الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري - معتزلي

العسكري، أبو هلال

مقدة المصنف.

مقدة المصنف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبهِ أسْتعينُ، وعَلَيه أتوكلُ الحمدُ للَّه ذي النعمِ الجليلةِ والمِنَنِ الجزيلةِ، الداعي إلى الرشادِ، والهادِي إلى السدادِ، ذي الفَضْلِ الجسيمِ والإحسانِ العميمِ، الشاملِ لطفُه، الكريمِ عطفُه، الغالبِ سلطانُه، الواضحِ برهانُه، المتم نورَه: (وَلَو كرِه الْكافِرُونَ)، المعلي دينه ولو رغم المنافقون. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وبيده الآخرة والأولى، وما عنده خير وأبقى، لا يجلب الخير إلا بمعوته، ولا يدفع الضر إلا بمغوثته. وأشهد أن محمدا عبده المجتبى ورسوله المرتضى، صلى الله عليه وعلى آله الذين اصطفى، وبعد، فإنك - سددك الله - ذكرت أنك طالعت الكتب المصنفة في الوجوه والنظائر من كتاب الله جل ثناؤه، فوجدت فيها تأويلات تطرد على أصول أهل الحق من القائلين بالتوحيد والعدل. فأردت أن يرد كل شيء منها إلى حقه، وألفيت في معانيها ما يدخل بعضه في بعض، فالتمست إيراد كل نوع منها على وجهه، وترخيت أن يكون ما تفرق منها مجموعا في كتاب واحد على وجه يقرب استخراج ما يراد منه عند الحاجة إليه، ويزاد عليه ما كان من جنه مما لم تتكلم فيه السلف. فعملت كتابي هذا مشتملا على أنواع هذا الفن، محمولا على ما طلبت، ومسلوكا به طريق ما سألت، قد نفي اللبس عن جميعه، ويبين الصواب في صنوفه، وميزت وجوهه تمييزا صحيحا، وقسمت أبوابه تقسيما مليحا. وذكر أصل كل كلمة منه واشتقاقها في العربية؛ لتكثر فائدتك به، ونظم على نسق حروف المعجم؛ ليتيسر الوصول إلى المطلوب من أنواعه، ويتسهل نيل ما ينبغي من أصنافه.

فابتدئ منه بما كان في أوله ألف أصلية أو زائدة، ثم بما كان في أوله باء، ثم كذلك إلى آخر الحروف. والله المعين على ما فيه رضاه، وهو حسبنا ونعم الحسيب.

الباب الأول في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ألف

الباب الأول في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ألف إمام قال - الشيخ أبو هلال الحسن بن عبد اللَّه بن هلال رحمه اللَّه: الإمَام أصله القصد.

وسمي الإمام إماما؛ لأنك تقصد قصده في أفعاله. وقيل للخليفة: إمام؛ لأنك تقصد قصد أوامره، أو لأنه يتقدم، فتتبع أثره. والطريق: إمام؛ لأنه يقصد. وقد أممت، إذا قصدت. وأصل التيمم: التأمم، وهو تفعل من ذلك. وأمر أمم: قصد، وهو ما بين القريب والبعيد. وأم الشيء: أصله، ترجع إلى هذا؛ لأن كل من يريد الشيء فإنما يقصد أصله، فيبتدئ به في أكثر الحال. وأم الدماغ: الجلدة الرقيقة التي تجمعه. وسميت الأم أما؛ لأن ولدها يتبعها. وسميت سورة الحمد: أم الكتاب؛ لأنها تتقدم الكتاب، فهو تابع لها كما يتبع الولد أمه. والإمام في القرآن على أربعة أوجه: أولها: بمعنى القائد، قال الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، أي: قائدا في الخير مقتدى بك.

والجعل هاهنا بمعنى القضاء، أي: قاض لك بالتقدم على الناس بالنبوة ليقتدوا بك،: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، يجوز أن يكون سؤالا: (أن يجعل من ذريته أنبياء، ويجور أن يكون استخبارا، فقال: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، أيِ: - ينال عهدي المؤمنين من ذريتك دون الظالمين لأنفسهم. والعهد هاهنا: النبوة والوحي، وقيل: الرحمة، وقيل: الوعد، والأول الوجه. ْ .. ومثله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، أي: الطُف بنا حتى نصير من التقوى والصلاح بحيث يقتدي بنا المتقون. ويجوز أن يكون المعنى: حتى نكون يوم القيامة في أئمة المتقين نتقدمهم في المضي إلى الجنة ويتبعوننا. وقال: إماما،، وأراد أئمة، سمَّاهم بالمصدر. أمَّ يؤم إماما وإمامة، كما تقول: جل جلالا وجلالة، ومثله: الكتاب والكتابة، وقيل: معناه: اجعلنا للمقين بالائتمام بهم، أي: اجعلنا أتباعا لهم. ونحوه قوله تعالى: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)،، يعني: التوراة يقتدى بها. الثاني: الكتاب، قال الله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)، أي: بكتابهم الذي فيه أعمالهم. وقيل: بداعيهم الذي دعاهم إلى الهدى أو الضلالة. وقيل بدينهم. الثالث: قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)، يعني: اللوح المحفوظ، والشاهد قوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)، أي: نكتب ما سلف من أعمالهم، وما أثروه في الدنيا من سنن الخير أو الشر، ثم قال: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) أي: وكتبنا كل شيء في اللوح المحفوظ؛ لتعتبر الملائكة بما يكون من ذلك لأوقاته، لا لمخافة النسيان؛ لأن النسيان لا يجوز على الله.

الرابع: الطريق، قال الله تعالى: (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ). أي: بطريق واضح تمرون عليها في أسفاركم، يعني: القريتين المهلكتين؛ قرية قوم - لوط وأصحاب الأيكة.

الأمة

الأمة راجعة إلى القصد، وهي: الجماعة التي تقصد الأمر بتضافر وتعاون. وقولنا: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، معناه: الجماعة القاصدة لتصديقه، المتفقة في أصول دينه، وإن اختلفت في الفروع. ويجوز أن يكون أصل الكلمة الجمع. فقيل للرجل: (أمة؛ لأنه يسد مسد الجماعة. والإمام: إمام؛ لاجتماع القوم عليه. والأم؛ لجمعها أمر الولد. - والأمة: الدهر؛ لأنَّهَا جماعة شهور وأعوام، وهو قوله: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ). وقيل: يريد بعد حين أمة فحذف. وأمه: إذا قصد الاجتماع معه. وفلان حسن الأمة، أي: القامة؛ وذلك لاجتماع خلقه عل الاستواء. والأمي: قيل: عن الأمة الجماعة، أي: على أصل ما عليه الأمة، وقيل: هو من الأم. وهي في القرآن على عشرة أوجه:

أولها؛ الجماعة، قال الله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، أي: جماعة، ومثله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ)، وقوْله تعالى: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ)، وقوله: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ)، وقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ). الثاني: الملة، قال الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً). يعني: (أهل أمة واحدة، أي: ملة؛ فحذف لبيان المعنى، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ). وسُمِّيتْ الملة أمة؛ لاجتماع أهلها عليها، ويجوز أن يقال: إنها سميت أمة؛ لأنَّهَا تقصد وتتبع. والمراد أن الناس كانوا على الكفر فيما بين آدم ونوح، أو ما بين نوح وإبراهيم، فبعث الله النبيين عليهم السلام بالأوامر والنواهي والبشارات والزواجر،: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ): - الذي فيه الحق؛ لكون فصلا بين المختلفين بما فيه من التمييز بين الصواب والخطأ، وهو مثل قولك: ذهب به، وخرج به، وما أشبهه.

الثالث: أهل الإسلام بعينه، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)، يعني:. حالهم على عهد آدم، وما كانوا عليه في سفية نوح. ومثله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، ومثله في المائدة، أي: لو شاء الله لجعلكم متفقين على الإسلام قهرا، كما قال تعالى: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ). الرابع: قوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً). أي: ملتكم، فهي هاهنا الملة بعينها، وفي الأول: الجماعة المتفقة على الملة الواحدة كما بينا. قال الزجاج: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): (أُمَّتُكُمْ)، رفع؛ لأنه خبر هذه، المعنى: (أن هذه أمتكم في حال اجتماعها على الحق، فإذا افترقت فليس من خالف الحق داخلا فيها، فنصب: (أُمَّةً وَاحِدَةً) على الحال. وقرئ: (أمة واحدة) على أنها خبر بعد خبر، ومعناه: إن هذه أمة واحدة [ليست أمما]، ويجوز أن يكون نصب: (أمتكُم)، على التوكيد كأنه قال: إن أمتكم كلها أمة واحدة. الخامس: قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ). يعني: سنين. ومثله قوله تعالى: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ). أي: بعد حين .. وسمي الحين أمة؛ لأنه جماعة أوقات وشهور. وقيل: هو على حذف: (أي: بعد حين أمة، أي: جماعة.

وقرئ: بعد أمه، أي: بعد نسيان. وقيل: (إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ)، أي: جماعة معدودة، بأنه ليس فيها من يؤمن، فإذا صارت كذلك أهلكت بالعذاب. السادس: قوله ئعالى: (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ)، يعني: قوما يكونون أربى من قوم؛ أيْ: (أكثر عددا، ومنه الربا؛ لأنه زيادة في أصل المال. ومثله (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا). أراد أنه جعل لكل أمة من الأمم التي خلت فيها الرسل مَنْسَكًا؛ وهو الذبائح التي كان أمرهم أن يتقربوا بها إلى الله - ونتكلم في ذلك فيما بعد إنْ شاء الله - ولم يرد جميع الأمم؛ لأنه لم يجعل للمجوس وعباد الأصنام مناسك. السابع: الإمام، قال الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ). أي.: إماما يقتدى به في الخير. وقيل الأمة الرجل العظيم، وسمي بذلك؛ لأنه يؤم في الحوائج؛ أي: يقصد.

الثامن: أمة كل رسول؛ يعني: من بعث إليه الرسل من أمثال عاد، وثمود، وقوم لوط " وهو قوله تعالى: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا)؛. يعني: من هذه الأمم لم تبق أجلها في العذاب. وقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). يعني: الأمة من هذه الأمم؛ لأن الفرس والسند والهند والزنج أمم ولم يبعث فيها نذير، وإنما كانوا متعبدين بتصديق من بعث في غيرهم من الأنبياء، " على حسب ما يعبدوا بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعت فيهم. التاسع: قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). يعني: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). أي: عدلا. وهو من واسطة القلادة، وليس من قولهم: هذا شيء وسط. إذا كان بين العالي والمنحط، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنا أوسط قريش نسبا ". وله وجه آخر: وهو أن الوسط: العدل، وسمي بذلك؛ لأنه بين غلو الغالي وتقصير المقصر.

ومعنى الآية على هذا: إنكم لم تغلوا في الأنبياء. كغلو النصارى في عيسى، إذ قالوا: إنه إله. ولم تقصروا فيهم تقصير اليهود؛ إذ قالوا: إنه كذاب. ومن الأول قولهم: فلان وسيط في حسبه، أي: هو الكامل المتناهي. وفي الآية دليل على أن الأمة لا تجتمع على الباطل. والوسط بالإسكان: الموضع. والوسط بالتحريك: ما بين طرفي كل شيء، وأصل الكلمة العدل، فالمكان لا يمتد إلى المسافة إلى أطرافه. والرجل الأوسط في قومه: الذي تكللُه الشرف من نواحيه. العاشر: قوله تعالى: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا). يعنى: الكفار من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم ذكر الأمم والرسل في القرآن، فعطف قوله: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ). على أولئك الرسل، فكأنه قال: كما أرسلنا إلى أمم رسلا من قبل أرسلناك إلى أمة، يعنى: هذه الأمة، و: (خَلَتْ) أي: مضت ولم تبق منهم باقية. وفي هذا التزهيد في الدنيا والحث على الاعتبار بمن سلف. ثم قال: (لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ). أي: لتتلوه عليهم وتدعوهم إلى العمل به فحذف ذلك. وقوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) موصول بقوله (أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ). الكفر بالرحمن دينهم. والأصل في هذا كله واحد إلا أن موضع الاستعمال يختلف.

وهاهنا وجه آخر، وهو قوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ). لما جعلها أمثالهم في الخلق والموت والبعث جعلها أمما.

الأخذ

الأخذ أصله: الجمع، ومنه يقال للموضع الذي مجتمع فيه ماء السماء: الأخذ، والجمع إخاذ، ويقال له؛ وخذ - أيضا، ويقال: ولي على الشام وما أخذ إخذه؛ أي: اجتمع مع أعماله. ومآخذ الطير: مصائدها؛ لأنَّهَا تجتمع فيها، والاتخاذ: أخذ الشيء لأمر يستمر. واستعمل في القرآن على ستة أوجه: أولها: القبول، قال اللَّه تعالى: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ). أي: اقبلوه. وقوله: (وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ)، أي: يقبلها، ومعنى قبوله لها إثابته عليها. وقوله تعالى: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا). أي: لا يقبل منها فدية، والعدل: الفدية، وسنذكره إن شاء الله. ومثله قوله: (خُذِ الْعَفْوَ). أي: اقبل الفضل من أموالهم.

قال ابن عبَّاس: العفو ما عفا من أموالهم؛ وهو الفضل منها بعد الكل والعيال، ثم نزلت آية الزكاة، وهو قول مقاتل: وقال الحسَن ومجاهد: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ العفو من أخلاق الناس. والعفو هو التيسير والتسهيل، والمعنى: استعمال العفو، وقبول ما سهل من الأخلاق، وترك الاستقصاء في المعاملات، وقبول العذر من المذنب، وإلى نحو هذا ذهب أبو علي رضي الله عنه وقال بعضهم: خذ ما أتاك عفوا من إيمان قومك وغيرهم، وينبغي أن يكون هنا قبل فرض السيف. وقوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ). أي: اقبلوه واعملوا به. الثاني: الحبس، قال اللَّه تعالى: (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ). أي: احبس،: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ). أي: نحبس، ومثله: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ). وذلك أنه إذا حبس فقد حصل محصل الأسير، والأسير، يقال له: الأخيذ. الثالث: العقاب، قال اللَّه تعالى: (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ). أي: عاقبتهم. وقوله: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى). أي: عقابه. وقوله: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ). أي: عاقبنا، وفي هذا دليل على أن من لم يفعل ما وجب عليه فقد فعل ذنبا. الرابع: القتل، قال الله تعالى: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ). أي: ليقتلوه. كذا قيل، والصواب: ليتمكنوا منه، فإما أن يقتلوه، أو يخرجوه، أو يحبسوه، وذلك أن ما أخذته فقد تمكنت منه.

الخامس: الأسر، قال الله تعالى: (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ). أي: أسروهم واحبسوهم عن وجوههم فإن أسلموا وإلا فاقتلوهم، وإنما أمر بقتلهم وأسرهم وحبسهم ليخافوا النكال فيؤمنوا. والأشهر الحرم في هذه الآية: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ فواحد منها فرد، وثلاثة متوالية، وليست هذه الأشهر الأربعة المذكورة في قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ). لأن آخر تلك انقضاء عشر من شهر ربيع الأول، وانقضاء الأشهر الحرم انقضاء المحرم والأربعة الأشهر الأولى، وهي أشهر العهد، والكلام في هذا طويل ليس ذا موضع ذكره. السادس: الإصابة بالمكروه، قال. اللَّه تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ). كذا قيل، والصحيح أنه بمعنى الإهلاك؛ أي أهلكتهم هذه الصيحة، ويجوز أن يكون نظير قوله: (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ)؛ لأن الصيحة عقاب.

الاعتداء

الاعتداء أصله تجاوز الحد، ومنه قيل عداء جاوزه إذا جاوز قدره، وسمي العدو عدوا لتجاوز حد السعي والمشي، ويجوز أن يكون أصله من الميل، ومنه قيل: عدوة الوادي وهي جانبه، وفي القرآن: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى).

ومن ذلك قيل: العلو لميله عمن يعاديه، وسمي الظلم اعتداء؛ لأنه ميل عن الحق، كما سمي جورا؛ لأنه ميل. وهو في القرآن على وجهين: أولهما: التجاوز، قال الله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا). أي: لا تجاوزوها إلى غيرها،: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ)، أي: يتجاوزها، ومثله: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). الثاني: الظلم، قال اللَّه تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). أي: فمن ظلمكم فجازر. بظلمه، سمي الجزاء على الظلم ظلما. قال الشاعر: ألَا لَا يجهَلَن أحَدْعَلينَا ... فنجهَلُ فَوقَ جَهلِ الجاهِلِينَا لم يفتخر هنا الشاعر بالجهل وإنما أراد الجزاء على الجهل. والجهل هاهنا: ركون الرأس في السر، وليس هو ضد العلم. وأول الآية: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ). والمعنى: أن المشركين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القتال في الشهر الحرام، فأنزل اللَّه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). فأرادوا أن يغزوه في الشهر الحرام طمعا أن تكف عنهم فسألوا منه، فأنزل الله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ): إن استحلوا منك في الشهر الحرام شيئا فاستحل منهم مثله فيه، وأكد ذلك بقوله: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ). أي: لا يجوز ذلك بالمسلمين إلا قصاصا. ثم قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). والمعنى: إنهم إن اعتدوا فقاتلوكم في الشهر الحرام فلا تقصروا عن قتالهم فيه، فيكون الاعتداء من المشركين الظلم، ومن المسلمين الانتقام.

وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ). أي: فمن قَبِل الدية ثم قتل فله العذاب؛ لأنه ظالم. وفي قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ). دليل على أن الحر يقتل بالعبد؛ لأن من قتل وليه فقد اعتدى عليه.

الأمر بالمعروف

الأمر بالمعروف يعبر عن كل شيء بالأمر، وأصله في اللغة؛ الظهور، ومنه قيل، للعلامة: أمارة؛ لظهورهما، والإمرة، لظهور أمرها، والأمير ظاهر على ما يعلم، وأمر الشيء إذا كثر، ومع الكثرة ظهور الشأن. والمعروف كله: ما تقبله النفس وتحبه، والمنكر كل ما تكرهه وترده. وأصل العرفان والمعروف واحد؛ وهو الطمأنينة والسكون، وذلك أنك إذا عرفت الشيء سكنت إليه إن كان محبوبا، وإن كان مكروها عملت في إزالته لتسكن. والعرف الريح الطيبة؛ لأن النفس تسكن إليها. والعرف. الصبر؛ لأنه يعقب ما يسكن معه، ورجل عروف: صبور، والعرف والمعروف سواء، والعرف، عرف الدابة معروف.

وهو في القرآن على وجهين: الوجه الأول: الأمر بتوحيد اللَّه، [والنهي عن] الشرك، قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ). جاء في التفسير أنه أراد توحيد الله،: (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)،. يعني: الشرك باللَّه، ومثله قوله: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ). أي: بتوحيد الله: (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي: عن الشرك. الوجه الثاني: قيل: هو اتباع الرسول، قال اللَّه تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ)، ثم قال: (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ). أي: باتباع الرسول، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، أي: عن التكذيب به، هكذا قالوا. قال أبو هلال رحمه الله: وعندنا أن أحد هذين الوجهين داخل في الآخر، وهما جميعا يكونان الأمر بوجوه المحاسن والطاعات كلها. والنهي عن المنكر: النهي عن المعاصي والقبائح بيعها.

أدنى

أدنى أفعل، من الدنو وهو القرب، وتأنيث أدنى: دنيا، وتجمع: دنى، مثل: كبرى وكبر، وسميت الدنيا دنيا؛ لأنَّهَا تؤدي إلى آخرة. وهو في القرآن على أربعة أوجه: أحدها: بمعنى: (أجدر، قال اللَّه تعالى: (وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا). أي: أجدر أن لا تشكلوا إذا رأيتم خطوطكم يخاطب الشهود. وقال: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ). يعني: الكتب .. وأقسط: (أعدل؛ لأنه أبعد من التظالم وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ؛ يعني: أنها إذا كانت مكتوبة كانت أثبت وأبعد من اعتراض شك فيه؛ لأن صاحبها إذا رأي خطه بها لم يشك في صحتها في أكثر الحال. - ومثله: (أدنى ألا تَعُولُوا). أي: أجدر ألا تجوروا وتميلوا، والعول: الميل عن الحق، والعول؛ النفقة على العيال، عالهم عولا. وأول الآية: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)، الآية، والمراد؛ أن أحدهم كان فيما مضى يتزوج عشر نسوة فتعظم المؤونة عليه، فيمد يده إلى مال اليتامى الذي يلي أمرهم وهو مشفق من ذلك، فقيل له: كما خفت على نفسك في أموال اليتامى فخف عليها في حقوق النساء، فإنهن أيضا إلى الضعف والحاجة إلى مالهن، ولا يتزوج منهن أكثر مما يتسع له، ثم قال: (ذَلِكَ أدنى ألا تَعُولُوا). أي: تزوجكم الواحدة أقرب ألا تجوروا. وقيل: كانوا يتزوجون العشر من اليتامى رغبة في مالهن، فربما عجزوا عن التسوية بينهن في النفقه والفراش، فقال الله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى)

أي: في نكاح اليتامى؛ صنف النكاح ودل عليه بقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ). يعني: من هؤلاء اليتامى، ولم يقل: ما طاب لكم منهن؛ لأن لا يظن أن الخطاب مقصور عليهن دون سائر النساء، وأراد أن يبين أن هذا ينبغي أن يستعمل فيهن وفي غيرهن من النساء، وإذا ذكر النساء دخل اليتامى فيهن، وإذا ذكر اليتامى لم يدخل فيه غيرهن. الثاني: بمعنى: أقرب، قال الله تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى). يعني: الجوع والضر والخوف في الدنيا،: (دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ) في الآخرة وهي النار. هكذا قالوا. وهو عندنا بمعنى أيسر؛ لأنه جعله مع كبر، وقوله تعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى). أي: أقرب لا غير. الثالث: بمعنى: أقل؛ قال الله تعالى: (وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ) أي: أقل. الرابع: بمعنى: أدون، قال الله تعالى: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ). أي: الأرفع وهو المن والسلوى بالأوضع، هو ما طلبوه من نبات

الأرض، و: (خَيْرٌ) هاهنا بمعنى أفعل؛ وجعل المن والسلوى أرفع من غيرهما، إذ لم يكن في نيلهما تعب ولا إثم.

الإسلام

الإسلام أصله السكون، ومنه قِيل: السلم خلاف الحرب؛ لما فيه من السكون. ثم استعمل في الخضوع، فقيل: أسلم الرجل واستسلم إذا خضع وتواضع؛ لأن مع الخضوع سكون الأطراف، ومنه قوله تعالى: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا).

ثم استعمل في الإخلاص، فيقال: أسلم الرجل إذا أخلص للَّه، وسلم الغلام في صناعة كذا إذا أخلصه لها، وسلم فلان على فلان كأنَّه عرفه خلوص سريرته، وقد سلم العبد أمره؛ أي -: فوضه إليه وأخلص التوكل فيه عليه. والسلامة: الخلاص من الشر، وقوله: (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي: أخلصت ديني. ومثله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ). أي: يخلص دينه له. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: أولها: الإخلاص، قال الله تعالى (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ). أي: أخلص: (قَالَ أَسْلَمْتُ). أي: أخلصت. الثاني: الإقرار، قال الله تعالى: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا). أي: أقر بالعبادة طوعا. باللسان أو كرها؛ لما فيه من الدلالة على صنع الله فيه، على سبيل ما قال الحكماء: كل صامت ناطق. وهذا يقوم مقام الإقرار وإن لم يكن به. وقال تعالى: (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ). أي: إقرارهم بالإسلام؛ يعني: المنافقين، فسمى الإقرار إسلاما؛ لأنه من شرائط الإسلام.

الثالث: الخضوع والاستسلام، قال الله تعالى: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)؛ وخضعنا مخافة السبي والقتل، وهذه الآية خاصة في قوم من الأعراب، وإن كان لفظها عاما فيهم، إذ كان فيهم من أخلص، كما قال: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ). وإنما. قال لهم ذلك نفر، وقيل: بل رجل واحد.

الإيمان

الإيمان أصل الإيمان السكون والطمانينة، ومن أمنك فقد سكن إليك، ولهذا لا يصح أن يقال: إن الله يأتمن أنبيائه إذ لا يوصف بأنه يسكن إليهم، ولا يوصف الأنبياء بأنهم يأتمنونه، كما لا يوصفون بأنهم يسكنون إليه. وقوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا)، أي: بساكن إلينا. والمؤمن في أسماء الله بمعنى أنه يؤمن عباده من ظلمه، ويسكن قلوبهم حتى لا يخافوا ذلك منه. ثم استعمل الإيمان بمعنى التصديق؛ لأنك لا تصدق الرجل إلا وقد سكنت إلى خبره. ويكون المؤمن في أسماء الله تعالى بمعنى أنه مصدق لأوليائه، وتصديقه لهم تسكين عباده إلى قولهم، ويقال: آمنت لرجل إذا صدقته، ومنه قول الشاعر: وَمِن قبلُ آمنَّا وَقَد كانَ قو ... مُنَا يُصلُّونَ الأَوثَانَ قبلَ مُحَمَّدَا ويجوز أن يكون معنى قوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا). أي: بمصدق قولنا. وقوله تعالى: (آمَنتُمْ لَهُ)، مفارق لقوله: (آمَنتُمْ بِه). معنى: (آمَنتُمْ بِه): صدقتموه. ومعنى: (آمَنتُمْ لَهُ): أظهرتم ما أظهرتموه من عجزكم عن معارضته إعانة له لأمر توافقتم عليه، ولستم تعرفون صدقه.

وهذا كما تقول: فعلت ذلك لفلان. أي: ميلا إليه وإعانه له، وإنما قال فرعون هذا القول ليوهم غيرهم أنهم على اعتقاد التكذيب لموسى؛ لأن لا يكون ما ظهر منهم داعية لغيرهم إلى الإيمان به. وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: بمعنى: الإقرار باللسان من غير اعتقاد؛ قال اللَّه تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا). يعني: أقروا علانية وكفروا سرًّا. وقوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)، هكذا جاء في التفسير. ويجوز عندنا أن تكون المخاطبة في هذه الآيه وما قبلها مخاطبة للمؤمنين حقا يأمرهم بخضوع القلوب وترك تولي المغضوب عليهم في يستقبل من أعمارهم. وقيل: قوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)، أن هؤلاء قوم من المؤمنين قصروا بعض التقصير ولم يطهر عليهم أثر الإسلام؛ خشوعه ووقاره فاستعتبهم الله بهذه الآية. وقال بعضهم: كانوا بمكة مجتهدين فلما هاجروا أصابهم الزيف ففتروا عما كانوا عليه، وأن الشيء يبين، وأنى يأتي بمعنى دنا. الثاني: التصديق سرا وعلانية " قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). الثالث: التوحيد، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)، قالوا: أراد بالتوحيد، والمعنى على هذا: ومن يكفر بالله الموحد ويجوز أن يكون، الكفر هاهنا الجحد: أي: من جحد الإيمان بهذه الأحكام التي تقدم ذكرها فقد حبط عمله، وفيه دليل على أن من نذر طاعة ثم ارتد بطل نذره. الرابع: إقرار الشرك ببعض ما يوافق المسلم، قال الله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) أي: إذا سألتم عن خالقهم قالوا: اللَّه.

وهم بعد ذلك لا يعبدونه ويعبدون الأصنام - ونحو ذلك، قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، وسمى بعض المفسرين هذا القول منهم إيمانا. ونحن لا نطلق عليه اسم الإيمان؛ لأنه لو كان إيمانا لكان صاحبه مؤمنا بالإطلاق، ولكنا نقول: إنه إقرار باللَّهِ والمقر باللَّهِ يجوز أن يكون كافرا ولا يجوز أن يكون المشرك مؤمنا، وكل ما كان من أسماء الدين مدحا فإنه لا يطلق إلا على من يستحق الثواب، مثل المؤمن والمسلم والمتقي ويجري على غيره مقيدا، فيقول: إن اليهودي مؤمن باللَّه وهو متق لكذا.

الاستغفار

الاستغفار أصله في اللغة الستر، ومنه قيل: للكلمة من الزرد مغفر؛ لأنَّهَا تستر الرأس،. وقد غفرت الشيء سترته، وفي الحديث عن عمر رضي الله عنه " حصنوا المسجد فإنه أغفر للنخامة وفي هنا جواز التنخم في المسجد. والغفر منزل من منازل القمر، وذلك أن القمر إذا نزل به ستره بضوئه. والغفر أيضا النكس في المرض لأنه يحول بين صاحبه وبين العافية فكأنه سترها عنه؛ والغفارة من الشعر الضفيرة، عن أبي مالك؛ لأنها تستر ما تحتها، وقال غيره: الغفارة خرقة حمراء تشد على العمائم، والجمع غفائر وهذا أصح. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: التوبة، قال تعالى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، أي: توبوا إليه، وجعل الاستغفار التوبة؛ لأن في التوبة الاستغفار. والتوبة على الحقيقة: هي الندم على ما مضى والعزم على ترك مثله في المستقبل، ولو. قلت: إن الندم توبة. لم تقرنه بشيء آخر صح؛ لأنه لا يجوز أن يندم على ما فات وهو يعزم

عل معاودة مثله، وقوله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). الاستغفار هاهنا التوبة وإنَّمَا فصل بينهما للتوكيد، وتكرر الألفاظ على المعنى الواحد توكيد، و: (ثُمَّ) على هذا التأويل بمعنى الواو، وهو قول الأخفش. ويجوز [أن يكون] قوله: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). أي: استغفروه استغفارا بعد استغفار، وعن علي عليه السلام أنه قال: الحمد للَّه ثم الحمد للَّه أي: الحمد للَّه مرة بعد أخرى. ويجوز أن يكون المراد: أنكم كلما ذكرتم الذين استغفروا منه، ويجوز أن يكون المعنى: أن استغفروا مما مضى وتوبوا مما تواقعون في المستقبل. والفرق بين الاعتذار والتوبة؛ أن التوبة ندم على ذنب تقر بأنه لم يكن لك في إتيانه عذر، والاعتذار إظهار ندم على ذنب تذكر أنه كان لك في إتيانه عذر. الثاني: الصلاة، قال الله تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)، وقال: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) هكذا جاء في التفسير. ويجوز أن يكون معناه أنهم يصلون الليل ويستغفرون بالأسحار، فجعل استغفارهم بالأسحار دليلا على صلاتهم بالليل ولم يذكرها. وقالوا في قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، أنه يعني: يصلون كذا قيل. ويجوز أن يكون المراد أن الله لا يبعث عليهم العذاب الذي طلبوه في قوله: (أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، وأنت فيهم وليس بالصلاح لك ولهم أن يأمرك بالخروج عنهم ولا ينزل بهم العذاب أيضا، ومنهم من يتوب في المستقبل. والاستغفار التوبة. قال مجاهد: يستغفرون يسلمون أي: في المستقبل.

الثالث: طلب المغفرة وهو الأصل، قال: (اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) والمعنى: سل الله أن يقبل استغفارنا؛ لأنه لا يجوز أن يذنبوا هم ويستغفر لهم غيرهم إلا إذا تابوا، وليس ذلك إلا سؤال قبولهم. وقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ). قالوا معناه استغفري زوجك؛ لأنَّهَا كانت مشركة، وكانوا مع الإشراك يحرمون الزنا، ويجوز عندنا - أن يكون أمرها باستغفار الله ذنبها وإن كانت مشركة؛ لأن المشرك يقال له ذلك لأجل شركه ولغير شركه من ذنوبه، وعلى أنه لا يقال: استغفرت إلا الله واستغفرت الرجل ليس بمعروف، وإن كان صحيحا في العربية.

الأجل

الأجل أجل الشيء: وقته، وحد الأجل هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، [فهو أجل يجعل]، جاعل له، وما علم أنه يكون في وقت فلا أجل له إلا أن يحكم بأنه يكون فيه. فأجل الإنسان هو وقت انقضاء عمره، وأجل الدين محله،: وأجل الموت هو وقت حلوله، وأجل الآخرة هو الوقت لانقضاء ما تقدم قبلها قبل ابتدائها، هكذا وجدته عن بعض العلماء. وأصله من التأخير، وقد أجلته إذا أخرته. والآجل نقيض العاجل، والإِجْلُ: القطيع من بقر الوحش، وذلك لتأخير بعضه على بعض حتى يجتمع. وآجل المال يأجله أجلا إذا حبسه في المرعى كما يحبس الآجل من البقر بعضه على بعض حتى يجتمع. وآجل عليهم شرا: إذا جناه؛ لأنه حبسه عليهم لإلحاقه بهم، والمأجل حوض واسع يؤجل فيه الماء حتى يجتمع ثم يفجر في الزرع. وللأجل في القرآن ثمانية مواضع: الأول: أجل الدنيا، قال تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا) أي: أجل الدنيا،: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني: أجل الآخرة " وقال. الحسن

والضحاك وقتادة: هو أجل الحياة إلى الموت، وأجل الموت إلى البعث، وهذه الآية دليل على صحة البعث؛ لأن الذي قدر على الابتداء قادر على الإعادة. وأولها: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أيْ خلق آدم الذي أنتم ولده من الطين، كما تقول لقريش اليوم: أنتم أصحاب يوم الفجار، أي: آباؤكم أصحابه وليس هذا انقضاء؛ لقوله: (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)، لأنه أراد بذلك ولد آدم. وقيل: أجلا أي: وقتا تحيون فيه،: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني أجل الساعة، وجعله عنده؛ لأنه لا يعرفه غيره، كما تقول: خبر فلان عندي .. أي: أنا العالم به دون غيري. وقيل: (أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني أوقات حياتكم في الآخرة وجعله عنده؛ لأنه حيث لا يحكم فيه غيره أيضا، وقيل: قضى أجل الماضين، وأجل مسمى عنده للباقين. وقيل: أجل انقضاء الدنيا، وأجل ابتداء الآخرة،: (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي: خلقكم من طين، وجعل الظلمات والنور، وضرب لكم هذه ألآجال وأنتم مع هذا تشكون فيه فيعبدون غيره.

والامتراء الشك، وأصله من المري؛ وهو استخراج اللبن من الضرع، مرى الناقة يمريها مريا، ومنه ماراه إذا استخرج ما عنده بالمناظرة، وامترى امتراء إذا استخرج الشبه الموجبة له، ونظيره.: (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). يقول: إلى أجل الموت. الثاني: أجل العذاب قال: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ). إن لم يؤمنوا إليه نزل عليهم العذاب. ومثله: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ). أي: أجل العذاب. ومعنى أجل الله، أي: الأجل الذي ضربه اللَّه، ولا يكون الأجل أجلا إلا بالإخبار والتوقيت " وليس وقت كل شيء أجله، إنما سمي وقت الشيء أجلا إذا كان على ما وصفنا. الثالث: قوله تعالى: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) قالوا: يعني: أن مطالع الشمس والقمر لها غاية، ولا يتجاوزاه في شتاء: ولا صيف، ويجوز أن يكون المراد أن لهما أجلا مسمى ينتهيان إليه وهو الساعة. الرابع: على الديون، قال الله تعالى: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) أي: اكتبوا الأجل لأن لا يدعى فيه التقديم والتأخير غلطا أو عمدا، وقد تكلمنا في ذلك. الخامس: قوله تعالى: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). يقول: إلى أن تقلد فإذا قلدت لم تركب ولم تشرب ألبانها، يعني: البدن. السادس: أجل الولادة. قال الله تعالى: (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). أي: إلى وقت الولادة. السابع: انقضاء العدة، قال الله تعالى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ). والمخاطبة لأولياء النساء. وبلوغ الأجل انقضاء العدة، أي: لا تمنعوهن التزويج إذا انقضت عدتهن من مطلقتهن.

قال بعض الفقهاء: فيه دلالة على أن النكاح لا يصح إلا بولي، ولو صح بغير ولي لم يكن لمخاطبة الولي بهذا الخطاب فائدة. والعضل: المنع من التزويج ثم كثر حتى قيل: عضل الرجل امرأته إذا ضارها؛ لأن مضارته إياها منع لها مما ينبغي عنده. وأما قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). فالأجل " هاهنا مقاربة الخروج من العدة، أي: إذا طلقتموهن تطليقة أو تطليقتين فقاربن الخروج من العدة فأمسكوهن بمعروف، أي: إن أردتم حينئذ مراجعتهن فراجعوهن وأمسكوهن بجميل من الفعل أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن فيتزوجن. ومثل الأول: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ). والعزم: إيجابك فعل الشيء على غيرك أو على نفسك، ويقال: عزمت عليك لتفعلن، وقد وصف اللَّه به، فقيل: إن إلى يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه. وهو مفارقة للإرادة عند أبي علي رضي الله عنه؛ لأنك تريد خروج زيد ولا يجوز أن تعزم على خروجه. والعزم أيضا يصح على الإرادة ولا يجوز أن تريد الإرادة. الثامن: قوله تعالى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). لأن لا يعذب هذه الأمة بعذاب الاستثصال لانزل بهم العذاب، والكلمة: الساعة، وهو قوله: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ). والأجل المسمى هو الساعة أيضا، فكأنه قال: فلولا أني جعلت موعد الانتقام منكم الساعة لانتقمت منكم الاَن. وقال الله تعالى لهم: (ذَلِكَ خَيرٌ). قالوا أنزل: (عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

إقام الصلاة

إقام الصلاة الأصل: إقامة الصلاة، فأسقطوا الهاء تخفيفا، ولا تسقط إلا عند الإضافة ليس. يقال: أقام الصلاة إقاما، ويجوز أن يكون معنى إقامة الصلاة إدامتها، من قوله تعالى: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ)، أي: مديما لفعله، وفلان يقيم أرزاق الجند أي: يجريها على إدامة. ويحتمل أن يكون عنى به اشتغالهم بها دون غيرها من قولهم: قامت الصلاة. أي: وقع الاشتغال بها. وقيل: إقامتها إتمام الركوع والسجود ومراعاة المواقيت. وقيل: هو مثل قوله: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ). والإقامة والتقويم سواء، وما خلاف الميل والاعوجاج. وأصل الصلاة: الدعاء، وسميت صلاة؛ لما فيها من الدعاء. والصلاة أيضا الترحم؛ لأنه دعاء، ومنه: الصلاة على الميت؛ لأنَّهَا دعاء لا ركوع فيها ولا سجود، وصلي فلان على فلان إذا دعا له. قال الأعشى: وقَابَلَهَا الريحُ فِي دِنها ... وصلى على دِنها وارتَسَم وجاء في القرآن على وجهين: الأول: الإقرار بالصلاة مع التصديق وغير التصديق، قال الله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ). أي: فإن أقروا بهما، ولم يرد أنهم إذا أقاموها على اعتقاد صحيح فخلوا سبيلهم؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، وحقيقة

المراد دخولهم في الإسلام، وإنما ذكر الصلاة والزكاة؛ لأنهما من أجل شرائع الإسلام وأشهرها ومثله مع قوله: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ). الثاني: إتمام الصلاة، قال الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ). أي: أتموها في أوقاتها، وقوله تعالى: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ). ونحوه كثير.

الاستطاعة

الاستطاعة الاستطاعة: استفعال، من الطوع، وهو خلاف الكره، وذلك أن الفعل يقع بها طوعا ولا يجوز أن يسمى الله مستطيعا؛ لأنه من قولك: انطاع له الفعل بعد أن لم يكن كذلك، وهذا لا يجوز على الله. والطوع بمعنى: الانقياد، والانقياد بمعنى: الذل، يقال: طاع له طوعا وأطاعه إطاعة: إذا انقاد له. والطاعة الانقياد لمن يعتقد تعظيمه.

والاستفعال في الأصل للطلب ثم استعمل في غير ذلك، ففقل: استحسن الشيء واستقبحه. وقيل: فعلته طوعا. أي: فعلته في سهولة، ومثله: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) أي: سهلته عليه، ومن هذا الوجه أيضا لا يقال لله مستطيع، كما لا يقال: أن هذا الفعل سهل عليه، ومن أجل أن استطاع طلب ذلك ولا يوصف اللَّه بأنه يطلب القدرة على الفعل ويطلب السهولة أو انطباع الفعل. وقيل: طوعت: حسنت وزيتت، وهذا على المعنى وليس على اللفظ. وقيل: طوعت: شجعت؛ وطوعت السقاء ملأته، وهو طواع الكف، أي: ملؤها، وطاع له الشيء إذا أتاه طوعا، وقيل: طوعت: له أطاعته وتابعته، وقرئ: (فَطَاوَعَتْ). والاستطاعة في القرآن على أربعة أوجه: الأول: السعة في المال، قال الله تعالى: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). أي: لخرجنا معكم إلى تبوك، يعنون سعة ذات اليد للخروج وتخفيف النفقة للعيال. وقوله تعالى: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). وتدخل في هذا سعة ذات اليد، وصحة البدن، وأمن الطريق، وتمام الوقت. وقال: (لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً). أي: لا يجدون سعة يستعينون بها على الهجرة، ويجوز أن يكون أراد عدم الصحة والقوة على السفر، أو عنى أنهم ممنوعون من الخروج ببعض الموانع الكائنة من جهة الكفار. وقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا). والطول: السعة، وتطول الرجل أفضل من سعة وليس فيه طائل يرجع إلى هذا، أي: إذ لم تستطيعوا نكاح الحرائر لتعذر النفقة عليكم فانكحوا الأيامى ليقع الانتفاع لكم بهن وتكون نفقتهن على مواليهن ويقل مهرهن.

وقال: بعضهم: لا يجوز نكاح الأمة مع وجود الطول. وليس كذلك؛ لأن القدرة على نكاح امرأة " لا تحرم نكاح أخرى، قال الله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) فعم. الثاني: الطاقة، قال تعالى: (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) فلو كانت الاستطاعة مع الفعل لكانوا عاجزين إذ لم يفعلوا؛ لأن الفعل معدوم، وإذا عدم الفعل عدم الاستطاعة، ولكان أيضا من وجد الزاد والراحلة وتمام الوقت، وهو صحيح البدن وعطل الحج ثم مات لكان معذورا؛ لأنه كان عاجزا وإنما يكون مستطيعا عند خصومنا في وقت وجود الحج ولا لوم على العاجز. وقد أخبر الله تعالى أنهم لا يستطيعون السجود في الآخرة، فدل على أنهم كانوا يستطيعونه في الدنيا؛ لقوله: (وَهُمْ سَالمُونَ). وإلا فليس للكلام معنى يفهم. وقوله تعالى: (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ). أي: لم يطيقوا القيام لعذاب الله، ومثله (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ). وقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). واسطاعوا: لغة في استطاعوا، يقال: اسطعت الشيء واستطعته. وقوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ). أي: لا تطيقون ذلك في الحد، هذا في الرجل له زوجتان وثلاث وأربع، قال: وليس يستطيع أن يسوي بينهن في الشهوة، فتشتهي هذه كما تشتهي تلك؛ لأن الشهوة ليست من فعله فعذره فيما لا يستطيع واسع، وليس كما يذهب إليه المجبرة في أنه تعالى كلفه العدل بينهن، وهو لا يستطيعه، ألا ترى أن قوله: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ). دلالة على أنه في بعض الميل معذور، وهو الذي لا يستطيع خلافه، والمعنى النهي عن إيثار إحداهن للشهوة فيها والانصراف عن الأخرى حتى تصير كالمعلقة لا المتزوجة ولا المطلقة.

وقال (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا). قال أبو علي - رضي الله عنه - الخطاب للنبي - عليه السلام - والمؤمنين بقوله (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ). أي: كذبوك بما تقول من توحيد الله فلا يستطيعون صرف العذاب عن أنفسهم والانتصار لها. وقال غيره: الخطاب للكفار يريد أن هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة إذا سئلوا هل كان عبادتكم إياها بدعاء منكم لها: (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) فظهر لهم حينئذ أنهم لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا على نصرهم مما يراد إنزاَله بهم. الثالث: الاستثقال، قال الله تعالى: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ). أي: كانوا يستثقلون استماع القرآن والأمر بالإيمان، وهو كقولك: لا أستطيع أن أسمع كلام فلان. أي: يثقل عليَّ ذلك، وهذا معروف. الرابع: الاستطاعة، بمعنى سؤال الفعل وطلبه، قال اللَّه تعالى: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ). والمعنى: سؤال النزول كما تقول: هل يستطيع فلان أن يقوم معناه وأنت تعلم أنه يستطيع ولكنك تجعل ذكر الاستطاعة سؤالا للقيام؛ لأنه ألطف وقرئ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ). أي: هل تقدر على أن تسأل رَبَّكَ، وكانوا يعلمون أنه قادر على سؤال ربه، ولكن قالوا ذلك؛ لأنه ألطف في السؤال ومجازه هل يجوز أن، تسأل رَبَّكَ.

الأحزاب

الأحزاب جمع حزب، وهو: الجماعة المتعاونة، ومنه تحزب القوم إذا اجتمعوا وتعاونوا. قال الراجز: وكيف أضوي وبلال حزبي أي: مغيثي. وأصل الكلمة من الشدة، ومنه يقال: حزبي إذا استبد عليَّ، والاسم: حزابة، وأمر حازب وحزيب أي: شديد. والأحزاب في القرآن على أربعة أوجه: الأول: بنو أمية وبنو المغيرة وآل أبي طلحة، وهو قوله: (وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ). هذا قول بعض المفسرين. وقال غيره: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ). النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون. والكتاب: القرآن، أي: هم يفرحون به،: (وَمِنَ الْأَحْزَابِ) أي: هم الباقون. وقال: - منهم: (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهو المواضع التي تخالف دينهم، وكانوا لا ينكرون ما فيه من الحكم والأمثال والدعاء إلى المكارم، وليس في العقلاء من ينكر ذلك. وسماهم أحزابا، لاختلاف مذاهبهم، وذلك أن اليهود فرقة، والنصارى فرقة وعُبَّاد الأوثان فرقة.

وقوله: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ). جاء في التفسير أنه عنى هؤلاء المذكورين أولا. والوجه أن يكون من يحارب النبي - صلى الله عليه وسلم - من فرق المخالفين. وفيه بشارة له - عليه السلام -، أي: هؤلاء جند مهزوم بعد قليل، وأنت هازم لهم وظافر بهم. و " ما " في قوله: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ). توكيد، كأنَّه قال: هم جند. وأتى جندهم وعظم أمرهم ليكون أعظم لأمر هازمهم؛ لأن غلب العدو القوي أبلغ في المدح. الثاني: النصارى، قال الله تعالى: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ). الثالث: قوم عاد وثمود وشعيب وفرعون، وهو قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ). ويجوز أن يكون المعنى بذلك جميع من كذب الرسل من هؤلاء ومن غيرهم من بعدهم. وقال: (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ). ومثله: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ). يعني: هؤلاء. الرابع: أبو سفيان وأصحابه يوم الخندق، قال: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا). يعينهم.

الأمر

الأمر قد مضى القول في أصله: وهو في القرآن على سبعة عشر وجها: الأول: الدِّين، قال اللَّه تعالى: (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ). يعني دينه، وقوله تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ). أي: الدِّين الذي جاء به نبيهم، فنسبته إليهم؛ لأنهم المتعبدون به والمندوبون إليه، والمعنى: أن الله أعلمهم أن أمر الأمة واحد، وأن دينه واحد وهو الإسلام وهم قد تقطعوا واختلفوا. الثاني: القول، قال اللَّه تعالى: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ). قال: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى). أي: يتنازعون القول فيا يريدون العمل عليه؛ لأن مثل ذلك الأمر لا يتنازع وإنما يتنازع القول فيه. الثالث: وقت الوعيد، قال: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا). أي: حضر وقت وعيدنا، ويجوز أن يكون على ظاهره أي: حتى جاء أمرنا بالعذاب، أي: حتى أمرنا بتعذيبهم. الرابع: العذاب، قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ). أي: وجب العذاب، ويجوز أن يكون قضاء الأمر هاهنا فضل الحساب ووقوف كل فريق على ما له عند الله من الخير والشر. ومثله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ). أي: وجب العذاب.

الخامس: تمام العذاب وبلوغ المراد منه، قال: (وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ). السادس: بمعنى الشيء، قال: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا) أي: إذا أراد إحكام شيء لم يتعذر عليه. ومثله: (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي: تصير الأشياء إلى حيث لا يحكم فيه سواه ولَا يقدر عليه غيره. وجاء في التفسير أنه أراد بقوله تعالى: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا). عيسى - عليه السلام - أنه يكون من غير أب. السابع: هزيمة الكفار وقتلهم ببدر، قال الله تعالى: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا)، ثم قال: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)، أراد هزيمة الكفار وأسرهم جزاء لهم على كفرهم ونصر المؤمنين عليهم. الثامن: القيامة، قال اللَّه - تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ). يعني: القيامة، وقيل: أراد به قتل الكفار ببدر. والأول الوجه.

وقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ). يعني: القيامة والإتيان هاهنا بمعنى الدنو كقول الشاعر: وقيل المنادي أصبح القوم أدلجوا أي: هنا الإصباح. ومثله قوله: (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ). التاسع: فتح مكة، قال الله تعالى: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) قالوا: أراد فتح مكة، ويجوز أن يكون المراد ظهور الإسلام وقوة أهله. العاشر: قتل قريظة وجلاء النضير، قال الله وحده: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ). جاء في التفسير أنه أراد ذلك، ويجوز أن يكون المراد القيامة أيضا، ويجوز أن يكون أراد: اصفحوا عنهم إلى أن يأمركم الله بقتالهم فتنتقموا منهم. الحادي عشر: بمعنى القضاء، قال الله تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ)، وقال.: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي: يقضي القضاء. الثاني عشر: الوحي، قال الله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) قال أهل التفسير: يعني: الوحي. وقال: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) يعني: الوحي. الثالث عشر: بمعنى النصر والسلطان، قال: (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ). يعني: أن الغلبة لأولياء الله. الرابع عشر: الذنب، قال الله تعالى: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) أي: جزاء ذنبها. وأصل الوبال من الطعام الوبل، وهو الوخم الذي لا يمري، وقيل: الوبيل الشديد، وأصله من الكراهة، يقال: استوبلت المنزل إذا كرهته لقلة موافقته لك، قال الله: (فَذَاقُوا

وَبالَ أَمْرِهِم). أي: جزاء ذنبهم، وقال: (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ). الخامس عشر: الأمر خلاف النهي، قال الله: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) أي: أمرناهم بالطاعة فعصوا، وقرئ: (أمَّرْنَا) أي: جعلناهم أمراء. وقيل: كثرناهم، وأمر الشيء: كثر، وقيل؛ أمرناه بالتخفيف معناه: كثرنا. وروى الجرمي عن أبي زيد والأصمعي: أمَره وأمَّره. أي: كثره، وأمر هو، فهو آمر ومأمور ومؤمر من آمره، وأمرته أيضا: كثرته بالتثقيل، وهو مأخوذ من أمرته بالتخفيف؛ لأن فعلت بالتثقل في فعلت بالتخفيف مثل: ضربت وضربت، قال المبرد: ولا تكون ذلك من أمرت. السادس عشر: إظهار أمر المنافقين، قال الله تعالى: (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) أي: أو أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإظهار أمر المنافقين فيعاقبوا،: (فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) ويجوز أن يكون المعنى في هذا: ظهور الإسلام. السابع عشر: العلم، قال اللَّه تعالى: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قيل: يعني: العلماء، وقيل: يعني: السلطان، وإنما تجب طاعة السلطان إذا كان محقا. وقال ابن عباس: أولو الفقه في الدين. وقال أبو علي رحمه الله: هم الأمة وأمراؤهم، وليس هم العلماء إلا أن يكونوا أمراء. وقال: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ). أي: إلى الكتاب والسنة؛ لأنهما من الله ورسوله، وفيه دَليل على أن الإمامة ليست بحجة، وفيه دليل أيضا على صحة القياس وذلك أن جميع ما يتنازع فيه المتنازعان لا يوجد في القرآن والسنة مشروحا، ولكن يوجد أصل كل شيء فيهما أو في أحدهما، فأمر بحمل الفروع على الأصول الموجودة فيهما ليظهر. أحكامها، ولا يأتي ذلك إلا بالقياس. والآية عموم في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة في حياة الرسول وبعد وفاته.

والذي يقتضيه فحوى الكلام الرد إليهما فيما لانص فيه؛ لأن المنصوص عليه لا احتمال فيه لغيره ولا يقع فيه التنازع من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه. وأما الأمر في قوله تعالى: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا). فهو تفسير الرجعة، وذلك أنه إذا طلقها طلاق السنة ملك رجعتها. وطلاق السنة عند الكوفيين يعتبر فيه معنيان: أحدهما: الوقت. والآخر: العدد. فالوقت: أن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها. والعدد: ألا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة، فأما من لا عد عليها فيطلقها متى شاء في حيض أو طهر بغير المدخول بها.

الأرض

الأرض من الأراضة وهي الخلافة؛ مكان أريض: أي: خليقْ المنبت. وسُمِّيتْ الأرضة أرضة؛ لأنَّهَا تكون في بطن الأرض، وسمي الرعدة أرضا من الأرضة؛ لأنَّهَا إذا وقعت في الخشبة أكلتها فخفت فسميت الرعدة أرضا؛ لأنَّهَا خفة تعتري الإنسان. وتجمع الأرض أرضين كل غير قياس. وكان الأصل في الأرض أرضة والشاهد أنها تجمع أرضات، مثل: تمرة وتمرات، وأسقطت الأرضة أصلا حتى أنها لا يقال، وأدخلت الواو والنون في الأرضين عوضا من الساقط وإنما أسقطت؛ لأن التمر ينفصل كل واحدة منهما بنفسها، والأرض ليست كذلك، وإنَّمَا هي اسم واحد يجمع أشياء لا ينفصل بعضها من بعض. وقولنا: أرض كقولنا: تمر. اسم للجنس، وربما جمعت على أراض مثل: تمر وأتمار. وهي في القرآن على تسعة أوجه: الأول: (أرض الجنة، قال الله تعالى: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) يعني أرض الجنة، هكذا قيل .. وقيل: إنها أرض الدنيا، ودليل ذلك أن الأرض إذا جاءت مطلقة، فهي الأرض المعروفة لا غير، ولو لم يكن ذلك كذلك، لم يعرف بإطلاق اللفظ شيء. الثاني: الأرض المقدسة، قال اللَّه تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا). أي: مشارق أرض الشام ومغاربها؛ لأنَّهَا تعلم أن بني إسرائل لم يملكوا أرض فارس ولا أرض خراسان، ومنه قوله

تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ). يعني: (أرض الشام وقوله تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا). أي أرض الشام. الثالث: أرض المدينة خاصة، قال الله: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) يأمرهم بالهجرة إليها، ثم فيه دلالة على أن من لا يمكنه عبادة الله في أرض فينبغي أن ينتقل عنها إلى حيث يمكنه ذلك. والمراد على هنا التأويل أن أرض مكة تسعكم لا تجدون فيها ما تجدون في غيرها من المعاشر فانتقلوا إليها، ويجوز أن يكون المعنى أن الطرق غير مسدودة عليكم فاخرجوا إلى حيث تتمكنون من عبادة ربكم. ومثله قوله تعالى: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا). قالوا: يعني: أرض المدينة. وقالَ: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ). وقال: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً). أي؛ مذهبا واسعا، مأخوذ من الرغام، والمراغمة أيضا المغايظة والمناغضة، وأصله من الرغام وهو التراب. ويقال: راغمته إذا هاجرته وعاديته ولم لا تبال رغم أنفه. أم لا. الرابع: أرض مكة، قال الله تعالى: (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) يعني: أرض مكة،: (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً). أي: أليس في أرض المدينة متسع ومحتمل، فليس لكم عذر في المقام بمكة على ذل وهوان. الخامس: الأرض التي تفتح لأهل الإسلام، قال اللَّه تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا). أي: أولم تروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما يبين لهم صدق الدعوة، وذلك أنه كان أخبره بفتحها عليهم، ففتحها كان بعض

المعجزات، وقيل: (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) موت أهلها وبنقص ثمارها، وقيل: موت العلماء والأرل الوجه. السادس: أرض مصر خاصة، وهو قوله: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ) وإنما طلب ذلك نظرا للناس ليوسع عليهم وينصفهم في القسمة، وقوله:: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ). وقال: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ). وقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ) وقوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) وقوله: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ). المعنى بهذا كله أرض مصر. وكذلك قوله: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) ويجوز أن يكون المعنى في هذا جميع الأرض المسكونة. السابع: أرض الإسلام، قال الله تعالى: (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) قال أهل التفسير: يقاتلون حيث توجهوا من الأرض ولا يتركون فارين في شيء من أرض المسلمين، وقيل.: معناه أن دمائهم مباحة فإن يقتلهم لم يؤخذ بهم، ويقال: نفيت الشيء نفيا، والنفاية ما ينفى مثل: النحاتة والبراية. الثامن: جميع الأرضين، قال الله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) وقال: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ)

وقوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ)، والفرق بين مَكَّنَّا لَهُ ومَكَّنَّاهُ أن معنى مَكَّنَّا لَهُ: جعلنا له ما يتمكن به في الأرض، ومعنى مَكَّنَّاهُ: أقدرناه على ملك الأرض. وقوله: (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً)، والمراد: أنا نسير الجبال فيحلوا منها وجه الأرض فتراها بارزة أي: ظاهر لا شيء فيها، ويجرز أن تكون بارزة بمعنى: مبرزة أي: قد أبرز جميع ما في بطنها، وجاءت على فاعلة على النسبة كما قيل: الحاسة وهي من أحسست على النسبة لا على طلب الفعل، أي: هي ذات كذا، ويجوز أن يكون المعنى أنك ترى أهل الأرض بارزين كما قال: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) وقال: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). التاسع: محي الأرض مثلا، وهو قوله: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) لم يرد أرضا بعينها، وإنما هو على حسب قول العرب في معنى الأبد: لا أفعل ذاك ما اختلف الليل والنهار وما طما اليحر وما أقام الجبل ومَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. هذا وإن كان اللفظ الليل والنهار والجبل والأرض والسماء، فإنما المراد به الأبد، وإنما جعلوا هذه الأشياء أمثالا في الأبد؛ لأنَّهَا عندهم لا تتغير، ويجوز أن يكون المراد أرض الجنة والنار.

الاشتراء

الاشتراء أصل الشراء من الإمالة ومنه الشرى وهو الناحية، فقولهم: اشتريت الشيء. كأنك جعلته في شراءك، أي: ناحيتك، كما تقول: احتقبته إذا جعلته في حقيبتك، وهو من الأضداد، اشتريته إذا أخذته بثمن واشتريته إذا بعته، وكذلك شريته إنما سمي المشتري والبائع باسم واحد؛ لأن كل واحد منهما يأخذ شيئا ويعطي شيئا فلتماثلهما من هذا الوجه اشتركا في الاسم الواحد، ويجوز أن يكون من قولك: شريت به. إذا لمحت به، ومنه يقال: شرى البرق إذا كثر لمعانه كأنَّه لهج بذلك. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الاختيار، قال: (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) أي: اختاروا الكفر على الإيمان، ومنه: (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي: اختاروا على الإيمان ما نالوه من حطام الدنيا، وسماه قَلِيلًا؛ لأن كل شيء من الدنيا قليل لانقطاعه. وقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ). يعني: يختار باطل الحديث على القرآن. وعلى هذا التقدير يصح هنا التأويل؛ لأن الأختيار: إيثار الشيء على غيره وهو ضرب من الإرادة واقع على هذا الوجه، وإذا لم يقع كذلك لم يسم اختيارا.

وأصله من الخير كأنَّك تؤثر خير الشيئين عندك، وقالوا: لهو الحديث الغناء؛ لأنه يلهي عن الذكر، قالوا: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شرى المرأة المغنية. وقيل: هو جميع ما يلهي عن الذكر، وقِيل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة الداري وكان يشتري من كتب الأعاجم فارس والروم ويقرأوها على قريش فيستحنونها ويعجبهم ما يسمعون من أخبارهم فيها فيشتغلون بها عن استماع القرآن. وقوله: (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا). يعني: سيل الله، ومعناه الإسلام. الثاني: الابتياع، قال اللَّه: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). هكذا قيل، وهو مجاز وحقيقته أنه جعل الجنة ثوابا لهم على بذلهم نفوسهم وأموالهم في سبيل الله، وسمي ذلك اشتراء؛ لأنه جعل الجنه بدلا من ذلك كما أن ثمن السلعة بدل منها. الثالث: بمعنى البيع، قال تعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي: باعوها، وهذا أيضا مجاز، ومعناه أنهم أذنبوا فاستحقوا النار فإذا صاروا إليها لم ينتفعوا لنفوسهم فكأنهم باعوها؛ لأن من باع الشيء حرم الانتفاع به.

الأحد

الأحد أصله الانفراد، يقال: رجل وحد إذا كان منفردا، ولهذا قالوا: مررت برجل وحده. لما أرادوا معنى الانفراد، كأنهم أرادوا برجل أفرادا، وأفرادا منصوب نصب المصدر فنصبوا وحده؛ لأنه جعل موضع أفراد.

وجاء في كلامهم نسيج وحده، وعبير وحده، وجحيش وحده بالجر، وإنما هذا مضاف إلى المصدر كأنهم قالوا: نسيج إفرادا لا يوجد مثله؛ لانفراده بدأبه وعمله. وقالوا: في جمع أحد آحاد، وجمع واحد وحدان وأحدان، ويقولون: أحد الرجلين ولا يقولون: واحد الرجلين، ولزموا أحدا وإحدى في العدد. ولو استعملوا في أحد وعشرين وإحدى وعشرين واحدا وعشرين وواحدة وعشرين كان جائزا ولكن لما كان باب العدد وباب التعبير لزموا فيه أحدا وإحدى وهما مغيران عن الأصل، وقالوا: واحد ولم يقولوا في التثنية: واحدان لأن واحدا اسم لما لا ثاني له، وقالوا: اثنان حين أرادوا أن كل واحد منهما ثالث للآخر. وأحد في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: يعني: الله سبحانه وتعالى، وهو قوله: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) يعني: أن لن يقدر عليه الله، أو أن يحسب أن لن يقدر الله أن يبعثه. وكذا قوله - قحالى: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) وأول الآية: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) أي: أنفقت المال الكثير في وجوه كثيرة، ومن أحصاه عليَّ فيحاسبني به، فقال الله: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي: لم يره الله. الثاني: النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا) يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قوله: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) يعني: على النبي - عليه السلام -؛ لأنه ثبت حين انهزموا فمروا على وجوههم، ولم يقيموا عليه، ويجوز أن يكون المعنى أن بعضكم لم يقم على بعض. الثالث: قوله: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) جاء في التفسير أنه عني بلالا مولى أبي بكر - رضي الله عنه - وأراد أنه لم تكن لبلال نعمة عند أبي بكر يعتقه من أجلها، وإنما أعتقه لوجه الله، ويجوز أن تكون الآية فيه وفي غيره ممن يفعل الخير لا ليد يجازي بها ولكنها لله تعالى.

الآل

الآل ْأصل الآل من الأول وهو الرجوع، والآل الشخص يوفع في الصحاري للناظر فيراه ليس بشيء، وسمي آلاء؛ لأته يخفى ثم يرجع فيظهر، وبه سمي شخص الرجل آلاه، والأله الشدة من شدائد الدهر؛ لأنَّهَا تذهب ثم ترجع قالت الخنساء: سأحملُ نَفْسي عَلَى آلَة] فَـ ... إمَّا عَلَيهَا وَإِمَّا لهَا والآلة: الحالة؛ لأنَّهَا لا تبقى. والآل ربما جاء بمعنى الأهل، وبينهما فرق يقال: أهل العلم وأهل البلد، ولا يقال: آل العلم وآل البلد، - ويقال: أهل الرجل لأقاربه وهم آله أيضا وآله أتباعه، فكان الآل من جهة القرابة والصحبة، والأهل من جهة النسب والأختصاص. وقيل: العرب تقول في تصغير آل: أُهيل فهذا يدل على أن أصل الهمزة في (آل) هاء. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى الأتباع، قال اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) يعني: أتباعه، والمعنى: جاءته النذر وجاءكم أيضا، ومثله: (آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) فاكتفى في بذكرهم عن ذكره لدلالته عليه، ومعلوم أنها إذا جاءتهم لأجل كفرهم وهو كافر مثلهم، فقد جاء به وهنا عن الإيجاز المحمود. الثاني: أهل بيت الرجل، قال اللَّه تعالى: (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ).

