني: انقسام البدعة إلى فعلية وتركية البدعة من حيث قيل فيها: إنَّها طريقة في الدين مخترعة ـ إلى آخره ـ يدخل في عموم لفظها البدعة التَّرْكِيَّةُ، كما يدخل فيه البدعة غير التَّرْكِيَّةِ فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم، فإنَّ الفعل ـ مثلاً ـ قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصداً. فبهذا التَّرْك إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعاً أو لا، فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه، إذ معناه أنَّه ترك ما يجوز تركه أو ما يُطْلب تركُه، كالذي يُحَرِّم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنَّه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك: بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإنَّ الترك هنا مطلوب، وإن قلنا بإباحة التداوي، فالترك مباح. وكذلك إذا ترك ما لا بأس به، حذراً مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين، وكتارك المتشابه، حذراً من الوقوع في الحرام، واستبراءً للدِّين والعِرض. وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تديناً أو لا، فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك. ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: إنَّ البدعة تدخل في العادات. وأمَّا على الطريقة الأُولى فلا يدخل. لكن هذا التارك يصير عاصياً بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحلَّ الله. وأمَّا إن كان الترك تديناً فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين، إذ قد فرضنا الفعل جائزاً شرعاً فصار الترك المقصود معارضة للشارع. لأنَّ بعض الصحابة همَّ أن يُحرِّم على نفسه النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هَمَّ بالاختصاء، مبالغةً في ترك شأْن النساء. وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رغب عن سنتي فليس مني)) (¬1). فإذاً كلُّ من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارجٌ عن سُنَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، والعامل بغير السُّنَّةِ تديناً، هو المبتدع بعينه. (فإن قيل) فتارك المطلوبات الشرعية نَدْباً أو وجوباً، هل يسمى مبتدعاً أم لا؟ (فالجواب) أنَّ التارك للمطلوبات على ضربين: (أحدهما) أن يتركها لغير التدين إما كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية. فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر، فإن كان في واجب فمعصية وإن كان في ندب فليس بمعصية، إذا كان الترك جزئياً، وإن كان كلياً فمعصية حسبما تبين في الأُصول. (الثاني) أن يتركها تديناً. فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع الله. فإذاً قوله في الحد: طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يشمل البدعة التركية، كما يشمل غيرها، لأنَّ الطريقة الشرعية أيضاً تنقسم إلى ترك وغيره. وسواءٌ علينا قلنا: إنَّ الترك فعل أم قلنا: إنَّه نفي الفعل. وكما يشمل الحدُّ الترك يشمل أيضاً ضد ذلك. وهو ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد، وقسم القول، وقسم الفعل، فالجميع أربعة أقسام. وبالجملة، فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي، يتعلق به الابتداع (¬2). مختصر كتاب الإعتصام للشاطبي لعلوي بن عبد القادر السقاف - ص 11 ¬

(¬1) رواه البخاري (5063) , ومسلم (1401). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) [15040])) ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 42 - 45).

فالبدعة تنقسم باعتبار فعلها إلى فعلية, وتركية، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم. فإن الفعل مثلاً قد يكون حلالاً بالشرع, فيحرمه الإنسان على نفسه بالحلف أو يتركه قصداً بغير حلف، فهذا الترك إما أن يكون لأم يعتبر مثله شرعاً أو لا، فإن كان لأمر يعتبر فلا حجر فيه, كالذي يمنع نفسه من الطعام الفلاني من أجل أنه يضره في جسمه, أو عقله, أو دينه وما أشبه ذلك. وكالذي يمنع نفسه من تناول اللحم لكونه مصاباً بمرض الكلى فإنه يهيجه عليه. فلا مانع من الترك. بل إن قلنا يطلب التداوي للمريض كان الترك هنا مطلوباً، فهذا راجع إلى العزم على الحمية من المضرات وأصله قوله عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر, وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (5065)، ومسلم (1400). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ذلك أن يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت، وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذراً مما به البأس, كترك الاستمتاع بما فوق الإزار من الحائض خشية الإتيان. فذلك من أوصاف المتقين، وكترك المتشابه حذراً من الوقوع في الحرام, واستبراء للدين والعرض، كما إذا وجد في بيته طعاماً لا يدري أهو له أو لغيره، وكمن أراد أن يتزوج امرأة فأخبرته امرأة أنها أرضعتها ولا يعلم صدقها من كذبها، فإن ترك أزال عن نفسه الشك, وإن تزوجها فإن نفسه لا تطمئن إلى حلِّها. وإن كان الترك لغير ذلك فإما أن يكون تديناً أو لا، فإن لم يكن تديناً، فالتارك عابث بتحريمه الفعل, أو بعزيمته على الترك، ولا يسمى هذا الترك بدعة إلا على الرأي القائل: إن البدع تدخل في العادات، أما على الآخر فلا. لكن التارك يصير عاصياً بتركه, أو اعتقاده التحريم فيما أحل الله، وأما إن كان الترك تديناً فهو الابتداع في الدين على كلا الرأيين، إذ قد فرضنا الفعل جائزاً شرعاً فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل. كترك كثير من العباد والمتصوفة تناول الطيبات تنسكاً وتعبداً لله بتعذيب النفس وحرمانها. اتبعوا في هذا سنن من قبلهم شبراً بشبر, وذراعاً بذراع كعباد بني إسرائيل، ورهبان النصارى، وهؤلاء أخذوها عن بعض الوثنيين من البراهمة الذين يحرمون جميع اللحوم, ويزعمون أن النفس لا تزكو ولا تكمل إلا بحرمان الجسد من اللذات, وقهر الإرادة بمشاق الرياضات، وكترك أهل الأستانة أكل لحم الحمام فهو يفرخ في مساجدهم وبيوتهم ولا يأكل أحد منه شيئاً, بل يتحرجون من أكله وينكرونه، فإن كان تركهم له تديناً لاعتقادهم حرمته فهو بدعة تركية وإلا فلا، مع عصيانهم باعتقاد التحريم فيما أحل لهم, وفي نحوهم نزل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة: 87]. فنهى أولاً عن تحريم الحلال, وأشعر ثانياً بأن ذلك اعتداء, وأن من اعتدى لا يحبه الله. لأن بعض الصحابة أراد أن يحرم على نفسه النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار, وآخر أكل اللحم, وآخر إتيان النساء، وبعضهم همَّ بالاختصاء مبالغة في قطع الميل إلى النساء, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال أقوام يقول أحدهم: كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر, وأنام وأقوم, وآكل اللحم, وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه من حديث أنس (¬1). فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه. والعامل بغير السنة تديناً هو المبتدع بعينه, وكذلك ترك المطلوبات الشرعية وجوباً أو ندباً يسمى بدعة إن كان الترك تديناً. لأنه تدين بضد ما شرع الله. أما تركها كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية فهو راجع إلى المخالفة للأمر, فإن كان في اجب فمعصية وإلا فلا. مثال الترك تديناً أهل الإباحة القائلون بإسقاط التكليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي حددوه, وذلك هو الضلال البعيد. فإن الله جلت حكمته كلف عباده كافة بما شاء، ولا يسقط التكليف إلا بزوال العقل، فلو بلغ المكلف من مراتب الكمال ما بلغ بقي التكليف عليه إلى الموت، ولم يبلغ أحد من الكمال مرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا مرتبة أصحابه الأطهار الأخيار، ولم يسقط عنهم من التكليف مثقال ذرة، إلا ما لا طاقة له به, كالزَّمِنِ لا يطالب بالجهاد، والمقعد لا يطالب بالصلاة قائماً، والحائض لا تطالب بالصلاة حال الحيض, وما إلى ذلك من الأعذار، فمن زعم أن التكليف قد يرفعه البلوغ إلى مرتبة ما من مراتب الكمال كما يزعمه أهل الإباحة كان اعتقاده هذا بدعة مخرجة من الدين نعوذ بالله من الضلال. وبعض الروافض الذين يدينون بشهادة الزور لموافقيهم في العقيدة إذا حلف على صدق دعواه (¬2). أما عن البدعة الفعلية فهي كثيرة، ومنها اختراع أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزيادة في شرع الله ما ليس منه، كمن يزيد في الصلاة ركعة، أو يزيد في وقت الصيام المحدد من اليوم، أو يصلي في أوقات النهي عن الصلاة، أو يصوم في أوقات النهي عن الصيام، أو يدخل في الدين ما ليس منه من الآراء أو الأفعال (¬3). تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي – ص 97 ¬