الثالث: الذرية، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ) يعني: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، (وَآلَ عِمْرَانَ) يعني: موسى وهارون؛ اختارهم على عالمي زمانهم. والفرق بين الولد والذرية: أن الذرية يقع كل أولاد الرجل الذكور والإناث، وعلى أولاد بنيه وبناته من الذكور والإناث، والدليل على ذلك أن اللَّه تعالى يقول: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) ثم عد عيسى مع المذكورين، وولد الرجل هم من ولدهم لا يدخل أولاد البنات فيهم؛ لأن أولاد البنات منسوبون إلى آبائهم، قال الشاعر: بَنُونا بنو أبنائِنا، وبناتُنا ... بنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ فأما تسميته الحسن والحسين - عليهما السلام - ولدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك شيء خصا به دون غيرهما تكريما لهما واختصاصا.

أوى

أوى أصله الميل، ومأوى الرجل منزله الذي يميل إليه ويقيم فيه، أويب أنا وأويت غيري إذا ضممته إليك كأنَّك أملته إليك بعطفك ورحمتك. وجاء في القرآن على وجهين: الأول: الضم، قال: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ) أي: ضمهما. الثاني: الانتهاء، قال اللَّه تعالى: (إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ) وقال: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) أي: انتهوا، ويجوز أن يكون أراد الميل في الوجهين،: (آوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ) أملناهما،: (إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ) ملنا،: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) مالوا. والمعين: الماء الطاهر التي تناله العين وهو من قولك: عنته إذا أبصرته واختار لهم الربوة؛ لأنها أبعد من اللثق وما يكون فيها من الماء والخضرة فهو أحسن والعرب تقول: أحسن من رياض الحزن، قال الأعشى: ما رَوْضَةٌ مِنْ رياض الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خضراءُ جادَ عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ والحزن: ما ارتفع من الأرض في غلظ.

الأول

الأول أول كل شيء ما ابتدئ فيه واشتقاقه من الأول، وهو الرجوع، كأن كل شيء ترجع صفته إلى ما ابتدئ منه، والأول في أسماء الله تعالى بمعنى أنه لا شيء قبله. وهو في القرآن على أربعه أوجه: الأول: أول من كفر من أهل الكتاب، وهو قوله: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي: أول من كفر به من أهل الكتاب؛ لأن قريشا كفروا به قبلهم، ودلهم هذا على أن جميع من كفر منهم بعد فإنه سببه. ويلزمهم مثل وزره. قال أبو العباس المبرد: أول يضاف إلى ما بعده على وجهين: أحدهما: أن يكون ما بعده متصلا به. والآخر؛ أن يكون مقدرا لذلك، وذلك قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) إنما قال هذا للمخاطبين؛ لأنهم قبل غيرهم ممن يلزمهم ما لزمهم فقيل لهم: أنتم أيها المخاطبون لا تكفروا بما سمعتم فيكون بعدكم الكافر والمؤمن فلا تكونوا أول الكفار، وكافر في موضع الجماعة إذا كانوا واحدا واحدا، وقبيلا قبيلا، يقول: كل رجل في الدار فأعطه درهما، أي: أعطهم رجلا رجلا حتى يعطي كلهم، ولو قال قائل: أول من يأتني فله درهم فأتاه واحد ولم يأت غيره لوقع عليه اسم الأول؛ لأنه في التقدبر أن يأتي غيره، ولو قال: آخر رجل يأتيني وآخر عبدا ملكه لم يعلم إلا بعد موته؛ لأن الأول مقدر لما بعده، والآخر لا يقع عليه هذا الاسم، وكذلك إذا قال: أول عبد لي حر فأول عبد يشتريه يعتق، فإذا قال: آخر عبد لم يعلم ذلك إلا بعد موته.

الثاني: النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) قِيل: أول الموحدين لله من أهل زمانه، ومثله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) وقوله تعالى: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي: ابتدئ بإظهار الإسلام ليتلو في الناس. الثالث: أول المؤمنين، أي: أول المؤمنين بذلك، ويجوز أن يكون معناه أنه أول المؤمنين بهذا وبغيره مما هو من دين اللَّه ليس أنه لم يكن مؤمنا به قبل ذلك وإنما أراد أنه يجدد له إيمانن بعد إيمان قبل أن يتجدد ذلك لغيره فهو أول فيه. الرابع: قوله تعالى: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: أول المؤمنين من اتباع فرعون، وقيل: كانوا أول مؤمني أهل دهرهم، وذلك غلط؛ لأن موسى وهارون - عليهما السلام - كانا مؤمنين قبلهم، وقوله تعالى: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) دليل على أن موسى كان قد علم أن من بني إسرائيل من هو مؤمن، وكان فرعون يتعبدهم؛ فطلب منه إرساله إياه.

الاستئناس

الاستئناس أصله طلب الأنس، والإيناس من الرؤية يفيد الأنس بما يراه المؤنس، ولهذا لا يقال للَّه تعالى يؤنس كما يقال: إنه يرى. وجاء في القرآن على وجهين: الأول: الاستئذان، قال الله تعالى: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) ونسق التلاوة يدل على أنه أراد الاستئذان، وهو قوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وقرأ ابن عبَّاس رحمه اللَّه: (حَتى تستأذِنوا)، وقال: غلط الكاتب وإنما سمي استئذانهم استئناسا؛ لأنهم إذا استأنسوا أنس بعضهم ببعض.

وفي قوله تعالى: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن صاحب الدار أذن، ولذلك قال مجاهد: هو التنحم والتنحنح كأنَّه أراد أن يعلمهم بدخوله. وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول من غير إذن ومعلوم أن الإذن مشروط في إباحة الدخول، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) فحظر الدخول إلا بالإذن. الثاني: طلب الأنس بالحديث، قال اللَّه تعالى: (وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) وقال عمر - رضي الله عنه -: أأستانس يا رسول اللَّه، فقال له: استأنس يعني: استئناس الحديث. ومستأنسين نصب على الحال من محذوف، أي: فلا تدخلوها مستأنسين أو لا تجلسوا بعد الفراغ من الأكل، وقيل: موضعه خفض مستأنسين على اتباع: (نَاظِرِينَ إِنَاهُ).

الآية

الآية أصل الآية العلامة الثابتة من قولك: تأييت بالمكان إذا أقمت به وثبت فيه: ومن ثم يقال: لأجعلنك آية، أي: علامة، وسُمِّيت الاية من القرآن آية؛ لأنها بمفارقتها كلام البشر علامة على صدق الدعوة، وقيل: الآية جماعة حروف من قولهم: خرج القوم على آيتهم أي: بجماعتهم. وهي في القرآن على وجهين: الأول: العبرة، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي: عبرة يعتبر بها، وتكون علامة لصدقه وشاهدا على أن الله تعالى قادر على ما يريده، ويجوز أن يكون قولهم؛ لأجعلنك آية من ذلك أي: عبرة، ومثله: (وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) ولم يقل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين؛ لأن الأمر فيهما يؤول إلى شيء واحد. الثاني: العلامة، قال: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) أي: ومن العلامات على ربوبيته والوجهان متقاربان يصلح استعمال أحدهما في موضع الآخر، وإنما أوردناهما على حسب ما جاء في التفسير.

الآخرة

الآخرة سُمِّيت الآخرة آخرة؛ لأن الدنيا تؤدي إليها، وآخر الشيء خلاف أوْله فأوله ما بدئ منه وآخره ما ينقطع عند تمامه. وقد يجوز مع ذلك أن يجعل أول الشيء آخره، وَآخر الشيء أوله إذ قدر غير التقدير الأول، وقد استقصينا ذلك في كتاب الفرق. وآخر الشيء منه كما أن أوله منه، وليست الآخرة من الدنيا على أنه لولا الدنيا لم يقل آخره، وأنثت الآخرة على تأنيث الدار. وهي في القرآن على خمسة أوجه: الأول: القيامة، قال الله تعالى: (وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) يعني: القيامة. الثاني: الجنة يعينها، قال اللَّه تعالى: (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي: ما لهم في الجنة من نصيب، والخلاق النصب وسُمِّي خلاقا؛ لأنه قدر لصاحبه، وأصل الخلق التقدير وسنذكره، وقال تعالى: (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) وقال: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) ونظير الأول قوله تعالى: (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ). الثالث: جهنم خاصة، قال: (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي: يحذر جهنم. الرابع: قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) وجاء في التفسير أنه أراد القبر حين يأتيه منكر ونكير، ويجوز أن يكون معناه القيامة يثبته الله فيها على الصراط.

الخامس: قوله تعالى: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) وهي ملة عيسى - عليه اللام -، كذا قيل، ويجوز عندنا أن يكون معناه: ما سمعنا أن مثل ما تأتي به يكون في آخر الزمان.

الأخ

الأخ أصل الأخ أخو على وزن فعل، ودليل ذلك أنك تقول في التثنية أخوان، وكذلك الأب؛ لأنك تقول في تثنيته أبوان. قال المبرد: إئما حذفوا الواو من أخ علامة للتضمين، ومعنى التضمين عندنا أنك إذا قلت: أخ فقد ضمنت شيئا معلوما وهو أخ آخر، وكذلك إذا قلت: أب وابن وليس كذلك في مثل قولك: رأس؛ لأنك إذا قلت: رأس جاز أن تريد رأس عصا ورأس رجل ورأس بقرة، وليس يدل قولك: رأس على شيء بعينه، والمضمون في قولك: أخ وابن معلوم، ْوأصل اشتقاق الأخ من القصد، ومن ثم قيل: توخيت الشيء إذا قصدته وأصله تأخيت

الشيء ونأخبت أخا للفرق بين المعنيين، ويجوز أن يكون توخيت الشيء مأخوذا من الوحي، وهو الطريق القاصد وهنا أجود الوجهين. وهو في القرآن على ستة أوجه: الأول: الأخ من الأب والأم، قال: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) وقال: (فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي)، ونحوه كثير، وسماها سوأة؛ لأنها جيفة. الثاني: الأخ في النسب، قال الله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) وقوله: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) وقوله: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) وقال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فإن قيل: لم سمي وولي الدم أخا القاتل في هذه الآية، والقاتل فاسق والفاسق لا يكون أخا لمؤمن، قلنا: سماه بذلك كما سمي هودا أخا عاد، والقوم إذا كانوا من جيل واحد وقبيلة واحدة سموا إخوة؛ لأنهم ينتهون إلى أب واحد قريب أو بعيد، وسنفسر هذه الآية فيما بعد إن شاء الله. الثالث: - الأخ في الكفر والشرك، قال الله: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) وقال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) ونحوه: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا).

الرابع: الأخ في الإسلام، قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقال: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا). الخامس: الأخ في المودة، قال في وصف أهل الجنَّة: (إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) السادس: الأخ بمعنى الصاحب، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) وقوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) أي: لحم صاحبه. ويجوز أن يكون معناه الأخ في الدين، فجعل؛ الغيبة أكل اللحم، قال أبو هريرة: قلت: يا رسول اللَّه ما الغيبة؟ قال: " ذكر أخيك بما يكره "، قال: قلت: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته ". (¬1) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (2591).

الإثم

الإثم الإثم عند العرب الذنب، وسُمِّيت الخمر إثما لأنَّهَا توقع في الذنوب، ويقال: أثم فهو آثم وأثيم مبالغة كما تقول: علم فهو عالم وعليم مبالغة. وقال ابن السكيت: إن الإثم في قوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) يعني: به: الخمر، وأنشد: شَرِبْتُ الإِثْمَ حتى ضَلَّ عَقْلي ... كذاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بالعُقولِ وجاء في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الكذب، قال تعالى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي: الكذب بأن عزيرا ابن الله وأن يد الله مغلولة. الثاني: المعصية، قال الله تعالى: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ) أي: مائل إلى المعصبة، والجنف الميل. وقال بعض الفقهاء: الإثم أن يأكل منه أكثر مما يحتاج إليه لسد جوعه، وقال غيره: له أن يأكل منه ما يريد ويتزوده فإذا استغنى عنه طرحه، والضرورة المذكورة في الآية تدفع ذلك، والأول قول أصحابنا. وقال: (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ولا يكون البغي إلا [بغير الحق]، وإنما هو مثل قولك: بغى عليَّ ظلما، ولا يجوز أن يبغني عليه عدلا، وإنَّمَا هو تأكيد في الكلام.

وقال تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) هو الإثم وكذلك البغي. وإنما كرر المعنى بغير لفظه أراد التأكيد كل ما بينا، ومثله: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) يعني: ظاهر المعصية وباطها. وقال بعضهم: أراد الزنا وليس له أن يقصره على الزنا وحده إلا بديل ولدليل فإن كان ما روي أن العرب كانت تحل الزنا باطنا وتحرمه ظاهرا فأخبر اللَّه تعالى بأن ذلك كله محرم صحيحا فهو الدليل. الثالث: الحرج والضيق، قال الله تعالى: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي: إن نفر الحاج من مكة اليوم الأول من أيام التشريق أو الثاني أو تأخر - بمنى إلى اليوم الثالث فلا حرج عليه: (لمِنِ اتَّقَى) أي: لمن توخى التقوى. وهذا دليل على أن أعمال البر لا تنفع إلا مع الإيمان والتقوى والإثم الحرام، قال الله تعالى: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) أي: حراما بينا، والبهتان. الباطل الذي يتحير في بطلانه، وأصله من قولهم: بهت الرجل إذا تحير، وقال الله: (فَبُهِت الذِي كَفَرَ). الرابع: قوله تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا) جاء في بعض التفسير أنه أراد بالإثم الخطأ، وقيل: الجنف هاهنا الخطأ، وقيل: المعنى من علم من الموصي ميلا إلى ما هو إثم وجور في الوصية مما يعود بالضر على ورثته فسبيله أن يصلح بينه وبينهم حتى يرجع أمرهم إلى السداد، ولما قال: (جَنَفَا) دل على معدول عنه ومعدول إليه، وهم الموصي والورثة، فقال تعالى -: (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ).

والفرق بين الجنف والحيف: أن الجنف هو العدول عن الحق والجنف الحمل على الشيء حتى تنقصه، وتحيفت الشيء تنقصته من حافاته. فإن قيل: لم قال: (فَلا إِثمَ عَلَيه) وهو محسن؛ قلنا: لأن المتوسط من أنهن لا يعدم أن ينقص أحدهما بعض حقه الذي في ذلك من الصلاح، والصلح لا يكون إلا كذلك فبين أنه لا إثم عليه في النقصان والزيادة.

أنى

أنى يكون على وجهين: يكون - بعنى كيف في قوله تعالى: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) أي: كيف يحييها؟!، وقوله: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) إلا أنه في القبل لقوله: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ)، ولقوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) إذ لا تعبر في الدبر بالحرث، ويكون المعنى من أين في قولك: (أنى لك هذا، أي: من أين لك هذا، وقوله: (أنى يَكونُ لَهُ وَلَدٌ) وقوله -: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). والمعنيان متقاربان يجوز أن يتأول كل واحد منهما على ما يتأول عليه الآخر. قال الكميت: أنَّى ومِنْ أين آبَكَ الطربُ ... مِنْ حيثُ لا صبوةٌ ولا رِيَبُ فجاء بالمعنيين.

أو

أو قالوا: تجيء في القرآن على ثلاثة أوجه، وتأتي في غير القرآن للشك تقول: رأيت عبد الله أو محمدا، أو تكون للتخيير بين الشيئين كقوله: (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) وقوله: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ). قالوا: وتجيء بمعنى واو النسق، قال الله: (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6). وقوله: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) وليس كذلك. قال المبرد: أصل (أو) في الكلام واحد ثم تنقسم قسمين التخيير والإباحة، والتخيير قولك: خذ مني دينارا أو ثوبا فإنه وفاء بحقك وليس لك أن تأخذهما، وقولك: اضرب زيدا أو عمرا أي: كل واحد منهما أهل أن يضرب وأنت مخير في واحد لا تزيد عليه، وكذلك إذا شك المخير فقال: جاءني زيد وعمرو ولم يرد أنهما جاءه إلا أنه يعلم أن أحدهما جاء فهذا باب واحد. والإباحة قولك: جالس زيدا أو عمرا أو خالدا وارو عن الحسن أو ابن سيرين، أي: جالس هذا الضرب وارو عن هذا الضرب من الناس، وإذا جالس واحدا منهم أو جالسهم جميعا فقد أطاعني؛ لأني أردت هذا الضرب، وعلى هذا قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) ولو قال: وكفورا فأطاع أحدهما ولم يطع الآخر لم يكن عاصيا، وإذا قال: أو كفورا صار كل واحد منهما لا يطاع على حياله، وأما قوله: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) فمعناه أن الملْقِيَاتِ ذِكرا تجمع بين الإعذار والإنذار فتعذر في وقت وتنذر في وقت كما نقول: جاءني زيد وعمرو فتعلم بذلك أن كل واحد يجوز أن يجيء إلا أن قصدي في هذه الحال واحد منهما (عُرْفًا) أي: تباعا بعرف الفرس، و: (الْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) الملائكة، وقيل: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) جمع عذير ونذير، قال حاتم: وقدْ عَذَرَتني في طِلَابِكُمُ العُذْرُ

قال: وتقول في الاستفهام: أتأخذ دينارا أو ثويا، وليس معناه أن يلزمه أحدهما، ولكن معناه أتأخذ هذين؟ فجواب هنا لا أو نعم، ولو أراد أن يلزمه واحدا لا محالة، يقال: أتأخذ دينارا أو درهما فجواب هنا لا يكون لا ولا نعم، ولكن تقول: دينارا أو درهما، وتقول: لا دينار آخذ ولا درهما، وتكون أو بمعنى بل في قول الفراء وأبي عبيدة قال: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) وكذلك قوله تعالى: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) وقوله: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) وأنشد شاهدا على ما تقدم: قضى عنكما شَهرَين أو نِصْفَ ثَا ... لِثٍ إلى ذاك مَا قدغَيبتني غِيابِيا أي: ونصف ثالث لا يجوز هاهنا بل وكذلك في قوله: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) وقيل: (أَوْ يَزِيدُونَ): أي أَوْ يَزِيدُونَ في تقديركم إذ رآهم رائي، قال هولا: (مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)، فهذا هو القول، لأنه على أصل، أو وكذلك قوله: (أوْ هُوَ أقرَبُ) أي: لو رأي الرائي قدرة الله على إماتة الخلق وإحيائهم، لقال: وذلك يكون في قدر لمح البصر أو أقل، والساعة اسم لإماتة الخلق وإحيائهم وليس لذكر أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر. وكذلك يقال: (أو أدنى) أقل عندكم لو رأيتموه لقلتم أنه كذلك، والمراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب أن يرى جبريل صلوات الله عليه على صورته الحقيقية، وكان يهبط للوحي على صورة رجل فاستوى جبريل في الأفق على صورته فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) جيريل فصار بينه وبين النبي صلوات الله عليهما القدر المذكور. والمراد أنه دنا فتدلى فزاد قربا، وقيل: دنا فتدلى أي: تدلى فدنا على القلب، وهو في كلامهم واسع.

أم

أم إذا قلت: أزيد في الدار أم عمرو؟ فأنت لا تدري أيهما في الدار، ولا تدري أن أحدهما فيها أو لا، ويصلح في جوابه لا ونعم؛ لأنك تسأل عن الكينونة هل حصلت في الدار أم لا فإذا علمت أن أحدهما في الدار ولست تدري أيهما هو قلت: أزيد في الدار أم عمرو، ولا يصلح في جوابه لا ولا نعم؛ لأنك تسأل عن أحد الكائنين ففيه معنى أيهما. قيل: و (أم) في القرآن على وجهين: الأول: يكون بمعنى أو، قال اللَّه تعالى: (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى) وقوله تعالى: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا). قال بعض أهل العربية: هي في هذين الموضعين بمعنى أو، والمراد التحذير، أي: لا تأمنوا ذلك واحذروا ما دمتم على الشرك. الثاني: مجيئه بمعنى ألف الاستفهام، قال اللَّه تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) والاستفهام هاهنا بمعنى النهي، وقال اللَّه تعالى: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أراد له البنات، وهذا الاستفهام بمعنى الزجر والتبكيت، قال: وليس من هذا: (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ) فإن قيل: لم سوى بين السخري وبين زاغت الأبصار عنهم؟، قلنا: لأن المعنى أظلماهم بما قلنا فيهم وبما سخرنا منهم أم هم مستحقون له وقد زاغت أبصارنا عنهم وهم في النار، فهذا حق التسوية. والصحيح في هذه الآيات أنه لما جاء بلفظ الاستفهام في أول الكلام جاء بأم بعده لأنه للاستفهام، والمراد بالاستفهام فيها التبكيت أو التعريف والتوقيف على ما ذكرناه، وقال:

(الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ولم يتقدم في الكلام أيقولون كذا فنرد عليه أم يقولون، وقيل: إنما أراد أيقولون افتراه، والصحيح أن أم هاهنا بمعنى بل فرد قولهم، ثم قال: (هُوَ الحقُّ). قال المبرد: لـ أم موضعان، وكلاهما استفهام، فأحدهما: أن تسأل عن شيء من شيئين أو أكثر من ذلك تدعي من الاثنين والجميع واحدا ولا تدري أيهما هو وذلك قولك: أزيد في الدار أم عمرو، وأزيد أفضل أم خالد، وعبد اللَّه عندك أم عمرو وأنت الآن مدع أن أحدهما عنده ولا تدري أيهما هو، ولا يصلح في جوابه لا ولا نعم على ما تقدم قبل، وإنما جوابه أن تقول: فلان عندي أو تقول: كلاهما عندي، أو تقول: لا زيد عندي ولا عمرو فإذا قلت: ليت شعري أزيد في الدار أم عمرو فإنما أخبرت أنهما قد استويا عندك في الكون هناك، وكذلك قولك: لا أبالي عمرا ضربت أم زيدا وسواء ذلك علي إن أدبر زيد أم أقبل. وكل هذا تسوية وعلم في تقديره أنه سيقع، ومن ذلك قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) وقوله: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) خرج مخرج التوقيف والتوبيخ، قال: واعتبر هذا يأتي فإنها تكون لأحد شيئين أو لأحد أشياء تقول: ما أبالي أي: ذلك كان وسواء علي أي: ذلك كان، وعلمت أي: ذلك كان، وأتى غير عامل فيها ما قبلها وإنما هي كقولك قد علمت أزيد في الدار أم عمرو. وإذا قلت: أيهما في الدار فمعناه هذا أم هذا فمن ذلك قوله تعالى: (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى) وأما قوله تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) فـ (أي) منصوبة بـ (ينقلبون)، كما يقول: علمت أيهم في الدار. والوجه الثاني: أن أم تجيء للإضراب عن الشيء إلى الشيء فتكون منقطعة عما قبلها خبرا كان أو استفهاما ذلك يكون لوجهين:

أحدهما: الشك. والآخر: ترك خبر إلى خبر من غير شك أو غلط، وهذا مثل قوله تعالى: (أم يَقُولُونَ افْتراه) وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ)، وقول: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا)، وقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا) وقوله: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ)، وفي هذه الوجوه ومع ما ذكرنا أنه يترك خبرا إلى خبر آخر معنى التوبيخ والتوقيف. ومثله قوله تعالى: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ). ومثله قولك للرجل: السعادة خير أم الشقاء، وإنَّمَا يراد بذلك التنبيه على ترك اختيار ما يصيره إلى الشقاء.

الإذن

الإذن أصله من العلم، أذنت الشيء إذا علمته، وآذنتهه غيري أي: أعلمته، وفي القرآن: (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ)، ثم استعمل في الاسفهام لما يقع من الاستماع من العلم، أذن له إذا استمع له، قال الشاعر وهو عدي بن زيد: وسماعِ يَأذَنُ الشيخُ لَه ... وحديث مثلِ ماذِي مُشار ومن الأول: الآذان؛ لأنه إعلام بالصلاة. وهو في القرآن على وجهين:

الأول: العلم، وهو قوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني: والله يعلم ذلك، وهو مجاز لهم عليه. الثاني: الأمر، قال الله تعالى: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) أي: فدل اللَّه المؤمنين إلى الحق من جملة ما اختلفوا فيه فلزموه بأمره، وقيل: بعلمه، وقال أبو عليٍّ رحمه الله: هداهم بإذنه أي: هداهم فاهتدوا بإذنه؛ لأن هدايته فعله، والله لا يفعل بإذن فحذف فاهتدوا لدلالة قوله: (بِإذنِهِ) عليه، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) والمعنى: أنهم لا يموتون دون الأجل فلا تجبنوا عن الجهاد، وفي الآية دليل على أن غير الله لا بقدر على الموت، وقال: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) أي: بأمره الذي امتثلوه، وقال: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) وقوله: (لِلِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) وقال: (خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي: بأمره وإذنه في ذلك، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بأمره، وذلك أنه أمر أن يطاع، وقيل: أرسله لأن يطاع؛ لأنه يقول ما يقول بإذن الله، وقيل: بإذنه بجميل صنعه وحسن توفيقه.

إلا

إلا قالوا: هي على أربعة أوجه: أولها: الاستثناء، كقوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فاستثنى المتقين؛ لأنهم ليسوا بأعداء. الثاني: بمعنى لكن، في قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي: لكن الذين ظلموا يحتجون عليكم بغير حجة لجهلهم، وقيل: معناه لكن الذين ظلموا فلا تخشوهم. قال أبو عبيدة: إلا هاهنا بمعنى الواو وإليه ذهب أبو علي - رحمه الله -، أي: ولا الذين ظلموا عليكم حجة وهم من جملة الناس إلا أنه خصهم لشدة عبادهم كما خص النخل والرمان لفضلهما على غيرهما، وقال المبرد: هذا خطأ؛ لأن الواو للعطف، والإشراك، وإلا للاستثناء ولا يدخل أحدهما في باب الآخر. ْقال: والأول صحيح؛ لأن حق الاستثناء أن يكون كله على معنى لكن، وفيه كلام كثير ليس هذا موضع ذكره. واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر: إلَّا كناشرة الذي كلّفتم ... كالغصن في غلوائه المتنبّت قال المبرد: معنى هذا لكن ناشرة الذي ضيعتم. والكاف زائدة، وناشرة اسم رجل أي: خرج عنكم وادعى فى بني أسد فتركتموه يخاطب بني مازن. واحتج أبو عبيدة أيضا بقول الأعشى: إلّا كخارجة المكلّف نفسه ... وابني قبيصة أن أغيب ويشهدا قال: يعني وكخارجة، وقال المبرد: أراد ولكن كخارجة المتكلف خلاف ما عليه العشيرة.

وقال في قوله: (إِلا الذِينَ ظَلَموا) لكن الذين ظلموا أيقولون أن لهم حجة فالمعنى أنه لا أحد له حجة، والظالم يحتج بما لا حجة له فيه، قال: ومن كلامهم: ما لأحد على سبيل إلا من بغى فتأويله أنه لم يستثنه من باب سبيل، ولكن معناه لكن من بغى مخطئ ببغيه فلا يكون هذا الباب منفردا من الأول ألبتَّة. وقوله تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) وقوله: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي: لكن من ظلم، ومثله كثير. الثالث: بمعنى غير، قال اللَّه: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) أي: غير اللَّه، وقوله: (لا إِلَهَ إلا هُوَ) أي: لا إله غيره، هكذا جاء في التفسير. والفرق بين إلا وغير أن إلا حرف وغير اسم وينوب مناب إلا في الاستثناء، وقد يكون صفة، تقول: هذا درهم غير قيراط معناه: إلا قيراطا، وغير قيراط على الصفة ولا يكون إلا مضافا، ولا معنى له إلا مخالفة ما يضاف إليه، ويكون فاعلا ومفعولا وظرفا ووصفا

واستثناء، تقول: جاءني غيرك فيكون فاعلا، وضربت غيرك يكون مفعول، ومررت برجل غيرك وصف: وجاءني زيد غير راكب حال، وجئتك غير يوم ظرف زمان، أما من المكان فطلبتك غير موضع، وجاءني القوم غير زيد، وما جاءني أحد غير زيد استثناء فتجريها في الإعراب مجرى الاسم الذي يجيء بعد إلا. الرابع: ابتداء الكلام، قال: (ثُمْ رَدَدتا: (أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وأسفل السافلين مثل أرذل العمر أي: الكبر، والمعنى: والذين آمنوا فلهم أجر غير ممنون، ولا يكون مستثنى؛ لأن الذين آمنوا قد رد بعضهم إلى الكبر، وقيل.: معنى أسفل سافلين جهنم، والذين آمنوا مستثنون، فأما قوله تعالى: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ). فمعناه لكن؛ لأن الله لا يستثنى من المخلوقين، وكذلك: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي). وكذلك: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ) ويجوز أن يقال: استثنى إبليس منهم؛ لأنه كان معهم في الأمر، وقوله: (لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) أي: لكن من ظلم، و (ثم) هاهنا بمعنى الابتداء كما تقول: أريد أن أحسن إليك ثم أكرمك، وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً). قال قطرب: معناه إلا ما يسعه؛ لأن الخطأ واسع له؛ لأنه لا حيلة له فيه، وقوله: (إِلا اللمَمَ) مستثنى صحيح ومعناه إلا أن يكون العبد قد ألم

بفاحشة ثم تاب، ويجوز أن يكون معناه إلا أن يلم بذنب ويحسب أنه صغير أو يلم بذنب ويحسب أنه ليس بذنب، وقوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) ثم قال: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) معناه أن أصحاب إبراهيم تبرأوا من كفار قومهم وعادوهم على الدين ما خلا: (قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)، فإن ذلك كان: (عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فقول إبراهيم هو استثناء من قول أصحابه، كان معنى قوله: إذ قالوا لقومهم قولهم لقومهم. وقيل: معناه لكن قال إبراهيم لأبيه لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، المعنى أن إبراهيم لم يقل ما قالوه ولكن قال: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)، وقوله: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) والموتة الأولى لم تكن في الجنة، ولكن المعنى على البدل كلامه قال: لا يذوقون إلا الموتة الأولى كما تقول: لقيت زيدا في الدار ولقيت عمرا فلما كررت الفعل جاز أن لا يكون عمرو ملقيا في الدار وإذا لم تكرر وقلت: ظننت زيدا في الدار وعمرا لم يجز أن يكون عمرو إلا مظنونا في الدار كذلك. قال قطرب: وفيه نظر. وأما قوله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا) وهذا أيضا يدل على البدل ولا يكون استثناء؛ لأن اللغو ليس بسلام كأنَّه قال: لا يسمعون فيها إلا سلاما. ومثله قول سعد بن مالك: والحربُ لا يبقَى لجا ... حِمِها التَّخيُّلُ والمِراحُ إلاَّ الفتَى الصبَّارُ في النَّ ... جداتِ والفرسِ الوَقاحِ

كأنه قال: لا يبقى إلا الفتى وليس باستثناء؛ لأن الفتى ليس من التخيل والمراح، وأما قوله تعالى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) وليس العلم من اتباع الظن فمعناه إلا أنهم يتبعون الظن، وقوله تعالى: (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) فمعنى ذلك: لكن حاجة، وكذلك قوله: (وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) أي: لكن رحمة. وقال المبرد: لكن أن يرحمهم، وقوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) أي: لكن من تولى فإنك مسلط عليه بالقتل، وكذلك قوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) أي: لكن لك على من اتبعك سُلْطَانٌ، ويجوز أن تكون إلا في قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) بمعنى الواو عند من يقول بذلك، وقوله: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) معناه: لا معصوم من أمر الله إلا من رحم يريد المؤمنين الذين مع نوح عليه السلام في السفينة كأنَّه قال: لا معصوم اليوم: (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي: من عذابه إلا المؤمن، وفاعل بمعنى مفعول غير كثير في العربية يقولون: سر كاتم أَي: مكتوم، والراحلة بمعنى مرحولة، وأمر عارف بمعنى معروف، ويقولون: العارضة لما تعرض له داء من الذكارة والإناث وإنما هي معروض لها، وكذلك تطليقة بائنة أي: مبانة، والعائذ الذي يعوذ بها ولدها، وعيشة راضية أي: مرضية، وجاء الآشر بمعنى المأشورة، ومثل هذا يجيء في مواضع لا يقع فيها التباس، ويجوز أن يكون المراد بـ إلا من رحمة اللَّه أي: لا عاصم غير الله، ويجوز أن يكون المراد به نوح؛ لأنه يعصم بأمر الله كما قال عيسى عليه السلام: (وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ). قال المبرد: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي: لا عاصم يعصم الناس عن أمر الله إلا من رحم فإنه تناله الرحمة، والعاصم الفاعل، ومن رحم معصوم، ولكن لذكره العصمة فهم المعنى، وقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)

فاستثنى من لفظه، والمعنى: أن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، قال الراجز: لَوْ قُلْتُ مَا فِي قَوْمها لمْ تَيْثَمِ ... يَفْضُلها فِي حَسَب وَمَيْسمِ أي: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها، وقال تعالى: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) أي: لا يقصد لذلك، ولكنه يقصد ابتغاء وجه ربه. ومما يجري مع هذا الباب ما قاله المبرد: إن الاختيار في قوله: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) أن يكون الاسم ما بعد إلا وليس مثل قوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) لأن مكاء نكرة مصدر، والاسم فيما مضى معرفة والخبر معرفة " وكذلك قوله تعالى: (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا): (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا) وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا) وذلك أن إلا موجبة فاختاروا أن يجعلوا الموجب الاسم وهذا كله جائز إلا إذا كان الاسم والخبر معرفتين، وينشدون بيت الفرزدق: وقد شهدَتْ قيسٌ فما كان نصرُها ... قتيبةَ إلا عضَّها بالأباهم على الوجهين.

إلى

إلى قال سيبويه: إلى منتهى لابتداء الغاية، تقول: من كذا إلى كذا، ويقول الرجل: إنما أنا إليك أي: أنت غايتي، وتقول: قمت إليه فتجعله منتهاك من مكانك. وقال غيره: تقول: سرت إلى الكوفة فجائز أن تكون بلغت إليها ولم تدخلها، وجائز أن تدخلها ولم تجاوزها؛ لأن إلى غاية وما بعده شيء فليس بغاية. وجاء في القرآن على وجهين: الأول: غاية، كقوله تعالى: (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ). أي تصير إلى حيث لا يحكم غيره. الثاني: على ما قيل: بمعنى مع، قال: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) أي: مع أموالكم كذا قيل. والوجه أن يقال: لا تضيفوها إلى أموالكم فتأكلوها معها ولم يتح لهم أن يأكلوها مفردة وإنما هو نهي عام كما تقول: لا تشتم زيدا فيمن يشتمه، والمعنى: لا تشتمه مشاركا في شتمه ولا منفردا به، وأنه راجع إلى الأكل أي: أكله حوب كبير، والحوب: الإثم والمصدر الحوب حاب يحوب حوبًا، وذكر الأكل وأراد النفقة؛ لأن أكثر النفقة وأشهرها يكون فيما يؤكل، وسماهم بعد البلوغ يتامى بالاسم الأول. والأصل أن يسقط عنه اسم اليتيم عند البلوغ، واليتيم في الناس من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات.

الاستواء

الاستواء أكثر ما يستعمل في الاستقامة ونتكلم في أصله بعد إن شاء الله. وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: القصد، قال اللَّه تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) أي: قصد لإخراجها من كونها دخانا إلى ما هي عليه من صلابة الخلقة، قال ابن عباس: استوى هاهنا علا أمره.

الثاني: الاستيلاء، قال اللَّه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، ومنه قول الشاعر: فلمّا عَلَوْنَا واسْتَوَيْنَا عليهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسِرِ الثالث: الاستقرار، قال اللَّه: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) أي: استقرت. الرابع: التماثل، قال الله: (لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أي: ليسا مثلين، وأما قوله تعالى: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) أي: استوت

صورته يعني: جبريل فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما هو عليه من استواء الصورة [لا] كما ينزل بالوحي على صورة رجل.

الاستفهام

الاستفهام أصل الاستفهام الاستخبار بما جاء بمعنى التوقيف والإنكار فأمَّا الإنكار فقوله تعالى. (خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) والدليل على أنه إنكار قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) وهكذا قوله: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) ومثله كثير. وأما التوقف والتعريف قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وتأويله أنا قد فعلنا ذلك، ولولا ذلك لم يعطف على: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) قوله: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ)؛ لأن (لم) عامله لا يقع على الفعل الماضي. ومن التقرير قوله عز وجل: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) وأنزل تعالى قبل ذلك: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). ثم قال: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) وجاء على وجه التوبيخ، وذلك أنه لما كان البنون مرغوبا فيهم والبنات مكروهات ونسبوا إلى الخالق ما يكرهون ويحهم فقال: (أمِ اتخَذَ مِما

يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) والدليل على أنه أراد التوبيخ قوله في مثل هذه القصة: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ). وقوله للمسيح: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) تقرير وتوبيخ لقومه، وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) توقيف له وإخبار ببطلان دعوى هذا المحاج.

الباب الثاني في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله باء

الباب الثاني في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله باء البوء باؤوا: أصل البواء الرجوع، ومبوأ الرجل: منزله الذي يرجع إليه إذا فرغ من أموره، ثم كثر حتى سُمي الإنزال التبوئة، قال الله تعالى: (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) وقال عمر بن معدي كرب: كم مِن أخٍ لي صَالحٍ ... بَوَّأْتُه بيدَيَّ لَحْدا ثم كثر حتى سُمي التسوية بين الشيئين: بواء، يقال: هذا بواء لهذا إذا كان مثله، وفلان بواء بفلان، إذا قتل به فرضي. وجاءت هذه الكلمة وما تصرف منها في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) أي: احتملوا وزرا على وزر. وقيل: استوجبوا غضب الله والغضب من الله: العقاب، وقال: (بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ). الثاني: الرجوع، قال الله تعالى: (أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي ترجع إلى الله بإثم قتلي، وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك.

ويجوز أن يكون المعنى في هذا، وفي قوله: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) واحدا وسمي الحصول في القيامة [رجوعا] إلى الله تعالى، وحقيقة ذلك الرجوع في الخلقة، لأنَّهُم يخلقون في القيامة بعد الفناء. الثالث: التبوء من النزول. قال تعالى: (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) وقال: (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ) في الحشر: (تَبَوَّءُوا الدَّارَ) قالوا: معناه أوطنوا، وهذا قريب من الأول.

البصر

البصر أصله من الوضوح. ومنه: أبصرته لمحا باصرا، أي: بصرا واضحا، وقيل: نظرا صائبا بتحدق. ومن ثَمَّ سُمي ضرب من الحجارة أبيض رخو بصرة، لما في البياض من الوضوح. وبه سُمِّيت البصرة. والبصرة: العلم. لأن الأشياء تتبين بها وتصح وجوهها عند العالم. وقال: (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) أي: مشرقة واضحة. وقيل: معناه: مبصرا، أي: مضيئا.

وقيل إذا صار الناس يبصرون فيه، فهو مبصر، كلولك: رجل مخبث، إذا كان أهله خبثاء، ورجل مضعف: دوابه ضعاف، والنهار بصر: أهله بصراء. ومبصر فيه أجود. وهو كقولهم: أحمق الرجل، إذا جاء بأولاد حمقى وأصرم النخل، إذا أذن بالصرام وألبن الرجل صار ذا لبن. ويجوز أن يكون أصل الكلمة من الصلابة ويصر الشيء: حيث يغلظ، تقول: هذا بصر الجبل والحائط، وبصر السماء؛ لأنه أقرب ما يبصر منها وهو أغلظها في رأي العين. وبصائر الدم: طرائقه على الجسد. والبصر في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: البصر بالقلب، قال الله: (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ) يعني: عمى القلب وبصر القلب. ونحوه قوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ)، يعنى: المؤمن الذي يعلم والكافر الذي لا يعلم، ويجوز أن يكون بصر العين وعماها، ويكون المراد التنبيه على المنفعة بالإيمان، لأنه مشبه بالبصر، والمضرة بالكفر، لأنه مشبه بالعمى. الثاني: بصر العين، قال: (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا). وقال: (فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا). الثالث: البصر بالحجة، وهو راجع إلى الوجه الأول، قال تعالى: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا). جاء في التفسير أنه أراد: لم جعلتني أعمى عن الحجة، وكنت في الدنيا بصيرا بها، ويجوز أن يكون من بصر العين، وأن اللَّه يشحره أعمى العين ليجعله نكالا لمن خلفه.

الباء

الباء هي لإلصاق الشيء الشيء وخلطه به، فإذا قلت: مررت بزيد، فقد أضفت المرور إلى زيد، وألصقته به. وجائز أن يكون معه استعانة كقوله: كتبت بالقلم. وتزاد في خبر المنفي توكيدا وتثبيتا، كقولك: ليس زيد بقائم. وجاءت زيادة في قولك: حسبك بزيد. هذا قول الفراء ومن يقول بقوله. وعندنا أنها دخلت على معنى قولك: اكتف بزيد، لأن معنى قولك: حسبك هذا أي: اكتفِ به، وأحسبني الشيء: كفاني. وسنتكلم في ذلك. قالوا: وهو في القرآن على الوجهين: الإلصاق، والزيادة في قول الفراء. وعلى تقدير الإلصاق كقوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) كأنك ألصقت الاستعانة به، وقوله: (وَبالآخِرَةِ هُم يُوقِنونَ). كأن [إيقانهم] التصق بالآخرة. ومثله كثير. وأما الزيادة على قول من يقول بذلك، فقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) وقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قال: المعنى: ومن يرد فيه إلحادا، وقوله: (تَنبُتُ بِالدهْنِ) معناه: تنبت الدهن. والصحيح أن ذلك لمعان، وليس بزيادة. فأمَّا قوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) فمعناه: اكتف بالله شهيدا، وكذلك: حسبك بزيد، أي: اكتف بزيد؛ لأن حسبك بمعنى يكفيك فالباء تدخل في هذا على التقدير. وقوله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ) فإنما تحمل هذا على مصدره، والمراد: من كانت إرادته واقعة بالإلحاد، فدخلت الباء للمصدر. وكذلك: (تَنبُتُ بِالدهْنِ) معناه: تنبت نبتها بالدهن، وقوله: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) أي: وقع الأمر لأن أكون.

وقال سيبويه: بحسبك زيد. ومعناه - على ما ذكرنا - أي: اكتف بزيد، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: (تَنبُتُ بِالدهْنِ): إنما تنبت ما يكون منه الدهن، وهو - ثمرها، والتقدير: تنبت ثمرها بالدهن، أي: ومعه الدهن. ومعنى الباء هناك كمعناه في قولك: أذهبته، إذا حملته على أن يذهب به. ويجوز أن يجعل أنبت هاهنا بمعنى نبت على ما يقوله أهل اللغة، كما قال زهير: حتى إذا أَنْبَتَ البَقْلُ وأنبت ونبت عندنا لغتان فصيحتان.

البأس

البأس أصله: الشدة. وفي القرآن: عذابا بئيسًا، أي: شديدا. وأكثر ما جاء عن العرب: البأس في الحرب، والبؤس: الشدة في المعيشة. وكذلك البأساء. وفي القرآن: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) ذكرهما للتوكيد، وهما واحد، كما قال: العدل والإحسان. هذا قول. وأجود. منه أن يقال: البأساء: الشدة في الحرب، والضراء: الشدة في المعيشة، والعدل: الإنصاف في الحكم والإحسان في ذلك، وفي غيره من الأفعال الحسنة. وقوله تعالى: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أي.: لا تغتم. والابتئاس: حزن في استكانة. والبأس في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: العذاب، قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) أي: عذابنا، وقال: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا) وقال: (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ). الثاني: الحرب، قال الله في البقرة: (وَحِينَ الْبَأْسِ) يعني: الحرب.

الثالث: السطوة والنكاية، قال تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا). وقوله: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي: أولو سطوة ونكاية في العدو.

البطلان

البطلان أصله من الذهاب وسمي الباطل باطلا لأنه لا ثبات له مع الحق، على حسب قوله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا). ورجل بطل: شجاع، لأنه إذا قاوم قرنا لم يقم له القرن. والبطل والباطل سواء. وهنا الحرف وما يتشعب منه في القرآن على خمسة أوجه: الأول: الكذب، قال: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) يعني: الكذب، إذا لم يكن قبله كتاب يشهد بتكذيبه، ولا يجيء بعده كتاب يكذبه. ويجوز أن يكون معناه: إن الله يحفظه من أن ينفض؛ فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. وعلى هذا تأويل قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). الثاني: الإحباط، قال: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ) أي: لا تحبطوها، بالمن والأذى وقال: (لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ). والثالث: خلاف الحق، قال اللَّه تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) وقيل: يعني: به هاهنا الشرك. فإذا جعلته خلاف الحق كان أعم. والمراد على القول الأول أن الإسلام قد جاء فهلك الكفر وذهب. والزهوق والزهق: الهلاك،: (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) أي: من شأن الباطل إذا جاء الحق أن يذهب ويبطل ولا يثبت، وذلك من شأنه في ما تقدم، فكان هنا يفيد ما قلناه.

الرابع: ما يحبد من دون الله، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ) وقال: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) وسماه باطلا، لأنه لا حجة لأهله يثبتون عبادتهم إياه بها. والخامس: الظلم، قال: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) أي: بالظلم. وبطلان الشيء: ذهابه، فسمي الظلم باطلا، لأن الله حكم فيه بأن يبطل ولا يثبت. والمعنى على ما قال الحسن: هو أن يكون للرجل على صاحبه حق فإذا طالبه دعاه إلى الحاكم، فيحلف له، ويبطل حقه، والحاكم يحكم على الظاهر. وأصل الإدلاء: إلقاه الدلو في البئر. ويقال: أدليت الدلو، إذ أنزلتها في البئر، وفي القرآن: (فَأَدْلَى دَلْوَهُ) ثم صار كل إلقاء إدلاء، يقال: أدلى فلان حجته، إذا أرسلها على صحة، ودلوت الدلو، إذا أخرجتها من البئر، ومنه دلى فلان على فلان، إذا توسل به، قال الشاعر: فقد جعلت إِذا مَا حَاجَتي نزلت ... بِبَاب دَارك أدلوها بِأَقْوَام

البر

البر أصله: السعة. ومنه: البر، خلاف البحر. ثم استعمل في الزيادة، فقيل: أبر فلان على فلان، إذا زاد عطية. والجواد المبر: السابق لكل ما سبقه، كأنَّه اتسع لما يتسع له غيره. وقيل: رجل بار وبر. وفعل بمعنى فاعل معروف. مثل رجل سمح، ويوم قر. ونحوه: رجل ندب، أي: منتدب للأمور. ثم استعمل في القبول، فقيل: بر حجك، أي: قبل، وصدقت وبررت تأكيد للصدق. وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الصلة، قال تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) يعني أن تصلوا القرابة. وقيل: معنى: (أَنْ تَبَرُّوا) أن لا تَبَرُّوا. وقيل: لا يجوز أن يكون حذف لا وإثباتها سواء في شيء في الكلام. وإنما المعنى أنه نهاهم عن كثرة [الأيمان]، وعن الجرأة على الله، ليكونوا بررة أتقياء، والمعنى: لأن تبروا. وكانوا ربما حلفوا ألا يبروا أقرباءهم، ولا يتكلموا في صلح لأمر معرض لهم. فالذي وتشتمل عليه الآية أمران: أحدهما: النهي عن أن يجعل يمينه مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا طلب منه ذلك قال: قد حلفت، والذي ينبغي في هذا أن يفعل ما حلف عليه، ويكفر عن يمينه.

وثانيهما: كثرة الأيمان، وهو ضرب من الجرأة على اللَّه، وابتذال لاسمه في كل حق وباطل، وتقول: هذا الشيء عرضتي، إذا كنت لا تزال معرض له، وهو عرضة للناس، إذا كانوا لا يزالون يقعون فيه، والناقة عرضة أسفار؛ إذا كان صاحبها لا يزال يسافر عليها، وقال حسان: هُمُ الأنظَارُ عُرضَتهُا اللقاءُ وقال الله في الممتحنة: (أنْ تَبَرُّوهُم). الثاني: بمعنى الطاعة؛ قال الله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) أي: على طاعة الله، ومثله: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى) أي: بالطاعة دون المعصية، وقال: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) أي: مطيعا لها، وقال: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ)، أي: مطيعون، وقال: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ) أي: المطيعين، كذا جاء في التفسير، وهو وجه، ولو جعلت ذلك بمعنى الصلة واللطف. الثالث: بمعنى الثواب، قال الله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) يعني: الثواب. الرابع: التقوى، قال: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) يعني: التقوى، وأراد توكيد ما احتج به على سفهاء أهل الكتاب في إنكارهم على المسلمين توجههم إلى الكعبة بعد توجههم إلى بيت المقدس، فقال: ليس البر كله في التوجه إلى االمشرق والمغرب في الصلاة: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) أي: البر بر من آمن باللَّه، وهو التقوى، هكذا جاء في التفسير. وليس ببعيد أن يكون البر هاهنا بمعنى الطاعة، ويسمى الطاعة برا في قولهم: هذا، من أعمال البر، أي: مما يطاع الله به، وحذف البر الثاني لبيان المعنى، كما قال الشاعر: وَكَيفَ تُخالِلُ مَن أصبَحَتْ ... خِلالَتُه كأبِي مرجب أي كخلال أبي مرجب.

وهكذا في قوله: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) أي: ولكن البر بر من اتقى، وأول الآية: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) وهو مثل ضربه الله للمشركين في تأخيرهم أشهر الحرم فأخبر الله أن ذلك عكس البر، كما أن من أتى البيت من ظهوره؛ فقد عكس أمر الدخول. وقيل: إن قوما من قريش وثقيف وخزاعة وطائفة من عامر بن صعصعة؛ كانوا إذا حرموا لا يأقطون الأقط؛ ولا يأكلون السمن، ولا يدخلون البيوت من أبوابها؛ ولكن من ظهورها وأدبارها، وظهورها: سطوحها، فسموا حماة، والأحمى: المتشدد في دينه، فأخبر الله أن ذلك ليس من البر، وأن البر بر من اتقى معاصي اللَّه.

البرهان

البرهان قال على بن عيسى - رحمه الله -: البرهان: شاهد صدق في نفسه وشهادته. والبرهان: حق في نفسه وشهادته. والبرهان: بيان صدق يظهر به صحة أمر. والبرهان: ما ثبت المعنى في النفس على ثقة به، وذلك بالبيان الذي فيه. والبرهان: ما فصل الحق من الباطل، وميز الصحيح من الفاسد بالبيان الذي فيه. والبرهان: ما أوجب الثقة وأزال التهمة بالييان الذي فيه. والبرهان ما أوصل النفس إلى إدراك الحق بالبيان الذي فيه؛ فكان البرهان آلة بها يتم إدراك النفس للحق. وقل: جاء البرهان بمعنى الدليل والدلالة. والفرق بين الدلالة والبرهان. أن الدلالة: ما أحضر المعنى النفس، والبرهان: ما ثبت المعنى في النفس بالبيان الذي فيه؛ فكأن الدلالة آلة الإحضار، والبرهان آلة لتثبيته في النفس

على جهة الثقة به، وكل برهان فيه معنى الدلالة، وليس كل دلالة فيها معنى البرهان، ألا ترى أن الاسم دلالة على معناه؛ وليس ببرهان على معناه، وكذلك هداية الطريق دلالة عليه وليس ببرهان عليه، وسمعت من يقول إنه فارس معرب، ولا أعرف ما صحة ذلك. ويجوز أن يكون أصله من البرهة، وهي القطعة من الدهر، كأن البرهان قطعة من القول، أو هو قطع بين الحق والباطل وفصل، كما أن البرهة فصل بين الزمانين، والنون فيه زائدة، كما زيدت في " السلطان "؛ وهو من السليط. وهو في القرآن على وجهين: الأول: الحجة، قال الله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: حجتكم بأن ععه آلهة، وفي النمل: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). الثاني. الآية " قال اللَّه تعالى: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ) أي: آيتان، وقال: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) يعني آية من آيات ربِّه.

البعل

البعل أصله من القيام بالأمر، ومن ثم قيل للنخلة التي تستغني بماء الماء عن سقي العيون: بعل. وقد استبعل النخل: صار بعلا. وهو في القرآن على وجهين: أحدهما: الزوج، قال: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) والزوجة: بعلة، ولا يقال: هو بعلها حتى يدخل بها، وهو زوجها على كل حال. وكذلك القول

فيها، والشاهد قولهم: باعلها، أي: جامعها، وفي الحديث: " أيام أكل وشرب وبعال " (¬1) أي: جماع. والآخر: بمعنى الرَّب، قال: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا) أي: رَبًّا غير اللَّه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم من حديث نبيشة بن عبد الله وكعب بن مالك (1144)، من غير كلمة " بعال ".

بل

بل أصلها في العربية: الإضراب عن الأول، وإثبات الثاني، تقول: لقيت زيدا بل عمرا. فتركت الأول، وأخذت تذكر شيئا آخر، غلطت في الأول، أو بدا لك فيه، فتداركت كلامك بـ " بل " فجعلت الأمر للثاني، - وأخرجت الأول بما دخل فيه الثاني. ثم جاء في القرآن لغير الغلط والاستدراك والبداء، ولكن لترك قصة إلى أخرى، كأنه قال: دع هذا مع تمام فائدته إلى فائدة أخرى، ومثل هذا يكون منا أيضا، يقول أحدنا: جاءني الحاجب بل الأمير، أي: دع مجيء الحاجب مع أفدتك به، فالأمير هذا أمره. وينقسم في القرآن على وجهين: أحدهما: قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) كأنه قال: دع ما تقدم ذكره من أمرهم، وخذ في أنهم قالوا: إن القرآن أضغاث أحلام، وأضغاث الأحلام: مختلطاتها التي لا تأويل لها، ثم حكى عنهم فقال تعالى: (بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ)، والمراد أنه اختلط عليهم أمرهم، فكذبوا أنفسهم، وخرجوا من شيء إلى شيء، وهذا على سبيل الإضراب عن الأول وإثبات الثاني. ومثل الوجه الأول قوله: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ)، فـ: (ادَّارَكَ) لفظ ماض ومعناه الاستقبال، أي: بل يتكامل علمهم في الآخرة إذا حصلوا فيها، ويوقنون أن ما وعدوا منها في الدنيا حق.

وأصل: (ادَّارَكَ): تدارك كأنَّه قال: قد يدرك بعض علمهم بعضا في الآخرة حتى تكامل، ثم قال: (بَل هُم فِي شَكٍّ مِنْهَا)، وهذا إخبار عن الدنيا، كأنَّه قال: دع ما تقدم ذكره من تكامل علمهم في الآخرة بأن ما وعدوا منها حق مع ما أفدتك بذلك، وخذ في أنهم في الدنيا شاكون في البعث، ثم قال: (بَل هُم مِنْهَا عَمُونَ) أي: دع ما تقدم من ذكر شكهم، وخذ في أنهم عمون عنه، أي: جاهلون، والشاكُّ في الشيء بمنزلة الجاهل به، وقوله: (بَل هُم مِنْهَا عَمُونَ) توكيد لقوله: (بَل هُم فِي شكٍّ منهَا) وهذا كقولك: فلان جاهل بكذا، بل هو أعمى عنه، تريد توكيد ما وصفته به من الجهل. وأما " بلى " فليس من " بل " في شيء، و " بل " لا يكون إلا جوابا لما كان فيه حرف جحد، كقوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)، وقوله: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) ثم قال في الجواب: (قَالُوا بَلَى) وهو مخالف لنعم لأن نعم لا يكون إلا جوابا للاستفهام بلا جحد؛ كقوله تعالى: (فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ) وكذلك جواب الخبر، إذا قال: فعلت ذلك، قلت: نعم لعمري قد فعلته.

وقال الفراء: إنما امتنعوا أن يقولوا في جواب الجحود نعم لأنه إذا قال الرجل لصاجه: أمالك عليَّ شيء؛ فلو قال الآخر: نعم، كان كأنَّه صدقه، كأنَّه قال: نعم ليس لي عليك شيء، فإذا قال: بلى؛ فإنما هو رد لكلام صاحبه، أي: بلى لي عليك شيء. فلذلك اختلف نعم وبلى.

الباب الثالث في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله تاء

الباب الثالث في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله تاء التأويل أصل التأويل من الأول، وهو: الرجوع، يقال: آل الشيء؛ إذا رجع، وأوَّل الكلام تأويلا، إذا رده إلى الوجه الذي يعرف منه معناه، وقوله: (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي: يأتي ما يؤول إليه أمرهم في البعث، وقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، أي: ما يرجع إليه معناه، وقيل: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)، أي: بالبعث، وليس بالوجه؛ لأنه ليس للبعث هاهنا ذكر. والتأويل في القرآن على خمسة أوجه: الأول: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) قال أبو علي رضي الله عنه يعني تفسير المتشابه به كله على حقائقه، وذلك أن في القرآن أمورا مجملة، مثل أمر الساعة وأمر صغائر الذنوب التي شرط غفرانها باجتناب الكبائر، واستدل على هذا بقوله تعالى: (هَلْ يَنْظرونَ إِلا تَأوِيلَهُ)، فجعل الموعود الذي وعدهم إياه في القرآن تأويلا للقرآن.

وجاء في التفسير أن التأويل هاهنا منتهى مدة ملك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن اليهود حسبوا ليعلموا ذلك، فأعلمهم الله أنه لا يُعرف ذلك بالحساب، وإنما يُعرف من قبل الله تعالى. والتأويل والتفسير واحد، لأن معنى التأويل يعود إلى التفسير، ويفرق بينهما من وجه ذكرناه في " كتاب الفروق " وهو أن التفسير هو الإخبار عن إفراد آحاد الجملة، والتأويل: الإخبار بمعنى الكلام، وقيل: التفسير إفراد ما انتطمه ظاهر التنزيل، والتأويل: الإخبار عن غرض المتكلم بكلامه. والثاني: عاقبة الأمر وما يؤول إليه، وهو قوله تعالى: (هَلْ يَنْظرونَ إِلا تَأوِيلَهُ) يذكر قوما أوعدوا بالعذاب، فتطلعوا عاقبة ما أوعدوا به رادين له، فقال: هل ينظرون إلا تأويل ذلك المصير وتلك العاقبة، أي: مرجعه ومآبه. وقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي: لم تأتهم عاقبة ما وعدهم في القرآن أنه كائن في الآخرة من الوعيد، ولم يعن أنه لم يأتهم العلم وتفسيره، لأن جميع ما في القرآن مفهوم المعنى، ولو كان فيه شيء لا يفهم معناه لم يكن لإنزاله وجه. ومثل ذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: عاقبة. والثالث: تعبير الرؤيا، قال: (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) يعني: تعبير الرؤيا. وقال: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) وقال: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) وقال: (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) يعني: بجميع ذلك تعبير الرؤيا، وسميت الرؤيا أحاديث؛ لأن منها ما يصح، ومنها ما لا يصح، مثل الأحاديث التي يتحدث بها صدقا وكذبا. فأما رؤيا الأنبياء عليهم السلام خاصة فيقين.

الرابع: التحقيق، قال: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ) جاء في التفسير منه أراد: تحقيق رؤياي، وهو حسن، ويجوز أن يكون معناه: تفسير رؤيا و: (يَا أَبَتِ) بالكسر على حذف ياء الإضافة، ويجوز بالفتح على حذف الألف المنقلبة عن ياء الإضافة، وأجاز الفراء الضم، ولم يجزه الزجاج، إلا أن التاء عوض عن ياء الإضافة، وقال على بن عيسى: هو جائز، لأن العوض لا يمنع من الحذف. الخامس: قوله: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) 37،، جاء في التفسير أنه أراد بألوانه قبل أن يأتيكما، والمراد بتسميته بألوانه وصفاته؛ كأنه يفسره لهما، فلهذا سماه تأويلا، وسمي تفسير الشيء تأويلا، لأنه مآل لبيان معناه، و: (نَبَّأْتُكُمَا) أخبرتكما، والنبأ: الخبر العظيم، لا يكون إلا كذلك. وخرج لنا بعد وجه آخر، وهو قوله: (وَأحْسَنُ تَأوِيلا) قال مجاهد: أي: جزاء. قلنا: وذلك أن الجزاء هو الشيء الذي آلوا إليه.

تولى

تولى يقال: ولي الشيء يليه، إذا قرب منه، وداري يلي دارك، وولاية الأعمال، من ذلك، وكذلك: الولي، وهو: المطر الذي يلي الوسمي، والوسمي أولى سطر يجيء، والولي: الذي يليه، ومنه: الولي، خلاف العدد، لأنه يقرب منك، قم قيل: ولى عنه، وتولى عنه، إذا أعرض وبعد. والتولي في القرآن على ستة أوجه: الأول: الانصراف، قال: (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) دل على أنه كان في الشمس فانصرف إلى الظل، ومثله: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي: انصرف، ومثله: (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ). والثاني: بمعنى الامتناع، قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) معناه: فإن امتنعوا من الإيمان بك والرضا بحكمك، وقوله: (أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي: لما اتنعوا من ذلك أراد الله عقوبتهم، فعجل بعضها لهم في الدنيا، والإصابة بالذنب: الإصابة بعقوبة الذنب، كما قال: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي: حاق بهم جزاؤه، وقوله: (حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: فإن امتنعوا من الإيمان والهجرة، وكان هؤلا قوم من المنافقين زعموا أنهم احتووا المدينة واستأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخروج منها إلى البدو، فأذن لهم، فخرجوا ولحقوا بالمشركين، فأمر الله أن يؤخذوا ويقتلوا حيث وجدوا، لأنهم كفار، إلا أن يرجعوا إلى المدينة. والثالث: الإعراض، قال اللَّه: (وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) وقال: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) وقال: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) كل هذا بمعنى الإعراض على ما قالوا وهو الأصل، ويكون الإتيان الأوليان من هذا الوجه بمعنى الامتناع.

والرابع: قالوا: الهزيمة، قال تعالى: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ). يعني: الهزيمة عنهم، ومصدر هذا التولية، وليس بالتولي، نهى اللَّه تعالى المؤمنين أن يولوا الكفار أدبارهم في القتال إلا أن ينحرف أحدهم من موضع لا يمكنه فيه الضرب والطعن إلى موضع يمكنه فيه ذلك، أو أن يضيق عليه فليلتجئ إلى جماعة من المسلمين، فينضافوا معه على مدافعة العدو، ومن يولي عن العدو على غير هذين الوجهين فقد باء بغضب من اللَّه، أي: استحق الغضب من اللَّه مقابلة بقبيح فعله، وهو من البواء في القتل، وهو أن يقتل بالرجل كفوه. قال أبو بكر الرازي رحمه الله: " وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمبن اثني عشر ألفا، فإذا بلغ ذلك فليس لهم أن ينهزموا عن مثلهم إلا متحرفين لقتال "، والحجة حديث ابن عباس عنه - عليه السلام - " خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعة مائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة "؛ وسأل رجل مالكا، فقال: أيسعنا قتال من خرج من أحكام الله وحكم بغيرها، فقال مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف، وإلا فأنت في سعة من ذلك. وقال بعضهم: هذه الآية في أهل بدر؛ وليس الفرار من الزحف كبيرة، وهذا غلط، لأن النفي عام، وليس لأحد تخصيصه، ولا يكون المجمل إلا على العموم، وقيل: هذا الوعيد لازم لمن فرَّ عن الزحف حبا للحياة، فأما من لم يجد بُدًّا من الفرار فهو في سعة. والزحف: السير هي الثقيل، وبه يوصف العساكر، لأنَّهَا إذا دنت من العدو؛ سارت على تعبئة، وسير الجماعة المعبأة رويدا. الخامس: بمعنى ولاية الأمر، قال: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) بالكسر، أي: تولى الإثم فيه، كأنَّه صار صاحب الإثم فيه، وقرئ (كبره)، أي: معظمه، وكبر الشيء: معظمه، وكذلك كبره: لغتان، وقيل كبر: مصدر الكبير من الأمور، وكبر: مصدر الكبير السن، مثل: الكبر والكبر: الكبير أيضا.

والسادس: بمعنى الولاية، خلاف العداوة، قال اللَّه تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) وقوله: (لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) يأمرهم بعداوتهم أن لا يناصحوهم.

التقي

التقي أصل التقى: (أن تجعل بينك وبين من تخافه حاجزا، قال النابغة: سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتناوَلَتْه واتَّقَتْنَا باليَدِ ثم كثر حتى قيل: توقيته، إذا هبت الإقدام عليه، ويقال: تقاه يتقيه، واتقاه يتقيه وتوقاه يتوقاه، والمتقي في أسماء الدين: هو الذي يؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم، ويجعل ذلك بينه وبين النار جُنَّة، ولا يستحقه مطلقا إلا المستحق للثواب، ويجري على غيره مقيدا، وقال الشاعر يصف سيوفا: جَلاَهَا الصّيْقَلُونَ فأَخْلَصُوهَا ... خفَافاً كُلُّهَا يَتْقِي بأثْرِ والأثر: والأثر ماء السيف وفرنده، كأنها تجعل ذلك بينها وبين من يريد عيبها، والإقدام عليها حاجزا، وذلك أنه إذا رأي أثرها لم يحبها، أو ترك الإقدام على أصحابها. وهو في القرآن على خمسة أوجه: الأول: - بمعنى الخشية، قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي: اخشوا عقابه، واجعلوا الإيمان بينكم وبينه، وقال: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ)، ومثله كثير. الثاني: بمعنى العبادة، قال اللَّه تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) أي: أفلا تعبدون، وقال: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) هكذا جاء في التفسير، ويكون ذلك أيضا بمعنى الخشية؛ لأنه إذا قال:

أنا ربكم، فقد أخبر أنه القادر عليهم، وإذا كان كذلك فينبغي أن يخشى عقابه، ولا يعصى، ويرغب في ثوابه، فيعبد ويطاع. الثالث: الإيمان. قال تعالى: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ) أي: أن توحدوه، ودليل ذلك قوله: (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). ووضعه الكفر بإزاء التقوى دليل على أن المراد بالتقوى: الإيمان. والرابع؛ الإخلاص، قال الله تعالى: (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). والخامس: الانتهاء إلى المأمور به، وترك تجاوزه، قال: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ)، أي: انتهوا إلى أمره في ذلك، ولا تجاوزوه. وكل هذه الوجوه متقاربة، يجوز قيام بعضها مقام بعض.

التمني

التمني يقال: تمنى الرجل الشيء، إذا قدر في نفسه بلوغه، ومنه: منى الله لك كذا، أي: قدره، وقال الشاعر: ما تمني لك الأماني ومنينا من فلان بكذا، أي: ابتلينا، ولا يقال ذلك إلا في المكروه. وسُمِّيت الممية منية، لأنَّهَا مقدرة، وقيل للمني مني، لأن الولد مقدر منه، والتمني: قول الرجل يا ليتني كنت كذا. والتمني في القرآن على وجهين:

الأول: هذا القول، وهو قوله تعالى: (تمَنوُا المَوتَ إِن كنتُم صَادِقينَ) وذلك أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله واحباؤه، فقال اللَّه لهم: إِن كنتُم كذلك فتمنوا الموت لتموتوا، فتصيروا إلى الثواب عاجلا، ثم أخبر أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الذنوب، فكان هذا خبر غيب دالا على صدق الدعوة، فلم يكن فيهم أحد يقول: إني تمنيت ولم أمت، وشرح ذلك جرى في كتابنا في التفسير. والثاني: القراءة، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) يقال: تمنى الرجل إذا قرأ، قال الشاعر: تَمَنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ لَيلهِ ... وآخِرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ والرسول والنبي واحد، وإنما أراد التوكيد فكرر. كما تقول: أحب كل مؤمن ومسلم، والمؤمن والمسلم سواء، وعلى هذا فإن بين المؤمن والمسلم فرقا في العربية، وكذلك بين الرسول والنبي، وأما فى أسماء الدين فكل ذلك سواء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ القرآن غلط الغلط الذى يجوز مثله على القارئ، وكان اللَّه ينبهه على الصواب، فيرجع إليه، فعاب ذلك عليه أعداؤه، وليس فيه عيب؛ لأن البشر لا يخلو من السهو والغلط، وجعل الله تنبيهه إياه على الغلط نسخا له، ورده إلى الصواب إحكاما لآياته. وأما ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى، ثم سجد، وسجد المشركون، وقالوا: قد رجع إلى دينكم، فإن ذلك كذب، لأن القارئ لا يغلط بمثل هذا، ولا يجوز أن يقوله النبي صلى الله عليه وآله تعمدا، لأنه كفر، ولا يقع الكفر من الأنبياء. وأخرى فإنه لا خلاف بين الرواة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يمكنه الصلاة عند الكعبة ظاهرا؛ لما كان المشركون ينالونه به من المكروه، فكان يصلي عندها ليلا حين لا يطلع عليه أحد منهم، فكيف سجدوا لقراءته، وهذه حاله عندهم، حتى كأنهم كانوا على ميعاد؟!

التوفي

التوفي أصل - الوفاء: التمام وشيء واف: تام، وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي.: قوموا بأوامري على التمام أعطكم جزاء أعمالكم على التمام. وتوفيت حقي، واستوفيته، إذا أخذته بتمامه، ومعنى توفي الله الأنفس: قبضها عند تمام آجالها، وقد وفيت الرجل حقه، وأوفيت له، إذا تممت عهده، وخلافه: الغدر، وهو أن تترك الوفاء به، وأصل الغدر: الترك، يقال: غادر الشيء، وأغدره، إذا تركه. والتوفي في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الإنامة، قال اللَّه تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) كأنَّه يقبض العقل والذهن الذي تميز به الأشياء. الثاني: قوله تعالى: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) وروي عن الحسن؛ أنه قال: التوفي هاهنا: رفعه إلى السماء. ومثله قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) أي: آخذك من بين بني إسرائيل، ورافعك إلى السماء حيث لا ينفذ إلا حكمي، ولا يريد أن اللَّه في السماء، وشبه رفعه إلى السماء بالموت؛ لأنه يفقد عند الرفع [كما] يفقد عند الموت، وقيل: الرفع هنا رفع المنزلة. الثالث: قبض الرُّوح، قال الله تعالى: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) وقال:. (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) وقال: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) يعني: أنهم يقبضون أرواحهم.

التسبيح

التسبيح أصله: التنزيه من السوء على جهة التعظيم. ولا يجوز أن يسبح غير اللَّه؛ لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم، وذلك لا يستحقه إلا الله الذي لا يعجزه شيء.

وسبحان اللَّه: تنزيه له مما لا يليق به، ونصبه كل مذهب المصدر؛ كأنك قلت: تسبيحا له. وسبحان: معرفة وعلم خاص؛ فإن نَوَّنَه شاعر فللضرورة، وقوله تعالى: (إِنَّ لَكَ فِي النهَارِ سَبَحًا طَوِيلا) أي: فراغا كبيرا للنوم، وقد أوجب الله على العباد أن يسبحوه ويقدسوه، وفي ذلك أوضح الدلالة على أنه لا يجوز إضافة الفواحش إليه. والتسبيح في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الصلاة قال الله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) والسبحة: صلا التطوع، وقوله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) أي: المصلين.

الثاني: ظهور أثر الصنعة والخلق، وهو قوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) يعني: ما ظهر فيها من آثار الصنع الدال على التوحيد. والثالث: الاستثناء، وهو قوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) أي: تثتنون، وهو قول: إن شاء اللَّه، وإنَّمَا قيل للاستثناء: تسبيح؛ لأنه تعظيم، كما أن قول " سبحان الله " تعظيم له، وكانوا قالوا: قال: (لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) ولم يقولوا: إن شاء الله، وفسر أيضا على ظاهره؛ فقيل: لولا تسبحون الله وتقدسونه وتعطون حقوق المساكين.

الباب الرابع فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ثاء

الباب الرابع فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ثاء الثواء الثراء: الإقامة، يقال: ثوى بالمكان، وأثوى: لغتان فصيحتان، قال الحارث بن حلزة: آذَنَتْنَا بِبَيْنِها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ ويتصرف هذا الحرف في القرآن كل أوجه: الأول: (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي: لم تكن مقيما فيهم، فتعلم من أخبارهم ما تخبر به، وإنَّمَا هو وحي، وإن كان " مدين " عربيا فاستقامة من قولهم: مدن بالمكان إذا أقام به، والياء فيه زائدة، والذي أظن: أنه أعجمي الأصل. الثاني: المثوى بمعنى المأوى، قال تعالى: (يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) وقوله: (فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)، وهو قريب من الأول؛ بل هو فيه بعينه لأن المثوى: مفعل من ثوى، وقيل للمنزل والمسكن: مثوى؛ لأن صاحبه يقيم فيه.

الثالث: المنزلة، قال: (أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أي: أعلى منزلتي، ولو أوردنا هذين الحرفين في باب الميم جاز، وأم المثوى: المرأة التي ينزل بها وبأهلها الضيف، وأبو المثوى: الرجل، وتقول: من أم مثواك الليلة، ومن أبو مثواك؟.

الباب الخامس فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله جيم

الباب الخامس فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله جيم الجبار أصل الكلمة: الإصْلاح، جبر العظم إذا أصلحه وجبر هو، ثم استعمل في الامتناع، فقيل: نخلة جبارة؛ إذا امتنعت ففاتت الأيدى، وهو راجع إلى الأصل؛ لأنها إذا فاتت اليد صلحت ثمرتها ولم تشعث، والجبيرة: الدملوج، وكذلك الجبارة؛ لأنه يصلح ويسوى، والجبارة أيضا، والجمع: الجبائر: الحث الذي يشد على العضو المكسور، وأجبرت الرجل على الأمر؛ إذا كرهته عليه؛ لأنك تريد بإجبارك إياه إصلاحه، وإصلاح نفسك - جبار يرجع إلى ذلك. والجبار في أسماء اللَّه - عز وجل - بمعنى أنه لا ينال بالأذى، وبمعنى الكبرياء والعظمة، وقال واصل بن عطاء: الجبار في صفات اللَّه تعالى بمعنى أنه يجبر فاقة العبد. وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: القهار، قال اللَّه تعالى: (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) يعني: القهار لخلقه بما أراد، وقال: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي: بمسلط تقهرهم على الإيمان، إنما أنت مذكر، ويجوز أن يكون معناه: إنك لست بمتكبر تياه، كما قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

الثاني: المتغلب الجابر، قال الله: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) أي: متغلبين جبارين، وقال: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ) وقال بعض أهل التفسير: المرد بالجبار في هذه المواضع: القتال، والبطش: الأخذ بالغلبة والشدة. الثالث: المتكبر قال: (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) جاء في التفسير أنه عنى المتكبر عن عبادة ربه. والرابع: العظيم الخلق القوي، قال الله عز وجل: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) جاء في التفسير: إنه عنى العظام الأجساد الطوال الأقوياء، زعموا أنه لا يقاومونهم، وقيل: إنه أراد الممتنعين الغلابين العتاة، وهذا أصح؛ لقوله: (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) كأنهم قالوا: إن فيها قوما من عادتهم غلب أعدائهم، فقيل لهم: اذهبوا إليهمْ فإنكم تغلبونهم، وأعمل إن في القوم وجعل الجبارين من صفتهم؛ لأن فيها ليس باسم. قال: ومثله: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) والجبار هاهنا والمتكبر سواء، وإنما كرر للتوكيد، ولا يجوز أن يقال أنه يعني: بـ " الجبار " هاهنا: القتال والغلاب؛ لأن القتل والغلبة لا يضافان إلى القلب ويضاف إليه الكبر، ويجوز أن تكون هذه الوجوه كلها بمعنى واحد وهو التكبر، وإنَّمَا أوردتها على ما جاء في التفسير.

الجعل

الجعل يقال: جعلت بمعنى أنشأت ولا يتجاوز مفعولا، ومنه: جعل الله الناس، وجعل الأرض، وجعلت أيضا بمنزلة نقلت، كقولك: جعلت الطين آجرا، وجعلت الفضة خاتما، وجعلت بمنزلة ظننت، تقول: اجعل الأمين خادما وكلمه؛ أي: ظنه خادما، وجعلت بمنزلة سميت، قال: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) ويقال أيضا: جعلت القرية عن يميني. والفرق بين الجعل والفعل؛ أن جعل الشيء يكون بإحداث غيره فيه، كجعلك الطين خزفا، وفعل الشيء إحداثه لا غير. وقال بعضهم: جد الجعل الفعل ولابد لكل جعل من تعلق بمجعول ومفعول، أما نفس الشيء الوقع عليه ظاهر اللفظ؛ كقوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) أي: خلقهما، وأما اسمه ووصفه، كقوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) أي: جعلوا اسمهم اسم الإناث ووصفهم، وفعلوا ذلك، وأما حكمه؛ كقوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي: جعلتم حكم هذا كحكم هذا، وكقولك: جَعل الله هذا حلالا وهذا حراما، أي: جعل حكمه حكم ذلك، وأما علته لها كان المجعول على صفته؛ كقولك: جعلت المحرك متحركا؛ أي: فعلت العلة.

وأما قوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) فمعناه سمياهم بذلك، ومثله جعلت فلانا لصا، وقوله تعالى: (جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) أي: وصفناهم بهذا الوصف بعد أن عادوا الأنبياء، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) أراد الخبر بما في قلوبهم من ذلك ووصفه؛ فالمجعول هو الخبر ويكون بمعنى اللطف، وقوله: (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) أي؛ خلقها، ويجوز أن يكون مكن يوسف - عليه السلام - ظهر صدق رؤياه؛ فالمجعول نفس الرؤيا في الأول وفي الثاني للدلالة على صحته. وقوله تعالى: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) أي: فرقا، والجعل راجع إلى ما به كانوا فرقا؛ وهو الفعل الذي فرق بينهم، وقوله تعالى: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) أي: حجة.؛ وهو قلب الفصاحة. وقوله - تعالى: (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) هؤلاء قوم آمنوا فلحقهم أذى من الكفار وهزوا فكفروا، وكان يجب أن يدعوا الكفر خوفا من عذاب الله وتركوا الإيمان خوفا من عذاب الناس؛ فأبدلوا حكم عذاب الناس حكم عذاب الله؛ فالحكم هو المجعول، وقال: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) فالمجعول فعل ما صارت به آية، وقال: (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أي عبرة، وفعل ما صار به المسيح عبرة هو المجعول. وقوله تعالى: (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) فأمره بالاقتداء بهم هو المجعول، وقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: بالإجبار. والجعل بعد ذلك في القرآن على ستة أوجه فيما ذكره بعض المفسرين: الأول: التسمية؛ قال: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) وقال: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أي: سميناها قاسية.

الثاني: بمعنى التخلية، قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) أي: يخلي بينه وبين ما يخرج به صدره من الكفر؛ لأن مع الإيمان ثلج الصدور، وليس ذلك مع الكفر. وأما الطبع والختم واللعن والأكنة والوقر والعمى والصمم والبكم والرجس ونحو ذلك فإنه ذم وليس بمن ذكره إلا بعد ذكر المعصية ولزمهم هذه الأسماء جزاءا لذنوبهم، ويجوز أن يكون تسميته إياهم بهذه الأسماء على جهة التمثيل؛ لأنا نعلم أنه ليس على بصر الكافر غشاوة. الثالث؛ منع الإلطاف؛ قال الله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) أي: تمنعه ألطافنا فيعرض عن القرآن ولا ينتفع به؛ فكأنا جعلنا بينه وبينه حجابا، ولو علم أن ألطافه تنفعه ما منعه إياها ولكنها لا تنفعه فهو بمنزلة من لا ألطاف له ولو كان الطبع والختم وما بسبيلهما منعا لهم عن الإيمان لما قال: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ). الرابع: بمعنى الوصف؛ قال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) و: (الْجِنَّ) هاهنا الملائكة سموا بذلك لاستتارهم عن الأبصار، وأصل الجن والجِنَّة، والجَنَّة والجنون الستر، أي: وصفوا الملائكة بأنهم شركاء الله، ونحوه قول الرجل لمن يصفه باللصوصية: جعلتني لصا، أي: وصفتني بذلك، ونحوه قوله: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) قال بعض أهل اللغة: الجزء هاهنا بمعنى الإناث، يقال: أجزئت المرأة إذا ولدت أنثي، وأنشد: إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يوماً فلا عَجَبٌ ... قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارُ أحياناً ويجوز أن يكون الجن في قوله تعالى: (شُرَكَاءَ الْجِنَّ). الجن المعروف. وكان بعض العرب يذهب إلى أن سروات الجن بنات اللَّه، فرد اللَّه ذلك بهذا القول وشَرْحُ ذلك جرى في كتابنا في التفسير.

الخامس: الخلق، قال: [(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)] (¬1) أي: خلقناه كذلك، وأحدثناه ومثله: (جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا) أي: خلقها صلبة يمكن الاستقرار عليها، ومثله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي: خلقه من غير ذكر، فصار عبرة وعلامة. السادس: الحكم، قال الله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا)، أي: حكموا بذلك. والمراد أنهم حكموا بأن للَّه نصيا في زروعهم ومواشيهم ولأصنامهم نصيبا فيها، وسماهم شركائهم؛ لأنهم جعلوا بعض أموالهم لها، ثم كانوا يصرفون مما جعلوه لله إلى أوثانهم فينفقونه عليها ولا يصرفون ما جعلوه لأوثانهم إلى ما يقربون به إلى اللَّه وقيل الأنعام هاهنا البحيرة والسائبة. فأما قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) فمعناه أنه جعل نبيه عدوا له، لأنه فرض عليه محاربتهم ومناصبتهم، فإذا جعل النبي عدوا لهم، فقد جعلهم عدوا له، وليس معنى ذلك أنه أمره بعداوته وأرادها منهم أو خلقها فيهم لأنه لو فعل ذلك لم يذمهم عليه، وقوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) أي: لا تجعلوا القسم بالله عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ فتكثروا الحلف، وكذلك: ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. فتنبه. قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَعْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، بَلْ لَهُ مَعَانٍ أُخَرُ سِوَى الْخَلْقِ. أَحَدُهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفُرْقَانِ: 47]. وَثَانِيهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى وَهَبَ، نَقُولُ: جَعَلْتُ لَكَ هَذِهِ الضَّيْعَةَ وَهَذَا الْعَبْدَ وَهَذَا الْفَرَسَ. وَثَالِثُهَا: جَعَلَ بِمَعْنَى الْوَصْفِ لِلشَّيْءِ وَالْحُكْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: 19]، وَقَالَ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: 10]. وَرَابِعُهَا: جَعَلَهُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً [الْأَنْبِيَاءِ: 73] يَعْنِي أَمَرْنَاهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَقَالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] فَهُوَ بِالْأَمْرِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ بِمَعْنَى التَّعْلِيمِ كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ كَاتِبًا وَشَاعِرًا إِذَا عَلَّمْتَهُ ذَلِكَ. وَسَادِسُهَا: الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ تَقُولُ: جَعَلْتُ كَلَامَ فُلَانٍ بَاطِلًا إِذَا أَوْرَدْتَ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ ذَلِكَ. اهـ (مفاتيح الغيب. 4/ 52)

(وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) أي: ضمنتموه ثوابكم على الوفاء بأيمانكم فلا تنقضوها.

الجناح

الجناح أصله الميل، ومنه قيل: جنحت السفينة، أي: مالت، وقال تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) وسمي الإثم جناحا، لأنه ميل إلى هوى النفس، وجنح الليل حين يميل، وقيل: حين تميل الشمس للمغيب، ومنه جناح الطائر، لأنها في جانبيه ما يلين عن سواء جنبك. والجناح في القرآن على وجهين: الأول: الإثم، قال اللَّه: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) أي: لا إثم عليكم في التعريض للمرأة المعتدة ترغبون في نكاحها، إذا خرجت من العدة، فأمَّا التصريح بذلك، فهو إثم. الثاني: الضرر، هو قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) أي: إذا تبايعتم بالنقد فلا ضرر عليكم في ترك الكتاب والإشهاد، فإن قيل إن قوله: لا جناح عليكم في ترك ذلك في الحاضر، دليل على أن عليه جناح في تركه في النساء، قلنا: أراد بالجناح الضرر على ما ذكرنا، ولم يرد الإثم، ولو أراد الإثم لكان قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) رخصة في تركه.

الجهاد

الجهاد الجهاد اسم إسلإمي لم يعرف في الجاهلية، وهو قتال المشركين خاصة. وأصله من الجهد، وهو استفراغ الطاقة في الأمر، وهو جهد وجهد لغتان، ويقال الجهد الطاقة نفسها، وبلغ الرجل جهده ومجهوده، إذا بلغ أقصى قوته. والأرض الجهاد اليابسة لأن الرجل لا يحفرها إلا إذا بلغ مجهوده، والمجهود والجهد سواء، مثل: العقل والمعقول. وجاهدت العدو إذا استفرغت قوتك في دفعه، والمفاعلة تكون من اثنين إلا في حرف جاءت نوادر منها طالبت الحاجة، وحاولت الشيء، وسافرت في الأرض. والجهاد في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الجهاد بالقول، قال الله تعالى: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) وهذه الآية مكية نزلت قبل الأمر بالكتاب. وهذا دليل على أنه أراد بها اجهاد بالقول، فيها دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلزم على حسب الطاقة، يقول: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي: تترك طاعتك لهم فيما يريدونه من مقاربتك إياهم جهادا كبيرا. والجهاد هو بذل المجهود في الشيء، وترك التقصير فيه،: (وَجَاهِدهُم بِهِ) أي: بالقرآن الذي افتتح به أول السورة، والأول أجود

الثاني: الجهاد بالسلاح، قال اللَّه تعالى: (جَاهِدِ الكُفارَ وَالمنُافِقِينَ) وقال: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ثم قال: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ) كذا قال مقاتل. وهو غلط؛ لأن المنافق لا يقاتل ولا يقتل، لأنه إذا أظهر الإسلام حقن دمه، وإنما المراد أن جاهد الكفار بالسلاح والمنافقين بالغلظة عليهم والتنكير لهم، وقيل: جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، وكانوا هم الذين [يصيبونها] في عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كانوا عليه في الجاهلية. الثالث: الاجتهاد في العمل، قال الله تعالى: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ). أي: من يعمل الخير مجتهدا فإنما يعمل لنفسه، وقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) أي: عملوا لنا: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) أي: يزيدهم إلطافا ويزدادون معها من الطاعة فتعلوا درجاتهم، وقال: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) أي: اعملوا لله حق العمل، هكذا فسر هذه الآيَات ويجوز أن تكون بمعنى جهاد المشركين

الجدال

الجدال أصله من الجدل، وهو الفتل، يقال: جدلت الحبل جدلا إذا فتلته، وهو مجدول، وأصل الكلمة من القوة، ثم سميت الأرض جداله لقوتها، وسُمِّي الجدال جدالا لأنك تقوم به حق القيام، لتقوي مذهبك، كما أن الحبل مجدل القول، والأجدل الصقر، وسمي بذلك لقوته، ويجوز أن يقال: الجدال هو أن تفتل الخصم عن مذهبه بحجة أو [شُبْهة] أو شغب، ويفتلك عن مذهبك بمثل ذلك. والجدال في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الخصومة، قال: (وَهُم يجادِلُونَ فِي الله)، أي: يخاصمون، وقال: (وَجَادَلُوا بِالبَاطِلِ). الثاني: السؤال، قال الله: (يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أيْ: سأل رسلنا ويستثبت أمر ما يعذب به قوم لوط، وقال أبو علي: جادلهم بما استحقوا عذاب الاستئصال، وهل ذلك واقع بهم لا محالة، أم هم إخافة ليقبلوا إلى الطاعة، وهذا يقوي ما تقدم من أنه سؤال. الثالث: المناظرة على إثبات الحق وإبطال الباطل، قال تعالى: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا)، وفي هذا دليل على أن الجدال لإقامة الحجة حسن، وأنه يقوم به الحجة ولولا ذلك لم يجادل نوح عليه السلام. وقد يكون المناظران محقين بأن يكون كل واحد منهما يناظر ليعرف الحق، ولا يكونان متجادلين إلا وأحدهما مبطل أو كلاهما؛ لأن الجدال هو فتل الخصم عن مذهبه، وفتل الحق عن الحق باطل، قال اللَّه تعالى (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)، ......

وقد عاب اللَّه تعالى من جادل في آياته بقوله: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ)، لأن الجدال بها هو الصحيح، والجدال فيها رد ودفع. الرابع: المراء، قال الله: (وَلا جِدَالَ فِي الحجِّ)، فنهى عن المراء الواقع بين المترافقين في طريق الحج، لأن لا يؤديهما ذلك إن فعلاه إلى قول ما لا ينبغي تعظيما لأمر الحج. وقيل معناه: إن الحج قد تبين وجوهه فلا ينسى ولا يشك فيه، ونحوه: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: لا يماري، والمراء أن تستخرج ما عند خصمكَ بالمناظرة، وأصله من المري، وهو استخراج اللبن من الضرع

الجن

الجن أصله الستر، ومنه الْجَنَّة وهي البستان الذي تشتبك فيه الشجر، حتى يستر من يدخله. والجنة السلاح، لأنها تستر عورة صاحبه عن قرنه، يقال: (أعور الفارس إذا انكشف منه موضع للضرب أو الطعن. والمجنون المستور على عقله، وقد جن وأجنه الله، ولا يقال جنه، ومثله أجده الله وهو مجدود، وقد جد ولا يقال: جده الله وليس مجدود من أحد، لأن ذلك نقص للأصل: إنما هو على معنى أن ذلك فيه، وكذلك أجنة اللَّهـ، وهو مجنون، أي: فيه جنون وليس مجنون من أجن. والولد ما دام في بطن أمه جنين، والجمع أجنة، لأنه مستور، وفي القرآن: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ). والجان يقع على واحد من الجن، والجن مثل الإنس يقع على الجمع. والجن في القرآن على وجهين: ......

الأول: الملائكة، قال اللَّه تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) يعني: الملائكة، وذلك أنهم كانوا عبدوها، وسماهم جنًّا؛ لأنهم مستوررن عن الأبصار. وذكر بعض المفسرين أنهم الجن، وليسوا بملائكة، وكانت العرب تعبد الجن، وتذهب إلى أن سروات الجن بنات الله، وفي الخبر أنه لما هدمت العزى خرجت منها جنية منفشة شعرها تدعوا بالويل فحمل خالد بن الوليد عليها فقتلها. الثاني: الجن المعروف من غير خلاف، قال الله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ويجوز أن تدخل الملائكة في ذلك، وقوله: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) (¬1) ¬

_ (¬1) من خلال السياق يتأكد وجود سقط في هذا الموضع، ولم ينبِّه عليه محقق الكتاب، أو تعدل العبارة هكذا: [ويجوز أن تدخل الملائكة في ذلك، ومنه قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ)]. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

الباب السادس فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله حاء

الباب السادس فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله حاء الحسنة أصل الكلمة القبول، والحسن ما تقبله النفس إذا رأته، والحسنة الخصلة التي تقبلها النفس. والإحسان ما تشتهيه النفس وتقبله، ونقيضه الإساءة، وهي التي تكرهها وتردها؛ ويقال: حسن الشيء، وهو حسن على غير الأصل، وإنما الأصل حسين كما يقال: قبح وهو قبيح، ويجوز أن يقال: حسن أحسن من حسن، ولا يقال: صدق أصدق من صدق، ولأن الحسن فاعل، والفاعل يصح في أفعل، والصدق مصدر ولا يصح في المصادر ذلك ولو لم يكن حسن أحسن من حسن لم يكن للمبالغ في قولهم: ما أحسن زيدا فائدة، ويقولون هذه الخصلة الحسنى، والمرأة الحسناء. ولا يقال في التذكير أحسن، ولا يجوز أن يوصف الله بالحسن؛ لأن الحسن حال في الحسَن ألا تراه يقبح بعد أن كان حسنا، ولا يجوز أن يكون الله محلا للأشياء، ولا يجوز أن يقال بأن الله حسن في العقل أيضا؛ لأنه لا يتصور للعقول فيحسن فيها كالحكمة والصلاح الحسن في العقول لتصوره لها. والحسنة في القرآن على خمسة أوجه: الأول: النصرة والغنيمة، قال اللَّه تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) يعني: ما كانت لهم من الدولة يوم بدر، وكذلك المعنى في هذه الآية من ......

سورة النساء وبراءة، وقوله قعالى: (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) يعني: القتل والهزيمة؛ هكذا جاء في التفسير. ويجوز عندنا أن يدخل في الحسنة هاهنا جميع ما ينالهم من المحبوب، وفي السيئة جميع ما يصيبهم من المكروه. الثاني: العمل الصالح، قال اللَّه تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) وقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) والسيئة التي في هاتين الآيتين بمعنى المعصية، وقرئ: (عَشْرٌ أَمْثَالُهَا) بالإضافة أي: عشر حسنات أمثالها وقرئ: (عَشْرُ أَمْثَالِهَا) على أن أمثالها من صفة العشر. فإن قيل: كيف قال: (عَشْرُ أَمْثَالِهَا) والمثل مذكر؟ قلنا: لأنه مضاف إلى مؤنث، وهي في المعنى أيضا حسنة أو درجة فأنت على المعنى، وأراد بذكر العشر التكثير ولم يرد عشر بعينها، كما تقول: إن كلمتني واحدة كلمتك عشرا؛ وكذلك قوله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) أراد التكثير، ولم يرد عددا بعينه، ألا ترى أنه لو زاد على السبعين لم يغفر اللَّه لهم أيضا. الثالث: الخصب والسعة، قال الله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) يقول إن أصابهم خير وسعة وخصب نسبوه إلى الله تعالى، وإن أصابهم ضيق وقحط نسبوه إليك، وقالوا: إنما نالنا ذلك من شؤمك، ومثله قوله: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي: بدل الضيق بالسعة، ومثله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) أي: اختبرناهم بالضيق والسعة والبلوى. والاختبار والتجربة سواء، وحقيقة معناه فعل ما يحدث معه العلم بالمبلو المختبر، ولا يجوز ذلك على الله، لأنه عالم بنفسه

وإنما المراد أنه يكلف عباده ويأمرهم وينهاهم، لأن الابتلاء والامتحان هو الأمر والنهي، فسمى الله تكليفه وأمره عباده ابتلاء من هذا الوجه على سبيل التوسع. ولا يجوز أن يقال [إنه يجرب عباده، وإن كان الابتلاء والتجريب] بمعنى واحد، وذلك أن استعمال الابتلاء فى الله مجاز، والمجاز لا يقاس عليه، وإنما يقاس على الحقائق، ولولا أن أهل اللغة استعملوا الابتلاء في اللَّه لم يجز استعماله فيه والعلة التي في الابتلاء ليست في التجربة وهي الاستعمال. ولو جاز القياس على المجاز لجاز أن تقول: سل الحمار وسل الشاة، وأنت تريد صاحبها، كما جاء.: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) أي: أهلها، وفي امتناع ذلك دليل على ما قلنا. الرابع: العافية والسلامة، قال اللَّه - تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) يعني: أنهم يريدون تقديم العذاب لهم في الدنيا على ما هم فيه من العافية فيها، وقوله (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ). الخامس: العفو والمعروف من القول، قال: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي: يدفعون القول القبيح المؤذي بالقول الحسن مرة وبالعفو أخرى، والمعنى أنهم يتغافلون عنه فينقطع، وكأنهم دفعوه، ولو أجابوا عنه زيد فيه. وقيل: معناه أنهم يدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدم لهم من السيئات، قاله الزجاج، وهو غلط لأن ما تقدم لا يدفع، وإنما يقال ذلك في المستقبل، وقال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أمره بالصفح والتغافل. والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة، و (لا) دخلت تأكيدا، و: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي: ادفع السيئة، ومما يلحق بما تقدم أن حد الحسن الفعل الذى يدعوا إليه العقل، وحد القبيح الفعل الذي يزجر عنه العقل، والإحسان الدفع الحسن، والإساءة الضرر القبيح

وكل فعل مقصود لا يخلوا من أن يكون حسنا أو قبيحا، وتدخل في الحسنة الفرائض والنوافل، ولا يدخل فيها المباح، لأن الحسنة مرغب فيها ولا يجوز أن يرغب في المباح؛ لأن ذلك قبيح، والمباح حسن وليس بحسنة

الحبل

الحبل أصله من الإمساك، ومنه قِيل: الحابول للحبل الذي يصعد به في النخلة، والحبالة شبكة الصائد، والمحتبل الصائد، وكذلك الحابل. وهو في القرآن على وجهين: الأول: القرآن، قال اللَّه تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) أي: بكتابه، وسماه حبلا لما فيه من توكيد الحجج والبيان، كما يؤكد العهد. والحبل عند العرب العهد. الثاني: الأمان، قال الله تعالى: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي: بأمان، قال الأعشى: وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلةً ... أَخَذَتْ من الأخرى إليكَ حِبالَها ......

ومعنى الآية أن اليهود لا يزالون مقهورين أذلاء إلا أن يأخذوا بحبل اللَّه، أي: إلا أن يكونوا ذمة للمسلمين، وعنى بالناس النبي - عليه السلام - والمسلمين، وهنا خبر غيب، وفيه دلالة على صحة الدعوة، وقال: (مِنَ اللَّهِ) أي: عن أولياء اللَّه. ويجوز أن يكون عنى قولك لمن تعاهده إذا فعلت كذا، فأنت أمين بأمان اللَّه وأمان الرسول. وقال الفراء: أراد إلا أني يعتصموا بحبل من الله فحذف لبيان المعنى، وقال الأخفش: هذا مثل قوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) وهو استثناء خارج عن أول الكلام، وهو بمعنى لكن، وليس بأشد من قوله: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)

الحسنى

الحسنى قد مضى القول فيها قبل. وجات في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الخلف من النفقة في سبيل اللَّه، وهو قوله: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) ومثله قوله: (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) أي: بما يخلفه الله عليه في الآخرة. الثاني: الخير، قال اللَّه تعالى: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى) أي: الخير وتأنيثها على معنى الخصلة والحلة والحال، وهي تأنيث الأحسن فإنه سمى الخير خصلة أو حلة، وقد يقع ذلك على الخير والشر، قول هذه خصلة محمودة يعني: الخير، وهذه خصلة مذمومة، يعنى: الشر. الثالث: الجنة، قال اللَّه تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) وقال: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) يعني: الجنة كذا قيل " ويجوز أن يكون المعنى: الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى العِدة الحسنة، وهم المؤمنون لأن اللَّه وعدهم أحسن العِدة

الرابع: الهداية، قال الله تعالى: (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى) أي: يزعمون مع قبح فعلهم أنهم على الهداية، وجاء في التفسير أن الْحُسْنَى هاهنا اليقين. والمراد تصف ألسنتهم أن لهم الْحُسْنَى بدل، أي: اليقين، وهم كاذبون في ذلك، أي: هم في شك أو شبهة وإن بدل من الكذب المعنى، وتصف ألسنتهم أن لهم الْحُسْنَى، وذلك الكذب (لا جرم أن لهم النار) رد لقولهم المعني جرم فعلهم هذا أن لهم النار، أي: الكسب، والجرم الكسب. وقال قطرب: (أنَّ) في موضع رفع، والمعنى وجب أن لهم النار، وأنهم مفرطون مقدمون للنار، وقرئ (مُفرَطُونَ) بفتح الراء مع التشديد، أي: متروكون كأنهم جعلوا مقدمين إلى العذاب متروكين فيه، وقرئ (مُفْرِّطُونَ) بكسر الراء وتشديده أي: فرطوا في الدنيا

الحسن

الحسن على ثلاثة أوجه: الأول قوله - عز وجل -: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وهي قراءة أي: حقا كذا قيل، ويجوز أن يكون المراد أن قولوا لهم قولا حسنا، وهو أولى؛ لأنه عل مقتضى اللفظ. الثاني: بمعنى المحتسب، وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) أي: محتسبا كذا قيل، ويجوز أن يقال: إن القرض الحسَن هو للبر والصدقة التي لا مَنَّ فيها وسمي ذلك قرضا؛ لأنه قرض من المال أي: يقطع منه، والقرض القطع، ويجوز أن يكون سماه قرضا؛ لأنه يرد عليه جزاؤه، فكأنه رد عليه بعينه كالقرض يرد على المقرض. الثالث: الجنة قال الله: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا) يعني: الجنة، ويجوز أن يكون (حسنا) أي: حسن المسموع

الحكمة

الحكمة ْأصلها المنع، يقال: أحكمت الرجل عن كذا، أي: منعته عنه، وسميت الكلمة الواعظة حكمة، لأنها تمنع عن التورط في الجهل، ومن ثَمَّ قيل: حكمة الراية، وقال جرير: أبني حَنِيْفَةَ أَحْكِموا سُفَهاءَكمْ ... إني أخافُ عليكمُ أَنْ أَغْضبا وسمي الحكم حكما؛ لأنه إذا تم منع عن التخاصم، وسمي العلم حكمة؛ لأنه يمنع صاحبه من الموارد القبيحة التي يردها الجاهل. وتسمية الله بأنه حكيم على وجهين: أحدهما: يستحقه لذاته، وهو أنه عالم. والآخر: يستحقه لفعله، وهو أن أفعاله محكمة، وفعيل بمعنى مفعل معروف في اللغة، يقال: سمع بمعنى سمع، قال عمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السميع ومجيء فعيل بمعنى مفعل، وفي القرآن: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وبصير بمعنى مبصر، وهذا من الأول. والحكمة في القرآن على خمسة أوجه: الأول: الحلال والحرام والسنن والأحكام، قال اللَّه: (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ) فالكتاب القرآن، والحكمة ما فيه من وجوه التحليل والتحريم ومعرفة الشريعة كلها، والدليل على صحة ذلك أنه أتى بذلك بعد بيان الأحكام، ......

وشرح الحلال والحرام، وسمي ذلك حكمة؛ لأنه يمنع من الوقوع في المحظور، ومثله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). الثاني: الفهم والعلم، قال الله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) وقال: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يعنى الحكمة، وهو الفهم والعلم والحكمة والحكم سواء، وهو مثل العذر والعذرة، والقل والقلة، والنحل والنحلة، وهي العطية والخير والخيرة. ومثله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) يعني: الفهم، وقال: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) ويجوز أن يكون الحكم هنا القضاء، أي: جعله قاضيا بين الناس، وقال: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أي: علمناه الخط، يقال: كتب كتابا، والحكمة: ما أجري على لسانه من الكلم الداعية إلى الرشد الزاجرة عن الغي، وقيل: الحكمة هنا الشرائع. الثالث: النبوة، قال: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني: النبوة، ومثله: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) يعني: النبوة، والفصل الذي ينفصل به بين المتخاصمين، وقيل: فصل الخطاب هو أما بعد وداود أول من قاله، والأول الوجه. ومثله: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) أي: النبوة، أي: آتى الله داود الملك والحكمة بعد قتل جالوت، فدل على أن ملك جالوت انتقل إلى داود بعد قتله جالوت أو بعد موت طالوت. الرابع: تفسير القرآن، قال: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) قالوا: يعنى العلم بتفسير القرآن، ويجوز أن تكون الحكمة القرآن نفسه، ومصداق ذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). ويجوز أن تكون النبوة والشاهد قوله: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ويجوز أن يكون العلم والأصالة كقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ......

الْحِكْمَةَ) وجماع الحكمة، والحكم الرد إلى الصواب فكل ما رد إلى الصواب حكمة وحكمه التامة من ذل؛ لأنَّهَا ترد فى القصد. الخامس: القرآن، قال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) يعني القرآن ونظيره: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) ويجوز أن يكون المعنى في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) القرآن، وغيره من الكلم المرشدة الزاجرة، وكل ذلك تسمى حكمة

الحشر

الحشر أصل الحشر الجمع مع السوق، قال الله تعالى: (وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) أي: رجالا يجمعون السحرة إليك، ويقال: حشرت القوم إذا جمعتهم وسقتهم، ويجوز أن يكون أصله من الخفة كأن الذي تحشره يخف لك، ولهذا قيل: إذن حشرة، أي: حقيقة، وسهم حشرات خفيف، وحشرات الأرض صغار دوابها، وناقة حشور ملززة الحلق، وقيل: المنتفخة الجنين العظيمة البطن كأنها من الأضداد. وفسر الحشر في القرآن على وجهين: الأول: الجمع، قال الله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) أي: نجمعهم، قال: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) ومثله: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي: جمعت، وقوله: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ)، وقال: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) ولا يكون هذا بمعنى السوق، لأنه يقال: (وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)

يعني: الأصنام، والأصنام لا تساق، ولكن يجمع على أنه يقال في الجماد والأغراض السوق عل سبيل المجاز. الثاني: السوق، قال الله؛ (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) أي: نسوقهم، وقال: الأول الحشر يعني: سوقهم إلى الشام، وجعله أولا لأن الناس يحشرون إلى الشام يوم القيامة، أي: يجمعون ويساقون، وهؤلاء بنو النضير، أخرجهم اللَّه من ديارهم [واغتنمها] النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل لأول الحشر، أي: هو أول ما حشروا: (وَأُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم) وهذا أصح وأقرب

الحق

الحق الحق: العقد على المعنى على ما هو به، ويدعوا إليه الحكمة، والحق في الدين ما شهد به الدليل على الثقة فيما طريقه العلم والقوة فيما طريقه غالب الظن. والحق أعم من الأصلح، لأن الأصلح حق [والأدون في الصلاح حق]، ومعنى الحق وقوع الشيء في موقعه. والصلاح: استقامة الشيء على مقدار، وأصله من الثبات، ويقول: تحققت الشيء، أي: ثبت عندي، وهنا حقك؛ لأنه قد ثبت لك ملكه، والحق من الإبل الذي يثبت للعمل. والحق خلاف الباطل؛ لأنه يثبت، والحق في أسماء اللَّه تعالى بمعنى أنه الدائم الثابت الملك غير زائل السلطان، وأنا أحق بكذا، أي: هو أثبت لي، وفي القرآن: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) وقال: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ). وفسر الحق في القرآن على عشرة أوجه: ......

الأول: يعني: به الله تعالى، قال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) قالوا: معناه لو اتبع الله أهواءهم، ويجوز أن يكون الحق هاهنا هو الحق في قوله تعالى: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ) (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ) أي: لو كان التنزيل بما يحبون لفسدت الأمور، وفسر قوله أيضا: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) أي: أن الله واحد، وهذا بعيد، والصحيح أن بعضهم يوصي بعضا باستعمال الحق وترك تجاوزه. الثاني: القرآن، قال الله: (حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ) يعني: القرآن قالوا: هذا سحر، وإنما سموه سحرا لخفاء مسلكه عندهم، وقال: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) وقال: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) أولم يكتفوا من الدلالة بالقرآن مع عجزهم عنه فطلبوا مثلا آيات موسى فأخبرهم أنهم مع تلك الآيات أيضا كفروا على الحجة في القرآن أبلغ منها في قلب العصا حية؛ لأن التحدي بالقرآن قد وقع على قوم كان صناعتهم الكلام. وكان السحر في أيام موسى عليه السلام في القليل من الناس كهو فينا اليوم، ولأن القرآن يبقى على الأيد ويقف عليه في الأطراف، من لا يقف على أمر للعصا إلا بالإخبار. الثالث: الإسلام، قال الله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) يعني: مجيء الإسلام وذهاب الشرك، والزهوق الهلاك، وقال: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) أي: ثبت الإسلام ويزيل الشرك. الرابع: العدل، قال الله: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) أي: جزاءهم العدل: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) وقربت منه: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أي: [بالمعجِز]، ويجوز أن يكون [الحق] عنى بالصدق، ويجوز أن يكون الحق هاهنا خلاف الباطل؛ لأنه قال: (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) على حسب ما تقول: الحق مر

الخامس: الصدق، قال الله: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) أي -: صدقا، وقال: (قَوْلُهُ الْحَقُّ) يعني: الصدق. السادس: حق بمعنى وجب، قال اللَّه: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي: وجب،: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) يعني: وجبت. السابع: الحق خلاف الباطل قال الله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) أيْ: للحق.، يقول: ليعمل فيها بالحق دون الباطل، وفيه دليل على بطلان قول المجبرة. الثامن: قوله تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) أي: مولاهم على الحقيقة. التاسع: بمعنى الدَّين، قال: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) أي: الذي عليه الدَّين، وإنما يملي الذى عليه الحق؛ لأنه مشهود عليه وإملاؤه إقراره تشهد به عليه،: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: ليتق عذاب الله ولا ينقص مما عليه شَيْئًا. وفي هذا دلالة على أن القول قول المطلوب فيما يقر به، لأن البخس النقصان، وقد وعظه اللَّه أن ينقص فدل علي أنه إذا بخس، أو ذكر الزيادة أو نقص الأجل أن القول قوله فيه. وكذلك قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) لما وعظهن الله في الكتمان، دل على أن القول قولهن في الحمل،: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) أي: فإن كان ضعيف العقل أو عييا لا يستطيع الإملاء، أملى وليُّه، يعني: ولي الصغير والضعيف العقل

والمراد بالإملاء الإشهاد على نفسه بما حصل على الصغير، والضعيف العقل لولايته عليهما؛ لأن الشهادة لا تقع إلا على العاقل، والشاهد على أنه أراد بالإملاء الإشهاد إجماع الأمة لو أملى غيره الكُتَّاب جاز. العاشر: بمعنى الحظ، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) أي: حظ، وإنما جعله حقا؛ لأنهم أوجبوه على أنفسهم، فصار كالدَّين. وأما قوله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) فمعناه أنه لا ننزل الملائكة إلا بوحي أو بأجل، وكلاهما حق،: (وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ) أي: لو نزل الملائكة لم يمهلوا وانقطع التوبة، فلم يقبلوا، والفرق بين الإنظار والإمهال أن الإنظار مقرون بمقدار ما يقع فيه النظر، والإمهال مبهم

الحساب

الحساب أصل الحساب في العربية الكفاية، يقال: أحسبني الشيء، أي: كفاني، وحسبي الله، أي: كافيني الله، وفي القرآن: (عَطَاءً حِسَابًا) أي: كافيا،: (حَسْبُكَ اللَّهُ) أي: هو العالم لفعلك، ومجازاتك عليه. وقيل: الحسيب المقتدر، وقِيل: الحسيب الكافي، ومعناه كافي إياك الله، وقيل: الحسيب المحاسب كما يقال للمحاظ الحفيظ، وللشارب الشريب، وفي القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ) أي: كافيك اللَّه، وسمي الحساب حسابا لأنك تكتفي به من وكيلك ومعاملك، ولا تطلب شيئا بعده. وهو في القرآن على عدة أوجه: الأول: الجزاء، قال الله: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي) أي: جزاؤهم، وقال: (إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) ......

جاء في التفسير أنه أراد بهاتين الآيتين الجزاء، وكذلك قالوا في قوله تعالى: (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي: جزاؤه. والأجود أن يفسر على الوجه المعروف، فيقال: أراد أن عليك أن تبلغهم، وعلينا أن نحاسبهم، وفي هذا تهديد شديد، وهو أيضا يرجع إلى معنى الجزاء، لأنه إذا حاسبهم جازاهم. الثاني: الحساب المعروف، قال: (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) وأراد بالحساب هاهنا عدد الأيام والأعوام، ومدد الأعمار والآجال والديون، وغير ذلك مما يجري مجراه. ولم يعن حساب الأموال وما بسيلها، وقال: (سَرِيعُ الحِسَابِ) ومعنى ذلك أنه إذا أراد حسابهم لم يتعذر عليه، وفي هذا دليل على أنه ليس بجسم؛ لأن الجسم يتعذر عليه حساب الجماعات الكثيرة في حال واحدة. وقيل الحساب أن تأخذ ما لك، وتعطي ما عليك، والله تعالى قد أحصى الأعمال؛ فهو يجازي عليها من غير تعذر ولا إطالة. الثالث: بمعنى الكافي، قال الله: (عَطَاءً حِسَابًا) أي: كافيا على ما ذكرنا. ووجه رابع: وهو قوله: (يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) قال المبرد: المراد أنه يتجاوز بهم جد ما فعلوا، وعندنا أن هذا موضوعه للكثرة، يقال: أعطاه بغير حساب، أي: أعطاه كثيرا، وذلك أن الحساب للإحاطة والحصر؛ وكأنه قد أعطاه عطاء لا يحصر كثرة، ومثله قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ويجوز أن يكون تفضل عليه، بغير استحقاق، والتفضل غير محسوب

الحياة

الحياة أصلها من الطراة والجدة، ومن ثم قيل: والشمس بيضاء حية، أي: باقية على حالها غير [حائلة] اللون، وسمي الحياء حياء؛ لأن اللون يحمر معه، والحمرة لون الحياة؛ وسمي الحي من القرب؛ لأن بعضهم يجيء مع بعض، وسميت الحية حية؛ لأنها لا تموت حتى تقتل وإلا فهي حية أبدا تكبر إلى أن تنتهي ثم تبتدئ فتصغر حتى ننتهي ثم تكبر وكذلك أبدا إلى أن يصاب هكذا قالوا، وأنشدوا: داهِية قد صَغُرَت مِنَ البكرِ والحياة في القرآن على ستة أوجه: الأول: تمييز الصورة ونفخ الرُّوح قال: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) أي: كنتم نطفا فميز صورتكم، ونفخ فيكم الروح كذا قيل، ويجوز عندنا أن يكون أراد أنكم كنتم نطفا أمواتا فجعلكم أحياء. وليس في الكلام دلالة على أنه أراد تمييز الصورة. وسمي النطف أمواتا؛ لأن كل ما ينفصل من الإنسان سمي ميتا مثل النطفة والدم وما بسبيلهما ونحوه،: (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وقوله: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) قالوا: معناه يخرج الحيوان من النطفة والطائر من البيضة، وقيل: يخرج المؤمن من ......

الكافر، ويجوز أن يكون أراد أنكم كنتم ترابا فجعلكم أحياء، والجماد قد تسمى ميتا على جهة التوسع؛ لأنه عدم الحس والحركة .. الثاني: محي الحي بمعنى العاقل العارف، قال الله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) ونحوه قول الشاعر: لقد أَسْمَعْتَ لو نادَيْتَ حَيَّاً ... ولكنْ لا حياةَ لمَنْ تُنادي أي: لو تنادي عاقلا، والمراد أنه لا يستعمل عقله، ولو لم يكن له عقل أصلا لم يكن مكلفا. الثالث: الحي بمعنى المهتدي، قال الله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) أي: كافرا فهديناه ونحوه قوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) معناه لا يستوي المؤمن ولا الكافر، فأخرج ما لا يقع عليه الحاسة إلى ما يقع عليه الحاسة، كما قال: (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) وما كان مجري هذا المجرى، وهو أعظم في البيان؛ لأن العيان فضلا على ما سواه. الرابع: الحياة بمعنى البقاء، قال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) يعني: أن من يعرف أنه إذا قتل اقتُصَّ منه كفَّ عن القتل فبقى

والمراد أنه يبقى حيًّا فحقيقة المعنى أن لكم في القصاص بقاء حياة ونحوه،: (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) أي: يستبقونهن فتضاعف المحنة عليكم ببقاء النساء مع فناء الرجال، واستحياه واستبقاه بمعنى واحد فاستبقاه طلب بقاءه، واستحياه طلب حياته، ولا يستبقيه إلا وهو يستحييه، ولكن لفظ الاستبقاء أكثر في الاستعمال فلأجل هذا فسروا الاستحياء بالاستبقاء، أخرجوا الأغمض إلى الأشهر. الخامس: مثل قال الله: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). أي: من استنقذها من الضلال أو أغاثها من المكروه فإنه أحيا الناس جميعا، أي: أجره أجر من أحيا الناس جميعا وأجر من يحيي الناس جميعا يتضاعف على قدر ذلك، ويجوز أن يكون معناه أنه قد أسدى إلى كل واحد منهم يدا بإحيائه أخاه المؤمن؛ فكأنه أحياهم كما تقول للرجل يسدي إليك يدا قد أحييتني، وإن كان لا يقدر على ذلك. السادس: الحياة بعد الموت، قال: (وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) وقال: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)

حين

حين ْالحين يقع على كل شيء من الأوقات قصير وطويل، ويكون محدود أو غير محدود، وأصله من القرب، ومنه حان الشيء إذا قرب، والحائن الذي قرب أجله، والاسم الحسن. والحسن في القرآن على أربعة أوجه: الأول: السَّنَة، قال: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) أي: كل سنة، هذا قول بعض الفقهاء، وإليه ذهب مقاتل. وذهب الكوفيون إلى أن الحين هنا ستة أشهر، وهو من أوان الطلع إلى وقت الصَّرام، قالوا: فمن حلف لا يكلم فلانا حينا، فهو ستة أشهر، لأنه قد علم أنه لم يرد أقصر الأوقات ومعلوم أنه لم يرد أربعين سنة؛ لأن من أراد ذلك حلف على التأبيد دون التوقيت ثم كان قوله تعالى: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) لما اختلف السلف فيه كان أقصر الأوقات فيه ستة أشهر. أولها أوان الطلع وآخرها وقت [الصرام]، وهو أولى من اعتبار السَّنة؛ لأن وقت الثمرة لا يمتد سنة،. بل ينقطع حتى لا يكون منه شيء، وأما الشهران فلاَ معنى لاعتبارهما إذ قد علم أن الزمان بين صرام النخل، وبين ظهور الطلع أكثر من شهرين فلما بطل اعتبار السنة واعتبار الشهرين ثبت اعتبار السنة إلا شهر. الثاني: منتهى الآجال، قال اللَّه: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) وقال: (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)

الثالث: قال اللَّه: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) ثم قال: (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) يعني: ساعة غروب الشمس، وساعة طلوعها، وساعة الظهر، وأراد بالتسبيح هاهنا، وجوب الصلاة في هذه الأوقات. الرابع: زمان غير مؤقت، قال اللَّه: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) وكان المراد به ما كان ببدر من الدبرة على الكفار، فلم يؤقت في وقت الإنزال، وقوله: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)

الحرج

الحرج أصل الحرج من الضيق، ومكان حرج ضيق، والحرجة الشجر الملتف. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الشك، قال اللَّه تعالى: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) أي: شكًّا، وذلك أن الرجل يضيق بالشك صدرا، والثلج هو مع العلم واليقين، ومثله: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) المخاطبة له والمعنى لأمته، - صلى الله عليه وسلم - كما قال في موضع آخر،: (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ). وقوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وليس كل ما خاطب به النبيين والمؤمنين أرادهم به، ألا ترى إلى قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) والقصاص في العمد فكأنه أثبت لهم الإيمان مع قتل العمد، وقيل العمد يبطل الإيمان، وإنما أراد أن يعلمهم الحكم فيمن يستوجب ذلك، ونحوه قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا). الثاني: الضيق، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي: - من ضيق، وقيل: من ضيق لا مخرج منه، وذلك أنه يتخلص من الذنب بالتوبة، فالتوبة مخرج

وليس في الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من عقوبته، ويحتج به فيما اختلف فيه من الحوادث، قيل: إن ما أدى إلى الضيق وهو مفي، وما أوجب التوسعة فهو أولى، وقال: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) والمعنى أنه تعالى يمنعهم الطاعة التي يشرح مع أمثالها قلوب المؤمنين جزاء بما قدموا من الذنوب، ودليل ذلك قوله في آخر الآية: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) فيحلهم الذنب كما تسمع. الثالث: الإثم، قال الله: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: إثم، وقوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) وإذا لم يكن عليه مع العمى إثم، فكيف يكون مع عدم القدرة عليه الإثم والعقاب. وقال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وعميانهم في بيوتهم، ودفعوا إليهم المفاتيح، وقالوا لهم: أحللنا لكم أن تأكلوا منها؛ فكانوا يتحرجون من ذلك فنزل قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ). وذهب أبو علي رحمه الله إلى أن معنى قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) أنه ليس عليه ضيق في ترك القتال، والصحيح الذي قلنا، والدليل على ذلك قوله: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) فتلى ذكر الأكل بذكر الأكل، وليس بالوجه أن يتلو ذكر الحرب بذكر الأكل

حتى

حتى حتى بمعنى الغاية تقارب إلى، وهي من عوامل الأسماء خاصة، فإذا وقع بعده الفعل أضمرت بينهما أن، فتكون أن - مع الفعل اسما، كقولك: أسير حتي تمنعني، ويرتفع بعدها الفعل أيضا؛ وإن ارتفع فهو خبر لمحذوف، وذلك قولك: مرض حتى تمر به الطائر فترحمه، كأنَّه قال: حتى أنه هذه حالة، ويكون أيضا بمعنى كم فينصب، كقولك: أطع الله حتى يدخلك الجنة، ويرتفع الفعل بعده، فيقول: سرت حتى أدخلها؛ أي: كان مني سير فدخول، أي: أنا في حالة دخول اتصل به سير ونحوه، فإن المبدئ رحلة. فركوب. ولها في الرفع موضع آخر، وهو قولك مرض حتى لا يرجونه، أي: هو الآن كذلك، ويقع الاسم بعد ما مرفوعا ومنصوبا ومجرورا، تقول: ضربت القوم حتى زيد زيد وقدم القوم حتى المشاة، وأكلت السمكة حتى رأعسها، وينشد: ألْقَي الصحيفَة كي يخفِّفَ رَحْلهُ ... والزَّادَ حَتَّى نعْلُه أَلْقَاهَا نصبوا نعله وخفضوها ورفعوها فمن نصب " جعلها - بمنزلة الواو على قولك: ضريت زيدا وعمرا كلمته. ومن رفع فعلى قولك: ضربت زيدا وعمرو كلمته، ومن خفضها فعل قولك: غاية بمنزلة، أي: إلى أن أنتهي إلى نعله. وكذلك القول في أكلت السمكة حتى رأسها، ورأسها، ورأسها، والكلام فيه يطول. وحتى في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى إلى، قال تعالى: (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) أي: إلى حين، وقال: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) أيْ: إلى حين، وقال: (حَتى مَطلَع الفَجرِ). الثاني: بمعنى فلما، وذلك إذا وقعت مع إذا، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) وقال (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) ......

وقال: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ) وقال: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا). الثالث: بمعنى إلى أن، قال تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) كذا جاء عن أهل التفسير فينبغي أن يحمل هذه الوجوه على الأصول التي ذكرناها في أول الباب؛ فيصح

الحرام

الحرام أصله المنع، ومنه حرمته عطاءه حرمانا أي: منعته إياه وحريم الرجل ما يجب عليه منعه وكذلك حرمته، وهو ذو رحم محرم، لأنه منع عن نكاحها بالنهي والشهر الحرام الممنوع فيه عن سفك الدماء، والبلد الحرام قربت من ذلك. وجاء في القرآن على وجهين: الأول: المنع بالنهي، وهو قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وهي ما قد مات من غير تذكية مما شرط علينا التذكية وإباحته، والدم يعني: المسفوح. لأن الكبد والطحال مباحان بالإجماع " ولحم الخنزير، وذكر اللحم وأراد جميع أجزائه من شحم وعظم، وغير ذلك؛ لأن اللحم معظمه، وإذا ذكره فقد دخل فيه غيره،: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) وهنا يوجب أن ترك التسمية عليه يقتضي تحريمه؛ لأنه لا فرق بَين التسمية عليه وبين تسمية زيد عليه. الثاني: عدم الإمكان وهو قوله تعالى: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ودليل هذا قوله: (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ونظيره قول الشاعر: إني امرؤٌ صَرعِي عليكَ حَرَام يخاطب فرسه أي: لا يمكنك صرعِي إني جيد الفروسية

الباب السابع فيما جاء من الوجوه والنظائر وفي أوله خاء

الباب السابع فيما جاء من الوجوه والنظائر وفي أوله خاء الخزي العيب التي تظهر فضيحته ويلزم الاستحياء منه، ومن ثم سمي الحياء خزاية، يقال خزى يخزي خزيا من العيب، وخزى يخزي خزاية من الاستحياء ثم كثر حتى استعمل في الهوان، فيقال: خزى الرجل، إذا هان وذل. وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: بمعنى القتل والجلاء، قال الله: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) وإنما سمي خزيا لما فيهما من الهوان يعني: قتل قريظة، وجلاء النضير، وقال تعالى: (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) وفي الحج: (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) يعني: القتل يوم بدر هكذا جاء في التفسير، ويجوز أن يكون الخزي في هذه الآيات الهوان والذل يلحق العاصين في الدنيا. الثاني: العذاب، قال الله: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) يعني: العذاب لا غير، وجاء في تفسير قوله (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) وقوله: (وَلا تُخزِنَا يَومَ القِيَامَةِ) ......

وقوله: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) أنه أراد العذاب، ويجوز أن يكون بمعنى الهوان أيضا. الثالث: الهوان، قال تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي: أهنته: وقوله: (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) أي: يهينهم، وذلك أن اليهودَ أنكروا قطع المسلمين [نخيلهم]، فأخبر الله أن القطع والترك بإذن الله [لميزوا غيرهم يتصرفون في أفعالهم فبدلوا]. الرابع: الفضيحة، قال اللَّه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ) أي: لا تفضحوني

الخوف

الخوف الخوف خلاف الأمن، والأمن سكون النفس والخوف انزعاجها وقلقها، وهو معنى غير العلم؛ لأن العلم يبقى بعد ذهاب الخوف. وأصله من النقصان، ومنه قيل: خوفت الشيء إذ أنقصته، ودينار مخوف ناقص الوزن، وقد يجيء الخوف بمعنى العلم، قال الله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) وكذلك الخشية بمعنى العلم، قال الله: (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) وقالوا: الخوف كالظن يكون شكا ويقينا، وأنشد: أخافُ إِذَا مَا مت ألا أذوقهَا أي أعلم، وموضعه في الظن قولك لصاحبك قد أبق غلامك، فيقول: قد خفت ذاك، ويجوز أن يكون هذا من الخوف خلاف الأمن. والخوف في القرآن على خمسة أوجه في زعم بعض المفسرين: الأول: القتل، وهو قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) يعني: القتل، وليس بالوجه لأن قوله: (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ) قد تضمن القتل، ولكن معناه الخوف على الأنفس لكثرة الأعداء، وذلك كان حال أهل المدينة بعد الهجرة، وهم مخاطبون بهذه الآية. الثاني: الحرب، قال الله: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ)، يعني: الحرب، وسماها خوفا لما فيها من الخوف كما تسمى الحرب روعا لما فيها من الروع، والروع والخوف سواء

الثالث: العلم، قال الله: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا) أي: علم، وقد تكلمنا في هذه الآية. ومثله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) أي: فإن علمتم، وأول الآية: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) يعني: أن المهر الذي استحل به الرجل فرجها؛ لا يحل له أن [يأخذ] مهرها على الكره، ولا على سبيل الإلجاء لها إلى دفعه إليه ليتخلص منه؛ إلا أن يكون الرجل على حال لا تصبر المرأة عليها، فتفتدي منه بمهرها وله أن يأخذ ذلك منها، ويسرحها. وقيل: لا يحل لكم إذا أردتم طلاقهن أن تضاروهن حتى تفتدين أنفسهن بترك مهورهن: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) فيما يجد لكل واحد منهما على الآخر، وقيل: يعني: في النشوز؛ لأنَّهَا إذا نشزت لم يكن على الرجل جناح في أخذ ما افتدت به نفسها منه ليطلقها، وفي النساء: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) ومثله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ). الرابع: الخوف بعينه، قال اللَّه: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وقال: (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا) وقوله: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) وقوله: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا). الخامس: التخوف، وليس هذا بابه، وهو التنقص، قال: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) أي: تنقص أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم

الخسران

الخسران أصله النقصان، ومنه قيل للتاجر: إذا وضع أنه خسر ثم كثر حتى، قيل لكل من سعى في شيء فأداه إلى مكروه خاسر، وقيل: الخسران الضلال. وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: بمعنى العجز، قال الله: (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) أي: عجزه، ومثله قوله: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) وقال: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ). الثاني: بمعنى الغبن، قال: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي: غبنوا فصاروا إلى النار، وأصل الخسران ذهاب رأس المال، فلما كانت النفس بمنزلة رأس المال وما يستفيده بعد ذلك بمنزلة الربح، قال للهالك الذي خسر نفسه؛ لأنه بمنزلة من ذهب منه رأس المال. الثالث: الضلال، قال: (فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) أي: ضل ضلالا بينا، ويجوز أن يكون بمعنى الحرمان، أي: حرم الثواب كما إذا حرم الربح، فقد خسر، وقال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي: في ضلال. الرابع: النقصان، قال: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي: الناقصين في الكيل والوزن، وقال جرير: إنَّ سَليطاً في الخسار إنَّهْ ... أولادُ قومٍ خُلِقوا أَقِنَّهْ أي: فيما ينقصهم حظهم من الشرف

الخلق

الخلق أصله التقدير، وكل مقدر مخلوق، وفي كلام بعضهم لا أخلق إلا فريت ولا أعد إلا وفيت، واختلق الكلام إذا زوره وقدره، ورجل مختلق، حسن القامة، قد قدر تقديرا جميلا وشيء أخلق أملس لأنه أحسن تقديرا من [الأخشن]. والخليقة خليقة الإنسان، وهو خليق لهذا أي: شبيه، وامرأة خليقة ذات جسم وخلق، وقد خلقت خلاقة، وليس له: خلاق.، أي: نصيب، وثوب خلق وأخلاق وخليقا الجبهة مستواها، ولا نعرف الخلق في أفعال الإنسان إلا في الأديم، ولا يجوز إطلاق اسم الخالق في غير تقييد إلا للَّه تعالى. والخلق في القرآن على ستة أوجه -: الأول: الدِّين، قال: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي: لدِينه، والشاهد ذلك قوله: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) واللفظ خبر، والمعنى أمر، أي: لا تبدلوا دين اللَّه، وقال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) معناه أنههم يغيرون دين الله. لأن الله خلق الخلق على الفطرة، فمن كفر فقد غير ما خلق له، وهو مثل قوله: (لا تَبدِيلَ لخلقِ اللهِ) أي: لدِينه، ويجوز أن يقال: إن الدين سمي خلقا؛ لأن الله قدره وبينه، ويجوز أن يقال إنه دخل في قوله: (لَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) جميع ما حرموه مما أحل الله أو أحلوه مما حرم الله، ألا ترى إلى قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) ثم ......