(¬1) رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401). (¬2) ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (51 - 53). (¬3) ((البدعة)) لعزت عطية (357 - 358).

المطلب الثالث: انقسام البدعة إلى اعتقادية وعملية

المطلب الثالث: انقسام البدعة إلى اعتقادية وعملية فالاعتقادية كمقالات الجهمية, والمعتزلة, والرافضة, وسائر الفرق الضالة واعتقاداتهم. ومثلها من الفرق التي ظهرت في هذا العصر القاديانية, والبهائية, وكذا جميع الفرق الباطنية المتقدمة كالإسماعيلية, والنصيرية, والدروز, وغلاة الرافضة, وغيرهم من فرق الكفر والبدع والضلال. أما العملية فتحتها أنواع: النوع الأول: بدعة في أصل العبادة بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع, كأن يحدث صلاة غير مشروعة, أو صياماً غير مشروع, أو أعياداً غير مشروعة كأعياد الموالد وغيرها. النوع الثاني: ما يكون في الزيادة على العبادة المشروعة, كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلاً. النوع الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة, بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، وذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، وكالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. النوع الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع, كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيام وقيام، فإذا أصل الصيام والقيام مشروع ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل (¬1). تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي – ص 100 ¬

(¬1) انظر: ((مجلة الدعوة)) العدد 1139 - 9 رمضان 1409هـ - مقال الدكتور صالح الفوزان في أنواع البدع.

المطلب الرابع: تقسيم البدعة إلى كلية وجزئية

المطلب الرابع: تقسيم البدعة إلى كلية وجزئية تتفاوت البدع فيما بينها من ناحية آثارها، ومن ناحية الخلل الواقع بسببها في الشريعة. فإذا كانت البدعة لا يقتصر أثرها على المبتدع بل يتعداه إلى غيره كانت كلية لسريانها في كثير من الأمور, أو بين كثير من الأفراد. كبدعة التحسين والتقبيح بالعقل بدلاً من الشرع, وبدع إنكار حجية خبر الآحاد, أو إنكار وجوب العمل بما يقتضيه ونحو ذلك. أما إذا كانت قاصرة على المبتدع لا تتعداه إلى غيره فهي بدعة جزئية، كرجل التزم مخالفة للسنة على أنها من الأمور الحسنة في نظر الشرع، ولا يمتد أثر هذه المخالفة إلى غيره لكونه لا يؤبه له، وليس ممن يقتدى بهم فيما يرون من آراء أو يؤدون من أعمال (¬1). تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي – ص 101 ¬

(¬1) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 59). ((البدعة)) لعزت عطية (ص: 359).

المطلب الخامس: تقسيم البدعة إلى بسيطة ومركبة

المطلب الخامس: تقسيم البدعة إلى بسيطة ومركبة تكون البدعة بسيطة إذا كانت مجرد مخالفة يسيرة، لا تستتبع مخالفات أخر، كمن يتبع النفل الفرض بلا فاصل من تسبيح ونحوه أو يفعل ما يماثل ذلك. وتكون مركبة إذا اشتملت على عدة بدع تداخلت وصارت كأنها وحدة واحدة، كاعتقاد الشيعة عصمة الإمام وانتشار كثير من البدع بينهم على أساس هذا الاعتقاد، وما شابه ذلك من البدع (¬1). تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي – ص 101 ¬

(¬1) ((البدعة)) لعزت عطية (ص: 359).

المطلب السادس: تقسيم البدعة إلى صغيرة وكبيرة

المطلب السادس: تقسيم البدعة إلى صغيرة وكبيرة تنقسم البدعة إلى صغيرة وكبيرة اعتباراً بتفاوت ودرجاتها. وهذا مبني على القول بأن المعاصي تنقسم إلى صغيرة وكبيرة وهو الصحيح إن شاء الله. وقد اختلف العلماء في تمييز الصغيرة من الكبيرة بالنسبة للمعاصي، ولا يتسع المقام لذكر هذا الخلاف، وأقرب وجه يلتمس لهذا ما تقرر عند أهل العلم من أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة. وهي الدين, والنفس، والنسل، والعقل، والمال، وكل ما نص عليه راجع إليها، وما لم ينص عليه جرت في الاعتبار والنظر مجراها، وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه. فلذلك نقول في كبائر البدع: ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة، وما لا فهي صغيرة. وإن كان قياس البدع على العبادات في انقسامها إلى صغيرة وكبيرة قد يرد عليه اعتراض خلاصته أنه قد يقال: إن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلاً وإما فرعاً، لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه, أو نقصاناً منه, أو تغييراً لقول فيه، أو ما يرجع إلى ذلك، وليس ذلك مختصاً بالعبادات دون العادات، إن قلنا بدخولها في العادات بل تمنع الجميع. وإذا كانت بكليتها إخلالاً بالدين فهي إذاً إخلال بأول الضروريات وهو الدين، وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة، وقال في الفرق: ((كلها في النار إلا واحدة)) (¬1) , وهذا وعيد أيضاً للجميع على التفصيل. هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر، كما أن القواعد الخمس أركان الدين, وهي متفاوتة في الترتيب، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان, وكذلك سائرها مع الإخلال, فكل منها كبيرة، فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة. ويجاب عن هذا الاعتراض بأنه يمكن إثبات البدعة الصغيرة من أوجه أحدها: أن نقول: الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال, ولكنها على مراتب أدناها لا يسمى كبيرة، فالقتل كبيرة، وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها، وقطع عضو واحد كبيرة دونها، وهلم جراً إلى أن تنتهي إلى اللطمة. ثم إلى أقل خدش يتصور، فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة كما قال العلماء في السرقة، إنها كبيرة لأنها إخلال بضرورة المال. فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدوه من الصغائر, وهذا في ضرورة الدين أيضاً. واستطرد الشاطبي رحمه الله في بيان هذا الوجه إلى أن قال: ¬

(¬1) رواه ابن ماجه (3993) وأحمد (3/ 120) (12229) والطبراني في ((الأوسط)) (8/ 22) وأبو يعلى (7/ 32) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه, قال العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (ص: 16): إسناده صحيح, وقال ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/ 27): إسناده جيد قوي على شرط الصحيح, وقال السخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/ 569): رجاله رجال الصحيح, وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). والحديث روي من طرق عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.

(قال ابن رشد: جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في المدونة، وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى، لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد من السلف، والصحابة المرضيين، وهو من محدثات الأمور ... انتهى). فمثل هذا إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر فيقال في مثله: إنه من كبار البدع. كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها، بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين، فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة. والثاني: أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة، وإلى جزئية، ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كلياً في الشريعة، كبدعة التحسين والتقبيح العقليين، وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعاً من فروع الشريعة دون فرع، بل نجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية، أو يكون الخلل الواقع جزئياً، وإنما يأتي في بعض الفروع دون بعض، كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال، وبدعة الأذان والإقامة في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين، وما أشبه ذلك. فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها (¬1). فالقسم الأول: أعني البدعة الكلية، لاشك أنها من الكبائر, ويكون ما عدا ذلك - أي الجزئية - من قبيل اللمم أي الصغائر التي يرجى فيها العفو, وهذا كله مع عدم الإصرار. والثالث: أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر، ولا شك أن البدع من جملة المعاصي – على مقتضى الأدلة المتقدمة – ونوع من أنواعها، فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضاً، ولا نخصص وجوهاً بتعميم الدخول في الكبائر، لأن ذلك تخصيص من غير مخصص، ولو كان ذلك معتبراً لاستثنى من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع، فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها. وإذا قلنا إن من البدع ما يكون صغيرة فذلك بشروط: أحدها: أن لا يداوم عليها، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه، لأن ذلك ناشئ عن الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، ولذلك قالوا: لا صغيرة مع إصرار, ولا كبيرة مع استغفار. فكذلك البدعة من غير فرق، إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها، وقد لا يصر عليها، وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطة الشاهد بها أو عدمه، بخلاف البدعة فإن شأنها المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها، وأن تقوم على تاركها القيامة، وتنطلق عليه ألسنة الملامة. ويرمى بالتسفيه والتجهيل، وينبز بالتبديع والتضليل، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة، والمقتدى بهم من الأئمة. والدليل على ذلك: الاعتبار والنقل, فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار، ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى. ¬

(¬1) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 60).