قال للذين يأتون الرجال: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) وقيل: لا تغيروا الدين عن صحته. والمراد أنه خلق الأنعام ليركبوها، ويأكلوها، فحرموا على أنفسهم ذلك، أي: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وخلق الشمس والقمر والأرض والحجارة مسخرة للناس فعبدوها، وقيل: تغيير خلق الله ...... الثاني: التخرص، قال الله: (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) وقال: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) وقال: (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) فسمي الكذب اختلاقا؛ لأنه يقدر ويزين ليتشبه بالصدق. الثالث: التصوير، قال الله: (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي: [يصوره]. الرابع: على قول بعض المفسرين النطق، قال اللَّه: (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قال: أنطقكم،: الوجه عندي، وهو خلقكم أول مرة: ناطقين فحذف لما في أول الآية من ذكر النطق. الخامس: الجعل، قال: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) والجعل هاهنا الفعل. السادس: البعث، قال: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي: على أن يبعث

الخطأ

الخطأ يقال: أخطأ الرجل إذا عمد الصواب، فأصاب غيره، وخطئ يخطأ إذا فعل الخطأ على عمد، والاسم من الأول الخطأ، ومن الثاني [الخطء]، وفي القرآن: (كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) وعند كثير من أهل اللغة أن الخطأ والخطء سواء. والإخطاء يكون حسنا وقبيحا، وذلك أن الإنسان إذا رمي في محظور، فعمد الإخطاء، كان ذلك حسنا، وكذلك الإصابة يقع حسنه وقبيحه كالإنسان يصيب في المحظور فتكوان إصابته قبيحة، ولا يكون الصواب إلا حسنا؛ لأن الصواب اسم لما وقع على وجهه وحقه، والخطء أكثر في القراءة. والخطأ أفشى في كلام الناس، ولم يجئ الخطء في شيء من الشعر، إلا في بيت واحد وهو قول الشاعر: الخِطأ فَاحشة وَالبِر نَافلَةْ ... كعَجوة غرِست في الأرض تُؤتبر وقال أبو عبيدة: خطئت وأخطأت لغتان فمن قال: خطئت جعل الخطأ مصدرا، والخطء اسما. ومن قال: أخطات جعل الخطأ والخطء اسمين، والأخطاء المصدر. وقال المبرد: الخطأ اسم مفرد كالإثم " والخطيئة الذنب. قال أبو عبيدة: يكون الخطأ ما لم تتعمد، وليس هذا موضعه، يعني: الآية التي في بني إسرائيل، وأنشد: وإنَّ مهاجِرَيْنِ تَكَنَّفاه ... غداتئذٍ لقد خَطِئا وحابا ......

خطئا: ركبا ذنبا، وحاب من الحوب، وهو الذنب المزجور عنه مأخوذ من قولهم في زجر الإبل [حَوْبِ حَوْبِ]. وجاء في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الذنب المتعمد دون الشرك، قال: (اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ). الثاني: الشرك، قال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) أي مشركين. الثالث: ما لم يتعمد من الذنوب، قال تعالى: (لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً). وقيل: هو استثناء منقطع، كأنَّه قال: لكن إن فتله خطأ فحكمه كيت وكيت، وقيل: هو استثناء صحيح وهو أن له أن يقتله في بعض الأحوال إذا رأي عليه سيماء المشركين، وهو خطأ. وقيل: (إلا) بمعنى (الواو)، أي: ولا خطأ، وليس بشيء، وقيل: هو استثناء صحيح، لأن الآية قد أفادت إيجاب العقاب على قاتله، ثم قال: (إِلَّا خَطَأً)، فإنه لا عقاب عليه، فاستثني من هذا المعنى، وقوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا) يعنى: أن من أخطأ خطأ يجب فيه العزم أو يعمد إثما فيه عار فرمى غيره بذلك ليغرمه أو يلحق به عاره، فقد احتمل الكذب أو الباطل: وقد مضى تفسير البهتان

الخبيث

الخبيث أصل الخبث الدنس والرداءة: ومنه خبث الحديد وخبث الفضة ما ينفى منها؛ لأنه يفسدها ويدنسها، وتستعمل في الدهاء، فيقال: خبيث إذا كان داهيا، ويستعمل في المعصية والحرام، وإن ذلك كله مما يدنس العرض والدِّين، ورجل خبيث: رديء المذهب، والمخبث الذي له أصحاب خبثاء. والخبثة الفجور، والأخبثان الرجيع والبول، في الحديث " لا يصلي أحدكم. هو يدافع الأخبثين ". وقوله تعالى: (وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) أي: الذي رد ولا يكون إلا قليلا، والنكد القليل، وهو العسر أيضا؛ لأن خير العسر قليل. وهو في القرآن على وجهين: الأول: الحرام، قال الله: (لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) يعني: الحلال والحرام، معناه أن الخبيث وإن كثر فأعجب، فإن الطيب خير منه في العافية، وإن قلَّ

والخبيث اسم يقع على جميع ما حرم الله، والطيب اسم يتناول جميع ما أحله الله وأعجبك مخاطبة الواحد، والمراد الجماعة، ومجاز الكلام أن الخبيث لا يساوي الطيب، وإن كان على حال يعجب ويسر. وقال الله تعالى: (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي: لا تأخذوا الحرام من أموال اليتامى بدلا مما أحل من سائر الأموال. الثاني: الكافر، قال الله: (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) يعني: الكافر والمؤمن، والخبيث والفاجر، قال اللَّه: (وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ) من الرجال. وهذه الآية منسوخة بالإجماع، ونزلت في الوقت الذي نزل فيه قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) وقد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان طيبا من الرجال فينبغي أن تكون أزواجه طيبات [لقضية] اللَّه بذلك في هذه الآية. وفي قوله. (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) دليل في أن الزناة ليسوا بمؤمنين في أسماء الدين التي هي على جهة المدح، ولو كانوا مؤمنين على ما تقول المرجئة، لكان هذا التحريم يجب أن يعم هؤلاء الزناة كما عم المؤمنين لاجتماعهم في هذا الاسم الذى أجري اللَّه التحريم عليه في قوله: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فلما كان هذا ناقضا لحكم الآية موجبا أن يكون حلل فيها ما حرم فيها ذلك على أن الزناة لا يدخلون في هذا الاسم

الخير

الخير الخير اسم لكل منفعة ومنه الخيرة في الأمور والاختيار، اختيارك الشيء على الشيء لما في [الاختيار] من المنفعة في الظاهر، وقد تكلمنا في هذا الحرف بأكثر من هذا في كتابنا في التفسير. والخير في القرآن على عشرة أوجه: الأول: المال، قال: (إِنْ تَرَكَ خَيرًا) وقال: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) وقيل: الخير هنا المال الكثير الذي له قدر، وكذلك في قوله: (حُبَّ الْخَيْرِ). وروي أن رجلا من بني هاشم حضرته الوفاة، فأراد أن يوصي، فقال على عليه السلام: كم ترك؟ قيل: [أربعمائة]، فقال: إن هذا قليل إن الله يقول: (إِنْ تَرَكَ خَيرًا) وقيل كانت [سبعمائة]. وقال قتادة: الخير ألف درهم فصاعدا. وقال الزهري: الخير كل ما وقع عليه اسم المال من كثير وقليل، وأزاد علي عليه السلام: أن المال إذا كان قليلا يوفر على الورثة ولا يوصي منه استحبابا لا إيجابا. الثاني: الإيمان، قال الله: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) وكانوا يقترحون أن يسمعهم الله كلام الموتى، فقال: لو علم الله أنهم إن سمعوا ذلك آمنوا لفعل ذلك، وقيل: معناه لو علم فيهم إيمانا لسماهم سمعاء، ولم يسمهم بكما وصما. الثالث: الثواب، قال: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا) أيْ ثوابا أي: لا أقول أن أعمالهم الحسنة تضيع عند الله لأجل فقرهم، والمراد أن المؤمن الزري المنظر ليس عند الله بمحروم، كما أنه عندكم محروم

الرابع: القرآن، قال: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ويجوز أن يكون المراد ما يرزقهم الله من نعمة وسعة. الخامس: بمعنى أفضل، قال الله: (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ومثله: (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) و: (خَيْرُ الحاكِمِينَ) وخير وشر يجيئان بمعنى أفعل، ولا يقال: أخير ولا أشر. السادس: النعمة، قال الله: (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) يعني: بنعمة وعافية. السابع: المنفعة، قال: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) يعني: في ظهورها وألبانها. الثامن: الطعام، قال: (إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). التاسع: الظفر في القتال، قال الله: (لَم يَنَالُوا خَيرًا) أي: ظفرا ولا غنيمة. العاشر: الهدى والبيان، قال الله: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) أي: بيانا وهدى، والمراد القرآن، وخرج لنا وجه آخر، وهو الخير بمعنى الكفاية، قال الله: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي: كفابة، وأنت تقول: فلان فى خير أي: في كفاية ونشبع القول في ذلك في باب القاف إن شاء الله. ومما يجري مع هذا الباب الكلام في الاختيار والإيثار، فالاخيار إرادة الشيء بدلا من غيره، والإيثار مثل الاخيار؛. إلا أنه قيل في قوله: (لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا) أي: قدم اختيارك علينا، فكان الإيثار وهو الاختيار المقدم؛ ولا يكون أيضا إيثار شيء إلا على شيء

وأجود من هذا أن يقال: الإيثار اختصاص الشيء دون غيره مأخوذ من قولهم: هو عندي من أهل الأثرة، أي: من أهل الاختصاص، وذلك لما يظهر فيه من آثار الصلاح، والاختيار إرادة الشيء دون غيره، لما فيه من الخير. وسميت الإرادة اختيارا؛ لأن المريد من الأجسام لا يريد في الأغلب إلا الخير في الحقيقة. أو ما هو عنده خير ثم اتسع فيه فسميت كل إرادة أوثر بها على شيء اختيارا، وسميت أفعال الجوارح اختيارا تفرقة بين حركة البطش، وحركة المرتعش، كأنه سمي المختار من اختيارا، كما سمي المشتهي شهوة، والمسروق سرقة

الخيانة

الخيانة الخيانة ترك الوفاء للمؤتمن، وأصله من النقص تخونه إذا تنقصه، وبين الخائن والسارق فرق، وكل سارق خائن، وليس كل خائن سارقا. والخيانة في [القرآن] على وجهين: الأول: المعصية، قال اللَّه: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) وقال: (لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) كذا قيل، والصحيح أنه أراد أنكم تنقصون أنفسكم من شهواتها بامتناعكم عن مباشرتهن لنهينا إياكم، والمخاطبة على هذا عامة، ويجوز أن تكون خاصة لقوم لا يصرون على الفرض، فيتركونه فينقصون أنفسهم الثواب، ويقال: ما يتخونك عندى إلا خصلة، أي: ما ينقصك. الثاني: خيانة المؤتمن، قال الله تعالى: (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) نزلت في [طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ]، رجل من بني ظفر من الأنصار، سرق درعا من حديد، وأخفاها في جراب دقيق، وأودعها يهوديا، فاطلع عليه فعذره بنو ظفر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وألزموا اليهودي الذنب، فهمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعقوبته، فأنزل اللَّه: (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) أي: معينا واستغفر اللَّه من همِّك باليهودي، ثم خاف [طُعْمَةُ] القطع فهرب إلى مكة فنقب بيت الحجاج بن غلاط، فتشبث في النقب فأخذ ثم خلي لجواره فمضى نحو الشام فسرق في منزل نزله، فرمي بالحجارة حتى قتل، وفيه نزل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) قال ابن عباس: (تَختَانُونَ أنفُسَكُم) أي: تظلمونها بالخيانة، وقيل: لا تنصحون لتعرضكم إياها للعذاب الدائم

الخصيم

والخصيم المخاصم خاصمه، وهو خصيمه، مثل عاشره وهو عشيره، وخالطه وهو خليطه، ومن خاصم عن الإنسان فهو معينه، ولهذا قيل: إن الخصيم المعين، وقد ذكرنا أن كل سارق خائن، وليس كل خائن سارقا، ولهذا سمى الله [طُعْمَةَ] خائنا في هذه الآية، وقيل: للدهر خؤون؛ لأنه يأتي بأحداثه من حيث يؤمر. وذكر في الخائنين كل ذي ذنب كبير، لأن الآتي بالكبير خائن لنفسه، كأنه لم يناصحها إذ عرضها لغضب الله عز وجل

الباب الثامن فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله دال

الباب الثامن فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله دال الدِّين أصله في العربية اللزوم، ويتصرف في العربية على خمسة أوجه: الملة، والعادة، والحساب، والطاعة، والجزاء. وكل ذلك مما يلزم الإنسان أو يلزمه الإنسان، ومن ثم أيضا قيل: الدَّين للزومه الدائن لا يسقط عنه إلا بالأداء. وهو في القرآن على خمسة أوجه: الأول: التوحيد، قال: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، وقال: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) يعني: التوحيد كذا قيل، ويجوز أن يكون أراد جملة ما عليه المؤمن من دينه. الثاني: الحساب، قال الله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي: يوم الحساب، وقِيل من دان نفسه ربح: أي: من حاسبها، وقيل: الدين هنا الجزاء ومثله (هَذَا يَومُ الدِّينِ) ومثله: (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) والتكذيب به جحده. الثالث: الحكم، قال اللَّه: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) أي: في حكمه، وفيه دليل على أن الزاني والزانية ليسا بمؤمنين لإخراجه إياهما من ......

استحقاق الرأفة والرحمة اللاتي جعلهما للمؤمنين، ويجوز أن يكون الدِّين هَاهنا بمعنى الملة، وقيل: في طاعة الله، وقيل: لا تأخذكم بهما رأفة فتقصروا في دين الله. الرابع: الطاعة، قال الله: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي: في طاعته، وقد دان الناس لملكهم إذا أطاعوه، قال الشاعر: لَئِنْ حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسَدٍ ... في دينِ عمروٍ وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ الخامس: الملة، قال الله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي: ليعلو على كل دين يدان به، والظهور العلو، وظهر فوق البيت علاه، وقوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) وقال: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي: الملة المستقيمة. وقال بعض الشعوبية: الدين فارسي واستدل على ذلك بأن الدين يوجد في كتب الفرس القديمة فقالوا دين ذو يرى على قديم الدهر من قبل أن تدخل العربية أرضهم، يعنون خطا يكتبون به علوم دينهم، ونحن لا نعرف هذا، والصحيح أن الدين عربي معروف

الدعاء

الدعاء أضله الطلب، يقول: دعا إلى الشيء، أي: طلب المصير إليه، وادعى على فلان حقا؛ لأنه يطلبه. والدعوة إلى الطعام معروفة، ثم كثر حتى سمي الطعام دعوة، وسمي بالمصدر من قولك: دعا دعوة واحدة، والدعوة في النسب؛ لأنه طلب الدخول فيه. والدعاء أيضا الاستعانة، لأنها طلب الإعانة، قال اللَّه عز وجل: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: استعينوهم، قال الشاعر: وَقبلُك كل خصم قد تمالوا ... عليَّ فما جَزَعت وَلا دَعَوتُ أي: ما استعنت غيري على دفعهم. وكل ما وقع لأجله الفعل فهو داع إليه إلا أن يقع على غير الاختيار، كالمتولد الذي يقع سببه عن سهو. والدعاء في القرآن على خمسة أوجه: الأول: القول، قال الله: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا) وقال: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ) أي: ما زالت تلك الكلمة دعواهم، أي: يدعونها، وهو قوله: (قَالُوا يَا وَيلَنَا) ......

ويقولون: فلان يدعوا بالويل، إذا كان يقول: يا ويله، وقال: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ). الثاني: العبادة، قال: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا) وقال: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) وقال: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) أي: لولا عبادتكم الأوثان [لم يبال بعذابكم]. الثالث: الدعاء بعينه، وهو النداء، قال: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) وقال: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) وقال: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) وقال: (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ) وقال: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ) أي: يراكم. الرابع: الاستعانة، قال الله: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقال: (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال: (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي: ليستعن به. الخامس: السؤال، قال الله: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) أي: سله، وقال.: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أي: سله يفعل، وقال: (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) وقال: (ادْعُوا رَبَّكُمْ) أي: سلوه، وهذا الضرب في السؤال واجب على العبد، لأن الأمر قد جاء به مطلقا، والأمر على الوجوب

الباب التاسع فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ذال

الباب التاسع فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ذال الذكر أصل الذكر القوة ومنه تسمية الذكر خلاف الأنثى؛ لأنه أقوى من الأنثى وجديد ذكر لفضل قوته على الأنوثة، والذكر بالقلب يرجع إلى هنا؛ لأن الشيء يثبت في القلب مع الذكر، فكان له قوة، والذكر باللسان شبيه بذلك. وهو فى القرآن على خمسة عشر وجها: الأول: الطاعة، قال اللَّه: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) قال بعض المفسرين معناه أطيعوني أثبكم، ويجوز أن يكون معناه اذكروني بقلوبكم وألسنتكم، أذكركم بالمدح والتعظيم [وإيجاب الثواب] (¬1)، وهو جواب لقوله: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ): (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) فيكون لـ (اذْكُرُونِي) جوابان مقدم ومؤخر، كما يقال: إذا أتاك فلان فأته ترضه، ومعناه مثل معنى قوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقيل: اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي، وقيل: اذكروني بالثناء بنعمتي أذكركم بالثناء أي الطاعة،، وأكثر ما يستعمل الذكر بعد النسيان، وهذا حقيقة، وليس ذلك بموجب [ألَّا] يكون إلا بعد النسيان إذ ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. فتنبه. ومن أصول أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه شيء و (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) والمسئولية في قول تعالى (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا) مسئولية إنعام لا إيجاب. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

كل من حضره المعنى بالقول أو العقد أو الخطور بالبال، فهو ذاكر ويكون أصله التنبيه على الشيء، وكل من ذكر لنا شيئا فقد نبهنا عليه، والذكر أنبه من الأنثى. الثاني: قال هو الذكر باللسان في قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) وقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) وقال: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) كذا قيل، ولا ننكر أن يكون أراد الذكر بالقلب واللسان جميعا. الثالث: الذكر في القلب خاصة، قال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)، أي: ذكروا قدرة الله عليهم وأياديه إليهم فاستغفروه وتابوا إليه. الرابع: ذكر الصفة والأمر، قال: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي: اذكر أمري وصفتي،: قال: (وَاذكر فِي الكتَابِ مَريَمَ) أي: أذكر أمرها، فإن فيه عجبا، وهكذا قوله: (وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِبرَاهِيمَ) أي: اذكر في الكتاب الذي أنزل عليك قصة إبراهيم عليه السلام، أي: اقرأها واعتبر بها. الخامس: الحفظ، قال اللَّه: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) (وَاذكُرُوا مَا فيهِ) أي: احفظوه. السادس: الوعظ، قال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) أي: وعظوا، وفي الأعراف أيضا: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) وقال: (أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي: وعظتم، وقال: (فَذَكر بِالقُرءَانِ)، وقال: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) وفي هذه الآيات دليل على أن الطاعة والمعصية من العبد (¬1)؛ لأنهما لو كانتا من الله لم يكن لتذكير الله إياه فائدة. ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. حاصلها أن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. فتأمل. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

السابع: الشرف [والنباهة]، قال: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقال: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) فامتن عليهم بما جعل لهم من النباهة بهذا الدين، ودل على أن الخمول معيب. الثامن: الخبر، قال؛ (لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ) وقال: (سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) أي؛ خبرا، وقيل في قوله: (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي: هذا خبري وخبر من قبلي، والوجه هل فيما أنزل إليَّ أو فيما أنزل من قبلي دليل على أن مع الله إلها آخر، وذكرٌ له. التاسع: الوحي، قال: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) وقال: (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) ومثله: (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا). العاشر: القرآن، قال: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) وقال: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) فسماه مُحْدَثا. والمحدَث إذا كان مقدرا مخلوق (¬1)، وجاء في قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) أنه أراد القرآن، وقيل: أراد ذكر العذاب أي: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ ذكر العذاب فلا تذكرة لكم لأجل إشراككم، لا بل نذكر لكم العذاب لتنزجروا، ويقال: أضربت عنه الذكر أيضا، والشاهد على هذا التأويل قوله: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا). الحادي عشر: التوراة، قال: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) يعني: أهل التوراة عبد الله بن سلام وأصحابه، الذين يصدفون عن الذكر وهو التوراة دون من يكتم ويتخرص لأن القبول يكون من أهل الثقة،: (إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ) أن الرسل بشروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. حاصلها الزعم بخلق القرآن، وهو محض افتراء (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) فتأمل. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

الثاني عشر: اللوح المحفوظ، قال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي: من بعد اللوح المحفوظ. الثالث عشر: البيان، قال اللَّه: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أي: بيان، وقال: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) يعني: ذا البيان، وقيل: يعني: به ما ذكر فيه من الأقاصيص والحلال والحرام. الرابع عشر: الدليل، قال: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) وقال: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) ويجوز أن يكون الذكر هنا الموعظة. الخامس شر: الصلوات الخمس كذا قال بعض المفسرين في تفسير قوله: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) والصحح أنه أراد تمام الصلاة مع الذكر فيها؛ لأنه تعالى قال في أول الآية: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ). والمراد فإن خفتم عدُوًّا أو سبعًا فلم تقدروا على الركوع والسجود، فصلوا على أرجلكم وعلى رواحلكم [أيما]، والرجال جمع رجل، والرجل جمع راجل فإذا زال عنكم الخوف فصلوا الصلاة التامة واذكروا الله فيها كما علمكم الشرائع. وقوله: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) قالوا: يعني: الصلوات الخمس، وليس هذا بالوجه في هذه الآية؛ لأنه قال فيها: (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) وقال: (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يعني: الصلوات الخمس زعموا، قال: ودليل ذلك قوله، (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) يعني: صلاة الجمعة

وقالوا في قوله تعالى: (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي: أثرت حب المال على الصلاة، وقيل: على ذكر الله، وينبغي أن تكون الصلاة هنا تطوعا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصنع المفروض، وخرج لنا وجه آخر، وهو الذكر بمعنى الغيب في قوله: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) أي: يعيبهم، كذا قيل، والصحيح أنه يذكرهم بالعيب

الباب العاشر فيما جاء من الوجوه والنطائر في أوله راء

الباب العاشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله راء الرحمة أصلها من الرقة، وقيل: ذوا الأرحام، لأن بعضهم يرق لبعض، والرحم في الأصل رحم المرأة ثم صارت ذو القربى أرحاما. والرحيم في أسماء. اللَّه تعالى بمعنى المنعم المقيل للعثة القابل للتوبة وليس معناه الرقة، كما أن أصل العفو الترك، والترك لا يجوز على الله، يقال: عفا المنزل إذا ترك حتى درس ودلالة التعظيم أيضا يوجب انتفاء الرقة عن الله، ومع أن نعمة في الاتساع تقع موقع ما يبحث عليه الرقة، والرحمن أبلغ من الرحيم. وليس لأحد من المخلوقين فيه شركة والرحمة. الإنعام على المحتاج إلى ذلك، ألا ترى أن الإنسان إذا أهدى إلى ملك شيئا، لم يقل: إنه رحمة، ويقال: إنه أنعم عليه. والرحمة في القرآن على ثمانية أوجه: ......

الأول: قالوا هو بعثة الرسل وإنزال الكتب، قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وقوله: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً) وهذه الرحمة العامة المبتدأه بالدعاء والبيان، والوجه أن يقال: أنه أراد أن بعثة للرسل وإنزال الكتب نعمة من الله على عباده، والرحمة من الله النعمة. الثاني: الجنة، قال: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ) وقال: (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) وقال: (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) وقوله: (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ) وهي خاصة للمؤمنين جزاء لأعمالهم، وقال أبو علي رضي اللَّه عنه: الرحمة والفضل هنا هو الثواب. الثالث: المطر، قال: (يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) وقوله: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) يعني: المطر. ْالرابع: الرزق، قال: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) وقيل: وينشر رحمته يعني: رزقه، وقال: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ) وقال: (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) وقال: (آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ويجوز أن تكون هذه كلها بمعنى النعم والرزق داخل فيها. الخامس: النبوة، قال: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) وقال: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ). السادس: الرحمة، قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [أراد]: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ) فقدم وأخر؛ لأن الناس كلهم ......

آمنوا بفضل اللَّه علم في ألطافه وفوائده، وقوله: (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ) وقِيل: يعني: العافية، وقوله.: (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) يعني: نعمة، وقيل: أراد الفتح والنصر. السابع: القرآن، قال اللَّه؛ (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ويجوز أن يكون بمعنى النعمة، أي: هنا القرآن بيان ونعمة. الثامن: الهداية، قال: (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي: دلني على الإيمان فآمنت وصدقت، وهذا كله يرجع إلى معنى النعمة؛ لأن الرحمة من اللَّه تعالى النعمة، وإنما أوردت هذه الوجوه على ما جاء في التفسير

الروح

الروح أصل الريح، والرُّوح والرَّوح، والراحة واحد؛ وإنما الريح فعل، والروح فعل والراحة فعلة، ولرائحة فاعلة، وقد يجيء فاعلة في أسماء الأفعال، مثل العافية. وأصل الكلمة من الطيب، وذلك أن الريح تطيب الهواء، والروح يطيب به الجسد، والرائحة أصلها في الطيب ثم استعملت في النتن،، والأريحية طيب النفس بالبذل، وقيل: الراحة، لأن العيش يطيب معها، والطيب في الأصل فيما يستنشق، وإنما قيل: طيب النفس بالبذل. والراحة طيب العيش على وجه التشبيه، والريحان معروف سمي بذلك لطيب ريحه، والريحان الرزق؛ لأن من وجده استراح؛ ولأن النفس تحبه كما تحب الريحان. والروح في القرآن على ستة أوجه: الأول: على ما قيل الرحمة، قال تعالى: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي: قولهم برحمة منه، والوجه أنه أراد بالروح هاهنا القرآن، وسماه روحا؛ لأنه يوصل به إلى المنافع كما يوصل الروح، والشاهد قوله: (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) والتأييد التقوية، ومعنى التأييد بالقرآن أنه أبطل به حجج خصماء الدِّين، وثبت حجج أهله به؛ لما عجز الناس عن الإتيان بمثله. الثاني: جبريل - عليه السلام -، قال: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا) وقيل الروح هاهنا خلق كالإنسان، وقيل: هو ملك يقوم على يمين العرش، وقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) يعني: جبريل - عليه السلام - على قلبك بالقرآن، وخص القلب لأنه موضع الحفظ، ولو قال: عليك لم ......

يتضمن معنى الحفظ. وقوله: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وقال: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا). الثالث: الوحي، قال: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) أي: بالوحي، و: (مِن أمرِه) أي: بأمره، وبعض حروف الصفات يقوم مقام بعض؛ إذا لم يشكل المعنى، ويجوز أن يكون المعنى أن ابتداء تنزيله من أمر الله، و (مِن) لابتداء الغاية، أي: حين أمرهم به نزلوا. الرابع: عيسى - عليه السلام -، قال اللَّه: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وسماه روحا وكلمة؛ لأن الناس ينتفعون به كانتفاعهم بكلام اللَّه، وكانتفاعهم بالروح، وقال بعضهم: قال: (بِرُوحٍ مِنْهُ)؛ لأنه خلقه من غير شر، ولا أعرف ما هذا. الخامس: خلق يرون الملائكة ولا يرونهم كما يرانا الملائكة، ولا نراهم، وهو المعنى بقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، هكذا جاء عن بعض المفسرين، ويجوز أن يكون معناه الروح الذي بحياته الحيوان، وهو يذكر ويؤنث، وقال: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ولم يبين لهم كيفية ذلك؛ لأنَّهُم كانوا توافقوا على أن يردوا كل ما يقول فيه، فأجابهم بما لا يمكنهم رده، فقال: هو من أمر ربي. السادس: الروح الذي يحيا معه الحيوان لا غير بلا خلاف، قال اللَّه: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وقال: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) ونسب الروح إلى نفسه؛ لأنه الفاعل له، ويجوز أن يكون قال ذلك تعظيما لأمر الروح، كما يقال: بيت الله، وحرم اللَّه، وخليفة اللَّه، وقال: (وَنَفَخَ) لأن الروح عن جنس الريح

الرجاء

الرجاء الرجاء مقصور الناصية، والرجاء ممدود من الأصل، والأصل الميل: وذلك أن من يرجو نيل الشيء فإنه يخاف فوته في أكثر الحال، فكان الرجاء طرف، والخوف طرف، ومنه قيل: رجاء اليئر لناحيته، فأما الطمع فيما قيل فتوطين النفس على نيل المطلوب من غير مخافة للفوت. والصحيح أن الرجاء ما كان عن سبب، والطمع ما كان عن غير سبب، ولهذا ذم الطمع، ولم يذم الرجاء. وربما جاء الطمع في معنى الأصل، وهو قوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ). والرجاء في القرآن على وجهين: الأول: الأمل؛ قال الله: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ). وهذا دليل على ما قلنا من أن الرجاء يكون طرفا، والخوف طرفا. الثاني: الخوف، قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) ونحوه قوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ) أي: [يخاف] البعث، وقال: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)

وليس اللقاء الرؤية (¬1)، ألا ترى الأعمى يقول لقيت فلانا، ولم يعن أنه رآه. وأصل اللقاء المصادفة، وهو هاهنا لقاء ما وعد اللَّه، لأن الله لا يصادف. والرجاء بمعنى الخوف معروف في العربية. قال الهزلي: إذا لَسَعَتْه النحلُ لَم يَرْجُ لَسْعَها ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. حاصلها الرد على أهل السنة في احتجاجهم لرؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى في الجنة، (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) حيث إن اللقاء يستلزم الرؤية، والمؤلف - رحمه الله - محجوج بقول الله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)، وبما رواه البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةً - يَعْنِي البَدْرَ - فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ}. فتأمل. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

الرقبة

الرقبة أصل الرقبة الانتظار، وسميت الرقبة رقبة، لأنك تمدها إذا انتظرت توقفا للمنتظر، والرقبى أن تعطي الرجل دارا أو أرضا، فإن مات قبلك رجعت إليك، وإن مت قبله كانت له، وسميت رقبى؛ لأن كل واحدا منهما يرقب موت صاحبه، والمرقب [المرْبَأ]. والرقيب الذي يشرف على أصحاب الميسر، والارتقاب انتظار مع مخافة، ولهذا يقال: فلان يراقب فلانا، أي: يخافه، وراقب اللَّه، أي: خفه، ولهذا كان أكثر ما يستعمل الارتقاب في المكروه، ومنه قوله تعالى: (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) والرقيب في أسماء الله تعالى الحفيظ. وهو في القرآن على وجهين: الأول: الحفيظ، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) أي: هو حافظ لأعمالكم، وفي ذلك ترغيب وترهيب، وإخبار بأن الجزاء من وراء العباد، وقوله: (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ). الثاني:. بمعنى الانتظار، قال: (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) وقال: (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي: انتظر ما يكون من نصرنا إياك، أنهم مننظرون ما يكون من مثل ذلك لهم

الرجم

الرجم أصله الرمي ثم قيل للقتل رجم، والشتم رجم تشبيها، والرجمة القبر لما يرمى فيه من التراب على الميت. والرجم في القرآن على أربعة أوجه:. الأول: القتل، قال في يس: (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي: نقتلنكم، وقال: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أي: أن تقتلون، وقال: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) وقيل: معناه رجمناك بالحجارة، وقيل: بالسب، ويجوز أن يكون ما تقدم مثل ذلك، وقال: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) يعنى: القتل، وقيل الشتم. الثاني: الرمي، قال اللَّه: (رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ). الثالث: الظن، قال الله: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) أي: يقولون ذلك ظنا، ويقال رجمت الظن في كذا إذا ذهب ظنك فيه كل مذهب، قال زهير وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ أي المظنون

الرابع: بمعنى اللعين، جاء في تفسير قوله تعالى: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) أنه يعني: الملعون، وقيل: الرجيم المرجوم بالشهب، من قوله: (رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)

الرؤية

الرؤية أصل الرؤية رؤية العين، ثم استعمل في العلم لوقوع العلم مع الرؤية، كما أن أصل البصر بصر العين، ثم سُمي العلم بصيرة وبصرا، لأنه قد يقع مع بصر العين ورؤية العين يتعدى إلى مفعول واحد، والرؤية التي بمعنى العلم يتعدى إلى مفعولين لا غير، مثل العلم، تقول: رأيت الرجل حكيما بمعنى علمته، كذلك رأيت الرجل بمعنى أبصرته. والرؤية في القرآن على ثلاثة أوجه: أولها: رؤية العين، قال اللَّه: (تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ) ومثله كثير. الثاني: العلم، قال: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا) وقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) ومثله: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي: أولم يعلم، ولم يرد أنه خصيم في الحال، ولكن إذا بلغ، ونحوه قوله: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) أي: ما يكون خمرا، ومثله قول الراجز: الحمدُ لله العَلِيم المنان ... صار الثريدُ في رُؤوسِ العِيْدانْ فسمي الحب في سنبله ثريدا على معنى أنه يكون كذلك

الثالث: بمعنى الخبر، جاء في التفسير عن ابن عباس أن قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) أنه يعني: ألم تخبر، وذلك أن حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف سارا إلى مكة، فقال المشركون: هذان [حبرا] اليهود، وأهل العلم بالكتب فاسألوهما عنكم وعن محمد أيكم خير فسألوهما، فقالا: إنكم خير منه أنتم أهل هذا البيت وذاك صابئ فأنزل: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا). وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) معناه ألم تخبر بذلك، وهذا أيضا يرجع إلى معنى العلم، لأنه إذا أخبر به فقد علمه، ويجوز أن يكون تعجيبا منهم كما تقول لصاحبك: ألم تر إلى فلان كيف أُحسن إليه ويجفو بي ونحو ذلك

الباب الحادي عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله زاي

الباب الحادي عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله زاي الزخرف أصله الذهب، ثم استعمل في التزيين، فيقال: زخرفت البيت إذا زينته، وزخرفت القول إذا زورته وحنته، وسُمِّيت أنوار الربيع زخارف؛ لأنها تزين الأرض. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الذهب، قال اللَّه: (وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ) وقال: (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) يعني: الذهب. الثاني؛ الزينة والحسن، قال الله: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا) يعني: حسنها وزينتها. الثالث: تزوير القول حتى يشبه كذبه صدقا وغروره حقا، قال تعالى: (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) والمعنى أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة، و (غُرُورًا) منصوب على المصدر ومحمول على المعنى، كأنَّه قال: يغرون غرورا

الزبر

الزبر أصل الزبر الكتب في الحجر، ثم كثر حتى جعل كل كتابة زبرا، يقال: زبرت الكتاب كتبته، وزبرته قرأته، والزبور فعول، بمعنى مفعول، أي: هو مزبور، كما قيل: ركوية وحلوبة، وقد يقال: ركوبة، قال اللَّه تعالى.: (فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ). وأصل الكلمة الاجتماع، ومنه قيل: زبرت البئر، إذا طويتها بالحجارة بجمعك الحجارة فيها، وزبرة الأسد الشَّعْر المجتمع على كاهله، وأسد أزبر ومزبر عظيم الزبرة، والزبرة القطعة من الحديد، قال الله: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ). وروى الفقير الذي لا زبر له أي: ليس له معتمد يجمع أمره، ومن ثم سُمي الزبير، وأخذت الشيء بزوبره أي: بأجمعه، والواو زائدة، ويجوز أن يكون أصل الكلمة الغلظ، ومنه قولهم: زبره إذا أغلظ له القول. والزبر في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الكتب، قال الله: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) أي: أرسلناهم بالعلامات البينات، والزبر يعني: الكتب المضمنة للأمر والنهي، وقوله:، (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ). وقال بعض المفسرين: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أنه يعني: بالزبور الكتب كلها، وليس بالوجه؛ لأن الظاهر لا يترك إلا بديل، ولا دليل إلا أن يكون القراءة في الزبور، جمع زبر مثل سفر وسفور، وليس ذلك المشهور، ولا ينبغي القراءة به عندنا

الثاني: اللوح المحفوظ، قال الله: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) هكذا جاء في التفسير. الثالث: قوله تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا) ومن قرأ زبرا أراد قطعا، الواحدة زبرة، ومنه: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) ومن قرأ زبرا أي: جعلوا دينهم كتبا مختلفة

الزوج

الزوج الأشهر عند العرب أن الزوج واحد، والمرأة زوج الرجل، والرجل زوج المرأة ولا يقال للمرأة زوجة إلا قليلا، وكل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر، وهما زوجان مثل زوجي، يقال: وزوجي خفاف، وربما قيل للاثنين زوج، وهو قليل شاذ، والزوج النمط يطرح تحت الهودج، قال ليد: زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلّةٌ وَقِرَامُهَا وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: ......

الأول: الحليلة، قال الله: (لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) وقال: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ). الثاني: الصنف، قال: (خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا) وقال: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وقال: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) وقال: (جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). وكل ذلك بمعنى الصنف، ودخل اثنين تأكيدا، ويجوز أن يقال: إنه دخل؛ لأن الزوج في اللغات اثنان، فلو لم يقل: اثنين لتوهم من تلك لغته، لأن الزوجين أربعة، فلما قال: اثنين ارتفع الإشكال. الثاث: القرين، وقال: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) أي: [قرناءهم من الشياطين]. وذلك أنه لما كان الزوج الواحد الذي له قرين سُمي القرين زوجا، ومنه قوله تعالى: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي: قرناؤهم. ولا يجوز أن يكون من التزويج؛ لأنه لا يقال. زوجت فلانا بفلانة، وإنما يقال: زوجت فلانة فلانا بغير باء، وقال: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي: قرن كل واحد بمن شايع

الباب الثاني عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله سين

الباب الثاني عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله سين سواء أصل السواء من التماثل، ومنه قيل للمثل الشيء، وهما [سيان] أي: مثلان، وسواء لا يجمع؛ لأنه في مذهب الفعل فإن احتجت إلى جمعه قلت: أسوئة، وقال بعضهم: جمع سواسية على غير قياس، وهو غلط لأن سواء يستعمل في الخير والشر، وسواسية لا يستعمل إلا في الشر، وهذا دليل على أنه حرف برأسيه، وهو جمع لا واحد له من لفظه. وسواء في القرآن على خمسة أوجه: الأول: العدل، مال اللَّه: (إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) أي: عدل، وهو قوله: (لا إِلَهَ إِلا الله) وقوله: (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) أي: عدل لمن يطلب الرزق. ومعنى ذلك أنه خلق الأرض والماء وجعل فيهما قوت الخلق بالعدل، لأنه رزق كلا منهم على قدر ما علم أنه صلاح له، وقيل: (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) أي: لمن سأل في كم خلقت الأرض، وما فيها؟، فقيل خلقت الأرض في أربعة أيام سواء لا زيادة ولا نقصان جوابا لمن سأل

الثاني: الوسط، قال: (فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) وقال: (إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) أي: فى أحكم البين فشبهه بوسط الطريق، وقيل: السواء هاهنا بمعنى العدل. الثالث: الأمر البين، قال: (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) يعني: على أمر بين، قال أبو عبيد: قال الكسائي وغيره: السواء العدل، وقال غير واحد من أهل العلم: (انْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) أي: أعلمهم أنك محاربهم حتى يصيروا مثلك في العلم بذلك، فذلك هو السواء. الرابع: الاستواء، قال: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) وقال: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)، قال (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ) أي: مستوون، ومثله: (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) أي: مستو عندهم إنذارك وخلافه، وقال: (عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ). الخامس: القصد، قال الله: (أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ). وقال: (وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) ونحوه: (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) وقيل: معناه هاهنا العدل، والمراد عندي الحكم البين، فشبهه بوسط الطريق، ووسط الطريق بينه فخصه بالذكر

السوء

السوء أصله المكروه ومنه قولهم: دفع الله عنك السوء؛ ثم استعمل في الحزن؛ لأن الحزن مكروه، فقيل: ساءه الأمر، والدليل على أنه يراد به الحزن أنهم يجعلونه خلاف السرور، فيقولون: ساءه ذلك، وسره هذا، وقوله: (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: يتبين فيها أثر الحزن. والسوء في القرآن على ثمانية أوجه: الأول: الشدة، قال الله: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ) أي: شدته. الثاني: المكروه، قال: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) أي: بمكروه، وقال: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ) قوله: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) وقوله: (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا) أي: مكروها، وقيل: المراد القتل والهزيمة. الثالث: جاء بمعنى الزنا، قال: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) وهذا راجع إلى المكروه؛ لأن الزنا مكروه. الرابع: البرص، قال الله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)

الخامس: العذاب، قال الله: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) وقال: (لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) يعنى: العذاب، ومعنى ذلك كله راجع إلى المكروه. ونحوه: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) أي: العذاب. السادس: المعصية من الشرك وغيره، قال: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) يعني: الشرك، وقال: (يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) يعني: ما دون الشرك. السابع: الشتم، قال: (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ). الثامن: قوله: (سُوءُ الْحِسَابِ) قال: هو أن لا يقبل منه حسنة، ولا يتجاوز عن سيئة، و: (سُوءُ الدَّارِ) يعنى: شر الدار، وعذابها، وقيل: معناه بئس الدار

السعي

السعي ْأصله السرعة في المشي، ثم استعمل في غيره، فيقل: سعى الرجل سعاية، إذا ولي الضدقة، والساعي إلى السلطان لسرعته، لأن الساعي حنق على المسعي به؛ فهو سريع إلى إلحاق الضرر به، والمساعاة الزنا بالإماء خاصة. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: المشي، قال اللَّه: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) لم يرد سرعة المشي؛ وإنَّمَا أراد صدق القيام في أمر الصلاة، وتقوية العزم عليه، والمستحب أن المشي إلى الجمعة مشيا رويدا لا سرعة فيه ولا بطء، وقال: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) يعني: المشي، يقال: أراد المعاونة على أمره ونحوه قولهم: فلان يسعى في حوائج أهله، أي: يعينهم فيها. الثاني: العمل، قال: (فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) وقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) أي: ما عمل، وحقيقته جزاء ما عمل. وقال: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي: عملها، وقال: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي: عملكم مختلف، وأصل الشتت التفرق. وقال: (سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) أي: سابقين جادين في الصرف عن آياتنا، وقال: مغالبين

وأصل العجز الضعف، وقد عاجزه كأنَّه طلب ضعفه وقرئ: (مُعَاجِزِينَ) أي: يعجزون من يؤمن بها، وهو معنى التثبيط عنها، ويرجع الأول إلى الإسراع. الثالث: السرعة، قال الله: (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى) أي: يسرع إليك للاستفادة منك. وقال:. (مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى) وقال (يَأْتِينَكَ سَعْيًا) قيل: أراد مشيا، والأول أجود

السوي

السوي أصله من الاستواء، وقد جاء في معنى الصحعة؛ لأن المستوي صحيح التقاصيم، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ". وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الصحيح، قال: (ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) أي: صحيحا من غير خرس. الثاني: المستوي الصورة، السوي الخلق، قال: (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) أي: سوي الخلق في صورة البشر. الثالث: العدل، قال: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) أي: العدل، وقال: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) يعني: دينا عدلا، قال: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعني: عدلا مهديا

السبب

السبب أصله الحبل، ثم قيل: لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها سبب، تقول: فلان سببي إليك، أي: وصلني، وما بيني وبينك سبب، أي: وصلة ورحم. وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الباب، قال: (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ) يعني: أبواب السماوات كما قال تعالى: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) أسباب السموات وسبب الشيء ما يتوصل به إليه، ويجوز أن يكون قوله؛ (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ) يعني: في الحبال وغيرها مما توصل به إلى الموضع العالي. ويجوز أن يكون أراد الهواء الذى هو سبب لصعود الملائكة إلى السماء يمدون فيه أجنحتهم فيصعدون، وهذا على جهة التعجيز للكفار المخاطبين بهذه الآية، والإخبار بأنهم يغلبون ولا يتم أمرهم، والشاهد على صحة هذا قوله: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ). الثاني: الطريق، قال تعالى: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) وجعل الطريق سببا، لأنك إذا سلكته وصلت إلى الذي تريده، ومنه قولهم سبب لك على فلان، أي: جعل لك طريق إلى مطالبة. الثالث: الحبل، قال الله: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ)

الرابع: العلم، قال: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) أي: علما،: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) أي: طريقا يهدي به إلى معلومه، ويجوز أن يكون المراد: إنا أعطيناه من كل شيء يتوصل به إلى الغلبة والسلطان آلة أو قوة أو ذريعة أو علما على ما ذكر

السمع

السمع أصل السمع سمع الأصوات، ثم سميت الأذن سمعا؛ لأن السمع بها يكون فيما بيننا، وسمى الإجابة سمعا، لأنها مع السمع تكون في أكثر الأوقات، والسميع لا يقتضي المسموع، لأن فعيلا جعل للمبالغة، وليس هو على مقتضى فعل، والله تعالى لم يزل سميعا، ومعناه أنه الذي لا آفة به لمنعه عن السمع المسموع إذا وجد، والسامع يقتضي المسموع، فلا يسمى الله سامعا، فيما لم يزل. والسمع في القرآن على وجهين: الأول: سمع الصوت، قال اللَّه: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) أي: يعرضون عن الإيمان وينصرفون عنه انصراف من لا يستطيع سمعه. الثاني: القبول والإجابة، قال اللَّه: (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي: مجيبه، وأنت تقول لصاحبك: اسمع نصيحتي مع أنك تعلم أنه يستجيبها، وإنما يريد أقبل، ونحوه قولك لمن يحله: سمعا وطاعة، أي: أقبل ما تقول وأطيعك فيه، وقوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) أي: لسماهم سمعاء، ولم يسمهم صما بكما

السلطان

السلطان ْأصل السلطان القوة، والسطوة، والجدة، وهو مشتق من السليط، وهو الزيت، وذلك أن الزيت مادة للسراج يشتعل به وتقويه حتى يبقى، والسلطان مادة وقوة لكل خير وشر، ونفع وضر، وهو يذكر ويؤنث. ورجل سليط اللسان فصيحه، يرجع إلى معنى الجدة، والمصدر السلاطة، وهو للرجل مدح وللمرأة ذم، يقال: امرأة سليطة إذا كانت كثيرة الصخب، ويقال: ذهب سلطان الحر وسلطان البرد أي: شدتهما، وسُمِّيت القدرة على الشيء سلطانا، يقال: ما لي على هذا الأمر سلطان، أي: قدرة. والسلطان في القرآن على وجهين: الأول: الحجة، قال الله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) يعني: حجة وبينة، وقال: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) وقال: (أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ) وقال: (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)، وإنَّمَا سميت الحجة سلطانا، لأنك تقوى بها على خصمك. الثاني: الملك والقهر، قال الله: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) وقوله: (وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أي: من ملك يقهرهم به على فعل المعاصي

السلام

السلام قد مضى القول في أصل هذا الحرف، وهو في القرآن على ستة أوجه: الأول: اسم اللَّه تعالى، قال: (السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) ومعناه أن عباده يسلمون من ظلمه، وقال: (سُبُلَ السَّلَامِ) أي: سبل الله، وهو دينه، وقال: (يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) يعني: الجنة، ونسبها إلى نفسه تعظيما لها، كما يقال: بيت الله وخليفة اللَّه، ويجوز أن يكون أراد بالسلام الأمن من الخوف، لأن موضوع السلام لذلك. الثاني: الخير، قال: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ) أي: قل خير كذا قيل، ولو كان كذلك [لنصب]، فقال: سلاما؛ لأن ما كان من القول يجيء بعده [فهو] منصوب، قلت: خيرا؛ وقلت: شرا. والمراد أن قل أنا سلم ولست بحرب، وإنما أقول ما أقوله على وجه النصيحة، فإن قتلتموه وإلا فقد بلغت، وحسابكم على الله، وهذا قبل أن يؤمر بالحرب، وقال: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) أي: ردوا خيرا، وقيل: (سَلَامًا)، أي: تسلما منكم، قال سيبويه: يقال: لا تكونن من فلان إلا سلاما بسلام، يعني: به المباركة. وقوله: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ) أي قال خيرا كذا قيل، والوجه أن يكون من السليم فنجد الأول، لأن القول هو السلم، وكل ما يجيء بعد القول فهو رفع إلا أن يكون من القول، فيقول: قلت: زيد في الدار، وقلت: ......

كلاما حسنا؛ لأن القول هو الكلام، وليس زيد هو القول، ورفع السلام الأخير، كأنه قال حين أنكرهم: هو سلام إن شاء الله، فمن أنتم ولو كانا جميعا نصا لجاز. الثالث: الثناء الحسن، قال تعالى:: (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) وقوله: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) أراد الثناء الحسن عليهم، ويجوز أن يكون أراد قول المسلمين عند ذكر الأنبياء عليهم السلام. الرابع: السلامة من الشر، قال اللَّه: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) وقال: (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) أي: إنك ترى لهم ما [تحب] من السلامة، وقد علمت ما أعد لهم من الجزاء، كذا قال الزجاج، وليس بالوجه؛ لأنه ليس على مقتضى لفظ الآية. والصحيح أنه أراد أن لك من إيمانهم وطاعتهم لله الخير عند اللَّه، لأنَّهُم آمنوا بدعائه وهدايته، " ومن سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها " أي: مثل أجره، ويجوز أن يكون المراد أنك مسرور بثوابهم فجعل سروره .... الخامس: بمعنى تسليم الشيء إلى صاحبه، قال: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ) وكذلك قوله: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ) أي: قد سلمت إليكم فخذوها مهنأة، ويجوز أن يكون معناه ادخلوها مع السلامة من الآفات، والسلام والسلامة واحد مثل الضلالة والضلال، والجلالة والجلال. السادس: التحية، قال: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) أي: يدخل الملائكة عليهم مسلمين مهنئين، ونحوه قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) ......

أي: على إخوانكم، وقال: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) حكاية ما تحيون به. وتقديره في العربيِة الابتداء، والخبر وتأويله ما تحيون به هو هذا القول، ومثله: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) والتحية أعم من السلام، والسلام مخصوص، ويدخل في التحية: حياك الله، ولك البشرى، ولقيت كل خير. فإن قيل: كيف يعطف الجزء من الشيء على جميعه؟ قلنا: لأن من كلامهم عطف الخاص على العام، كقوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى). وكقوله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) وقال جرير: سائل ذوي يمن ورهط محرقٍ ... والأزد إذ ندبوا لنا مسعودا والأزد من اليمن

السيئات

السيئات قد تكلمنا في هذا الحرف بما فيه كفاية، وهو في القرآن كل خمسة أوجه: الأول: المعاصي، قال: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) وارتفع (جزاء) بإضمار لهم، أى: لهم: (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا). وقال البلخي: الباء في قوله: (بِمِثْلِهَا)، زائدة وليس كما قال، وإنَّمَا هو على تقديم وتأخير، كأنَّه قال: يجازي بسيئة مثلها، والسيئات هنا الكبائر من المعاصي. والمراد أن من يأتي بكبيرة من الكبائر يجازى بما يستحق عليها من غير زيادة، وهذا دليل على أنه لا يعاقب بغير ذنب؛ لأن العقاب بغير ذنب قبيح من الزيادة في العقاب. ولا يسمى إيصال العذاب زيادة، وقيل: منه قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) أنه أراد به إيصال الثواب، وقيل: هي التفضل، وقال الكلبي: الزيادة للواحد عشرة ونحوه عن الحسن - رحمه الله -. الثاني: العذاب، قال: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) وسمي العذاب، وهو فعلة سيئة، كما سماه شرا في قوله: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ) وإنما سماه شرا وسيئة من أجل أنه مضرة، وقال الشاعر: أنا عَلى الماء لشر موضُوع فسمى نفسه وقومه شرا، أراد أنهم مضرة على من يزاحمهم على الماء. ولا يجوز أن يسمى اللَّه شريرا ولا مسيئا لفعله العذاب الذي سماه شرا أو سيئة، لأن الشرير هو الذي يفعل الشر القبيح، مثل الظلم وما بسبيله. الثالث: الضر، قال الله: (بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) وقال: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) أي: بالضر وسوء الحال، والبلوى من الله التكليف، وأصلها استنارة العلم بالمبلو

الرابع: الشر، قال: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، أي: الشر الذي أراده به فرعون. الخامس: الفاحشة، قال: (وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) يعني: إتيان الرجال. ويجوز أن يكون أراد ذلك وغيره من قبيح أعمالهم، والأصل في هذا كله المكروه على ما ذكرنا، وهاهنا وجه آخر وهو قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) والسيئات هاهنا الصغائر. والمراد إن اجتنبتم المعاصي التي هي أكبر من طاعتكم وغفرت لكم معاصيكم التي هي أصغر منها ولو لم تكن هذه الكبائر أعظم من طاعات فاعليها لغفرت بالطاعات؛ كما يغفر بها الصغائر، ولو كانت الكبائر تغفر بالطاعات لم يكن، لقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) فائدة

السبيل

السبيل تذكر وتونث، وأصلها من الامتداد، ومنه قيل للمطر بين السماء والأرض سبل، لامتداده من السحاب إلى الأرض، وأسبلت الستر إذا أرخيته فامتد من علو إلى سفل، والسبيل في القرآن على ثلاثة عشر وجها: الأول: الطاعة، قال اللَّه: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: في طاعته. الثاني: البلاغ، قال: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) أي: بلاغا، والمراد بالاستطاعة هاهنا وجدان النفقة، وصحة البدن، ورفع الموانع، وتمام الوقت. الثالث: المخرج، قال اللَّه: (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) وقال اللَّه: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) وكان الله فرض أن يحصن الزاني، وهو قوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) فلما نزل؛ ......

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ)، وقال عليه السلام: " قد جعل الله لهن سبيلا ". وأخرج من كان عنده من الزناة محبوسا فجلدهم مائة مائة وخلاهم، ثم فصل - عليه السلام - حد الزاني فجعل للذكر الجلد، وللأنثى الرجم، وقال: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) ولم يذكر الذكور؛ لأنه معلوم أن حد الزناة مثل حد الزواني فاكتفى بذكر أحد الصنفين. والفاحشة هنا الزنا، واستشهدوا مثل اشهدوا كما تقول: استوقد نارا، أي: أوقد، هذا قول، والأجود أن يقال: استشهد، طلب الإشهاد. واستوقد طلب الاستضاءة بالنار، ولا يجوز أن يكون افعل واستفعل بمعنى واحد، كما لا يكون علم واستعلم بمعنى واحد. الرابع: الصنيع، قال اللَّه: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) أي: صنيعا. الخامس: العلة، قال: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) أي: علة، تقول: إذا نشزت المرأة على زوجها فله أن يهجرها من غير أن يمنعها النفقة والسكنى، وإذا أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا، أي: لا يكلفها حبه، فإن ذلك لا تملكه. السادس: الدِّين، قال اللَّه: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: غير دينهم، وقال (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ). السابع: الهدى، قال: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) والإضلال هاهنا التسمية كما تقول: جهلت الرجل إذا سميته جاهلا، وعدلته إذا سميته عدلا، ومثله قوله: (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ) أي: من حكم عليه باسم الضلال عقوبة له

ودليل ذلك قوله في أول الآية: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ) ومثله: (فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ). الثامن: الحجة، قال الله: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) أي: حجة، وفي هذا دليل على أن اللَّه قد مكنهم من الإيمان؛ لأنه لو لم يمكنهم منه لكان للكافرين على من يدعوهم إلى الإيمان حجة (¬1). التاسع: الطريق، قال: (لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) يعنى: أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة. وقال (وَابْنِ السَّبِيلِ)، وَابْنُ السَّبِيلِ المسافر يأخذ من الصدقة، وإن كان له مال في بلده، وكل من ذكر في الآية، أنه يأخذها فإنما يأخذها بالفقر إلا ابن السبيل، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وقوله في هذه الآية: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) فإنه يعني: الجهاد. وقال الكوفيون: لا يعطى إلا الفقراء من المجاهدين؛ فإذا أعطوها وهم فقراء فقد ملكلوها وأجرى المعطي وإن لم تصرفوه في سبيل اللَّه، وقال الشافعي: " يعطى الغني والفقير من المجاهدين ". العاشر: الهدى، قال: (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) أي: عن قصد الهدى، يعني: الإسلام، ومثله: (وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السبِيلِ). الحادي عشر: قيل: الانتقام، قال: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) وقال: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ). ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. فتنبه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

وقيل: المراد أن الحجة على الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ في القعود عن الجهاد، وهم يقدرون على [النفوذ] فيه، وقالوا: ومثله: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) يعني: أن مناصحتهم للدِّين إحسان، وليس على المحسن حجة. الثاني عشر: الطاعة والقربة، قال الله: (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي: زلفى وقربة. الثالث عشر: الملة، قال اللَّه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي) أي: ملتي وديني

الباب الثالث عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله شين

الباب الثالث عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله شين الشرك أصل الشرك إضافة الشيء إلى مثله، ومنه قيل: شراكا النعل، لأن كل واحد منها يشبه الآخر، وشراك الطريق مشبه بشراك النعل، وأشرك بالله عبد معه غيره؛ لأنه أضافه إليه وشبهه به. والشرك في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الإشراك بالله في العبادة، كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) و (إن) في موضع نصب. والمعنى إن اللَّه لا يغفر الشرك به إلا بالتوبة؛ فحذف ذكر التوبة لدلالة العقل عليه، ولشهادة السمع به، وهو قوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ) وقال: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) يعني: (أصحاب الصغائر؛ لأن ما دون الشرك صغائر وكبائر فلو كانا جميعا مغفورين لم يكن لقوله: (لمِنْ ......

يَشَاءُ) فائدة ولا يجوز أن يكون ما دون الشرك لا يكون كفرا، لأن الشرك والكفر في أسماء الدين واحد، وكل كافر مشرك. وقوله: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) وقوله: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). الثاني: قالوا: الشرك بمعنى الطاعة، قال اللَّه: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي: أطعتموني. وقيل: أراد إني كفرت اليوم بما أنتم في الدنيا تدعونه لي من الشرك بالله، وهو مثل قوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ). وقال الكلبي: هو على التقديم والتأخير، أي: إني في دار الدنيا كفرت بربي الذي أَشْرَكْتُمُونِي به. وقال الحسن: إني كفرت بما جعتموني إلها وما على التفسير مصدر، أي: كفرت، بإشراككم إياي بالله، وقال أبو علي - رحمه الله -: أي: إني كفرت بما أَشْرَكْتُمُونِي به بعد ذلك، لأنه قد تقدمهم بالكفر. الثالث: الربا علي ما جاء في التفسير، قال اللَّه: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) أي: لا يرائي فيما نفعل من العبادة. وقيل أيضا: إنه أراد الإشراك بالله غيره، وقوله: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) يعني: الشياطين المذكووين في قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ) يزينون لهم ذلك بالوسوسة، وقيل: هم رؤساء السوء، وقيل: هم السدنة، وقوله: (وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) يعني: للأصنام وجعلها لهم شركاء، لأنَّهُم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها

الشقاق

الشقاق أصل الشقاق من قولهم: شققت الشيء إذا قطعته بنصفين فبعد أحدهما عن الآخر وكل قطعة منه شقة، وسمي الثوب الطويل القليل العرض شقة كأنَّه من قلة عرضه قد شق من غيره، وشقيق الرجل أخوه؛ كأنَّه شق منه، وسُمِّيت الأرض البعيدة شقة لطولها وتراخي بعضها عن بعض، ومن ثم قيل للطويل أشق، وشق الأمر على فلان طال حتى أتعبه، وشاق فلان فلانا إذا عاداه وباعده، والأصْل في ذلك كله البعد. والشقاق في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الضلال قال اللَّه: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) ويجوز أن يكون أراد المجانبة والمباعدة، أي: هم في بعد عن الحق وعن صاحب الحق شديد. الثاني: الخلاف، قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) جاء في التفسير أنه أراد الخلاف، ويجوز أن يكون بمعنى الفُرْقة وهو أجود. الثالث: العداوة، قال: (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) أي: عادوه. قال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وقال: (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي) وهذه الألفاظ يقام بعضها مقام بعض في هذه الآيات، وأصلها واحد، وإنَّمَا أوردتها على ما جاء في التفسير

الشهادة

الشهادة الشهادة الإخبار عن معرفة تقوم مقام الرؤية، والشاهد المخبر بها. وهو في اللغة على وجوه: أحدها: الحضور، شهدته حضرته. والآخر: الإعلام شهد الشهود، وهو إعلام ما عندهم، ومنه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أراد تعريف عباده أنه لا إله إلا هو، فقال: شهد بذلك لأن هذا القول أفخم وأوكد ومن الألفاظ ما هو أقوم فتفخم المعنى ألا ترى أن قولك: تضعضع ركن فلان أفخم من قولك: ضعف فلان، ولذلك رغم أنف فلان أفخم من قولك: ذل فلان. ومنه الإقرار، وهو قوله: (وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) وقال: (شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا). ومنه الحكم، قال: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) واليمين في قوله. (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) وأربع، والرفع على خبر الابتداء، أي: شهادة أحدهم أربع، والنصب على أن تشهد أحدهم أربع شهادات، وهو أن تقول: أشهد بالله وأحلف بالله إني صادق فيما قذفتها به، وتقول المرأة: أشهد باللَّه وأحلف باللَّه إنه لمن الكاذبين فيما قذفتني به، فإذا فعلا ذلك فرق بينهما، ولا [تحل] له أبدا عند أكثر الفقهاء. وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) قيل: أراد اليمين، والصحيح أنه أراد أن أحدكم إذا حضره الموت وهو ضارب في الأرض، أي: مسافر وأراد أن يوصي فينبغي أن يشهد على وصيته اثنين منكم، أي: من المسلمين، فإن لم ......