وأما النقل فما ذكره السلف من أن البدعة، إذا أحدثت لا تزيد إلا مضياً، وليست كذلك المعاصي. فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله، بل قد جاء ما يؤيد ذلك في حديث الفرق حيث جاء في بعض الروايات ((تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه)) (¬1) ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له. وسيأتي لذلك مزيد بيان عند الكلام في خطورة البدع. والشرط الثاني: أن لا يدعو إليها. فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة، ثم يدعو مبتدعها إلى القول والعمل على مقتضاها, فيكون إثم ذلك كله عليه، فإنه الذي أثارها، وسبب كثرة وقوعها والعمل بها، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً. والشرط الثالث: أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو المواضع التي تقام فيها السنن. وتظهر فيها أعلام الشريعة، فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به, أو ممن يحسن به الظن، فذلك من أضر الأشياء على سنن الإسلام فإنها لا تعدو أمرين: إما أن يقتدى بصاحبها فيها، فإن العوام أتباع كل ناعق، لاسيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس، والتي للنفوس في تحسينها هوى، وإذا اقتدى بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه, لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم الوزر. وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح. لأن إظهار البدع في أماكن إقامة الشعائر الإسلامية يوهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر, فكأن المظهر لها يقول: هذه سنة فاتبعوها. والشرط الرابع: أن لا يستصغرها, ولا يستحقرها, وإن فرضناها صغيرة فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب، فكان ذلك سبباً لعظم ما هو صغير. فإذا توافرت هذه الشروط فإن هذه البدع تكون صغيرتها صغيرة, فإن تخلف شرط منها أو أكثر صارت كبيرة، أو خيف أن تصير كبيرة كما أن المعاصي كذلك (¬2). ا. هـ. تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي – ص: 102 ¬

(¬1) رواه أبو داود (4597)، وأحمد (4/ 102) (16979) , والدارمي (2/ 314) , والحاكم (1/ 218). من حديث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (96) – كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال ابن كثير في ((النهاية)) (1/ 27): إسناده حسن. وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)). (¬2) انظر: ((الاعتصام)) (2/ 57 - 71).

المطلب السابع: انقسام البدعة إلى عبادية وعادية

المطلب السابع: انقسام البدعة إلى عبادية وعادية العبادة هي التي يقصد بها فاعلها التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وقد عرفها السلف بأنها اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال, والأفعال, الظاهرة والباطنة (¬1). وهي مبنية على أصلين: أحدهما: إخلاص العبادة لله وحده. ثانيهما: تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما العادية: فهي ما لا يقصد منه التقرب إلى الله تعالى، أي إنها بحسب أصلها الموضوعة له، لم يقصد بها ذلك وإن صح فيها التقرب باعتبار أمر غير لازم لها وهي الأمور الجارية بين الخلق في الاكتساب وسائر المعاملات الدنيوية التي هي طرق لنيل الحظوظ العاجلة، مثل العقود على اختلافها والتصاريف المالية على تنوعها. ولا خلاف بين العلماء في حدوث الابتداع في العبادات ووقوعه, سواء أكانت العبادات أعمالاً قلبية وأموراً اعتقادية، أم كانت من أعمال الجوارح قولاً أو فعلاً. كمذهب القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة وكذلك مذهب الإباحية (¬2). وإنما اختلف الناس في وقوع الابتداع في العاديات, والذي عليه التحقيق أن البدعة ترجع إلى اختراع عبادة لم تكن معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يرد بها نقل صحيح، ولا تدل عليها أدلة شرعية معتبرة، فهي أولاً خاصة بما يتعبد به. وإذن فلا ابتداع في العادات, ولا في الصناعات, ولا في وسائل الحياة العامة. والقائلون بإمكان وقوع البدع في العاديات بنوا قولهم على أن الشريعة جاءت وافية ببيان القوانين التي بها صلاح الناس في أمور المعاش والمعاد، فالعادات كالعبادات كلاهما مشروع، فكما أنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العادات. فإذا جاز إمكان الابتداع فيما هو عبادة جاز فيما هو عادي من الأمور التي يقصد بها صلاح الدنيا. وهذا القول مردود، فإنه لو جاز ذلك لجاز أن تعد كل العادات التي حدثت بعد الصدر الأول من المآكل والمشارب، والملابس والمسائل النازلة بدعاً والتالي باطل. أما الملازمة فلأن مناط الابتداع حينئذ على إحداث الطرائق الدينية عبادة كانت أو عادة، وهذه المذكورات كذلك. وأما بطلان التالي فلوجهين: الأول: أنه لو عدت هذه المذكورات من البدع لكان كل من تلبس بشيء منها مخالفاً لما كان عليه الصدر الأول وهو موجب للذم، وهذا من الشناعة بمكان. فإن العادات من الأمور التي تدور مع الأزمنة والأمكنة, فللناس في كل زمان وفي كل مكان عادات مختلفة، وهم مع كل هذه العادات – حيث حوفظ فيها على القوانين الشرعية الجارية على مقتضى الكتاب والسنة – على تمام الموافقة للصدر الفاضل. الثاني: إن عدّ هذه بدعاً يؤدي إلى نسبة الحرج والتضييق إلى الشريعة، فإن في التزام الزي الواحد, والحالة الواحدة، والعادة الواحدة تعباً ومشقة قضت به الشريعة، وإنما كان الالتزام كذلك لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال (¬3). ¬

(¬1) ((العبودية)) لابن تيمية (ص: 38). (¬2) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 73) بتصرف. (¬3) ((الابداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 64).

فإن قال قائل إنه قد جدت بدع في العاديات، نحو المكوس والمظالم المحدثة، وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية، وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة، واتخاذ المناخل, وغسل الأيدي بالصابون, ولبس الطيالس, وتوسيع الأكمام وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل, ولم يفعلها السلف الصالح فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها وشاعت وذاعت, فلحقت بالبدع, وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة فقد رده أرباب الطريقة الأولى. قالوا لا نسلم أن هذه المذكورات مما وقع فيه الابتداع لأنها مخالفات للشرع, ومعاصي في الجملة, وليس كل معصية بدعة، سلمنا وقوع الابتداع فيها، لكن لا من حيث كونها عادية، بل من حيث كونها تعبدية. قال في الاعتصام ما محصله: ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادي من شائبة التعبد، لأن ما لا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات، والصلوات، والصيام والحج كلها تعبديات، والبيع, والنكاح, والشراء, والطلاق, والإجارات, والجنايات كلها عاديات لأن أحكامها معقولة المعنى، ولابد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها. فالقسمان مشتركان في معنى التعبد, والابتداع إنما يتصور دخوله في القسم الثاني من جهة التعبد فيه لا من جهة كونه عادة. فمثل المكوس إذا نظر إليها من جهة كونها عادة، أي أنها ظلم كسائر المظالم. مثل الغصب والسرقة، وقطع الطريق, فلا يدخلها الابتداع إذ هي من هذه الجهة مما يتناولها نهي الشارع عن أكل أموال الناس بالباطل، وليس فيها جهة تشريع، وإنما يتصور دخول الابتداع في المكوس إذا لوحظت من جهة أنها وضعت على الناس كالدين الموضوع, والأمر المحتوم عليهم دائماً، أو في أوقات محدودة, على كيفيات مضروبة بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي تحمل عليه العامة, ويؤخذون به, وتوجب على الممتنع منه العقوبة، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك. فإنها من هذه الجهة تكون شرعاً مستدركاً, إذ هي حينئذ تشريع زائد, وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات المضروبة, والغرامات المحكوم بها في الأموال. ففي المكوس على هذا الفرض جهتان: كونها محرمة كسائر أنواع الظلم, وجهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت, كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع فيها نهيان: نهي عن المعصية، ونهي عن البدعة، وليس ذلك موجوداً في البدع العبادية. وإنما يوجد فيها النهي من جهة كونها تشريعاً موضوعاً على الناس، أمر وجوب أو ندب. إذ ليس فيها جهة أخرى تكون بها معصية, بل التشريع نفسه هو الممنوع نفسه، فالعاديات من حيث هي عاديات لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها, أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة, وكذا تقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح لها بطريق التوارث هو من هذا القبيل. فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتياً في الدين, أو حاكماً في الدماء, والأبضاع, والأموال مثلاً محرم في الدين، وكون ذلك يتخذ ديدناً حتى يصير الابن مستحقاً لرتبة الأب بطريق الوراثة وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب بحيث يشيع ذلك العمل ويطرد ويعده الناس كالشرع الذي لا يخالف فهو بدعة بلا إشكال.

وأما اتخاذ المناخل. فإن فرض كونه مباحاً كما قالوا فإنما إباحته بدليل شرعي فلا ابتداع، وإن فرض كونه مكروهاً كما أشار إليه محمد بن أسلم فوجه الكراهة عنده كونها عدت في الأثر الآتي من المحدثات. والظاهر أن الكراهة من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهته قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ... [الأحقاف: 20]. لا من جهة أنه بدعة محدثة، وكذا يقال في باقي الأمثلة. وجملة القول أن الابتداع إن دخل في الأمور العادية فهو لما فيها من معنى التعبد، فرجع الأمر إلى أن الابتداع المذموم لا يكون في العادي المحض، كالمخترعات في أمور الدنيا التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وترقى برقى الأمم والشعوب. ولما كانت بذلك لا يمكن للناس حصر جزئياتها, ويعسر عليهم أن يتقيدوا بجزئيات مخصوصة منها ترك الشارع التصرف لكل أمة تدير شؤونها بما يوافق زمانها, وجاءهم بقواعد كلية تنطبق على كل أمة، وتصلح لكل زمان, فجعل العدل أساس الأعمال. واتقاء الشر مقدماً في أي حال من الأحوال، فمتى كان ذلك قصد الناس في أمورهم الدنيوية فليخترعوا ما شاءوا من الطرق النافعة، وليبتدعوا ما أرادوا من الحيل والأساليب الصحيحة، فإنه لا حجر في ذلك. أما إذا جاوز المخترعون العدل باختراعهم. وانصرفوا إلى الشر والإفساد في ابتداعهم، فتلك سنة سيئة ((ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها)) (¬1). ومما تقدم من الكلام على حكم الابتداع في نحو لبس الثياب, والأكل, والشرب, والمشي, والنوم, يتضح أن هذه أمور عادية, وقد دخلها التعبد, وقيدها الشارع بأمور لا خيرة فيها كنهي اللابس عن إطالة الثوب، وطلب التسمية عند الأكل والشرب, والنهي عن الإسراف فيهما، والنهي عن النوم عارياً على سطح ليس ستر، إلى غير ذلك من القيود التي قيد بها الشارع, فالأمور المذكورة عادية, ومن هذه الجهة لا يدخلها الابتداع، وإنما من الجهة التي رسمها الشارع فيها. فإذا خولف بها الوجه المشروع, واعتبر ذلك ديناً يتقرب به إلى الله تعالى كانت بدعاً, بل هي معصية وابتداع باعتبارين كما سبق في وضع المكوس. فهي باعتبار مخالفتها الأمر والنهي عصيان, ومن حيث التقرب بها إلى الله تعالى من الجهة المضادة للطريق التي رسمها تكون مذمومة. تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي – ص 106 ¬