يجدها فمن أهل الذمة، وهو قوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فإن ارتبتم في شهادتهما فأقيموها بعد الصلاة، أي: صلاة العصر، وذلك لتعظيم أهل الذمة لهذا الوقت، فيحلفان على صحة شهادتهما، وقيل: إنها منسوخة بقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ). والشهداء في قوله: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الكبراء الأعلام، وقيل: الأصنام. والشهيد في القرآن على ثمانية أوجه: الأول: نبي كل أمة شهيد عليهم يوم القيامة، قال: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) وقال: (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) وقال: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ) إلا أن هذا في الدنيا. وفى هذا دليل على أن ذنوبهم بعلمهم، وإلا فبأي شيء يشهد عليهم، الأنبياء أتراهم يشهدون عليهم بأفعال الله، وليس ذلك بمعقول. الثاني: الحافظ، قال الله تعالى: (ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) أي: حافظ له مجاز عليه. ويجوز أن يكون العالم ومنه الشهادة في الحقوق؛ لأنها لا تصح إلا مع العلم، وهو قوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) ثم قال: (إِلا الذِينَ تَابُوا)، قالوا: فشهادكم في كتاب الله مقبولة. وعن شريح، وابن المسيب، وإبراهيم، وسعيد بن جبير: أن شهادته غير مقبولة، وإن تاب. وعن عطاء، وطاووس، ومجاهد، والشعبي، والقاسم بن محمد، وسالم، والزهري: أنها مقبولة إذا تاب

والصحيح أنها لا تقبل وإن تاب؛ لأن حكم الاستثناء أن يكون راجعا إلى ما يليه، ولا يرجع إلى ما تقدمه، إلا بدلالة، ألا ترى أن قائلا لو قال لفلان عليَّ عشرة درهم إلا ثلاثة درهم إلا درهما كان عليه ثمانية درهم، لأن الدرهم مستثنى من الثلاثة، هذا أصل الاستثناء. وقد جاء في القرآن [مثنا ولا لجميع المذكور] (¬1)، وهو قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) إلى قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) فكان الاستثناء راجعا إلى جميع المذكور، فيقول في ذلك إن الدلالة قد قامت في هذه الآية؛ ولم تقم في الأول. وقال الأوزاعي: لم تقبل شهادة محدود في قذف في الإسلام. وقال أبو علي - رحمه الله -: تقبل شهادته إذا تاب؛ لأنها إنما ترد عقوبة، فإذا تاب سقطت العقوبة، وقيل: ليس ذلك بشيء؛ لأنه أيضا يحد عقوبة، وإذا تاب لم يسقط الحد بالإجماع، فكذلك الشهادة لا تقبل بالتوبة. قلنا: وهذه المعارضة ليست بالصحيحة؛ لأن الحد في القذف حتى لآدمي فلا يسقط بالتوبة. وليست كذلك الشهادة. وقال: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) يعني: الملك الذي حفظ عليه عمله في الدنيا يشهد عليه في الآخرة. ومثله: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) يعني: الحفظة من الملائكة. ¬

_ (¬1) عبارة غير مفهومة. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

ومثله: (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) يعني: الحفظة، ويجوز أن يكون المعنى الذين يشهدون على الناس بأعمالهم من كل أمة. والأشهاد جمع شهيد نادر وجاء في جميع بأن أبناء، وفي جمع جان أجناء، فقيل في مثل أجناؤها أبناؤها، وله حديث ذكرناه في كتاب " جامع الأمثال ". الثالث: قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) يعني: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا). يعني: على أهل زمانه. ولو كان شهيدا على غيرهم فحن جاء بعده لم يكن لقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) أي: معرفين منبهين،: (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أي: معرفا ومبينا، كما قال: (ويتلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) وكما قال: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) والوجه أن يكون المراد الشهادة: عليهم بأعمالهم. الرابع: المستشهد في سبيل الله، قال الله: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) يعني: من قتل فى سبيل اللَّه وسُمِّي شهيدا، لأن الملائكة تشهده، فعيل بمعنى مفعول، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى فاعل، أي: شهد ما سره من الثواب والبشارة الحسنة. الخامس: الذى يشهد على الحقوق، وقال تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) والمرضي هو العدل؛ وهذا موكول إلى الاجتهاد؛ لأنه قد يجوز أن يكون المرضي عندك غير مرضي عند غيرك. وقال أبو يوسف: إذا سلم من الفواحش وكان ما فيه من أخلاق البر أكثر عن المعاصي الصغار قبلت شهادته؛ لأنه لا يسلم عبد من الذنب، ومثله: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) أي: من أهل ملتكم

وجواز شهادة أقل من رجلين أو رجل وامرأتين خطأ بدلالة هذه الآية، ومن أجاز بتثبيت الحق بتميز الطالب وإشهاد شاهد واحد؛ فإنه مبطل لظاهر هذه الآية. والأمة مجمعة على أنها غير منسوخة، وقوله: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) لفظ عام، والمعنى خصوص، أي: إذا خفتم رجوع أحد المبايعين عما عقد على نفسه، فأشهدوا عليه بما عقد. والكتاب والإشهاد واجبان عند تخوف الإضاعة، وقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) يشهد بصحة هنا التأويل، وقال: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ). السادس: الحاضر، قال تعالى: (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) وقال: (وَبَنِينَ شُهُودًا) أي: حضورا. (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أي: حضورا. السابع: الأحكام والأعلام من الناس؛ وهو قوله: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقد مر. الثامن: الفطن الحاضر الذهن؛ قال: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) وحقيقة إلقاء السمع الاستماع؛ أي: استمع إليك وهو شهيد؛ أي: قلبه شاهد عندك لا يغيب عنك فهمه، وإذا كان كذلك انتفع بالخير الذى تدعوا إليه. وأما قوله: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فمجازه: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً فيكون شاهد لي على دعائي إياكم، وتكذيبكم لي قل الله شاهد لي على ذلك. وفي هذا دليل على أن اللَّه شيء، ألا نرى أنه لا يحوز لك إذا قيل لك: أي الناس أصدق؟ أن تقول جبربل؛ لأن جبريل ليس من الناس، ولو لم يكن منفردا عند القائل والسامع أن الله شيء؛ لكان هنا الكلام لغوا لا معنى له؛ فإن قيل: (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) تمام

وقوله: (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ابتداء وليس بجواب، ولو كان جوابا [كان ما بعده من قوله: (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)] (¬1). والشهادة في قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) بمعنى المشاهدة، وأصل الكلمة الظهور، ومنه قيل: شاهده؛ أي: ظهر به ظهور المقابل بالشهادة، ويشهد ذكر الشهادة وهو قول: أشهد أن لا إله إلا هو، وتشاهدوا: تعاونوا على إقامة الشهادة. وقال: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قيل: الشاهد: محمد صلوات الله عليه، والمشهود: يوم القيامة، والشهد: العسل على ما شوهد في موضعه قبل أن يصفى. والشهادة في قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الحضور؛ يعني: من كان حاضرا في أهله، ومن شرائط ذلك الصحة، والشاهد قوله ْتعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). ¬

_ (¬1) عبارة غير مفهومة، ويبدو أن بهذا الموضع سقطا. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

الشيع

الشيع أصلها من العموم، ومنه شاع الخبر؛ إذا فشا فعرفه كل أحد، ولك سهم شائع في الدار وشاع؛ أي: هو في جميع الدار غير مشار إليه في موضع منها دون موضع

وشيعة الرجل؛ من يعينه على أموره، وشايعه، إذا عاونه معاونة عامة، وشيع الرجل؛ الرجل إذا صار معه كما يسير الخبر الشائع. ويقال: هو شيعة لك، وقيل: الشيعة مأخوذة من الشياع؛ وهو الحطب الصغار التي تشعل بها النار ويعين الحطب الكبار على الاتقاد. وقيل: أصل الكلمة من الاتباع، ومنه شاعك؛ أي: تبعك، وشاعكم السلام؛ أي: تبعكم. والشيع في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الفرق المختلفة؛ قال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) يعني: إنهم فارقوا الإسلام وصاروا فرقا يهودا ونصارى وجعل الإسلام دينهم ولم يدينوا به؛ لأنَّهُم بُدِّلوا إليه وأمروا به. ويجوز أن يكون معناه أنهم فارقوا دينهم حين اختلفوا فيه، [وذلك أن النصارى يكفر بعضهم بعضا وصاروا شعابا لاختلافٍ فيه]

وفي هذا نهي عن إحداث البدع في الدِّين، ومفارقة جميع المسلمين، ومثله: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) وقال: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا). الثاني: قوله: (هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) يعني: أنه ولد ابنه إسرائيل ولم يكن من القبط. الثالث: أهل دين؛ قال اللَّه: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ) أي: من كان على دينكم، وقال: (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) وقال: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي: من كِل أهل دين باطل، وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) أي: من أهل دينه. الرابع: اختلاف الآراء وتغاير الأهواء، قال الله: (هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) يوعدهم بالعذاب من فوقهم وهو الطوفان، أو من تحت أرجلهم الخسف، أو يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا أي: يخذلهم ويخليهم من ألطافه وفوائده (¬1)، كل ذلك بذنوبهم فيلتبس عند ذلك أمرهم ويختلفوا حتى يذوق بعضهم بأس بعض. ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. فتنبه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

الباب الرابع عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله صاد

الباب الرابع عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله صاد الصدق أصل الصدق من الثبات، ومنه قيل: صدقهم القتال؛ إذا ثبت لهم، وتمرٌ صادق الحلاوة يرجع إلى هذا. والصدق خلاف الكذب؛ لأنه يثبت، والكذب يبطل، والصداقة: ثبات المودة، ثم صار الصداقة اسما لاتفاق الضمائر على المودة، فإذا أضمر كل واحد من المتعاشرين مودة صاحبه، فصار باطنه فيها كظاهره سميا صديقين. ولهذا لا يجوز أن يقال: إن الله صديق المؤمن، كما يقال: إنه وليُّه، ولا يجوز أن يكون المؤمن صديقه كما أنه خليله وحبيبه ووليه، ومعنى الولي أنه يحب الخير لوليه، كما أن العدو يحب الضر لعدوه، ويقول الله: (وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) بمعنى أنه يتولى حفظهم وكفايتهم، كما أن ولي الطفل هو المتولي لشأنه والمتكفل لمعونته، ومعنى محبة العبد لله؛ إرادة: طاعته، ومحبة الله للعبد إرادة ثوابه. ومعنى الخلة الاختصاص، فقيل: إن إبراهيم خليل اللَّه لاختصاص اللَّه إياه بالرسالة، ولا يجوز أن الله خليل له؛ لأنه لا يجوز أن يخص اللَّه بشيء غير العبادة، والخلق في عبادة الله سواء ليس لأحد فيها خصوصية

والوجه الأجود في أصل الصدق والصداقة وما في بابه أن يقال: إن أصل الكلمة الكمال، فقيل: الصدق لكماله في الحسن، وصادق الحلاوة كامل الحلاوة، والصداقة كمال المودة [بحمل جميع في هذا الباب على هذا الوجه فيصح]. والصادقون في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: النبيون " قال الله: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) فأخبر أنه يسأل الأنبياء ليكون غيرهم على حذر. الثاني: المهاجرون؛ قال تعالى: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) جاء في التفسير أنه أراد المهاجرين خاصة؛ لأن الآية نزلت فيهم، وذكر بعدهم الأنصار. الثالث: المؤمنون جميعا؛ قال اللَّه: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) يعني: المؤمنين؛ لأن الآية نزلت فيهم

الصف

الصف أصله في اللغة الامتداد والطول؛ ومنه قيل: صفة البيت؛ لأنها ممدودة طويلة، وصف الطائر: بجناحيه إذا مدهما في طيرانه، وصفة السرج: ما غشي به ما بين القَرَبُوسَين والسرجين وهما جانبا الرحل، [والصَّفِيفُ مِنَ اللَّحْمِ: ما شُرِّحَ طولا وجفف في الشمس]. وهو في القرآن على وجهين: الأول: بمعنى الجميع؛ قال الله: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا) وقوله: (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي: جمعا، وقيل: ذكر الواحد وأراد الجمع، أي: عرضوا صفوفا، وقيل: صفا، أي: قياما، وذلك أن القائم يصف قدميه في القيام وهو أجود. الثاني: الصف الممدود، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) وقال: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) يعني: صفوفا ملائكة في السماء مصلين ومسبحين

والمعنى ورب الصافات، وأنث على معنى الجماعة للصافة، ثم جمع فقال: (الصافاتِ)، فأمَّا قوله: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) فالمراد به أنها قائمة قد صفت بدنها، ولم يرد أنها مصطفة لإجماع الناس أنها يجوز نحرها غير مصطفة. فأما السُّنَّة في نحر الإبل أن تنحر قائمة، وفي قوله: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) ما يدل على أنه أراد وبالصواف القيام؛ لأنَّهَا إذا كانت باركة فنحرت فانقلبت على جنب، لم يقل: إنها سقطت لجنبها

الصيحة

الصيحة فعلة من صاح يصيح، ويستعمل في جميع الحيوان، وجاء في غير ذلك أيضا، قال الشاعر: تصيحُ الرُدينياتُ فينا وفيهمُ ... صياحَ بناتِ الماءِ أمسينَ جوّعا والصيحة في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: صيحة جبريل - صلى الله عليه -؛ قال الله: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) في مواضع من القرآن. الثاني: النفخة الأولى لفناء الخلق، قال الله: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) ومثله: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً). الثالث: النفخة الثانية لقيام الساعة؛ قال الله: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) ونوه: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ) ولم يقل: ما ينظرون ليكون أعظم في الإخبار، كما يقول: لو رأيت عليا بين الصفين، ومثله: (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ)

الصاعقة

الصاعقة هي ما كثف من البروق وعظم، وأصلها من شدة الضرب، يقال: صقعه إذا ضربه ضربا شديدا، وأكثر ما يستعمل في الضرب على الرأس فقلب، فقيل: صاعقة، وربما قيل: صاقعة على الأصل، وصعق الرجل؛ إذا سمع صوتا شديدا فغشي عليه وهو صعق، وفي القرآن: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) وصعق الرجل بالفتح، إذا صاح، ويجوز أن تكون الصاعقة من هذا. والصاعقة في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: شدة الصوت، قال: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) وكانوا سمعوا صوت تدكدك الجبل؛ فماتوا موتا لم يضطروا معه إلى معرفة البارئ ولهذا أجاز أن يكلفهم بعده لأن التكليف مع وقوع العلم ضرورة لا يصح من أجل أن العالم ضرورة ملجأ إلى فعل الطاعات، والتكليف لا يكون إلا مع الاختيار وإلا فإنه ليس بتكليف (1). الثاني: العذاب، قال: (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ). الثالث: الموت قال: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ). أي: ماتوا، وقيل: معنى ذلك أنهم يغشى عليهم ثم يموتون

الصلاح

الصلاح الصلاح نفع يلتئم به الأمور، والإصلاح تقويم العمل على ما ينفع بدلا مما يضر؛ والفساد ضر تضطرب به الأمور، والإفساد تقويم العمل على ما يضر بدلا مما ينفع. ْوأما القبح فهو المنكر في النفس من جهة زجر العقل (¬1)، والفرق بين فساد التفاحة بتعينها وفساد الإنسان بخطيئته؛ أن أحدهما تزجر عنه الحكمة، والآخر لا تزجر عنه على أنه قد حدث ما ينافي في المنفعة به. والصلاح في القرآن على سبعة أوجه قالوا: الأول -: الإيمان؛ قال الله عز وجل: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ). قال: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) يعني: المؤمنين، وقال تعالى: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ). الثاني: المنزلة الرضية؛ قال الله: (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) قال بعض أهل التفسير: تصلح منزلتنا عند أبينا، ومثله: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي: في المنزلة الرضية عند الله. ويجوز أن يكون المراد إنا نتوب فيما بعد ونكون من الصلحاء، وقيل: الصلاح في قوله: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) العفة وليس أن من لم تكن عفيفة لا تزوج؛ وإنما أراد الحث على الصلاح. ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. حاصلها القول بالحسن والقبح العقليين، على تقتضيه أصول المعتزلة. فتنبه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

وظاهر هذا الأمر الوجوب؛ وهو ندب بالإجماع، ولم يخل عصر من الأعصار من الأيامي من الرجال والنساء، ولم ينكر أحد أن ترك تزويجهن محظور. وأيضا فإن الأيم إذا لم ترد التزويج لم يكن للولي إجبارها، وأيضا فإن الرجل لا يجبر على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامي. قال أبو علي رحمه اللَّه: هو في الأيم إذا أرادت التزويج على الوجوب، وفي العبد والأمة ترغيب، قال: ويجوز أن يكون المعنى ترغيب الأحرار أن يتزوجوا الإماء الصالحات، وترغيب الحرائر أن يتزوجوا العبيد الصالحين. الثالث: الرفق على قولهم؛ قال تعالى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي: ممن يرفق ولا يخرق، قال: ومثله: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ). وليس هذا بالوجه؛ وإنما أراد ضد الفساد، والشاهد: (وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ويجوز أن يكون المراد بقوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي: أصلح لك في أمورك، وإني أفي لك ولا أخونك فأفسد أمرك. الرابع: تسوية الخلق؛ قال اللَّه: (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي: ولدا سويا، ويجوز أن يكون أراد صلاح الطريقة. الخامس: ضد الفساد؛ قال: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) وقال: (قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي؛ لأمور أنفسنا فيما نولي الكافرين؛ لأنهم إذا ظهروا أبقوا علينا، والدليل على صحة هذا التأويل أنه قرنه بالفساد، وقال: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ). السادس: الطاعة؛ قال: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني: الطاعات

السابع: الأمانة، قال الله: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) قالوا: يعني: ذا أمانة، ويجوز أن يكون معناه صلاح الطريقة في الدين، ويرجع معناه إلى الطاعة، وفلان صالح في نفسه؛ إذا أتى بمحاسن الأفعال،، وفاسد في نفسه؛ إذا أتى بمقابحها

الصراط

الصراط هو في العربية الطريق الواضح السهل، يذكر ويؤنث، مثل: الطريق، والسبيل ولم نسمع له بجمع، والقياس: أصرطة، وسرط، وأصل الصاد فيه سين؛ من قولهم: سرطت الطعام؛ إذا أسرعت بلعه، وذلك أن السراط: ممر الحلق، والمسرط: البلعوم؛ لسرعة مرور الطعام فيه. وسمي [الفالوذ سَرَطْراطا]؛ لسرعته وسهولته في الحلق، ويف سراطي سريع القطع، سمي الطريق القاصد السهل سرطا؛ لسرعة المشاة فيه؛ لسهولته لا يمنعه من ذلك شيء، وجعل السين صادا لموافقة الصاد الطاء. وهو في القرآن على وجهين: الأول: الطريق؛ قال اللَّه: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ) ومثله: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ). الثاني: الدِّين؛ قال اللَّه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) يعني: الدين المستقيم؛ فجعله صراطا على التمثل، ومثله: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا). والْمُسْتَقِيم: القاصد، والاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة؛ فإذا كان في الدِّين فالاستمرار على طريق الحق

وقال بعضهم: الصراط: الطريق المستقيم، والذي يفيده الصراط هو السهولة على ما ذكرنا، والذي يدل على ذلك أصل الكلمة وما يصرف منها، مثل: السرطراط وسرطته؛ إذا أسرعت بلعه لسهولته

الصلاة

الصلاة أصلها الدعاء صليت إذا دعوت، قال الشاعر: وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم وسميت الصلاة لما فيها من الدعاء، والصلاة على الجنازة؛ لأنَّهَا دعاء لا سجود فيه ولا ركوع، وقيل: أصلها اللزوم، [ومنه قيل]: (تَصْلَى نَارًا) أي يلزمها. واستعمل في القرآن على خمسة أوجه زعموا: الأول: الدعاء؛ قال الله: (إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي: ادع لهم إن دعائك مما يسكنهم وتطمئن [إليه] قلوبهم، وقيل: معناه استغفر لهم، ومعناهما قريب. والثاني: الترحم: قال بعضهم: قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي ترحم عليهم أنهم يسكنون إلى ذلك، قال الأعشى: ......

عَلَيكَ مِثل الذي صَلَّيتَ فَاعتَصمِي رفع مثل على الدعاء دعا لها مثل الذي دعوت له، ونصبه على الأمر؛ أي: تزداد من الدعاء، أي: عليك بمثل ما قلت، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ). الثاني: الرحمة؛ قال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهُم صلِّ عَلى آلِ أبِي أوفَى " أي: ارحمهم، وهذا والأول واحد؛ لأن الترحم دعاء، ولا شك أن الله يرحم نبيه. والفائدة في الترحم عليه ما يستحق المترحم من الثواب، فإذا جدد الله تعالى لنبيه تكريما عند دعاء الداعي؛ قيل: إن اللَّه أجاب دعائه وفي الإجابة تكريم المجاب. والدعاء ليس بواجب في العقول؛ وإنَّمَا أوجبه القرآن لأن العاقل يعلم أن الله لا يختار له إلا الأصلح في دينه ودنياه (¬1). فيجوز أن ينصرف عن الدعاء تفويضا لأمره إلى الله، والله لا يمنع العبد ما فيه صلاحه؛ ولكنه أمره بالدعاء تعريضا للإجابة لما فيها من إكرام المجاب. ويجوز أن يكون أمره بالدعاء؛ لأن الذي يطلبه لا يكون مصلحة له إلا بالدعاء. الثالث: الصلاة المعروفة؛ قال: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وقيل: دلوكها: غروبها، وقِيل: زوالها. الرابع: قوله: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) قال المفسرون: أراد قراءتك والمشهور الصلاة المعروفة. وقالوا له ذلك لما أنكروا ما يدعوهم إليه من مخالفة دينهم، كما تقول للرجل الصالح: تنكر منه أمرا أورعك أو صلاحك أمرك بهذا؟ وأنت تريد نهيه عن ذلك وإنكاره عليه. ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. حاصلها الادعاء بأن الله تعالى يجب عليه مراعاة الصلاح والأصلح للعبد، وهو زور وبهتان. فتنبه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

الخامس: المغفرة؛ قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ) يعني: أنه يغفر لكم إذا تبتم إليه، ويستغفر لكم ملائكته، وهذا الوجه قريب من الوجه الثاني؛ لأن الرحمة والمغفرة يتقاربان

الصوم

الصوم أصله الإمساك، ومصام الشيء مكانه، قال امرؤ القيس: كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها ... بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ والخيل الصائمة: الممسكة عن الحملة، وقد صام النهار عبد قائم الظهيرة؛ كأن الشمس تسكن عند ذلك فلا تسير. والصوم في القرآن على وجهين: الأول: الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح مع النية، وهو قوله: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وفي هذه الآية دليل على أن هذه الآية منسوخة لأنه لا يجوز أن تقول في هذا الوقت إن الصيام في شهر رمضان خير من الإفطار فيه. الثاني: الصمت؛ قال اللَّه: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) أي: صمتا، ويسمى الصمت صوما لأنه إمساك عن الكلام، ومن قال: إن الصوم ليس بمعنى؛ ......

فقد قال: إن الله فرض ما ليس بشيء، وأن النية والعزم يصح ما ليس بشيء، والنهي نحو عن ترك ما ليس بشيء، وتوطين النفس يكون لا على شيء وليس هذا بمعقول، وقد يكون صوم أعظم من صوم، وهذا يوجب على قوله: أن يكون لا شيء أعظم من لا شيء

الباب الخامس عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ضاد

الباب الخامس عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ضاد الضحى مؤنثة وأصلها من البروز، ويقال مكان ضاح؛ أي: بارز، وضواحي المدينة. ظواهرها، وضحى الرجل يضحي إذا برز للشمس، وفي القرآن: (لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) والأضحية ترجع إلى هذا، وذلك أنهم كانوا يذبحونها في الضحى، والضحا بالمد بعد الضحى. والضحى في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: النهار كله؛ قال: (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) جاء في التفسير أنه بمعنى النهار جمع قلنا، وذلك أنه جعله بإزاء البيات، والبيات يكون في جميع الليل، ولا يحسن في نظم الكلام أن يجعل الضحى التي هي أول النهار إزاء الليل كله. الثاني: إذا ترجل النهار؛ قال الله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) الثالث: حر الشمس؛ قال اللَّه: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) قالوا يعني: حرها، ويجوز أن يكون الوقت ونسبه إلى الشمس؛ لأن الأوقات تعرف بمسير الشمس

الضرب

الضرب أصله الثبات، ومن ثم قيل: ضرب على فلان البعث أي: ألزمه وأثبت عليه حكمه ومنه قوله تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ). ويخبر عن الإلزام بالضرب؛ لأن للضرب تأثيرا ليس إلا إلزاما؛ فلما أراد أنهم ألزموا ذلة تبقى أثرها كبقاء أثر الضرب، عدل عن ذكر الإلزام إلى ذكر الضرب، وقيل: المعنى أن الذلة أحاطت بهم من قولك: ضربت الخيمة على القوم، ونحوه قوله: ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بها الكتابُ المُنْزَلُ ومنه المضرب لأنه تضرب أوتاده في الأرض فتثبت، ويقال للجليد: الضريب؛ لأنه يثبت أكثر مما يثبت الثلج ولا يثبت ولا يجري. واستضرب العسل إذا غلظ تشبيها بالجليد، وضريبة الإنسان: خليقته لأنها ثابتة له لا يكاد يزول عنها، والضرب في الأرض المسير فيها؛ وهذا خلاف الثبات، والمضارب مشتق من الضرب في الأرض. والضرب العسل الأبيض الغليظ، والضريب ضرب من اللبن، والضرب من الشيء: الصنف منه. والضرب في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الضرب في الأرض؛ قال اللَّه: (إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وقال معاوية لبعض رؤساء اليمن: ما قول قومك في: (بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ......

قال: أرادوا بعد الهمة والضرب في الأرض؛ ولكن ما قول قومك في: (إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) هلا قالوا: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ [عِنْدِكَ] فاهدنا له؟ ومثله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فوضع التاجر مع المجاهد، وفي ذلك بيان عن فضل التجارة. الثاني: الضرب باليد والسيف وغيره؛ قال: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) وسمي ضربا لأن أثره يثبت في المضروب، ونصب ضرب الرقاب على المصدر. والمراد فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم؛ ولكن أكثر القتل ضرب الرقبة، فأخرج الكلام على الأكثر، ولم يرد وأن هذا الضرب مقصور على الرقبة. والشاهد قوله: (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) وقال: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) يعني: اضربرا الرءوس، واضربوا منهم كل بنان؛ لأنه قال: إنكم تتمكنون منهم أشد تمكن؛ فاضربوا الجليل من أبدانهم والدقيق. وقيل: (فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) أي: ما بدا منها وهو على ما قلنا أنه أراد أن اقتلوهم. الثالث: التبيين والوصف؛ قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) أي: [وصف شَبَهًا وبيَّنه]

وقال: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) قالوا: معناه [لا تصفوه] بصفات غيره ولا تشبهوه بسواه. وضارب المثل كأنَّه ينصب شبها لما يريد أن يعرفك إياه فتنظر إليه وهو راجع إلى الإثبات. ويجوز أن يقال: ضرب المثل أي: جعله يسير فيكون من الضرب في الأرض، وقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً) أي: وصف له شبها ومثله كثير. وأما قوله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فإنما أراد إلقاء الثوب على الصدر ليتتر به، والجيب جيب الدرع، وكن يلبسن الدروع، وللدرع جيب مثل جيب الدراعة، والمرأة فيها مكشوفة الصدر فأمر بستره؛ وفيه دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة

الضر

الضر الضر ضد النفع، والضر: الهزال وسوء الحال، وكذلك الضراء، وقيل: الضُّر والضَّر لغتان وليس بالوجه. وذكر أن الضر أبلغ من الضر؛ لأنه عدل عن صيغة المصدر للمبالغة وهذا أجود. وأصل الكلمة الدنو، ومعنى قولهم: ضره؛ إذا لحق به المكروه، وإذا لحقه به فقد أدناه منه. وسحاب مضر إذا دنا من الأرض لكثرة مائه، قال الشاعر: غَوَاشي مضُر تحتَ ريحٍ وَوَابلِ وسميت الضرة ضرة؛ لأنَّهَا أدنيت من مثلها، والضرة أصل الضرع لقربها من البدن. والضر في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الشدة وسوء الحال؛ قال: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ) والفرق بين المس واللمس؛ أن المس يكون من الحجارة وما بسبيل ذلك، يقول: مس الحجر الحجر، واللمس لا يكون إلا لطلب معرفة اللين، أو الخشونة، والحرارة، والبرودة: فهو مستعمل في الإنسان. الثاني: الهول، قال الله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) يعني: الهول، ويجوز أن يكون المعنى جميع ما يدخل عليهم من الضرر عند الضلال. الثالث: النقص؛ قال الله: (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) أي: لا ينقصونه من ملكه شيئا [بمعاصيهم]

وأما الضرأء فقد جاءت بمعنى القحط والجدب، في قوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) أي: خصبا وسعة بعد قحط وشدة. والفرق بين الضر والضراء؛ أن الضراء مضرة تظهر، ويجوز أن يكون الضر خافيا، والضراء خرجت مخرج الأحوال الظاهرة؛ مثل: الحمراء، والسوداء. وكذلك الفرق بين النعمة والنعماء؛ أن النعماء أنعام تظهر أثره، ويجوز أن تكون النعمة خافية

الضلال

الضلال أصل الضلال الزوال عن القصد والسير عن غير بصيرة، وصاحبه بصدد الهلاك؛ ولهذا قيل -: إن الضلال الهلاك. ثم استعير لمن زال عن سبيل طاعة اللَّه؛ فقيل للكافر ضال، وللفاسق مثله؛ ثم جعل اسما للعقاب على الفسق والكفر، ويقال: أضللت فرسي وبعيري، وكل ما زال عنك فذهب. وضللت الطريق والدار وكل عا لا يترح، وأضللت فلانا؛ وجدته ضالا، ومنه قوله:، (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ). والإضلال؛ أيضا الإحباط في قوله: (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) والإضلال؛ الصرف عن القصد في قوله: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى). وقال بعضهم: الضلال والهلاك من قولهم: ضلت الناقة إذا أهلكت بضياعها، وضل الكافر إذا هلك بكفره، وضللنا في الأرض؛ إذا هلكنا بقطع أوصالنا، ورجل مضل؛ منسوب إلى الهلاك بأنه لا يتوجه لخير، وضل الرجل عن الطريق؛ إذا هلك عن قصده

والضلال في القرآن على اثني عشر وجها: الأول: التسمية والحكم، وقال تعالى: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) يعني: أنه يسميهم ضالين، كما تقول: جهلته إذا سميته جاهلا. (¬1) الثاني: النسيان؛ قال: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا) أي: تنسى، وإذا ذهب عن الطريق، قيل: قد ضل وكذا إذا ذهب عن معرفة الشيء. الثالث: عدم العلم بمبلغ الجرم؛ قال: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي: لم أعلم أن وكزتي تبلغ القتل؛ كأنَّه قال: فعلتها وأنا ضال عن العلم بها أنها تبلغ القتل، ومن ذهب عن الشيء يجوز أن يقال: إنه ضل عنه. وقال الزجاج: (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي: الجاهلين، وهذا خطأ لأن اسم الجاهلين لا يطلق على الأنبياء. الرابع: الخطأ؛ قال اللَّه: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: في خطإ بين، ولو عنوا غير ذلك كفروا؛ فإن تضليل الأنبياء عليهم السلا على الحقيقة كفر. وحقيقة المعنى أنه ذهب عن الاستواء في تدبير أمر الدنيا؛ لأنه يفضل من لا غنى له على من له غنى. الخامس: الكفر، وهو قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يعني: بالضالين النصارى، والمغضوب عليهم اليهود، والمعنى غير طريق الذين تريد عقابهم في الآخرة من اليهود والنصارى، والغضب من اللَّه العقاب. السادس: الغفلة؛ قال الله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) كنت في غفلة عن النبوة لم تدو أنك تؤتاها، ودليله قوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ). وقال بعضهم: (ضَالًّا) أي: في قوم ضُلَّال كما قال أبو عثمان المازني؛ لنزولة في بني مازن، وعمر والغزال؛ لمقامه بين الغزالين، وكل من نزل في قوم نسب إليهم، ومن ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. حاصلها أن الله يريد الخير ولا يريد الشر، والمؤلف - رحمه الله - محجوج بآيات كثيرة منها على سبيل المثال ما ذكره الله تعالى على لسان نبيه نوح - عليه السلام - (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ). فتنبه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

ذلك قولهم: العلوي الحماني، فأما قول من قال إنه كان على دين قومه فخطأ؛ لأن من يصلح للنبوة لا يجوز أن يستصوب عبادة الصنم. السابع: الإحباط؛ قال الله: (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) أي: أحبطها ولم يحصلوا على ثوابها، وفي هذا دليل على أن الحساب لا ينفع مع الكفر. الثامن: العذاب؛ قال: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) أي: عذابا؛ لأنه لا يضلهم في الأول فيزيدهم، والزيادة لا تكون إلا على أصل، وما سمي ما يوصل إليهم من العذاب المستحق في الحال الثاني والثالث، وما بعد ذلك زيادة لم يرد إنه يريدهم منه ما لا يستحقونه. التاسع: تفرق الشيء حتى لا يرى؛ قال تعالى: (أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ). العاشر: الصد، قال تعالى: (لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ). أن يصدوك عن الإيمان ويردونك إلى الكفر. الحادي عشر: الخسار؛ قال الله: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ). وكل ما نسبه اللَّه إلى نفسه من الضلال فسبيله التسمية والحكم، أو الضلال عن الثواب، ودليل هذا قوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ). وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) وقال: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ). وأما قوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ) فالفتنة؛ المحنة والابتلاء.

ونسب الضلال بها إلى نفسه؛ لأن الضلال وقع من بعض الناس عندما ابتلى بها، فنسب ذلك إلى نفسه، كما قال: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) يعني: السورة، والمراد أنهم ازدادوا رجسا عندها. الثاني عشر: الحيرة قال تعالى: (فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) أي: في حيرة شديدة، أو في حيرة بعيد دواؤها وتلافيها. ويقال: ضل الطائر إذا تحر وضل - الصبي، مثله. وأما قوله: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) فمعناه أن دعاء الكافرين لأوثانهم باطل لا مرجوع له، وضل الشيء إذا بطل وهلك. وأما قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ). فمعناه أنه يهدي الناس إلى ثوابه. لا إلى الدين؛ لأن الناس مهتدون إلى الدين. وكذلك ينبغي أن يكون الإضلال هنا من الثواب لا عن الدين، ولو جاز أن يضل عن الدين لجاز لنا ذلك، كما أنه جاز لنا أن نهدي إليه إذ كان الله يهدي إليه، ولو جاز أن يضل عن الإيمان لجاز أن يدعو إلى الكفر، ولو جاز له ذلك لجاز لنا (¬1). ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. فتنبه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

الباب السادس عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله طاء

الباب السادس عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله طاء الطهارة أصل الطهارة في اللغة: البعد، يقال: طهرت الشيء وطهرته؛ إذا أبعدته، وسمي الطهور طهورا لأنه يبعد الفاحشة عن الجد وغيره. والطهور اسم ما يتطهر به، والطهور اسم الفعل على القياس دون السماع، والمسموع للطهر والطهارة. والطهارة في الشريعة: اسم يقع على معان كثيرة، منها: الصلاة، والزكاة، والبر؛ كلها طهارة؛ يعنى: أنها تطهر من الذنوب، وقوله: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) يطلبون إطهار النساء ولا يأتون الرجال، أو يأتوهن في قبل الطهر يطلبون النجاسة على ما كانت العرب تدعي من ذلك. والطهارة في القرآن على عشرة أوجه: الأول: طهارة المرأة من دم الحيض؛ قال الله: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).

الثاني: الاغتسال؛ وهو قوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أي: إذا اغتسلن أو تيممن عند عدم الماء. ولا يجوز عند الفقهاء مجامعتهن إذا طهرن فقط؛ لأنه قال تعالى: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) يعني: الفرج، وفيه دليل على أن [إتيانهن] في أدبارهن حرام؛ لأنه حرام إتيانهن في الحيض لأجل الأذى؛ وهو القذر، والقذر للدبر ألزم. ويجوز عند بعضهم مجامعتهن إذا طهرن قبل أن يتطهرن، ومنه كلام كثير اسقتصيناه في غير موضع. الثالث: التطهر بمعنى الاستنجاء بالماء؛ قال اللَّه: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قال المفسرون: أراد غسل أثر البول والغائط بالماء، وقيل نزل في الأنصار وذلك أنهم كانوا يتبعون الحجر بالماء. الرابع: الطهور من جميع الأحداث والجنابة؛ قال الله: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) يعني: من الأحداث والجنابة، ونظيره قوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا). الخامس: التنزه عن إتيان الرجال في أدبارهم، قال: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) ويحتمل أيضا الوجوه التي ذكرنا. السادس: طهارة نساء أهل الجنة من الحيض والقذر؛ قال الله: (لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) ويتضمن ذلك طهارة الأخلاق أيضا، لأنه جاء بلفظ التكثير. السابع: الطهارة من الذنوب؛ قال: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) يعني: الملائكة، وأراد طهارتهم من الذنوب، وقرئ (المطهِّرون)؛ ومعناه أنهم يطهرون غيرهم وليس بالوجه، وقيل: هو على الأمر؛ أي: لا يمس المصحف إلا طاهر، ومثله: (ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي: أطهر من الذنوب.

ومعنى ذلك أنه يكون كفارة، ونحوه قوله: (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أراد إذا لم يعضلوهن لأن أزكى لكم وأطهر لكم ولهن من الذنوب، لأنكم تأثمون بعضلكم إياهن، ولعل العضل يحملهن على الزنا، والعضل: المنع من التزويج وخبرها هنا أفعل. الثامن: التبرئة من الخطأ والغلط؛ قال اللَّه: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) يعني: القرآن، كذا قيل؛ وقيل: يقول إنها مكرمة عند الملائكة، مرفوعة عن الأرض. ويجوز أن يكون أراد رفع القذر مطهرة أن ينالها يد عاصية، ومثله: (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً) يعني: القرآن أيضا، ويجوز أن يكون؛ (مُطَهَّرَةً) أي: منزهة أن يكون فيها كذب وباطل. التاسع: إبعاد الأوثان والأصنام؛ قال الله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) أي: أبعد عنه ما يعبد منها. العاشر: تطهير الله العبد من الذنوب؛ بمعني أنه يمنحه ألطافا يمتنع معها من الذنوب، قال اللَّه: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (اصْطَفَاكِ) اختصك بأن قَبِل نذر أمك فيك ففرغك لعبادته [وسدانة بيته] (¬1)، وطهرك من الذنوب بأن وفقك لمجانبتها، واختصك من نساء العالمين بولادة عيسى - عليه السلام - من غير ذكر؛ فلما كان المراد بالاصطفاء الأخير غير المراد بالاصطفاء الأول لم يكن تكرارا معيبا، وقال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) والمعنى أن اللَّه وفقكم لمجانبة الذنوب فتجنبتموها وكنتم طاهرين. ¬

_ (¬1) في الكتاب المطبوع هكذا [وسد أنه نبيه] ولعل الصوب ما أثبتناه. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

الطاغوت

الطاغوت كل ما عبد من دون الله وهو طاغوت، والطاغوت أيضا الشيطان وهو من طغى يطغوا، مثل: الملكوت من ملك يملك، وقيل: هو أعجمي، مثل: جالوت، وطالوت، وهو واحد وجمع. وجاء في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الشيطان؛ قال الله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) قالوا: هو الشيطان، ويجوز أن يكون الأوثان والذي لا شك فيه أنه الشيطان، قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ)، لأنه قال بعد ذلك: (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ). الثاني: الأوثان؛ قال اللَّه: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) وهو يذكَّر ويؤنث، والتأنيث قوله: (الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا) والتذكير قوله: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ). الثالث: قوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) جاء في التفسير أنه أراد كعب بن الأشرف، وقيل: الكاهن.

وأصله أن رجلا عن المنافقين نازع يهوديا، فقال اليهودي: بينك وبيني محمد - صلى الله عليه وسلم - عليه. وقال المنافق: بيني وبينك الكاهن. وقيل: كعب بن الأشرف ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكم على المنافق، فلم يرض، وجاء أبا بكر فحكم عليه أيضا، فجاءا عمر وقص اليهودي عليه القصة، فأخرج السيف وقته المنافق، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: (أنت الفاروق، ثم قال: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) فذكر الشيطان وأراد ْأولياء الشيطان كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)، وكما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي أولياء الله.

الطمأنينة

الطمأنينة أصلها الانخفاض، والمطمئن من الأرض: المنخفض، وتطامن الشيء إذا [تَطَأْطَأَ] ثم استعمل في السكون. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: السكون؛ قال: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) وتزول عنه الوسوسة؛ لأنه إذا شاهد إحياء الموتى لم يكن للشيطان إلى وسوسته سبيل، ومثله: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) ونظيره: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ). ويجوز أن يكون المعنى أنها تطمئن إلى ما وعد اللَّه من ثوابه، ويجوز أن يكون المعنى الذين نظروا واستدلوا فعرفوا اللَّه من طريق الدلائل فاطمأنت قلوبهم ولم يخالجها شك، فإن قيل: أوليس قد قال: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) والوجل ضد الطمأنينة، قلنا: المراد في هذا أنهم إذا ذكر اللَّه وجلت قلوبهم بذكر عقوباته للعصاة؛ وجلت قلوبهم لأنهم لا يأمنون أن يعصوه؛ فبصروا إلى عذابه. وقوله: (تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) أنهم إذا ذكر بذكر ثوابه اطمأنت قلوبهم لأنهم لا يعرفون من أنفسهم معصية، وقد وثقوا بأن وعد الله حق. الثاني: بمعنى الرضا؛ قال: (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ).

الثالث: بمعنى الأمن؛ قال اللَّه: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ويجوز أن يكون هذا أيضا بمعنى السكون، قال بعضهم: معناها هاهنا الإقامة؛ أي: فإذا أقمتم فأقيموا الصلاة؛ أي: أتموها.

الطيبات

الطيبات أصل الياء في الطيب واو، ومن ثم قيل للقادم: أوبة، وطوبة، وقيل: طوبى له، وقيل: شيء طيب للزوم الطيب له، كما قيل: ضيق، وميت، وسيد، وما كان الصفة فيه عارضة، قيل: فاعل، كما قيل: ضائق. وهي في القرآن على ستة أوجه: الأول: الحلال؛ قال تعالى: (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وقال: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) وقال: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) يعنى: أن الطيبات أحلت لهم عند كمال الدين. وذلك أنه قد أمنهم عند نزول هذه الآية أن ينسخ شيئا مما أحل لهم، واليوم هو الذي أنزل فيه هذه الآية، ويجوز أن يكون بمعنى الوقت، ويجوز أن تكون الطيبات الأرزاق التي جعلها اللَّه للناس، ومنع بالنهي عن منازعتهم فيها، وإنما سُمي الحلال طيبا لطيبه في العاقبة.

الثاني: المن والسلوى قال: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وهو راجع إلى الأرل؛ لأن ذلك كان حلالا، ويجوز أن يكون المراد أنه طيب المطعم، ومثله: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) وقوله: (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ). الثالث: الطعام اللذيذ، واللباس الحسن، والجماع؛ قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) وكان قوم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد هموا بترك ملاذ الدنيا؛ فأنزل الله هذه الآية، ونحوه قوله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) ومثله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) أي: لم يحرم اللَّه ذلك فاللفظ لفظ الاستفهام، والمعنى الإنكار، وهو يرجع إلى معنى الأمر باستعمال هذه الأشياء من وجوهه وحله. الرابع: الشحوم ولحوم الإبل، قال اللَّه: (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) فالمراد أنه عجل عليهم طائفة من العذاب؛ [حرم عليهم من الطيبات] (¬1) كل ما كانت حلالا لهم، وهي ما ذكر في قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا) كذا وكذا وذلك ما كان من ظلمهم. الخامس: الذبائح، قال: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) يعني: الذبائح، والشاهد قوله: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ) فقرر ذلك بما هو من جنسه. السادس: الغنيمة، قال: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) إلى أن قال: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) جاء في التفسير أنه أراد الغنيمة يوم بدر؛ لأنه في [قصة بدر (فَآوَاكُمْ)]؛ يعني: أنه أسكنكم المدينة، وقال في آخر السورة: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) ويجوز ¬

_ (¬1) في الكتاب المطبوع هكذا [حرم عليهم من الماء] ولعل الصوب ما أثبتناه. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

أن يكون الطيب هاهنا الذي لا إثم فيه؛ فهو طيب في العاقبة، وكانت الغنائم محرمة على من قبل هذه الأمة؛ فأحلها الله لهذه الأمة.

الطعام

الطعام كل ما أكل للشبع أو للشهوة مما فيه صلاح للبدن فهو طعام، وذلك أن الطير يؤكل للشهوة وليس بطعام والذى يؤكل للشبع الخبز واللحم، وما بسبيل ذلك والذي يؤكل للشهوة والفاكهة والإدام وما يجري هذا المجرى، والطعم: المذاق؛ يقال: هو طيب الطعم، والطعم أيضا اسم يقام مقام المصدر، والمصدر الطعم بالتحريك، ورجل مطعم من الشيء؛ مرزوق منه كأنَّه جعل له طعمة، وفلان خبيث الطعمة؛ أي: رديء المكسب. والطعام في القرآن على أربعة أوجه: الأول -: الطعام الذي يأكله الناس؛ قال: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) وقال: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) وقال: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) ونحوه كثير. الثاني: مليح السمك؛ وقال: (وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ) كذا جاء في التفسير، وقيل أيضا: إنه أراد ما يصب عليه الماء وأخذ فهو من طعام البحر، وقيل: هو ما سقاه البحر فنبت فهو طعام البحر لأنه ينبت عن مائه.

الثالث: الذبائح؛ قال: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) ومعروف أنه لم يرد الخبز والإدام فينبغي أن يكون على الذبائح. وقال بعضهم: أهل الكتاب هنا هم بنوا إسرائيل دون غيرهم ممن تنصر وتهود من العرب والعجم، وليس كذلك لأن هذا اسم لمن نتحل التوراة والإنجيل ويظهر التدين بذلك، ولم يسموا أهل الكبائر لأنَّهُم من بني إسرائيل؛ فكل من شاركهم في هذه العلة فهو منكم وطعامكم حل لهم؛ أي: حل لكم أن تطعموهم؛ لأن الحلال أو الحرام والفرائض بعد عقد التوحيد. الرابع: طعم بمعنى شرب؛ قال اللَّه: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أي: من لم يشربه، ومجازه. لم يذقه فيجد طعمه، وقوله: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) مع قوله: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) دل على أن الشرب من النهر الكرع فيه، وهو أن يضع شفته عليه فيشرب منه، وهو من اغترف يده فليس بشارب من النهر، وهو يدل على صحة قول أبي حنيفة فيمن قال؛ إن شربت من الفرات فعبدي حر أنه على الكرع؛ وإذا شرب بيده أو بإناء لم يحنث.

الطغيان

الطغيان أصله مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) ثم استعمل في شدة الظلم؛ لأنه تجاوز لحد الصفة؛ وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الضلال؛ قال الله: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي: في ضلالهم يتحيرون، ويجوز أن يكون أراد أنهم يتحيرون فيما هم فيه من مجاوزة الحد في التمرد؛ وتحيرهم فيه لأنهم لا يعرفون وجه قباحته، والمتحير غير عارف لوجه أمره والعمد التحير. ومثله قوله تعالى: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) أي: ما أضللته، والشاهد قوله: (وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) ويجوز أن يكون المراد أي: لما حمله على التمرد وشدة الظلمة لنفسه ولغيره. الثاني: قال تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) ويجوز أن يكون أراد أنه جاوز الحد في الكبر أو الظلم والغشم، وقال: (بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ). الثالث الارتفاع ومجاوزة الحد في الكثرة؛ وقال: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) أي: حملنا آباءكم على حسب ما يقال لبني شيبان: اليوم أنتم أصحاب يوم ذي قار. الرابع: الخطأ؛ قال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) أي: ما يمل ولم يخطئ في الرؤية، وقيل: ما عدل وما جاوز القصد في رؤيته؛ يعني: جبريل عليه

السلام، وزاغ: مال وعدل، وقيل: (مَا زَاغَ) ما قصر عن شيء رمى إليه ببصره،: (وَمَا طَغَى) ما طلب أن يجاوز ما رآه إلى غيره.

الطمس

الطمس أصله ذهاب الأثر؛ طريق طامس: لا علم فيه، كتاب مطموس: ممحو، وجبل طامس: لا طريق إليه؛ قال جميل: ألا تلكمُ أعلامُ بثنةَ قد بدتْ ... كأنَّ ذَرَاها في السَّراب سَبيبُ طوامسُ لي من دونهنَّ عداوةٌ ... ولي من وراءِ الطَّامساتِ حبيبُ بعيدٌ على من ليسَ يطلبُ حاجةً ... وأمَّا على ذي حاجة فقريبُ وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى القلب؛ قال اللَّه: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) أي: نقلبها فنجعلها إلى ما يلي أدبارها. وقوله: (فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) تفسير لطمسها، وصديق هذا قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) لأن الوجوه إذا قلبت أقفاء كان أصحابها يعطون الكتب وراء ظهورهم. الثاني: ذهاب البركات؛ قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي: اذهب ببركتها ونفعتها وخذهم بالقحط، (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي: حبب إليهم أوطانهم حتى لا يغار قومها لطلب الأرزاق فيموتوا هزلا وجوعا هكذا قِيل.

والصواب أن يقال: أراد أن صبرهم على البلاء والإقامة في البلد المطموس فيه على أموالهم حتى لا يجزعوا فيخرجوا منه. وذلك أن الشد على القلب والربط عليه هو تصبيره بما هو فيه. وقوله: (فَلا يُؤمنُوا) موصول بقوله: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ومعنى ذلك كله على العاقبة؛ كقوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا). الثالث: ذهاب النور؛ قال اللَّه: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ).

الطائر

الطائر طار الطائر يطير طيرانا والفعلان للاضطراب، مثل: اللمعان والضربان. والطائر في القرآن على وجهين: الأول: الطائر واحد الطير؛ قال الله: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) وطائر وطير مثل: صاحب وصحب، ولا يقال للواحد: طير إلا شاذا. الثاني: الحظ؛ قال تعالى: (طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي: حظه من الرزق وغيره لازم له، كما يقال: أمانتي في عنقك، وهذا الحق لى في عنقك؛ أي: هو لازم لك. وقيل: الطائر العمل الصالح من الخير؛ أي: يلزمك ذلك حتى تجازى به، وقيل: الحظ من الخير والشر طائر، تقول العرب: جرى على [الغُلَّان] الطائر على طريق الفأل، ويقال: طار لي منك كذا؛ أي: صار حظي منك. وقيل: معناه أن الأمر الذي يجعلونه بالطائر يلزم أعناقهم؛ والمراد أنهم إذا تشاءموا بشيء أصابهم على ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الْبَلاءُ مُوَكلْ بِالمنطِقِِ "، ومثله: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي: حظكم لأنفسكم وتطيركم لا يزيدكم ولا ينقصكم. وقال تعالى: (قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: حظكم من الجزاء على أعمالكم لا معدل لكم عنه في الآخرة.

وقال ابن الأنباري في قولهم: طير اللَّه لا طيرك، قال: فعل الله وحكمه لا فعلك وما يتخوفه منك، قال الفراء: الطائر عندهم العمل، فإن اللَّه تعالى قال: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وقوله: هو ميمون الطائر؛ يعنون الحظ، وهو الذي تسميه العامة البخت.

الباب السابع عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ظاء

الباب السابع عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ظاء الظلمات الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومنه: ظلم السقاء إذا شربه قبل أن يروب، وقال الشاعر: هرت الشقائق ظلامون للجزر أي يعرقبونها فيجعلون العرقبة مكان النحر، وعنه قيل الظلمة لأنَّهَا قد تكون سببا لوضع الشيء في غير موضعه لعدم الإبصار فيها، وقال بعض أهل اللغة: يقال في الجمع القليل منه ظلم ومنه ثلث ظلم، والكثير الظلمات وهذا خلاف الأصْل؛ لأن الجمع القليل يجيء بالتاء في جميع اللغة. والظلمات في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الكفر؛ قال الله: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أي: من الكفر إلى الإيمان؛ فأخرج ما يرى بالعين إلى ما لا يرى بالعين ليتولد التشبيه، وجعل الكفر ظلمة لما في الكفر من الحيرة والوحشة، والإيمان نورا لما يكون مع النور من الاهتداء والاستقامة والأنس بثلج اليقين. الثاني: الأهوال؛ قال الله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قال أهل التفسير: أراد أهوالهما، ويجوز أن يكون أراد الظلمات بعينها. ومن الأول قولهم: يوم مظلم، وأظلم النهار في عينه؛ يريدون الهول والشدة.

الثالث: الظلمة بعينها؛ قال الله: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) وقد تقدم ذكر الظلمات لأنه خلق الظلمة قبل النور، كما خلق الجنة قبل النار، والسماوات قبل الأرض (¬1). وفي هذا معنى حسن، وهو جعله مثالا للشك الذى غلبه البرهان والدلاة؛ فأما الجنة فقدمت لأنَّهَا الغرض المطلوب، وأما السماوات فقدم خلقها لأنها أشرف من الأرض من غير اعتراض معنى يزيلها عن مرتبتها. والفرق بين جعل الظلمات وفعل الظلمات.؛ أن الجعل يقتضي فعلها على الصفة التي هي عليها، كما يقال: جعل الطين خزفا، والجعل أيضا يدل على الاتصال؛ ولذلك جعل طرفا للفعل يستفتح به؛ كقولك: جعل يقول، وجعل ينشد، قال الشاعر: وَزَعَمتَ أنكَ سوف تسلك فازا ... وَالمَوتُ مُكتنع طَرِيقِي فَازِرِ فاجعل بحلل مَنْ يمسك إنما ... حِنْثُ اليمينِ عَلَى الأثيمِ الفَاجِرِ ¬

_ (¬1) الراجح عند المحققين أن الأرض خلقت قبل السماوات وأن الأرض دحيت بعد خلق السماوات. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

الظلم

الظلم قد ذكرنا أن أصله وضع الشيء في غير موضعه، ويجوز أن يكون أصله النقصان، ومنه قوله: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم تنقص، والمظلومة: أرض لم تمطر بين أرضين قد مطرتا؛ كأنها نقصت حقها. وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الشرك؛ قال الله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) والشاهد قوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ولما نزل قوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)، شق على الناس؛ فقالوا: يا رسول اللَّه، وأينا لا يظلم نفسه؟ فقال إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ". الثاني: ظلم العبد نفسه؛ قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). فإن قيل: كيف يظلم العبد نفسه ولم يقصد ضررها؟ قلنا: لأنه يقصد إلى ضرر قبيح ينزل بها من أجل شهوته له فيضرها من حيث يظن أنه ينفعها، ولو نظر فيما يأتيه حق النظر وقف على مكان الضرر منه فيكون ظالما لنفسه بذلك؛ ونظيرها قوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ). ويجوز أن يكون المعنى أنه ينقصها الحظ من الثواب والذكر الجميل. الثالث: ظلم الإنسان غيره؛ قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا) والعدوان والظلم واحد؛ وإنما كرر اللفظين على المعنى الواحد إرادة التوكيد والتصرف في الكلام على ما بينا من مذهب قوم يذهبون إلى ذلك، وأصح منه أن

يقال. العدوان مجاوزة الواجب، والظلم هنا وضع الشيء في غير موضعه من قبل النفس المذكورة في الآية، فلما اختلف معنى اللفظين عطف أحدهما على الآخر؛ ولولا ذلك لم يجز العطف. الرابع: النقص؛ قال: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي: لم تنقص وقال: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا).

الظالمون

الظالمون في القرآن على أربعة أوجه: أولها: المشركون؛ قال: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) كذا قيل، ويجوز أن يكون غيرهم ممن يظلم، كثير الظلم داخلا معهم، وقوله: (قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وهم يعلمون أن الله لا يجعلهم مع المشركين؛ ولكن هذا القول منهم تعظيم لما فيه المشركون من العذاب. الثاني: الظالم لنفسه؛ وهو الذي يقصها بعض ثوابها بمعصية يوافقها، قال: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) وقوله: (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي: لنفسه بخطيئته، وقال موسى - عليه السلام -: (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) ومعنى هذين الحرفين داخل فيما تقدم. الثالث: الجحود؛ قال تعالى: (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) أي: يجحدون؛ كذا قال ابن عبَّاس، ومقاتل. وقيل: أراد أنهم يظلمون أنفسهم بالكفر بها، وقيل: يظلمون بها؛ أي: يكفرون بها لوضعهم إصاها فى غير موضعها. ويجوز أن يكون المعنى أنهم يظلمون النبي والمؤمنين بها؛ أي: بتصديقهم بها لأنهم ينسبونهم في ذلك إلى الخطأ ويؤذونهم من أجلها وهذا على مقتضى اللفظ، وقوله: (فَظَلَمُوا بِهَا) أي: جحدوا بها. ويحتمل الوجوه التى تقدمت أيضا، ويقال: جحد بالشيء؛ إذا أنكر صحته، وجحده؛ إذا أنكر وجوده، كما يقال: جحد حقه.

الرابع: السرقة؛ قال: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ)، ثم قال: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) وقال: (وَكَذَلِكَ نَجزِي الظالمِينَ) يعني: السارقين. والظلم في هذا الوجه يرجع إلى النقصان؛ لأن السارق ينقص مال المسروق، ويجوز أن يكون سمى الله السارق ظالما لأنه يدخل الضرر على من لا يستحقه، وكل ضرر غير مستحق ولا معقب نفعا ظلم، وقد سمي أيضا ظالما؛ لظلمه لنفسه.

الظهور وما يتصرف منه

الظهور وما يتصرف منه قد ذكرنا أن أصله من العلو، يقال: ظهر فوق البيت إذا علاه، وقال الشاعر: وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنكِ عارُها أي عارها مرتفع عنك لا يلحقك،: ظهر كل شىء أعلاه، ث ظهر الرجل؛ بين درعين إذا ألبس إحداهما فوق أخرى، وظاهر الرجل الرجل إذا عاونه فعلا أمره، وهو ظهيره؛ أي: معينه، ودرع مظاهرة؛ إذا نسجت حلقتين حلقتين. وهو في القرآن على سبعة أوجه: الأول: ظهر إذا بدا؛ قال اللَّه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ونتكلم في هذه الآية في باب الفاء إن شاء الله تعالى. وقال: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) وقال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني: ما بدا منه من معاشهم؛ أي: يعرفون ذلك من شدة عنايتهم به، ويغفلون عن المعاد، وقال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: لا يبدبن الزينة الباطنة، نحو: المخنقة، والخلخال، والدملوج، والسوار؛ فإن ذلك من التبرج، والذي يظهر الثياب والوجه والكفان، وزينة الوجه الكحل، وزينة الكف الخضاب والخاتم. وقد أباح النظر إلى زينة الوجه والكف؛ فاقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكف، ويدل على أن الوجه والكف ليسا من العورة؛ إنها تصلي مكشوفة الوجه واليدين فجاز نظر الأجنبي إليهما لغير شهوة، وجاز أن ينظر إليهما لعذر وإن كان تشبيها، مثل: أن يريد تزويجها، أو ينظر إليها لشهادة، أو لأنه حاكم يريد أن يسمع إقرارها، ويدل على أنه لا

يجوز النظر إلى الوجه لشهوة، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لَا تُتْبعِ النظرَةَ النظْرَةَ؛ فَإن لَكَ الأولَى وَليسَت لَكَ الآخِرَة " الثاني: الإطلاع؛ قال الله: (فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) وقال: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي: يطلعوا. الثالث: الارتقاء؛ قال اللَّه: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) أي: يرتقون، والمعارج: الدرج، يقال: أعرج الملك إذا صعد، وعرج إذا نزل، وقال: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي: يعلوه، وهو من قولهم: ظهر فوق البيت؛ إذ علاه. الرابع: التعاون؛ قال: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) أي: تعاونا، وقال: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) أي: ظهرا، يريد أن الملائكة أيضا تضار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقريب منه: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) أيِ الملائكة، وقال: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) فذكر الواحد وأراد الجمع. والأرجاء: الجوانب واحدها رجاء مقصور، وهما رجوان، ويقال: يرمي بفلان الرجوان، إذا كان سائرا لا يستقر ركابه، وقال: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ). الخامس: العلو والغلبة؛ قال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي: ليغلبه حتى يغلب كل دين يدان به.

وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه خبر وقع مخبره على ما أخبر به، ومثله: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) أي: عالين قاهرين، ومثله: (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ). السادس: الباطل؛ قال أهل التفسير في قوله: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي: بباطل، وأم هاهنا بمعنى بل، ومنه قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي: بل أنا خير لأنه قال: أيخبرونهم بما لا يعلم في الأرض بل يقول؛ زائل باطل لا [يثبت]، وهو ادعاؤكم لهم الإلهية. وقوله: (قُلْ سَمُّوهُمْ) يعني: الملائكة لأنهم عبدوهم، فقال لهم: إنكم تعبدونهم فما أسماؤهم، قالوا ومنه قوله تعالى: (يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) أي: يقولون باطلا. وأصل هذه الكلمة عندنا من قولهم: أنت عليَّ كظهر أمي، وكان من طريق الجاهلية، وصار في الإسلام فيه كفارة صورتها معروفة ونزلت في خولة بنت ثعلبة، وأوس بن الصامت. السابع: بمعنى الإعراض عن الشيء؛ قال: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي: جعلتموه وراء ظهوركم؛ يعني: أنكم تركتم العمل به، ويقال: جعلت حاجتي تظهر إذا اطرحتها ولم تلتفت إليها. والاتخاذ: أخذ الشيء لأمر يستمر، وقيل: الظهري؛ ما جعل وراء الظهر وقد ظهرته أي؛ جعلته كذلك، وقيل: معناه أنه ثقل عليكم، من قول العرب: حملت فلانا على ظهري إذا ثقل عليك، ويقال أيضا: ظهر بفلان؛ إذا لم يلتفت إليه، قال الشاعر: جَدَّ تَأمرُ بَني البر شَاءَ من وَلَدِ الظهرِ أي: الذين يظهر بهم ولا يلتفت إلى أرحامهم، والظهري في غير هذا الموضع: العون، ومنه الظاهري في الدواب.

والكلمة من الأضداد،: (وَاتخَذْتموهُ) أي: اتخذتم الله وراءكم، وحقيقة المعنى أنكم جعلتم أمره بمنزلة ما وراء ظهوركم لا يلتفتون إليه، وقيل: الضمير في: (اتخَذْتموهُ) لما جاء به متغيب وهو قول مجاهد، ولفظ الآية دال على الوجه الأول.

الظلال

الظلال يجوز أن يقال أصل الظل: الدوام، ومنه يقال: ظل يفعل كذا؛ أي: دام يفعله، ويجوز أن يكون أصل الظل: الستر، وظل الليل: ظلمته لأنها تستر كل شيء، وهو بالغداة وما طلعت عليه الشمس ثم زالت فهو فيء، لأنه فاء من جانب إلى جانب، والفيء الرجوع. وهو في القرآن على وجهين: الأول: جمع ظل، قوله: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) جاء في التفسير أن الكافر لا يسجد لله، ومثله؛ يسجد على كره منه، والمراد أن الحال يتصرف بالظل لدوران الشمس وتنقلها من مكان إلى مكان؛ وفيه دليل على الخالق؛ فجعل ذلك سجودا؛ لأن حال السجود أبين، والغدو هنا اسم للوقت، وأصله المصدر، والآصال جمع أصيل، وهو العشي، وقال بعضهم: الظل ما يستراح إليه. الثاني: جمع ظلة؛ قال اللَّه: (فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) وهي جمع ظلة، مثل: قلة، وقلائل. وأما قوله: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) و: (ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) ومعناه دخان جهنم، واليحموم الأسود، وأراد أنه يغشاهم فيسترهم؛ فسماه ظل لأن الظل الستر.

الظن

الظن الظن في العربية على وجهين: شك، ويقين، وقد جاء في القرآن كذلك، قال الله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) أي: أيقنت، ومنه قول الشاعر: ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ أي: أيقنوا ذلك، وليس ذلك في أصل اللغة، وإنما صار كذلك في الاستعمال، ومن جهة الاستعارات وكثرتها في الكلام. وقال تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) أي: يوقنون. وقال ابن درستويه: يتوهمون ذلك، والكافر لا يتوهمه. وهذا خطأ؛ لأنهم لو كانوا يتوهمونه ولا يوقنونه لكانوا كفارا؛ لأن التوهم من قبيل الشك، والشاك بالبعث كافر. والآخر قوله: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى) أخبر أنه كان شاكا في البعث. وقال أبو بكر رحمه اللَّه: الظن على أربعة أقسام: محظور، وواجب، ومندوب إليه، ومباح. فالمحظور: سوء الظن بالله، وكل ظن لصاحبه سبيل إلى العلم فيه؛ مما تعبد به فهو محظور.