(¬1) رواه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

المبحث الخامس: حكم البدعة

المبحث الخامس: حكم البدعة معلوم أن النهي عن البدع قد ورد على وجه واحد، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) (¬1). وهذا عام في كل بدعة. وقد فصل الإمام الشاطبي رحمه الله القول في أحكام البدعة تفصيلاً لا يبقى بعده مجال للشك بأن كل بدعة محرمة. وإذا سلمنا أن منها ما هو مكروه فهو كراهة تحريم وليس كراهة تنزيه ... قال الشاطبي: (ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة نخرج عنها الثلاثة، فيبقى حكم الكراهية, وحكم التحريم. فاقتضى النظر انقسام البدعة إلى قسمين: فمنها بدعة محرمة، ومنها بدعة مكروهة. وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات، لا تعدو الكراهة والتحريم، فالبدع كذلك هذا وجه. ووجه ثان: أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبها متفاوتة، فمنها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن كقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا [الأنعام: 136]. وقال تعالى: مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ [المائدة: 103] (¬2)). قلت: ويلحق بالبحيرة والسائبة وما ذكر بعدهما ما يفعله المريدون في هذا الزمان من شيوخ الطرق الصوفية من النذور لمشايخهم, ووقف بعض أموالهم عليهم في الحياة وبعد الممات، حيث يعتنى بهذه الأموال كل العناية, فتترك بعض المواشي بحيث لا تحلب, ولا تركب, ولا تذبح، ولا يؤخذ صوفها ولا وبرها, ولا يتصرف فيها حتى تصل إلى مقام الشيخ أو تترك حتى تموت. وقد حدثني بعض من هداهم الله إلى الحق بعد أن كان مغرقاً في التصوف أنه كان يخصص جل أمواله لشيخ الطريقة ويكتفي منها بما يسد رمقه ورمق عياله. وقال لي بعضهم - وكنت في زيارة لبعض البلاد الإسلامية -: إنه يخصص ثلث ماله لشيخ الطريقة، وذكر لي غير واحد ممن أثق به أن شيوخ الطرق يرهبونهم, ويهددونهم بالانتقام, وحدوث المصائب العظام، إذا لم يهبوا بعض أموالهم للشيخ، وقد يدعي زوراً وبهتاناً أنه من ذوي الشرف والسيادة - أي من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - بقصد ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل. والله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا [النساء: 29 - 30]. ¬

(¬1) رواه أبو داود (4607) وابن ماجه (42) وأحمد (4/ 126) (17184) وابن حبان (1/ 178) والطبراني (18/ 245) والحاكم (1/ 176) من حديث العرباض بن سارية, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الحاكم هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 181) وقال ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)): ثابت صحيح, (2/ 1164) وصححه ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (20/ 309) وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)). وروى مسلم في ((الصحيح)) (867) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: (( ... وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ... )). (¬2) انظر: ((الاعتصام)) (2/ 36 - 37).

إن صرف هذه النذور والأموال لأصحاب القبور هو الشرك الأكبر بعينه. والكفر البواح الذي من أجله أرسل الله الرسل, وأنزل الكتب, فإلى متى يسكت علماء المسلمين عن هذا الشرك وذلك الضلال المبين, فاستيقظوا يا حماة التوحيد, واصدعوا بالحق يا رجال العقيدة, فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94]. ثم نعود إلى الإمام الشاطبي رحمه الله وهو يضرب أمثلة على البدع المكفرة والمخرجة عن الملة حيث يقول: (وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال وما أشبه ذلك مما لا شك فيه أنه كفر صراح) (¬1). قلت: ومن الفرق المارقة من الدين بإجماع المسلمين فرق الباطنية من إسماعيلية, وقرامطة, ودروز, ونصيرية, وغلاة الرافضة القائلين بارتداد الصحابة, ونقص القرآن الكريم, ودعوى العصمة لغير الأنبياء, ونحو ذلك من كفرياتهم. وكذا من ظهر في هذا العصر من الفرق المارقة الملحدة مثل القاديانية والبهائية ومن على شاكلتها. إذاً فالقسم الأول من البدع هي تلك البدع المكفرة بدون شك أو ريب كما أسلفنا. ثم بين الشاطبي القسم الثاني وهو ما دون الكفر, أو المشكوك في كفر صاحبه من عدمه. ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر, أو يختلف هل هي كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج, والقدرية, والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة. ومنها ما هو معصية اتفاقاً وليست بكفر, كبدعة التبتل, والصيام قائماً في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع, ومنها ما هو مكروه، كقراءة القرآن بالإدارة، والاجتماع للدعاء عشية عرفة. فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة, فلا يصح مع هذا أن يقال: إنها على حكم واحد، هو الكراهة فقط، أو التحريم فقط (¬2). ثم يذكر الشاطبي وجهاً ثالثاً لبيان أحكام البدع فيقول: (إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينيات فهي أدنى رتبة بلا إشكال، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين. ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل، ولا يمكن للمكمل أن يكون في رتبة المكمَّل، فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع المقصد، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد، فقد ظهر تفاوت رتبة المعاصي والمخالفات. وأيضاً فإن الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه، فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين، وليس تستصغر حرمة النفس جنب حرمة الدين، فيبيح الكفر الدم, والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين. ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص؟ فالقتل بخلاف العقل والمال، وكذلك سائر ما بقي، وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب، فليس قطع العضو كالذبح، ولا الخدش كقطع العضو, وهذا كله محل بيانه الأصول. وإذا كان كذلك فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التفاوت في المعاصي, فكذلك يتصور مثلها في البدع، فمنها ما يقع في الضروريات - أي أنه إخلال بها -, ومنها ما يقع في رتبة الضروريات، ومنها ما يقع في الدين, أو النفس, أو النسل, أو العقل, أو المال) (¬3). وإليك أخي القارئ تلخيصاً للأمثلة التي أوردها الإمام الشاطبي رحمه الله لبيان تأثير البدع على الكليات الخمسة وغيرها من الأضرار مع زيادة نافعة إن شاء الله. ¬

(¬1) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 37). (¬2) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 37). (¬3) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 38 - 39).

1 - مثال الابتداع في الدين: تحريم البحيرة, والسائبة, والوصيلة, والحام. والمقصود بذلك تحريم ما أحل الله بقصد التقرب به إلى الله تعالى مع كونه حلالاً. قلت ويلحق بهذا نحلة الطائفة التي يسمى أهلها بالنباتيين الذين يحرمون اللحوم وكل ما لم يكن نباتياً, ويقال إن منهم أبا العلاء المعري ومن على شاكلته من الفلاسفة. 2 - ومثال وقوعه في النفس: نحل الهند في تعذيبهم أنفسهم بأنواع العذاب الشنيع، والتمثيل الفظيع، بأنواع القتل التي تفزع منها القلوب، وتقشعر منها الجلود، كالإحراق بالنار، كل ذلك على جهة استعجال الموت لنيل الدرجات العلا في زعمهم، والفوز الأكمل بعد الخروج من هذه الدار العاجلة. قلت: ويلحق بهؤلاء بعض غلاة الشيعة - الرافضة - الذين يجتمعون في اليوم العاشر من المحرم بمناسبة استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه فيضربون أنفسهم بالحديد, والأخشاب, بدعوى الحزن كل ما تمر هذه المناسبة (¬1). وكذلك بعض المتصوفة الذين اختاروا لأنفسهم طريق التقشف, والعيش في الغابات والبراري وهم حفاة عراة, وكل ذلك قلدوا فيه طوائف الهندوك, والبوذيين ومن على شاكلتهم. 3 - ومثال ما يقع في النسل: ما ذكر من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة فيها, ومعمولاً بها، ومتخذة فيها كالدين المنتسب, والملة الجارية التي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام، ولا غيره، بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا, وهو على أنواع, فقد روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: (الأول منها: نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته، أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها. والثاني: نكاح الاستبضاع. كالرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يبين حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا نكاح الاستبضاع. والثالث: أن يجتمع الرهط ما دون العشرة، يدخلون على المرأة كلهم يصيبها, فإذا حملت ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع منهم رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، فتسمي من أحب باسمه فيلحق به ولدها فلا يستطيع أن يمتنع منه الرجل. الرابع: أن يجتمع الناس الكثيرون فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت أحداهن ووضعت حملها جمعوا لها, ودعوا لها القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به, ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم) (¬2). قلت: ويلحق بهذا نكاح المتعة الذي حرمه الإسلام، كما دلت عليه السنة الصحيحة. ومع هذا فهو من أفضل الأنكحة عند الرافضة إلى اليوم. 4 - ومثال ما يقع في العقل: أن الشريعة بينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله، ولذلك قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]. ¬

(¬1) ((مقتل الإمام الحسين وفتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر)) لمرتضى عياد (ص: 12 - 40). (¬2) الحديث رواه البخاري (5127).

وقال تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59]. وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [يوسف: 40] , وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في الاستقلال بالتشريع, وأنه محسن ومقبح في دين الله، فابتدعوا في دين الله ما ليس منه. ومما لاشك فيه أن العقل يدرك الحسن والقبح في الجملة, لكنه لا يستقل بالحكم دون الشرع كما تقوله المعتزلة، ومن تحكيم العقل المجرد أن الخمر لما حرمت، ونزل من القرآن في شأن من مات قبل التحريم وهو يشربها. قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ [المائدة: 93]. الآية. تأولها قوم - فيما ذكر - على أن الخمر حلال وأنها داخلة تحت قوله فِيمَا طَعِمُواْ فذكر إسماعيل بن إسحاق عن علي رضي الله عنه قال: (شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ الآية. قال: فكتب فيهم إلى عمر، قال فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم إليَّ قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين: نرى أنهم قد كذبوا على الله, وشرعوا في دينه ما لم يأذن به, فاضرب أعناقهم، وعلي رضي الله عنه ساكت، قال: فما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، فإنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به. فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين) (¬1). فهؤلاء استحلوا بالتأويل ما حرم الله بنص الكتاب، وشهد فيهم علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة، بأنهم شرعوا في دين الله وهذه البدعة بعينها فهذا وجه. وأيضاً فإن بعض الفلاسفة الذين ظهروا بين المسلمين تأول فيها غير هذا وهو أنه إنما يشربها للنفع لا للهو، وعاهد الله على ذلك فكأنها عندهم من الأدوية النافعة, أو غذاء صالح يصلح لحفظ الصحة. ويحكى هذا العهد عن ابن سيناء (¬2). قلت: وقد قلد ابن سيناء وغيره من الإباحيين كثير من الناس في هذا العصر بتعاطي المخدرات والمفترات والتي هي أخطر من الخمر في تأثيرها على الصحة, والعقل, والمال, والدين قبل كل شيء. يروجونها بدعوى أنها منشطة, ومنسية للهموم والأحزان، وهي لا تزيدهم إلا هماً وغماً، كما قال فيها الشاعر: (وداوني بالتي كانت هي الداء) (¬3). وإن كثيراً من بلاد المسلمين تبيح قوانينها شرب الخمور, وتعاطيها دون حياء أو خجل أو خوف من الله عز وجل. وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر, والحرير, والخمرة, والمعازف)) (¬4). ولو نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم لوجدنا أن هذه الأمور قد استحلت, بل يعطى أصحابها تراخيص رسمية بموجب القانون. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومما له تأثير على العقل أيضاً أن بعض المبتدعة تحولوا في ذكرهم لله إلى حالة من الرقص والغناء مصحوبة بآلات الطرب واللهو، فربما رقصوا بدعوى الذكر حتى تغيب عقولهم, ويصيبهم الزار, فيقعون على الأرض, ويزعمون أنهم سكروا في حب الله عندما تذهب عقولهم تحت تأثير هذا الرقص والغناء. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة (6/ 503). (¬2) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 39 - 46). (¬3) وهو عجز بيت لأبي نواس صدره: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء .. (¬4) رواه البخاري (5590). من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