وأما الظن الواجب: فمثل ما تعبد بإنفاذ الحكم به:، ولم ينصب عليه دليل؛ نحو: قبول شهادة العدول، وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات، وأروش الجنايات التي لم يرد بها توقيف. وأما المباح: فكالظانِّ في الصلاة، أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمل على غالب الظن؛ فإن فعل كان مباحا، وإن عدل إلى البناء على اليقين كان جائزا. والمندوب إليه: حسن الظن بالأخ المسلم، قال اللَّه تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا).

الباب الثامن عشر فبما جاء من الوجوه والنظائر في أوله عين

الباب الثامن عشر فبما جاء من الوجوه والنظائر في أوله عين القول في العالَمِين العالم يقع على الملائكة والإنس والجن، واشتقاقه من العلم؛ لأنه يقع على من يعلم، ويصلح أن يكون من العلامة؛ لأن فيهم دلائل على خالقهم. وقيل: أهل كل زمان عالم، وقيل: كل ما يحوي الفلك عالم، والناس يقولون: العالم العلوي؛ يعنون السماء وما فيها، والعالم السفلي؛ يريدون الأرض وما عليها، ويقولون على وجه التشبيه: إن الإنسان العالم الصغير وإلى فلان تدبير العالم يعنون الدنيا. واشتقاقه على هذا القول من العلامة فقط، وقيل: العالم اسم أشياء مختلفة فلا يوحد وليس هو مثل الناس؛ لأن كل واحد من الناس إنسان، وليس كل واحد من العالم ملائكة. والعالم إن كان جمعا لا واحدا له من لفظه؛ فليس هو، كالنعم والرهط والنسوة؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء جمع لجنس بعينه، والعالم جمع لأجناس مختلفة، وقال بعضهم. العالم كل جنس ذي روح. وحكي عن العرب: عالم من الطير ومن الظباء وليس ذلك بمعروف عندنا، وعندنا أن العالم سمي عالما لأنه يصلح أن يستدل به فيوصل إلى العلم، ومثله: الخاتم لأنه يصلح للختم على الأشياء، والطابع يصلح أن يطبع به. قال المفضل: العرب تقول: العالمين في الرفع والنصب والجر؛ لأنه جمع لا نظير له، وكان حقه أن يجمع به على عوالم وعواليم، مثل: خاتم وخواتيم وخواتم، فلما انقطع عن بابه جمع بالنون وألزم الياء وأُجريَ مجرى: المقتوين والمفتكرين، قال: وقد جاء عن قوم من كنانة وأسد عالمون وليس بمشهور. ولفظ العالمين في القرآن مستعمل في أربعة مواضع:

الأول: الملائكة والجن والإنس؛ وهو قوله تحال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذا قول أكثر المفسرين، وإنما ذكر هؤلاء: (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) لأن الأقل داخل في الأكثر. الثاني: الجن والإنس خاصة؛ قال اللَّه: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) أي: عظة وزجرا عن المعاصي وداعيا إلى التوحيد. الثالث: قوله: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) يعني: عالمي زمانهم، ودليل هذا أنه لم يفضلهم على أمة محمد - عليه السلام -؛ ولو فضلهم لم يقل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

الرابع: الناس من لدن آدم - عليه السلام - إلى يوم القيامة، قال: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) والاصطفاء هاهنا بمعنى أنه خصها بإخراج الولد منها من غير ذكر. ويجوز أن يكون في الأنبياء من هو مثلها في الفضل، مثل: آسية وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، للأثر المروي " خير نساء العالمين: آسيا، ومريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -.

العمى

العمى أصل العمى من الستر، ومنه قيل: السحاب العماء؛ لأنه يستر السماء، وعمي الرجل؛ كأنه سترت عنه المرئيات، وعمي عن الصواب تشبيه كأنَّه ستر عنه، ويقولون للفلاة التي لا علم فيها: عمياء وعطشاء، والعطش ضعف البصر، وقالوا لها ذلك لأنهم لا يبصرون فيها القصد لأنه قد ستر، وفي القرآن: (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ) لأنَّهَا سترت. والعمى وما يتصرف منه في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: عمى القلب؛ قال: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ) والمعنى أنها لا تنتفع ببصائرها كما لا تنتفع العمي بأبصارها، ومثله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) فجعلهم صما لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون فكأنهم لا يسمعون، كما أن الأصمَّ لا يسمع؛ وسماهم عميا على هذا السبيل، وبكمًا لأنهم إذا صئلوا عن صحة ما يذهبون إليه لم يأتوا بحجة وكأنهم بكم. وقوله: (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) وقال: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى) ومعنى ذلك أنه إذا عمى في الدنيا عن التوبة وقد جعل اللَّه إليها سبيلا كان في الآخرة أعمى؛ لأنه لا يجد متابا، وأضل سبيلا؛ لأنه لا يهتدي إلى طريق النجاة والفوز. الثاني: عمى البصر؛ قال: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) وقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) يعني: عبد اللَّه ابن أم مكتوم، وكان ضريرا؛ جاء النبي - عليه السلام - وهو

يدعوا بعض أشراف قريش فى الإسلام؛ فشاغل عنه؛ فنزلت: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) إلى قوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى). الثالث: العمى عن الحجة؛ قال تعالى: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا) جاء في التفسير أنه أراد؛ لم حشرتني أعمى عن الحجة وقد كنت بها بصيرا في الدنيا، ويجوز أنه يكون بمعنى عمى العين على ما قدمنا قبل؛ وهو أنه حشره أعمى ليجعله علامة بين الخلق.

العلم

العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به على سبيل الثقة، وأصله الظهور، ومنه قيل للجبل: علم لظهوره، وأعلام الشيء دلائله، لأنها تدل بظهورها عليه، والمعلم: الموضع المعروف. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: على قول بعض المفسرين الرؤية؛ قال اللَّه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) ومثله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ). جاء في التفسير هي أنه أراد الرؤية؛ أي: حتى نراهم مجاهدين؛ لأنه تعالى كان يعلم المجاهدين قبل الجهاد، وقيل: معنى العلم هنا التمييز، ويمي التمييز علما؛ لأن العلم يقع معه بحال ما يتميز وما يتميز منه، وقيل: معناه ليصبر المؤمنون على ما يصابون به؛ فجعل العلم منه مكان الصبر منهم إذ كان اللَّه عالما بصبرهم إذا صبروا، وقيل: يعلمهم فاعلين كما يعلمهم معتقدين. الثاني: العلم بعينه؛ قال: (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) وقال: (يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ).

الثالث: الإذن قال تعالى: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: بإذن اللَّهِ، وسُمِّي الإذن علما، لأن أصلَ الإذن العلم، ومنه الأذان؛ وقد ذكرنا ذلك، وقيل: معناه أنزله وهو عالم به.

العز

العز أصله العز الغلبة، ومنه قيل: من عزيز. أي: من غلب اغتصب، ثم استعمل في المنعة، فقيل: فلان عزيز الجانب، أي: منيعه، وقال الهزلي: حتى انتهيتُ إلى فراشِ عزيزةٍ ... سوداءِ روثةٍ أنفها كالمِخصفِ ومن الغلبة؛ قوله تعالى: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) أي: غالبني، وسمي الله عزيزا لأنه الغالب الذي لا يقهر، وفي مثل: إنما تعز من ترى وتعزك من لا ترى، والعزيز أيضا القليل، يقال: هذا شيء عزيز؛ أي: قليل، وإنما سمي القليل عزيزا؛ لأنه لا يقدر عليه، شبهه بالعزيز من الرجال، ليس أن العز في العربية القلة. وهو في القرآن على سبعة أوجه: الأول: المنعة؛ قال تعالى: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ). الثاني: العظمة؛ قال اللَّه: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) أي: بعظمته. الثالث: خلاف الذل؛ قال: (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً) وقوله: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) وقوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ومعنى ذلك يرجع إلى العظمة. الرابع: الحمية؛ قال الله: (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي: إذا أمرته بالتقوى أخذته الحمية من الائتمار لك فأثم، ومثله: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ

وَشِقَاقٍ) أي: في حمية يشاقونك معها؛ أي: يباعدونك، وقيل: المعنى أخذته العزة بالإثم الذي في قلبه؛ فأقام الباء مقام اللام، كما قال غيره: حَشَرَ الإمَالةُ جوانبَ قَمْقَم أي: من أجله؛ فأقام حرفا مقام حرف. الخامس: الغلظة؛ قال الله: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) أي: غلظا. السادس: العزيز بمعنى الشديد؛ قال اللَّه: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) وقوله: (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي: شديد يشق فعله عليه. السابع: التقوية؛ قال: (فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) أي: قوينا، واستعز الشيء إذا قوي واشتد.

العبادة

العبادة أصل العبادة التذلل، يقال؛ طريق مُعَبَّد؛ أي: موطوء مذلل، [وبعيرٌ مُعَبَّدٌ] وهو [الْمَهْنُوءٌ بالقَطِران]، ومعناه راجع إلى الأول. والعبادة مفارقة لدوام الطاعة؛ لأنا نديم الطاعة للرسول ولسنا نعبده، والعبادة غاية الخضوع ولا تستحق إلا بغاية الإنعام، ولا يقدر على ذلك إلا اللَّه تعالى، ويقال: هؤلاء عباد الله، ولا يقال: عباد فلان إلا في القليل. وقد جاء في القرآن: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) وإنما جاء كذلك لأنه وقع مع إمائكم فازدوج، ويقال: عبيد اللَّه، وعباد الله أكثر، وقال بعضهم: العباد جمع عبيد. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: التوحيد، قال اللَّه: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي: وحدوه، وقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وقوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ) كذا قيل، ويجوز أن تكون العبادة هاهنا أداء الفرائض واجتناب المحارم. الثاني: الطاعة؛ قال الله: (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) أي: يطيعون الشياطين، وقال: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) وهم لم يعبدوا الشيطان، وإنما هو كما تقول؛ فلان يعبد فلانا إذا كان شديد الطاعة له، وما كان أيضا قصدهم طاعته؛ ولكن لما وافق أفعالهم رضاه سماها طاعة له؛ لأن الطاعة توفيق رضا المطاع.

الثالث: السجود للأصنام وهي وإن سمتها العرب عبادة فليست بعبادة، وهي على حسب ما سمت العرب ربًّا وإلها وليس هو على الحقيقة، وقال: (مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ). وقال: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) فإن قيل: ما معنى قوله: (مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ)، وليس في الآخرة كذب، قلنا: معناه إنا لم نكن نستحق العبادة.؛ فلم تكن عبادتهم على الحقيقة عبادة لنا، كما تقول: لصاحبك ليس هذا القول قولك، وإن كان قاله بمعنى أنه لا يليق بك، وبمعنى أنك دون ما يقوله أيضا، وقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أضافهم إلى الله، إضافة الخصوصية، لأن الخلق كلهم عباده. والإضافة على خمسة أوجه: إضافة الخصوصية، وهي مثل هذا، ومثل قوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ). وإضافة النسب؛ وهي قولك: ابن فلان، وبنت فلان. وإضافة السبب؛ وهو قوله: فلان شريك فلان وصديقه. وإضاقة التعريف؛ وهو سرج الدابة، ولجام الفرس، وقميص الرجل. ولإضاقة الملك؛ مثل: دار زيد، وصنعة عمرو.

العدوان

العدوان قد ذكر أصل هذا الحرف، وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى العذاب؛ قال اللَّه تعالى: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي: من انتهى منهم عن الكفر فلا عذاب عليه؛ إنما هو على من ظلم نفسه بإقامته على الكفر، وسُمِّي العذاب عدوانا لأنه مقابلة بالعدوان، كما قال الشاعر: جزينَا ذَوِي العُدْوَان بِالأمس مثله ... قَصَاصا سوَاء جزوكَ النعل بالنِعَلِ ويجوز أن يكون سُمي عذاب الآخرة عدوانا لمجاوزته حد العذاب المعهود. الثاني: الظلم؛ قال الله: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وقال: (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). والإثم في هذه المواضع يجوز أن يكون مثل العدوان مثل الإثم وإنَّمَا ذكر للتوكيد، كما تقول: الغشم والظلم هذا قول. وقول آخر: وهو أن الإثم يقتضي أنه يتتبع عليه، وأصله في العربية التقصير. والعدوان يقتضي مجاوزة الحد؛ فعطف أحدهما على الآخر مخالفة ما يقتضيه كل واحد منهما ولو كانا في المعنى سواء لم يجز عطف أحدهما على الآخر، كما لا يجوز عطف زيد على أبي عبد الله إذا كان هو هو.

الثالث قوله تعالى: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ). أي: لا اعتلال ولا حجة عليَّ، ويجوز أن يكون بمعنى إلي إذا قضيت ذلك لا أظلم فأكلف غيره.

العفو

العفو أصله الترك، وعفا المنزل؛ ترك حتى درس، وقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي: ترك له الدم وصولح على الدية من أخيه، يعني: من ولي الدم ولم يرد القاتل،: شيء يعني: به الدم؛ فعبر بشيء وهو. نكرة عن كل معرفة؛ والعرب تكني بشيء عن كل معرفة لأنها على كل حال شىء، وأنشد: لَعَمركَ لو شيءُ أتانا رسولُه ... سِواك ولكن لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا والاتباع: المطالبة بما صولح عليه القاتل من الدية؛ أي: فيطالب ولي المقتول بذلك في رفق؛: (وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) أي: وليود الجاني ما يود به من الدية أداء حسنا من غير مطل ولا تأخير،: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني: إجازته أخذ الدية وترك الدم؛ فمن رضى بالدية ثم قتل فله عذاب أليم. وقد أجمع المسلمون أن الدية إذا وجبت على قاتل العمد كانت من ماله دون مال العاقلة، وكانت حالة لا يجوز تأخيرها -، وأن دية الخطأ على العاقلة ويلزمهم أداؤها في ثلاث سنين؛ في كل سنة ثلث وعفا الله عنك ترك معاقبتك، واستعمال الترك في الله مجاز. والعفا: التراب؛ لأنه متروك لوجوده بكل مكان ليس هو مما يؤخذ ويدخر، ثم اشتق منه الكثرة، فقيل: عفا الشيء؛ إذا كثر كأنَّه صار كالتراب بكثرة، ثم اشتق منه الكثرة حتى عفوا، وعفاه يعفو إذا قصده وسأله، ويجوز أن يكون معناه أنه أتاه تاركا لغيره. والعفو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الفضل من المال؛ قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) يعني: الفضل والبر، وذلك أنهم حضوا على الإنفاق. في قوله: (أنفِقُوا

مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) وقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) فسألوا عن القدر الذي تنفقون، فقال: ما يفضل عنكمْ ويسهل عليكم إنفاقه تنفقونه؛ وهو قليل لتنالوا به الكثير من الثواب. الثاني: الترك؛ وهو قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) أي إلا أن [يتركن لكم ما يجب] لهن من [نصف] الصداق أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح يعني: الزوج، وعفوه أن يعطي المهر كاملا وليس هو الولي؛ لأنه ليس للولي أن يترك من مهر المرأة شيئا، ومثله قوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) وقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ). الثالث: العفو عن الذنب؛ قال الله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وفي هذا دليل على أن الأنبياء يذنبون؛ لأنه إذا لم يكن ذنب لم يكن عفو ولكن ذنوبهم صغائر (¬1). ¬

_ (¬1) الراجح عند المحققين أن العتاب كان على ترك الأولى. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

العدل

العدل ْأصل العدل؛ الاستقامة، عدل الرجل إذا استقام حكمه ولم يمل، وقيل: العدلان لأن كل واحد منهما يستقيم بالآخر، والعدل المثل، كأن المثلين يستقيمان في الشبه أو الصفة، والعدل لا يستعمل إلا في المدح؛ لأن رجلا لو سوى بين رجلين في الظلم، لم يقال: إنه عدل أو هو عادل، وإذا قسم رئيس القوم السرقة بينهم بالتسوبة لم يقل إنه عدل؛ وسُمِّي اللَّه عدلا من أجل أن أفعاله تقع على طريقة مستقيمة، والعدل: الفدية يرجع إلى هذا. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: المثل؛ قال الله: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) أي: مثله، قالوا: والعدل أيضا المثل، ويجوز أن يكون سمي الحدلان عدلين؛ لأنهما مثلان، والعدل والعدل: المثل من الجنس، ومن غير الجنس، كما أن المثل هو من الجنس وغير الجنس وليس العديل مثل ذلك؛ لأن العدل أعم من العديل، وما كان أعم فإنه أخص بالنكرة فهو للجنس وغير الجنس، تقول: عمرو عدل زيد وعديله، وعمرو عدل الأسد، ولا يقال: عديل الأسد. الثاني: الفدية؛ قال الله: (وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) أي: فدية؛ وهو ما يكون بدل الشيء. الثالث: خلاف الجور؛ قال اللَّه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) والإحسان داخل في العدل، والعدل داخل في الإحسان، ومع هذا فإن

الفرق بينهما معروف، وقد يعطف الشيء على الشيء وإن كانا يرجعان إلى شيء واحد إذا كان في أحدهما خلاف للآخر، فأما إذا أريد بالثاني ما أريد بالأول فعطف أحدهما على الآخر خطأ، لا تقول: جاءني زيد وأبو عبد الله إذا كان زيد هو أبا عبد الله، ولكن مثل قوله: أمرتك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْتَ به ... فقد تَرَكْتُك ذا مالٍ وذا نَشَبِ لأن المال إذا لم يفد فإنما يعني: به الماشية أو الصامت والنشب: ما نشب من العقارات، وكذلك قول الحطيئة: وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبعدُ فالنَّأْيُ يكون لما ذهب عنك إلى حيث بلغ، وأدنى ذلك يقال له نائي، والبعد تحقيق الخروج والذهاب إلى الموضع السحيق، والتقدير؛ إني من دونها النائي الذي هو أول البعد، والبعد الذي هو الغاية.

العهد

العهد العهد: وجدانك الشيء، ومنه قيل: عهدته عهدا، والعهد: اليمين، ومنه: عليه عهد الله، والعهد الوصية، من قولهم: عهد إليه، والعهد المطر، والعهد: الأمر والوصية في قوله تعالى: (عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ) ومنه سمي عهد الأمير؛ لأنه يؤمر فيه بما يعمل به، والعهد: الضمان الذي يوجبه الضامن على نفسه، والعهد: المودة، وقيل: ليس لفلان عهد؛ أي: مودة، ويجوز أن يكون العهد هاهنا الحفاظ، والعهد المنزل، قال الراجز: هَل يُعرَفُ العهد المُحِيل أرسمه والعهد: الكتاب يكتب بين قوم، وتعهدت صنعتي: تفقدتها، والعهد: الحفاط في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حسن العهد من الإيمان وأصل الكلمة من الثبات ". وهو في القرآن على خمسة أوجه: الأول: الأمان؛ قال الله: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) وذلك أن الله تعالى أمره نبذ العهد إلى من عرف منه الغدر، في قوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) ويجوز أن يقال: إنه كان شارطهم أن يقرهم ما أقرهم الله؛ فلما أمره بقطع العهد قطعه ثم استثنى قوما ثبتوا على العهد، فقال:

(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إلى أن قال: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ). قال ابن عبَّاس: هم بنوا ضمرة من كنانة، والملة تسعة أشهر، وكان أمر عليًّا؛ فنادى من كان بينه وبين رسول الله عهد فأحله إلى أربعة أشهر، فقيل: العهد مرفوع للأمان من القتال على غرة؛ فإذا أعلمهم رفعه فهو جائز، وسواء خاف غدرهم أو لم يخف، وليس ذلك غدرا، وإنما الغدر أن يأتيهم بعد الأمان وهم غازون؛ ولذلك قال الكوفيون: يجوز للإمام أن يهادن العدو إذا لم يكن بالمسلمين قوة على قتالهم؛ فإن قووا بعد ذلك كان لهم أن ينبذ إليهم ويقاتلهم. الثاني: اليمين؛ قال اللَّه تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) والشاهد قوله تعالى: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا). الثالث: الأمانة والنبوة؛. قال الله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). الرابع: الوصية؛ قال اللَّه: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ) وقوله: (عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) وقد تقدم. الخامس: الضمان؛ قال الله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي: أوفوا بما ضمنتم لي من الإيمان، أوف لكم بما ضمنت لكم من الثواب.

العرض

العرض أصله الظهور، ومنه عرضت عليه الشيء؛ إذا أظهرته له، والمعرض ما تعرض فيه الجارية؛ أي: تظهر، ولفلان عارضة جيدة، والعراضة: العطية ترجع إلى ذلك، وأعرض الرجل عن الرجل: ولاه عرضه؛ أي؛ جانبه وأعرض له أمكنة من عرضه، والعرض خلاف الطول، وإذا استعمل العرض فيما لا يكون عريضا على الحقيقة؛ فإنما يراد به التمام، مثل قول الشاعر: فِي المَجدِ صَارَ إِلَيكَ العَرضُ وَالطولُ أي صار إليك المجد بتمامه، وقوله: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ). أي: تام، والعرض: ما يظهر من منافع الدنيا، والعرض ما يحل في الجسم ولا يقوم بنفسه وليس له بقاء الجواهر. واشتق له هذا الاسم من عارض السحاب وهو جسم؛ فسموا به ما ليس بجسم لما اجتمعا في قلة اللبث، ومثال هذه التسمية تسمية الملك ملكا، وإن لم يكن رسولا على أن أصله هذا الاسم من الألوكة؛ وهي الرسالة، ولو كان العرض عرضا لأنه ليس بجسم وَلا جوهر لكان الله عرضا؛ لأنه ليس بجسم ولا جوهر، وقولهم: عرض في كلامه، معناه أنه ذهب فيه عرضا ولم يستقم فيه، والتعريض: هو ترك الإفصاح، يقال: عرض في الجبل إذا أخذ يمينا وشمالا ولم يستقم في مصعده. والعرض في القرآن على خمسة أوجه: الأول: بمعنى الكثرة؛ قال تعالى: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) أي: كثير:، ولم يقل: طويل؛ لأن العرض أدل على الطول والتمام.

ْالثاني: التهيئة، قال: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا) أي: فهيأناها لهم، ويجوز أن يكون المراد إنا أظهرناها لهم. الثالث: بمعنى الجمع؛ قال اللَّه: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا) أي: جمعوا للحساب بحيث أمر اللَّه، وقيل: معناه أنهم ظاهرون للَّه يرى أحدهم كما يرى جماعتهم. وأصل العرض الظهور على ما ذكرنا، وليس المعنى أنهم كانوا مستورين عن الله فظهروا له، ولكن المعنى أنهم ظهروا من قبورهم لأمر الله؛ فعبر عن هذا المعنى بلفظ العرض عليه لما في ذلك من التفخيم لشأن الحساب والوقوف في مواقفه؛ وهو من قول الناس: عرض فلان على الأمير. الرابع: قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) وهو لفظ مجاز والكلام فيه كثير، وتلخيص معناه عندي؛ إنا لو جعلنا هذه الأشياء بمنزلة من تكلف، ثم كلفناها لإطاعتنا وكلفنا الإنسان فعصانا. والأمانة هاهنا الطاعة، والإنسان العاصي من الناس خاصة:، وقال الحسَن: يعني: إن الكافر والمنافق حملا الأمانة فخانا، وتصديق ذلك قوله: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ). الخامس: السعة؛ قال: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي -: سعتها كسعتها.

العين

العين أصلها عين الحيوان، ثم كثر الاستعمال بها حتى تصرفت على خمسين وجها أفردتها في كتاب. وهي في القرآن على وجهين: الأول: عين الإنسان؛ وهو قوله تعالى: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) وذكر تعالى أنه حكم بهذا الحكم على من قبلنا، وشرائع من قبل ثابتة علينا إلى أن يرد

نسخها؛ والشاهد قوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فدل على ثبوت الحكم في وقت نزول هذه الآية من وجهين: أحدهما: أنه ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين نبي من الأزمان. والثاني: أنه معلوم أنهم استحقوا سمة الظلم والفسوق عند نزول هذه الآية بتركهم الحكم بها، وقوله: (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) عند أصحابنا معناه؛ أن العين إذا ضربت فذهب ضوئها.

والقصاص في ذلك أن تحمي مرآة وتدنى إلى العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوئها، وليس هو أن تقلع العين، وليس في قلع العين عندهم قصاص؛ لأن استيفاء القصاص في ذلك غير ممكن؛ إذ لا يوقف على الحد الذى يجب أن يقلع منه، وكذلك كل ما لا يوقف على ذلك منه. الثاني: العين بمعنى الحفظ؛ وهو قوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) أي: لتربى وأنا حافظ لك، وذلك أن من له بالشيء عناية تجعله نصب عينه ناظرا إليه؛ فاستعير ذلك في شدة الحفظ لما فيه من الدلالة على صدق العناية، ومنه قوله تعالى: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) أي: تجري [بمرأى منَّا وحفظ] (¬1)، ومنه قول امرئ القيس: وَبَاتَ بِعَيْنيَ قَائِماً غَيْرَ مُرْسَلِ ¬

_ (¬1) في الكتاب المطبوع هكذا [من أمنا وحفظ] ولعل الصوب ما أثبتناه. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

الباب التاسع عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله غين

الباب التاسع عشر فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله غين الغي أصله الفساد، يقال: غوى الرجل؛ إذا فسد طريقته في الدين، ورجل غاو وغوي؛ إذا فسد عيشه وأمره أيضا، وغوى الفصيل إذا بَشِمَ من كثرة شرب اللبن، وقيل أيضا ذلك له إذا لم يزو من لبن أمه فمات هزلا، فقيل في الرجل غوى وفي الفصيل غوى والأصل واحد. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه:

الأول: فساد العيش؛ قال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) أي: فسد عيشه في الجنة، أخبرنا بذلك أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد رحمه الله، عن أبي عمر الزاهد، عن ثعلب، وأصل الغي الفساد على ما ذكرنا؛ فإن قيل: أنتم تزعمون أن صاحب الصغيرة لا يقال إنه عاص قولا مطلقا، وقد قال الله ذلك لآدم، وكذلك وصفه إياه بأنه غوى؟ قلنا: إنما قال ذلك مضمنا بالقصة التي عصى فيها، فكان ذلك كالتقييد، فكأنه قال: [إنه عصى في كذا وأخرى]؛ فإن اليد يطلق في عبده إذا عصاه ما لا يجوز أن يطلقه فيه غيره. الثاني: فساد الطريقة في الدين؛ قال تعالى: (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ). الثالث: العذاب؛ قال: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي: عذابا؛ وإنما سُمي العذاب غيا لأنه مجادلة على الغي، وقيل: غي وادٍ في جهنم.

الغيب

الغيب أصل الغيب الستر، وغيبت الشيء في التراب؛ إذا سترته فيه، والغيب: ما استتر عنك، وأصله ما سترك من قولك: نحن في غيب هذا الوادي؛ أي: حيث يستتر به، وكل ما ستر شيئا فهو غيابة، ومنه غيابة الجب. والغيب في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الخلوة؛ قال اللَّه: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يعني: أنهم يخلصون العمل في خلواتهم خلاف المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطون، وقيل:

هو البعث، والأول أجود، عندى؛ لأن البعث ليس بغيب مع شهرة أمره ومع ما يدل عليه من العقل والسمع. الثاني: ما غاب عن الأبصار؛ قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي: ما غاب وما حضر. الثالث: الوحي؛ قال اللَّه: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (¬1). أي: ما هو على الوحي بمتهم، والظنين المظنون، وظننت في هذا يتعدى إلى مفعول واحد، ظننته أي: اتهمته. ¬

_ (¬1) هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي.

الباب العشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله فاء

الباب العشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله فاء الفساد قد تقدم من قولنا فيه ما يكفي، وهو في القرآن على خمسة أوجه: الأول: الميل مع الكفار؛ قال الله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) وذلك أن المنافقين كانوا يمالون الكفار فيجترئون على المسلمين ويطمعون في النيل منهم والغلبة عليهم، ويسرعون إلى محاربتهم؛ وفي ذلك الفساد في الأرض؛ لأن الحرب مفسدة للمال ومهلكة للنفس. الثاني: الهلاك؛ قال الله: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) والدليل على أنه أراد الهلاك قوله: (وَمَنْ فِيهِنَّ) قال بعض المفسرين: الحق هو الله تعالى؛ أي: لو اتبع الله أهوائهم. وقيل: هو القرآن؛ أي: لولا أنزل القرآن بما يريدون، وليس يصح تفسيرا [لأنه على هذه الآية على هذين الوجهين] (¬1). والصواب ما قال أبو علي - رضي الله عنه -: وهو أنه لو صح ما يدين به الكفار من جعلهم الأصنام آلهة مع اللَّه لتفاوتت أفعالهم، ولتمانعوا ففسدت السماوات والأرض ومن فيهن من الملائكة والإنس والجن، وهذا مثل قوله: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) ومعنى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) ¬

_ (¬1) عبارة غير مفهومة. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

أنه لو وافق الحق أهوائهم ولعبادة هذه الأصنام؛ فجعل موافقة الحق أهوائهم اتباعا من الحق لهواهم على سبيل المجاز، وقال: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) أي: [لهلكتا ولم تقوما]، ومن هذه الآية أخذ المتكلمون دليل التمانع، ومن قوله: (وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ). الثالث: القحط، قال اللَّه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي: قد كسبوا الذنوب فعجل لهم العقوبة بالقحط، ودليل ذلك قوله؛ (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي: لكي يتذكروا فيتوبوا، (ولعلا هاهنا) بمعنى لام كي، وفي هذا دليل على أن بعض ما يحمل اللَّه العبد من المكاره تنبيه وبعضه عقوبة. الرابع: ضد الصلاح؛ قال: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) وقال تعالى: (إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) وقال: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا). الخامس: قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) يعني: السحرة، وقال بعضهم: الفساد في قوله: (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ). القتل، وكذلك في قوله: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ولا أعرف صحة ذلك، وعندنا أن الفساد في هذا الموضع ضد الصلاح والقتل داخل في ذلك.

الفرقان

الفرقان الفرقان مصدر، مثل: السكران، والكفران، والعدوان، ثم جعل اسما للقرآن، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وفرقت بين الحق والباطل، وبين الحسَن والقبيح بالتخفيف، وفرقت بين الشخصين بالتشديد. وأصل الكلمة البعد، ومنه قيل: لتباعد ما بين اثنيين، وتباعد ما بين الفخذين فرق. ورجل أفرق وامرأة فرقاء، ومنه الفرقة بين الحينين، والعرب تقول: أسرع من فريق الخيل يعنون السابق؛ لأنه يفارق جماعتها، والفريق من الناس الجماعة [المفارقة لغيرها]. والفرقان في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: النصرة؛ قال الله (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) جاء في التفسير أنه أراد النصرة على أعدانه، وذلك أنه نصره على أعدائه إذ أبعدهم الله بالإهلاك، ومثله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ) أي: يوم نصرناه؛ يعني: يوم بدر هكذا جاء في التفسير. ويحتمل أن يكون معنى الفرقان هاهنا؛ الفرق بين الحق والباطل؛ لأن الحق والباطل قد فرق بينهما يوم بدر بأن علا هذا أو سفل ذا، وقيل: جعله يوم الفرقان؛ لأنه فرق فيه بين المؤمنين والكافرين، قال الله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ) أي: إن كنتم صدَّقتم باللَّه وبما أنزلنا على عبدنا يوم بدر من هذا الحكم، وهو أن [خمس] الذي تغنمونه هو لله يجعله في الوجه الذى يريد. والوجه الذي يريد أن يجعله فيه؛ هو أن يكون للرسول والفقراء من بني هاشم وبني المطلب، وجعل ذلك لهم بدلا من الصدقات المحرمة عليهم، والفقراء واليتامى، والمنقطع به من المسافرين؛ وهو ابن السبيل، فجرى الأمر على ذلك حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

ثم اجتمع الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - على أن يجعل بينهم الرسول في السلاح والكراع، ويصرف الباقي إلى من سمي له في الآية، وقيل: (آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) أي: الكتاب الذي فيه الفرقان، وقيل: معناه إنا آتينا موسى الكتاب وهو التوراة، ومحمدا الفرقان؛ فاكتفى بذكر الفرقان عن ذكر محمد؛ لأنه معلوم أن الفرقان نزل عليهم. وقال بعضهم: الكتاب التوراة، والفرقان؛ انفراق البحر، وقال آخر: الفرقان؛ بيان الحلال والحرام الذي في التوراة، وقيل: الفرقان الموضع الذي فرق فيه بين موسى وبين فرعون، كما سمي يوم بدر الفرقان. الثاني: البينة في الدين؛ قال تعالى: (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) يعني: البينة في الدين وإخراجا من الشبهة والضلالة، وقال: (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا). الثالث: القرآن؛ قال الله تعالى (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) وقال: (أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) يعني: القرآن.

الفرض

الفرض أصل الفرض من التأثير، ومنه الفرض في العود وهو الحرفية، وفرضة النهر ترجع إلى ذلك، وهو في الشريعة بمعنى الإلزام، وهو قوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي: ألزم نفسه. وفرض اللَّه على الناس الفريضة؛ أي: ألزمهم القيام بها، والفرق بين الفرض والواجب في اللغة؛ أن الفرض الذي له تأثير وأصله من الجزء، وليس للواجب تأثير لأنه من السقوط، يقال: وجب الحائط؛ إذا سقط، وفي القرآن: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) أي: سقطت، وللفرض في مكانه تأثير، - وليس للواجب في مكانه تأثير. فمن يجعل الفرض أوكد من الواجب يذهب إلى هذا المعنى، وقوم يجعلونهما سواء لأن قولك أوجبت وفرضت؛ بمعنى ألزمت، والفرق بينهما عند بعض الفقهاء بين أيضا، وذلك أن سجدة التلاوة عنده واجبة وليس بفرض، وكذلك الوتر، والفرض أيضا لا يكون من الله، والواجب يكون منه ومن العبد، تقول: أوجب السلطان على رعيته كذا، ولا يقال: فرض.

فأما قولهم: فرض القاضي عليه فإن معناه؛ أوجب عليه ما فرض الله؛ لأن القاضي لا يفرض في الحقيقة، فأمَّا قوله تعالى (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) فهو بمعنى ألزم، فوضع حرفا مكان حرف لتقاربهما في المعنى، وكذلك فرض القاضي. والفرض في القرآن على خمسة أوجه: الأول: الإلزام؛ قال اللَّه: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ)، وقال: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ) يعني: المهور، وأن لا يتجاوز الرجل تزوج أربع نسوة، وقيل: الفرض هاهنا الإباحة؛ أي: أبحنا لهم تزوج أربع نسوة وما ملكت أيمانهم؛ أي: وإن اتخذوا من الإماء والسراري ما يريدون، وقال في آية الصدقات بعد أن عدد أهلها: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) وقيل: للصلاة المكتوبة فرضفة ولسهام الميراث فرض لذلك. الثاني: بمعنى التبيين؛ قال الله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) أي: بين لكم كيف تكَفِّرون عن أيمانكم إذا حلفتم، ومثله قوله تعالى: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) أي: بيناها وفصلناها، وقيل: معنى: (فَرَضْنَاهَا) التخفيف؛ إنا أنزلنا العمل بما فرض فيها، ومن شدد وأراد التكثير، أي: فرضنا فيها فروضا. الثالث: فرض بمعنى أحل؛ قال اللَّه: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) يعني: فيما أحل له، ويجوز أن يكون معناه أنه أوجب عليك العمل به. الرابع: بمعنى أنزل، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي: أنزل، ويجوز أن يكون معناه أنه أوجب عليك العمل به. الخامس: الفريضة بعينها وهي الخصلة يلزم فعلها، قال تعالى: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) والفريضة المهر أصله قوله: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً).

والمراد أن من تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها من غير أن يدخل بها؛ فالواجب لها عليه أن يمتعها على قدر حاله في الغنى والفقر. قال الكوفيون: أول المتعة ثلاثة أبواب؛ إلا أن يكون ذلك أكثر من نصف مهر مثلها، والتمتيع في هذه الآية التزويد، وفي غيرها التلذذ، ومنه نكاح المتعة، وقال ابن أبي ليلى، وأبو على: المتعة ليست بواجبة. وقوله تعالى: (مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يدل على خلاف ما قالا؛ لأنه جعل المتعة في شرط التقوى، وقال: (حَقًّا) وليس في الإيجاب أوكد من هذا، وعلى كل واحد أن يكون من المتقين؛ فإن قيل: إنما خص المتقين بالذكر لأنها غير واجبة، قلنا: الظاهر يقتضي وجوبها على المتقين، وإذا وجبت عليهم وجبت على غيرهم، لأن أحدا لا يفرق بين المتقي وغير المتقي في الفروض، ولا يجوز أن يكون ندبا؛ لأن الندب لا يختلف فيه المتقي وغيره.

الفاحشة

الفاحشة أصلها المبالغة في القبح، ومنه قيل: أفحش الرجل، وفحش في الكلام إذا أقذع، والاسم الفحش، وربما جعل الفحشاء الفجور. والفاحشة في القرآن على أربعة أوجه: الأول: ما حرم أهل الشرك في الجاهلية؛ قال: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا) يعني: سنن الغي التي سنها لهم آباوهم من البحيرة والسائبة وما يجري مجراها. الثاني: الزنا؛ قال: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) وقال: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) يعني: الزنا، وقوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) أراد الزنا، وذلك أن العرب كانت تحل الزنا باطنا وتحرمه ظاهرا؛ فأخبر الله أن جميعه حرام، وقد مر ذلك قبل. الثالث: إتيان الرجال في أدبارهم؛ قال: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ). الرابع: على قول بعض أهل التفسير: النشوز؛ قال اللَّه: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال: هي النشوز، وعندنا أنه الزنا وما يجري مجراه من قبح المعاصي؛ لأنه لا تكاد العرب تسمي بالفاحشة إلا كل ذنب شديد القبح لازم العار، وليس النشوز مما يجري عليه اسم الفاحشة، وقيل: خروجها قبل انقضاء العدة

فاحشة، وقِيل: هو أن تتبدى على أهله فيحل لهم إخراجها قبل انقضاء العدة، وذلك فاحشة منها، وقيل: أن تزني فتخرج للحد أو فتاتي بمعصية كبيرة لا يحل مقاربتها معها فتخرج. والفاحشة والفحشاء سواء، والشاهد قوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا) إلى أن قال: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) ولا يقال في تذكير الفحشاء: أفحش، ونحوه ديمة هطلاء، ولا يقال: ومطر أهطل. وقيل: الاستثناء في هذه الآية من العضل؛ أي: من أتت منهن بفاحشة مبينة، وهو الزنا فلكم حبسها على ما فرض قبل نزول الحد. وقيل: الاستثناء من الذهاب ببعض ما آتوهن ومن العضل جميعا، ومعروف أنه لم يصح ظلمهن؛ بقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ولكن عنى ما يدخل عليها الزوج من المساءة والأذى بالحق والعدل إذا أرادت الخلع؛ وهو أن يأخذ منها بعض ما آتاها على الخلع والمباراة؛ لأن الظلم حينئذ جاء من قبلها، والعضل هو الحبس والضيق.

الفرار

الفرار أصله من الخفة والسرعة، ومنه قيل: رجل فرفار إذا كان خفيفا كثير الكلام، والفرفار: شجر يتخذ منه القصاع خفيف الوزن، والفرير والفرار ولد البقرة الوحشية سمي بذلك لخفته وسرعته، وفررت الدابة؛ إذا فتحت فاه لتعرف سنه؛ لأنك إذا فتحت فاه وقفت على سنه بسرعة من غير تعذر. والفرار في القرآن على خمسة أوجه: الأول: التوبة؛ قال اللَّه: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) أي: توبوا إليه ولا تعدلوا عن سبيله، وإنما عبر عن هذا المعنى بالفرار، لأن من يفر إلى الإسلام لا يعرج إلى غيره. الثاني: الهرب؛ قال الله: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ). الثالث: الكراهة؛ قال: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) أي: تكرهونه. الرابع: ترك التعرج؛ قال الله. (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) أي: لشغله بنفسه لا يعرج على أخيه. الخامس: التباعد؛ قال اللَّه: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) أي: تباعدا مني ومما أدعوهم إليه.

في

في موضوعة في العربية الأوعية، تقول: زيد في الييت، والمال في الكيس، وإنما يراد أن ْالبيت قد حواه، وك الكيس قد اشتمل عليه، ثم اتسع القول فيه، فقيل: فلان ينظر في العلم؛ فجعلوا العلم بمنزلة متضمن، كما قيل: دخل عمرو في العلم وفي الصلاة، وقالوا في يد فلان الضيعة؛ وإنَّمَا قيل هذا لأن ما أحاط به علمه بمنزلة ما أحاطت به يده. وهو في القرآن على خمسة أوجه: الأول: بمعنى مع؛ قال تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) وقال: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ). وقال: (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) هذا قول بعض المفسرين. وآخرون يقولون: إن قوله: (فِي أمَمٍ) أي: في جملة أمم وفي جملة عبادك، هكذا جميع ما تقدم، ومثله: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ) قال: مع تسع، وقيل: في من صلة قوله: (وَأَلْقِ عَصَاكَ): (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) والتأويل: وأظهر هاتين الأيتين في تسع آيات؛ والمعنى من تسع آيات. وعندنا أن قوله: (فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ) إخبار بأنه يفعل بأهل الجنة هذا الفعل، وهؤلاء المذكورون فى جملتهم، كما تقول: أحبك وأكرمك فى أهل السمع والطاعة، وكذلك قوله: (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ). الثاني: بمعنى على؛ قال الله: (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) وجاز أن يقع في هاهنا، لأنه يكون في الجذع على جهة الطول، والجذع مشتمل عليه فقد صار فيه، وقال الشاعر: هُمُ صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فَلا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إلاَّ بأَجْدَعا

الثالث: على قول بعض المفسرين بمعنى إلى، قال: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) قال: أراد أرض المدينة، و: (فيهَا) بمعنى إليها، ويجوز أن يكون المعنى فسيروا فيها مهاجرين لمن يريد إيذائكم في الدين حتى تصلوا إلى حيث تتمكنون من عبادة ربكم. الرابع: بمعنى من؛ وهو في قوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) أي: من كل أمة، كذا قيل: وإذا بعثه شهد عليهم فينبغي أن تكون فيما بينهم ومخالطا لهم، وإذا كان كذلك فإنه فيهم؛ أي: في جماعتهم. الخامس: فينا بمعنى لنا؛ قال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) ذكروا أنه أراد عملوا لنا، وقد تقدم هنا قبل، ويجوز أن يكون فينا أي: من أجلنا؛ يريد عن أجل ديننا وأوليائنا، كما تقول: أنا أوالي فيك وأعادي فيك؛ أي: من أجلك.

الفتح

الفتح أصله الكشف والتبيين، يقال: فتح لي فلان القول في هذا الباب؛ أي: بين، والفتوح الأمطار؛ لأنها تكشف القحط، والفتح: الحكم، والفاتح الحاكم؛ قال: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) وفتح الباب وفتح البلد يكون بحرب وبغير حرب، وإنما الفتح للظفر بالمكان؛ فإذا ظفر به فقد فتحه حارب عليه أو لم يحارب. وهو في القرآن على ثمانية أوجه: الأول: القضاء، قال اللَّه: (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا) وقال: (افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) وقال: (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ) أي: يوم القضاء، وهو دعاء لإنزال العذاب بهم لأن ذلك حق؛ فكأنهم قالوا: أنزل بهم ذلك ليفصل بيننا وبينهم، والقضاء والحكم إنما هو للفصل، ويجوز أن يكون المعنى أن اكشف أمرنا حتى ينفتح ويظهر أن الحق معنا. الثاني: الهداية إلى الإسلام؛ قال: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) وقيل عني: فتح الحديبية، والحديبية بئر فسمي المكان بها، وقيل: هو فتح مكة وليس ذلك بالوجه؛ لقوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) وذلك

أنه لا يحسن أن يقول: فتحت لك هذا المكان لأغفر لك ذنبك، وقيل: إنه فتح له الحجج والإبانة فتحا بينا إن الذي تدعوا إليه الحق، وقيل: الفتح المبين؛ الهداية إلى الإسلام؛ وهذا هو الوجه. الثالث: التخصيص؛ قال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) يعني: ما يخصهم به من رزق. الرابع: التخلية؛ قال اللَّه: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ). الخامس: البعث؛ قال اللَّه: (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ) أي: بعثنا عليهم عذابا، ولما ذكر الباب ذكر الفتح، قال أبو علي - رحمه الله -: أراد عذاب الآخرة؛ أي: حتى أدخلناهم جهنم إذا هم مبلسون؛ أي: آيسون والإبلاس اليأس. السادس: فتح الباب؛ قال الله: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) والتشديد للتكثير، يقال: أبواب مفتَّحة، ولا يقال: مفتوحة في الأكثر، وروى لنا أبو أحمد؛ أنه لما قال الفرزدق: ما زِلتُ أفتحُ أبوابًا وأغلِقُها عابه الناس، وقالوا؛ يقال في التكثير: فتحت وغلقت، وغيره من أهل العربية قال: فعلت في التكثير والتقليل، وفعلت بالتشديد لا يكون إلا في التكثير إلا في أحرف منها كلمته. السابع: النصر؛ قال تعالى: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ). الثامن: الظفر بالمكان؛ قال: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) يقول: يفتح لكم ما توجهتم اليد إليه من البلدان وذلك قريب، وقال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قال بعضهم؛ يعني: فتح مكة وكان فتح مكة سنة ثمان، ونزلت هذه سنة عشر بعد حجة الوداع، وقيل: المراد أنه يفتح لك الأمم والبلدان.

فوق

فوق أصله من العلو، يقال: فاق الشيء غيره؛ إذا علاه، وهو فائق. وله في القرآن ثمانية مواضع: الأول: بمعنى دون؛ قال بعض المفسرين: (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) قالوا: فما دونها؛ كأنَّه قال: فما فوقها في الصغر. وقال المبرد: (فَمَا فَوْقَهَا)، أي: فما يتجاوزها؛ فحق هذا أن ينظر إلى الغاية المطلوبة فيجعل فوق من ناحيتها. فإذا قيل: فلان فوق فلان في اللوم؛ فمعناه أنه يتجاوزه فيه، فالمطلوب هاهنا الصغير؛ وكأنه قال: بعوضة فما يتجاوزها صغرا.

وقال قطرب: بل معناه أكبر منها؛ وهو الذباب وما يجري مجراه، ولا يقال: هذا حمار وفوق الحمار، أو نملة فوق النملة؛ بمعنى أصغر من ذلك، وإنما يكون ذلك في الصفات، يقال: هذا صغير وفوق الصغير. ورد آخرون ذلك، وقالوا: قد يقال: هو حمار وفوق الحمار، كما يقال: هو ضغير وفوق الصغير ليس بين الصفة والاسم في هذا فرق. الثاني: بمعنى أفضل؛ قال تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) والمعنى ما يفعل الله بهم من الخير ويعطيهم من الثواب أفضل مما بذلوه من البيعة يوم الحديبية. وقيل: يد اللَّه في الوفاء فوق أيديهم، وقيل: يد اللَّه في المنة عليهم حين هداهم فوق أيديهم، وتلخيص هذا أن نعمة الله عليهم فيما هداهم له من الإيمان فوق إجابتهم الرسول وطاعتهم له واليد النعمة. وقال الضحاك: يد الله عليكم في الثواب فوق أيديكم في النصر. الثالث: بمعنى أكثر؛ قال الله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ). الرابع: أرفع في المنزلة؛ قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وهكذا قوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي: هم أرفع منزلة. الخامس: بمعنى على؛ قال: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) أي: رفع الأغنياء على الفقراء في اليسار، ثم قال: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فأخبر أنه فعل ذلك لتطرد أمور الدنيا والخير بعد ذلك، والخيرة فيما عنده. السادس: قوله تعالى؛ (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) أي: من أعلى الوادي، وذلك من علو بعض الأرض على بعض من غير أن يكون له سمك ظاهر.

السابع: العلو في السمك؛ مثل قوله: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا) أي: حتى يعلو فوقها، وقال: (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا) أي: من وجهها. الثامن: الغلبة والسلطان؛: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) يريد أنه القاهر لهم لاشتمال ملكه عليهم وفوقهم؛ أي: غالب لهم، ولا يجوز أن يقال: فوقهم في المسافة؛ لأنه ليس بجسم، ولأنه لا مدح له في ذلك؛ لأن اختلاف الأمكنة لا يوجب [قضاء]، وقوله: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) والعرب تقول: أخذت الأمر من فوق؛ أي: أخذته بغلبة وقهر،. ومنه قول الراجز: إنَّ الجبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ أي هو غالب له لا يدفعه عنه توقية.

الفتنة

الفتنة أصل الفتنة شدة الاختبار من قولك: فتنت الذهب؛ إذا أدخلته النار لتعلم جودته نن رداءتهه، وفي القرآن: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: اختبرناهم، ومعنى الاختبار من الله التكليف على ما بينا. وقال لموسى - عليه السلام -: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) أي: واستعمال الاختبار في اللَّه تعالى مجاز، لأن أصل الاختبار طلب العلم والله عالم بنفسه، [والبحر يصطفي الاختبار] (¬1)، ولا يستعمل في اللَّه قياسًا على الاختبار؛ لأن استعمال الاختبار فيه مجاز. والمجاز لا يقاس ... قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) أي: أهلها، ولا يجوز أن يقال: سل الحمار؛. أي: صاحبه، وقال: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) ويقال: فتنت الرجل، ولا يقال: أفتنت. وهي في القرآن على ثمانية أوجه: الأول: التكليف؛ " قال: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: أحسنوا أن يقع منهم بأن يقولوا: آمنا ولا تكلفون أو تمتحنون بما ظهر معه إيمانهم للرسول، وصدقهم فيه من كذبهم، فيركن إلى من يركن إليه منهم على بصيرة. الثاني: العذاب؛ قال اللَّه: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي: عذابكم، ويجوز أن يكون المعنى ذوقوا جزاء فتنتكم فحذف الجزاء، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ). وقيل: يفتنون يحرقون ومنه، قيل: للحجارة السود التي كأنها قد أحرقت الصبر ومثله قوله: (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) أي: عذاب الناس ¬

_ (¬1) عبارة غير مفهومة، ولعل الصواب، والبشر يصطفي الاختيار. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

بعذب الله. والمراد أنه إذا أصابه أذى من الناس لسبب إيمانه جزع منه، كما يجزع من عذاب الله، يحث على الصبر عند مس الأذى. الثالث: الضلال، قال الله: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ) أي: لستم تضلون إلا من هو ضال، أي: ليس تبعكم على عبادة الأوثان إلا من هو مثلكم في الضلال. والهاء في عليه راجعة إلى (ما) الذي، في قوله: (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) وهو مثل قولك: ما هلك فلان إلا على يد فلان. الرابع: الصد والاستزلال، قال اللَّه: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) وقال: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ). الخامس: الكفر والشرك، قال اللَّه: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ). السادس: الإثم " قال اللَّه: (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)، قال: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي: أثمتم. السابع: العبرة، قال تعالى: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي: يعتبرون أمرهم بأمرنا فإذا [رآهم] (¬1) في ضر وبلاء ورأوا أنفسهم في غبطة ورخاء؛ ظنوا أنهم على الحق وأننا على الباطل. الثامن: الجواب، قال: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ) أي: جوابهم؛ لأنَّهُم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال؛ فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار إلا هذا القول ونتكلم في قوله: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) فيما بعد إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في المطبوع هكذا [رافها]، ولعل الصواب ما أثبتناه. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

ومثل قوله: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي: قاتلوهم حتى يؤمنوا فيذهب الكفر والشرك، ويكون الدين كله للَّه دون الشيطان، وأراد المشركين خاصة أي: قاتلوهم على كل حال في الحرم وغيره، حتى يقروا بالإسلام ولا تقبل من المشرك جزية. وإنما هو الإسلام والسيف وإما تبقية أهل الكتاب وأخذ الجزية منهم؛ فليتدبروا كتابهم الدال على صحة الإسلام؛ فيسلموا وليس ذلك مع عبدة الأوثان؛ فلا يزدادون على الإمهال إلا شركا. وهذه الآية ناسخة لما قبلها من قوله: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ).

الفرح

الفرح انفتاح القلب بما يلتذ، وقيل: هو لذة في القلب أعظم من ملاذ الحواس، [ورجل فرح إذا جعلته كالنسمة]، وفارح إذا بليته على القلب وفرحان، وامرأة فرحانة، وأفرحنى الشيء ميزني، وأفرحني إذا فرحني، وهو من الأضداد، وفي الحديثِ " لا يتركُ مُفْرِحٌ فِي الإسلامِ "، فسروه المثقل بالتبن، وقيل: مفرج بالجيم أيضا. والفرح في القرآن ثلاثة أوجه: الأول: البطر، قال الله: (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ومثله: (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) ونظير.: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ) أي: تبطرون، ولم يرد الفرح المباح مثل الفرح بالولد، وسعة الرزق، والزوجة الحسناء، ونظائر هذا. الثاني: الرضى، قال الله: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: رضوا بها، ومثله: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي: راضون، وقال: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي: رضوا كذا. قال بعض المفسرين، ويجوز عندنا أن يكون أراد الفرح المعروف، بل هو الصحيح، ولا يجوز أن يعدل عما يقتضيه الظاهر إلا لضرورة.

فقوله: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي: لما جاءتهم الرسل لم تنظروا في أمرهم حق النظر، فخفي عليهم الحق الذي جاءوا به، فاستحقروه. واستحسنوا ما كانوا فيه من الباطل، وفرحوا به وسمي ما كانوا يعتدونه من الجهل علما؛ لأنه كان علما عند أنفسهم. الثالث: الفرح بعينه، قال اللَّه: (وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ).

الفضل

الفضل أصله من الزيادة وفضلة الشيء بقيته؛ لأنها زادت على الكفاية، وقيل: الفضائل؛ لأنها زيادة في محاسن الإنسان والمفضل الثوب الذي تلبسه المرأة في بيتها؛ لأنه زيادة على جملة ثيابها. وهو في القرآن على ثمانية أوجه: الأول: الإسلام، قال الله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) وإنما سمي الإسلام فضلا وِرحمة؛ لأنه يؤدى إلى الفضل والرحمة. الثاني: النبوة، قال تعالى: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) ومثله أن فضله كان عليك كبيرا، أو يجوز أن يَكلون أراد فضله عليه في النبوة، أي: نعمته فيها عظيمة. الثالث: الثواب، قال: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) وقوله: (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) ويجوز أن يكون الفضل في هاتين الآيتين التفضل. الرابع: الرزق، قال اللَّه: (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) وقال: (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فوضع التاجر مع المجاهدين دالا على فضل التجارة.

الخامس: الغنيمة، قال الله: (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ) ومثله كثير. السادس: الخلف، قاله تعالى: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) أي: مغفرة عند الصلاة، والفضل الحلف مما أخرج في الصدقة. السابع: اللطف، قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) أي: لولا لطفه وتوفيقه لم تكونوا أزكياء. والخطاب للمؤمين وإذا فعل الإنسان أن ما يرضى به عنه سمي زاكيا وزكيا، ومن ثم يقال للزرع إذا بلغ المبلغ الذي يريده الزارع إنه قد زكا،: (اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) أي: يفعل من يشاء من المكلفين ما يصير به مطيعا؛ إذا كان في معلومه أنه يقبل ويصلح. ويجوز أن يكون المراد أنه يخبر بصلاح من يشاء، وفضله حتى يكون زكيا عند الخلق إذا كان كذلك. الثامن: الجنة، قال: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا) وقد خرج لنا وجه آخر وهو، قوله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) يعني: بالفضل الغنى، أي: لا يحلف أحد منكم على منع ذوي القربى واليتامى والمساكين.؛ إذا كان له غنى وسعة، والواسع الغني. والآية نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه -، وذلك أنه لما خاض [مسطح] مع أهل [الإفك] في قذف عائشة - رحمها الله - حلف أبو بكر أن يمنعه بره وفضله، وكان في عيال أبي بكر فنهاه الله عن ذلك فانتهى، وعاد للإفضال عليه والبر له، ويقال: الله واسع بمعنى أنه غني، وللعبد موسع وقد أوسع مثل أير.

وقال أبو مسلم: (وَلَا يَأْتَلِ)، أي: لا يقصر عن إيتاء ذوي القربى [وأَلَّى الرجل بالواو وأْتَلَى ما تألي] إذا قصر، قال أبو مسلم: ولا تجيء يأتلي في [اليمين]، إنما يقال فيها [إلى يولي]، والأول قول جميع المفسرين.

الباب الحادي والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله قاف

الباب الحادي والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله قاف قانتون القنوت: على وجوه أحدها الطاعة والآخر القيام في الصلاة، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه: أي: الصلاة أفضل؟ قال: " طول القنوت "، أي: طول القيام، وهو الدعاء وهو الطلب أيضا، قال زيد ابن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأمسكنا. وهي في القرآن على أربعة أوجه: الأول: السكوت، وهو قوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وقيل: يعني: مطيعين والأول قول مجاهد، وقال غيره: أي: دائمين على الطاعة والقنوت الدائم على الشيء، وقال ابن عباس، والحسن، وعامر: هو للطلب، وقال ابن عمر: طول القيام، وقيل: هو الدعاء من قيام، والداعي إذا كان قائما قانتا، ويجوز أن يقع في جميع الطاعات لأنَّهَا لم تكن قياما على الرجلين فإنها قيام بالشيء نية وعملا، والقنوت في كثير من آيات القرآن يدل على أنه إتمام الطاعة والصبر عليها، قال الله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) وقال: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) قال: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) يريد صبرهن على أزواجهن وقيامهن بطاعة الله.

الثاني: الإقرار، قال اللَّه: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) أي: مقرون بالعبودية كذا قيل، ويجوز أن يكون بمعنى دوام الطاعة، والمراد أن جميع ما في السماوات والأرض يشهد بربوبيته، فكأنه يديم طاعته، وفسر أيضا قوله: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) على أنه أراد مقريين. الثالث: الصلاة، قال الله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) وروى ت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مثل المجاهد مثل القانت الصائم "، أي: المصلي الصائم كذا قيل، ويجوز أن يكون على الوجه الذي تقدم. الرابع: الطاعة، قال اللَّه: (وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ) ومثله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ) أي: مطيعا كذا جاء في التفسير، وهو وجه.

القوة

القوة أصلها التعاون، ومنه [قُوَى الْحَبْلِ]، لأن كل واحدة منها تعين الأخرى؛ وكل طاقة من الحبل قوة، واستعمالها في صفات اللَّه بمعنى أن أحدا لا يغلبه، وليس معناه التعاون كما أن أصل التوبة في اللغة الرجوع، تاب يتوب إذا رجع وكذلك تائبون، وقولنا: (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ)، ليس يعني: به الرجوع. والقوة في القرآن على خمسة أوجه: الأول: العدة، قال: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) أي: عدة إلى عدتكم، وذلك أن العدة تعبر على مغالبة العدو، وقال: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي: بعدد من الرجال، والمراد أن فيما أعطاني اللَّه من المال كفاية في بناء هذا السد، ولكن ينبغي أن تعينوني بأنفسكم ليتعجل العمل ويقع الفراغ منه بسرعة، والخير في هذه الآية الكفاية، والناس يقولون: فلان بخير في كفاية، وقيل: خير أي: خير لكم من خَرْجكم. الثاني: الجد، قال الله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)، أي بجد، ومثله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) أي: بجد، وقيل معناه أي: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ) من المقدرة وفي هذا دليل على أن القدرة على الأخذ معهم أخذوا أم لم يأخذوا. الثالث: البطش، قال الله: (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) يعني: البطش، والبطش الأخذ بالشدة والغلبة، ويجوز أن يكون بمعنى القدرة، أي: من أقدر منا على الامتناع مما يراد بنا، ويجوز أن تكون القوة هنا العدة أيضا.

الرابع: السلاح وهو راجع إلى معنى، العدة قال اللَّه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) أي: من سلاح، والدليل على هذا ما يتلوه من ذكر الخيل، وذلك أن الخيل يذكر مع السلاح، وليس يجوز أن يقال إن المراد بها القدرة؛ لأنَّهُم لا يقدرون عل فعل القدرة لأنفسهم. الخامس: الشدة، قال اللَّه: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) وتنوء بالعصبة، أي: تغلبهم ولو ناءوا بها لكانوا قد حملوها ولكن هي نأت بهم، أي: ارتفعت بهم فلم يطيقوها.

القضاء

القضاء الحتم، ومنه أصله، قيل القاضي لأنه يحتم على الناس الأمور، ثم قيل: لكل شيء الحتمة، وفرغت منه قد قضيته، قال أبو ذؤيب: وعليهما مَسْرودتان قَضَاهُما ... داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ وذلك أن من عمل عملا وفرغ منه فقد حتمه وقطعه، والقضاء تأدية الفرض، ومنه قضاء الدين، وحد القضاء في اللغة فصل الأمر وإبرامه وبلوغ آخره على التمام والإحكام، ومنه قوله للموت: قضاء اللَّه لأنه آخر أمر الدنيا، ومنه قوله: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) ومنه التقضي والانقضاء. وهو في القرآن على اثني عشر وجها: الأول: الأمر، قال اللَّه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي: أمر أن نعبد اللَّه وحده، وفي هذا بطلان قول من يقول: إنه قضى أن نعبد الشيطان، وقيل: فرض، وهو قريب من الأول، ولا يقال: قضاء إلا فيما كان لازما من الفروض؛ فأمَّا النوافل فلا يقال فيها القضاء. الثاني: بمعنى العلم، قال الله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ) أي: أعلمناه، وإذا قلت: قضيت إليك، فهو بمعنى العلم، وقضيت عليك بمعنى الحكم، ومثله: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ) ثم فسر ما الأمر، وقال: (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) كأنَّه قال: وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع، ومثله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أي: أعلمناهم ذلك، ويجوز

أن يكون القضاء في هذه الآيات بمعنى الوحي، فقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: أوحينا إلى أنبيائهم. الثالث: الإتمام والفراغ، قال الله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) أي: أتممتموها وفرغتم منها؛: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ) أي: لا تقطعوا ذكره لفراغكم من متعبداتكم، وكانت العرب إذا أرادت [الصدر] عن الحج وقفت بين المسجد والجبل بمنى فذكرت محاسن آباءها ومناقبهم، فأمر الله أن يذكروه ويثنوا عليه كذكرهم آباءهم، ثم قال: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) وأراد بل أشد ذكرا،. لأن نعم الله عليهم أكثر من نعم غيرهم، ووقوع (أو) موقع (بل) معروف، ومنه قوله: (أَوْ يَزِيدُونَ) أي: بل يَزِيدُونَ. وقال بعضهم: (أَوْ يَزِيدُونَ) عندكم، ومثله (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ) ونظيره: (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي: فلما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من قراءة: القرآن. الرابع: بمعنى الفعل، قال اللَّه: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: افعل ما أنت فاعل،: (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) والحياة نصب على الظرف، ويجوز أن يكون القضاء هنا الحكم أي: احكم فينا بما أنت حاكم، وقال: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا). الخامس: بمعنى الإرادة، قال اللَّه: (فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي: إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون، أي: إذا أراد أمرا لم يتعذر عليه فعله، وليس هناك قول، وإنما هو عبارة عن إيجاده الفعل من غير تعذر إذا لم يحتمل الكلام على هذا المعنى فسد؛ لأنه لا يجوز أن يخاطب المعدوم، ولا يجوز أن تقول للموجود كن؛ لأنه كان، وإنما هو كقول الشاعر: قال جناحاه ليسا فيها جفاء

ولم يكن هناك قول، بل هو إخبار عن سرعة اللحاق. السادس: بمعنى الموت، قال: (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) أي: ليمتنا، ومثله قوله: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) ومثله: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ). السابع: بمعنى الوجوب، قال الله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) أي: وجب العذاب، وقال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) والوجوب هنا الوقوع؛ لأن العذاب كان وجب عليهم في الدنيا، وإنما يقع في الآخرة. الثامن: الكتاب، قال اللَّه: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) أي: مكتوب في اللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون أمرا مقتضيا، أي: مقدرا مفروغا. التاسع: قضى بمعنى أتم، قال: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) أي: أتم الشرط المشروط إلى الأجل، ومثله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي: من قبل أن يتم جبريل صلوات الله عليه [قراءته عليك]. العاشر: قضى بمعنى فصل، قال اللَّه: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) وقال: (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ونظيره: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ). الحادي عشر: قضى بمعنى خلق، قال اللَّه: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي: فخلقهن، ويجوز أن يقال: أتم خلقهن فيكون على الأصل. الثاني عشر: قضى بمعنى حكم، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) وقريب منه، قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُضِ الْحَقَّ) (¬1). ¬

_ (¬1) قوله: {يَقُصُّ الحق} قرأ نافع وابن كثير وعاصم: «يقص» بصاد مهملة مشددة مرفوعة، وهي قراءة ابن عباس، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواتر

[وفي هذا دليل على أنه لم يقض الكفر]؛ لأنه ليس حق فقد قال: (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) فدل على أن قتلهم ليس من قضائه لإخباره أنه لا يقضي إلا بالحق، وإن زعموا أن قتلهم من قضائه لزمهم أن يقولوا إن قتلهم حق؛ لأن قضاءه حق. وقرئ (يَقُصُّ الْحَقَّ)، ويقضي أجود هنا، لقولنا: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) والحكم والقضاء واحد، وجميع هذه الوجَوه راجع إلى ما قلنا من الأحكام، والفراغ من نفس الشيء، أو حكمه أو الخبر عنه.