5 - ومثال ما يقع في المال أن الكفار قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة: 275]. فإنهم لما استحلوا العمل به احتجوا بقياس فاسد, فقالوا: إذا فسخ العشرة التي اشترى بها إلى شهر في خمسة عشر إلى شهرين, فهو كما لو باع بخمسة عشر إلى شهرين فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] , ليس البيع مثل الربا. فهذه محدثة أخذوا بها مستندين إلى رأي فاسد، فكان من جملة المحدثات كسائر ما أحدثوه في البيوع الجارية بينهم المبنية على الخطر والغرر (¬1). قال علي محفوظ في كتابه الإبداع في مضار الابتداع رداً على من قاس الربا على البيع في الحل بعد أن أورد كلام الشاطبي. وحاصله: (أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع, لوقوعه في مقابلة النص، على أن بينهما فارقاً، وهو أن من باع ثوباً مثلاً قيمته عشرة في الحال بأحد عشر، فإنه أخذ الزائد بغير عوض، ولا يمكن جعل الإمهال عوضاً. لأنه ليس بمال حتى يكون في مقابلة الزائد. وهذا عين الربا لأنه زيادة لا يقابلها عوض في معاوضة مالية) (¬2). قلت: وقد كثر الدعاة لإباحة الربا في هذا الزمان، ومما يؤسف له أن يكون بعض الناعقين بالدعوة إلى حله ممن يظن أنهم من أهل العلم، فقد صرحوا بإباحته على المنابر, وعبر وسائل الإعلام, متجاهلين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لعلل واهية, وتمحلات اخترعوها من بنيات أفكارهم, احتيالاً على تحليل ما حرم الله, وهذا شأن اليهود فإنهم عندما حرم الله عليهم لحوم الميتة أخذوا شحومها فجملوها - أي أذابوها - فباعوها فأكلوا ثمنها. فقد روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح، وهو بمكة: ((إن الله ورسوله حرم بيع الخمر, والميتة, والخنزير, والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه)) (¬3). كما ظهر في هذا الزمان كثير من الحيل بقصد ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل مثل ما يسمى باليانصيب وغيره، من ألوان القمار, وكثير مما يجري في البورصات, والأسواق العالمية من الحيل, والمؤامرات, ناهيك عن انتشار البنوك الربوية في شتى بلاد العالم الإسلامي في كل مدينة وقرية. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وخلاصة القول إن البدع كلها حرام، وتتفاوت رتبها في دائرة الحرام، فمنها ما هو كفر صراح، ومنها ما هو مشكوك في كفر صاحبه, ومنها ما هو معصية لا يكفر صاحبها بلا نزاع، ومنها ما هو مكروه, وقد فصلنا أمثلة ذلك في أول الفصل. هذا ويجدر بنا ... أن ننبه إلى أن ما يجري عليه حكم المكروه من البدع، لا يعني به كراهية التنزيه، وقد نبه على ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله. ¬

(¬1) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 47 - 48). (¬2) ((الإبداع في مضار الابتداع)) لعلي محفوظ (ص: 151). (¬3) رواه البخاري (2236)، ومسلم (1581).

فإن إطلاق المكروه على ما هو مكروه تنزيهاً اصطلاح للمتأخرين لم يعرف عن المتقدمين من السلف، فلم يقولوا فيما لا حرج فيه إنه مكروه، ولم يكن شأنهم أن يقولوا فيما لا نص فيه هذا حلال وهذا حرام، لئلا يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116 - 117]. وإنما كانوا يقولون فيه هذا مكروه, أو أكره هذا, أولا أستحب هذا (¬1). وما أشار إليه الشاطبي هنا: من استعمال السلف لفظ المكروه بمعنى الحرام هو ما وضحه ابن القيم حيث بين أن في استعمال القرآن والسنة ما يشير إلى هذا كقوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى [الإسراء: 32]. وقوله: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ [الأنعام: 152]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كره لكم قيل وقال ... )) (¬2) إلخ. ومما يدل على أن البدع إذا عبر عنها بالكراهة فإنه يقصد بها كراهة التحريم هو ورود النهي عن البدع على وجه واحد، ونسبتها إلى الضلال على كل حال، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا إذا تأملنا حقيقة البدعة - جلت أو خفيت - وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات مخالفة تامة. فمرتكب المكروه يفعله متكلاً على العفو اللازم فيه, ورفع الحرج الثابت في الشريعة له. كما أن اعتقاده غير متزحزح، فهو يعتقد المكروه مكروهاً والحرام حراماً، ثم إنه يرى ترك المكروه أولى في حقه من الفعل, ويود لو لم يفعل، وعلى كل فطمعه في الإقلاع عن هذا المكروه, والتخلص من الوقوع فيه لا ينقطع. أما مرتكب أدنى البدع فإنه يعد ما دخل فيه حسناً, بل يراه أولى مما حد له الشارع، ويزعم أن طريقه أهدى سبيلاً، ونحلته أولى بالأتباع، فهو يفعل ما يخالف, ولا يستشعر سوء ما يفعل، ويندر أن يتحرك قلبه نحو التوبة مما هو واقع فيه (¬3). وعلى كل حال فالبدعة لها أمران: أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له, حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حد له. والثاني: أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد, أو ناقص, أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع فيكون قادحاً في المشروع (¬4). ولذلك فإن البدع مع كونها محرمة فهي في أعلى درجات المحرم، وتكاد كلها أن تكون كبائر, فإن التشريع الزائد, أو الناقص, أو تغيير الأصل لو لم يكن بناء على اجتهاد خاطئ, أو تأويل غير مقبول لكان كفراً, وكل ما ذكر في شأن البدعة وما ورد فيها من الذم يرجح ذلك. تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي بتصرف - ص215 ¬

(¬1) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 47). (¬2) رواه البخاري (2408) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. ومسلم (1715) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 48). (¬4) ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 52).

§1/1