القدر

القدر القدر هو وجود الأفعال على مقدار الحاجة إليها والكفاية لما فعلت من أجله؛ كان القدر هو الوجه الذي أردت إيقاع المراد عليه، والمقدر للفعل هو الموجب له على ذلك الوجه. وأصل القدر في العربية التوسط بين العلو والتقصير، ومن ثم قيل: للقدرة قدرة؛ لأن الفعل يقع على قدره، وقيل: هذا على قدر ذلك، وقدره أي: غير فاصل عنه ولا مقصر دونه، ومنه قيل: القدر لأنك تطبخ فيها الطبيخ بقدر ما تحتاج إليه، أو بقدر ما تسعه. وسُمِّي قدر الله قدرا لأنه يقع على قدر المصالح، لا فضل ولا نقصان، ومنه قوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) أي: هو على قدر الصلاح. وقال بعضهم: أصل القدر هو وجود الفعل على مقدار ما أراده الفاعل وحقيقته في أفعال الله وجودها على قدر المصالح، وأما قوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) فإن اللفظ عام، والمعنى خاص؛ لأن المعاصي لم تدخل فيه، والشاهد قوله: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) والباطل ليس بمتقن. والدليل على أن كل شيء لغير معنى الإحاطة، قوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ونحن نعلم أنها لم تؤت لحية، وقوله: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) وهو القدر، والقدر، ثم استعمل في التقصير فقيل: قدر فلان على نفسه مثل قتر ونحوه،: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي: ظن أن لن نضيق عليه؛ كقوله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) ومنه: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ) أي: ضيق عليه. ومن ذلك قولهم: رجل أقدر، إذا كان قصير العنق؛ وجاء أيضا في الزيادة، فقيل: فرس أقدر للذي تتقدم موقع رجله موقع يده، والخبر السابق بما يكون قدرة أيضا إذا كان

المخبر عنه، ويكون كل مقدار ما تقدم به الخبر، ومنه قوله: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) أي: أخبر عن ذلك، بقوله: (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) ومنه، قول العجاج: وأعلم بأن ذا الجلال قد قدر أي أخبره، وقيل: قدر وقدر لغتان بمعنى واحد، وقرئ: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) بالتثقيل فجمع بين اللغتين، كما قال الأعشى: وأنكرتني وما كان الذى نكرت والصحيح أن قدَّر الشيء بالتشديد وفي تكرير الفعل، وقيل: التخيف بمعنى القدر والملك، ومعنى قولهم: المقدور كائن، أن ما أخبر اللَّه بكونه كائن؛ وليس أن المعنى المخلوق كائن؛ لأن ذلك لا يشك فيه. والقدر في الفزآدْ على ثلاثة أوجه: الأول: الأمر والحكم، قال اللَّه: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) يعني: أنه أمر في الزاني بالرجم، وفي القاذف بالجلد، وفي السارق بالقطع، وفي القاتل بالقتل، وهدى بذلك إلى ما فيه نجاة الخلق. وفي هذا دليل على أن المعصية ليست من قدر اللَّه (¬1)، لقوله: (قَدَّرَ فَهَدَى). ولم يقل: قدر فأضل وأعمى. الثاني: الخلق على قدر، قال تعالى: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) أي: يخلق كل واحد منهما بعد الآخر على قدر لا زيادة ولا نقصان. وقال: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي: ذلك خلقه كذا قيل، ويجوز أن يكون المعنى أنه قدر صيرها تقديرا لا يتفاوت. ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. فتنبه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

الثالث: التسوية، قال اللَّه: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي: سوينا له منازل ينزل فيها حالا بعد حال، وهو راجع إلى الخلق كذا قيل، ويجوز أن يكون المراد إنا قدرنا سيره في المنازل تقديرا لا يتفاوت. قال أبو علي - رحمه الله -: القدر على وجهين: أحدهما: أن يفعل اللَّه الشيء مقدرا، والآخر: أن يقدر لخلقه بأن يعرفهم مقداره ووقت كونه؛ كقولك لصاحبك: كم تقدر مقامك بالبلد؟ وللخياط: ما يقدر أن تعطني الثوب، ومعنى ذلك أن يعرفك مقداره.

قليل

قليل القليل ما يقصر عن الكفاية، وهو قلَّ بمعنى قليل، والقل أيضا القلة مثل النحل والنحلة، والعذر والعذرة، وقيل: قل َّفعل ولهذا جاء فاعله علي فعيل، مثل كرم، وهو كريم، وكثر وهو كثير، وقيل هو فعل إلا أنه دخله معنى المبالغة فجاء فاعله على فعيل، كما قيل: حرص وهو حريص وهذا هو الصحيح، ويقال: هؤلاء قوم قليل وقليلون وكثير، ولم يجئ كثيرون. والقليل في القرآن على ثلاثة أوجه فيما ذكروا وبعضها عندنا داخل في بعض: الأول: بمعنى اليسير، قال: (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أراد أن أهل الكتاب تركوا العمل بكتابهم وكتموا ما يدل منه على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لعرض نالوه من عرض الدنيا وذلك قليل. الثاني: بمعنى الرياء في جاء عن بعضهم، وهو قوله: (وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) وهو والأول عندنا سواء، والمراد أن المنافقين يذكرون الله إذا لقوا المؤمنين فذكرهم له قليل بالإضافة إلى ذكر المؤمنين له؛ لأن المؤمنين يذكرونه على كل حال.

الثالث: النفي، قال الله: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) وقوله: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) أي: لا يؤمنون ولا يشكرون أصلا، لأنه في صفة الكفار، والعرب تقول: نَفت حِيلَتي فِي كذى إِذا لقيت وقال شاعرهم: مَنْ كانَ يكذبُ مَا يقُوُل فحيلَتي فيه قَلِيلَة أي ليس لي فيه حيلة

القتل

القتل إماته الحركة، وقيل: قتلت هذا الشيء علما إذا بلغت أقصى العلم به، [وناقة ذات قتال وكنال] إذا كانت ذات خلق، والفرق بين القتل والذبح، أن الذبح عمل معلوم، والقتل ليس بمعلوم، ولهذا قال أصحابنا: إن استأجر الرجل رجلا على قتل رجل قصاصا؛ إن ذلك لا يصح إن استأجر على ذبح شاة صح. والقتل في القرآن على وجهين: الأول: القتل بعينه، قال: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ). الثاني: اللعن، قال اللَّه: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) ومثله: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي: لعن، كيف قدر الباطل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنه ساحر.

القول

القول عبارة عن جملة ما يتكلم به المتكلم على سبيل الحكاية، والكلام عبارة عن جنس ما يتكليم به موجودا كان أو معدوما، ومبتدأ أو محكيا، وقد شرحنا هذا المعنى في التفسير. ويقال: قال يقول من القول، وقال يقيل من القيولة، والقيل دون الملك الأعظم والجمع أقيال، والقيل شرب ونصف النهار، وقد اقتال الرجل إذا صار قيلا، واقتال شرب قيلا، وكل ما يجيء بعد القول فهو مرفوع إلا أن يكون من القول، تقول: قلت اليوم طيب فترفع، لأن اليوم ليس من القول، وتقول: قلت كلاما حسنا، وقلت خيرا؛ لأن الخير يقال، ولا تقول: قلت ثوبا جديدا؛ لأن الثوب ليس مما يقال. والقائل في القرآن على وجهين: الأوول: فاعل القول، قال تعالى: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ). الثاني: من. القيلولة، قال: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) أي، نائمون في أنصاف النهار.

القائم

القائم أصل القيام الاستواء ومنه، قام الشيء لاستوائه منتصبا؛ وقومه سواء، وقاومه استوى معه في القول أو الخصومة، وقامت السوق لاتوائها في البيع والشراء، وأقام أرزاق الجند؛ إذا أجراها على استواء، وأقام الوزن سواء وعدله، وقوم الثوب إذا ذكر ما يساويه من الثمن، وأقام بالمكان يرجع إلى هذا. والقائم في القرآن على وجهين: الأول: بمعنى المديم للفعل، قال اللَّه: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) أي: مديم لفعله، والقسط العدل ونحوه: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) أي: مديما للتقاضي. الثاني: القائم خلاف القاعد، قال الله: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ).

الباب الثاني والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله كاف

الباب الثاني والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله كاف الكتب أصل الكتب الجمع، والكتيبة العسكر الذي قد تكتب، أي: تجمع، وقيل: هي الذي اجتمع فيها ما تحتاج إليه للحرب، وكتبت البغلة جمعت بين أشعرها بحلقة، والكتبة الخرزة لأنها تجمع من طرفي الأديم، وسُمِّي الكتاب كتابا؛ لأنه جمع الحروف والمعاني، والكتب أيضا الخلق، قال الهذلي: كتب البياض لها وثور لونها ... فعيونها حتى الحواجب سود أي خلقن بيضا وعيونها وحواجبها سود، ولما كان في خلقها بياض وسواد عبر عن ذلك بالكتب تشبيها، ويقولون: كتب اللَّه عليكم السلامة، أي: خلقها لكم.

وكتب قدر والمكتوب بمعنى معلوم وبمعنى محدد، قال أبو عبيدة: كتب قضى، وكتب حفظ. والكتب في القرآن على خمسة أوجه: الأول: بمعنى الفرض، قال اللَّه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) أي: فرض، وإنما جعل الفرض كتبا؛ لأنه فرضه في الكتاب وهو في القرآن، ومثله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، ومثله كثير. الثاني: كتب قضى، قال اللَّه: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) ومثله: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) ومثله: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) أي: قضى وبين؛ لأن كل من تولاك ضال وقال: (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أي: قضى: ذلك أن اللَّه يقضي عليهمْ بالموت عند القتل لا محالة، فجعل القتل من قضائه؛ لأنه سبب لما يقضيه، وهو الموت. وليس ذلك بموجب أن يكون الذين قتلوا المؤمنين كانوا لا يقدرون على أن يقتلوهم؛ لأنهم لو كانوا كذلك ما نهاهم اللَّه عن قتلهم، ولكن كان في المعلوم أنهم سيختارون قتلهم مع قدرتهم على تركه؛ كما أن ما كتب أو أخبر أنه سيفعله فهو سيكون لا محالة، وأن اللَّه قادر على أن لا يفعله. ونزلت هذه الآية في قصة أُحُدٍ لما أصيب بها المسلمون، فقال المنافقون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، أي: لو كان ما يزعمه محمد حقا ما قتل إخواننا هاهنا؛ يعنون ْالسلطان والغلبة، فجعل قتل إخوانهم وأوليائهم قتلا لهم، لأنهم منهم فأجابهم اللَّه بقوله: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أي: لو قعدتم في بيوتكم أراد السلامة لخرج منكم الذين كتب الله؛ وعلم أنهم يقتلون إلى مضاجعهم، أي: مصارعهم، ولم يرد القتل عنهم قعودكم، لأن خلاف ما علمه لا يكون.

الثالث: الجعل، قال الله: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي: اجعلنا، ويجوز أن يكون (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) في اللوح المحفوظ؛ لأن كل شيء يفعله اللَّه [مكتوب فيه]، وقال: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي: سأجعلها، وقيل [الشاهدون أمة محمد]- صلى الله عليه وسلم -، المؤمنون الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، ويجوز أن يكونوا الأنبياء لأنهم يشهدون على أممهم بما شاهدوا من أعمالهم، وقيل: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي: [سأجمعها] وذلك أن رحمته ونعمته قد عمت الكافر والمؤمن في الدنيا، وهي في الآخرة مجموعة للمؤمنين. الرابع: الأمر، قال الله: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي: أمركم بدخولها. الخامس: الكتب المعروف، قال اللَّه: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ). أي: اكتبوا مبلغ الدَّين؛ لأن لا ينسى، ومبلغ الأجل لأن لا يزاد فيه أو ينقص، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن هاهنا ندب وإرشاد إلى الأحوط. وقد نقلت الأمة عقود المداينات والبياعات بغير إشهاد ولا نكير من الفقهاء. وروي عن ابن جبير، وعطاء، وإبراهيم: أن الإشهاد على كتب المداينات والبياعات وقليلها واجب، وليس ذلك [بمعول عليه]. وعن الحسن، والشعبي: أن الشهادة والكتب كانا واجبين فنسخا، بقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا). وقال ابن عباس: لم ينسخ ذلك، وأما قوله: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فمعناه أنه حكم بها وأوجبها على نفسه (¬1)، وقال: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) أي: علامة الإيمان، كما قال: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي: حب العجل، فحذف. ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. فتنبه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

وكان بنان بن سمعان يذهب إلى أن اللَّه كتب على وجهه وسائر أعضائه الرحمة، ويذهب إلى أنه ليس في كلام الله مجاز، وكان يقول: إن اللَّه يفنى سائره ويبقى وجهه، لقوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).

الكفر

الكفر أصله التغطية، ويقال: لليل كافر؛ لأنه يغطي كل شيء بظلمته، وكفر الغمام النجوم سترها، [والكافر الذي لبِس فوق درعه ثوبا]، والزارع كافر؛ لأنه يغيب البذر في الأرض، وكفر النعمة إذا لم يشكرها كأنَّه سترها، ويقال: لوعاء كل ثمرة كافور، لأنه يغطيها، ويقال للطلع [الكافور]؛ لأنه في غطاء، ويكفر الذنوب يسترها كالغفران، ومعنى ذلك أن الله لا يفضح أصحابها بها. والكفر في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الجحد، قال: (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) أي: يجحدونها، والجحد لا يكون إلا مع العلم مثل جحد الرجل حق صاحبه؛ فأمَّا من ينكر ما لا يعرف صحته فليس بجاحد، ونظيره قوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) أي: جحدوه فجعلوا الجحد مع المعرفة على ما ذكرنا.

الثاني: كفر النعمة، ق ل: (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ). وقوله: (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) وكقول فرعون لموسى: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) أي لنعمتي. الثالث: بمعنى البراء، قال اللَّه تعالى: (كَفَرْنَا بِكُمْ) وقال: (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) وقال في: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ) أي: تبرأت.

كان

كان أصلها الحدوث، كان الشيء إذا أحدث فهو كائن، ثم كثر حتى وقع موقع صار، وموقع لم تزل وموقع هو وغير ذلك مما يذكره. وذلك على ما حكى أهل التفسير، وقال النحويون: كان لا يتعدى، ومعناه حدوث الشيء، أي: خلق، فهو في أنه غير متعد بمنزلة قام؛ [فلما احتيج] إلى ذكر المضي في المبتدأ أو الخبر، أدخلت كان على قوله: زيد قائم، فقيل: كان زيد قائما. والمعنى زيد قائم فيما مضى، فرفع بها المبتدأ ونصب الخبر، كما قيل: ضرب زيد عمرا؛ فإن أردت في المبتدأ والخبر الاستقبال قلت: يكون ومن أخواته ليس، وهو ينفى به الحديث ولا ينفى به إلا ما في الحال دون المستقبل والماضي، وهو موضوع للعبارة عن هذه الجملة. وما دام وهما كلمتان ويعبر بذلك عن المبتدأ والخبر أيضا إذا كان له دوام، ويرفع به الاسم ويتصرف معموله كما يتصرف معمول كان، إلا أن ما لا يجوز أن يقدم عليه المعمول؛ لأن المعمول هو في الصلة؛ والصلة لا تقدم على الموصول. ولكن تقدم بعض الصلة على بعض، تقول: لا أكلمك ما دام زيد قائما، وما قائما دام زيد وما زال، وهما كلمتان إلا أن ما حرف نفي هاهنا وليس باسم، وما في قولك ما دام اسم مبهم ناقص ودام صلته، وهو فعل وزال فعل منفي بما، ومعناه ضد دام. فلما دخلت عليه ما النافية صار بمعنى دام؛ لأن نفي النفي إيجاب، وتقول في المستقبل يزال ويزول، وأما أصبح وأمسى وظل وبات فإنهن أفعال بمنزلة كان في العبارة عن بعض، وفي أنها في الأصْل غير متعدية إلا أن لكل واحد منها زيادة ليست للآخر؛ فاصبح يدل على وقت خاص وهو الصباح، وأمسى تدل على وقت خاص وهو المساء، وظل يدل على المكث في النهار، وبات تدل على المكث بالليل. وكان في القرآن على أربعة أوجه فيما قيل: قالوا:

الأول: أن تكون بمعنى لم يزل، قال: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أي: هو لم يزل كذلك، ويجوز أن يكون دخول كان هاهنا للتوكيد، وكذا في قوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) ويكون المعنى أنه غفور غفرانا عظيما، ورحيم رحمة كبيرة، ويجوز أن يكون المراد أن الغفران وإحكام الأمور من فعله فيما مضى، وهذا الوجه هو الصحيح. الثاني: بمعنى صار، قال تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) وكذلك قوله: (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا) وقال: (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا) أي: صارت، وحقيقة المعنى أنها تصير كذلك، ويجوز أن يكون معناه أنه إذا كان يوم القيامة صارت كذلك، وهذا هو الصحيح، وقوله: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) أي: تصير. الرابع: قراءته تفسيره، قال: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) وقوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) وإذا جاء قبل كان حرف نفي كانا بمعنى لا ينبغي وهو قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) أي: لا ينبغي له ذلك، لأنه مستغن عنه، وكذلك قوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) وقوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ).

كبير

كبير أصل الصغر والكبر النقصان عن المعادلة والزيادة عليها، ويقال اللَّه كبير من جهة العظمة، ولا يقال له: إنه صغير ولا قليل من جهة أنه واحد؛ لأن الأصل في القليل أنه أنقص من غيره، والصغير ما هو أصغر من غيره، وهذا إنما يكون إذا كان غيره أكبر منه وأكثر. ويجوز أن يكون الكبير في أسماء اللَّه تعالى بمعنى أنه سيد مالك الأشياء؛ لأن سيد القوم كبيرهم، ويجوز أن يسمى بذلك؛ لأنه لا مثل له، وكذلك تسميتنا بأنه عظيم وجليل. وأصل الصفة بكبير كبر الشخص ثم استعمل في كبر الشأن، والكبير الشأن هو الممتنع من مساواة غيره بتضعيف أو غيره، وذلك أن صفاته في أعلى مراتب التعظيم، فيستحيل مساواتها الأصغر على وجه من الوجوه، وهذه صفة اللَّه. والكبير الشخض، هو الذي يمكن مساواته للأصغر بالتجزئة، ويمكن مساواة الأصغر له بالتضعيف، والصفة على هذا المعنى لا تجوز على اللَّه، ويذكر الشأن في صفاته؛ لأنه يظهر به امتناع المساواة واستعماله على المجاز، والله لم يزل كبيرا وأكبر من كل كبير؛ لأنه يمتنع مساواة كبير غيره له، ونظير الصفة تكبير عظيم، والعظيم الشخص، يمكن مساواة غيره له بالتضعيف. ولا يصح في الجليل؛ لأنه غلب عليه المدح، والعظيم الشأن مثل الكبير الشأن، لا يجوز مساواة غيره له، والكبير في السن والشخص والشرف بالعلم يمكن مساواة الصغير له؛ إما في السن يضاعف مدة البقاء، وإما في الشرف بالعلم فباكتساب مثل ذلك العلم، والكبير الشأن لا يمكن بمساواة الصغير الشأن له؛ كفضيلة النبي بالنبوة لا يمكن أن يساويه في فضلها إنسان، وكبر الشيء معظمه، وقرئ في: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ)

أي: معظم هذا اللإفك، ومنه الكبر من السن؛ لأن صاحبه يعظم في الصدور، فأما الكبر فأعجمي. والكبير وما يتشعب منه في القرآن على ثمانية أوجه: الأول: الشديد، قال الله: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا) قال: (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) كل ذلك بمعنى شديد كذا قيل، ونحن نقول: إن حقيقة الشدة والكبر في الأعراض إنما هي الزيادة في المقدار، فقولك: علا علوا شديدا أو كبيرا أي: علوا زائدا على علو من هو في درجته أو من جنسه أو ما أشبه هذا. الثاني: المسن، قال: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) قال: (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ). الثالث: الزيادة في العلم والفهم، قال: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي: أعلمكم وأفهمكم، ومثله قال: (كَبِيرُهُمْ) أي: أفضلهم رأيا، ولم يعن أكبرهم سنا هكلذا قيل، ويجوز عندنا أن يكون أراد أكبرهم في السن. الرابع: بمعنى الكثير، قال اللَّه: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً) وقوله: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) أي: مالا قليلا أو كثيرا، ويجوز أن يكون أراد صغيرا أو كبيرا في القدر. الخامس: الكبير في أسماء اللَّه تعالى، ومعناه الذي تقدم وهو قوله: (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) والمتعال الذي يتضاعف ما يستحقه من علو الصفات، ولم يزل الله متعاليا على هذا المعنى، وكل شيء نسب إلى العلو، وهو معظم الشأن، لأن العالي ينال ولا ينال، ويوصف الله بالتعالي أيضا على وجه آخر، وهو أنه يتضاعف ما تنزه به عن صفات النقص، نحو قوله تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ولا يقال:

الله رفيع؛ لأن الرفيع مختص بعلو المكان والعلي مشترك بين علو المكان وعلو الشأن، ومن جهة القدر والاقتدار، وفي الرفع أيضا معنى الزوال، رفعته أي: أزلته إلى فوق، ومنه يقال ارتفع الشيء إذا زال وذهب، وقال بعضهم: العلي هو الجليل بما يستحق من ارتفاع معاني الصفات. السادس: الكبرياء وهو بمعنى الغلبة والسلطان، قال الله: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) يعني: السلطان والملك والغلبة، وقوله: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني: الملك والسلطان. السابع: كبر ثقل، قال الله: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ) أي: ثقل، وحقيقة المراد به أنه ينال منك منال الحمل الثقيل من حامله، وذلك أن الكبر في أكثر الحال ثقيل. الثامن: من الطويل، قال: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ) قالوا معناه الطويل واستعمال الطول والكبر والثقل والعظم في الأعراض توسع إلا أن استعمال بعض هذه الصفات في بعض الأعراض أشهر، فلهذا قالوا: إن الكبر في الضلال بمعنى الطول، والمراد أنه ضلال يستمر صاحبه عليه ولا يفارقه.

كذب

كذب أصل الكذب الترك، ومنه قيل: كذب في الحرب إذا ترك الحملة، وكذب الرجل في قوله، إذا ترك العمل بما قاله. وكذَّبت الرجل بالتخفيف، أخبرته بكذب، وكذَّبته بالتشديد أخبرت بأنه كاذب، والمشكل في هذا الباب قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ). ولا يجوز أن يكون في الآخرة كذب؛ لأن أهلها ملجأون إلى ترك القبيح، ولو لم يكونوا كذلك لكان القبيح قد أبيح لهم. وإنما المراد أنهم، يقولون في الآخرة: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) أي: عند أنفسنا في الدنيا. وقال: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) في الدنيا، بقولهم: إنهم مصيبون فيما يشركون، وليس هذا خبرا عن الآخرة، وقيل: كذبهم على أنفسهم هو جحدهم على جهة النسيان، وإنكارهم لما كانوا عليه في الدنيا.

وجاء لفظ كذب في القرآن على وجهين: الأول: الجحد، قال: (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) أي: جحد الجنة، وقوله: (كَذَّبَ وَتَوَلَّى)،، أي: جحد وأعرض، وقوله: (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ). الثاني: تكذيب الرسول، وهو القول بأنه كاذب، قال الله: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ومثله كثير. وأما قوله: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) فمعناه أنهم لا يكذبونك ولكنهم يكذبونني لأني أنا المخبر لك، وقيل: (لَا يُكَذِّبُونَكَ) بحجة، بل هو جحد ومكابرة. وقيل: المراد أنهم لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأتهم به مما في كتبهم؛ أنك كاذب فيه، ويجوز أن يكون المراد أنهم لَا يُكَذِّبُونَكَ بقلوبهم، ولكن يجحدون أمرك بألسنتهم، [وقرئ (لَا يُكْذِبُونَكَ)]، أي: لا يصادفونك كاذبا فيما أخبرت به عن المذكور في كتبهم. ويجوز أن يكون لا يصادفونك كاذبا إذا نظروا في أمرك حق النظر، وأكذبت الرجل صادفته كاذبا، وأبخلته صادفته بخيلا، وقيل: (كَذَّبَ بِالْحُسْنَى) أي: قصر به، والعرب تقول كذب الرجل في الحرب إذا ترك الحملة.

الكريم

الكريم أصل الكرم الشرف والفضل، ومنه سمي الكرم لفضله على غيره من الشجر، والكرم أيضا قلادة معروفة تشبه خرزها بورق الكرم، ثم جاء الكرم بمعنى العز، قالوا: هو أكرم علينا، أي: أعز، وتسمية اللَّه تعالى بأنه كريم يعني: أنه عزيز من صفات ذاته، وقد يكون أيضا بمعنى الجواد المفضال، فيكون من صفات فعله. والكريم وما يتصرف منه في القرآن على سبعة أوجه: الأول: أن يكون بمعنى الأفضل، " قال اللَّه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وفي قوله: (كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) أي: فضلناهم على غيرهم من الحيوان، وقال حكاية عن إبليس: (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) أي: فضلت، وقال: (إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) أي: فضله. الثاني: الشرف، قال الله: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) أي: شريفا [قرئ (ندخلكم) من أدخل]، وما كان من أفعل فإنه يجيء فيه مفعل، وقرئ (مَدخلا)، وهو من دخل مدخلا، وكذلك قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) إذا جعلته من قام فتحته، وإذا جعلته من أقام ضممته، ويجوز أن يكون المدخل موضع الإدخال، والمراد به الجنة، كما قال تعالى: (أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا). الثالث: الصفوح، قال اللَّه: (إِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).

الرابع: العزيز، قال الله: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي: العزيز الذي لا يغلب ولا يفوته شيء، فما الذى غَرَّكَ به فعصيته. الخامس: الكثير، قال اللَّه: (رِزْقٌ كَرِيمٌ)، قالوا: هو كثير، ويجوز أن يكون معناه أنه يأتي صاحبه من غير امتهان، والمراد كريم صاحبه. السادس: الحسن، قال: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي: حسن، وهو مثل قوله: (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ومثله: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) أي: حسنا. السابع: الجواد، قال تعالى: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي: كنت كذلك في الدنيا كذا قيل، ويجوز أن يكون معناه إنك كنت كذلك عند نفسك، وروى أنه قال: " أنا أعز أهل الواي وأكرمهم، فقال الله له في جهنم: ذق إنك أنت القائل هذا "، ويجوز - أن يكون المعنى أن ملائكته يقولون له ذلك، وقيل: أراد إنك الذليل المهين، ومعنى ذلك [أنك] أهل للذل والهوان لكفرك.

الكلمة

الكلمة اشتقاق الكلمة من الكلم، وهو الجرح لأن تأثير الحروف في مخارجها وفي السمع كتأثير الجرح فى المجروح، وإن كانت آثارها أخفى، وتقارب المعاني وتشابهها بحيث تتقارب الألفاظ، فإذا قلت: كلمته تكليما، فإنما أدخلت التشديد في الفعل لتدل على تكرير الفعل، ألا ترى أن الكلمة الواحدة أقل الكلام. وهى لا تخلوا من حروف وحركات، وكأنَّ كل واحد من ذلك كلمه من الكلوم، لأنها أثر بعد أثر تقع في مخارج الحروف وفي السمع، فلذلك قيل: كلمته تكليما، وقد يجوز كلمته كلاما؛ لأنه يعلم أنه لا يكون مصدر كلمه إلا التكليم، ولا مصدر تكلمت إلا التكلم، وإن كلاما إنما ناب عن ذلك وقام مقامة، وإن كان على غير لفظ الفعل، لأنَّهُم لم يستعملوا الفعل منه بغير تشديد ما لم تحل الكلمة، وإن قل عدد حروفها من التكرير؛ ولأنهم كرهوا التباس هذا الفعل ما هو من الجرح أيضا. والكلمة في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الخبر، قال اللَّه: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي: لولا الخبر السابق بأن الاستئصال لا ينزل بهذ الأمة لأنزلته بها. الثاني: قوله تعالى: (لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) قيل: يعني: مقدوراته، وقيل: نعمه وعطاياه، وعندنا أنه أراد بكلماته وعده لأهل الجنة ووعده لأهل النار، وهو مثل قوله: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) والمراد أنه لو يفعل ما وعد به أهل الجنة وأوعد به أهل النار حالا بعد حال، فيما يستقبل وكتب ذلك بما في البحر، وقد جعله مدادا وزاد عليه في مثله لنفد قبل نفاد

ذلك، وإنما أراد الإخبار عن كثرة ما أعده للفريقين، وقيل: كلماته معلوماته ما خلق، وما يريد أن يخلق [وبالجملة] إنه لم يرد الموجود، وإنما يريد ما يستأنف، لأن ما حصل في الوجود معروف قدره. الثالث؛ قوله: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) قيل أراد أمره، والمعنى عندى يرجع إلى الخلق، أي: خلقه في رحمها من غير ذكر، وسمي في رحمها من غير ذكر وسمي ليس أيضا في موضع آخر كلمة، وهو قوله: (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) وذلك أن الناس ينتفعون به كما ينتفعون بكلام الله، ويجوز أن تكون الكلمة هنا من، قوله: (كُنْ فَيَكونُ)، وهو راجع إلى الخلق على ما ذكرنا، ويجوز أن تكون كلمته ألقاها، أي: بشارته ألقاها إلى مريم على لسان ملك، كما قال لنا: (سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) وقيل ألقاها عليها أي: خلقه في بطنها، وكأنَّ الله أخبر به في الكتب المتقدمة، فلما ولد من غير ذكر، قال الله لها: إن تلك الكلمة، أي: المعنى بالكلمة، وأما الكلمات في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) فمعناه أمره إياه وابتلاؤه بها تكليفه إياه طاعته فيها؛ سمي التكليف ابتلاء على مقتضى العرف، وذلك إنا لا نعرف ما يأتي الرجل منا، وما نذر حتى يكلفه، والله عالم بنفسه غير محتاج إلى اجتلاب العلم بالابتلاء ولكنه على ما ذكرته.

الباب الثالث والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله لام

الباب الثالث والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله لام اللباس اللباس واللبس: ما يلبس واللبس المصدر، وسُمِّي الخلط لبسا لأن وجه الصواب مستمر معه، وأصل اللبس الستر، واللبوس مثل اللباس، قال الشاعر: لبوسا ومطعما وجاء في القرآن بمعنى الدرع، وهو قوله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ). واللباس في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) جاء في التفسير أنهن سكن لكم، وأنتم سكن لهن، وقيل: معناه أن الرجل والمرأة يتضامان فيصير كل واحد منهما بمنزلة اللباس للآخر، ومن الأول قوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) أي: سكنا. الثاني: الثبات، قال الله: (أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) ومعنى قوله: (أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ) أعطيناكم، كما قال: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)، والحديد إنما [يُسْتَثارُ من الأرض]، وعبر عن الإعطاء بالإنزال، كما يعبر عن الجعل بالرفع، فتقول: رفعنا أمرنا فى الوالي، وقيل: إنما قال: ((أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا)؛ لأن أصول اللباس ينبت [بماء السماء]، وقيل: [بذره كان من السماء].

الثالث قوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) قالوا معناه: العمل الصالح، وهو على هذا التأويل مرتفع على الابتداء، وذلك من صفته، وقيل معناه أن ستر العورة: لباس المتقين، وقيل؛ رفع بإضمار هو والمعنى، ولباس التقوى وهو خير، وقِيل: لباس التقوى اللباس الخشن الذي يلبسه من يختار العبادة، وأشير به إلى الصوف، وبالأول إلى الكتان والقطن، وقيل: هو لباس الصلاة، لأن الصلاة أحق ما يسمى بالتقوى، وقيل: أنزلنا عليكم الوحي الذي فيه لباس التقوى، ولباس التقوى على هذين التأويلين منصوب، وقال ابن الكلبي: لباس التقوى العفاف؛ لأن المؤمن لا تبدوا عورته وإن كان عاريا، والفاجر لا يزال تبدوا عورته وإن كان كاسيا، وذكر اللباس هاهنا الذكر عن بني آدم.

لولا

لولا لولا كلمتان يعدهما النحويون من حروف الرفع على المسامحة، وإنما يرتفع ما بعدهما على الابتداء وضم لا إلى لو للمعنى الحادث بينهما، وهو الدلالة على الشيء لا يقع من أجل غيره، كقولك: لولا زيد لخرجنا، فزيد مبتدأ لم يعمل فيه (لو) ولا (لا)، وأما قولهم لولاك فغير جائز عند المحققين. والصواب لولا أنت لكان كذا على الابتداء والخبر، فإذا قلت: لولا زيد تأخذه، فزيد منتصب بفعل مضمر، والظاهر تفسبر، ويسمى هذا تحضيضا، والتحضيض توكيد الأمر والمعنى، لولا تأخذ زيدا تأخذه، وقال القتبي: لولا تكون في بعض الأحوال بمعنى هلا، وذلك إذا رأيتها بغير جواب تقول: لولا فعلت كذا تريد هلا، قال الشاعر: تَعُدُّون عقر النيبِ أفضلَ مَجْدِكُمْ ... بني ضَوْطَرى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا يريد ولا تعدرن الكَمِيَّ المقنَّع، فإذا رأيت لولا جوابا كقوله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) فهي التي تكون لأمر لا يقع لوقوع غيره. وجاء في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: على قول بعض المفسرين بمعنى لم، وهو قوله: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) معناه أنهم لم يؤمنوا يعني: أهل القرية، ثم استشنى قوم يونس بالنصب على الانقطاع مما قبله؛ ألا ترى أن ما بعد إلا في الجحد يتبع ما قبلها، فيقول: ما قام أحد إلا زيد، وإذا قلت: ما فيها أحد إلا كلبا وحمارا نصبت؛ لأنهما منقطعان عما قبل، إلا وكذلك قوم يونس منقطعون من قوم غيره من الأنبياء ممن لم ينفعه إيمانه، ولو كان الاستثناء هاهنا قد وقع على طائفة منهم لكان رفعا، وقيل: (إِلا قومَ

يُونُسَ) مردود إلى قوله: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) إلا قوم يونس. ويكون على أن يؤمن أهل قرية بأسرها، [حتى لا يشتد منهم أحد إلا قوم يونس]، يقول: فهلا كانت القرى كذلك، وهذا الوجه أجود من الأول، وقال بعضهم: إلا هاهنا بمعنى سوى، أي: فهلا أهل قرية سوى قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم وزال عنهم العذاب، وعندنا أنهم آمنوا قبل أن يروا من العذاب ما يقع به العلم الضروري؛ بأنهم لو صاروا إلى ذلك كانوا ملجأين، والملجأ غير محمود على فعل الخير. قال الثاني: بمعنى هلا، قال اللَّه: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ) وقوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) وقوله: (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) وكذلك لو ما في قوله تعالى: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ) أي: هلا وهذا والأول عندنا سواء. الثالث: التي تكون لأمر لا يقع لوقوع غيره، قال الله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)، وقيل: المسبحون المصلون، وقد ذكرناه، ويجوز أن يكون من التسبيح.

لما ولما

لَمَّا ولِمَا لَمَّا تكون بمعنى لم وبينهما فرق، ويدخل فيه الألف للتوكيد، وإذا كان مخففا كان بمعنى إلا، فالذي هو بمعنى لم، قوله: (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ) والمخفف الذي يكون دخوله بمعنى إلا، وقوله: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) وقوله: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، وهي لغة لهذيل، والمشدد أيضا بمعنى حين، قال الله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) وفي المخفف وجه آخر. فال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) إلى قوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) فقال: ما هنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما، دخلت على أن حين قلت: لمن فعلت؟ لأفعلن، ودخلت على نية اليمين، واللام الثانية للجواب؛ كقوله: (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ). وقال الكسائي: هو على مذهب الجزاء، قال اللَّه: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) جواب لقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ). وقال الفراء: قرئ: (لِمَا آتَيْتُكُمْ) بكسر اللام، والمراد إذ أخذت ميثاقكم بهذا الكلام، يعني: قوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) والفرق بين لَمَّا ولم أن لما يوقف عليها نحو قد جاء زيد، فتقول: لَمَّا، أي: لم

يجئ، ولا يجوز ذلك في لم وفي كلامهم كاد ولَمَّا، أي: كاد يفعل ولم يفعل، ولَمَّا جواب قد فعل ولم جواب فعل، لأن قد للوقيع. قال سيبويه:. لبست ما في لَمَّا زائدة، لأن لَمَّا تقع في مواضع لا يقع فيها لم؛ فإذا قال القائل: لم يأتني زيد فهو نفي لقوله: أتاني وإذ قال: لَمَّا يأتني فمعناه أنه لم يأت وأنا متوقعه.

اللغو أصل اللغو الصوت، وسواء كان له معنى أو لم يكن بمعنى، ثم سمي ما يتكلم به كل جيل لغة، وأصلها لُغْوة، كما قيل: [إن بك قِدَةٌ]، والأصل قِدْوَةٌ ومثال هذا كثير، ثم قالوا: لغو الطائر ثم لما رأوا ذلك صوتا لا معنى له، جعلوه أصلا في كل شيء لا معنى له، فقالوا لغى فلان يلغوا؛ إذا تكلم بكلام لا معنى له، ومنه قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) أي: عارضوه بكلام لا معنى له لشغلوه به عن قراءته؛ ثم سموا المسقط الملغي لغوا؛ لأنه في سبب ما لا معنى له، وقيل: ألغيت الشيء إذا أسقطته، وقال جرير: ويسقط بينها المرئي لغواً كما ... كما أَلْغَيْتَ في الدِّيَة الحُوارا ثم سموا الباطل لغوا تشبيها بالمسقط الملغي؛ لأن الباطل يسقط مع الحق؛ فلا يكون له ثبات، ويقال للفحش لغو؛ لأنه ساقط من الكلام مطرح لا يلتفت إليه، ويقال: هو لغو ولغا، وقيل: اللغو في اليمين؛ لأنه لا إثم فيه، فكأنه ساقط لا معنى له، ويجوز أن تكون اللغة من قولهم لغى الشيء يلغي إذا يعلو به فأمَّا اللهجة فهي من قولهم: لهجت بالشيء إذا لزمته. واللغو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: اللغو في اليمين، قال اللَّه: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) قالوا: هو قول لا والله، وبلى والله، مما يقوله الرجل ولا يعتمده، وقيل: هي اليمين الكاذبة التي يرى صاحبها أنه صادق فيها، وليس فيها كفارة ولا إثم، وقال

سعيد بن جبير: اللغو أن يحلف الرجل على الحرام؛ فلا يؤاخذه الله بتركه، وهنا موافق لتأويل من تأول قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) هو أن يمتنع باليمين عن فعل مباح أو يقدم على فعل محظور، وعند الكوفيين: أن الغموس لا كفارة فيها، لأنَّهَا يمين ولا يترقب بِرُّها ولا حنثها فهي كللغو، والمؤاخذة المعاقبة، ويقال: لا آخذك الله أي: لا عاقبك. الثاني: الباطل، قال اللَّه: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) وقال: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) أي: بالباطل. وقيل: يراد باللغو هاهنا جميع ما يلغى أي: يطرح، وقيل: أراد أنهم إذا ذكروا النكاح كبوا عنه، وقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) وقِيل: يعني به هاهنا الكفر. الثالث: مكروه الكلام، قال: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً) (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا) واللاغية مصدر مثل العافية، والعاقبة.

اللام المكسورة

اللام المكسورة أجمع أهل العربية أن الحروف حقها البناء على السكون؛ فإذا وقع الحرف أولا امتنع النطق به ساكنا؛ فاضطر الناطق إلى حركتها فحركت كلها بالفتح، لأنه أخف الحركات إلا حرفين الباء واللام، فقيل: مررت بزيد؛ وهذا لزيد فأمَّا الباء فعلة كسرها إنها لا تنتقل عن باب الجر إلى غيره، فألزم الكسر؛ لأن عملها الكسر؛ ولأنها لا تتغير عن حالها كما تتغير اللام والكاف، وذلك أن اللام قد تكون توكيدا والكاف تكون اسما وحرفه وكونها اسما، قال الشاعر: وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ فالكاف الثانية اسم لدخول الكاف الأولى عليه؛ لأن الحرف لا يدخل على الحرف فألزم الباء الكسر لما فارقت أخواتها؛ وأما لام الجر فإنها كسرت إزالة للالتباس، وذلك إنك لو قلت: إن هذا لزيد ففتحت اللام لم يعرف ليزيد التوكيد والتمليك؛ ألا تراهم لما ارتفع الالتباس في المضمر فتحوها، فقالوا: هذا لك وله. واللام المكسورة في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى كي، قال الله: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ) أي: كي تنذرهم. الثاني: بمعنى أن، قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) وقوله: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) أي: أن تزول. قالوا الثالث: في موضع لأن لا، قال: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ): أي: لأن لا تكفروا، وهو مثل قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قيل: لأن لا تضلوا، وليس لا عد المحققين النحويين مما يحذف في هذا الموضع، وإنما المعنى في ذلك كراهة أن تضلوا، ومعنى قوله: (إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ)، أنهم أشركوا معنا غيرنا فعبدوه دوننا ليكفروا

نعمنا عليهم، ويطرحوا شكرها وليتمتعوا في الدنيا باطراح عبادتنا، وذلك أن العبادة فيها على النفس مشقة، فهم اطرحوها حبًّا للتمتع وللترفه. وقال بعضهم: معناه جعلوا ما رزقناهم وأنعمنا به عليهم سببا إلى الكفر، واللامات ثمانية: لام القسم، ولام الابتداء، ولام الإضافة، ولام الأمر، ولام كي، ولام الأصل، ولام التعريف، ولام الاستغاثة، ولام القسم: لأمر لقد ولا يجوز أن تكون لام الابتداء؛ لأن لام الابتداء لا تلحق إلا الاسم، وما كان بمنزلة الاسم من الفعل المضارع في باب إن، ولام الإضافة كقوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ولزيد الثوب، ولام الأمر كقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) ولام كي مثل: (وَلِيَرْضَوْهُ)، ولام الأصل: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) ولام التعريف: (آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) ولام الاستغاثة، قول الشاعر: يا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لي كُلَيْباً

الباب الرابع والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ميم

الباب الرابع والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ميم مَا ومَنْ قال أهل العربية مَا ومَنْ أصلهما واحد، جعلت مَن لمن يعقل، وما لغير من يعقل، وتجيء ما بمعنى لا، وبمعنى ليس، وبمعنى الاستفهام، وبمعنى مَن، وبمعنى الذي. وهي في القرآن على هذه الوجوه كلها؛ فمجيئها بمعنى لا، قوله: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) قيل هي: بمعنى لا، ويجوز أن تكون بمعنى لم، أي: لم يقل لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، وكذلك: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)، هي هاهنا بمعنى لم لا غير. ومجيئها بمعنى ليس، قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أي: ليس لكم ذلك. ومجيئها في لفظ الاستفهام وهو يقريع، قوله تعالى: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ). وتجيء بمعنى التوكيد، في قوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي: فبرحمة عظيمة، لأن دخولها في هذا الموضع وأمثاله لابد أن تكون بمعنى، وليس هاهنا معنى سوى التوكيد، وتدخل بمعني مَن، وهو قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) أي: ومَن بناها، والعرب تقول: سبان ما سبح الرعد بحمده، وقيل: المراد السماء وبنائها، وكذلك: (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) أي: وطحوها.

وتجء بمعنى الذي، وهو قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) وقوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ). وقال أبو عبيدة: مجازه مجاز اليمين، كأنَّه قال: الذي أخرجك ربك؛ كقوله: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) إنما هو الذي خلق الذكر والأنثى. قال الفراء: جوابه: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) تقول فامض لأمرك في الغنائم على ما شئت كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وهم كارهون فافعل ذلك. وقال الكسائي: قد يكون قوله: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ) هو والجواب فمجادلتهم الآن كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، ومرادنا فيما ذكرناه من أن ما يجيء بمعنى لا وبمعنى ليس وغير ذلك إنها تقع موقع ذلك، ويفيد فائدة ليس إن معنى ما معنى ليس وغيره مما ذكرناه.

المس

المس أصل المس اللصوق، مسسته بيدي ثم قيل على وجه التمثيل مسه الضر، وقيل: مسه النار، ومس الرجل المرأة إذا جامعها، والمس الجنون، ورجل ممسوس مجنون، وما مسوس نالته الأيدس، والفرق بين المس واللمس، أن اللمس يكون باليد لتعرف الخشونة أو اللين أو غير ذلك، ويكون المس باليد والحجر وغيره، وقد ذكرنا ذلك. والمس في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الجماع، قال الله: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) وقوله: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) وإنَّمَا سمي الجماع مسًّا؛ لأنه مع المس يكون. الثاني: الإصابة، قال الله: (مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي: أصابتهم الشدة والرخاء؛ فجعل المس هنا موضع الإصابة؛ ليدل على قصر مدة ما أصابهم من ذلك، وتعرف به أن مدة المكروه والمحبوب في الدنيا قصيرة، وقال: (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) وقال: (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ). الثالث: الجنون، قال الله: (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ). الربع.: المس بالجارحة، قال الله: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أراد بالمطهرين الملائكة، وهو التطهير من الذنوب، وقيل: لفظه لفظ خبر، ومعناه النهي، أي: لا يمسه إلا طاهر.

المعروف

المعروف قد ذكرنا أصله، وهي في القرآن كل أربعة أوجه:

الأول: القدر المستحق بحق الولاية، قال الله: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أي: من كان غنيا من أولياء اليتامى فليستغن بماله عن مال اليتيم، ولا يتناول منه شيئا، ومن كان فقيرا فليأخذ منه القدر الذي يستحقه بقيامه عليه من غير تجاوز له. وقال بعضهم: يأخذ منه القليل على جهة القرض، قال: والمعروف هاهنا القرض، وكذلك في قوله: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي: بصدقة أو قرض. فال أبو علي - رحمه الله -: له في المال القليل أجر مثله من غير تجاوز، وليس له في المال الكبير أجر مثله؛ لأنَّهَا تكونن أكثر من نفقته ونفقة عياله، والله تعالى جعل له الأكل بالمعروف، فإن كان أكله بالمعروف أكثر من أجره مثله لم يحل له ذلك، وهذه الآية وهي الأصل في الحجر على المفسد لما له؛ لأن اليتيم إذا بلغ ولم يؤنس رشده؛ منع من التصرف في ماله فغيره ممن يجري مجراه في إفساد ماله مثله. الثاني: التزين، قال الله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي: إذا بلغن انقضاء عدتهن، فلا إثم عليكم في تركهن والتزين والتطيب وطلب الأزواج من وجه يحسن ويؤلف ولا ينكر وكل ما كان حسنا مألوفا فهو معروف. الثالث: القول الحسَن، قال الله: (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) أي: أعطوهم ما يعطونهم إياه وعدوهم بعد ذلك وعدا حسنًا جميلا، أراد أن أعطوهم في لين مس وحسن قول من غير انتهاز وهذا على وجه الترغيب دون الإيجاب؛ وإن كان اللفظ لفظ أمر، ومثله قوله: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وليس ذوي القربى هاهنا بالوراث. والشاهد أنه [قرنهم] باليتامى والمساكين، وقال بعضهم: نسخ أمر المشركين الفرض في القسمة وإباحة الثلث للميت يجعله حيث يريد، ونحن نقول: إن النسخ لا يكون في

النوافل، وإنما هو في الفروض، وقوله: (لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) والمعنى إباحة التعريض للمرأة المعتدة بالنكاح دون التصريح. الرابع: قدر الإمكان من ننتة العدة، قال: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) يعني: نفقة العدة، وهو حق على المتقي وغير المتقي، ولكنه خص المتقين تشريفا لهم، وقد تكلمنا في هذه الآية ما فيه كفاية.

من

مِنْ قال النحويون: من تدخل لابتداء الغاية، وهو قولك: سرت من البصرة، فأعلمت أن ابتداء سيرك كان منها، وقولك: من فلان إلى فلان، قال: وأخذت منه درهما، وسمعت منه حديثا،، أي: هو أول هذا الذكر. وتدخل للتبعيض في قولك: أكلت من طعامك، وأخذت من مالك، وقيل: معنى ذلك أنه جعل ماله ابتداء غاية ما أخذ منه، فدل على التبعيض من حيث صار ما بقي إمهاله والأصل واحد. قال المبرد: وتكون لإضافة الأنواع إلى الأسماء؛ كقوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) والرجس يجمع الأوثان وغيرها؛ فإذا قلت: من الأوثان وغيرها فإنما معناه الذي ابتداوه من هذا الصنف، قال: وكذلك قول سيبويه: هذا ياب علم ما الكلم من العربية؛ لأن الكلام يكون عجميا وعربيا فأضاف النوع إلى اسمه الذي يبين فيه، وهو العربية، وقيل: لما كان في الوثن رجس وغير رجس، قال: من الأوثان فحرم الرجس منها، وهو عبادتها، ولم يحرم أجسامها، ودخلت (مِن) على هذا التقدير، وقالوا: يكون دخولها كسقوطها في قولك: ما جاءني من أحد. وقول اللَّه: (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وعند المحققين من النحاة إنها هاهنا ليست زيادة؛ لأن الزيادة في الكلام من غير فائدة عيب؛ ولـ مِن هاهنا معنى صحيح، وهو أنك إذا قلت: ما جاءني أحد فجاز أن تكون أحد هاهنا بمعنى واحد، وجاز أن تكون أحد الذي هو بمعنى الجنس، فإذا دخل مِن زال اللبس فصار المعنى من الناس كلهم؛ إذا كانوا واحدا واحدا، وإذا لم يدخل مِن جاز، لأن لا يجيئه واحد ويجيئه اثنان فما فوق. وقال ابن درستويه: إنما أفادت هاهنا أنه لم يجيئه من هذا الجنس شيء، وإذا لم تدخل من، كان المعنى أنه لم يجيئه هذا الجنس كله، ولما كان بمعنى التنكير في الوجهين، والعموم موجود ظنوا أن مِن لا معنى لها.

وجاء في القرآن على أربعة أوجه فيما قيل: الأول: مجيئه بمعنى الباء، قال: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) وقال: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ). الثاني: بمعنى في، قال الله: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي: في الأرض. الثالث: بمعنى على، وقال اللَّه: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أي: عليهم، وعندنا أن ذلك يقال على المسامحة والمقاربة، فإذا أردت هذه الوجوه إلى أصل من في العربية صحت؛ فقوله: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي: ابتداء الغاية من ذلك، وهكذا قوله: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) أي: أمره ابتداء الغاية، وقوله: (مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي: ماذا خلقوا بعض الارض. الرابع: الوجه الذي ذكر أنه زيادة، وهو على ما ذكرناه، قال اللَّه: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) وقوله: (مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وقوله: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) قالوا: دخل مِن هاهنا لتختص هذا الملك من سائر الأشياء، وكذلك قوله: (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وإذا كان لدخوله معنى خرج من أن تكون زيادة، فقوله: (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي: بعض ذنوبكم، وهو الذي يتولون منه، وقوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)، فإن مِن للتبعيض، أي: بعض أبصارهم يريد ما حرم عليهم النظر إليه، وقيل؛ هو للتبيين لأنه لما قال؛ (يَغُضُّوا) احتمل أشياء كثيرة، فبين المراد بـ مِن فقال: (مِنْ أَبْصَارِهِمْ) وأما قوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) بمعنى قوله (مِنَ السَّمَاءِ)

أي: من جهة السماء من جبال يعني السحاب، وهو شبيه الجبال فجعلها جبالا على التشبيه، كما تقول للشديد المقدام: إنه لأسد، أي: كالأسد، وقال فيها: (مِنَ بَرَدٍ)، مِن هنا للتبعيض، وذلك أن ما أنفع من البرد في هذا الوقت غير ما يقع في الوقت الآخر، كما يقع في هذا الوقت هو بعض البرد. وقال المبرد: أراد من جبال في السماء وتلك الجبال من البرد وإلى نحو من ذلك، ذهب أبو علي - رحمه الله -. وقال الزجاج: أراد من جبال برد، كما يقال: خاتم في يدي من حديد، والمعنى خاتم حديد في يدي، والوجه هو الذي قلناه، وقيل أيضا: مِن الأولى لابتداء الغاية؛ لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض؛ لأن البرد بعض الجبال التي في السماء، والثالثة لتبيين الجنس إذا كان جنس تلك الجبال البرد.

المد

المد أصل المد إشباع بعض الشيء بعضا، ومنه مددت الجيش ومد الحبل ومدة الشيء وأمد الجرح؛ كأنَّه اتبع فسادا بفساد، ومنه مادة الشيء، وهو ما يتشعب منه. وهو في القرآن على سبعة أوجه: الأول: التعمير، قال الله: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي: يمد لهم الأيام، وهم في ضلالهم يتحيرون، كما قال: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) أي: يمد له العمر، وهو في ضلاله ويحسن منه ذلك؛ لأن العبد يصل اختيارا وهو قادر على الهداية. وليس يجب على الله أن يحول بينه وبين الاستكثار من المعاصي، كما لا يجب عليه أن يحول بينها وبينه أصلا. ويجوز أن يكون معناه أنه يمنعهم الطاعة، وفوائده التي يؤتيها المؤمنين، وذلك أن تسوية المعاصي بالمطيع مفسدة وإغراه بالازدياد من المعصية. الثاني: الإعطاء، قال الله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ) وقال: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ). الثالث: من مدد الجيش، قال: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) وقوله: (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ) كذا

جاء في التفسير، وهذا الوجه والذي قبله سواء، ولا فرق بين أن تقول أمده بعطيه، وأمده بجيش، ويقال: أمد النهر، ومده نهر آخر. الرابع: البسط، قال الله: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي: مبسوط، ومنه مددت الثوب والبساط، أي: بسطته. الخامس: الدوام، قال اللَّه: (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا) أي: يديمه. السادس: [الإدرار، قال الله: (مَالًا مَمْدُودًا) أي: دارا لا تنقطع في شتاء ولا صيف]. السابع: التسوية، قال الله: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) قالوا: معناه وألقى ما على ظهرها من الجبال حتى استوت، وقيل: معناه غيرت عن هيئتها وبدلت.

المستقر

المستقر أصل الاستقرار السكون، ومنه قيل: لبطن الوادي قرار، لأن الشيء إذا صار إليه سكن، والقرة البرد، لأن الناس يسكنون معه، ويقال للشيء: يوضع في موضعه صابت بقر؛ لأنه إذا وضع في موضعه لزمه، ولم يزايله فشبه بالساكن، ويقال: للهودج قد لثباته على ظهر البعير؛ كأنَّه سكن قوته، وأما قولهم: قر عليه دلوا من ماء، فليس من هذا وإنما حكوا صوت الماء عند انصبابه، وأما قرت عينه، فهو راجع إلي البرد، وهو خلاف سخنت. والمستقر في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: قوله: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) قالوا: المستقر أرحام النساء، والمستودع أصلاب الرجال، والمرتفع على معنى قبلكم مستقر ومستودع وقرئ فمسقِر بكسر القاف، ومستودَع بفتخ الدال لا غير، أي: فمنكم مستقر في الرحم ومنكم مستودع في الصلب. وقيل: مسقر في الدنيا، ومستودع في الأصلاب وقيل: مستقر في الأحياء، ومستودع في الثرى. الثاني: قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) أي: حيث مستقر بالليل ومستودعها حيث يموت، هكذا قيل. وقيل: مستودعها كالولد في البطن والنطفة في الظهر، وقال: (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أي: كتب ذلك مع أنه عالم به لما للملائكة فيه من العبر. الثالث: المنتهى، قال اللَّه: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي: منتهى، وقيل: إن لأخذنا إياكم بالإيمان [جبرا وقسرا]، مستقر أي: وقت، وسوف تعلمون

في الآخرة، ومثله قوله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) أي: لمنتهى لها، وهو القيامة، والمعنى أن لها أجلا تصير إليه، وقرئ " لا مستقر لها " أي: هي تسير أبدا لا تستقر، وقيل: (لِمُسْتَقَرٍّ) أي: [لأبعد مطالعها ومنازلها في الغروب]، وقيل: لمقدار من السير قد استقرت عليه لا تجاوزها، وقيل: مستقرها وقوفها عن المسير في الليلة التي تطلع في صبيحتها من المغرب عند دنو الساعة.

المشي

المشي أصله من الزيادة والمشاء النماء.، والمشي الإسهال؛ لأنه زيادة عن الحاجة، ومشى بفلان مشيا ومشوا، وهو الدواء المسهل، وقيل للماشية ماشية؛ لأن الغالب على حرتها المشي دون العَدْو. والمشي في القرآن على أربعة أوجه: الأول: مجيئه بمعنى المضي، قال: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ). الثاني: بمعنى المرور، قال الله: (كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) أي: تمرون على قراهم وترونها خرابا بعد إن كانت عامرة. الثالث: السير، قال اللَّه: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) أي: سيروا، وهذه المعاني كلها متقاربة، يجوز أن يقع بعضها مقام بعض. الرابع: النماء، قال الله: (امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ) قال معناه: أنموا، قال الشاعر: مثلي لا يحسن قولا فعفع ... والشاة لا تمشي مع الهملع

أي لا تنمي، وقيل: أراد أن بعضهم قال لبعض: امشوا أي: امضوا، واصبروا أي: انطلقوا وهم يقولون هذا القول، ويقال: مشيت الماشية مشاء، وفشت فشاء، ونمت نماء، وضنت ضناء، وأمشى أصحابها وأفشوا وأنموا وأضنوا.

المرض

المرض أصله من الضعف، ومنه قيل: [امرأة مريضة الألحاظ والنظر أي: ضعيفتها]، وسمي المرض مرضا؛ لأنه يضعف الجسم، ومنه قيل: مرض في القول إذا ضعف قوله والتمريض القيام على المريض. والمرض في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الغم، في قوله: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) أي: غما بما يرزقه من التأييد حالا بعد حال، وسُمِّي الغم في القلب مرضا تشبيها بمرض الحسد، لأنه يغيره عن حاله. الثاني: النفاق، قال اللَّه: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي: نفاق وشك. الثالث: المرض المعروف، قال اللَّه: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أراد فمن كان كذلك وأفطر [فعليه عدة الأيام التي أفطر فيها]، فحذف أفطر، كما قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) يريد فمن كان كذلك [فحلق فعليه فدية، وقال: (وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ).

المحصنات

المحصنات أصل الكلمة من المنع، ومنه الحصن لمنعه لما فيه، وامرأة حصان لمنعها فرجها [وفرس حصان لامتناع فارسيه به]، والعرب تسمى الخيل حصونا به، قال الأشقر: ولقَدْ عَلِمْتُ عَلَى تَجَشُّمي الرَدَى ... أنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لَا مَدَرُ وأوصى بعضهم بمال في الحصون فجعل في الخيل، وقال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً). والإحصان على ضربين:

أحدهما: ما يتعلق، وجوب الرجم على الزاني، وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما، وقد تزوج امراة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما كذلك. والآخر: الإحصان الذى يجب به الحد على قاذفه، وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما عفيفا ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا، وخص قاذف المحصنات، وأجمعوا على أن قاذف المحصنين مثله، واتفقوا على أن المراد القذف بالزنا دون القذف بالسرق وشرب الخمر والكفر وغير ذلك. والمحصنات في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الحرائر، قال الله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ) يعني: الحرار، أي: من لم يتسع حاله ليتزوج الحرائر لما يحتاج إليه من زيادة النفقة والمهر تزوج الإماء؛ لأن مهرهن أقل ونفقتهن على مواليهن، وسميت الحرة محصنة؛ لأنَّهَا تحصن أي: تمنع وليست كالأمة تبتذل وتمتهن. الثاني: ذوات الأزواج، قال اللَّه: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وذلك أن أزواجهن أحصنوهن فعطف بهن على قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) أي: وذوات الأزواج محرمات عليكم،: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) يعني: سبايا المشركين، فإنهن محللات لكم إذا استبرأتموهن، وإن كان لهن أزواج في بلاد الشرك. الثالث: العفائف، تجال اللَّه: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) أي: عفيفات، وكذلك قوله: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) أي: أعفاء غير زناة، وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أراد أنه أحل لكم طعام أهل الكتاب، وأحل لكم العفائف من المؤمنات، والعفائف من اليهود والنصارى. وقال بعضهم: أراد اللاتي كن على اليهودية والنصرانية ثم أسلمن وهذا غلط؛ لأنه ذكر المؤمنات، فلم يكن لذكرهن ثانية وجه، قال الشعبي: إحصان الكتابية أن تغتسل من الجنابة

وتحصن فرجها من الزنا، قالوا: وأما قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)؛ فإن إطلاق اسم الشرك لا يتاول أهل الكتاب، وإنما يتناول عُبَّاد الأوثان؛ لأن الله فرق بينهم في قوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) فعطف المشركين على أهل الكتاب. الرابع: المسلمات، كذا قال بعض أهل التفسير، ولم يقل: الذين يرمون المحصنين، لأن قوله: (الْمُحْصَنَاتُ) دليل عليهم، وذلك أن المرأة ترمى بالرجل، كما قال (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يذكر البرد، لأنَّهَا إذا وقت الحر وقت البرد، وخص المحصنات بالذكر؛ لأن ذلك [اتسع]، وأكثر أهل التفسير على أن المحصنات هاهنا العفائف.

المثل

المثل المثل في الأصْل يشتمل على ذكر تماثل الشيئين كقولهم: كما تدين تدان، وهو من قولك: هذا مثل الشيء، ومثله كما تقول شبهه وشبهه، وبين المثل والشبه فرق ذكرناه في كتاب " البديع في الفروق " ثم جعل كل حكمة [وسائرة ومثلا]، وقد يأتي القائل بما يحسن أن يتمثل به، إلا أنه لا يتفق له أن يسير فلا يكون مثلا. وهو في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الشبه، قال الله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) وقال: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا). وقوله: (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) أي:. وصف شبها، وضرب المثل جعله يسير في البلاد من قولك ضرب في الأرض إذا سار فيها. الثاني: العبرة، قال اللَّه: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) وقوله: (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) والمعنى أنه صارت له شهرة كشهرة الأمثال السائرة، وأراد أن من بعدهم يتمثل بهم إذا رأي مثل حالهم. الثالث: على ما قيل الصفة، قال اللَّه: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي: صفتها أن فيها أنهارا.

وقال بعضهم: إن مثل ما يوعدون من أنهار الماء واللبن والخمر في الجنة ما يعرفون من هذه الأشياء في الدنيا، كأنَّه قال: مثل الجنة التي توعدون في الآخرة والجنة التي تعقلونها بهذه الصفة، وهذا هو الوجه المختار. الرابع: السنن، قال الله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني: سنن الذين من قبلكم، أي: [ما أخروا عليه في الدنيا من السراء والضراء] وهذا بعيد. والوجه أن يقال: إنه أراد ولما يصبكم مثل ما أصابهم من السراء والضراء، وقيل: الشبه والمثل في الشبه والمثل في الهيئة في أكثر الكلام، وقد يقال فيه: مثل ومثل لغتان، والشبه في المتماثلين من كل شيء، وبيان ذلك مشروح في كتابنا في الفروق، وليس هذا موضع الإطالة فيه، وعندنا أن المماثلة تكون بين الذوات والمشابهة بين الصفات، ومثله قوله: (وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي: سننهم. ومثله قوله: (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)، يعني: سنن العذاب، كذا قيل، والصحيح أنه أراد: (أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: أخبارا تكون لكم مثلا، وعبرة تعتبرونها فتنتفعون بها في آيات الدِّين والدنيا، وهكذا معنى قوله: (وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي: مضى في القرآن من أخبارهم ما يكون مثلا.

المتاع

المتاع أصله الطول والامتداد، ومنه قيل: متع النهار إذا امتد، وتمتعت بالشيء إذا طال تلذذك به. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: المدة، قال اللَّه: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أي: مدة تمتد إلى حين، كذا جاء في التفسير، ويجوز أن يكون المراد المنفعة أي: لكم مستقر ومنفعة إلى حين. الثاني: ما ينتفع به من آلة، قال الله: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ). الثالث: المنفعة " قال الله: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) يعني: النار. جعلها الله تذكرة بنار جهنم، ومنفعة للمقوين. قال أهل العربية: للمقوي الضعيف،. والقوي وهو من الأضداد، وقيل: للمقوي الذي صار إلى القواء، وهو القفر من الأرض، ومثله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) وقال اللَّه: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) أي: منفعة يعني: أنها تقيكم من الحر والبرد، ومنه متعة المطلقة وهي أن تطلق المرأة قبل تسمية المهر، والدخول. قال أصحابنا: المتعة في هذا واجبة لقوله تعالى: (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فأمر بها، والأمر على الوجوب ثم أكد بقوله: (حَقًّا عَلَى

الْمُحْسِنِينَ) وليس في ألفاظ الإيجاب أوكد من هذا؛ لأنه جعلها من شرائط الإحسان.، وعلى كل أحد أن يكون محسنا، وإذا وجبت عليهم وجبت على غيرهم، لأن أحدا لا يفرق بين المحسن والمسيء في الفروض، ولا يجوز أن تكون ندبا؛ لأن الندب لا يختلف فيه المحسنون وغيرهم، وعند أصحابنا أن المتعة لا تكون أكثر من نصف مهر المثل، وفيه كلام كثير أوردناه في التفسير. وأما قوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فالمتاع هنا نفقة العدة، وأوردنا هذه الوجوه على ما جاء عن السلف، وعندنا أن المراد بجميع ذلك المنفعة مع التلذذ، ومثله: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ). وقال بعض أهل اللغة: أصل التمتع التزود، والمتاع الزاد، وتستعمل في التلذذ، وقوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ). قال المفضل: إلى هاهنا بمعنى مع، والتمتع بالعمرة إلى الحج، وهو أن يأتي بعمرة في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، حى إذا قضاها حل من إحرامه ثم أحرم من عامه بالحج فعليه ما استيسر من الهَدْي، واستيسر وتيسر واحد مثل استأخر وتأخر، وأدنى ذلك شاة، ويجوز مثلها في الأضاحي، وكذلك القادر، وليس على المفرد هدْي، وأما متعة النساء فحرام، ومن خالف فيه فهو خارج من الإجماع، والإجماع قد سبق بتحريمه، ونهى عمر - رضي الله عنه - عنها لنهي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عنها، والشاهد ما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم المتعة بالِطلاق والنكاحِ "، وقول الله عز وجل: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) والمتعة هي وراء ذلك، وأما متعة الحج فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحله بثلاثة أيام ثم حرمه، وكان ابن عباس يحل المتعة فقال له علي - عليه السلام - " أنت امرؤ تائه نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن متعة النساء، وأكل حمر الأهلية بخيبر "، فرجع ابن عبَّاس عن هذا القول، ونادى يوم عرفة بأعلى صوته: " أنا عبد الله بن العباس ألا إن المتعة حرام كالميتة والدم ".

المولى

المولى المعتِق " والمعتَق، والعصبة، وابن العم، والخليفة، والصاحب، والولي، والأولى بالشيء، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " أية امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل "، أيْ بغير إذن وليها، ويقال لمن تولاه الرجل وإن لم يكن قريبا له مولى. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الولي، قال اللَّه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) أي: لا ولي لهم، وقوله: (لَبِئْسَ الْمَوْلَى) أي: لبئس الولى، وقِيل: لا مولى لهم أي: ناصر لهم، وقيل: المولى هو المتولي للتدبير لمن ولاه، تقول: نصر اللَّه النبي والمؤمنين بما تولى لهم من التدبير،: (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) أي: لا متولي لأمرهم عند أخذ اللَّه إياهم. الثاني: العصبة قال الله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) يعني: العصبة، ومثله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) كذا قيل، ويجوز أن يكون المولى هاهنا بمعنى الأولى بالشيء، والمعنى أن لكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون وارثا هو أولى به. من غيره، ومنه قيل لمالك: العبد مولاه؛ لأنه أولى به. الثالث: ابن العم،، قال اللَّه: (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) أي: وبنو أعمامكم، ويجوز أن يكون المعنى: (وَمَوَالِيكُمْ)

أولياءكم في الدِّين، ويجوز أن يقال: أراد أنهم أصحابكم؛ لأنكم تستعينون بهم في بعض أموركم، وهم أيضا [منضافون إليكم]، وصاحب الرجل منضاف إليه، قال الشاعر: لست بمولى سوأة أدعى لَهَا ... فَإِن لسوآت الْأُمُور مواليا

(ما بين أيديهم وما خلفهم)، و (من بين أيديهم ومن خلفهم)

(مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، و (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) جاء هذا الحرف في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) أي: ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم. الثاني: في سورة مريم: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) يعني: الآخرة،: (وَمَا خَلْفَنَا) ما يكون من أمور الدنيا ومثله ما حكاه عن إبليس في قوله: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) قال: لأخبرنهم أن لا بعث (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أن أزين لهم الدنيا وقريب منه، قوله:، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ) يعني: عذاب الآخرة وعذاب الدنيا، وقال: (اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) عن صنع الله في الأمم الخالية،: (وَمَا خَلْفَكُمْ) يعني: عذاب الآخرة.

الثالث: بمعنى قبل وبعد، قال الله: (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي: قبل بعثه وبعده، يعنى: هودا - عليه السلام.

المنسك

المنسك أصل النسك: الذبح، والنسيكة الذبيحة، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل عبادة نسك، وكل عابد ناسك، ومنه مناسك الحج. والمنسك في القرآن على وجهين: الأول؛ المراد به الذبائح، وهو قوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا) أي: جعلنا لكل أمة من الأمم التي بعث فيها الأنبياء ذبائح يتقربون بها إلى الله، والشاهد قوله تعالى: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) وأصل المنسك المصدر فعبر به عن الذبائح، وفي قوله: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) دليل على بطلان قول المجبرة إذ قالوا: إنه تعالى جعل للكفار منهم ذلك ليذكروا عليه اسم الأصنام. الثاني: الضرب من العبادات، وهو قوله: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ) أي: جعلنا لكل أمة بعثنا فيها نبيا ضربا من العبادات والشرائع، وقال بعضهم: المنسك الموضع الذي يجب أن يتعهد، وقرئ (مَنْسِكًا) أي: مكان نسك، مثل المجلس لمكان الجلوس.

المصيبة

المصيبة أصل الإصابة القصد، وفي المثل: أصاب الصواب فأخطأ الجواب أي: أراد، ومنه قوله: (رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ) أي: أراد وصاب الشيء إذا نزل من علو إلى سفل، كأنَّه يقصد الوجهة التي يمر فيها، وكذلك في إصابة السهم. والمصيبة في القرآن على وجهين: الأول: مكاره الدنيا من القحط والجدب والمرض، قال اللَّه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ) فالمصيبة في الأرض الجدب، وفي الأنفس المرض، ودليل هذا قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) ولو أراد بالمصيبة الطاعة، والمعصية على ما يقوله المجبرة لم يقل: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) وقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) يعنى: هذه المكاره؛ وقال: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، فهذا دليل على أن المصبية ليست بالمعصية، إذ ذكر أنه لم يأذن بالمعصية، وأذن بالمصيبة، والمصائب من الله حسنة، والإذن على هذا التفسير الأمر، وهو أن يأمر الملك بإنزال المصيبة فيهم، ويجوز أن يكون بمعنى العلم، والمراد أن اللَّه يعلمها ويجازيهم عليها بالحسنى. الثاني: الهزيمة والقتل، قال الله: (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) يعني: أنكم إن هزمتم استصوب المنافقون بخلفهم عن القتال معكم، والأصل في هذه الوجوه واحد وهو الخلة المكروهة الشديدة الكراهة بترك الإنسان.

المقام

المقام المقام يكون مصدرًا يقال: قام الرجل مقاما حسنا، أي: قياما، ويكون موضع القيام ويجمع مقامه، ومنه: (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) وأصله من الاستواء، قوم الشيء إذا سواه، وأقام الوزن أي: عدله، وقام الرجل لاستوائه منصبا، ويقال: مقام ومقامة مثل مكان ومكانة هذا قول، وقول آخر أن المكانة الطريقة، ومنه قوله تعالى: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) أيْ: على طريقتكم في الكفر والمقامة الجماعة، قال زهير: وفيهمْ مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهمْ والمقامة بالضم المجلس يؤكل فيه، والمقامة بالفتح المجلس يتحدث فيه، والمقام الإقامة، وفي قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) خلاف. قال ابن عباس، ومجاهد: يعنى: الحج كله، وروى عن مجاهد أيضا أنه قال: أي مُصَلًّى أو مدعى من صليت إذا دعوت. وروي عن ابن عباس أيضا قال: هو المقام بعرفة، وقال قتادة: هو الأمر بالصلاة عند المقام وإلى هذا ذهب أبو علي - رضي الله عنه - وقال: هو الحجر الذي فيه أثر قدم إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فأمَّا المقام فالإقامة أقام إقامة ومقاما. والمقام في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) قال: معناه مساكن أمن أهلها، ومثله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) يعني: مساكن حسانا، وقيل: المقام الكريم المنابر.

الثاني: القيام، قال الله: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ) أي: لا يقومون لهم، فهذا كل هذا التأويل مصدر، ويجوز أن يكون المكان، وقرئ: (لا مُقَامَ لَكم) بضم الميم، أي: لا إقامة لكم، يقال: أقمت بالبلد مقاما وإقامة ونحوه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) يعني: من خاف القيام بين يدي ربه في الحساب، فترك المعصية، وقيل: من خاف مقام اللَّه عند المعصية عرضت فذكر أنه يسأل عنها فتركها، وحقيقة ذلك مقام العبد بحيث بدله الله عاصيا. الثالث: المكان، قال الله: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) أي: مكان يعبد فيه ربه، والمعنى ما منا إلا من له مقام معلوم، فحذف من، كما قال الشاعر: لو قلت ما فِي قومها لم تيثم ... يفضلها فِي حسبٍ وميسم وقد مر ذلك.

المفاتح

المفاتح قد ذكرنا أصل هذه الكلمة فيما تقدم، وهو في القرآن على وجهين: الأول: جمع مفتح، وهو الذى يفتح به القفل وغيره، قال اللَّه: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) وقيل: المفاتح هاهنا الكنوز، واحدها مفتح. الثاني: قوله: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) قال ابن عباس: أراد الرجل يوكل بضيعة الرجل فرخص له أن يأكل من ثمرتها أو مواشيه فرخص له أن يشرب من ألبانها. وقال أبو علي: أراد الثبوت التي مفاتيحها بأيديكم وأنتم مؤتمنون عليها؛ فجعل من الوجه الأول.

الباب الخامس والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله نون

الباب الخامس والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله نون الناس أصل الناس: أناس أسكنت الهمزة منه فأدغمت اللام، كما قيل: لكنا، وقيل: الناس لغة مفردة، والأناس لغة أخرى، ولو كان أصله أناسا لقيل في التصغير أنيس، وإنما يقال: نويس وتجمع أناس على أناسي، وقيل: (أناسي جمع، إنسي واشتقاقه من الأنس، خلاف الوحشية، لأن بعضهم يأنس ببعض، والناس جماعة لا واحد لها من لفظها، وواحدها إنسان على المعنى. وهو في القرآن على ستة أوجه: الأول: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) جاء في التفسير أنه أراد النبي - عليه السلام - قيل: وهو مثل قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) وكان الذي أخبرهم بجمع أهل مكة نعيم بن مسعود الأشجعي، ويجوز عندنا أن يكون معنى قوله: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، فقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) لفظ عام، والمعنى مخصوص؛ لأن الناس كلهم لم يخبروهم ولم يجمعوا لهم أنصار، وبيان هذا مستقصي في كتابنا في التفسير،

ويذهب بعضهم إلى أنه لا صيغة للعموم في اللغة، قال: لأن كل لفظ صيغته صيغة العموم، قد جاء مثله في الخصوص، وليس الأمر كذلك؛ لأن صيغة العموم معروفة، ولا يخص إلا دلالة وحيث لا دليل فهو على أصل العموم، ألا ترى أن قوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) لا يجؤز أن تخص، لأنه لا دليل فيه فهو على العموم، وصيغته صيغة العموم، وأما قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) فقد دل على أنه مخصوص، فكأنه قال: قد أوتيت أكثر الأشياء فهذا الأصل، والأول مجاز، وإذا خرج شيء عن الأصل؛ فإن الأصل لا يبطل به، وكل شيء موقوف على دليله، وألفاظ العموم من فيمن يعقل وما فيما لا يعقل، وأين في الأمكة، ومتى في الأزمنة، وكل فيمن يعقل وفيما لا يعقل، وغير ذلك فيما ذكره العلماء. الثاني: المؤمنون خاصة، قال اللَّه: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) يعني: أن للمؤمنين يلعنونهم فاللفظ عام، والمعنى خاص، ويجوز أن يعني: أن بعضهم يلعن بعضا في الآخرة مع لعن المؤمنين لهم، فيكون معنى الآية على ظاهره، وتأويل هذا قوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا). وقال الربيع: يراد لعن المؤمنين لهم ويخرج هذا على قولك المؤمنون هم الناس؛ كأنَّه لا يعتد بغيرهم، ومثل هذه الآية قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) أي كما آمن غيركم من الناس، وقيل: يعني بالناس هاهنا عبد اللَّه بن سلام وأصحابه. الثالث: بنو إسرائيل خاصة، قال الله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي). الرابع: من كان على عهد آدم وأهل سفينة نوح - عليه السلام -، قال اللَّه: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) وقد مضى القول في هذا.

الخامس: أهل مصر خاصة، قال الله: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) وقال: (عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ). السادس: الناس كلهم، قال: (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) أي: هو قادر على جميع الناس لا يفوتونه ولا يعجزونه، والمحيط في أسماء اللَّه تعالى بمعنى القادر القاهر الغالب. وقيل: الناس هاهنا أهل مكة خاصة، ومن العام الذى معناه العموم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، ولو جاء بصروف العموم عن ظاهره بغير دليل مجاز في هذا لأن علمه، وإن كان محيطا بالأشياء كلها، فقد يجوز أن يخبر عن بعضها أنه عالم به، كقوله تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) وقوله: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) وأما العام الذي بمعنى الخصوص؛ فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) وذلك أن المراد المكلفون والخاص الذي بلفظ الخصوص: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) والعام الذي جاء بلفظ الخصوص. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ) وقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ويكون عام يدخله الخصوص على غير هذا الوجه، كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ). وقد دلت السنة والإجماع على أن طائفة إذا أقاموا بذلك سقط عن الآخرين على أن جميع المؤمنين مأمورين به، إن عليهم ذلك ما لم يقم به بعضهم، والعرب تقول: أحمر البشر، وإن لم يحمر جميعه، لأن منه ما هو أصفر، وغسلت ثيابي وإن لم يرد كل ثوب وكساه جبة، وإنما أراد هذا أوان احمرار البشر، وهو أوان فراغي من الغسل.

النار

النار أصل النار والنور واحد، والألف في النار أصلها واو، ولذلك يقال: تنورت النار إذا أبصرتها، ويسمون السمة نارا؛ لأنَّهَا بالنار تكون، قال الراجز: قد سبقت آباءَهم بالنارِ إلى النارِ أي لما رأي أهل الماء سماتها خلوا لها الماء حتى شربت، وأصل الكلمة البياض، ومنه قيل: النورة لبياضها. وهي في القرآن على وجهين: الأول: مثل وهو قوله تعالى: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) والعرب تشبه الحرب بالنار، ويقولون: [فلان محش حرب]، إذا كان يقوم: بأمرها، وأصل الحش الإيقاد. الثاني: النار بعينها، قال اللَّه: (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا).

النسيان

النسيان أصله الترك، وسمي خلاف الذكر نسيانا؛ لأن الناسي للشيء تارك له، قال الله تعالى: (وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) أي: مغفولا عني متروكا، والنسيان الذي هو خلاف الذكر يفعله الله في الإنسان عند اشتغاله عن حاجته، وصرف الاهتمام عنها، ونسبه الله إلى الشيطان في قوله تعالى.: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) لأنه كان نسيها عند وسوسته إياه. وهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: الترك، قال الله: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) ولم يذكر أنه نسي نهي الله إياه. عن أكل الشجرة؛ لأنه لو كان كذلك، لم يكن له ذنب ولا عليه إثم، وإنما المعنى أنه أكل من مثل الشجرة التى نهي عنها، وظن أن النهي مقصور عليها، وترك الدليل الذي لو اعتمد لدله على أن النهي عام في جميع الجنس فصار ذنبه ترك الدليل، ومثله،: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي: استعملوه. ولا تتركوه، وقال: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) أي: تركوا طاعته فصارت عليهم بمنزلة المنسي فتركهم من رحمته.

وأصل الترك في الله مجاز وحقيقته هاهنا أنه أوجب لهم العذاب، ويجوز أن يكون المراد أنهم تركوا ذكر الله فمنعهم اللَّه الخير وذلك أن خيرك لا يبلغ من أنت ناسيه، ويجوز أن يكون معناه أنهم تركوا طاعته فعاقبهم اللَّه بنسيانهم إياها فسمي الجزاء على النسيان نسيانا. الثاني: بمعنى التخليد فِى العذاب، قال اللَّه: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ) المعنى خلدناكم في العذاب، وجعله نسيانا؛ لأنه جزاء بالنسيان، وهو ترك العمل للقاء ذلك اليوم، وليس هو خلاف الذكر، لأن ذلك فعل الله، ولا يجوز أن يفعله بهم ويعذبهم عليه على أنه يجوز أن يسمى سبب النسيان الكائن مهنم نسيانا، ويذكر أنه يعذبهم على النسيان، وهو يريد أن يعذبهم على سببه. الثالث: خلاف الذكر، قال اللَّه تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) خبر وليس بنهي، وقوله: (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) وأراد بقوله: (فَلَا تَنْسَى) الإخبار بفضيلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن جبريل يقرأه عليه، وهو أمي فيحفظه ولا ينسى منه شيئا، ثم يقرأ أصحابه، وقيل: (إلا ما شاء اللَّه) أن ينسخه بعد العمل فينسبه النبي - عليه السلام - أمير المؤمنين، ومنه قوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا).

النشوء

النشوء أصله الابتداء ومنه نشأت السحابة؛ إذا ابتدأت ترتفع من الأفق، وهو نشوء حسن، والنشوء من الناس الإيقاع يقع على الذكر والأنثى، قال نصيب: ولَولاَ أن يُقَالُ صَبَا نُصِيب ... لقلت نَفْسي النشوءُ الصغارُ بِنَفْسي كُل مَهْضُومِ الحشَايَا ... إذَا ظُلِمَت فَلَيس انْتِصَارُ إذَا مَا الذُلُ ضَاعَفنَ الحشايَا ... كفَاهَا إن بُلان لها الآزارُ وقد نشأت إنشاء إذا شئت، والمشيء في أسماء الله تعالى المبتدئ في الأشياء على غير مثال. والنشوء في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول الخلق، لأنه يبدأ به، قال الله: (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) وقال: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) وقوله: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ). الثاني: قوله تعالى: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) يعني: البنات،: (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي: الأنثى لا تكاد تستوفي الحجة، وجاء عن السلف لا تكاد تحتج المرأة بحجة إلا عليها، أي: جعلوا لله بنات والبنت هذه صفتها. الثالث: قوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) يعني: ساعات الليل، وقال الأصم: ناشئة الليل هو أن منشوء من منامك لصلاتك، وقال بعضهم: الليل كله

ناشئة، وقال آخرون: بعد صلاة العشاء ناشئة،: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) أي: أشد لمواطاة القلب السمع لخلو البال بالليل، ومن هذا قولهم.: أمن عمل بليل، [وقرئ: (أَشَدُّ وَطْئًا) ومعناه أبلغ في القيام]، وأبلغ في القول، ويجوز أن يكون معناه أغلظ على الإنسان من القيام بالنهار، لصعوبة السهر، وقال بعضهم: (أَشَدُّ وَطْئًا)، اثبت في همك لما تقرأ: (وَأَقْوَمُ قِيلًا) لأنه لا يشغلك شيء فيعرف صواب ما يقول؛ وفي النهار عوارض تشغلك عن ذلك، وقال بعضهم: (أَشَدُّ وَطْئًا) اثبت في الدين،: (وَأَقْوَمُ قِيلًا) اثبت في القراءة.

النفس

النفس النفس الدم، ومنه قيل: النفساء سيلان الدم عنها، وقال السموأل: تسيل على حد السيوف نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل ثم سميت الروح نفسا؛ لأن الإنسان يعيش بها كما يعيش بالدم، وأما النفس فالسعة، وفي الحديث الريح من نفس الله أي: من سعة رحمته على عبادة، ومنه قولهم: فلان في نفس من أمره أي. في سعة، ومنه قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) إذا اتسع ضوءه، وكل هذا يرجع إلى النفاسة، وهي أصل الكلمة وأولها. والنفس في القرآن على ستة أوجه: الأول: ذكر النفس، والمعنى لحملة الإنسان، قال الله: (وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي: يتوسوس به هو، وهتا مثل قولهم: كسبت يده ورأت عينه. والمعنى أنه كسب هو ورأي، ومثله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ) أي: [ما أبرءوني]، ونفس الشيء حقيقته يقال: هلكت نفس زيد، أي: هلك هو، وعلى هذا فسر قوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) أي: تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم.

ويجوز أن يكون معنى ذلك إنك تعلم ما أخفيه، ولا أعلم ما تخفيه عني، وجعل النفس عبارة عن هذا المعنى؛ لأن ما يخفيه الإنسان يخفيه في نفسه؛ فأخرج الكلام على العرف، ويجوز أن يكون المعنى تعلم غيبي، ولا أعلم غيبك؛ لأن ما في النفس غيب فلما ذكر النفس قابله بمثله ليحسن نظم الكلام، والمعنى معروف. الثاني: قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي: منكم. الثالث: مجيء الأنفس بمعنى الإخوان، قال اللَّه: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: على إخوانكم، وهو قريب من الأول: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) لأن الله بينها،: (مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) أي: يبقى أجرها وطيبها لكم، والبركة البقاء والثبات. الرابع: مجيئها بمعنى الإنسان، قال اللَّه: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي: الإنسان بالإنسان، وفي هذا دليل على أن الحُرَّ يقتل بالعبد؛ لأن شرائع من قبلنا. ثابتة الحكم علينا، ما لم يثبت نسخها، ودليل هذا قوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم "، وقد استوى الحر والعبد في الإيمان. وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر: أنه لا قصاص بين الحر والعبد إلا في النفس. وعند ابن أبي ليلى: أنه يجب بينهما في النفس وفي جميع الجراحات التي تستطاع فيها القصاص.

وعند مالك: أنه لا قود بين الحر والعبد في شيء من الجراح، والعبد يقتل بالحر، والحر لا يقتل بالعبد. وقال الشافعي: من جرى عليه قصاص في نفس جرى عليه القصاص في الجراح، ولا يقتل الحر بالعبد، [ولا نقيد منه فيما دون النفس]، وقول الله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) يوجب القصاص على المؤمن في كل قتيل العموم لفظه، قإن قال فقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، يدل على أن المراد القتلى من المؤمنين، لأن الكافر لا يكون أخا للمؤمن، قلنا: يحتمل أن يذكر لفظا عاما ثم يعطف عليه بحكم خاص، كما قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) وهو عام في المطلقة ثلاثا، وما دونها، ثم قال: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) فعطف عليه بحكم يختص بعض المطلقات على أن يكون العبد أخا للحر في الإيمان، فإن قيل: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) يدل على ما ذكرنا، قلنا: لا خلاف أن الحكم ليس بمقصور على هذا دون غيره، لاتفاق الجميع على جواز قتل العبد بالحر وقال (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) يعنى: الإنسان، لأن النفس على الحقيقة لا تقتل، والحق هاهنا القصاص، أي: لا تقتلوه قصاصا. الخامس: الرُّوح، قال: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي: أرواحكم، والمعنى إنا نخرجها، كما تقول للرجل وأنت تقتله: انزع الآن روحك، وليس نزع روحه إليه. السادس: آدم - عليه السلام -، قال الله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) فأنث على اللفظ، وهو الوجه، وأنت تقول: أتاني إنسان واحد يعني: امرأة، وشربت شرابا طيبا، وأنت تريد الخمر.

النصيب

النصيب أصله ما يخص الإنسان عن مقاسمة كأنَّه تصد له ليأخذه، ثم استعمل في غير ذلك، والفرق بينه وبين الحظ، أن الحظ ما يرتفع به الإنسان، ولهذا يقال: لفلان حظ في التجارة، ولا يقال: له نصيب فيها. والنصيب في القرآن على وجهين: الأول: الحصة من الثلث، وهو قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) قد تم الكلام عند ذلك؛: (وَلِكُلٍّ) يعني التركات، والموالي: أقارب الميت، لأنهم أولى بالميراث، وفي الآية حذف، فالمراد: لكل شىء من الميراث أصحابهم أولى فاقصروه عليه ثم ابتدأ، فقال: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) يعني: من الثلث، ويريد الحلفاء، وهو مثل قوله: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) وقِيل: يعني: نصيبهم من النصر والمؤازرة. الثاني: الجزاء، قال: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْ) أي: لهم جزاء بما عملوا ونحوه،: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) يعني: الثواب، وقوله: (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) يعني: العقاب، وفي هذه الآية وجوه أخرى ذكرناها في التفسير.

النكاح

النكاح أصل النكاح الجماع، ومنه قول العرب في بعض أمثالها: أنكح من خوات أي: أكثر مجامعه، وله حديث معروف ويروى عن بعض نسائها أنه كان يقال لها، فيقول نكح يريد الجماع، ثم استعمل في التزويج، ومنه قول حكيمها المناكح: الكريمة مُدرَجَة لِلشرفِ ويقال: أنكح الرجل المرأة إذا جامعها، ونكحت المرأة الرجل إذا تزوجته من قوله: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) وجاء في القرآن على وجهين: فأما ما جاء بمعنى التزويج، فقوله تعالى: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) أي: تزوجتموهن؛ لأنه ذكر عدم الدخول

فلا نشك في أنه أراد التزويج، وقال: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) أي: تزوجوهن؛ لأن الزوج لا يلزم أن يجامع امرأته بإذن أهلها. والوجه الآخر: قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) أراد الجماع، وذلك أن الرجل إذا مات وله امرأة قال وارثه: قد ورثت امرأته كما ورثت ماله وألقى عليها ثوبا فيملك بذلك نكاحها على الصداق الأول بغير عقد ثان، والتزويج إنما هو اسم، وكان الولد الذي يكون بينهما يقال له: المقتي. وقال الله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا) والمقت اسم يجمع للبغض والاستقباح، ومقت فلان نفسه إذا ذمها على قبيح، والمعنى أن ذلك معصيته يمقتها اللَّه. وقال أبو الحسن: جميع ما في القرآن من ذكر النكاح فهو التزويج إلا حرفا واحدا في سورة النور، وروي عن بعضهم أنه أراد الجماع، وهو عند غيره أراد التزويج. قال أبو هلال - رحمه الله - هو قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) قال أبو بكر: لا تخلوا الآية من أن تكون خبرا أو نهيا، وقد علمنا أنه ليس بخبر؛ لوجودنا رأينا بتزويج غير الزانية فثبت أنه أراد النهي ثم لا تخلوا أن تكون نهيا عن الوطء أو العقد أو عنهما جميعا؛ ولا يجوز أن يكون المراد العقد، لأن حقيقة النكاح الوطء. ولا يجوز حمل الكلام على المجاز دون الحقيقة من غير دلالة فثبت أن المراد الوطء على ما يقوله ابن عبَّاس، ومن تابعه أو تكون الآية منسوخة على ما يقوله سعيد بن المسيب، وغيره. وقال في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) حقيقة النكاح الوطء، فكأنه قال: [ولا تنكحوا ما وطئ آباؤكم في كل وطء حراما كان أو حلالا؛ كما أن الضرب والقتل ولا يختص بالحلال من ذلك دون الحرام].

ويدل على أن الاسم حقيقة في الوطء، ومجاز في العقد، أن سائر العقود من البياعات والهبات ولا يسمى نكاحا، وإن كان قد يتوصل بها إلى وطء الجارية، إذ لم تختص هذه العقود بإباحة الوطء " لأنَّهَا تصح فيمن يخطر وطؤها كالأخت من الرضاعة، ومن السبب وكأُمِّ الزوجة، وسمي العقد المختص بإباحة الوطء نكاحا إذ من لا يحل للرجل وطؤها؛ لا يحل له نكاحها. ويدل على هذا ما قاله غلام ثعلب، قال: الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح من الجمع بين الشيئين، تقول العرب: أنكحنا الفراء فسنرى، وهو مثل ضربوه في الأمر يجتمعون على المشورة فيه، ثم ينظر عن ماذا يصدرون منه، والمعنى جمعنا بين الحمار والأتن لننظر ما ينتج هذا الجمع إذا كان اسما للجمع، فهو حقيقة في الوطء؛ لأنه هو الجمع حقيقة دون العقد.

النظر

النظر أصله في العربية المقابلة، يقال: داري ينظر إلى دارك، أي: يقابلها، والدار أن يتناظران أي: يتقابلان، والنظر بالعين الإقبال بها حيال المرئي، ونظر القلب الإقبال إلى أحوال ما تطلب معرفته. وقال علي بن عيسى: النظر طلب ظهور الشيء، والناظر الطالب لظهور الشيء، والله ناظر لعباده بظهور رحمته إياهم، ويكون الناظر الطالب لظهور الشيء بإدراكه من جهة حاسة البصر أو غيرها من حواسه، ويكون الناظر إلى لين هذا الثواب من لين غيره. والنظر بالقلب نظر العلم من جهة الفكر والتأمل لأحوال الأشياء، ألا ترى أن الناظر عل هذا الوجه لابد من أن يكون مفكرا؛ إذا المفكر على هذا الوجه سمي ناظرا، وهو معنى غير الناظر والمنظور فيه، ألا ترى أن الإنسان يفصل بين كونه ناظرا وكونه غير ناظر، ولا يوصف القديم بالنظر؛ لأن النظر لا يكون إلا مع فقد العلم، ومعلوم أنه لا يصح النظر في الشيء ليعلم إلا وهو مجهول، والنظر يشاهد، ولهذا نفرق بين نظر الغضبان ونظر الراضي. والنظر في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: النظر بالعين، وهو قوله: (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وقوله: (انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) فكأن موسى يعلم أن الله لا يرى بالأبصار، ولكن سأل ذلك ليجيء الجواب من الله؛ لتكون أوكد للحجة على قوم من أمته سألوه ذلك.

الثاني: الإمهال والتأخير، وهو قوله: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) وناظرة هاهنا مصدر وفاعله في المصادر كثير مثل العافية والعاقبة والكاذبة في قوله تعالى: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3).، والواقعة، ورفع - ناظرة على إضمار كأنَّه قال: فالواجب ناظرة أو فعتكم ناظرة، ومثله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وقرئ: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) وهي التأخير، وقد أنظرته أخرته لينظر في أمره؛ أي: إن كان الذي عليه أصل المال [معسرا، فالواجب عليه تأخيره إلى أن يوسر]، وأن تصدقوا بالمال على المعسر خير لكم، قال مجاهد: كانوا إذا حلَّ دَينهم وصادفوا المديون معِّسرا [زادوا فيه] وأنظروه فأمره اللَّه بالإنظار، وأبطل الزيادة. الثالث: النظر بمعنى الرحمة، وهو قوله تعالى: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: لا يرحمهم، كقول العربي انظر إلى نظر اللَّه إليك، أي: ارحمني رحمك الله، وعدى النظر بـ إلى، وإن كان بمعنى الرحمة فكذلك عداه بإلى في قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) وإن كان بمعنى الانتظار (¬1). ¬

_ (¬1) دسيسة اعتزالية. حاصلها رد استدلال أهل السنة في رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} وهو تأويل مخالف لإجماع الأمة المعصومة المرحومة. فتنبه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

النجم

النجم أصل النجم الطلوع، نجم القرآن إذا طلع، وسُمِّي النجم نجما لطلوعه، والنجم من النبات ما ليس له ساق تبقى في الصيف، والشجر ما له ساق يبقى في الصيف، وأصل الكلمة الظهور والبروز، ومنه أنجم السحاب إذا أقلع فظهر أديم الماء ومنجما الفرس، العظمان الناتيان وون العرقوبين، وسميا بذلك لظهورهما. والنجم في القرآن على وجهين: الأول: الكوكب، قال اللَّه: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) والثاقب المضيء مأخوذ من ثقوب النار، وهو ضوءها، وقيل: ثاقب كأنَّه يثقب الأفق؛ فيطلع، وقوله: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) والعلامات الجبال والرمال والروابي، وما شاكل ذلك، وقوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أي: أقسم برب مواقع النجوم؛ وهي مساقطها في المغرب، ومنه: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) معناه لأن لا يعلموا و (لا) يدخل في هذا الموضوع توكيدا؛ كأنَّه قال: أقسم قسما بعد قسم، ولأن لا يعلم أهل الكتاب علما بعد علم، هذا قول، وأجود منه أن يقال: لا يأتيه، والمعنى أن الأمر الذي ذكره أمر ظاهر ثابت في العقول؛ [لا أحتاج أن أقسم عليه، وسنتكلم في قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ). وقيل: (وَبِالنَّجْمِ) أي: وبالنجوم هم يهتدون، ويجوز أن يكون أراد الثريا، واسمها عند العرب النجم، وربما قالوا لها: النظم قال بعض المفسرين: أراد نجوم القرآن، وذلك أنه كان تنزل الآية، والآيتان.

قال ومثله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) يعني: نجوم القرآن إذا هوى به جبريل - صلى الله عليه وسلم - أي: نزل وليس هذا بوجه مختار؛ لأن الظاهر لا يترك لغير علة. الثاني: النبت، قال اللَّه: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) أي: يدلان على خالقهما بآثار الصنعة فيهما فكأنما يسجدان له، وقيل: سجودهما دوران الظل معهما كما قال: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ) وإنما ذكر السجود؛ لأنه أبين أحوال الخضوح وهو مشاهد، ومن عادة العرب أن يشبه الشيء الذي يقع عليه البصر بما يقع عليه البصر حتى يكون السامع به كالرائي له، وعلى هذا جاء قوله - تعالى: (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) أي هو بمنزلة من قد استمسك بالعروة الشديدة المأمونة الانقطاع، ومن ذلك قولهم: فلان من شجرة صالحة لما كانت الشجرة على أصل يتشعب منه غصونها، شبه أبو العشيرة التي تجمعها بها وجعلت أغصانها كولده، ونحوه قوله: (أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) وتأويله العز والمنعة كما يفعل الأركان.

النشوز

النشوز أصل النشوز الارتفاع، والنشز الأرض المرتفع، وقرئ: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) أي: ترفع بعضها على بعض حتى تستوي القامة، فكأن المرأة إذا نشزت عن زوجها كأنها ارتفعت عنه، فلم ينلها الزوج. والنشوز في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: نشوز المرأة على زوجها، وهو عصيانها له، قال: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) وقد تكلمنا في هذه الآية. الثاني: الأثرة، قال اللَّه: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) وهو أن يؤثر عليها غيرها من نسائه يقول: لا إثم عليها أن يتصالحا على أمر يتفقان عليه مثل أن يصطلحا على إيثار غيرها عليه ولا يفترقا: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) أي: المرأة تشح على نصيبها من زوجها، ويشح الزوج بنصيبه من الأخرى. قال أبو علي - رحمه الله -: الصلح أن تدفع المرأة إلى زوجها شيئا ترضيه به وله أن يأخذ ذلك إذا لم يكن في الأصل ظالما لها. وقال غيره: أراد الاصطلاح على مال يدفعه الرجل إلى امرأته الكبيرة ليترك حظها منه للشابة. وقال غيره: أراد النشوز إذا وقع من الرجل استكثارا للصداق فلا جناح عليهما أن يصطلحا على بعضه، وقيل: هي المرأة يكرهها الرجل فتقول: لا تطلقني وأنت في حِلٍّ من أمري.

والنشوز يكون من المرأة بمنع البضع ومن الرجل [رخو الطرف ومنع النفقة] والامتناع عن المباشرة، والصلح خير يعني أنه خير له من الفرقة، وقد استقصينا بيان هذا في التفسير. الثالث: النهوض من المجلس، قال الله: (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي: إذا قيل لكم: انهضوا فانهضوا، كما قال تعالى: (وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) وقيل: معناه إذا قيل مكنوا لإخوانكم في المجلس فافعلوا، ويقال: فرس نشز إذا كان فارسه لا يكاد يستقر عليه.

النور

النور قد ذكرنا أن أصل النار والنور واحد وهو البياض، وإنما غير البناء لاختلاف المعنى. وهو في القرآن على ثمانية أوجه: الأول: الإسلام، قال اللَّه: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ). وقوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) والهداية هاهنا بمعنى الألطاف يعطيها اللَّه من يشاء على قدر المصالح، وكذلك قوله: (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). الثاني: بمعنى المنور، قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: منورهما بالهداية إلى الدين فلما كان أهل السماوات والأرض يهتدون بالله في ذلك كما

يهتدون بالنور قال إنه: (نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، على وجه المجاز، وقد دلت العقول على أنه ليس بنور على الحقيقة؛ لأنه خالق الأنوار، ولو كان الله نورا على الحقيقة لما أظلمت الدنيا أبدا؛ لأن الله موجود ومع وجود النور لا تكون الظلمة ثم شبه نوره بمصباح أي: مثل دلالاته الخلق في وضوحها كمثل المصباح، ولا يجوز أن يشبه نفسه بالمصباح؛ لأنه لا شبيه له. الثالث: النهار، قال الله: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) يعني: الليل والنهار. الرابع: ضوء القمر، قال اللَّه: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا). وقال أهل العربية: يجوز أن يكون: (فِيهِنَّ نُورًا)، وهو في السماء الدنيا؛ لأنهن كالشيء الواحد. وجاء في التفسير أن وجه الشمس يضيء لأهل الأرض وظهرها لأهل السماء، وقال بعضهم: (فِيهِنَّ نُورًا)، أي: معهن ضياء يستضيء به أهل الأرض. الخامس: قوله تعالى: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) وقوله: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وهو نور يجعله الله للمؤمنين يمشون فيه إلى الموقف وعلى الصراط. السادس: بيان الحلال والحرام، قال الله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) ومثله: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ). السابع: القرآن، قال: (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) وقال: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) وقوله: (جَعَلْنَاهُ نُورًا) وسُمِّي نورا للبيان الذي فيه؛ لأنه يهتدي به كما يهتدي بالنور.

الثامن: العدل، قال الله: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) أي: بعدله، وإذا كان الظلم وغيره من الشدائد يشبه بالظلمة فنقول: هذا يوم مظلم إذا كان فيه شر، والوجه أن للَّه العدل بالنور، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ " (¬1). ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث ابن عمر، أخرجه البخاري (2447)، ومسلم (2582)، والزمذي (2030).

الباب السادس والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله واو

الباب السادس والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله واو الوكيل أصله التوكيل جعل الأمر إلى الغير، ورجل وكل أي ضعيف يتكل في أموره على غيره، والوكيل في أسماء الله بمعنى الكافي وبمعنى الحافظ، وقيل: هو على التشبيه له بالوكيل منا، وذلك أن جميع ما يفعله من الخير إنما يفعله منفعة للعباد [كما أن جميع سعي الوكيل إنما هو للموكل]. والوكيل في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الحافظ، قال اللَّه: (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أي: إن حفظوا وذب عنهم في الدنيا فمن الذي يحفظهم ويذب عنهم في الآخرة، ومعنى لفظ ْالاستفهام هاهنا أنه ليس للعصاة يوم القيامة ناصر يذب عنهم، وقال: (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) أي: حفيظا. الثاني: بمعنى الرَّب، قال:، (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) وقال: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) وهو يرجع إلى الحفظ؛ لأن رب الشيء يحفظه.

الثالث: المسلط، قال: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي المسلط. الرابع: الشهيد، قال: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) وقال: (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).

الوحي

الوحي أصل الوحي الإشارة، يقال: وحيت إليه بطرفي أي: أشرت، قال الله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ثم صار كل شيء دللت به على شيء وحيا، وحييت الكتاب وأوحيته إذا كتبته؛ لأنك تشير بالكتابة إلى المعاني التي تريدها، وهو بمعنى الإلهام، وبمعنى الإرسال وبمعنى الرؤيا، ويجوز أن يكون أصله السرعة، ومنه الوحي يقصر ويمد يقال: الوحا الوحا يراد السرعة، ويقال: من الوحي وحا، وأوحى. وهو في القرآن على خمسة أوجه: الأول: الإرسال، قال: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) وقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي.: أرسل به إليَّ. الثاني: الإلهام، قال الله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) أي: ألهمتهم الإيمان، ومثله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) جمع واحده: نحلة مثل: نحل ونحلة، والمعنى أنه ألهمها اتخاذ المساكن وادخار العسل كما في غيرها من الحيوان التصرف في وجوه منافعها واجتناب أسباب مضارها، ومثله قوله: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا). الثالث الإشارة، قال الله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي: أومأ، ودليل هذا، قوله: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) والرمز تحريك الشفتين والحاجين والعينين، وقال بعضهم: الوحي هاهنا الكتاب أي: كتب إليهم وقال ذلك [لأن الإشارة لا تنبئ عن الصلاة بكرة وعشيا].

الرابع: الأمر، قال الله: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) أي: أمر أهلها بما يصلح الأمر به. الخامس: الوسوسة، قال الله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) أي: يوسوسون إليهم، ومثله: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) وقال بعضهم: تقدير هذا بمعنى الأمر، أي: يأمر بعضهم بعضا بذلك.

الولي

الولي الولي خلاف العدو، والاسم الوَلاية بالفتح والوِلاية بالكسر ولاية الأعمال وقد مضى من كلامنا في هذا الحرف ما فيه كفاية. والولي في القرآن على ستة أوجه: الأول: الولد، قال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي: ولدا، وسمي الولد وليا لقربه من أبيه في النسب، وأصل هذه الكلمة القرب، ومنه ولي الشيء يليه إذا قرب منه. الثاني: الصاحب، قال اللَّه: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) قالوا: معناه صاحب ينتصر به فيعز، ومثله: (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا) وقوله: (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ) أي: أصحابا، ويجوز أن يكون المعنى في ذلك كله بخلاف العدو. الثالث: القريب، قال: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) قالوا: يعني: الأقرباء، وهذا والأول عندي سواء. الرابع: بمعنى رب، قال: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أي: ربًّا، ومثله كثير. الخامس: خلاف العدو، قال اللَّه: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) وقال: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) أي: اتخذوهم أعداء حتى لا تناصحوهم، وقال: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ)

وهم لم يتولوا الشيطان على الحقيقة، ولكن لما كانت أعمالهم أعمال من يتولى الشيطان قال: إنهم أولياؤه، وأنت تقول لصاحبك: أنت ولى الشيطان وأنت تعلم أنه ليس بوليه ولكن تقول ذلك، لأنه يفعل ما يريده. السادس: بمعنى الناصر، قال اللَّه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) فهو في الله بمعنى الناصر وفي الرسول بمعنى الهادي المرشد؛ لأن الولي ينصر وَليه ويهديه، وقال: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: ناصرهم ومرشدهم ومتكفل بأمورهم كولي الطفل يكفيه أموره، وأما قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) فمعناه أنه أي شيء لهم في رفع العذاب عنهم بوم القيامة وهم يصدون عن المسجد الحرام أراد أمر الحديبية، وما كانوا أولياء المسجد ما أولياؤه إلا المتقون وهم النبي والمؤمنون، وذلك أن اللَّه لم يجعل ولايته إليهم وإنما جعلها للمتقين، وولي البيت من يلي إصلاحه وعمارته كولي الطفل يلي إصلاح أمره وتثمير ماله ثم شرح ذلك بقوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) وفي هذا دليل على أن ما يجعله اللَّه لبعض عباده يجوز أن يغلبه عليه غيره؛ لأنَّهُم كانوا يتصرفون في المسجد الحرام ولم يجعله الله لهم.

الوجه

الوجه أصله التقدم، يقال: توجهت في الشيء. إذا تقدمت فيه ووجه كل شيء أوله، ومنه وجه النهار، أي: لوله ثم كثر حتى قيل: وجه الشيء لنفسه، تقول: هذا وجه الرأي أي: هو الرأي. والوجه في القرآن على أربعة أوجه: الأول: مجيئه بمعنى الشيء نفسه، قال: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي: إلا هو، ولو كان له وجه غيره على ما يوجبه ظاهر الآية وعلى ما يقوله المشبهة لكان ينبغي أن يفنى جميعه ويبقى وجهه وليس هذا قولا لأحد إلا لبيان بن سمعان، وليس هو مما يعتد به لبيان بطلانه ودلالة العقل والإجماع على خلافه، ومثله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) أي: لله. الثاني: مجيئه بمعنى الأول، وهو قوله: (وَجْهَ النَّهَارِ) أي: أوله، وإنما قيل ذلك؛ لأن أول ما يلقاه من الشيء وجهه. الثالث: بمعنى الدين، قال: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي: أخلص دينه، وقوله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ) والإسلام الإخلاص على ما تقدم ذكره، ويجوز أن يكون: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي: استسلم كما تقول: أعطى يده إذا استسلم، وقيل: الوجه العمل، و: (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي: أخلص عمله، وقالوا: الوجه في قوله: (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) وهو الثواب.

أي: لم يفعل ذلك مجازاة ليد أسديت إليه إلا طلبا لثواب اللَّه، والآية نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - حين أعتق بلالا. الرابع: قوله تعالى: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أى: الوجه الذي يريده اللَّه، وجاء في التفسير أنه أراد فَثَمَّ القبلة وخص المشرق والمغرب في هذه الآيه؛ لأنهما أشهر الجهات، وأراد ما بين المشرق والمغرب وذلك الدنيا كلها، والمراد أن الجهات وما فيها للَّه فأينما تستقبلوا من الوجوه المأمور باستقبالها فَثَمَّ الوجه الذي تتقربون به إلى اللَّه، وقيل: أراد فأينما وليتم وجوهكم وكونوا قاصدين للوجه الذي أمركم الله تعالى به فإذا عرفتم الكعبة فلتكن العرض، وإن لم تفعلوا به في ظلمة أو غيرها فالتحري لإصابتها، والدليل على ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) على عباده غير مضيق عليهم، وهذا مذهب الكوفيين، وقال الشافعي: من اجتهد فصلى إلى جهة ثم عرف أن القبلة غيرها استأنف، وفي هذه الآية كلام كثير وليس ذا موضع ذكره.

الباب السابع والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله هاء

الباب السابع والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله هاء الهدى أصله التقدم ممن ثم قيل للعنق: الهادي لتقدمه الجسد ثم استعمل في الإرشاد ثم جعل من الإرشادِ في الدين والإرشاد في الطريق فرق في المصدر، فقالوا: في الدين هدى وفي الطريق هداية، وسمي الهدْي هدْيا؛ لأنه يقدم للنحر، والهدية تقدم أمام الحاجة، والعروس هدى؛ لأنها تقدم إلى زوجها ويتبعها أهلها، والفرق بين الهدى والإرشاد أن الهدى يكون في الخير والشر يقال: هداه إلى السوء والمكروه، ومنه قوله تعالى: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) ولا يكون الإرشاد إلا إلى الخير. والهدى في القرآن على اثني عشر وجها: الأول: البيان، قال: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) أي: على بيان، وقال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) أي: بينا لهم، وقال: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا)، وقوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) أي: بيان والمعني به الكتاب والرسول، ومثله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) أي: البيان والمعني به القرآن، ومثله كثير.

الثاني: الطريق، قال: (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ) أي: على طريق قويم وهو الإسلام، ومثله: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) أي: السبيل الذي أمر الله سلوكها هو السبيل المرضي، وهو مثل ومعناه الإسلام أيضا كذا جاء عن السلف وهو عندنا والأول سواء؛ لأنه يقال: إنه لعلى هدى، أي: على بيان. الثالث: اللطف، قال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) أي: الذين اهتدوا إلى الإيمان بألطافنا زدناهم ألطافا ثوابا لأعمالهم ليزدادوا إيمانا. الرابع: الإيمان، قال الله: (إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ) أي: مؤمنون. الخامس: الهادي وهو المرشد، قال: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) أي: مرشد يريد أنك هاد ومرشد لكل أحد، وفيه وجه آخر وهو أنك مرشد ولكل قوم مرشد، وقوله: (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) أي: رشدا، ويجوز أن يكون بيانا فيكون من القِسم الأول، ومثله: (لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: لترشد. السادس: الدعاء، قال الله: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي: يدعون، وقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) وقال: (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي: يدعون وقال: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي: يدعوا، وقوله: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) أي: ادعوهم، ويجوز أن يكون المعنى [سوقوهم]. ويجوز أن يكون معنى قوله: (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي: يرشدون بالقول الحق، وكذلك قوله: (يَهدُونَ بِأَمْرِنَا). السابع: المعرفة، قال الله: (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ) أي: تعرف، ونحوه: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) أي: يعرفون الطرق.

الثامن: أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) ومثله: (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) يعني: ما بين الله في التوراة والإنحيل من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -. التاسع: الدين، قال: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ) يعني: دينه وهو راجع إلى البيان، وقيل: هو التوحيد وكانوا لا يسمونه هدى، وإنما قالوا ذلك على ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: الهدى بزعمك، وكذلك قالوا في قوله: (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) أي: بالتوحيد، ويجوز أن يكون الهدى هاهنا [البيان بربك المعجز] (¬1). العاشر: الاستنان بسنن الماضين، قال اللَّه: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي: مستنون. الحادي عشر: الإصْلاح، قال: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) أي: لا يصلحه بمعنى أنه لا يخبر بأنه صلاح. الثاني عشر: الإلهام، قال: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) قالوا: صور الخلق وألهمه أمر معاشه، وعندنا أنه أراد إلهام المعاش لمن يلهم ذلك وإعلامه من يعلم، وقد دخل ذلك في قوله: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ومعنى هدى: أنه هدى المكلفين أي: بينه لهم. ¬

_ (¬1) عبارة غير مفهومة، ولعل الصواب " البيان المعجز " والله أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

هل

هل يكون للاستفهام ويدخلها معنى التقرير، والتقرير على ضربين: تقرير على فعل يوجبه المقرر كقوله: هل أكرمتك؛ وهل أحسن إليك؟ وهل أوثرك وأقضي حاجتك؟. وتقرير على فعل لنفية كقولك: هل كان من شيء كرهته، وهل عرفت مني غير الجميل. وقد يتضمن هذان الوجهان معنى التوبيخ أيضا في بعض الأحوال. وجاء في القرآن على أربعة أوجه: الأول: مجيئه بمعنى ما، قال تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) و: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ) و: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) قال أهل التفسير: هذا كله بمعنى ما ينظرون إلا ذلك، وهو عند أهل العربية بمعنى الزجر والتهديد. الثاني: بمعنى قد، قال الله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى) وقال: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) قال الزجاج: معناه قد أتى أي: لم يأت على الإنسان، وقوله: (لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) معناه أنه كان شيئا غير مذكور أي: كان ترابا ونطفة، وقال بعضهم: أتى على آدم الدهر وهو لا شيء ولا يجوز أن يكون لا شيء يأتي عليه الدهر. وقال المبرد: هل فى هذا الموضع بمعنى قد، وكذلك فى قوله: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ). قال سيبويه: قد تكون حروف الاستفهام لغير الاستفهام إلا الألف وأم لا تدخل على الألف؛ لأنها الأصل ويدخل على هل؛ لأنَّهَا قد تكون لغير الاستفهام، وأنشد: أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... أثر إلا حبه يوم البين مشكور

الثالث: بمعنى ألا، قال الله: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) و: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ) معناه: ألا أدلكم. الرابع: بمعنى التوبيخ، قال الله: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) وقوله: (هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ) ومعنى هذه الآية: الرد على عبدة الأوثان يقول: جعلتم الذي هو ملك اللَّه مثله، وأنتم لا تجعلون مماليككم أمثالكم.

الهلاك

الهلاك يقال: هلك الرجل إذا وقع في أمر شديد وإذا مات أيضا، والمستقبل يهلك بالكسر ولا يجوز الفتح، وإن كانت العامة قد أولعت به وهو الهلك والهلاك. وهو في القرآن على خمسة أوجه: الأول: الموت، قال اللَّه: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ). الثاني: الفناء، قال اللَّه: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). الثالث: العذاب، قال اللَّه: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) وقوله: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ) وقال: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) ومثله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى). الرابع: الذهاب، قال الله: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ). الخامس: الفساد، قال اللَّه: (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) وقال: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) وقال أهل التفسير: أى: أفسدت، ويجوز أن يكون بمعنى الإتلاف.

الباب الثامن والعشرون في ذكر لا

الباب الثامن والعشرون في ذكر لا (لا) إذا أدخلتها على نكرة رفعتها ونونتها ونصبتها بلا تنوين تقول: لا رجل في الدار فإن نعت النكرة لا رجل ظريف نصب بلا تنوين، ويجوز أن يقال: لا رجلا ظريفا، وإن شئت قلت: لا رجل ظريف والرفع مع التنوين لا غير فإن دخلت على الاسم المعرفه لم يكن فيه إلا الرفع، تقول: لا زيد في الدار ولا عمرو، فإن عطف بلا على اسم قد تقدمه لا كان ذلك على خمسة أوجه كقولك: لا رجل في الدار ولا امرأة، نصب بغير تنوين ولا رجل في الدار ولا امرأة ترفعهما جميعا، ورفع الأول ونصب الثاني لا رجل ولا امرأة، ونصب الأول بغير تنوين ونصب الثاني بتنوين لا رجل في الدار ولا امرأة. ولا في القرآن على وجهين: الأول: مجيئه بمعنى لم، قال: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) أي: لم يصدق ولم يصل، وقال: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي: لم يقتحم، وقال قائل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " أرأيت من لا شرب ولا أكل، وقال الراجز: وَأي فِعلٍ سَيئٍ لا فَعَلَه أي لم يفعله، والأصْل في هذا أن الأحرف تنفي الماضي كما تنفي المستقبل، إذا قلت: لا أقوم ولا أذهب. الثاني: مجيئه على الأصْل، قال الله: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) وأما قول من قال: إن لا تجيء زائدة في مثل قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا

يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) فإن ذلك عندنا غلط، ومعناه لأن لا يعلم أهل الكتاب أن المسلمين لا يقدرون على شيء من فضل الله، أي: هم قادرون على ذلك، وإنما جاء بنفيين ليثبت: ونفي النفي إثبات، وأما قول الشاعر: في بِئرٍ لَا حُورٍ سَرى وَمَا شَعَر فليس لا فيه زائدة، وإنما معناه في بئر لارجوع، أي: من وقع فيها، لا ترجع وجوز فعل من جاز يجوز.

الباب التاسع والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ياء

الباب التاسع والعشرون فيما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ياء اليسير أصل اليسير السهولة ونقيضه العسير وهو الصعوبة، واليسار الغني؛ لأن صاحبه في سهولة من العيش والفقر العسر؛ لأن صاحبه في صعوبة، وياسرت الرجل ساهلته، واليد اليسرى؛ لأنها لا تعاني ما تعانيه اليمنى، وكأن اليمنى في صعوبة واليسرى في سهولة، أو لأن [الرمي والطعن والضرب على اليسار] أسهل منها على اليمين وإن كانت باليسار أصعب وميسور الأمر ما ينسهل منه ومعسور ما يتصعب. ويكون الميسور المصدر مثل المعقول، وهو بمعنى اليسر سواء. وجاء اليسر في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى الهين، قال تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). الثاني: قوله: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) قالوا: يعني: خفيا، ويجوز أن يكون معناه السهولة، أي: قبضا سهلا لا صعوبة فيه علينا. الثالث قوله تعالى: (كَيْلٌ يَسِيرٌ) قالوا: معناه سريع.

قال أبو هلال - رحمه الله -: معنى ذلك أن الملك يكيل لنا بيسر وسهولة [ولا يحبسنا كما يحبس غيرنا]، وفيه وجه آخر، وهو أن الذي حملناه من الميرة يسير في جنب ما تحملنا إذا نفذ معنا أخونا، وقوله:. (وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) يعني: البعير الذى يركبه أخوهم يوفر لهم، والمراد ما يكال ويحمل على البعير، والبعير من الإبل تقع على الذكر والأنثى، مثل الإنسان من الناس.

اليوم

اليوم ذكر بعضهم أصل اليوم أعجمي معرب، وَلا أدري ما صحة ذلك، ولا أعرف له اشتقاقا، وأظنه اسما أول. وهو في القرآن على وجهين: الأول: اليوم من أيام السنة، قال اللَّه: (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ويوم القيامة يجري مجراه. الثاني: الحين، قال الله: (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) يعني: حين ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يكون الظعن ليلا، وإنما أراد حين الظعن فذكر اليوم؛ لأن اليوم حين.

اليد

اليد أصل اليد يدي والدليل على ذلك قولهم: أيد لأن قولهم أيد أفعل وأفعل جمع فعل، مثل: فلس وأفلس في النسبة إلى اليد يدين ترد ما ذهب، وهو الياء ثم تحرك موضع العين، وإنما دعاك إلى تحريكه أنك تفرق بينهما وبين ما لم يتحرك قط نحو: باطني وميم رمي فيقول في طي طيي، وفي رمي رميي، وكذنا في ثدي ثديي، وأما اليد قد تحركت عينها بالحركات الثلاث فقيل: هذه يد، ومررت بيد ورأيت يدا. واليد في القرآن على أربعة أوجه: الأول: بمعنى النعمة، قال الله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) وهو جواب قول اليهود: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أي: هو بخيل ولم يريدوا أنها مغلولة على الحقيقة، وهذا مثل قوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا

تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) بأمره عز رجل بالتوسط في النفقة والعطية ولم يرد الغل ولا البسط على الحقيقة فقال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) أي: نعمتاه الظاهرة والباطنة، أو نعمته في باب الدين ونعمته في باب الدنيا مبسوطتان على الخلق ينفق كيف يشاء يتوجه إلى نعمته في الدنيا أي؛ يرزق منها من يشاء ما يشاء. الثاني: بمعنى التوكيد، وهو قوله تعالى: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أي: خلقت أنا، كما تقول: هذا ما كسبت يدك فتذكر اليد توكيدا، والمعنى: أنت كسبت. الثالث: بمعنى الجارحة، قال اللَّه: (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ). الرابع: بمعنى القدرة، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) أي: هو القادر عليه: (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: يعطيه من يريده إذا كان يصلح له، وقيل: الفضل هاهنا النبوة، وقِيل: هو الإحسان والنعمة، والله أعلم، واليد أيضا في غير القرآن السلطان في قولهمِ.: ليس لك عليه يد، ويجوز أن يكون هذا بمعنى القدرة، وجاءت أيضا كناية عن الملك، في قولهم: هذا في يدي أي: في ملكي، ويستعمل في ابتداء العمل في قولهم: وضع يده في العمل أي: ابتدأه. واليد البركة في قوله - عليه السلام - " يد الله على الشريكين " أي: بركته، وتجيء صلة في قولهم: لا كلمتك يد الدهر، واليد الحفظ والكلاء. في قوله - عليه السلام -[" لا تزال هذه الأمة تحت يد اللَّه ما لم تمال في كذا شيء "] (¬1) ذكره وقد أنسيته. ¬

_ (¬1) حديث مرفوع: (الزهد والرقائق لابن المبارك» بَابُ: مَا جَاءَ فِي قَبْضِ الْعِلْمِ). ونصه: أَخْبَرَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا خُلَيْدُ بْنُ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَزَالُ هَذِهِ الأمَّةُ تَحْتَ يَدِ اللَّهِ، وَفِي كَنَفِهِ، مَا لَمْ تُمَالِ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا، وَمَا لَمْ يُزَكِّ صَالْحُوهَا فُجَّارَهَا، وَمَا لَمْ يُمَنِّ خِيَارُهَا شِرَارَهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَدَهُ، ثُمَّ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ، فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَضَرَبَهُمْ بِالْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ، وَمَلأَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا ". اهـ (الزهد والرقائق لابن المبارك» بَابُ: مَا جَاءَ فِي قَبْضِ الْعِلْمِ).

اليقين

اليقين أصله العلم يقع بالشيء بعد أن لم يكن واقعا به، ولهذا لا يقال: لله أنه متيقن، وهو اليقين واليقن، ولا يقال إلا علما يثلج معه الصدر، ولهذا يقال: ثلج اليقين، ولا يقال: ثلج العلم، ومن أجل ذلك أيضا لا يوصف اللَّه به وهو أبلغ من العلم، ألا تراهم يقولون: أعلم وأيقن ومن عادتهم أن يؤخروا الأبلغ. ُهو في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: العلم، قال اللَّه: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي يعلمون. الثاني: الموت، قال اللَّه: (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) يعني: الموت. قالوا الثالث: القرآن، قال اللَّه: (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) وأضاف الحق إلى اليقين لاختلاف اللفظين، وهما واحد كما قال: (حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وهذا مذهب بعض أهل العربية، وهو عند المحققين منهم خطأ، والصواب أن يقال: معناه إنه لمحض اليقين كما تقول: هذا حق الشيء، ولو كان اليقين هنا لم يجز أن يضاف إليه كما لا يقال: هذا رجل الظريف إنما هو كقوله: (عَيْنَ الْيَقِينِ) كما قال الله تعالى: (لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ).

اليمين

اليمين أصلها القوة، وقيل: اليد اليمنى لقوتها على اليسرى، واليمين القسم؛ لأنه قوة لدفع الدعوى، وأصلها أنهم إذا تحالفوا تصافقوا بأيمانهم فسمى الحلف يمينا، وهي في اللغة توكيد القول بذكر عظيم عند القائل كقولك: بأبي وأمك، وهي في الشريعة توكيد القول بذكر الله أو بإيجاب قربه في المآل أو على النفس بدلالة قوله - عليه السلام - إذا حلفتم فاحلفوا بالله واصدقوا "، واليمين تدخل فيما ينوى فيه الصدق، والكذب من الكلام دون غيره. وهي في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى القسم، قال الله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ). الثاني: القوة، قال اللَّه: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي: لانتقمنا منه بقوة، ومعنى ذلك: أنا قادرون عليه، ومنه قول الشماخ: إذا ما رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاها عَرَابَةُ باليَمِين ومنه قوله تعالى: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي: بقدرته، ويجوز أن يكون المعنى باليمين المبالغة كما قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ).

الثالث: بمعنى الاحتواء والملك، قال الله: (وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) يعني: ما حصل لك من الغنائم، ونحوه: (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ). قد أتينا على الأبواب التي تقدم بها الشرط في أول الكتاب: وشرحنا من مضمونها ما احتاج إلى الشرح في غير إكثار ولا إقلال، ورغبنا إلى الله - عز وجل - في النفع بها عاجلا وآجلا، وهو وليُّ المنة بذلك إن شاء اللَّه وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل، وصلواته على نبيه محمد وآله المختارين. وكتب عبد ذليل المولى فقد فرغ منه في شهر ربيع الآخر سنة ثمانين وأربعمائة، حامدا الله تعالى ومصليا على نبيه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى الأخيار من أمته. وفرغ من تحريره، محمد بن الحسَن بن محمد الحافظ الدهقي غفر الله له ولأبويه ولمن قال: آمين في العشر الأخير من شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وخمسمائة حامدًا ومصليًا.

§1/1